المجلد السادس - ذكر أمر سجستان

ولّما قُتل الأمير أحمد بن إسماعيل خالف أهل سجِستان على ولده نصر وانصرف عنها سيمجور الدواتيٌّ فولاّها المقتدر بالله بدرًا الكبير فأنفذ إليها الفضلَ بن حميد وأبا يزيد خالد بن محمد المروزيّ وكان عُبيد الله بن أحمد الجَيْهانيُّ ببُستَ والرُّخَّج وسعد الطالقانيُّ بغَزنة من جهة السعيد نصر بن أحمد فقصدهما الفضل خالد وانكشف عنهما عبيدالله وقبضا على سعد الطالقانيّ وأنفذاه إلى بغداد واستولى الفضل وخالد على غزنة وبُست ثمّ اعتلَّ الفضل وانفرد خالد بالأمور وعصى على الخليفة فأنفذ إليه دركًا أخا نجح الطولونيّ فقاتله فهزمه خالد‏.‏

وسار خالد إلى كَرمان فأنفذ إليه بدر جيشًا فقاتلهم خالد فجُرح وانهزم أصحابه وأُخذ هو أسيرًا فمات فحُمل رأسه إلى بغداد‏.‏

ذكر خروج إسحاق بن أحمد وابن إلياس

و في هذه السنة وهي إحدى وثلاثمائة خرج على السعيد نصر بن أحمد ابن إسماعيل عمّ أبيه إسحاق بن أحمد بن أسد وابنه إلياس وكان إسحاق بسَمَرْقَنْد لّما قُتل أحمد بن إسماعيل ووليَ

ابنه نصر بن أحمد فلمّا بلغه ذلك عصى بها وقام ابنه إلياس يأمر الجيش وقوي أمرهما فساروا نحو بخارى فسار إليه حمويه بن عليّ في عسكر وكان ذلك في شهر رمضان فاقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم إسحاق إلى سَمَرْقَنْد ثمّ جمع وعاد مرّة ثانية فاقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم إسحاق أيضًا وتبعه حموية إلى سَمَرْقَنْد فملكها قهرًا‏.‏

واختفى إسحاق وطلبه حموية ووضع عليه العيون والرصد فضاق بإسحاق مكانه فأظهر نفسه واستأمن إلى حموية فأمّنه وحمله إلى بخارى فأقام بها إلى أن مات‏.‏

وأمّا ابنه إلياس فإنّه سار إلى فرغانة وبقي بها إلى أن خرج ثانيًا‏.‏

ذكر ظهور الحسن بن عليّ الأطروش

وفيها استولى الحسن بن عليّ بن الحسن بن عمر بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب على طَبَرِسْتان وكان يلقّب بالناصر‏.‏ وكان سبب ظهوره ماذكره وقد ذكرنا فيما تقدّم عصيان محمّد ابن هارون على أحمد بن إسماعيل وهربه منه وغير ذلك ثمّ إنّ الأمير أحمد بن إسماعيل استعمل على طبرستان أبا العبّاس عبدالله بن محمّد بن نوح فأحسن فيهم السيرة وعدل فيهم وأكرم مَن بها من العلويّين وكان الحسن بن عليّ الأطروش قد دخل الديلم بعد قتل محمّد بن زيد وأقام بينهم نحو ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام ويقتصر منهم على العشر ويدافع عنهم ابن حسّان ملكهم فأسلم منهم خلق كثير واجتمعوا عليه وبنى في بلادهم مساجد‏.‏

وكان للمسلمين بإزائهم ثغور مثل‏:‏ قَزوين وسالوس وغيرهما وكان بمدينة سالوس حصن منيع قديم فهدمه الأطروش حين أسلم الديلم والجيل ثمّ إنّه جعل يدعوهم إلى الخروج معه إلى طبرستان فلا يجيبونه إلى ذلك لإحسان ابن نوح فاتّفق أنّ الأمير أحمد عزل ابنَ نوح عن طبرستان وولاّها سلامًا فلم يحسن سياسة أهلها وهاج عليه الديلم فقاتلهم وهزمهم واستقال عن ولايتها فعزله الأمير أحمد وأعاد إليها ابن نوح فصلحت البلاد معه‏.‏

ثمّ إنّه مات بها واستعمل عليها أبو العبّاس محمّد بن إبراهيم صُعلوك فغيّر رسوم ابن نوح وأساء السيرة وقطع عن رؤساء الديلم ما كان يهديه إليهم ابن نوح فانتهز الحسن بن عليّ الفرصة وهيّج الديلم عليه ودعاهم إلى الخروج معه فأجابوه وخرجوا معه وقصدهم صُعلوك فالتقوا بمكان يسمّى نَوْرُوز وهو على شاطئ البحر على يوم من سالوس فانهزم ابن صُعلوك وقُتل من أصحابه نحو أربعة آلاف رجل وحصر الأطروش الباقين ثمّ أمّنهم على أموالهم وأنفسهم وأهليهم فخرجوا إليه فأمّنهم وعاد عنهم إلى آمل وانتهى إليهم الحسن بن القاسم الداعي العلويُّ وكان ختَن الأطروش فقتلهم عن آخرهم لأنّه لم يكن أمّنهم ولا عاهدهم واستولى الأطروش على طبرستان‏.‏

وخرج صعلوك إلى الرَّيّ وذلك سنة إحدى وثلاثمائة ثمّ سار منها إلى بغداد كان الأطروش قد أسلم على يده من الديلم الذين هم وراء أسفيدروذ إلى ناحية آمل وهم يذهبون مذهب الشيعة‏.‏

وكان الأطروش زيديَّ المذهب شاعرًا مفلقًا ظريفًا علاّمة إمامًا في الفِقه والدين كثير المُجون حسن النادرة‏.‏

حُكي عنه أنّه استعمل عبدالله بن المبارك على جُرجان وكان يُرمى بالأُبنة فاستعجزه الحسن يومًا في شغل له وأنكره عليه فقال‏:‏ أيّها الأمير‏!‏ أنا أحتاج إلى رجال أجلاد يعينونني فقال‏:‏ قد بلغني ذلك‏.‏

وكان سبب صممه أنّه ضُرب على رأسه بسيف في حرب محمّد بن زيد فطرش وكان له من الأولاد أبو الحسن وأبو القاسم وأبو الحسين فقال يومًا لأبنه أبي الحسن‏:‏ يا بنيّ‏!‏ ها هنا شيء من الغراء نلصق به كاغدًا فقال‏:‏ لا إنّما ها هنا بالخاء فحقدها عليه ولم يولّه شيئًا وولّى ابنيه أبا القاسم والحسين وكان أبو الحسن ينكر تركه معزولًا ويقول‏:‏ أنا أشرف منهما لأنّ أمّي

وكان أبو الحسن شاعرًا وله مناقضات مع ابن المعتزّ ولحق أبو الحسن بابن أبي الساج فخرج معه يومًا متصيّدًا فسقط عن دابّته فبقي راجلًا فمرّ به ابن أبي الساج فقال له‏:‏ اركب معي على دابّتي‏!‏ فقال‏:‏ أيّها الأمير لا يصلح بطلان على دابّة‏.‏

ذكر القرامطة وقتل الجُنّابيّ

في هذه السنة قُتل أبو سعيد الحسن بن بَهرام الجُنّابيُّ كبير القرامطة قتله خادم له صَقلبيّ في الحمّام فلمّا قتله استدعى رجلًا من أكابر رؤسائهم وقال له‏:‏ السيّد يستدعيك فلمّا دخل قتله ففعل ذلك بأربعة نفر من رؤسائهم واستدعى الخامس فلمّا دخل فطن لذلك فأمسك بيد الخادم وصاح فدخل الناس وصاح النساء وجرى بينهم وبين الخادم مناظرات ثمّ قتلوه‏.‏

وكان أبو سعيد قد عهد إلى ابنه سعيد وهو الأكبر فعجز عن الأمر فغلبه أخوه الأصغر أبو طاهر سليمان وكان شهمًا شجاعًا ويرد من أخباره ما يُعلم به محلّه‏.‏

