المجلد السابع - ذكر تجدد الوحشة بين مؤنس والمقتدر

ثم دخلت سنة تسع عشرة وثلاثمائة

وكان سببها أنّ محمّد بن ياقوت كان منحرفًا على الوزير سليمان ومائلًا إلى الحسين بن القاسم وكان مؤنس يميل إلى سليمان بسبب عليّ بن عيسى وثقتهم به وقوي أمر محمّد بن ياقوت وقُلّد مع الشُّرطة الحِسبة وضمّ إليه رجالًا فقوي بهم فعظم ذلك على مؤنس وسأل المقتدر صرف محمّد عن الحسبة وقال‏:‏ هذا شغل لا يجوز أن يتولاّه غير القضاة والعدول فأجابه المقتدر‏.‏

وجمع مؤنس إليه أصحابه فلمّا فعل ذلك جمع ياقوت وابنه الرجال في دار السلطان وفي دار محمّد بن ياقوت وقيل لمؤنس‏:‏ إنّ محمّد بن ياقوت قد عزم على كبس دارك ليلًا ولم يزل به أصحابه حتّى أخرجوه إلى باب الشَّمّاسيّة فضربوا مضاربهم هناك وطالب المقتدر بصرف ياقوت عن الحجبة وصرف ابنه عن الشُّرطة وإبعادهما عن الحضرة فأُخرجا إلى المدائن‏.‏

وقلّد المقتدر ياقوتًا أعمال فارس وكرمان وقلّد ابنه المظفَّر بن ياقوت أصبهان وقلّد أبا بكر محمّد بن ياقوت سِجِستان وتقلّد ابنا رائق إبراهيم ومحمّد مكان ياقوت وولده الحجبة والشُّرطة وأقام ياقوت بشِيراز مدّة‏.‏

وكان عليُّ بن خلف بن طياب ضامناَ أموال الضياع والخراج بها فتظافرا وتعاقدا وقطعا الحمل على المقتدر إلى أن ملك عليُّ بن بُوَيْه الديلميُّ بلاد فارس سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة‏.‏

ووزارة أبي القاسم الكلوذانيّ و في هذه السنة قبض المقتدر على وزيره سليمان بن الحسن‏.‏

وكان سبب ذلك أن سليمان ضاقت الأموال عليه إضافة شديدة وكثرت عليه المطالبات ووقفت وظائف السلطان واتّصلت رقاع مَن يُرَشّح نفسه للوزارة بالسعاية به والضمان بالقيام بالوظائف وأرزاق الجند وغير ذلك فقبض عليه ونقله إلى داره‏.‏

وكان المقتدر كثير الشهوة لتقليد الحسين بن القاسم الوزارة فامتنع مؤنس من ذلك وأشار بوزارة أبي القاسم الكلْوذانيّ فاضطر المقتدر إلى ذلك فاستوزره لثلاث بقين من رجب فكانت وزارة سليمان سنة واحدة وشهَريْن وكانت وزارته غير متمكّنة أيضًا فإنّه كان عليُّ بن عيسى معه على الدواوين وسائر الأمور وأُفرد عليُّ بن عيسى عنه بالنظر في المظالم واستعمل على ديوان السواد غيره فانقطعت موادّ الوزير فإنّه كان يقيم مِن قبله من يشتري توقيعات أرزاق جماعة لا يمكنهم مفارقة ما هم عليه بصدده من الخدمة فكان يعطيهم نصف المبلغ وكذلك إدرارات الفقهاء وأرباب البيوت إلى غير ذلك‏.‏

وكان أبو بكر بن قرابة منتميًا إلى مُفلح الخادم فأوصله إلى المقتدر فذكر له أنّه يعرف وجوه مرافق الوزراء فاستعمله عليها ليصلحها للخليفة فسعى في تحصيل ذلك من العمّال والضُّمّان والتُّنّاء وغيرهم فأخلق بذلك الخلافة وفضح الديوان ووقفت أحوال الناس فإنّ الوزراء وأرباب الولايات لا يقومون بأشغال الرعايا والتعب معهم إلاّ لرفق يحصل لهم وليس لهم من الدين ما يحملهم على النظر في أحوالهم فإنّه بعيد منهم فإذا منعوا تلك المرافق تركوا الناس يضطربون ولا يجدون مَن يأخذ بأيديهم ولا يقضي حوائجهم فإنّي قد رأيتُ هذا عيانًا في زماننا هذا وفات به من المصالح العامّة والخاصّة ما لا يحصى‏.‏

ذكر الحرب بين هارون وعسكر مرداويج

قد ذكرنا فيما تقدّم قتل أسفار وملك مرداويج وأنّه استولى على بلد الجبل والرَّيّ وغيرهما وأقبلت الدَّيلم إليه من كلّ ناحية لبذله وإحسانه إلى جنده فعظمت جيوشه وكثرت عساكره وكثر الخرج عليه فلم يكفه ما في يده ففرّق نوّابه في النواحي المجاورة له‏.‏

فكان مّمن سيّره إلى همَذان ابن أخت له في جيش كثير وكان بها أبو عبد الله محمّد بن خلف في عسكر الخليفة فتحاربوا حروبًا كثيرة وأعان أهل همذان عسكر الخليفة فظفروا بالديلم وقُتل ابن أخت مرداويج فسار مرداويج من الرَّيّ إلى همذان فلمّا سمع أصحاب الخليفة بمسيره انهزموا من همذان فجاء إلى همذان ونزل على باب الأسد فتحصّن منه أهلها فقاتلهم فظفر بهم وقتل منهم خلقًا كثيرًا وأحرق وسبى ثم رفع السيف عنهم وأمّن بقيتهم‏.‏

