المجلد السادس - ذكر مسير أبي عبد الله إلى سجلماسة وظهور المهدي

لمّا استقرّت الأمور لأبي عبد الله في رقّادة وسائر بلاد أفريقية أتاه أخوه أبو العبّاس محمّد ففرح به وكان هو الكبير فسار أبو عبد الله في رمضان من السنة من رقّادة واستخلف على إفريقية أخاه أبا العبّاس وأبا زاكي وسار في جيوش عظيمة فاهتزّ المغرب لخروجه وخافته زَناتة وزالت القبائل عن طريقه وجاءته رسلهم ودخلوا في طاعته‏.‏

فلمّا قر من سِجِلْماسة وانتهى خبره إلى ألِيْسَع بن مِدرار أمير سجلماسة أرسل إلى المهديّ وهو في حبسه على ما ذكرناه يسأله عن نسبه وحاله وهل إليه قصد أبو عبد الله فحلف له المهديّ أنّه ما رأى أبا عبدالله ولا عرفه وإنّما أنا رجل تاجر فاعتُقل في دار وحدة وكذلك فعل بولده أبي القاسم وجعل عليهما الحرس وقرّر ولده أيضًا فما حال عن كلام أبيه وسمع أبو عبد الله ذلك فشقّ عليه فأرسل إلى ألِيْسَع يتلطّفه وأنّه لم يقصد الحرب وإنّما له حاجة مهمّة عنده ووعده الجميل فرمى الكتاب وقتل الرسل فعاوده بالملاطفة خوفًا على المهديّ ولم يذكره له فقتل الرسول أيضًا فأسرع أبو عبد الله في السير ونزل عليه فخرج إليه ألِيْسَع وقاتله يومه ذلك وافترقوا فلمّا جنّهم الليل هرب أليسع وأصحابه من أهله وبني عمّه وبات أبو عبدالله ومَن معه فيغمّ عظيم لا يعلمون ما صنع بالمهديّ وولده فلمّا أصبح خرج إليه أهل البلد وأعلموه بهرب أليسع فدخل هو وأصحابه البلد وأتوا المكان الذي فيه المهديّ فاستخرجه واستخرج ولده فكانت في الناس مسرّة عظيمة كادت تذهب بعقولهم فأركبهما ومشى هو ورؤساء القبائل بين أيديهما وأبو عبدالله يقول للناس‏:‏ هذا مولاكم وهو يبكي من شدّة الفرح حتّى وصل إلى فسطاط قد ضُرب له فنزل فيه وأمر بطلب أليسع فطُلب فأُدرك فأُخذ وضُرب بالسياط ثمّ قُتل‏.‏

فلمّا ظهر المهديُّ أقام بسِجِلماسة أربعين يومًا وسار إلى أفريقية وأحضر الأموال من إنكجان فجعلها أحمالًا وأخذها معه ووصل إلى رقّادة العشر الأخير من ربيع الآخر من سنة سبع وتسعين ومائتين وزال ملك بني الأغلب وملك بني مدرار الذين منهم ألِيسع وكان لهم ثلاثون ومائة سنة منفردين بسجلماسة وزال ملك بني رستم من تاهرَت ولهم ستون ومائة سنة

تفرّدوا بتاهَرت وملك المهديُّ جميع ذلك فلمّا قرب من رقّادة تلقّاه أهلها وأهل القَيروان وأبو عبدالله ورؤساء كُتامة مشاةً بين يديه وولده خلفه فسلّموا عليه فردّ جميلًا وأمرهم بالانصراف ونزل بقصر من قصور رقّادة وأمر يوم الجمعة بذكر اسمه في الخطبة في البلاد وتلقّب بالمهديّ أمير المؤمنين‏.‏

وجلس بعد الجمعة رجل يُعرف بالشريف ومعه الدعاة وأحضروا الناس بالعنف والشدّة ودعوهم إلى مذهبهم فمن أجاب أُحسن إليه ومَن أبى حُبس فلم يدخل في مذهبهم إلاّ بعض الناس وهم قليل وقُتل كثير ممّن لم يوافقهم على قولهم‏.‏

وعَرض عليه أبو عبدالله جواريَ زيادة الله فاختار منهنّ كثيرًا لنفسه ولولده أيضًا وفرّق ما بقي على وجوه كُتامة وقسّم عليهم أعمال إفريقية ودوّن الدواوين وجبى الأموال واستقرّت قدمه ودانت له أهل البلاد واستعمل العمّال عليها جميعها فاستعمل على جزيرة صِقلّية الحسن بن أحمد ابن أبي خنزير فوصل إلى مازَرَ عاشر ذي الحجّة سنة سبع وتسعين ومائتين فولّى أخاه على جرجنت وجعل قاضيًا بصقلّية إسحاق بن المنهال وهو أوّل قاضٍ تولّى بها للمهديّ العلويّ‏.‏

وبقي ابن أبي خنزير إلى سنة ثمان وتسعين فسار في عسكره إلى دَمَنْشَ فغنم وسبى وأحر

وعاد فبقي مدّة يسيرة وأساء السيرة في أهلها فثاروا به وأخذوه وحبسوه وكتبوا إلى المهديّ بذلك واعتذروا فقبل عذرهم واستعمل عليهم عليَّ بن عمر البَلَويَّ فوصل آخر ذي الحجّة سنة تسع وتسعين ومائتين‏.‏

ذكر قتل أبي عبد الله الشيعيّ وأخيه أبي العبّاس

في سنة ثمان وتسعين ومائتين قُتل أبو عبد الله الشيعيُّ قتله المهديَّ عبيد الله‏.‏

وسبب ذلك أنّ المهديّ لمّا استقامت له البلاد ودانت له العباد وباشر الأمور بنفسه وكفّ يد أبي عبد الله ويد أخيه أبي العبّاس داخل أبا العبّاس الحسد وعظُم عليه الفطام عن الأمر والنهي والأخذ والعطاء فأقبل يُزري على المهديّ في مجلس أخيه ويتكلّم فيه وأخوه ينهاه ولا يرضى فعله فلا يزيده ذلك إلاّ لجاجًا‏.‏

ثمّ إنّه أظهر أبا عبدالله على ما في نفسه وقال له‏:‏ ملكتَ أمرًا فجئت بمن أزالك عنه وكان الواجب عليه أن لا يسقط حقّك‏.‏

