المجلد السابع - ذكر ابتداء الوحشة بين المقتدر ومؤنس

ثم دخلت سنة خمس عشرة وثلاثمائة
في هذه السنة هاجت الروم وقصدوا الثغور ودخلوا سُمَيساط وغنموا جميع ما فيها من مال وسلاح وغير ذلك وضربوا في الجامع بالناقوس أوقاتَ الصلوات‏.‏

ثمّ إنّ المسلمين خرجوا في أثر الروم وقاتلوهم وغنموا منهم غنيمة عظيمة فأمر المقتدر بالله بتجهيز العساكر مع مؤنس المظفَّر وخلع المقتدر عليه في ربيع الآخر ليسير فلمّا لم يبق إلاّ الوداع امتنع مؤنس من دخول دار الخليفة للوداع واستوحش من المقتدر بالله وظهر ذلك‏.‏

وكان سببه أنّ خادمًا من خدّام المقتدر حكى لمؤنس أنّ المقتدر بالله أمر خواصّ خدمه أن يحفر واجُبًّا في دار الشجرة ويغطوه ببُراية وتراب وذكر أنّه يجلس فيه لوداع مؤنس فإذا حضر وقاربها ألقاه الخدم فيها وخنقوه وأظهروه ميّتًا فامتنع مؤنس من دخول دار الخليفة وركب

إليه جميع الأجناد وفيهم عبدالله بن حَمدان وإخوته وخلت دار الخليفة وقالوا لمؤنس‏:‏ نحن نقاتل بين يديك إلى أن تنبت لك لحية فوجّه إليه المقتدر رقعة بخطّة يحلف له على بطلان ما بلغه فصرف مؤنس الجيش وكتب الجواب أنه العبد المملوك وأنّ الذي أبلغه ذلك قد كان وضعه مَن يريد إيحاشه من مولاه وأنّه ما استدعى الجند وإنّما هم حضروا وقد فرَّقهم‏.‏

ثمّ إنّ مؤنسًا قصد دار المقتدر في جمع من القوّاد ودخل غليه وقبّل يده وحلف المقتدر على صفاء نيّته له وودّعه وسار إلى الثغر في العشر الآخر من ربيع الآخرة وخرج لوداعه أبو العبّاس بن المقتدر وهو الراضي بالله والوزير عليُّ بن عيسى‏.‏


ذكر وصول القرامطة إلى العراق وقتل يوسف بن أبي الساج

في هذه السنة وردت الأخبار بمسير أبي طاهر القُرامُطيّ من هَجَر نحو الكوفة ثم وردت الأخبار من الصرة بأنّه اجتاز قريبًا منهم نحو الكوفة‏.‏

فكتب المقتدر إلى يوسف بن أبي الساج يعرّفه هذا الخبر ويأمره بالمبادرة إلى الكوفة فسار إليها عن واسط آخر شهر رمضان وقد أعدّ له بالكوفة الأنزال له ولعسكره فلمّا وصلها أبو طاهر الهجَريُّ هرب نوّاب السلطان عنها واستولى عليها أبو طاهر وعلى تلك الأنزال والعلوفات وكان فيها مائة كرّ دقيقًا وألف كرّ شعيرًا وكان قد فني ما معه من الميرة والعلوفة فقووا بما أخذوه‏.‏

ووصل يوسف إلى الكوفة بعد وصول القُرمُطيّ بيوم واحد فحال بينه وبينها وكان وصوله يوم الجمعة ثامن شوّال فلمّا وصل إليهم أرسل إليهم يدعوهم إلى طاعة المقتدر فإن أبوا فموعدهم الحرب يوم الأحد لا طاعة علينا إلاّ لله تعالى والموعد بيننا للحرب بُكرة غد‏.‏

فلمّا كان الغد ابتدأ أوباش العسكر بالشتم ورمي الحجارة ورأى يوسف قلّة القَرامطة فاحتقرهم وقال‏:‏ إنّ هؤلاء الكلاب بعد ساعة في يدي‏!‏ وتقدّم بأن يكتب كتاب الفتح والبشارة بالظفر قبل اللقاء تهاونًا بهم‏.‏

وزحف الناس بعضهم إلى بعض فسمع أبو طاهر أصوات البوقات والزعقات فقال لصاحب له‏:‏ ما هذا فقال‏:‏ فشل‏!‏ قال‏:‏ أجَلْ لم يزد على هذا‏.‏

فاقتتلوا من ضحوة النهار يوم السبت إلى غروب الشمس وصبر الفريقان فلمّا رأى أبو طاهر ذلك باشر الحرب بنفسه ومعه جماعة يثق بهم وحمل بهم فطحن أصحاب يوسف ودقّهم فانهزموا بين يديه وأسر يوسفَ وعددًا كثيرًا من أصحابه وكان أسره وقت المغرب وحملوه إلى عسكرهم ووكّل به أبو طاهر طبيبًا يعالج جراحه‏.‏

وورد الخبر إلى بغداد بذلك فخاف الخاصّ والعامّ من القرامطة خوفًا شديدًا وعزموا على الهرب إلى حُلوان وهَمَذان ودخل المنهزمون بغداد أكثرهم رجّالة حفاة عراة فبرز مؤنس المظفَّر ليسير إلى الكوفة فأتاهم الخبر بأنّ القرامطة قد ساروا إلى عين التمر فأنفذ من بغداد خمس مائة سُمَيريّة فيها المقاتلة لتمنعهم من عبور الفرات وسيّر جماعة من الجيش إلى الأنبار لحفظها ومنع القرامطة من العبور هنالك‏.‏

ثمّ إنّ القرامطة قصدوا الأنبار فقطع أهلها الجسر ونزل القرامطة غرب الفرات وأنفذ أبو طاهر أصحابه إلى الحديثة فأتوه بسفن ولم يعلم أهل الأنبار بذلك وعبر فيها ثلاثمائة رجل من القرامطة فقاتلوا عسكر الخليفة فهزموهم وقتلوا منهم جماعة واستولى القرامطة على مدينة الأنبار وعقدوا الجسر وعبر أبو طاهر جريدة وخلّف سواده بالجانب الغربيّ‏.‏