فأنفذ المقتدر هارونَ بن غريب الخال في عساكر كثيرة إلى محاربته فالتقوا بنواحي همذان فاقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم هارون وعسكر الخلية واستولى مرداويج على بلاد الجبل جميعها وما وراء همذان وسيّر قائدًا كبيرًا من أصحابه يُعرف بابن علاّن القزوينيّ إلى الدّينَور ففتحها بالسيف وقتل كثيرًا من أهلها وبلغت عساكره إلى نواحي حُلوان فغنمت ونهبت وقتلت وسبت الأولاد والنساء وعادوا إليه‏.‏

ذكر ما فعله لشكري من المخالفة

كان لشكري الديلميُّ من أصحاب أسفار واستأمن إلى الخليفة فلمّا انهزم هارون بن غريب من مرداويج سار معه إلى قَرْمِيسين وأقام هارون بها واستمدّ المقتدر ليعاود محاربة مرداويج وسيّر هارون لشكري هذا إلى نهاوند لحمل مالٍ بها إليه فلمّا صار لشكري بنَهاوند ورأى غنى أهلها طمع فيهم وصادرهم على ثلاثة آلاف ألف درهم واستخرجها في مدّة أُسبوع وجنّد بها جُندًا ثمّ مضى إلى أصبهان هاربًا من هارون في الجند الذين انضمّوا إليه في جُمادى وكان الوالي على أصبهان حينئذ أحمد بن كَيْغَلغ وذلك قبل استيلاء مرداويج عليها فخرج إليه أحمد فحاربه فانهزم أحمد هزيمة قبيحة وملك لشكري أصبهان ودخل أصحابه إليها فنزلوا في الدور والخانات وغيرها ولم يدخل لكري معهم ولّما انهزم أحمد نجا إلى بعض قرى أصبهان في ثلاثين فارسًا وركب لشكري يطوف بسُور أصبهان من ظاهره فنظر إلى أحمد في جماعته فسأل عنه فقيل‏:‏ لا شكّ أنه من أصحاب أحمد ابن كَيْغَلغ فسار فيمن معه من أصحابه نحوهم وكانوا عدّة يسيرة فلمّا قرب منهم تعارفوا فاقتتلوا فقُتل لشكري قتله أحمد بن كَيْغَلغ ضربه بالسيف على رأسهن فقدّ المغفر والخّوذة ونزل السيف حتّى خالط دماغه فسقط ميّتًا‏.‏

وكان عمر أحمد إذ ذاك قد جاوز السبعين فلمّا قُتل لشكري انهزم مَن معه فدخلوا أصبهان وأعلموا أصحابهم فهربوا على وجوههم وتركوا أثقالهم وأكثر رحالهم ودخل أحمد إلى أصبهان وكان هذا قبل استيلاء مرداويج على أصبهان وكان هذا من الفتح الظريف وكان جزاؤه أن صُرف عن أصبهان ووليَ عليها المظفَّر بن ياقوت‏.‏

ذكر ملك مرداويج أصبهان

ثمّ أنفذ مرداويج طائفة أخرى إلى أصبهان فملكوها واستولوا عليها وبنوا له فيها مساكن أحمد بن عبد العزيز بن أبي دُلَف العِجليّ والبساتين فسار مرداويج إليها فنزلها وهو في أربعين ألفًا وقيل خمسين ألفًا وأرسل جمعًا آخر إلى الأهواز فاستولوا عليها وعلى خوزستان وجبوا أموال هذه البلاد والنواحي وقسمها في أصحابه وجمع منها الكثير فاذخره‏.‏

ثمّ إنّه أرسل إلى المقتدر رسولًا يقرّر على نفسه مالًا على هذه البلاد كلّها ونزل للمقتدر عن هَمذان وماه الكوفة فأجابه المقتدر إلى ذلك وقوطع على مائتَيْ ألف دينار كلّ سنة‏.‏

ذكر عزل الكَلْوَذانيّ ووزارة الحسين بن القاسم

في هذه السنة عُزل أبو القاسم الكّلْوذانيُّ عن وزارة الخليفة ووزر الحسين ابن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب‏.‏

وكان سبب ذلك أنّه كان ببغداد إنسان يُعرف بالدانياليّ وكان زرّاقًا ذكيًّا محتالًا وكان يعتّق الكاغد ويكتب فيه بخطّة ما يشبه الخطّ العتيق ويذكر فيه إشارات ورموزًا يودعها أسماء أقوام من أرباب الدولة فيحصل له بذلك رفق كثير‏.‏

فمن جملة ما فعله أنّه وضع في جملة كتاب‏:‏ ميم ميم ميم يكون منه كذا وكذا وأحضره عند مفلح وقال‏:‏ هذا كناية عنك فإنّك مفلح مولى المقتدى وذكر له علامات تدلّ عليه فأغناه فتوصّل الحسين بن القاسم معه حتّى جعل اسمه في كتاب وضعه وعتّقه وذكر فيه علامة وجهه وما فيه من الآثار ويقول إنّه يزر للخليفة الثامن عشر من خلفاء بني العبّاس وتستقيم الأمور على يدَيْه ويقهر الأعادي وتتعمّر الدنيا في أيّامه وجعل هذا كلّه في جملة كتاب ذكر فيه حوادث قد وقعت وأشياء لم تقع بعد ونسب ذلك إلى دانيال وعتّق الكتاب وأخذه وقرأه على مفلح فلمّا رأى ذلك أخذ الكتاب وأحضره عنده المقتدر وقال له‏:‏ أتعرف في الكُتّاب من هو بهذه الصفة فقال‏:‏ ما أعرفه إلاّ الحسين بن القاسم فقال‏:‏ صدقت وإنّ قلبي ليميل إليه فإن جاءك منه رسول برقعة فاعرضها عليّ واكتم حاله ولا تطلع على أمره أحدًا‏.‏