ولم يزل حتّى أثّر في قلب أخيه فقال يومًا للمهديّ‏:‏ لو كنتَ تجلس في قصرك وتتركني مع كُتامة آمرهم وأنهاهم لأنّي عارفٌ بعاداتهم لكان أهيب لك في أعين الناس‏.‏

وكان المهديُّ سمع شيئًا ممّا يجري بين أبي عبد الله وأخيه فتحقّق ذلك غير أنّه ردّ ردًّا لطيفًا فصار أبو العبّاس يشير إلى المقدّمين بشيء من ذلك فمن رأى منه قبولًا كشف له ما في نفسه وقال‏:‏ ما جازاكم على ما فعلتم وذكر لهم الأموال التي أخذها المهديُّ من إنكِجَان وقال‏:‏ هلاّ قسّمها فيكم‏!‏ وكلّ ذلك يتّصل بالمهديّ وهو يتغافل وأبو عبدالله يداري ثمّ صار أبو العبّاس يقول‏:‏ إن هذا ليس الذي كنّا نعتقد طاعته وندعو إليه لأنّ المهديّ يختم بالحجّة ويأتي بالآيات الباهرة فأخذ قوله بقلوب كثير من الناس منهم إنسان من كُتامة يقال له شيخ المشايخ فواجه المهديَّ بذلك وقال‏:‏ إن كنتَ المهديَّ فأظهر لنا آيةً فقد شككنا فيك فقتله المهديُّ فخافه أبو عبدالله وعلم أنّ المهديّ قد تغيّر عليه فاتّفق هو وأخوه ومن معهما على الاجتماع عند أبي زاكي وعزموا على قتل المهدي واجتمع معهم قبائل كُتامة إلاّ قليلًا منهم‏.‏

وكان معهم رجل يُظهر أنّه منهم وينقل ما يجري إلى المهديّ ودخلوا عليه مرارًا فلم يجسروا على قتله فاتّفق أنّهم اجتمعوا ليلة عند أبي زاكي فلمّا أصبحوا لبس أبو عبدالله ثوبه مقلوبًا ودخل على المهديّ فرأى ثوبه فلم يعرّفه به ثمّ دخل عليه ثلاثة أيّام والقميص بحاله فقال له المهديُّ‏:‏ ما هذا الأمر الذي أذهلك عن إصلاح ثوبك فهو مقلوب منذ ثلاثة أيّام فعلمتُ أنّك

ما نزعتَه فقال‏:‏ ما علمتُ بذلك إلاّ ساعتي هذه قال‏:‏ أين كنتَ البارحة والليالي قبلها فسكت أبو عبدالله فقال‏:‏ أليس بتّ في دار أبي زاكي قال‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ وما الذي أخرجك من دارك قال‏:‏ خفتُ‏.‏

قال‏:‏ وهل يخاف الإنسان إلا من عدوّه فعلم أنّ أمره ظهر للمهديّ فخرج وأخبر أصحابه وخافوا وتخلّفوا عن الحضور‏.‏

فذكر ذلك للمهديّ وعنده رجل يقال له ابن القديم كان من جملة القوم وعنده أموال كثيرة من أموال زيادة الله فقال‏:‏ يا مولاي إن شئتِ أتيتُك بهم ومضى فجاء بهم فعلم المهديُّ صحّة ما قيل عنه فلاطفهم وفرّقهم في البلاد وجعل أبا زاكي واليًا على طرابلس وكتب إلى عاملها أن يقتله عند وصوله فلمّا وصلها قتله عاملها وأرسل رأسه إلى المهديّ فهرب ابن القديم فأُخذ فأمر المهديُّ بقتله فقُتل‏.‏

وأمر المهديُّ عُرُوبة ورجالًا معه أن يرصدوا أبا عبدالله وأخاه أبا العبّاس ويقتلوهما فلمّا وصلا إلى قرب القصر حمل عروبة على أبي عبدالله فقال‏:‏ لا تفعل يا بنيّ‏!‏ فقال‏:‏ الذي أمَرتَنا بطاعته أمرنا بقتلك فقُتل هو وأخوه وكان قتلهما في اليوم الذي قُتل فيه أبو زاكي فقيل‏:‏ إنّ المهديّ صلّى على أبي عبدالله وقال‏:‏ رحمك الله‏:‏ أبا عبدالله وجزاك خيرًا بجميل سعيك‏.‏

وثارت فتنة بسبب قتلهما وجرّد أصحابهما السيوف فركب المهديُّ وأمّن الناس فسكنوا ثمّ

وثارت فتنة ثانية بين كُتامة وأهل القَيروان قُتل فيها خلق كثير فخرج المهديُّ وسكّن الفتنة وكفّ الدعاة عن طلب التشيّع من العامّة‏.‏

ولمّا استقامت الدولة للمهديّ عهد إلى ولده أبي القاسم نِزار بالخلافة ورجعت كُتامة إلى بلادهم فأقاموا طفلًا وقالوا‏:‏ هذا هو المهديُّ ثمّ زعموا أنّه نبيّ يوحى إليه وزعموا أنّ أبا عبدالله لم يمُتْ وزحفوا إلى مدينة مِيلة فبلغ ذلك المهديَّ فأخرج ابنه أبا القاسم فحصرهم فقاتلوه فهزمهم واتّبعهم حتّى أجلاهم إلى البحر وقتل منهم خلقًا عظيمًا وقتل الطفل الذي أقاموه‏.‏

وخالف عليه أهل صقلّية مع ابن وهب فأنفذ إليهم أسطولًا ففتحها وأتى بابن وهب فقتله‏.‏

وخالف عليه أهل تاهَرت فعزاها ففتحها وقتل أهل الخلاف وقتل جماعة من بني الأغلب برقّادة كانوا قد رجعوا إليها بعد وفاة زيادة الله‏.‏

ذكر عدّة حوادث

فيها سُيّر القاسم بن سيما وجماعة من القوّاد في طلب الحسين بن حَمدان فساروا حتّى بلغوا قَرِقِيسياء والرَّحَبة فلم يظفروا به فكتب المقتدر إلى أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان وهو الأمير بالموصِل يأمره بطلب أخيه الحسين فسار هو والقاسم بن سيما فالتقوا عند تَكريت فانهزم الحسين فأرسل أخاه إبراهيم بن حَمدان يطلب الأمان فأُجيب إلى ذلك ودخل بغداد وخُلع عليه وعُقد له على قُمّ وقاشان فسار غليها وصرف عنها العبّاس بن عمرو‏.‏