ولّما ورد الخبر بعبور أبي طاهر إلى الأنبار خرج نصر الحاجب في عسكر جرّار فلحق بمؤنس المظفَّر فاجتمعا في نيّف وأربعين ألف مقاتل سوى الغلمان ومَن يريد النَّهب وكان ممّن معه أبو الهيجاء عبدالله بن حمدان ومن إخوته أبو الوليد وأبو السرايا في أصحابهم وساروا حتّى بلغوا نهر زبارا على فرسخين من بغداد عند عَقْرَقُوف فأشار أبو الهيجاء بن حمدان بقطع القَنطرة التي عليه فقطعوها وسار أبو طاهر ومَن معه نحوهم فبلغوا نهر زبارا وفي أوائلهم رجل أسود فما زال الأسود يدنو من القنطرة والنشاب يأخذه ولا يمتنع حتّى أشرف عليها فرآها مقطوعة فعاد وهو مثل القنفذ‏.‏

وأراد القرامطة العبور فلم يمكنهم لأن النهر لم يكن فيه مخاضة ولّما أشرفوا على عسكر الخليفة هرب منهم خلق كثير إلى بغداد من غير أن يلقوهم فلّما رأى ابن حَمدان ذلك قال لمؤنس‏:‏ كيف رأيت ما أشرت به عليكم فوالله لو عبر القرامطة النهر لأنهزم كلّ مَن معك ولأخذوا بغداد ولّما رأى القرامطة ذلك عادوا إلى الأنبار وسيّر مؤنس المظفَّر صاحبَهُ بُليقًا في ستّة آلاف مقاتل إلى عسكر القرامطة غربيّ الفرات ليغنموه ويخلصوا ابن أبي الساج فبلغوا إليهم وقد عبر أبو طاهر الفرات في زورق صيّاد وأعطاه ألف دينار فلمّا رآه أصحابه قويت قلوبهم ولّما أتاهم عسكر مؤنس كان أبو طاهر عندهم فاقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم عسكر الخليفة‏.‏

ونظر أبو طاهر إلى ابن أبي الساج وهو قد خرج من الخيمة ينظر ويرجو الخلاص وقد ناداه أصحابه‏:‏ أبشر بالفرج‏!‏ فلّما انهزموا أحضره وقتله وقتل جميع الأسرى من أصحابه‏.‏

وسلمت بغداد من نهب العيّارين لأنّ نازوك كان يطوف هو وأصحابه ليلًا ونهارًا ومَن وجدوه بعد العَتمة قتلوه فامتنع العيّارون واكترى كثير من أهل بغداد سفنًا ونقلوا إليها أموالهم وربطوها لينحدروا إلى واسط وفيهم مَن نقل متاعه إلى واسط إلى حُلوان ليسيروا إلى خُراسان‏.‏

وكان عدّة القرامطة ألف رجل وخمسمائة رجل منهم سبعمائة فارس وثمانمائة راجل وقيل كانوا ألفَينْ وسبعمائة‏.‏

وقصد القرامطة مدينة هَيت وكان المقتدر قد سيّر إليها سعيد بن حمدان وهارون بن غريب فلّما بلغها القرامطة رأوا عسكر الخليفة قد سبقهم فقاتلوهم على السور فقتلوا من القرامطة جماعة كثيرة فعادوا عنها‏.‏

ولّما بلغ أهلَ بغداد عودهم من هَيت سكنت قلوبهم ولّما علم المقتدر بعدّة عسكره وعسكر القرامطة قال‏:‏ لعن الله نيّفًا وثمانين ألفًا يعجزون عن ألفين وسبعمائة‏.‏

وجاء إنسان إلى عليّ بن عيسى وأخبره أنّ في جيرانه رجلًا من شِيراز على مذهب القرامطة يكاتب أبا طاهر بالأخبار فأحضره وسأله واعترف وقال‏:‏ ما صحبتُ أبا طاهر إلا لما صحّ عندي أنّه على الحقّ وأنت وصاحبك كفّار تأخذون ما ليس لكم ولا بدّ لله من حجّة في أرضه وإمامنا المهديُّ محمّد بن فلان بن فلان بن محمّد بن إسماعيل بن جعفر الصادق المقيم ببلاد المغرب ولسنا كالرافضة والاثني عشريّة الذين يقولون بجهلهم إن لهم إمامًا ينتظرونه ويكذب بعضهم لبعض فيقول‏:‏ قد رأيتُه وسمعتُه وهو يقرأ ولا ينكرون بجهلهم وغباوتهم أنه لا يجوز أن يعطى من العمر ما يظنّونه فقال له‏:‏ قد خالطتَ عسكرنا وعرفتهم فمن فيهم على مذهبك فقال‏:‏ وأنت بهذا العقل تدبّر الوزارة كيف تطمع مني أنّني أسلّم قومًا مؤمنين إلى قوم كافرين يقتلونهم لا أفعل ذلك‏.‏

فأمر به فضرب ضربًا شديدًا ومُنع الطعام والشراب فمات بعد ثلاثة أيّام‏.‏

وقد كان ابن أبي الساج قبل قتاله القرامطة قد قبض على وزيره محمّد ابن خلف النِّيرَمانيّ وجعل مكانه أبا عليّ الحسن بن هارون وصادر محمّدًا على خمسمائة ألف دينار وكان سبب ذلك أنّ النِّيرَمانيَّ عظم شأنه وكثر ماله فحدّث نفسه بوزارة الخليفة فكتب إلى نصر الحاجب يخطب الوزارة ويسعى بابن أبي الساج ويقول له‏:‏ إنّه قُرمُطيٌّ يعتقد إمامة العلويّ الذي بإفريقية وإنّني ناظرتُه على ذلك فلم يرجع عنهن وإنّه لا يسير إلى قتال أبي طاهر القُرمُطيّ وإنّما يأخذ المال بهذا السبب ويقوى به على قصد حضرة السلطان وإزالة الخلافة عن بني العبّاس وطوّل في ذلك وعرّض‏.‏