ولّما قُتل أبو سعيد كان قد استولى على هَجَر والإحساء والقَطيف والطائف وسائر بلاد الحرين وكان المقتدر قد كتب إلى أبي سعيد كتابًا ليّنًا في معنى مَن عندّه من أسرى المسلمين ويناظره ويقيم الدليل على فساد مذهبه ونفّذه مع الرسل فلمّا وصلوا إلى البصرة بلغهم خبر موته فأعلموا الخليفة بذلك فأمرهم بالمسير إلى ولده فأتوا أبا طاهر بالكتاب فأكرم الرسل وأطلق الأسرى ونفّذهم إلى بغداد وأجاب عن الكتاب‏.‏

ذكر مسير جيش المهديّ إلى مصر

في هذه السنة جهّز المهديُّ العساكر من إفريقية وسيّرها مع ولده أبي القاسم إلى الديار المصريّة فساروا إلى برقة واستولوا عليها في ذي الحجّة وساروا إلى مصر فملك الإسكندريّة والفيّوم وصار في يده أكثر البلاد وضيّق على أهلها فسيّر إليها المقتدر بالله مؤنسًا الخادم في جيش كثيف فحاربهم وأجلاهم عن مصر فعادوا إلى المغرب مهزومين‏.‏

ذكر عدّة حوادث

و في هذه السنة كثرت الأمراض الدموية بالعراق ومات بها خلق كثير وأكثرهم بالحربيّة فإنّها أُغلقت بها دور كثيرة لفناء أهلها‏.‏

وفيها توفّي جعفر بن محمّد بن الحسن الفريابيُّ ببغداد والقاضي أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن محمّد بن أبي بكر المقدّميُّ الثقفيُّ‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثمائة

في هذه السنة أُمر عليُّ بن عيسى الوزير بالمسير إلى طَرَسُوس لغزو الصائفة فسار في ألفَيْ فارس معونةً لبشر الخادم والي طَرَسُوس فلم يتيسّر لهم غزو الصائفة فغزوها شاتية في برد شديد وثلج‏.‏

وفيها تنحّى الحسن بن عليّ الأطروش العلويُّ عن آمل بعد غلبته عليها كما ذكرناه وسار إلى سالوس ووجّه إليه صُعلوك جيشًا من الرَّيّ فلقيهم الحسن وهزمهم وعاد إلى آمل‏.‏

وكان الحسن بن عليّ حسن السيرة عادلًا ولم يرَ الناس مثله في عدله وحُسن سيرته وإقامته الحقّ وقد ذكره ابن مِسكويه في كتاب تجارب الأمم فقال‏:‏ الحسن بن عليّ الداعي وليس به إنّما الداعي عليُّ بن القاسم وهو ختَن هذا على ما ذكرناه‏.‏

وفيها قبض المقتدر على أبي عبدالله الحسين بن عبدالله المعروف بابن الجصّاص الجوهريّ وأخذ ما في بيته من صنوف الأموال وكان قيمته أربعة آلاف ألف دينار وكان هو يدّعي أنّ قيمة ما أُخذ منه عشرون ألف ألف دينار وأكثر من ذلك‏.‏

ذكر مخالفة منصور بن إسحاق

و في هذه السنة خالف منصور بن إسحاق بن أحمد بن أسد على الأمير نصر بن أحمد ووافقه وكان سبب ذلك أنّ الحسين بن عليّ لّما افتتح سِجِسْتان الدفعة الأولى على ما ذكرناه للأمير أحمد بن إسماعيل طمع أن يتولاها فوليها منصور بن إسحاق هذا فخالف أهلها وحبسوا منصورًا فأنفذ الأمير أحمد عليًّا أيضًا فافتتحها ثانيًا وطمع أن يتولاّها فوليها سيمجور وقد

ذكرنا هذا جميعه‏.‏

فلمّا وليها سيمجور استوحش عليٌّ لذلك ونفر منه وتحدّث مع منصور بن إسحاق في الموافقة والتعاضد بعد موت الأمير أحمد وتكون إمارة خراسان لمنصور ويكون الحسين بن عليّ خليفته على أعماله فاتّفقا على ذلك فلمّا قُتل الأمير أحمد بن إسماعيل كان منصور بن إسحاق بنيسابور والحسين بهرَاة فأظهر الحسين العصيان وسار إلى منصور يحثّه على ما كانا اتّفقا عليه فخالف أيضًا وخطب لمنصور بنيسابور فتوجه إليها من بخارى حموية بن علي في عسكر ضخم لمحاربتهما فاتّفق أنّ منصورًا مات فقيل إنّ الحسين بن عليّ سمّه فلمّا قاربه حموية سار الحسين بن عليّ عن نَيسابور إلى هَراة وأقام بها‏.‏

وكان محمّد بن حَيد على شُرطة بخارى مدّة طويلة فسُيّر من بخارى إلى نَيسابور لشغل يقوم به فوردها ثمّ عاد عنها بغير أمر فكتب إليه من بخارى بالإنكار عليه فخاف على نفسه فعدل عن الطريق إلى الحسين بن عليّ بهراة فسار الحسين بن عليّ من هراة إلى نَيسابور

واستخلف بهراة أخاه منصور بن عليّ واستولى على نَيسابور فسُيّر من بخارى إليه أحمد بن سهل لمحاربته فابتدأ أحمد بهراء فحصرها وأخذها واستأمن إله منصور بن عليّ وسار أحمد من هراة إلى نيسابور وكان وصوله إليها في ربيع الأوّل سنة ستّ وثلاثمائة فنازل الحسين وحصره وقاتله فانهزم أصحاب الحسين وأُسر الحسين بن عليّ وأقام أحمد بن سهل بنَيسابور‏.‏

وكان ينبغي أن نذكر استيلاء أحمد على نَيسابور وأسر الحسين سنة ستّ وثلاثمائة لكن رأينا أن نجمع سياق الحادثة لئلاّ يُنسى أوّلها‏.‏

وأمّا ابن حَيد فإنّه كان بمرو فلمّا بلغه استيلاء أحمد بن سهل على نَيسابور وأسره الحسين بن عليّ سار إليه فقبض عليه أحمد وأخذ ماله وسواده وسيّره والحسين بن عليّ إلى بخارى فأمّا ابن حَيد فإنّه سُيّر إلى خُوارزم فمات بها‏.‏

وأمّا الحسين بن عليّ فإنّه حُبس ببخارى إلى أن خلَّصه أبو عبدالله الجيهانيُّ وعاد إلى خدمة الأمير نصر بن أحمد فبينما هو يومًا عنده إذ طلب الأمير نصر ماء فأُتي بماء في كوز غير حسن الصنعة فقال الحسين بن عليّ لأحمد بن حموية وكان حاضرًا‏:‏ ألا يهدي والدك إلى الأمير من نَيسابور من هذه الكيزان اللطاف النظاف فقال أحمد‏:‏ إنّما يُهدي أبي إلى الأمير مثلك

ومثلَ أحمد بن سهل ومثلَ ليلة الديلميّ لا الكيزان فأطرق الحسين مُفحَمًا وأعجب نصرًا قوله‏.‏

ذكر خبر مصر مع العلويّ المهديّ

وفيها أنفذ أبو محمّد عبيدُ الله العلويُّ الملقّب بالمهديّ جيشًا من إفريقية مع قائد من قوّاده يقال له حُباسة إلى الإسكندريّة فغلب عليها‏.‏

وكان مسيره في البحر ثمّ سار منها إلى مصر فنزل بين مصر والإسكندريّة فبلغ ذلك المقتدر فأرسل مؤنسًا الخادم في عسكر إلى مصر لمحاربة حُباسة وأمدّه بالسلاح والمال فسار إليها فالتقى العسكران في جُمادى الأولى فاقتتلوا قتالًا شديدًا فقُتل من الفريقَيْن جمع كثير وجُرح مثلهم ثمّ كان بينهم وقعة أخرى بنحوها ثمّ وقعة ثالثة ورابعة فانهزم فيها المغاربة أصحاب العلويّ وقُتلوا وأُسروا فكان مبلغ القتلى سبعة آلاف مع الأسرى وهرب الباقون‏.‏

وكانت هذه الوقعة سلخ جمادى الآخرة وعادوا إلى الغرب فلمّا وصلوا إلى الغرب قتل المهديُّ حُباسةَ‏.‏

وفيها خالف عروبة بن يوسف الكُتاميُّ على المهديّ بالقَيروان واجتمع إليه خلق كثير من كُتامة