وفيها وصل بارس غلام إسماعيل السامانيّ وقُلّد ديار ربيعة وقد تقدّم ذكره‏.‏

وفيها كانت وقعة بين طاهر بن محمّد بن عمرو بن الليث وبين سُبكرى غلام عمرو فأسر طاهرًا ووجّهه وأخاه يعقوب بن محمّد بن عمرو إلى المقتدر مع كاتبه عبد الرحمن بن جعفر الشيرازيّ فأُدخلا بغداد أسيرين فحُبسا وكان سُبكرى قد تغلّب على فارس بغير أمر الخليفة فلمّا وصل كاتبه قرّر أمره على مال يحمله وكان وصوله إلى بغداد سنة سبع وتسعين‏.‏

وفيها خُلع على مؤنس المظفَّر الخادم وأُمر بالمسير إلى غزو الروم فسار في جمع كثيف فغزا من ناحية مَلَطْية ومعه أبو الأغر السلميُّ فظفر وغنم وأسر منهم جماعة وعاد‏.‏

وفيها قّلّد يوسف بن أبي الساج أعمال أرمينية وأذربيجان وضمنها بمائة ألف وعشرين ألف دينار فسار إليها من الدَّينَور‏.‏

وفيها سقط ببغداد ثلج كثير من بُكرة إلى العصر فصار على الأرض أربع أصابع وكان معه برد شديد وجمد الماء والخلّ والبيض والأدهان وهلك النخل وكثير من الشجر وحجّ بالناس

وفيها توفّي محمّد بن طاهر بن عبدالله بن طاهر‏.‏

وفيها قُتل سَوْسَن حاجب المقتدر وسبب ذلك أنّه كان له أثر في أمر ابن المعتزّ فلمّا بويع ابن المعتّز واستحجب غيره لزم المقتدر فلمّا استوزر ابن الفرات تفرّد بالأمور فعاداه سوسن وسعى في فساد حاله فأعلم ابنُ الفرات المقتدر بالله بحال سوسن وأنّه كان ممّن أعان ابن المعتّز فقبض عليه وقتله‏.‏

وفيها توفّي محمّد بن داود بن الجرّاح عمّ عليّ بن عيسى الوزير وكان عالمًا بالكتابة‏.‏

وفيها توفّي عبدالله بن جعفر بن خاقان وأبو عبد الرحمن الدهكانيُّ‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائتين

ذكر استيلاء الليث على فارس وقتله


في هذه السنة سار الليث بن عليّ بن الليث من سِجِستان إلى فارس في جيش وأخذها واستولى عليها وهرب سُبكرى عنها إلى أرّجان فلمّا بلغ الخبر المقتدر جهّز مؤنسًا الخادم وسيّره إلى فارس معونة لسُبكرى فاجتمعا بأرّجان‏.‏

وبلغ خر اجتماعهما الليثَ فسار إليهما فأتاه الخبر بمسير الحسين ابن حَمدان من قُمّ إلى

البيضاء معونة لمؤنس فسيّر أخاه في بعض جيشه إلى شيراز ليحفظها ثمّ سار في بعض جنده في طريق مختصر ليواقع الحسين ابن حَمدان فأخذ به الدليل في طريق الرجّالة فهلك أكثر دوابّه ولقي هو وأصحابه مشقّة عظيمة فقتل الدليل وعدل عن ذلك الطريق فأشرف على عسكر مؤنس فظنّه هو وأصحابه أنّه عسكره الذي سُيّر مع أخيه إلى شيراز فكبّروا فثار إليهم مؤنس وسُبكرى في جندهما فاقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم عسكر الليث وأُخذ هو أسيرًا‏.‏

فلمّا أسره مؤنس قال له أصحابه‏:‏ إنّ المصلحة أن نقبض على سُبكرى ونستولي على بلاد فارس ونكتب إلى الخليفة ليقرّها عليك فقال‏:‏ سأفعل غدًا إذا صار إلينا على عادته فلمّا جاء الليل أرسل مؤنس إلى سُبكرى سرًّا يعرّفه ما أشار به أصحابه وأمره بالمسير من ليلته إلى شِيراز ففعل فلمّا أصبح مؤنس قال لأصحابه‏:‏ أرى سُبكرى قد تأخّر عنّا فتعرّفوا خبره فسار إليه بعضهم وعاد فأخبره أنّ سُبكرى سار من ليلته إلى شِيراز فلام أصحابه وقالب‏:‏ من جهتكم بلغه الخبر حتّى استوحش وعاد مؤنس ومعه الليث إلى بغداد وعاد الحسين بن حَمدان إلى قمّ‏.‏

ذكر أخذ فارس من سُبكرى

لمّا عاد مؤنس عن سُبكرى استولى كاتبه عبد الرحمن بن جعفر على الأمور فحسده أصحاب سُبكرى فنقلوا عنه أنّه كاتب الخليفة وأنّه قد حلّف أكثر القوّاد له فقبض عليه وقيّده وحبسه واستكتب مكانه إسماعيل ابن إبراهيم البمّيّ فحمله على العصيان ومَنْع ما كان يحمله إلى الخليفة ففعل ذلك‏.‏

فكتب عبد الرحمن بن جعفر إلى ابن الفرات وزير الخليفة يعرّفه ذلك وأنّه لمّا نهى سُبكرى عن العصيان قبض عليه فكتب ابن الفرات إلى مؤنس وهو بواسط يأمره بالعود إلى فارس ويعجزه حيث لم يقبض على سُبكرى ويحمله مع الليث إلى بغداد فعاد مؤنس إلى الأهواز‏.‏

وأرسل سُبكرى مؤنسًا وهاداه وسأله أن يتوسّط حاله مع الخليفة فكتب في أمره وبذل عنه مالًا فلم يستقرّ بينهم شيء وعلم ابن الفرات أنّ مؤنسًا يميل إلى سُبكرى فأنفذ وصيفًا كاتبه وجماعة من القوّاد ومحمّد بن جعفر الفريابيّ وعوّل عليه في فتح فارس وكتب إلى مؤنس يأمره باستصحاب الليث معه إلى بغداد فعاد مؤنس‏.‏

وسار محمّد بن جعفر إلى فارس وواقع سُبكرى على باب شيراز فانهزم سُبكرى إلى بمّ وتحصّن بها وتبعه محمّد بن جعفر وحصره بها فخرج إليه سُبكرى وحاربه مرة ثانية فهزمه محمّد ونهب ماله ودخل سُبكرى مفازة خراسان فظفر به صاحب خُراسان على ما نذكره