وكان لمحمّد بن خلف أعداء قد أساء إليهم من أصحاب ابن أبي الساج فسعوا به فأعلموا يوسفَ بن أبي الساج ذلك وأروه كتبًا جاءته من بغداد في المعنى من نصر الحاجب وفيها رموز إلى قواعد قد تقدّمت وتقرّرت وفيها الوعد له بالوزارة وعزْل عليّ بن عيسى الوزير فلمّا علم ذلك ابن أبي الساج قبض عليه فلمّا أُسر ابن أبي الساج تخلّص من الحبس وكان ابن

ذكر استيلاء أسفار على جرجان

في هذه السنة استولى أسفار بن شيرويه الدّيلَميُّ على جُرجان وكان ابتداء أمره أنّه كان من أصحاب ما كان بن كالي الديلميّ وكان سيئ الخُلق والعِشْرة فأخرجه ما كان من عسكره فاتّصل ببكر بن محمّد بن ألِيسَعَ وهو بنَيسابور وخدمه فسيّره بكر بن محمّد إلى جُرجان ليفتحها‏.‏

وكان ما كان بن كالي ذلك الوقت بطَبرِستان وأخوه أبو الحسن بن كالي بجُرجان وقد اعتقل أبا عليّ بن أبي الحسين الأطروش العلويّ عنده فشرب أبو الحسن بن كالي ليلة ومعه أصحابه ففرّقهم وبقي في بيت هو والعلويُّ فقام إلى العلويُّ ليقتله فظفر به العلويُّ وقتلهن وخرج من الدار واختفى فلّما أصبح أرسل إلى جماعة من القوّاد يعرّفهم الحال ففرحوا بقتل أبي الحسن بن كالي وأخرجوا العلويَّ وألبسوه القَلَنْسُوة وبايعوه فأمسى أسيرًا وأصبح أميرًا وجعل مقدّم جيشه عليَّ بن خرشيد ورضي به الجيش وكاتبوا أسفار بن شيرويه وعرّفوه الحال واستقدموه إليهم فاستأذن بكرَ بن محمّد وسار إلى جُرجان واتّفق مع عليّ بن خرشيد وضبطوا تلك الناحية فسار إليهم ما كان بن كالي من طبرستان في جيشه فحاربوه وهزموه ثمّ مات عليُّ بن خرشيد صاحب الجيش وعاد ما كان بن كالي إلى أسفار فحاربه فانهزم أسفار منه ورجع إلى بكر بن محمّد بن ألِيسَعَ وهو بجُرجان وأقام بها إلى أن توفّي بكر بها فولاّها الأميرُ السعيد نصرُ بن أحمد أسفارَ بن شيرويه وذلك سنة خمس عشرة وثلاثمائة وأرسل أسفار إلى مَرداويج بن زيار الجيليّ يستدعيه فحضر عنده وجعله أمير الجيش وأحس إليه وقصدوا طَبرستان واستولوا عليها‏.‏ ونحن نذكر حال ابتداء مرداويج وكيف تقلّبت به الأحوال‏.‏

ذكر الحرب بين المسلمين والروم

في هذه السنة خرجت سَرِيّة من طَرَسُوس إلى بلاد الروم فوقع عليها العدوّ فاقتتلوا فاستظهر الروم وأسروا من المسلمين أربعمائة رجل فقُتلوا صبرًا‏.‏

وفيها سار الدُّمُسْتُق في جيش عظيم من الروم إلى مدينة دَبيل وفيها نصر السُّبُكيُّ في عسكر يحميها وكان مع الدُّمُستُق دَبابات ومجانيق معه مِزراق يزرق بالنار عدّة اثنى عشر رجلًا فلا يقر بين يديه أحد من شدّة ناره واتّصاله فكان من أشدّ شيء على المسلمين‏.‏

وكان الرامي به مباشرُ القتال من أشجعهم فرماه رجل من المسلمين بسهم فقتله وأراح الله

وكان الدمستق يجلس على كرسي عالٍ يشرف على البلد وعلى عسكره فأمرهم بالقتال على ما يراه فصبر له أهل البلد وهو ملازم القتال حتى وصلوا إلى سور المدينة فنقبوا فيه نقوبًا كثيرة ودخلوا المدينة فقاتلهم أهلها ومَن فيها من العسكر قتالًا شديدًا فانتصر المسلمون وأخرجوا الروم منها وقتلوا منهم نحو عشرة آلاف رجل‏.‏

وفيها في ذي القعدة عاد ثمل إلى طَرَسُوس من الغزاة الصائفة سالمًا هو ومَن معه فلقوا جمعًا كثيرًا من الروم فاقتتلوا فانتصر المسلمون عليهم وقتلوا من الروم كثيرًا وغنموا ما لا يحصى‏.‏

وكان من جملة ما غنموا أنّهم ذبحوا من الغنم في بلاد الروم ثلاثمائة ألف رأس سوى ما سلم معهم ولقيهم رجل يُعرف بابن الضحّاك وهو من رؤساء الأكراد وكان له حصن يُعرف بالجعفريّ فارتدّ عن الإسلام وصار إلى ملك الروم فأجزل له العطية وأمره بالعود إلى حصنه فلقيه المسلمون فقاتلوه فأسروه وقتلوا كلّ مَن معه‏.‏

ذكر مسير جيش المهديّ إلى المغرب

في هذه السنة سيّر المهديُّ العلويُّ صاحب أفريقية ابنه أبا القاسم من المهديّة إلى المغرب في جيش كثير في صفر لسبب محمّد بن خرز الزناتيّ وذلك أنّه ظفر بعسكر من كُتامة فقتل منهم خلقًا كثيرًا فعظم ذلك على المهديّ فسيّر ولده فلمّا خرج تفرّق الأعداء وسار حتّى وصل إلى ما وراء تاهَرت فلّما عاد من سفرته هذه خطّ برُمحه في الأرض صفة مدينة وسمّاها المحمدّية وهي المسيلة‏.‏