وخرج مفلح إلى الدانياليّ فسأله‏:‏ هل تعرف أحدًا من الكتّاب بهذه الصفة فقال‏:‏ لا أعرف أحدًا قال‏:‏ فمن أين وصل إليك هذا الكتاب فقال‏:‏ من أبي وهو ورثه من آبائه وهو من ملاحم دانيال عليه السلام فأعاد ذلك على المقتدر فقبله فعرّف الدانياليُّ ذلك الحسين بن القاسم فلمّا أعلمه كتب رقعة إلى مفلح فأوصلها إلى المقتدر ووعده الجميل وأمره بطلب الوزارة وإصلاح مؤنس الخادم فكان ذلك من أعظم الأسباب في وزارته مع كثرة الكارهين له‏.‏

ثمّ اتفق أنّ الكَلْوذانيَّ عمل حِسْبةً بما يحتاج إليه من النفقات وعليها خطّ أصحاب الديوان فبقي محتاجًا إلى سبعمائة ألف دينار وعرضها على المقتدر وقال‏:‏ ليس لهذه جهة إلاّ ما

وكتب الحسين بن القاسم لّما بلغه ذلك يضمن جميع النفقات ولا يطالبه بشيء من بيت المال وضمن أنّه يستخرج سوى ذلك ألف ألف دينار يكون في بيت المال فعُرضت رقعته على الكَلْوذانيّ فاستقال وأذن في وزارة الحسين ومضى الحسين إلى بُلَيق وضمن له مالًا ليصلح له قلب مؤنس ففعل فعُزل الكَلْوذانيُّ في رمضان وتولّى الحسين الوزارة لليلتَينْ بقيتا من رمضان أيضًا وكانت ولاية الكَلْوذانيّ شهرَيْن وثلاثة أيّام واختصّ بالحسين بنو البَرِيديّ وابنُ قَرابة وشرط أن لا يطلع معه عليّ بن عيسى فأُجيب إلى ذلك وشرع في إخراجه من بغداد فأُجيب إلى ذلك فأُخرج إلى الصافية‏.‏

ذكر تأكّد الوحشة بين مؤنس والمقتدر

في هذه السنة في ذي الحجّة تجدّدت الوحشة بين مؤنس والمقتدر حتى آل ذلك إلى قتل المقتدر‏.‏

وكان سببها ما ذكرنا أوّلًا في غير موضع فلمّا كان الآن بلغ مؤنسًا أنّ الوزير الحسين بن القاسم قد وافق جماعة من القوّاد في التدبير عليه فتنكّر له مؤنس وبلغ الحسين أنّ مؤنسًا قد تنكّر له وأنّه يريد أن يكبس داره ليلًا ويقبض عليه فتنقّل في عدة مواضع وكان لا يحضر داره إلاّ بُكرة ثمّ إنّه انتقل إلى داره الخلافة فطلب مؤنس من المقتدر عزل الحسين ومصادرته فأجاب إلى عزله ولم يصادره وأمر الحسين بلزوم بيته فلم يقنع مؤنس بذلك فبقي في وزارته‏.‏

وأوقع الحسين عند المقتدر أنّ مؤنسًا يريد أخذ ولده أبي العبّاس وهو الراضي من داره بالمخرّم والمسير به إلى الشام والبيعة له فردّه المقتدر إلى دار الخلافة فعلم ذلك أبو العبّاس فلمّا أفضت الخلافة إليه فعل بالحسين ما نذكره‏.‏

وكتب الحسن إلى هارون وهو بدير العاقول بعد انهزامه من مرداويج ليتقدمه إلى بغداد وكتب إلى محمّد بن ياقوت وهو بالأهواز يأمره بالإسراع إلى بغداد فزاد استشعار مؤنس وصح عنده أنّ الحسين يسعى في التدبير عليه وسنذكر تمام أمره سنة عشرين وثلاثمائة‏.‏

ذكر الحروب بين المسلمين والروم

في هذه السنة في ربيع الأوّل غزا ثمل والي طَرَسُوس بلاد الروم فعبر نهرًا ونزل عليهم ثلجٌ إلى صدور الخيل وأتاهم جمع كثير من الروم فواقعوهم فنصر الله المسلمين فقتلوا من الروم ستّمائة وأسروا نحوًا من ثلاثة آلاف وغنموا من الذهب والفضّة والديباج وغيره شيئًا كثيرًا‏.‏

وفيها في رجب عاد ثمل إلى طَرَسُوس ودخل بلاد الروم صائفة في جمع كثير من الفارس

والراجل فبلغوا عَمّورية وكان قد تجمّع إليها كثير من الروم ففارقوها لّما سمعوا خبر ثمل ودخلها المسلمون فوجدوا فيها من الأمتعة والطعام شيئًا فأخذوه وأحرقوا ما كانوا عمّروه منها وأوغلوا في بلاد الروم ينهبون ويقتلون ويخرّبون حتى بلغوا أنقِرَة وهي التي تسمّى الآن أنكورية وعادوا سالمين لم يلقوا كيدًا فبلغت قيمة السبي مائة ألف دينار وستّة وثلاثين ألف دينار وكان وصولهم إلى طَرَسُوس آخر رمضان‏.‏