والبرابر فأخرج المهديُّ إليهم مولاه غالبًا فاقتتلوا قتالًا شديدًا في محضر القَيروان فقُتل عروبة وبنو عمّه وقُتل معهم عالم لا يحصون وجُمعت رؤوس مقدّميهم في قفّة وحُملت إلى المهديّ فقال‏:‏ ما أعجب أمور الدنيا‏!‏ قد جمعت هذه القفّة رؤوس هؤلاء وقد كان يضيق بعساكرهم فضاء المغرب‏.‏

ذكر عدة حوادث

فيها غزا بشر الخادم والي طَرَسُوس بلاد الروم ففتح فيها وغنم وسبى وأسر مائة وخمسين بطريقًا وكان السبي نحوًا من ألفَيْ رأس‏.‏

وفيها أوقع مؤنس الخادم بناحية وادي الذئاب بمن هنالك من الأعراب من بني شيبان فقتل منهم خلقًا كثيرًا ونهب بيوتهم فأصاب فيها من أموال التجار التي كانوا أخذوها بقطع الطريق ما لا يحصى‏.‏

وفيها في ذي الحجّة ماتت بدعة المغنّية مولاة عَريب مولى المأمون‏.‏

وفيها في ذي الحجّة خرجت الأعراب من الحاجر على الحجّاج فقطعوا عليهم الطريق وأخذوا من العين وما معهم من الأمتعة والجمال ما أرادوا وأخذوا مائتين وخمسين امرأة وحجّ وفيها قُلّد أبو الهيجاء عبدالله بن حمدان الموصل‏.‏

وفيها مات الشاه بن ميكال‏.‏

وفيها في ليلة الأضحى انقضّ ثلاثة كواكب كبار اثنان أوّل الليل وواحد آخره سوى كواكب صغار كثيرة‏.‏

وإلى آخر هذه السنة انتهى تاريخ أبي جعفر الطبريّ رحمه الله ورأيتُ في بعض النسخ إلى آخر سنة ثلاث وثلاثمائة وقيل إنّ سنة ثلاث هي زيادة فيه وليس من تاريخ الطبريّ والله أعلم‏.‏

وفيها توفّي إسحاق بن أبي حسّان الأنماطيُّ وإبراهيم بن شريك وأبو عيسى بن القزّاز وأبو العبّاس البرّانيُّ وعليُّ بن محمّد بن نصر بن بسام الشاعر وله نيّف وسبعون سنة‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثمائة

ذكر أمر الحسين بن حمدان


في هذه السنة خرج الحسين بن حَمدان بالجزيرة عن طاعة المقتدر‏.‏

وسبب ذلك أنّ الوزير عليّ بن عيسى طالبه بمال عليه من ديار ربيعة وهو يتولاّها فدافعه وكان مؤنس الخادم غائبًا بمصر لمحاربة عسكر المهديّ العلويّ صاحب إفريقية فجهّز الوزير رائقًا الكبير في جيش وسيّره إلى الحسين بن حمدان وكتب إلى مؤنس يأمره بالمسير إلى ديار الجزيرة لقتال الحسين بعد فراغه من أصحاب العلويّ فسار رائع إلى الحسين بن حمدان‏.‏

وجمع لهم الحسين نحو عشرين ألف فارس وسار إليهم فوصل إلى الحبشة وهم قد قاربوها فلّما رأوا كثرة جيشه علموا عجزهم عنه لأنّهم كانوا أربعة آلاف فارس فانحازوا إلى جانب دجلة ونزلوا بموضع ليس له طريق إلاّ من وجه واحد وجاء الحسين فنزل عليهم وحصرهم ومنع الميرة عنهم من فوق ومن أسفل فضاقت عليهم الأقوات والعلوفات فأرسلوا إليه يبذلون له أن يولّيه الخليفة ما كان بيده ويعود عنهم فلم يجب إلى ذلك‏.‏

ولزم حصارهم وأدام قتالهم إلى أن عاد مؤنس من الشام فلّما سمع العسكر بقربه قويت نفوسهم وضعفت نفوس الحسين ومَن معه فخرج العسكر إليه ليلًا وكبسوه فانهزم وعاد إلى ديار ربيعة وسار العسكر فنزلوا على الموصل‏.‏

وسمع مؤنس خبر الحسين وجدّ مؤنس في المسير نحو الحسين واستصحب معه أحمد بن كَيْغَلَغ فلّما قرب منه راسله الحسين يعتذر وتردّدت الرسل بينهما فلم يستقر حال فرحل مؤنس نحو الحسين حتّى نزل بإزاء جزيرة ابن عمر ورحل الحسين نحو أرمينية مع ثقله وأولاده وتفرّق

ثمّ إنّ مؤنسًا جهّز جيشًا في أثر الحسين مقدّمهم بُلَيق ومعه سيما الجزريُّ وجنى الصّفوانيُّ فتبعوه إلى تل فافان فرأوها خاوية على عروشها قد قتل أهلها وأحرقها فجدّوا في أتّباعه فأدركوه فقاتلوه فانهزم من بقي معه من أصحابه وأُسر هو ومعه ابنه عبد الوهّاب وجميع أهله وأكثر مَنْ صَحِبه وقبض أملاكه‏.‏

وعاد مؤنس إلى بغداد على طريق الموصل والحسين معه فأُركب على جمل هو وابنه وعليهما البرانس واللبود الطوال وقمصان من شعر أحمر وحُبس الحسين وابنه عند زيدان القهرمانة وقبض المقتدر على أبي الهيجاء بن حمدان وعلى جميع إخوته وحُبسوا وكان قد هرب بعض أولاد الحسين بن حمدان فجمع جمعًا ومضى نحو آمِد فأوقع بهم مستحفظها وقتل ابن الحسين وأنفذ رأسه إلى بغداد‏.‏

ذكر بناء المهديّة

في هذه السنة خرج المهديُّ بنفسه إلى تونس وقرطاجَنّة وغيرهما يرتاد موضعًا على ساحل البحر يتّخذ فيه مدينة‏.‏

وكان يجد في الكتب خروج أبي يزيد على دولته ومن أجله بنى المهديّة فلم يجد موضعًا أحسن ولا أحصن من موضع المهديّة وهي جزيرة متّصلة بالبّر كهيئة كفّ متّصلةٍ بزند فبناها وجعلها دار ملكه وجعل لها سورًا محكمًا وأبوابًا عظيمة وزْن كلّ مصراع مائة قنطار‏.‏

وكان ابتداء بنائها يوم السبت لخمس خلون من ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثمائة فلّما ارتفع السور أمر راميًا أن يرمي بالقوس سهمًا إلى ناحية المغرب فرمى سهمه فانتهى إلى موضع المصلّى فقال‏:‏ إلى موضع هذا يصل صاحب الحمار يعني أبا يزيد الخارجيّ لأنّه كان يركب حمارًا‏.‏

وكان يأمر الصُّنّاع بما يعملون ثمّ أمر أن ينقر دار صناعة في الجبل تسع مائةَ شيني وعليها باب مغلق ونقر في أرضها أهراء للطعام ومصانع للماء وبنى فيها القصور والدور فلّما فرغ منها قال‏:‏ اليوم أمنتُ على الفاطميّات يعني بناته وارتحل عنها‏.‏

ولّما رأى إعجاب الناس بها وبحصانتها كما يقول‏:‏ هذا لساعة من نهار وكان كذلك لأنّ أبا يزيد وصل إلى موضع السهم ووقف فيه ساعة وعاد ولم يظفر‏.‏

ذكر عدّة حوادث

فيها أغارت الروم على الثغور الجزريّة وقصدوا حصن نصور وسبوا مَن فيه وجرى على

وفيها عاد الحُجّاج وقد لقوا من العطش والخوف شدّة وخرج جماعة من العرب على أبي حامد ورقاء بن محمّد المرتّب على الثعلبيّة لحفظ الطريق فقاتلهم وظفر بهم وقتل جماعة منهم وأسر الباقين وحملهم إلى بغداد فأمر المقتدر بتسليمهم إلى صاحب الشُّرطة ليحبسهم فثارت بهم العامة فقتلوهم وألقوهم في دجلة‏.‏

وفيها ظهر بالجامدة إنسان زعم أنّه علويّ فقتل العامل بها ونهبها وأخذ من دار الخراج أموالًا كثيرة ثمّ قُتل بعد ظهوره بيسير وقُتل معه جماعة من أصحابه وأُسر جماعة‏.‏