وكانت خطّته لبني كملان فأخرجهم منها ونقلهم إلى فَحص القَيروان كالمتوقّع منهم أمرًا فلذلك أحبذ أن يكونوا قريبًا منه وهم كانوا أصحاب أبي يزيد الخارجيّ وانتقل خلق كثير إلى المحمّديّة وأمر عاملها أن يُكثر من الطعام ويخزنه ويحتفظ به ففعل ذلك فلم يزل مخزنًا إلى أن خرج أبو يزيد ولقيه المنصور ومن المحمّديّة كان يمتار ما يريد إذ ليس بالموضع مدينة سواها‏.‏

ذكر عدّة حوادث

في هذه السنة مات إبراهيم بن المسمعي من حمّى حادّة وكان موته بالنُّوبَنْدَجان فاستعمل المقتدر مكانه على فارس ياقوتًا واستعمل عوضه على كَرْمان أبا طاهر محمّد بن عبد الصمد وخلع عليهما‏.‏

وفيها شغب الفرسان ببغداد وخرجوا إلى المصلّى ونهبوا القصر المعروف بالثريا وذبحوا ما كان فيه من الوحش فخرج إليهم مؤنس وضمن لهم أرزاقهم فرجعوا إلى منازلهم‏.‏

وفيها ظفر عبد الرحمن بن محمّد بن عبدالله الناصر لدين الله الأمويُّ صاحب الأندلس بأهل طُليطُلة وكان قد حصرها مدّة لخلاف كان عليه فيها فلّما ظفر بهم أخرب كثيرًا من عماراتها وشعّثها وكانت حينئذ دار إسلام‏.‏

وفيها قصد الأعراب سواد الكوفة فنهبوه خرّبوه ودخلوا الحيرة فنهبوها فسيّر إليهم الخليفة جيشًا فدفعوهم عن البلاد‏.‏

وفيها في ربيع الأوّل انقضّ كوكب عظيم وصار له صوت شديد على ساعتين بقيتا من النهار‏.‏

وفيها في جُمادى الآخرة احترق كثير من الرُّصافة ووصيف الجوهريُّ ومُرَبّعة الخُرسي ببغداد‏.‏

وفيها توفّي أبو بكر محمّد بن السرّيّ المعروف بابن السرّاج النحويَّ صاحب كتاب الأصول في النحو وقيل توفّي سنة ست عشرة‏.‏

وفيها في شعبان توفّي أبو الحسن عليُّ بن سليمان الأخفش فجأة‏.‏

ثم دخلت سنة ست عشرة وثلاثمائة

ذكر أخبار القرامطة


لّما سار القرامطة من الأنبار عاد مؤنس الخادم إلى بغداد فدخلها ثالث المحرّم وسار أبو طاهر القُرمُطيُّ إلى الدالية من طريق الفرات فلم يجد فيها شيئًا فقتل من أهلها جماعة ثم سار إلى الرحبة فدخلها ثامن المحرّم بعد أن حاربه أهلها فوضع فيهم السيف بعد أن ظفر بهم فأمر مؤنس المظفَّر بالمسير إلى الرَّقّة فسار إليها في صفر وجعل طريقه على الموصل فوصل إليها في ربيع الأوّل ونزل بها وأرسل أهل قَرقِيسيا يطلبون من أبي طاهر الأمان فأمّنهم وأمرهم أ لا يظهر أحد منهم بالنهار فأجابوه إلى ذلك‏.‏

وسيّر أبو طاهر سريّة إلى الأعراب بالجزيرة فنهبوهم وأخذوا أموالهم فخافه الأعراب خوفًا شديدًا وهربوا من بين يديه وقرّر عليهم إتاوة على كلّ رأس دينار يحملونه إلى هَجَر ثمّ أصعد أبو طاهر من الرَّحبة إلى الرَّقّة فدخل أصحابه الربض وقتلوا منهم ثلاثين رجلًا وأعان أهلُ الرّقّة أهلّ الربض وقتلوا من القرامطة جماعة فقاتلهم ثلاثة أيّام ثمّ انصرفوا آخر ربيع الآخر‏.‏

وبثّت القرامطة سريّة إلى رأس عين وكفر توثا فطلب أهلها الأمان فأمّنوهم وساروا أيضًا إلى سنجار فنهبوا الجبال ونازلوا سِنجار فطلب أهلها الأمان فأمّنوهم‏.‏

وكان مؤنس قد وصل إلى الموصل فبلغه قصد القرامطة إلى الرَّقّة فجدّ السير إليها فسار أبو طاهر عنها وعاد إلى الرحبة ووصل مؤنس إلى الرّقّة بعد انصراف القرامطة عنها ثمّ إنّ القرامطة ساروا إلى هَيت وكان أهلها قد أحكموا سورها فقاتلوه فعاد عنهم إلى الكوفة فبلغ الخبر إلى بغداد فأُخرج هارون بن غريب وبنّيّ بن نفيس ونصر الحاجب إليها ووصلت خيل القُرمُطيّ إلى قصر ابن هُبَرة فقتلوا منه جماعة‏.‏

ثمّ إنّ نصرًا الحاجب حُمّ في طريقه حمّى حادّى فتجلّد وسار فلمّا قاربهم القُرمطيُّ لم يكن في نصر قوة على النهوض والمحاربة فاستخلف أحمد بن كَيْغَلَغ واشتدّ مرض نصر وأمسك لسانه لشدّة مرضهن فردّوه إلى بغداد فمات في الطريق أواخر شهر رمضان فجُعل مكانه على الجيش هارون بن غريب ورُتّب ابنه أحمد بن نصر في الحجبة للمقتدر مكان أبيه فانصرف القرامطة إلى البرّية وعاد هارون إلى بغداد في الجيش فدخلها لثمان بقين من شوّال‏.‏