وفيها كاتب ابن الدَّيرانيّ وغيره من الأرمن وهم بأطراف أرمينية الروم وحثّوهم على قصد بلاد الإسلام ووعدوهم النصرة فسارت الروم في خلق كثير فخرّبوا بَزكرى وبلاد خلاط وما جاورها وقُتل من المسلمين خلق كثير وأسروا كثيرًا منهم فبلغ خبرهم مُفلحًا غلام يوسف بن أبي الساج وهو والي أذربيجان فسار في عسكر كبير وتبعه كثير من المتطوّعة إلى أرمينية فوصلها في رمضان وقصد بلد ابن الدَّيرانيّ ومن وافقه لحربه وقتل أهله ونهب أموالهم وتحصّن ابن الدًَّيرانيّ بقلعة له وبالغ الناس في كثرة القتلى من الأرمن حتّى قيل إنّهم كانوا مائة ألف قتيل والله أعلم‏.‏

وسارت عساكر الروم إلى سُمَيساط فحصروها فاستصرخ أهلها بسعيد بن حَمدان وكان المقتدر قد ولاّه الموصل وديار ربيعة وشرط عليه غزو الروم وأن يستنقذ مَلَطْية منهم وكان أهلها قد ضعفوا فصالحوا الروم وسلّموا مفاتيح البلد إليهم فحكموا على المسلمين فلمّا جاء رسول أهل سُمَيساط إلى سعيد بن حمدان تجهّز وسار إليهم مسرعًا فوصل وقد كاد الروم يفتحونها فلمّا قاربهم هربوا منه وسار منها إلى مَلَطية وبها جمع من الروم ومن عسكر مليح الأرمنيّ ومعهم بنْيّ بن نفيس صاحب المقتدر وكان قد تنصّر وهو مع الروم فلمّا أحسّوا بإقبال سعيد خرجوا منها وخافوا أن يأتيهم سعيد في عسكره من خارج المدينة ويثور أهلها بهم فيهلكوا ففارقوها‏.‏

ودخلها سعيد ثمّ استخلف عليها أميرًا وعاد عنها فدخل بلد الروم غازيًا في شوّال وقدّم بين يديه سَريّتَيْن فقتلتا من الروم خلقًا كثيرًا قبل دخوله إليها‏.‏

ذكر عدّة حوادث

في هذه السنة في شوّال جاء إلى تكريت سيل كبير من المطر نزل في البرّ فغرق منها أربعمائة دار ودكّان وارتفع الماء في أسواقها أربعة عشر شبرًا وغرق خلق كثير من الناس ودُفن المسلمون والنصارى مجتمعين لا يُعرف بعضهم من بعض‏.‏

وفيها هاجت بالموصل ريح شديد فيها حمرة شديدة ثمّ اسودّت حتّى لا يعرف الإنسان وفيها توفّي أبو القاسم عبدالله بن أحمد بن محمود البلخيُّ في شعبان وهو من متكلّمي المعتزلة البغداديّين‏.‏

ثم دخلت سنة عشرين وثلاثمائة

ذكر مسير مؤنس إلى الموصل


في هذه السنة في المحرّم سار مؤنس المظفَّر إلى الموصل مغاضبًا للمقتدر‏.‏

وسبب مسيره أنّه لّما صحّ عنده إرسال الوزير الحسين بن القاسم إلى هارون ابن غريب ومحمّد بن ياقوت يستحضرهما زاد استيحاشه ثم سمع بأنّ الحسين قد جمع الرجال والغلمان الحجريّة في دار الخليفة وقد اتّفق فيهم وأنَّ هارون بن غريب قد قرب من بغداد فأظهر الغضب وسار نحو الموصل ووجّه خادمه بُشرى برسالة إلى المقتدر فسأله الحسين عن الرسالة فقال‏:‏ لا أذكرها إلاّ لأمير المؤمنين فأنفذ إليه المقتدر يأمره بذكر ما معه من الرسالة للوزرن فامتنع وقال‏:‏ ما أمرني صاحبي بهذا فسبّه الوزير وشتم صاحبه وأمر بضربه وصادره بثلاثمائة ألف دينار وأخذ خطّه بها وحبسه ونهب داره‏.‏

فلمّا بلغ مؤنسًا ما جرى على خادمه وهو ينتظر أن يطيّب المقتدر قلبه ويعيده فلمّا علم ذلك سار نحو الموصل ومعه جميع قُوّاده فكتب الحسين إلى القوّاد والغلمان يأمرهم بالرجوع إلى بغداد فعاد جماعة وسار مؤنس نحو الموصل في أصحابه ومماليكه ومعه من الساجيّة ثماني مائة رجل وتقدّم الوزير بقبض إقطاع مؤنس وأملاكه وأملاك مَن معه وضرب اسمه على الدينار والدرهم وتمكّن من الوزارة وولّى وعزل‏.‏

وكان فيمن تولّى أبو يوسف يعقوب بن محمّد البريديُّ ولاّه الوزر البصرة وجميع أعمالها بمبلغ لا يفي بالنفقات على البصرة وما يتعلّق بها بل فضل لأبي يوسف مقدار ثلاثين ألف دينار أحاله الوزير بها فلّما علم ذلك الفضل بن جعفر بن محمّد بن الفرات استدرك على أبي يوسف وأظهر له الغلط في الضمان وأنّه لا يمضيه فأجاب إلى أن يقوم بنفقات البصرة ويحمل إلى بيت المال كلّ سنة ثمانين ألف دينار وانتهى ذلك إلى المقتدر فحسُن موقعه عنده فقصده الوزير فاستتر وسعى بالوزير إلى المقتدر إلى أن أفسد حاله‏.‏

ذكر عزل الحسين عن الوزارة

وفيها عُزل الحسين بن القاسم عن الوزارة‏.‏

وسبب ذلك أنّه ضاقت عليه الأموال وكثرت الإخراجات فاستسلف

في هذه السنة جملة وافرة أخرجها في سنة تسع عشرة فأنهى هارون بن غريب ذلك إلى المقتدر فرتّب معه الخصيبيّ فلمّا تولّى معه نظر في أعماله فرآه قد عمل حِسبة إلى المقتدر ليس فيها عليه وجه وموّه وأظهر ذلك للمقتدر فأمر بجمع الكتّاب وكشف الحال فحضروا واعترفوا بصدق الخصيبيّ بذلك وقابلوا الوزير بذلك فقُبض عليه في شهر ربيع الآخر وكانت وزارته سبعة أشهر واستوزر المقتدر أبا الفتح الفضل بن جعفر وسلّم إليه الحسين فلم يؤاخذه بإساءتهِ‏.‏