واستولى محمّد ابن جعفر على فارس فاستعمل عليها قنبجًا خادم الأفشين والصحيح أنّ فتح فارس كان سنة ثمان وتسعين‏.‏

ذكر عدّة حوادث

وفيها وجّه المقتدر القاسم بن سيما لغزو الصائفة وحجّ بالناس الفضل ابن عبد الملك الهاشميُّ‏.‏

وفيها توفّي عيسى النُّوشريُّ في شعبان بمصر بعد موت أبي العبّاس ابن بِسطام بعشرة أيّام ودُفن بالبيت المقدّس واستعمل المقتدر مكانه تكين الخادم وخلع عليه منتصف شهر رمضان‏.‏

وفيها توفّي أبو عبدالله محمّد بن سالم صاحب سهل بن عبد الله التُّستريّ‏.‏

وفيها توفّي الفيض بن الخضر وقيل ابن محمّد أبو الفيض الأولاشيُّ الطَّرسوسيُّ وأبو بكر محمّد بن داود بن عليّ الأصفهانيُّ الفقيه الظاهريُّ وموسى بن إسحاق القاضي والقاضي أبو محمّد يوسف بن يعقوب بن حمّاد وله تسع وثمانون سنة‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائتين

في هذه السنة في رجب استولى أبو نصر أحمد بن إسماعيل السامانيُّ على سِجِستان‏.‏

وسبب ذلك أنّه لمّا استقرّ أمره وثبت ملكه خرج في سنة سبع وتسعين ومائتين إلى الرَّيّ وكان يسكن بخارى ثمّ سار إلى هراة فسيّر منها جيشًا في المحرّم سنة ثمان وتسعين إلى سِجِستان وسيّر جماعة من أعيان قوّاده وأمرائه منهم أحمد بن سهل ومحمّد بن المظفَّر وسيمجور الدواتيُّ وهو والد آل سيمجور ولاة خُراسان للسامانيّة وسيرد ذكرهم واستعمل أحمد على هذا الجيش الحسينَ بن عليّ المَروَرُوذيَّ فساروا حتّى أتوا سجستان وبها المعدَّل بن عليّ بن الليث الصَّفّار وهو صاحبها‏.‏

فلمّا بلغ المعدَّل خبرهم سيّر أخاه أبا عليّ محمّد بن عليّ بن الليث إلى بُست والرُخَّج ليحمي أموالها ويرسل منها الميرة إلى سجستان فسار المير أحمد بن إسماعيل إلى أبي عليّ ببُست وجاذبه وأخذه أسيرًا وعاد به إلى هَراة‏.‏

وأمّا الجيش الذي بسجستان فإنّهم حصروا المُعدَّل وضايقوه فلمّا بلغه أنّ أخاه أبا عليّ محمّدًا قد أُخذ أسيرًا صالح الحسينَ بن عليّ واستأمن إليه فاستولى الحسين على سجستان فاستعمل عليها الأميرَ أحمد أبا صالح منصور بن إسحاق وهو ابن عمّه وانصرف الحسين عنها ومعه المعدّل إلى بخارى ثمّ إنّ سجستان خالف أهلها سنة ثلاثمائة على ما نذكره‏.‏

ولمّا استولى السامانيّة على سجستان بلغهم خبر مسير سُبكرى في المفازة من فارس إلى سجستان فسيّروا إليه جيشًا فلقوه وهو وعسكره قد أهلكهم التعب فأخذوه أسيرًا واستولوا على عسكره وكتب الأمير أحمد إلى المقتدر بذلك وبالفتح فكتب إليه يشكره على ذلك ويأمره بحمل سُبكرى ومحمّد بن عليّ بن الليث إلى بغداد فسيّرهما وأُدخلا بغداد مشهورَيّن على فيلَينْ وأعاد المقتدر رسل أحمد صاحب خُراسان ومعهم الهدايا والخلع‏.‏

ذكر عدّة حوادث

فيها أطلق الأمير أحمد بن إسماعيل عمّه إسحاق بن أحمد من محبسه وأعاده إلى سَمَرْقَنْد وفَرْغانة‏.‏

وفيها توفّي محمّد بن جعفر الفريابيُّ وقنبج الخادم أمير فارس فاستعمل عليها عبدَ الله بن إبراهيم المِسْمعيَّ وأضاف إليه كَرْمان‏.‏

وفيها جُعلت أمُّ موسى الهاشميّة قَهرمانة دار المقتدر بالله فكانت تؤدّي الرسائل من المقتدر وأمّه إلى الوزير وإنّما ذكرناها لأنّ لها فيما بعد من الحكم في الدولة ما أوجب ذكرها وإلاّ كان الإضراب عنها أولى‏.‏

وفيها في رجب توفّي المظفَّر بن جاخ أمير اليمن وحُمل إلى مكّة ودُفن بها واستعمل الخليفة على اليمن بعده ملاحظًا وحجّ بالناس في هذه السنة الفضل بن عبد الملك الهاشميُّ‏.‏

وفيها في شعبان أُخذ جماعة ببغداد قيل إنّهم أصحاب رجل يدّعي الربوبيّة يُعرف بمحمّد بن بشر‏.‏

وفيها هبّت ريح شديدة حارة صفراء بحديثة الموصل فمات لشدّة حرّها جماعة كثيرة‏.‏

وفيها توفّي أبو القاسم جُنَيْد بن محمّد الصُّوفُّي وكان إمام الدنيا في زمانه وأخذ الفقه عن أبي ثور صاحب الشافعيّ والتصوّف عن سريّ السقطيّ‏.‏

وفيها توفّي أبو برزة الحاسب واسمه الفضل بن محمد‏.‏

وفيها توفّي القاسم بن العبّاس أبو محمّد المعشريُّ وإنّما قيل له المعشريُّ لأنّه ابن بنت أبي معشر نجيح المدنيّ وكان زاهدًا فقيهًا‏.‏

وفيها توفّي أحمد بن سعيد بن مسعود بن عصام أبو العبّاس ومحمّد بن إياس والد أبي زكرياء صاحب تاريخ الموصل وكان خيّرًا فاضلًا وهو أزديّ‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائتين

ووزارة الخاقانيّ في هذه السنة قبض المقتدر على الوزير أبي الحسن بن الفرات في ذي الحجّة وكان قد ظهر قبل القبض عليه بمدة يسيرة ثلاثة كواكب مذنّبة أحدها ظهر آخر رمضان في بُرج الأسد والآخر ظهر في ذي القعدة في المشرق والثالث ظهر في المغرب في ذي القعدة أيضًا في برج العقرب‏.‏

ولمّا قبض على الوزير وكّل بداره وهتك حُرمه ونهب ماله ونُهبت دور أصحابه ومَن يتعلّق به وافتتنت بغداد لقبضه ولقي الناس شدّة ثلاثة أيّام ثمّ سكنوا‏.‏

وكانت مدّة وزارته هذه السنة وهي الوزارة الأولى ثلاث سنين وثمانية أشهر وثلاثة عشر يومًا وقُلّد أبو عليّ محمّد بن يحيى بن عبيدالله بن يحيى بن خاقان الوزارة فرتّب أصحاب الدواوين وتولّى مناظرة ابن الفرات أبو الحسين أحمد بن يحيى بن أبي البغل وكان أخوه أبو الحسن بن أبي البغل مقيمًا بأصبهان فسعى أخوه له في الوزارة هو وأمّ موسى القهرمانة فأذن المقتدر في حضوره ليتولّى الوزارة فحضر فلّما بلغ ذلك الخاقانيَّ انحلّت أموره فدخل على الخليفة وأخبره بذلك فأمره بالقبض على أبي الحسن وأبي الحسين أخيه فقبض على أبي الحسن ثمّ إنّ أمور الخاقانيّ انحلّتْ لأنّه كان ضجورًا ضيّق الصدر مهملًا لقراءة كتب العُمّال وجباية الأموال وكان يتقرّب إلى الخاصّة والعامّة فمنع خدم السلطان وخواصّه أن يخاطبوه بالعبد وكان إذا رأى جماعة من الملاحين والعامّة يصلّون جماعة ينزل ويصلّي معهم وإذا سأله أحدٌ حاجةً دقّ صدره وقال نعم وكرامة فسُمّي‏:‏ دقّ صدره إلاّ أنّه قصّر في إطلاق الأموال للفرسان والقوّاد فنفروا عنه واتّضعت الوزارة بفعله ما تقدّم‏.‏

وكان أولاده قد تحكّموا عليه فكلّ منهم يسعى لمن يرتشي منه وكان يولّي في الأيّام القليلة عدّة من العُمّال حتّى إنّه ولَّى بالكوفة في مدّة عشرين يومًا سبعةً من العُمّال فاجتمعوا في الطريق فعرَضوا توقيعاتهم فسار الخير منهم وعاد الباقون يطلبون ما خدموا به أولاده فقيل فيه‏:‏ وزيرٌ قد تكاملَ في الرّقاعهْ يولّي ثمّ يَعْزِلُ بَعْدَ ساعَهْ إذا أهل الرُّشى اجتمعوا لدَيهِ فخَيرُ القَومِ اوفَرُهُم بضاعَهْ وليسَ يُلامُ في هذا بحالٍ لأنّ الشيخَ أفلَتَ من مَجَاعَهْ ثمّ زاد الأمر حتّى تحكّم أصحابه فكانوا يطلقون الأموال ويفسدون الأحوال فانحلّت القواعد وخبثت النيّات واشتغل الخليفة بعزل وزرائه والقبض عليهم والرجوع إلى قول النساء والخدم والتصرّف على مقتضى آرائهم فخرجت الممالك وطمع العمّال في الأطراف وكان ما نذكره ثمّ إنّ الخليفة أحضر الوزر ابن الفُرات من محبسه فجعله عنده في بعض الحُجر مكرمًا فكان يَعِرض عليه مطالعات العمّال وغير ذلك وأكرمه وأحسن إليه بعدَ أن أخذ أمواله‏.‏

ذكر عدّة حوادث

فيها غزا رستم أمير الثغور الصائفة من ناحية طَرَسُوس ومعه دميانة فحصر حصن مَليح الأرمنيّ ثمّ دخل بلده وأحرقه‏.‏

وفيها دخل بغداد العظيم والأغبر وهما من قوّاد زكرويه القُرمطيّ دخلا بالأمان وحجّ بالناس الفضل بن عبد الملك‏.‏

وفيها جاء نفر من القَرامطة من أصحاب أبي سعيد الجنّابيّ إلى باب البصرة وكان عليها محمّد بن إسحاق بن كنداجيق وكان وصولهم يوم الجمعة والناس في الصلاة فوقع الصوت بمجيء القَرامطة فخرج إليهم الموكَّلون بحفظ باب البصرة فرأوا رجلَيْن منهم فخرجوا إليهما فقتل القرامطة منهم رجلًا وعادوا فخرج إليهم محمّد بن إسحاق في جمع فلم يرهم فسيّر في أثرهم جماعة فأدركوهم وكانوا نحو ثلاثين رجلًان فقاتلوهم فقُتل بينهم جماعة وعاد ابن كنداجيق وأغلق أبواب البصرة ظنًّا منه أنّ أولئك القرامطة كانوا مقدّمة لأصحابهم وكاتب الوزير ببغداد

يعرّفه وصول القرامطة ويستمدّه فلمّا أصبح ولم يرَ للقرامطة أثرًا ندم على ما فعل وسيّر إليه من بغداد عسكرًا مع بعض القوّاد‏.‏

وفيها خالف أهل طرابلس الغرب على المهديّ عبيدالله العلويّ فسيّر إليها عسكرًا فحاصرها فلم يظفر بها فسيّر إليها المهديُّ ابنَهُ أبا القاسم في جُمادى الآخرة سنة ثلاثمائة فحاصرها وصابرها واشتدّ في القتال فعدمت الأقوات في البلد حتّى أكل أهله الميتة‏.‏

ففتح البلد عنفًا وعفا عن أهله وأخذ أموالًا عظيمة من الذين أثاروا الخلاف وغرّم أهل البلد جميع ما أخرجه على عسكره وأخذ وجوه البلد رهائن عنده واستعمل عليه عاملًا وانصرف‏.‏

وفيها كانت زلازل بالقَيروان لم يُرَ مثلها شدّة وعظمة وثار أهل القَيروان فقتلوا من كُتامة نحو ألف رجل‏.‏

وفيها توفّي محمّد بن أحمد بن كَيسان أبو الحسن النحويُّ وكان عالمًا بنحو البصريّين والكوفيّين لأنّه أخذه عن ثعلب والمبرّد‏.‏