ذكر عزل عليّ بن عيسى ووزارة أبي عليّ بن مقلة

في هذه السنة عُزل عليُّ بن عيسى عن وزارة الخليفة ورُتّب فيها أبو عليّ بن مقلة‏.‏

وكان سبب ذلك أنّ عليًّا لّما رأى نقص الارتفاع واختلال الأعمال بوزارة الخاقانيّ والخُصيبيّ وزيادة النفقات وأنّ الجند لّما عادوا من الأنبار زادهم المقتدر في أرزاقهم مائتَيْ ألف وأربعين ألف دينار في السنة ورأى أيضًا كثرة النفقات للخدم والحُرَم لا سيّما والدة المقتدر هاله ذلك وعظم عليه‏.‏

ثمّ إنّه رأى نصرًا الحاجب يقصده وينحرف عنه لميل مؤنس إليه فإنّ نصرًا كان يخالف مؤنسًا في جميع ما يشير به فلمّا تبينّ له ذلك استعفى من الوزارة واحتجّ بالشيخوخة وقلّة النهضة فأمره المقتدر بالصبر وقال له‏:‏ أنت عندي بمنزلة والدي المعتضد فألحّ عليه في الاستعفاء فشاور مؤنسًا في ذلك وأعلمه أنّه قد سُمّي للوزارة ثلاثة نفر‏:‏ الفضل بن جعفر بن الفُرات الذي أمّه حيرانة وأخته زوجة المحسن بن الفرات وأبو عليّ بن مقلة ومحمّد بن خلف النِّيرَمانيّ الذي كان وزير ابن أبي الساج فقال مؤنس‏:‏ أمّ الفضل فقد قتلنا عمّه الوزير أبا الحسن وابن عمّه زوج أخته المحسن ابن الوزير وصادرنا أخته فلا نأمنه وأمّا ابن مقلة فحدَثٌ غِرٌ لا تجربَة له بالوزارة ولا يصلح لها وأمّا محمّد بن خلف فجاهل متهوّر لا يُحسن شيئًا والصواب مداراة عليّ بن عيسى‏.‏

ثمّ لقي مؤنس عليَّ بن عيسى وسكّنه فقال عليٌّ‏:‏ لو كنتَ مقيمًا لاستعنتُ بك ولكنّك سائرٌ إلى الرَّقّة ثمّ إلى الشام‏.‏

وبلغ الخبر أبا عليّ بن مقلة فجدّ في السعي وضمن على نفسه الضمانات وشاور المقتدرُ نصرًا الحاجب في هؤلاء الثلاثة فقال‏:‏ أمّا الفضل بن الفرات فلا يُدفع عن صناعة الكتابة والمعرفة والكفاية ولكنّك بالأمس قتلتَ عمّه وابن عمّه وصهره وصادرتَ اخته وأمّه ثمّ إنّ بني الفرات يدينون بالرفض ويُعرفون بولاء آل عليّ وولده وأمّا أبو عليّ بن مقلة فلا هيبة له في قلوب الناس ولا يُرجَع إلى كفاية ولا تجربة وأشار بمحمّد بن خلف لمودّة كانت بينهما فنفر المقتدر من محمّد بن خلف لما علمه من جهله وتهوّره وواصل ابن مقلة بالهديّة إلى نصر الحاجب فأشار على المقتدر به فاستوزره‏.‏

وكان ابن مقلة لّما قرب الهَجَريُّ من الأنبار قد أنفذ صاحبًا له معه خمسون طائرًا وأمره بالمقام بالأنبار وإرسال الأخبار إليه وقتًا بوقت ففعل ذلك فكانت الأخبار ترد من جهته إلى الخليفة على يد نصر الحاجب فقال نصر‏:‏ هذا فعله فيما لا يلزمه فكيف يكون إذا اصطنعته‏!‏ فكان ذلك من أقوى الأسباب في وزارته‏.‏

وتقدّم المقتدر في منتصف ربيع الأوّل بالقبض على الوزير عليّ بن عيسى وأخيه عبد الرحمن وخلع على أبي عليّ بن مقلة وتولّى الوزارة وأعانه عليها أبو عبدالله البريديُّ لمودّة كانت بينهما‏.‏

لّما وليَ عليُّ بن عيسى الوزارة كان أبو عبد الله بن البريديّ قد ضمن الخاصّة وكان أخوه أبو يوسف على سُرّق فلمّا استعمل عليُّ بن عيسى العمّال ورتّبهم في الأعمال قال أبو عبد الله‏:‏ تُقلِّد مثل هؤلاء على هذه الأعمال الجليلة وتقتصر بي على ضمان الخاصّة بالأهواز وبأخي أبي يوسف على سُرق‏!‏ لعن الله مَن يقنع بهذا منك فإنّ لطبلي صوتًا سوف يُسْمع بعد أيّام‏.‏

فلمّا بلغه اضطراب أمر عليّ بن عيسى أرسل أخاه أبا الحسين إلى بغداد وأمره أن يخطب له أعمال الأهواز وما يجري معها إذا تجدّدت وزارة لمن يأخذ الرّشى ويرتفق فلمّا وزَر أبو عليّ بن مقلة بذل له عشرين ألف دينار على ذلك فقلّد أبا عبد الله الأهواز جميعها سوى السُّوس وجُنْدَيْسابور وقلّد أخاه أبا الحسين الفراتيّة وقلّد أخاهما أبا يوسف الخاصّة والأسافل على أن يكون المال في ذمّة أبي أيّوب السمسار إلى أن يتصرّفوا في الأعمال‏.‏

وكتب أبو عليّ بن مقلة إلى أبي عبد الله في القبض على ابن أبي السلاسل فسار بنفسه فقبض عليه بتُستَر وأخذ منه عشرة آلاف دينار ولم يوصلها وكان متهوّرًا لا يفكّر في عاقبة أمر وسيرد من أخبراه ما يُعلم به دهاؤه ومكره وقلّة دينه وتهوّره‏.‏

ثمّ إنّ أبا عليّ بن مقلة جعل أبا محمّد الحسين بن أحمد الماذرائي مشرفًا على أبي عبدالله فلم يلتفت إليه‏.‏

البريديُّ بالباء الموحدة والراء المهملة منسوب إلى البَريد هكذا ذكره الأمي ابن ماكولا وقد