ذكر استيلاء مؤنس على الموصل

قد ذكرنا مسير مؤنس إلى الموصل فلمّا سمع الحسين الوزير بمسيره كتب إلى سعيد وداود ابنَيْ حمدان وإلى ابن أخيهما ناصر الدولة الحسن بن عبد الله ابن حمدان يأمرهم بمحاربة مؤنس وصدّه عن الموصل‏.‏

وكان مؤنس كتب في طريقه إلى رؤساء العرب يستدعيهم ويبذل لهم الأموال والخِلع ويقول لهم‏:‏ إنّ الخليفة قد ولاّه الموصل وديار ربيعة‏.‏

واجتمع بنو حمدان على محاربة مؤنس إلاّ داود بن حمدان فإنّه امتنع من ذلك لإحسان مؤنس إليه فإنّه كان قد أخذه بعد أبيه وربّاه في حجره أحسن إليه إحسانًا عظيمًا فلمّا امتنع من محاربته لم يزل به إخوته حتّى وافقهم على ذلك وذكروا له إساءة الحسين وأبي الهيجاء ابنَيْ حمدان إلى المقتدر مرّةً بعد مرّة وأنّهم يريدون أن يغسلوا تلك السيّئة ولّما أجابهم قال لهم‏:‏ والله إنّكم لتحملونني على البغي وكفران الإحسان وما آمن أن يجيئني سهم عائر فيقع في نحري فيقتلني فلمّا التقوا أتاه سهم كما وصف فقتله‏.‏

وكان مؤنس إذا قيل له‏:‏ إنّ داود عازم على قتالك ينكره ويقول‏:‏ كيف يقاتلني وقد أخذتُه طفلًا وربّيته في حجري‏!‏ ولّما قرب مؤنس من الموصل كان في ثمانمائة فارس واجتمع بنو حمدان في ثلاثين ألفًا والتقوا واقتتلوا فانهزم بنو حمدان ولم يُقتل منهم غير داود وكان يلقّب بالمجفجف وفيه يقول بعض الشعراء وقد هجا أميرًا‏:‏ لو كنتَ في ألف ألف كلّهم بطلٌ مِثل المُجَفْجَفِ داود بن حمدانِ وتحتكَ الريحُ تجري حيثُ تأمرُها وفي يمينك سيفَ غيرُ خَوَّان لكنتَ أوّل فَرّارٍ إلى عَدَنٍ إذا تحرّك سيفٌ من خُراسانِ وكان داود هذا من أشجع الناس ودخل مؤنس الموصل ثالث صفر واستولى على أموال بني حمدان وديارهم فخرج إليه كثير من العساكر من بغداد والشام ومصر من أصناف الناس لإحسانه الذي كان إليهم وعاد إليه ناصر الدولة بن حمدان فصار معه وأقام بالموصل تسعة

ذكر قتل المقتدر

لّما اجتمعت العساكر على مؤنس بالموصل قالوا له‏:‏ اذهبْ بنا إلى الخليفة فإنا أنصفنا وأجرى أرزاقنا وإلاّ قاتلناه فانحدر مؤنس من الموصل في شوّال وبلغ خبره جند بغداد فشغبوا وطلبوا أرزاقهم ففرّق المقتدر فيهم أموالًا كثيرة إلاّ أنّه لم يسعهم وأنفذ أبا العلاء سعيد بن حَمدان وصافيًا البصريّ في خيل عظيمة إلى سُرّ من رأى وأنفذ أبا بكر محمّد بن ياقوت في ألفَيْ فارس ومعه الغلمان الحجريّة إلى المعشوق‏.‏

فلمّا وصل مؤنس إلى تكريت أنفذ طلائعه فلمّا قربوا من المعشوق جعل العسكرُ الذين مع ابن ياقوت يتسلّلون ويهربون إلى بغداد فلمّا رأى ذلك رجع إلى عُكْبَرا وسار مؤنس فتأخّر ابن ياقوت وعسكره وعادوا إلى بغداد فنزل مؤنس بباب الشّمّاسيّة ونزل ابن ياقوت وغيره مقابلهم واجتهد المقتدر بابن خاله هارون بن غريب ليخرج فلم يفعل وقال‏:‏ أخاف من عسكري فإنّ بعضهم أصحاب مؤنس وبعضهم قد انهزم أمس من مرداويج فأخاف أن يسلّموني وينهزموا عنّي فأنفذ إليه الوزير فلم يزل به حتّى أخرجه وأشاروا على المقتدر بإخراج المال منه ومن والدته ليرضى الجند ومتى سمع أصحاب مؤنس بتفريق الأموال تفرّقوا عنه واضطرّ إلى الهرب وأراد المقتدر أن ينحدر إلى واسط ويكاتب العساكر من جهة البصرة والأهواز وفارس وكرمان وغيرها ويترك بغداد لمؤنس إلى أن يجتمع عليه العساكر ويعود إلى قتاله فردّه ابن ياقوت عن ذلك وزيّن له اللقاء وقوّى نفسه بأنّ القوم متى رأوه عادوا بأجمعهم إليه فرجع إلى قوله وهو كاره‏.‏