وفيها توفّي محمّد بن السريّ القنطريُّ وأبو صالح الحافظ وأبو عليّ ابن سيبويه وأبو يعقوب إسحاق بن حُنَينْ الطبيب‏.‏

ذكر عزل الخاقانيّ عن الوزارة ووزارة عليّ بن عيسى

في هذه السنة ظهر للمقتدر تخليط الخاقانيّ وعجزه في الوزارة فأراد عزله وإعادة أبي الحسن بن الفرات إلى الوزارة فمنعه مؤنس الخادم عن ابن الفرات لنفوره عنه لأمور منها‏:‏ إنفاذ الجيش إلى فارس مع غيره وإعادته إلى بغداد وقد ذكرناه فقال للمقتدر‏:‏ متى أعدتَه ظنّ الناس أنّك إنّما قبضتَ عليه شرهًا في ماله والمصلحة أن تستدعي عليَّ بن عيسى من مكّة وتجعله وزيرًا فهو الكافي الثقة الصحيح العمل المتين الدين‏.‏

فأمر المقتدر بإحضاره فأنفذ مَن يحضره فوصل إلى بغداد أوّل سنة إحدى وثلاثمائة وجلس في الوزارة وقُبض على الخاقانيّ وسُلّم إليه فأحسن قبضه ووسّع عليه وتولّى عليُّ بن عيسى ولازم العمل والنظر في الأمور وردّ المظالم وأطلق من المكوس شيئًا كثيرًا بمكّة وفارس وأطلق المواخير والمُفسدات بدوْبق وأسقط زيادات كان الخاقانيُّ قد زادها للجند لأنّه عمل الدخل والخرج فرأى الخرج أكثر فأسقط أولئك وأمر بعمارة المساجد والجوامع وتبييضها وفرشها بالحصر وإشعال الأضواء فيها وأجرى للأئمة والقراء والمؤذنين أرزاقًا وأمر بإصلاح البيمارستانات وعمل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية وقرّر فيها فضلاء الأطبّاء وأنصف المظلومين وأسقط ما زيد في خراج الضياع ولمّا عُزل الخاقانيُّ أكثر الناس التزوير على خطّه بمسامحات وإدرارات فنظر عليُّ بن عيسى في تلك الخطوط فأنكرها وأراد إسقاطها فخاف ذمّ الناس ورأى أن ينفذها إلى الخاقانيّ ليميّز الصحيح من المزوّر عليه فيكون الذمّ له فلمّا عُرضت تلك الخطوط عليه قال‏:‏ هذه جميعها خطّي وأنا أمرتُ بها فلمّا عاد الرسول إلى عليّ بن عيسى بذلك قال‏:‏ والله لقد كذب وقد علم المزوَّر من غيره ولكنّه اعترف بها ليحمده الناس ويذمّوني وأمر بها فأُجيزتْ‏.‏

وقال الخاقانيُّ لولده‏:‏ يا بنيّ هذه ليست خطّي ولكنّه أنفذها أليّ وقد عرف الصحيح من السقيم ولكنّه أراد أن يأخذ الشوك بأيدينا ويبغّضنا إلى الناس وقد عكست مقصوده‏.‏

ذكر خلاف سجستان وعودها إلى طاعة أحمد ابن إسماعيل السامانيّ

و في هذه السنة أنفذ الأمير أبو نصر أحمد بن إسماعيل السامانيُّ عسكرًا إلى سِجِستان ليفتحها ثانيًا وكانت قد عصتْ عليه وخالف مَن بها‏.‏

وسبب ذلك أنّ محمَد بن هُرمُز المعروف بالمولى الصندليّ كان خارجيّ المذهب وكان قد أقام ببخارى وهو من أهل سِجِستان وكان شيخًا كبيرًا فجاء يومًا إلى الحسين بن عليّ بن محمّد العارض يطلب رزقه فقال له‏:‏ إنّ الأصلح لمثلك من الشيوخ أن يلزم رباطًا يعبد الله فيه حتّى يوافيه أجله فغاظه ذلك فانصرف إلى سِجِستان والوالي عليها منصور بن إسحاق فاستمال جماعةً من الخوارج ودعا إلى الصَّفّار وبايع في السرّ لعمرو بن يعقوب بن محمّد بن عمرو بن الليث وكان رئيسهم محمّد بن العبّاس المعروف بابن الحَفّار وكان شديد القوّة فخرجوا وقبضوا على منصور بن إسحاق أميرهم وحبسوه في سجن أرْكٍ وخطبوا لعمرو بن يعقوب وسلّموا إليه سجستان‏.‏

فلمّا بلغ الخبر إلى المير أحمد بن إسماعيل سيّر الجيوش مع الحسين ابن عليّ مرّةً ثانية إلى زَرَنْجَ في سنة ثلاثمائة فحصرها تسعة أشهر فصعد يومًا محمّد بن هُرمُز الصندليُّ إلى السور وقال‏:‏ ما حاجتكم إلى أذى شيخ لا يصلح إلا للزوم رباط يذكرهم بما قاله العارض ببخارى واتّفق أنّ الصندلي مات فاستأمن عمرو بن يعقوب الصَّفّار وابن الحفّار إلى الحسين بن عليّ وأطلقوا عن منصور بن إسحاق وكان الحسين بن عليّ يكرم ابن الحفّار ويقرّبه فواطأ ابن الحفّار جماعة على الفتك بالحسين فعلم الحسين ذلك وكان ابن الحفّار يدخل على الحسين لا يحجب عنه فدخل إليه يمًا وهو مشتمل على سيف فأمر الحسين بالقبض عليه وأخذه معه إلى بخارى‏.‏

ولمّا انتهى خبر فتح سِجِستان إلى المير أحمد استعمل عليها سيمجورَ الدواتيَّ وأمر الحسينَ بالرجوع إليهن فرجع ومعه عمرو بن يعقوب وابن الحفّار وغيرهما وكان عوده في ذي الحجّة سنة ثلاثمائة واستعمل الأمير أحمدُ منصورًا ابن عمّه إسحاق على نَيسابور وأنفذه إليها وتوفّي ابن الحفّار‏.‏

ذكر طاعة أهل صقلّية للمقتدر وعودهم إلى طاعة المهديّ العلويّ

قد ذكرنا سنة سبع وتسعين ومائتين استعمال المهديّ عليَّ بن عمر على صِقلّية فلمّا وليها كان شيخًا ليّنًا فلم يرض أهل صِقلّية بسيرته فعزلوه عنهم وولّوا على أنفسهم أحمد بن قرهب فلمّا وليّ سيّر سريّة إلى أرض قِلُّورِيَةَ فغنموا منها وأسروا من الروم وعادوا‏.‏