وفيها ظهرت الروم وعليهم الغثيط فأوقعوا بجماعة من مقاتلة طَرَسُوس والغزاة فقتلوا منهم نحو ستّمائة فارس ولم يكن للمسلمين صائفة‏.‏

وفيها خرج مليح الأرمنيُّ إلى مَرْعَش‏!‏ فعاث في بلدها وأسر جماعة ممّن حولها وعاد‏.‏

وفيها وقع الحريق ببغداد في عدّة مواضع فاحترق كثير منها‏.‏

وفيها توفّي أبو عبد الرحمن أحمد بن علي بن شعيب النسائي صاحب كتاب السُّنَن بمكّة ودُفن بين الصفا والمروة والحسن بن سفيان النسويُّ‏.‏

وفيها توفّي أبو بكر محمّد بن عينونة بنَصِيبين وكان يتولّى أعمال الخراج والضياع بديار ربيعة ولّما توفّي وليَ ابنه الحسن مكانه‏.‏

وفيها توفّي يموت بن المزرّع العبديُّ وهو ابن أخت الجاحظ توفّي بدمشق‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وثلاثمائة

ذكر عزل ابن وهسوذان عن أصبهان


في هذه السنة في المحرم أرسل عليُّ بن وهسوذان وهو متولّي الحر بأصبهان غلامًا كان ربّاه وتَبنّاه إلى أحمد بن شاه متولّي الخراج في حاجة فلقيه راكبًا فكلّمه في حاجة مولاه ورفع صوته فشتمه أحمد وقال‏:‏ يا مؤاجر تكلّمني بهذا على الطريق‏!‏ وحرد عليه فعاد إلى مولاه باكيًا وعرّفه ذلك فقال‏:‏ صدق لولا أنّك مؤاجر لقتلتَه فعاد الغلام فلقيه وهو راكب فقتله فأنكر الخليفة ذلك وصرف عليَّ بن وهسوذان عن أصبهان وولّى مكانه أحمد بن مسرور البَلْخيّ وأقام ابن وهسوذان بنواحي الجبل‏.‏

ذكر وزارة ابن الفرات الثانية وعزل عليّ بن عيسى


في هذه السنة في ذي الحجّة عُزل عليُّ بن عيسى عن الوزارة وأُعيد إليها أبو الحسن عليُّ بن

وكان سبب ذلك أنّ أبا الحسن بن الفرات كان محبوسًا وكان المقتدر يشاوره وهو في محبسه ويرجع إلى قوله وكان عليُّ بن عيسى يمشّي أمر الوزارة ولم يتبع أصحاب ابن الفرات وأسبابه لا غيره وكان جميل المحضر قليل الشرّ فبلغه أنّ أبا الحسن بن الفرات قد تحدّث له جماعة من أصحاب الخليفة في إعادته إلى الوزارة فسارعَ واستعفى من الوزارة وسأل في ذلك فأنكر المقتدر عليه ومنعه من ذلك فسكن‏.‏

فلّما كان آخر ذي القعدة جاءته أمّ موسى القهرمانة لتتفّق معه على ما يحتاج حرم الدار والحاشية التي للدار من الكسوات والنفقات فوصلتْ إليه وهو نائم فقال لها حاجبه‏:‏ إنّه نائم ولا أجسر أن أوقظه فاجلسي في الدار ساعةً حتّى يستيقظ فغضبت من هذا وعادت واستيقظ عليُّ بن عيسى في الحال فأرسل إليها حاجبَه وولده يعتذر فلم يُقْبَلْ منه ودخلت على المقتدر وتحرصت على الوزير عنده وعند أمّه فعزله عن الوزارة وقبض عليه ثامن ذي القعدة‏.‏

وأُعيد ابن الفرات إلى الوزارة وضمن على نفسه أن يحمل كلّ يوم إلى بيت المال ألف دينار وخمسمائة دينار فقبض على أصحاب الوزير عليّ بن عيسى وعاد فقبض على الخاقانيّ الوزير وأصحابه واعترض العُمّال وغيرهم وعاد عليهم بأموال عظيمة ليقوم بما ضمنه‏.‏

وكان قد كاتب العمّالَ بالبلاد كفارس والأهواز وبلاد الجبل وغيرها في حمل المال وحثّهم على ذلك غاية الحثّ فوصل بعد قبضه فادّعى ابن الفرات الكفاية والنهضة في جمع المال‏.‏

وكان أبو عليّ بن مثقلة مستخفيًا مُذ قُبض ابن الفرات إلى الآن فلّما عاد ابن الفرات إلى الوزارة ظهر فاشخصه ابن الفرات وقرّبه‏.‏

ذكر أمر يوسف بن أبي الساج

كان يوسف بن أبي الساج على أذربيجان وأرمينية قد وليَ الحربَ والصلاة والأحكام وغيرها منذ أوّل وزارة ابن الفرات الأولى وعليه مال يؤدّيه إلى ديوان الخلافة فلمّا عُزل ابن الفرات ووليَ الخاقانيُّ الوزارة وبعده عليُّ بن عيسى طمع فأخَّر حمل بعض المال فاجتمع له ما قويت به نفسه على الامتناع وبقي كذلك إلى هذه السنة‏.‏

فلمّا بلغه القبض على الوزير عليّ بن عيسى أظهر أن الخليفة أنفذ له عهدًا بالرَّي وأنّ الوزير عليّ بن عيسى سعى له في ذلك فأنفذه إليه وجمع العساكر وسار إلى الرَّيّ وبها محمّد بن عليّ صُعلوك يتولّى أمرها لصاحب خُراسان وهو الأمير نصر بن أحمد بن إسماعيل السامانيُّ وكان صُعلوك قد تغلّب على الرَّيّ وما يليها أيّام وزارة عليّ بن عيسى ثمّ أرسل إلى ديوان الخلافة فقاطع عليها بمال يحمله فلمّا بلغه مسير يوسف بن أبي الساج نحوه سار إلى خُراسان فدخل يوسف الرَّيّ واستولى عليها وعلى قزوين وزنجان وأبهر فلمّا بلغ المقتدر فعله وقوله إنّ عليّ بن عيسى أنفذ له العهد واللواء بذلك أنكره واستعظمه‏.‏

وكتب يوسف إلى الوزير ابن الفرات يعرّفه أنّ عليّ بن عيسى أنفذ إليه بعهده على هذه الأماكن وأنّه افتتحها وطرد عنها المتغلّبين عليها ويعتذر بذلك ويذكر كثرة ما أخرجه فعظم ذلك على المقتدر وأمر ابن الفرات أن يسأل عليَّ بن عيسى عن الذي ذكره يوسف فأحضره وسأله فأنكر ذلك وقال‏:‏ سلوا الكتّاب وحاشية الخليفة فإنّ العهد واللواء لا بدّ أن يسير بهما بعض خدم الخليفة أو بعض قوّاده فعلموا صدقه‏.‏

وكتب ابن الفرات إلى ابن أبي الساج ينكر عليه تعرّضه لهذه البلاد وكذبه على الوزير عليّ بن عيسى وجهّز العساكر لمحاربته وكان مسير العساكر سنة خمس وثلاثمائة‏.‏

وكان المقدّم على العسكر خاقان المُفلطحي ومعه جماعة من القوّاد كأحمد ابن مسرور البَلْخيّ وسيما الجزريّ ونحرير الصغير فساروا ولقوا يوسف واقتتلوا فهزمهم يوسف وأسر منهم جماعة وأدخلهم الرَّيّ مشهورين على الجمال فسيّر الخليفة مؤنسًا الخادم في جيش كثيف إلى محاربته فسار وانضم إليه العسكر الذي كان مع خاقان فصُرف خاقان عن أعمال وسار مؤنس فأتاه أحمد بن عليّ وهو أخو محمّد بن عليّ صعلوك مستأمنًا فأكرمه ووصله وكتب ابن أبي الساج يسأل الرضى وأن يقاطع على أعمال الريّ وما يليها على سبعمائة ألف دينار لبيت المال سوى ما يحتاج إليه الجند وغيرهم فلم يجبه المقتدر إلى ذلك ولو بذل مِلء الأرض لما أقرّه على الريّ يومًا واحدًا لإقدامه على التزوير فلمّا عرف ابن أبي الساج ذلك سار عن الريّ بعد أن أخربها وجبى خراجها في عشرة أيّام‏.‏