ذكره ابن مِسكويه بالياء المعجمة باثنتين من تحت والزي وقال‏:‏ كان جدّه يخدم يزيد بن منصور الحميريّ فنُسب إليه والأوّل أصحّ وما ذكرنا قول ابن مِسكويه إلاّ حتّى لا يظنّ ظانّ أنّنا لم نقف عليه وأخطأنا الصواب‏.‏

ذكر من ظهر بسواد العراق من القرامطة

لّما كان من أمر أبي طاهر القُرمُطيّ ما ذكرناه اجتمع من كان بالسواد ممّن يعتقد مذهب القرامطة فيكتم اعتقاده خوفًا فأظهروا اعتقادهم فاجتمع منهم بسواد واسط أكثر من عشرة آلاف رجل وولّوا أمرَهم رجلًا يُعرف بحُرَيث بن مسعود واجتمع طائفة أخرى بعين التمر ونواحيها في جمع كثير وولّوا أمرَهم إنسانًا يسمّى عيسى بن موسى وكانوا يدعون إلى المهديّ‏.‏

وسار عيسى إلى الكوفة ونزل بظاهرها وجبى الخراج وصرف العمّال عن السواد‏.‏

وسار حُريث بن مسعود إلى أعمال الموفقي وبنى بها دارًا سمّاها دار الهجرة واستولى على تلك الناحية فكانوا ينهبون ويسبون ويقتلون وكان يتقلّد الحرب بواسط بنّيّ بن نفيس فقاتلهم فهزموه فسيّر المقتدر بالله إلى حُريث ابن مسعود ومَن معه هارونَ بن غريب وإلى

عيسى بن موسى ومَن معه بالكوفة صافيًا البصريَّ فأوقع بهم هارون وأوقع صافي بمن سار إليهم فانهزمت القرامطة وأُسر منهم كثير وقُتل أكثر ممّن أُسر وأُخذت أعلامهم وكانت بيضًا وعليها مكتوب‏:‏ ‏{‏وَنُريدُ أنْ نَمُنَّ عَلى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 5‏]‏‏.‏ فأُدخلت بغداد منكوسة واضمحل أمر من بالسواد منهم وكفى الله الناس شرّهم‏.‏

ذكر الحرب بين نازوك وهارون بن غريب

وفيها وقعت الفتنة بين نازوك صاحب الشُّرطة وهارون بن غريب‏.‏

وسبب ذلك أنّ ساسة دوابّ هارون بن غريب وساسة نازوك تغايروا على غلام أمرد وتضاربوا بالعصى فحبس نازوك ساسة دوابّ هارون بعد أن ضربهم فسار أصحاب هارون إلى محبس الشُّرطة ووثبوا على نائب نازوك به وانتزعوا أصحابهم من الحبس فركب نازوك وشكا إلى المقتدر وقال‏:‏ كلاكما عزيز عليّ ولست أدخل بينكما فعاد وجمع رجاله وجمع هارون رجاله وزحف أصحاب نازوك إلى دار هارون فأغلق بابه وبقي بعض أصحابه خارج الدار فقتل منهم أصحاب نازوك وجرحوا ففتح هارون الباب وخرج أصحابه فوضعوا السلاح في أصحاب نازوك فقتلوا منهم وجرحوا واشتبكت الحرب بينهم فكفّ نازوك أصحابه‏.‏

وأرسل الخليفة إليهما ينكر عليهما ذلك فكفّا وسكنت الفتنة واستوحش نازوك واستدّل بذلك على تغيّر المقتدر ثمّ ركب إليه هارون وصالحه وخرج بأصحابه ونزل بالبستان النجميّ ليبعد عن نازوك فأكثر الناس الأراجيف وقالوا‏:‏ قد صار هارون أمير الأمراء فعظم ذلك على أصحاب مؤنس وكتبوا إليه بذلك وهو بالرَّقّة فأسرع العود إلى بغداد فنزل بالشّمّاسيّة في أعلى بغداد ولم يلق المقتدر فصعد إليه الأمير أبو العبّاس ابن المقتدر والوزير ابن مقلة فأبلغاه سلام المقتدر واستيحاشه له وعاد فاستشعر كلّ واحد من المقتدر ومؤنس من صاحبه وأحضر المقتدر هارون ابن غريب وهو ابن خاله فجعله معه في داره فلمّا علم مؤنس بذلك ازداد نفورًا واستيحاشًا وأقبل أبو الهيجاء بن حَمدان من بلاد الجبل فنزل عند مؤنس ومعه عسكر كبير وصارت المراسلات بين الخليفة ومؤنس تتردّد والأمراء يخرجون إلى مؤنس وانقضت السنة وهم على ذلك‏.‏

ذكر قتل الحسن بن القاسم الداعي

في هذه السنة قُتل الحسن بن القاسم الداعي العلويُّ وقد ذكرنا استيلاء أسفار بن شيرويه الدَّيلميّ على طَبَرِستان ومعه مرداويج فلمّا استولوا عليها كان الحسن بن القاسم بالرَّيّ واستولى عليها وأخرج منها أصحاب السعيد نصر بن أحمد واستولى على قَزوين وزنجان وأبهر وقُمّ وكان معه ما كان بن كالي الديلميُّ فسار نحو طَبَرستان والتقوا هم وأسفار عند سارية فاقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم الحسن وما كان بن كالي فلُحق الحسن فقُتل وكان انهزام معظم أصحاب الحسن على تعمُّدٍ منهم للهزيمة‏.‏

وسبب ذلك أنّه كان يأمر أصحابه بالاستقامة ومنعهم عن ظلم الرعبّية وشرب الخمور وكانوا يبغضونه لذلك ثمّ اتّفقوا على أن يستقدموا هروسندان وهو أحد رؤساء الجيل وكان خال مردوايج ووشمكير ليقدّموه عليهم ويقبضوا على الحسن الداعي وينصِّبوا أبا الحسين بن الأطروش ويخطبوا له‏.‏