وأرسل سنة ثلاثمائة ابنه عليًّا إلى قلعة طَبَرْمين في جيش وأمره بحصرها وكان غرضه إذا ملكها أن يجعل بها ولده وأمواله وعبيده فإذا رأى من أهل صقلّية ما يكره امتنع بها فحصرها ابنه ستّة أشهر ثمّ اختلف العسكر عليه وكرهوا المُقام فأحرقوا خيمته وسواد العسكر وأرادوا قتله فمنعهم العرب‏.‏

ودعا أحمد بن قرهب الناس إلى طاعة المقتدر فأجابوه إلى ذلك فخَطب له بصِقلّية وقَطع خطبة المهديّ وأخرج ابن قرهب جيشًا في البحر إلى ساحل أفريقية فلقوا هناك أسطول المهديّ ومقدّمه الحسن بن أبي خنزير فأحرقوا الأسطول وقتلوا الحسن وحملوا رأسه إلى ابن قرهب وسار الأسطول الصقلّيُّ إلى مدينة سَفَاقُس فخرّبوها وساروا إلى طرابلس فوجدوا فيها القائم بن المهديّ فعادوا‏.‏

ووصلت الخلع السود والألوية إلى ابن قرهب من المقتدر ثمّ أخرج مراكب فيها جيش إلى قِلُّورِيَةَ فغنم جيشه وخربوا وعادوا وسيّر أيضًا اسطولًا إلى إفريقية فخرج عليه أسطول المهديّ فظفروا بالذي لابن قرهب وأخذوه ولم يستقم بعد ذلك لابن قرهب حال وأدبر أمره وطمع فيه الناس وكانوا يخافونه‏.‏

وخاف منه أهل جرجنت وعصوا أمره وكاتبوا المهديّ فلمّا رأى ذلك أهل البلاد كاتبوا المهديَّ أيضًا وكرهوا الفتنة وثاروا بابن قرهب وأخذوه أسيرًا سنة ثلاثمائة وحبسوه وأرسلوه إلى المهديّ مع جماعة من خاصّته فأمر بقتلهم على قبر ابن أبي خنزير فقُتلوا واستعمل على صقلّية أبا سعيد موسى بن أحمد وسيّر معه جماعة كثيرة من شيوخ كُتامة فوصلوا إلى طَرَابُنُش‏.‏

وسبب إرسال العسكر معه أنّ ابن قرهب كان قد كتب إلى المهديّ يقول له‏:‏ إنّ أهل صقلّية يكثرون الشغب على أمرائهم ولا يطيعونهم وينهبون أموالهم ولا يزول ذلك إلاّ بعسكر يقهرهم ويزيل الرئاسة عن رؤسائهم ففعل المهديُّ ذلك فلمّا وصل معه العسكر خاف منه أهل صقلّية فاجتمع عليه أهل جرجنت وأهل المدينة وغيرها فتحصّن منهم أبو سعيد وعمل على نفسه سورًا إلى البحر وصار المرسى معه فاقتتلوا فانهزم أهل صقلّية وقُتل جماعة من رؤسائهم وأُسر جماعة وطل أهل المدينة الأمان فأمّنهم إلا رجلَيْن هما أثارا الفتنة فرضوا بذلك وتسلّم الرجلَيْن وسيّرهما إلى المهديّ بإفريقية وتسلّم المدينة وهدم أبوابها وأتاه كتاب المهديّ يأمره بالعفو عن العامّة‏.‏

ذكر وفاة عبد الله بن محمّد صاحب الأندلس وولاية عبد الرحمن الناصر

وفيها توفّي عبد الله بن محمّد بن عبد الرحمن بن الحاكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية الأمويُّ صاحب الأندلس في ربيع الأوّل وكان عمره اثنتين وأربعين سنة وكان أبيض أصهب أزرق ربعة يخضب بالسواد وكانت ولايته خمسًا وعشرين سنة وأحد عشر شهرًا وخلّف أحد عشر ولدًا ذكرًا أحدهم محمّد المقتول قتله في حدّ من الحدود وهو والد عبد الرحمن ولمّا توفّي وليَ بعده ابن ابنه هذا محمّد واسمه عبد الرحمن بن محمّد ابن عبد الله بن محمّد بن عبد الرحمن بن الحاكم بن هِشام بن عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس ابن معاوية بن هِشام بن عبد الملك بن مَروان بن الحاكم الأمويّ وأمّه أمّ ولد تسمّى مرتة وكان عمره لمّا قُتل أبوه عشرين يومًا‏.‏

وكانت ولايته من المستطرف لأنّه كان شابًا وبالحضرة أعمامه وأعمام أبيه فلم يختلفوا عليه ووُلِّيَ الإمارة والبلاد كلّها وقد اختلف عليهم قبله وامتنع حصون بكورة رَيّة وحصن بُبَشْتَر فحاربه حتّى صلحت البلاد بناحيته وكان مَن بطُليطُلة أيضًا قد خالفوا فقاتلهم حتّى عادوا إلى الطاعة ولم يزل يقاتل المخالفين حتّى أذعنوا له وأطاعوه نيّفًا وعشرين سنة فاستقامت البلاد وأمنت في دولته ومضى لحال سبيله‏.‏

ذكر عدّة حوادث

في هذه السنة عُزل عبد الله بن إبراهيم المِسْمعيُّ عن فارس وكَرمان واستُعمل عليها بدر الحمّاميُّ وكان بدر يتقلّد أصبهان واستُعمل بعده على أصبهان عليُّ بن وهسوذان الديلميُّ‏.‏

وفيها ورد الخبر إلى بغداد ورسوله من عامل بَرقة وهي من عمل مصر وما بعدها بأربعة فراسخ لمصر وما وراء ذلك من عمل المغرب بخبر خارجيّ خرج عليهم وأنهم ظفروا به وبعسكره وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا ووصل على يد الرسول من أنوفهم وآذانهم شيء كثير‏.‏