وقلّد الخليفة الريّ وقَزوين وأبهر وصيفًا البكتمريَّ وطلب ابن أبي الساج أن يقاطع على ما كان بيده من الولاية فأشار ابن الفرات بأجابته إلى ذلك فعارضه نصر الحاجب وابن الحواريّ وقالا‏:‏ لا يجوز أن يجاب إلى ذلك إلاّ بعد أن يطأ البساط‏.‏

ونسب ابن الفرات إلى مواطأة ابن أبي الساج والميل معه فحصل بينهما وبين ابن الفرات عداوة فامتنع المقتدر من إجابته إلى ذلك إلى أن يحضر في خدمته بنفسه فلمّا رأى يوسف أنّ دمه على خطر إن حضر لخدمته حارب مؤنسًا فانهزم مؤنس إلى زنجان وقُتل من قوّاده سيما بن بويه وأسر جماعة منهم فيهم هلال بن بدر فأدخلهم أردبيل مشتهرين على الجمال‏.‏

وأقام مؤنس بزنجان يجمع العساكر ويستمدّ الخليفة وكاتبه ابن أبي الساج في الصلح وتراسلا في ذلك وكتب مؤنس إلى الخليفة فلم يجبه إلى ذلك فلمّا كان في المحرّم سنة سبع وثلاثمائة

والوزير يومئذ حامد بن العبّاس اجتمع لمؤنس عسكر كبير فسار إلى يوسف فتواقعا على باب أردبيل فانهزم عسكر يوسف وأُسر يوسف وجماعة من أصحابه وعاد بهم مؤنس إلى بغداد فدخلها في المحرّم أيضًا وأدخل يوسف أيضًا بغداد مشتهرًا على جمل وعليه برنس بأذناب الثعالب فأُدخل إلى المقتدر ثمّ حُبس بدار الخليفة عند زيدان القهرمانة‏.‏

ولمّا ظفر مؤنس بابن أبي الساج قلّد عليَّ بن وهسوذان أعمال الريّ ودنباوند وقَزوين وأبهر زنجان وجعل أموالها لرجاله وقلّد أصبهان وقُمّ وقَاشان وساوة لأحمد بن عليّ بن صعلوك وسار عن أذربيجان‏.‏

ذكر حال هذه البلاد بعد مسير مؤنس

لمّا سار مؤنس عن أذربيجان إلى العراق وثب سُبُك غلام يوسف بن أبي الساج على بلاد أذربيجان فملكها واجتمع إليه عسكر عظيم فأنفذ إليه مؤنس محمّدَ بن عبيدالله الفارقيَّ وقلّده البلاد وسار إلى سُبُك وحاربه فانهزم الفارقيُّ وسار إلى بغداد وتمكّن سُبُك من البلاد ثمّ كتب إلى الخليفة يسأل أن يقاطع على أذربيجان فأجيب إلى ذلك وقُرّر عليه كلّ سنة مائتان وعشرون ألف دينار وأُنفذت إليه الخلع والعهد فلم يقف على ما قرّره‏.‏

ثمّ وثب أحمد بن مسافر صاحب الطرم على ابن أخيه عليّ بن وهسوذان وهو مقيم بناحية قزوين فقتله على فراشه وهرب إلى بلده فاستعمل مكان عليّ بن وهسوذان وصيفًا البكتمريَّ وقلّد محمّد بن سليمان صاحب الجيش أعمال الخراج بها‏.‏

وسار أحمد بن عليّ بن صعلوك من قُمّ إلى الريّ فدخلها فأنفذ الخليفة ينكر عليه ذلك ويأمره بالعود إلى قمّ فعاد ثمّ إنّه أظهر الخلاف وصرف عمّال الخراج عن قمّ واستعدّ للمسير إلى الريّ فكوتب نحرير الصغير وهو على هَمذان ليسير هو ووصيف إلى الريّ لمنع أحمد بن عليّ عنها فساروا إليها فلقيهم أحمد بن عليّ على باب الريّ فهزمهم أحمد وقُتل محمّد ابن سليمان واستولى أحمد على الريّ وكاتب نصرًا الحاجب ليصلح أمره مع الخليفة ففعل ذلك وأصلح أمره وقرّر عليه عن الريّ ودنباوند وقَزوين وزنجان وأبهر مائة وستّين ألف دينار محمولة كلّ سنة إلى بغداد فنزل أحمد عن قمّ فاستعمل الخليفة عليها من ينظر فيها‏.‏

ذكر تغلّب كثير بن أحمد على سجستان ومحاربته

كان كثير بن أحمد بن شهفور قد تغلّب على أعمال سجستان فكتب الخليفة إلى بدر بن عبدالله الحمّاميّ وهو متقلّد أعمال فارس يأمره أن يرسل جيشًا يحاربون كثيرًا ويؤمّر عليهم دردا ويستعمل على الخراج بها زيد ابن إبراهيم فجهّز بدر جيشًا كثيفًا وسيّرهم فلمّا وصلوا قاتلهم كثير فلم يكن له بهم قوّة وضعف أمره وكادوا يملكون البلد فبلغ أهل البلد أنّ زيدًا معه قيود وأغلال لأعيانهم فاجتمعوا مع كثير وشدّوا منه وقاتلوا معه فهزموا عسكر الخليفة وأسروا زيدًا فوجدوا معه القيود والأغلال فجعلوها في رجليه وعنقه‏.‏

وكتب كثير إلى الخليفة يتبرّأ من ذلك ويجعل الذنب فيه لأهل البلد فأرسل الخليفة إلى بدر الحمّاميّ يأمره أن يسير بنفسه إلى قتال كثير فتجهّز بدر فلمّا سمع كثير ذلك خاف فأرسل يطلب المقاطعة على مال يحمله كل سنة فأُجيب إلى ذلك وقوطع على خمسمائة ألف درهم وقُرّرت البلاد عليه‏.‏

ذكر عدّة حوادث

في هذه السنة في الصيف خافت العامّة ببغداد من حيوان كانوا يسمّونه الزبزب ويقولون إنّهم يرونه في الليل على سطوحهم وإنّه يأكل أطفالهم وربّما عضّ يد الرجل وثَدْيَ المرأة فقطعهما وهرب بهما فكان الناس يتحارسون ويتزاعقون ويضربون بالطشوت والصوانيّ وغيرها ليفزعوه فارتجَّتْ بغداد لذلك‏.‏

ثم إنّ أصحاب السلطان صادوا ليلة حيوانًا أبلق بسواد قصير اليدين والرجلين فقالوا‏:‏ هذا هو الزبزب وصلبوه على الجسر فسكن الناس وهذه دابّة تسمّى طبرة وأصحاب اللصوص حاجتهم لاشتغال الناس عنهم‏.‏

وفيها توفّي الناصر العلويُّ صاحب طَبَرِسْتان في شعبان وعمره تسع وسبعون سنة وبقيت طبرستان في أيدي العلويّة إلى أن قُتل الداعي وهو الحسن بن القاسم سنة ستّ عشرة وثلاثمائة على ما نذكره‏.‏

وفيها خالف أبو يزيد خالد بن محمّد المادرائيُّ على المقتدر بالله بكرمان وكان يتولّى الخراج وسار منها إلى شيراز يريد التغلّب على فارس فخرج إله بدر الحمّاميُّ فحاربه وقتله وحُمل رأسه إلى بغداد وطيف به‏.‏

وفيها سار مؤنس المظفَّر إلى بلاد الروم لغزاة الصائفة فلمّا صار بالموصل قلّد سُبُك المفلحي بازَبْدَى وقَرْدَى وقلّد عثمانَ العنزيَّ مدينة بلد وباعيناثا وسنجار وقلّد وصيفًا البكتمريَّ باقي بلاد ربيعة وسار مؤنس إلى مَلَطْية وغزا فيها وكتب إلى أبي القاسم عليّ بن أحمد ابن بِسطام أن يغزو من طَرَسُوس في أهلها ففعل‏.‏

وفتح مؤنس حصونًا كثيرة من الروم وأثر آثارًا جميلة وعتب عليه أهل الثغور وقالوا‏:‏ لو شاء لفعل أكثر من هذا وعاد إلى بغداد فأكرمه الخليفة وخلع عليه‏.‏