ثم أشار عليه بحضور الحرب فخرج وهو كاره وبين يديه الفقهاء والقراء معهم المصاحف مشهورة وعليه البردة والناس حوله فوقف على تلّ عالٍ بعيد عن المعركة فأرسل قوّاد أصحابه يسألونه التقدّم مرّة بعد أخرى وهو واقف فلمّا ألحّوا عليه تقدّم من موضعه فانهزم أصحابه قبل وصوله إليهم وكان قد أمر فنودي‏:‏ مَن جاء بأسير فله عشرة دنانير ومَن جاء برأس فله خمسة دنانير فلمّا انهزم أصحابه لقيه عليُّ بن بُليق وهو من أصحاب مؤنس فترجّل وقبّل الأرض وقال له‏:‏ إلى أين تمضي ارجع فلعن الله من أشار عليك بالحضور‏!‏ فأراد الرجوع فلقيه قوم من المغاربة والبربر فتركه عليٌّ معهم وسار عنه فشهروا عليه سيوفهم فقال‏:‏ ويحكم أنا الخليفة‏!‏ فقالوا‏:‏ قد عرفناك يا سِفْلَةُ أنت خليفة إبليس تبذل في كلّ رأس خمسة دنانير وفي كلّ أسير عشرة دنانير‏!‏ وضربه أحدهم بسيفه على عاتقه فسقط إلى الأرض وذبحه بعضهم فقيل إنّ عليَّ بن بليق غمز بعضهم فقتله‏.‏

وكان المقتدر ثقيل البدن عظيم الجثّة فلمّا قتلوه رفعوا رأسه على خشبة وهم يكبّرون ويلعنونه وأخذوا جميع ما عليه حتّى سراويله وتركوه مكشوف العورة إلى أن مرّ به رجل من الأكرة فستره بحشيش ثم حفر له موضعه ودُفن وعُفي قبره‏.‏

وكان مؤنس في الراشديّة لم يشهد الحرب فلمّا حُمل رأس المقتدر إليه بكى ولطم وجهه ورأسه وقال‏:‏ يا مفسدون‏!‏ ما هكذا أوصيتُكم وقال‏:‏ قتلتموه وكان هذا آخر أمره والله لنُقتَلنّ كلّنا وأقلّ ما في الأمر أنّكم تُظهرون أنّكم قتلتموه خطأ ولم تعرفوه‏.‏

وتقدّم مؤنس إلى الشّمّاسيّة وأنفذ إلى دار الخليفة مَن يمنعها من النهب ومضى عبد الواحد بن المقتدر وهارون بن غريب ومحمّد بن ياقوت وابنا رائق إلى المدائن وكان ما فعله مؤنس سببًا لجرأة أصحاب الأطراف على الخلفاء وطمعهم فيما لم يكن يخطر لهم على بالٍ وانخرقت الهيبة وضعف أمر الخلافة حتّى صار الأمر إلى ما نحكيه‏.‏

على أن المقتدر أهمل من أحوال الخلافة كثيرًا وحكّم فيها النساء والخدم وفرّط في الأموال وعزل من الوزراء وولّى ممّا أوجب طمع أصحاب الأطراف والنوّاب وخروجهم عن الطاعة‏.‏

وكان جملة ما أخرجه من الأموال تبذيرًا وتضييعًا في غير وجه نيِّفًا وسبعين ألف ألف دينار سوى ما أنفقه في الوجوه الواجبة وإذا اعتبرت أحوال الخلافة في أيّامه وأيّام أخيه المكتفي ووالده المعتضد رأيت بينهم تفاوتًا بعيدًا وكانت مدّة خلافته أربعًا وعشرين سنة وأحد عشر شهرًا وستّة عشر يومًا وكان عمره ثمانيًا وثلاثين سنة ونحوًا من شهرين‏.‏

ذكر خلافة القاهر بالله

لّما قُتل المقتدر بالله عظم قتله على مؤنس وقال‏:‏ الرأي أن ننصِّب ولده أبا العبّاس أحمد في الخلافة فإنّه تربيتي وهو صبيّ عاقل وفيه دين وكرم ووفاء بما يقول فإذا جلس في الخلافة سمحت نفس جدّته والدة المقتدر وإخوته وغلمان أبيه ببذل الأموال ولم ينتطح في قتل المقتدر عنزان فاعترض عليه أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النُّوبختيُّ وقال‏:‏ بعد الكدّ والتعب استرحنا من خليفة له أمّ وخالة وخدم يدبّرونه فنعود إلى تلك الحال‏!‏ والله لا نرضى إلاّ برجل كامل يدبّر نفسه ويدبّرنا‏.‏

وما زال حتّى ردّ مؤنسًا عن رأيه وذكر له أبو منصور محمّد بن المعتضد فأجابه مؤنس إلى ذلك وكان النُّوبختيُّ في ذلك كالباحث عن حتفه بظلفه فإن القاهر قتله كما نذكره ‏{‏وَعَسَى أنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 216‏]‏‏.‏

وأمر مؤنس بإحضار محمّد بن المعتضد فبايعوه بالخلافة لليلَتين بقيتا من شوّال ولقّبوه القاهر بالله وكان مؤنس كارهًا لخلافته والبيعة له ويقول‏:‏ إنّني عارف بشرّه وسوء نيّته ولكن لا ولّما بويع استحْلفه مؤنس لنفسه ولحاجبه بُلَيق ولعلّي بن بليق وأخذوا خطّة بذلك واستقرّت الخلافة له وبايعه الناس واستوزر أبا عليّ بن مُقلة وكان بفارس فاستقدمه ووزَر له واستحجب القاهرُ عليَّ بن بُلَيق وتشاغل القاهر بالبحث عمّن استتر من أولاد المقتدر وحُرَمه وبمناظرة والدة المقتدر وكانت مريضة قد ابتدأ بها الاستسقاء وقد زاد مرضها بقتل ابنها ولّما سمعت أنّه بقي مكشوف العورة جزعت جزعًا شديدًا وامتنعت عن المأكول والمشروب حتّى كادت تهلك فوعظها النساء حتّى أكلت شيئًا يسيرًا من الخبز والملح‏.‏