وكان هروسندان مع أحمد الطويل بالدَّامَغان بعد موت صُعلوك فوقف أحمد على ذلك فكتب إلى الحسن الداعي يعلمه فأخذ حذره فلمّا قدم هروسندان لقيه مع القوّاد وأخذهم إلى قصره بجرجان ليأكلوا طعامًا ولم يعلموا أنّه قد اطلع على ما عزموا عليه وكان قد وافق خواصّ أصحابه على قتلهم وأمرهم بمنع أصحاب أولئك القوّاد من الدخول فلمّا دخلوا داره قابلهم على ما يريدون أن يفعلوه وما أقدموا عليه من المنكرات التي أحلّت له دماءهم ثمّ أمر بقتلهم عن آخرهم وأخبر أصحابهم الذين ببابه بقتلهم وأمرهم بنهب أموالهم فاشتغلوا بالنهب وتركوا أصحابهم وعظم قتلهم على أقربائهم ونفروا عنه فلمّا كانت هذه الحادثة تخلّوا عنه حتّى قُتل‏.‏

ولّما قُتل استولى أسفار على بلاد طَبرستان والرَّيّ وجُرجان وقَزوين وزنجان وأبهر وقُمّ والكَرْخ ودعا لصاحب خُراسان وهو السعيد نصر بن أحمد وأقام بسارية واستعمل على آمل هارون بن بَهرام وكان هارون يحتاج أن يُخطب فيها لأبي جعفر العلويّ وخاف أسفار ناحية أبي جعفر أن يجدّد له فتنة وحربًا فاستدعى هارون إليه وأمره أن يتزوّج إلى أحد أعيان آمل ويُحضر عرسه أبا جعفر وغيره من رؤساء العلويّين ففعل ذلك في يوم ذكره أسفار ثمّ سار أسفار من سارية مجدًّا فوافى آمل وقت الموعد وهجم على دار هارون على حين غفلة وقبض على أبي جعفر وغيره من أعيان العلويّين وحملهم إلى بخارى فاعتُقلوا بها إلى أن خلصوا أيّام فتنة أبي زكرياء على ما نذكره‏.‏

ولّما فرغ أسفار من أمر طَبَرِستان سار إلى الرَّيّ وبها ما كان بن كالي فأخذها منه واستولى عليها وسار ما كان إلى طَبرستان فأقام هناك‏.‏

وأحبّ أسفار أن يستولي على قلعة أَلُموت وهي قلعة على جبل شاهق من حدود الديلم وكانت لسياه جشم بن مالك الديلمي ومعناه الأسود العين لأنّه كان على إحدى عينَيْه شامة سوداء فراسله أسفار وهنّأه فقدم عليه فسأله أن يجعل عياله في قلعة أَلُموت وولاّه قَزوين فأجابه إلى ذلك فنقلهم إليها ثمّ كان يرسل إليهم من يثق به من أصحابه فلمّا حصل فيها مائة رجل استدعاه من قَزوين فلمّا حضر عنده قبض عليه وقتله بعد أيّام‏.‏

وكان أسفار لّما اجتاز بسُمْنَان استأمن إليه ابن أمير كان صاحب جبل دنباوند وامتنع محمّد بن جعفر السُّمنانيُّ من النزول إليهن وامتنع بحصن بقرية رأس الكلب فحقدها عليه أسفار فلمّا استولى على الرَّيّ أنفذ إليه جيشًا يحصرونه وعليهم إنسان يقال له عبد الملك الديلميُّ فحصروه ولم يمكنهم الوصول إليه فوضع عليه عبد الملك مَن يشير عليه بمصالحته ففعل وأجابه عبد الملك إلى المسألة ثمّ وضع عليه من يحسّن له أن يضيف عبد الملك فأضافه فحضر في جماعة من شجعان أصحابه فتركهم تحت الحسن وصعد وحده إلى محمّد بن جعفر فتحادثا ساعة ثمّ استخلاه عبد الملك ليشير إليه شيئًا ففعل ذلك ولم يبق عندهما أحد غير غلام صغير فوثب عليه عبد الملك فقتله وكان محمّد منقرسًا زمنًا وأخرج حبل إبرِيسَم كان قد أعدّه فشدّه في نافذة في تلك الغرفة ونزل وتخلّص‏.‏

واستغاث ذلك الغلام فجاء أصحاب محمّد بن جعفر وكسروا الباب وكان عبد الملك قد أغلقه فلمّا دخلوا رأوه مقتولًا فقتلوا به كلّ من عندهم من الديلم وحفظوا نفوسهم‏.‏

وعظمت جيوش أسفار وجلّ قدره فتجبّر وعصى على الأمير السعيد صاحب خُراسان وأراد أن يجعل على رأسه تاجًا وينصب بالرَّيّ سرير ذهب للسلطنة ويحارب الخليفة وصاحب خُراسان فسير المقتدر إليه هارون بن غريب في عسكر نحو قَزوين فحاربه أصحاب أسفار بها فانهزم هارون وقُتل من أصحابه جمع كثير بباب قَزوين وكان أهل قزوين قد ساعدوا أصحاب هارون فحقدها عليهم أسفار‏.‏

ثمّ إنّ الأمير السعيد صاحب خُراسان سار من بخارى قاصدًا نحو أسفار ليأخذ بلاده فبلغ نَيسابور فجمع أسفار عسكره وأشار على أسفار وزيره مُطَرّف بن محمّد الجُرجانيُّ بمراسلة صاحب خُراسان والدخول في طاعته وبذل المال له فإنّ أجاب وإلاّ فالحرب بين يديه‏.‏

وكان في عسكره جماعة من أتراك صاحب خُراسان قد ساروا معه فخوّفه وزيره منهم فرجع إلى رأيه وراسله فأبى أن يجيبه إلى ذلك وعزم على المسير إليه فأشار عليه أصحابه أن يقبل الأموال وإقامة الخطبة له وخوّفوه الحرب وأنّه لا يدري لمن النصر فرجع إلى قولهم وأجاب أسفار إلى ما طلب وشرط عليه شروطًا من حمل الأموال وغر ذلك واتّفقا فشرع أسفار بعد إتمام الصلح وقسّط على الريّ وأعمالها على كلّ رجل دينارًا سواء كان من أهل البلاد أم من المجتازين فحصل له مال عظيم أرضى صاحب خُراسان ببعضه ورجع عنه‏.‏