وفيها توفّي يَمُوتُ بن المزرّع العبديُّ وهو ابن أخت الجاحظ وسليمان بن محمّد بن أحمد أبو موسى النحويُّ المعروف بالحامض أخذ العلم عن ثعلب وكانت وفاته في ذي الحجّة وكان من أصحاب ثعلب ويوسف ابن الحسين بن عليّ أبو يعقوب الرازيّ وهو من أصحاب ذي النون المصريّ وهو صاحب قصّة الفأرة معه‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وثلاثمائة

في هذه السنة في المحرّم وصل رسولان من ملك الروم إلى المقتدر يطلبان المهادنة والفداء فأُكرما إكرامًا كثيرًا وأُدخلا على الوزير وهو في أكمل أُبّهة وقد صفّ الأجناد بالسلاح والزينة التامّة وأدّيا الرسالة إليه ثمّ إنّهما دخلا على المقتدر وقد جلس لهما واصطفّ الأجناد بالسلاح والزينة التامّة وأدّيا الرسالة فأجابهما المقتدر إلى ما طلب ملك الروم من الفداء وسيّر مؤنسًا الخادم ليحضر الفداء وجعله أميرًا على كلّ بلد يدخله يتصرّف فيه على ما يريد إلى أن يخرج عنه وسيّر معه جمعًا من الجنود وأطلق لهم أرزاقًا واسعة وأنفذ معه مائة ألف وعشرين ألف دينار لفداء أسرى المسلمين وسار مؤنس والرسل وكان الفداء على يد مؤنس‏.‏

وفيها أُطلق أبو الهيجاء عبدالله بن حمدان وإخوته وأهل بيته من الحبس وكانوا محبوسين وفيها مات العبّاس بن عمرو الغنويُّ وكان متقلّدًا أعمال الحرب بديار مضر فجُعل مكانه وصيف البكتمريُّ فلم يقدر على ضبط العمل فعُزل وجُعل مكانه جنّي الصفوانيُّ فضبطه أحسن ضبط‏.‏

و في هذه السنة كانت بالبصرة فتنة عظيمة وسببها أنّه كان الحسن ابن الخليل بن رمال متقلّدًا أعمال الحرب بالبصرة وأقام بها سنين وجرت بينه وبين العامّة من مضر وربيعة فتن كثيرة وسكنت ثمّ ثارت بينهم فتنة اتّصلت فلم يمكنه الخروج من منزله برحبة بني نمر واجتمع الجند كلّهم معه وكان لا يوجد أحد منهم في طريق إلاّ قُتل حتّى حوصرت وغُوّرت القناة التي يجري فيها الماء إلى بني نُمير فاضطّر إلى الركوب إلى المسجد الجامع فقتل من العامّة خلقًا كثيرًا‏.‏

فلمّا عجز عن إصلاحهم خرج هو ومعه الأعيان من أهل البصرة إلى واسط فعُزل عنها واستعمل أبو دلف هاشم بن محمّد الخزاعيُّ عليها فبقي نحو سنة وصُرف عنها ووليها سُبُك المفلحيُّ نيابة عن شفيع المقتدريّ‏.‏

وفيها عُقد لثمال الخادم على الغزاة في بحر الروم وسار‏.‏

وفيها غزا جنّي الصفوانيُّ بلاد الروم فغنم ونهب وسبَى وعاد سالمًا‏.‏

و في هذه السنة مات أبو خليفة المحدّثُ البصريُّ‏.‏

وفيها في جُمادى الأولى مات أبو جعفر بن محمّد بن عثمان العسكريُّ المعروف بالسَّمّان ويُعرف أيضًا بالعمريّ رئيس الإماميّة وكان يدّعي أنّه الباب إلى الإمام المنتظر وأوصى إلى أبي القاسم بن الحسين بن روح‏.‏

وفي آخرها توفّي أحمد بن محمّد بن شُريح وكان عالمًا بمذهب الشافعيَّ‏.‏

ثم دخلت سنة ست وثلاثمائة

ذكر عزل ابن الفرات ووزارة حامد بن العبّاس


في هذه السنة في جُمادى الآخرة قُبض على الوزير أبي الحسن بن الفرات وكانت مدّة وزارته هذه وهي الثانية سنة واحدة وخمسة أشهر وتسعة عشر يومًا‏.‏

وكان سبب ذلك أنّه أخّر إطلاق أرزاق الفرسان واحتجّ عليهم بضيق الأموال وأنّها أُخرجت في محاربة ابن أبي الساج وأنّ الارتفاع نقص بأخذ يوسف أموال الريّ وأعمالها فشغب الجند شغبًا عظيمًا وخرجوا إلى لمصلّى والتمس ابن الفرات من المقتدر إطلاق مائتَيْ ألف دينار من بيت المال الخاص ليضيف إليها مائتَيْ ألف دينار يحصلها ويصرف الجميع في أرزاق الجند

فاشتدّ ذلك على المقتدر وأرسل إليه‏:‏ إنّك ضمنتَ أنّك ترضي جميع الأجناد وتقوم بجميع النفقات الراتبة على العادة الأولى وتحمل بعد ذلك ما ضمنت أنّك تحمله يومًا بيوم فأراك تطلب من بيت المال الخاص فاحتجّ بقلّة الارتفاع وما أخذه ابن أبي الساج من الارتفاع وما خرج على محاربته فلم يسمع المقتدر حجّته وتنكّر له عليه‏.‏

وقيل‏:‏ كان سبب قبضة أنّ المقتدر قيل له‏:‏ إنّ ابن الفرات يريد إرسال الحسين بن حمدان إلى ابن أبي الساج ليحاربه وإذا صار عنده اتّفقا عليك ثمّ إنّ ابن الفرات قال للمقتدر في إرسال الحسين إلى ابن أبي الساج فقتل ابنَ حمدان في جمادى الأولى وقبض على ابن الفرات في جمادى الآخرة‏.‏ ثمّ إنّ بعض العُمّال ذكر لابن الفرات ما يتحصّل لحامد بن العبّاس من أعمال واسط زيادة على ضمانه فاستكثره وأمره أن يكاتبه بذلك فكاتبه فخاف حامد أن يؤخذ ويطالب بذلك المال فكتب إلى نصر الحاجب وإلى والدة المقتدر وضمن لهما مالًا ليتحدّثا له في الوزارة فذكر للمقتدر حاله وسعة نفسه وكثرة أتباعه وأنّه له أربع مائة مملوك يحملون السلاح واتّفق ذلك عند نفرة المقتدر عن ابن الفرات فأمره بالحضور من واسط فحضر وقبض على ابن الفرات وولده المحسن وأصحابهما وأتباعهما‏.‏

ولّما وصل حامد إلى بغداد أقام ثلاثة أيّام في دار الخليفة فكان يتحدّث مع الناس ويضاحكهم ويقوم لهم فبان للخدم ولأبي القاسم بن الحواريّ وحاشية الدار قلّة معرفته بالوزارة وقال له حاجبه‏:‏ يا مولانا‏!‏ الوزير يحتاج إلى لُبْسه وجَلْسه وعَبْسه فقال له‏:‏ تعني أن تلبس وتقعد فلا تقوم لأحد ولا تضحك في وجه أحد ولا تحدّث أحدًا قال‏:‏ نعم‏.‏

قال حامد‏:‏ إنّ الله أعطاني وجهًا طلقًا وخَلقًا حسنًا وما كنتُ بالذي أعبس وجهي وأقبح خَلقي لأجل الوزارة فعابوه عند المقتدر ونسبوه إلى الجهل بأمور الوزارة فأمر المقتدر بإطلاق عليّ بن عيسى من محبسه وجعله يتولّى الدواوين شبه النائب عن حامد فكان يراجعه في الأمور ويصدر عن رأيه ثمّ إنّه استبدّ بالأمر دون حامد ولم يبق لحامد غير اسم الوزارة ومعناها لعليّ حتّى قيل فيهما‏:‏ هذا وزيرٌ بلا سوادٍ وذا سوادٌ بلا وزير ثمّ أنّ حامدًا أحضر ابن الفرات ليقابله على أعماله ووكّل بمناظرته عليَّ ابن أحمد المادرائي ليصحّح عليه الأموال فلم يقدر على إثبات الحجّة عليه فانتدب له حامد وسبّه ونال منه وقام إليه فلكمه‏.‏