ثمّ أحضرها القاهر عنده وسألها عن مالها فاعترفت له بما عندها من المَصُوغ والثياب ولم تعترف بشيء من المال والجوهر فضربها أشدّ ما يكون من الضرب وعلّقها برجلها وضرب المواضع الغامضة من بدنها فحلفت أنّها لا تملك غير ما أطلعته عليه وقالت‏:‏ لو كان عندي مال لما أسلمتُ ولدي للقتل ولم تعترف بشيء‏.‏

وصادر جميع حاشية المقتدر وأصحابه وأخرج القاهر والدة المقتدر لتُشهد على نفسها القضاة والعدول بأنّها قد حلّت أوقافها ووكّلت في بيعها فامتنعت عن ذلك وقالت‏:‏ قد أُوقفها على أبواب البرّ والقرب بمكّة والمدينة والثغور وعلى الضعفى والمساكين ولا أستحلّ حلّها ولا بيعها وإنّما أوكل على بيع أملاكي‏.‏

فلمّا علم القاهر بذلك أحضر القاضي والعدول وأشهدهم على نفسه أنّه قد حلّ وقوفها جميعها ووكّل في بيعها فبيع ذلك جميعه مع غيره واشتراه الجند من أرزاقهم وتقدّم القاهر بكبس الدور التي سُعي إليه أنّه اختفى فيها ولد المقتدر فلم يزل كذلك إلى أن وجدوا منهم أبا العبّاس الراضي وهارون وعليًّا والعبّاس وإبراهيم والفضل فحُملوا إلى دار الخليفة فصودروا على مالٍ كثير وسلّمهم عليُّ بن بُليق إلى كاتبه الحسن بن هارون فأحسن صحبتهم‏.‏

واستقرّ أبّو عليّ بن مقلة في الوزارة وعزل وولّى وقبض على جماعة من العمّال وقبض على بني البريدي وعزلهم عن أعمالهم وصادرهم‏.‏

ذكر وصول وشمكير إلى أخيه مرداويج

وفيها أرسل مرداويج إلى أخيه وشمكير وهو ببلاد جِيلان يستدعيه إليه وكان الرسول بن الجعد قال‏:‏ أرسلني مرداويج وأمرني بالتلطّف لإخراج أخيه وشمكير إليه فلمّا وصلتُ سألتُ عنه فدُللتُ عليه فإذا هو مع جماعة يزرعون الأرزّ فلمّا رأوني قصدوني وهم حفاة عراة عليهم سراويلات ملوّنة الخرق وأكيسة ممزقة فسلّمتُ عليه وأبلغتهُ رسالة أخيه وأعلمتُه بما ملك من البلاد والأموال وغرها فضرط بفمه في لحية أخيه وقال‏:‏ إنّه لبس السواد وخدم فلم أزل أمنّيه وأطمعه حتّى خرج معي فلمّا بلغنا قَزوين اجتهدتُ به ليلبس السواد فامتنع ثمّ لبس بَعد الجهد‏.‏

قال‏:‏ فرأيتُ من جهله أشياء أستحيي من ذكرها ثمّ أعطته السعادة ما كان له في الغيب فصار من أعرف الملوك بتدبير الممالك وسياسة الرعايا‏.‏

ذكر عدّة حوادث

فيها توفّي القاضي أبو عمر محمّد بن يوسف بن يعقوب بن إسماعيل ابن حمّاد بن زيد وكان عالمًا فاضلًا حليمًا وأبو عليّ الحسين بن صالح ابن خيران الفقيه الشافعيُّ وكان عابدًا ورِعًا أُريد على القضاة فلم يفعل‏.‏

وفيها توفّي أبو نعيم عبد الملك بن محمّد بن عديّ الفقيه الشافعيُّ الجرجانيُّ المعروف بالأسْتراباذيّ‏.‏

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة

ذكر حال عبد الواحد بن المقتدر ومن معه


قد ذكرنا هرب عبد الواحد بن المقتدر وهارون بن غريب ومفلح ومحمّد بن ياقوت وابني رائق بعد قتل المقتدر إلى المدائن ثمّ إنّهم انحدروا منها إلى واسط وأقاموا بها وخافهم الناس فابتدأ هارون بن غريب وكتب إلى بغداد يطلب الأمان ويبذل مصادرة ثلاثمائة ألف دينار على أن يطلق له أملاكه وينزل عن الأملاك التي استأجرها ويؤدّي من أملاكه حقوق بيت المال القديمة فأجابه القاهر ومؤنس إلى ذلك وكتبا له كتاب أمان وقُلّد أعمال ماه الكوفة وماسَبَذان ومهرجان قذَق وسار إلى بغداد‏.‏

وخرج عبد الواحد بن المقتدر من واسط فيمن بقي معه ومضوا إلى السُّوس وسوق الأهواعز وجبوا المال وطردوا العمّال وأقاموا بالأهواز فجهّز مؤنس إليهم جيشًا كثيفًا وجعل عليهم بُليقًا‏.‏

وكان الذي حرّضهم على إنفاذ الجيش أبو عبدالله البرِيديُّ فإنّه كان قد خرج من الحبس فخوّفهم عاقبةَ إهمال عبد الواحد ومَن معه وبذلل مساعدة معجّلة خمسية ألفَ دينار على أن يتولّى الأهواز وعند استقراره بتلك البلاد يعجّل باقي المال وأمر مؤنس بالتجهّز وأنفق ذلك المال وسار العسكر وفيهم أبو عبد الله‏.‏