وفيها كثرت الأمراض والعلل ببغداد‏.‏

وفيها كلبت الكلاب والذئاب بالبادية فأهلكت خلقًا كثيرًا‏.‏

وفيها وُلِّيَ بشر الأفشينيُّ طَرَسُوس‏.‏

وفيها قُلّد مؤنس المظفَّر الحرمَينْ والثغور‏.‏

وفيها انقضّت الكواكب انقضاضًا كثيرًا إلى جهة المشرق‏.‏

وفيها مات أسكندروس بن لاون ملك الروم وملك بعده ابنه واسمه قسطنطين وعمره اثنتا عشرة سنة‏.‏

وفيها توفّي عبيدالله بن عبدالله بن طاهر بن الحسين وكان مولده سنة ثلاث وعشرين ومائتين‏.‏

وفيها توفّي أحمد بن عليّ الحدّاد وقيل سنة تسع وتسعين ومائتين وهو الصحيح‏.‏

وفيها توفّي أحمد بن يعقوب ابن أخي العرق المقرئ والحسين بن عمر بن أبي الأخوص وعليُّ بن طيفور النشويُّ وأبو عمر القتّات‏.‏

وفيها في ربيع الآخر توفّي يحيى بن عليّ بن يحيى المنجّم المعروف بالنديم‏.‏

في هذه السنة خُلع على الأمر أبي العبّاس بن المقتدر بالله وقُلد أعمال مصر والمغرب وعمره أربع سنين واستخلف له على مصر مؤنس الخادم وأبو العبّاس هذا هو الذي وليَ الخلافة بعد القاهر بالله ولُقّبَ الراضي بالله‏.‏

وخُلع أيضًا على الأمير عليّ بن المقتدر ووليَ الرّيّ ودنباوند وقزوين وزنجان وأبهر‏.‏

وفيها أُحضر بدار عيسى رجل يُعرف بالحلاّج ويكنّى أبا محمّد وكان مشعبذًا في قول بعضهم وصاحب حقيقة في قول بعضهم ومعه صاحب له فقيل إنّه يدّعي الربوبيّة وصُلب هو وصاحبه ثلاثة أيّام كلّ يوم من بُكرة إلى انتصاف النهار ثمّ يؤمَرُ بهما إلى الحبس وسنذكر أخباره واختلاف الناس فيه عند صلبه‏.‏

وفيها في صفر عُزل أبو الهيجاء عبدالله بن حمدان عن الموصل وقُلّد يُمن الطولونيُّ المعونة بالموصل ثمّ صُرف عنها

في هذه السنة واستُعمل عليها نحرير الخادم الصغير‏.‏

وفيها خالف أبو الهيجاء عبدُ الله بن حَمدان على المقتدر فسُيّر إليه مؤنس المظفَّر وعلى مقدّمته بنّيّ بن نفسي خرج إلى الموصل منتصف صفرٍ ومعه جماعة من القوّاد وخرج مؤنس في ربيع الأوّل فلمّا علم أبو الهيجاء بذلك قصد مؤنسًا مستأمنًا من تلقاء نفسه وورد معه إلى بغداد فخلع المقتدر عليه‏.‏

ذكر قتل الأمير أبي نصر الساماني وولاية ولده نصر

و في هذه السنة قُتل الأمير أحمد بن إسماعيل بن أحمد السامانيُّ صاحب خراسان وما وراء النهر وكان مولعًا بالصيد فخرج إلى فربر متصيّدًا فلمّا انصرف أمر بإحراق ما اشتمل عليه عسكره وانصرف فورد عليه كتاب نائبه بطبرستان وهو أبو العبّاس صعلوك وكان يليها بعد وفاة ابن نوح بها يخبره بظهور الحسن بن عليّ العلويّ الأطروش بها وتغلّبه عليها وأنّه أخرجه عنها فغمّ ذلك أحمد وعاد إلى معسكره الذي أحرقه فنزل عليه فتطيّر الناس من ذلك‏.‏

وكان له أسدٌ يربطه كلّ ليلة على باب مبيته فلا يجسر أحد أن يقربه فأغفلوا إحضار الأسد تلك الليلة فدخل إليه جماعة من غلمانه فذبحوه على سريره وهربوا وكان قَتْله ليلة الخميس لسبع بقين من جُمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثمائة فحُمل إلى بخارى فدُفن بها ولُقّب حينئذ بالشهيد وطُلب أولئك الغلمان فأُخذ بعضهم فقُتل‏.‏

ووليَ الأمر بعده ولده أبو الحسن نصر بن أحمد وهو ابن ثماني سنين وكانت ولايته ثلاثين سنة وثلاثة وثلاثين يومًا وكان موته في رجب سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة ولُقّب بالسعيد وبايعه

أصحاب أبيه ببخارى بعد دفن أبيه وكان الذي تولّى ذلك أحمد بن محمّد بن الليث وكان متولّي أمر بخارى فحمله على عاتقه وبايع له الناس ولّما حمله خدم أبيه ليظهر للناس خافهم وقال‏:‏ أتريدون أن تقتلوني كما قتلتم أبي فقالوا‏:‏ لا إنّما نريد أن تكون موضع أبيك أميرًا فسكن روعه‏.‏

واستصغر الناس نصرًا واستضعفوه وظنّوا أنّ أمره لا ينتظم مع قوّة عمّ أبيه الأمير إسحاق بن أحمد وهو شيخ السامانيّة وهو صاحب سَمَرْقند ومَيْل الناس بما وراء النهر سوى بخارى إليه وإلى أولاده وتولّى تدبير دولة السعيد نصر بن أحمد أبو عبدالله محمّد بن أحمد الجَيْهانيُّ فأمضى الأمور وضبط المملكة واتّفق هو وحشم نصر بن أحمد على تدبير الأمر فأحكموه ومع هذا فإنّ أصحاب الأطراف طمعوا في البلاد فخرجوا من النواحي على ما نذكره‏.‏

فممنّ خرج عن طاعته سِجِستان وعمّ أبيه إسحاق بن أحمد بن أسد بسَمرقند وابناه منصور وإلياس ابنا إسحاق ومحمّد بن ا لحسين بن مت وأبو الحسن بن يوسف والحسين بن عليّ المَرْورُوذيُّ ومحمّد بن جيد وأحمد بن سهل وليلى بن نعمان صاحب العلويّين بَطَبِرستان ووقّعه سيمجور مع أبي الحسن بن الناصر وقراتكين وما كان بن كالي وخرج عليه إخوته يحى ومنصور وإبراهيم أولاد أحمد بن إسماعيل وجعفر بن أبي جعفر وابن داود ومحمّد بن إلياس ‏     ‏  ‏   ‏ ‏ ‏