وكان حامد سفيهًا فقال له ابن الفرات‏:‏ أنت على بساط السلطان وفي دار المملكة وليس

هذا الموضع ممّا تعرفه من بَيْدَرٍ تقسمه أو غلّة تستفضل في كيلها ولا هو مثل أكار تشتمه ثمّ قال لشفيع اللؤلؤيّ‏:‏ قل لأمير المؤمنين عني أنّ حامدًا إنّما حمله على الدخول في الوزارة وليس من أهلها إنّني أوجبت عليه أكثر من ألفَيّ ألف دينار من فضل ضمانه وألححت في مطالبته بها فظنّ أنّها تندفع عنه بدخوله في الوزارة وأنه يضيف إليها غيرها فاستشاط حامد وبالغ في شتمه فأنفذ المقتدر فأقام ابن الفرات من مجلسه وردّه إلى محبسه وقال عليُّ بن عيسى ونصر الحاجب لحامد‏:‏ قد جنَيتَ علينا وعلى نفسك جناية عظيمة بما فعلتَه بابن الفرات وأيقظت منه شيطانًا لا ينام‏.‏

ثمّ إنّ ابن الفرات صودر على مال عظيم وضرب ولده المحسن وأصحابه وأخذ منهم أموالًا جمة‏.‏

وفي هذه السنة عُزل نِزال عن شُرطة بغداد وجُعل فيها نجح الطولونيُّ وجُعل في الأرباع فقهاء يكون عمل أصحاب الشُّرطة بفتواهم فضعفت هيبة السلطنة بذلك وطمع اللصوص والعيّارون وكثرت الفتن وكُبست دور التجار وأُخذت بنات الناس في الطريق المنقطعة وكثر المفسدون‏.‏

و في هذه السنة جهّز المهديُّ صاحب إفريقية جيشًا كثيفًا مع ابنه أبي القاسم وسيّرهم إلى مصر وهي المرّة الثانية فوصل إلى الإِسكندريّة في ربيع الآخر سنة سبع وثلاثمائة فخرج عامل المقتدر عنها ودخلها القائم ورحل إلى مصر فدخل الجيزة وملك الأشمونين وكثيرًا من الصعيد وكتب إلى أهل مكّة يدعوهم إلى الدخول في طاعته فلم يقبلوا منه‏.‏

ووردت بذلك الأخبار إلى بغداد فبعث المقتدر بالله مؤنسًا الخادم في شعبان وجدّ في السير فوصل إلى مصر وكان بينه وبين القائم عدّة وقعات ووصل من إفريقية ثمانون مركبًا نجدةً للقائم فأرست بالإِسكندريّة وعليها سليمان الخادم ويعقوب الكُتاميُّ وكانا شجاعين فأمر المقتدر بالله أنّ يسيّر مراكب طَرَسُوس إليهم فسار خمسة وعشرون مركبًا وفيها النفط والعُدد ومقدّمها أبو اليمن فالتقت المراكب بالمراكب واقتتلوا على رشيد فظفر أصحاب مراكب المقتدر وأحرقوا كثيرًا من مراكب إفريقية وهلك أكثر أهلها وأُسر منهم كثير وفي الأسرى سليمان الخادم ويعقوب فقُتل من الأسرى كثير وأُطلق كثير ومات سليمان في الحبس بمصر وحُمل يعقوب إلى بغداد ثمّ هرب منها وعاد إلى أفريقية‏.‏

وأمّا عسكر القائم فكان بينه وبين مؤنس وقعات كثيرة وكان الظفر لمؤنس فلُقّب حينئذ بالمظفَّر‏.‏

ووقع الوباء في عسكر القائم والغلاء فمات منهم كثير من الناس والخيل فعاد من سلم إلى إفريقية‏.‏

وسار عسكر مصر في أثرهم حتّى أبعدوا فوصل القائم إلى المهديّة في رجب من السنة‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة غزا بشر الأفشينيُّ بلاد الروم فافتتح عدّة حصون وغنم وسلم وغزا ثمل في بحر الروم فغنم وسبى وعاد وكان على الموصل أبو أحمد بن حماد الموصليُّ‏.‏

وفيها دخل جنّيّ الصفوانيُّ بلاد الروم فنهب وخرّب وأحرق وفتح وعاد فقرئت الكتب على المنابر ببغداد بذلك‏.‏

وفيها وقعت فتنة ببغداد بين العامّة والحنابلة فأخذ الخليفة جماعة منهم وسيّرهم إلى البصرة فحُبسوا‏.‏

وفيها أمر المقتدر ببناء بيمارستان فبُني وأُجري عليه النفقات الكثيرة وكان يسمّى البيمارستان المقتدريّ‏.‏

وفيها توفّي القاضي محمّد بن خلف بن حيّان أبو بكر الضَّبّيُّ المعروف بوكيع وكان عالمًا

بأخبار الناس وغيرها وله تصانيف حسنة والقاضي أبو العبّاس أحمد بن عمر بن سريج الفقيه الشافعيُّ وله سبع وخمسون سنة‏.‏

وفيها مات كُنَيْز المغنّي وهو مشهور بالحذق في الغناء‏.‏

كُنيز بضمّ الكاف وفتح النون وآخرها زاي‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وثلاثمائة

في هذه السنة ضمن حامد بن العبّاس أعمال الخراج والضياع الخاصّة والعامّة والمستحدثة والفراتيّة بسواد بغداد والكوفة وواسط والبصرة والأهواز وأصبهان‏.‏

وسبب ذلك أنّه لمّا رأى أنّه قد تعطّل عن الأمر والنهب وتفرّد به عليُّ ابن عيسى شرع في هذا ليصير له حديث وأمر ونهي واستأذن المقتدر في الانحدار إلى واسط ليدبّر أمر ضمانه الأوّل فأذن له في ذلك فانحدر إليها واسم الوزارة عليه وعليُّ بن عيسى يدبّر الأمور وأظهر حامد زيادة ظاهرة في الأموال وزاد زيادة متوفّرة فسُرّ المقتدر بذلك وبسط يد حامد في الأعمال حتّى خافه عليُّ بن عيسى‏.‏

ثمّ إنّ السعر تحرّك ببغداد فثارت العامّة والخاصّة لذلك واستغاثوا وكسروا المنابر وكان حامد يخزن الغلال وكذلك غيره من القوّاد ونُهبت عدّة من دكاكين الدقّاقين فأمر المقتدر بإحضار حامد بن العبّاس فحضر من الأهواز فعاد الناس إلى شغبهم فأنفذ حامد لمنعهم فقاتلوهم وأحرقوا الجسرين وأخرجوا المحبَّسين من السجون ونهبوا دار صاحب الشُّرطة ولم يتركوا له شيئًا فأنفذ المقتدر جيشًا مع غريب الخال فقاتل العامّة فهربوا من بين يديه ودخلوا الجامع بباب الطاق فوكّل بأبواب الجامع وأخذ كلّ من فيه فحبسهم وضرب بعضهم وقطع أيدي من يُعرف بالفساد‏.‏

ثمّ أمر المقتدرُ من الغد فنودي في الناس بالأمان فسكنت الفتنة ثمّ إنّ حامدًا ركب إلى دار المقتدر في الطيّار فرجمه العامّة ثمّ أمر المقتدرُ بتسكينهم فسكنوا وأمر المقتدرُ بفتح مخازن الحنطة والشعير التي لحامد ولأمّ المقتدر وغيرهما وبيع ما فيها فرخصت الأسعار وسكن الناس فقال عليُّ بن عيسى للمقتدر‏:‏ إنّ سبب غلاء الأسعار إنما هو ضمان حامد لأنّه منع من بيع الغلال في البيادر وخزنها فأمر بفسخ الضمان عن حامد وصرف عُمّاله عن السواد وأمر عليَّ بن عيسى أن يتولّى ذلك فسكن الناس واطمأنّوا وكان أصحاب حامد يقولون إنّ ذلك الشغب كان بوضع من عليّ بن عيسى‏.‏

في هذه السنة ظفر الأمير نصر بن أحمد صاحب خراسان وما وراء النهر بأحمد بن سهل ونحن نذكر حاله من أوّله‏.‏