فعظم أمر أسفار خلاف ما كان وزار تجبُّره وقصد قَزوين لما في نفسه على أهلها فأوقع بهم وقعة عظيمة أخذ فيها أموالهم وعذّبهم وقتل كثيرًا منهم وعسفهم عَسفًا شديدًا وسلَّط الديلم عليهم فضاقت الأرض عليهم وبلغت القلوب الحناجر وسمع مؤذّن الجامع يؤذّن فأمر به فأُلقي من المنارة إلى الأرض فاستغاث الناس من شرّه وظلمه وخرج أهل قزوين إلى الصحراء‏:‏ الرجال‏:‏ والنساء والولدان يتضرّعون ويدعون عليه ويسألون الله كشف ما هم فيه فبلغه ذلك فضحك منهم وشتمهم استهزاء بالدعاء فلمّا كان الغد انهزم على ما نذكره‏.‏

ذكر قتل أسفار

كان في أصحاب أسفار قائد من أكبر قوّاده يقال له مَرداويج بن زيار الديلميّ فأرسله إلى سلار صاحب شميران الطرم يدعوه إلى طاعته وسلار هذا هو الذي صار ولده فيما بعد صاحب أذربيجان وغيرها فلّما وصل مرداويج إليه تشاكيا ما كان الناس فيه من الجهد وكان أسفار قد وصل إلى قزوين وهو ينتظر وصول مرداويج بجوابه فكتب مرداويج إلى جماعة من القوّاد يثق بهم يعرّفهم ما اتّفق هو وسلار عليه فأجابوه إلى ذلك وكان الجند قد سئموا أسفار لسوء سيرته وظلمه وجوره وكان في جملة من أجاب إلى مساعدة مَرداويج مطرّف بن محمّد وزير أسفار وسار مرداويج وسلار نحو أسفار وبلغه الخبر وأن أصحابه قد بايعوا مرداويج فأحسّ بالشرّ وكان ذلك عقيب حادثته مع أهل قزوين ودعائهم وثار الجند بأسفار فهرب منهم في جماعة من غلمانه وورد الريّ فأراد أن يأخذ من مال كان عند نائبه بها شيئًا فلم يعطه غير خمسة آلاف دينار وقال له‏:‏ أنت أمير ولا يعوزك مال فتركه وانصرف إلى خُراسان فأقام بناحية بَيهق‏.‏

وأمّا مرداويج فإنّه عاد من قزوين نحو الرَّي وكتب إلى ما كان بن كالي وهو بَطَبرستان يستدعيه ليتساعدا ويتعاضدا فسرى ما كان بن كالي إلى أسفار وكان قد عسف أهل الناحية التي هو بها فلّما أحسّ بما كان سار إلى بُست وركب المفازة نحو الريّ ليقصد قلعة أَلْموت التي بها أهله وأمواله فانقطع عنه بعض أصحابه وقصد مرداويج فأعلمه خبره فخرج مرداويج من ساعته في أثره وقدّم بعض قوّاده بين يديه فلحقه ذلك القائد وقد نزل يستريح فسلّم عليه بالإِمْرة فقال له أسفار‏:‏ لعلّكم اتّصل بكم خبري وبُعثتَ في طلبي قال‏:‏ نعم‏!‏ فبكى أصحابه فأنكر عليهم أسفار ذلك وقال‏:‏ بمثل هذه القلوب تتجنّدون‏!‏ أما علمتم أنّ الولايات مقرونة بالبليّات ثمّ أقبل على ذلك القائد وهو يضحك وسأله عن قوّاده الذين أسلموه وخذلوه فأخبره مرداويج قتلهم فتهلّل وجهه وقال‏:‏ كانت حياة هؤلاء غصّة في حلقي وقد طابت الآن نفسي فامض في ما أُمرتَ به وظنّ أنّه أُمر بقتله فقال‏:‏ ما أُمرتُ فيك بسوء وحمله إلى مرداويج فسلّمه إلى جماعة أصحابه ليحمله إلى الريّ فقال له بعض أصحابه‏:‏ إنّ أكثر مَن معك كانوا أصحاب هذا فانحرفوا عنه إليك وقد أوحشتَ أكثرهم بقتل قوّادهم فما يؤمنك أن يرجعوا إليه غدًا ويقبضوا عليك فحينئذ أمر بقتله وانصرف إلى الريّ‏.‏

وقيل في قتله‏:‏ أنّه لمّا عاد نحو قلعة أَلْموت نزل في وادٍ هناك يستريح فاتّفق أنّ مَرداويج خرج يتصيّد ويسأل عن أخباره فرأى خيلًا يسيرة في وادٍ هناك فأرسل بعض أصحابه ليأخذ خبرها فرأوا أسفار بن شِيرويه في عدّة يسيرة من أصحابه يريد الحصن ليأخذ ما له فيه ويستعين به على جمع الجيوش ويعود إلى محاربة مرداويج فأخذوه ومن معه وحملوه إلى مرداويج فلمّا رآه نزل إليه فذبحه‏.‏

واستقرّ أمر مرداويج في البلاد وعاد إلى قَزوين بعد قتل أسفار فأحسن إلى أهلها ووعدهم

وقيل‏:‏ بل دخل أسفار إلى رحى وقد نال منه الجوع فطلب من الطحّان شيئًا يأكله فقدّم له خبزًا ولبنًا فأكل منه هو وغلام له ليس معه غيره فأقبل مرداويج إلى تلك الناحية فأشرف على الرحى فرأى أثر حوافر الدوابّ فسأل عنها فقيل له‏:‏ قد دخل فارسان إلى هذه الرحى فكبس مرداويج الرحى فرآه وقتله‏.‏  ‏ ‏  ‏  ‏   ‏ ‏ ‏