كان أحمد بن سهل هذا من كبار قوّاد الأمير إسماعيل بن أحمد وولده أحمد بن إسماعيل وولده نصر بن أحمد وقد تقدّم من ذكر تقدُّمه على الجيوش في الحروب ما يدلّ على علوّ منزلته‏.‏

وهو أحمد بن سهل بن هاشم بن الوليد بن جبَلة بن كامكار بن يزدجرد ابن شهريار الملك وكان كامكار دهقانًا بنواحي مرو وإليه يُنسب الورد الكامكاريُّ وهو الشديد الحمرة وهو الذي يسمّى بالرَّيّ القصرانيّ وبالعراق والجزيرة والشام الجُوريّ يُنسب إلى قصران وهي قرية بالرَّيّ وإلى مدينة جور وهي من مدن فارس‏.‏

وكان لأحمد إخوة يقال لهم محمّد والفضل والحسين قُتلوا في عصبية العرب والعجم بمَرو وكان أحمد خليفة عمرو بن الليث على مَرو فقبض عليه عمرو ونقله إلى سِجِسْتان فحبسه بها فرأى وهو في السجن كأنّ يوسف النبيّ عليه السلام على باب السجن فقال له‏:‏ ادعُ الله أن يخلّصني ويولّيني‏!‏ فقال له‏:‏ قد أذن الله في خلاصك لكنّك لا تلي عملًا برأسك‏.‏

ثمّ إنّ أحمد طلب الحمّام فأُدخل إليه فأخذ النورة فطلى بها رأسه ولحيته فسقط شعره وخرج من الحمّام ولم يعرفه أحد فاختفى فطلبه عمرو فلم يظفر به ثمّ خرج من سِجِسْتان نحو مرو فقبض على خليفة عمرو واستولى عليها واستأمن إلى إسماعيل بن أحمد بخارى فأكرمه وقدّمه ورفع قدره وكان عاقلًا كتومًا لأسراره‏.‏

فلمّا عصى الحسين بن عليّ سيّر إليه أحمد فظفر به على ما ذكرناه وضمن له الأمير نصر أشياء لم يفِ له بها فاستوحش من ذلك فأتاه يومًا بعض أصحاب أبي جعفر صعلوك فحادثه فأنشده أحمد بن سهل وقد ذكر حاله وأنّهم لم يفوا له بما وعدوه‏:‏ ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتَني يميَنك فانظر أيّ كفّيْك تُبدلُ وفي الناس أن رثّت حبالُك واصلٌ وفي الأرض عن دار العُلى متحوَّلُ إذا أنت لم تُنصفْ أخاك وجدتَه على طرَف الهِجران إن كان يعقِلُ وتركبُ حدّ السيفِ من أن تُضيمَه إذا لم يكن عن شَفرَةِ السيفِ مرحلُ إذا انصرفتْ نفسي عن الشيء لم تكدْ إليه بوجهٍ آخرَ الدهرِ تُقُبِلُ قال‏:‏ فعلمت أنّه قد أضمر المخالفة فلم تمض إلا أيّام حتّى خالفه بنَيسابور واستولى عليها وأسقط خطبة السعيد نصر بن أحمد وأنفذ رسولًا إلى بغداد يخطب له أعمال خُراسان‏.‏

وسار من نَيسابور إلى جُرجان وبها قراتكين فحاربه واستولى عليها وأخرج قراتكين عنها ثمّ عاد إلى خُراسان وقصد مرو فاستولى عليها وبنى عليها سورًا وتحصّن بها فأرسل إليه السعيد نصر الجيوش مع حموية بن عليّ من بخارى فوافى مرو الرُّوذ فأقام بنواحيها ليخرج إليه أحمد بن سهل منها فلم يفعل‏.‏

ودخل بعض أصحاب أحمد عليه يومًا وهو يفكر بعد نزول حموية عليه فقال له صاحبه‏:‏ لا شكّ أنّ الأمير مشغول القلب لهذا الخطب فما هو رأي الأمير فقال‏:‏ ليس بي ما تظنّ ولكن

ذكرتُ رؤيا رأيتُها في حبس سِجِسْتان وذكر قول يوسف الصِّدِّيق عليه السلام‏:‏ إنّك لا تلي عملًا برأسك‏.‏

قال‏:‏ فقلت له‏:‏ إنّ القوم يغتنمون سلمك ويعطونك ما تريد فإن رأيت أن يتوسّط الحال فعلنا فأنشد‏:‏ سأغسلُ عنّي العارَ بالسيفِ جالبًا عليَّ قضاءُ الله ما كانَ جالبا ولّما رأى حموية أنّه لا يخرج إليه من مرو عمل الحيلة في ذلك فجعل يقول‏:‏ قد أدخلتُ ابن سهل في جحر فأرٍ وسددتُ عليه وجوه الفرار وأشباه هذا من الكلام ليغضب أحمد فيخرج فلم يفعل ذلك فحينئذ أمر حموية جماعة من ثقات قوّاده فكاتبوا أحمد بن سهل سرًّا وأظهروا له الميل ودعوه إلى الخروج من مَرْو ليسلّموا إليه حموية فأجابهم إلى ذلك لما في نفسه من الغيظ على حموية فخرج عن مَرْو نحو حموية فالتقوا على مرحلة من مرو الرُّوذ في رجب سنة سبع وثلاثمائة فانهزم أصحاب أحمد وحارب هو إلى أن عجزت دابّته فنزل عنها واستأمن فأخذوه أسيرًا وأنفذوه إلى بخارى فمات بها في الحبس في ذي الحجّة من سنة سبع وثلاثمائة‏.‏

وكان الأمير احمد بن إسماعيل بن أحمد يقول‏:‏ لا ينبغي لأحمد بن سهل أن يغيب عن باب السلطان فإنّه أن غاب عنه أثار شغلًا عظيمًا كأنّه كان يتوسّم فيه ما فعل فهكذا ينبغي أن تكون فراسة الملك‏.‏

ذكر عدّة حوادث

في هذه السنة وقع حريق بالكرخ من بغداد فاحترق فيه كثير من الدور والناس‏.‏

وفيها قُلّد إبراهيم بن حمدان ديار ربيعة وقُلّد بنّيّ بن نفسي شهرزور فامتنعت عليه فاستمدّ المقتدر فسيّر إليه جيشًا فحصرها ولم يفتحها وقُلّد القتال بالموصل وأعمالها‏.‏

وفيها أوقع ثمل متولِّي الغزو في البحر بمراكب للمهديّ العلويّ صاحب إفريقية وقتل جماعة ممّن فيها وأسر خادمًا له‏.‏

وفيها انقضّ كوكب عظيم فاشتدّ ضوءُه وعظم وتفرّق ثلاث فرق وسمع عند انقضاضه مثل صوت الرعد الشديد ولم يكن في السماء غيم‏.‏

وفيها كانت فتنة بالموصل بين أصحاب الطعام وبين الأساكفة واحترق سوق الأساكفة وما فيه وكان الوالي على الموصل وأعمالها العبّاس بن محمّد بن إسحاق بن كنداج وكان خارجًا عن البلد فسمع بالفتنة فرجع ليوقع بأهل الموصل فعزموا على قتاله وحصنوا البلد وسدّوا الدروب فلمّا علم بذلك ترك قتالهم وأمر الأعراب بتخريب الأعمال فصاروا يقطعون الطريق على الجسر وفي الميدان ويقاسمونه فخرب البلد فبلغ الخبر إلى الخليفة فعزله سنة ثمان وثلاثمائة واستعمل بعده عبدالله بن محمّد الفتّان وكان عفيفًا صارمًا كفّ الأعراب عن البلد‏.‏

وفيها توفّي أبو يعلى أحمد بن عليّ بن المُثنّى الموصليُّ صاحب المسند بها‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثمائة

في هذه السنة خلع المقتدر على أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان وقُلّد طريق خُراسان والدِّيَنور وخلع على أخويه أبي العلاء وأبي السرايا‏.‏

وفيها وصل رسول أخي صعلوك بالمال والهدايا والتُّحف ويخبر باستمراره على الطاعة للمقتدر بالله‏.‏

وفيها توفّي إبراهيم بن حَمدان في المحرم‏.‏

وفيها توفّي إبراهيم بن محمّد بن سفيان صاحب مسلم بن الحجّاج ومن طريقه يُروى صحيح مسلم إلى اليوم‏.‏ ‏ ‏     ‏  ‏   ‏ ‏ ‏