وكان محمّد بن ياقوت قد استبدّ بالأموال والأمر فنفرت لذلك قلوب مَن معه من القوّاد والجند فلمّا قرب العسكر من واسط أظهر مَن معه من القوّاد ما في نفوسهم وفارقوه ولّما وصل بُليق إلى السُّوس فارق عبدُ الواحد ومحمّد بن ياقوت الأهواز وسارا إلى تُستَر فعمل القراريطيُّ وكان مع العسكر فأهل الأهواز ما لم يفعله أحد‏:‏ نهب أموالهم وصادرهم جميعهم ولم يسلم منهم أحد‏.‏

ونزل عبد الواحد وابن ياقوت بتُستر وفارقهما من معهما من القوّاد إلى بُلّيق بأمان وبقي مفلح وسرور الخادم مع عبد الواحد فقالا لمحمّد بن ياقوت‏:‏ أنت معتصم بهذه المدينة وبمالك ورجالك ونحن فلا مال معنا ولا رجال ومقامنا معك يضرّك ولا ينفعك وقد عزمنا على أخذ الأمان لنا ولعبد الواحد بن المقتدر فأذن لهما في ذلك فكتبا إلى بليق فأمّنهم فعبروا إليه وبقي محمّد بن ياقوت منفردًا فضعفت نفسه وتحيّر فتراسل هو وبُليق واستقرّ بينهما أنّه يخرج إلى بُلَيق على شرط أنّه يؤمِّنه ويضمن له أمان مؤنس والقاهر ففعل ذلك وحلف له وخرج محمّد بن ياقوت معه إلى بغداد واستولى أبو عبدالله البريديُّ على البلاد وعسف أهلها وأخذ أموال التجار وعمل بأهل البلاد ما لا يعلمه الفرنج ولم يمنعه أحد عمّا يريد ولم يكن عنده من الدين ما يزعه عن ذلك وعاد إخوته إلى أعمالهم ولّما عاد عبد الواحد ومحمّد بن ياقوت وفي لهم القاهر وأطلق لعبد الواحد أملاكه وترك لوالدته المصادرة التي صادرها بها‏.‏

في هذه السنة استوحش مؤنس المظفَّر وبُليق الحاجب وولده عليّ والوزير أبو عليّ بن مقلة من القاهر وضيّقوا عليه وعلى أسبابه‏.‏

وكان سبب ذلك أنّ محمّد بن ياقوت تقدّم عند القاهر وعلت منزلته وصار يخلو به ويشاورهن فغلظ ذلك على ابن مقلة لعداوة كانت بينه وبين محمّد فألقى إلى مؤنس أنّ محمّدًا يسعى به عند القاهر وأنّ عيسى الطبيب يسفر بينهما في التدبر عليه فوجّه مؤنس عليَّ بن بُليق لإحضار عيسى الطبيب فوجده بين يدي القاهر فأخذه وأحضره عند مؤنس فسيّره من ساعته إلى الموصل واجتمعوا على الإيقاع بمحمّد بن ياقوت وكان في الخيام فركب عليُّ بن بُليق في جنده ليكبسه فوجده قد اختفى فنهب أصحابه واستتر محمّد بن ياقوت‏.‏

ووكّل عليُّ بن بُليق على دار الخليفة أحمدَ بن زيرك وأمرهُ بالتضييق على القاهر وتفتيش كلّ من يدخل الدار ويخرج منها وأن يكشف وجوه النساء المنقّبات وإن وجد مع أحد رقعة دفعها إلى مؤنس ففعل ذلك وزاد عليه حتّى إنّه حُمل إلى دار الخليفة لبَن فأدخل يدَه فيه لئلاّ يكون فيه رقعة ونقل بُليق من كان بدار القاهر محبوسًا إلى داره كوالدة المقتدر وغيرها وقطع أرزاق حاشيته‏.‏

فأمّا والدة المقتدر فإنّها كانت قد اشتدّت علّتها لشدّة الضرب الذي ضربها القاهر فأكرمها عليُّ بن بُليق وتركها عند والدته فماتت في جمادى الآخرة وكانت مكرّمة مرفّهة ودُفنت بتربتها بالرُّصافة‏.‏

وضيّق عليُّ بن بُليق على القاهر فعلم لقاهر أنّ العتاب لا يفيد وأن ذلك بأري مؤنس وابن مقلة فأخذ في الحيلة والتدبير على جماعتهم‏.‏

وكان قد عرف فساد قلب طريق السبكريّ وبشرى خادم مؤنس لبليق وولده عليّ وحسدهما على مراتبهما فشرع في أغرائهما ببليق وابنه‏.‏

وعلم أيضًا أنّ مؤنسًا وبُليقًا أكثر اعتمادهما على الساجيّة أصحاب يوسف بن أبي الساج وغلمانه المنتقلين إليهما بعده وكانا قد وعدا الساجيّة بالموصل مواعيد أخلفاها فأرسل القاهر إليهم يغريهم بمؤنس وبُليق ويحلف لهم على الوفاء بما أخلفاهم فتغيّرت قلوب الساجيّة ثمّ إنّه راسل أبا جعفر محمّد بن القاسم بن عُبيد الله وكان من أصحاب ابن مقلة وصاحب مشورته ووعده الوزارة فكان يطالعه بالأخبار وبلغ ابن مقلة أنّ القاهر قد تغيّر عليه وأنّه مجتهد في التدبير عليه وعلى مؤنس وبليق وابنه عليّ والحسن ابن هارون فأخبرهم ابن مقلة بذلك‏.‏

ذكر القبض على مؤنس وبُليق

وسبب ذلك أنّه لّما ذكر ابن مقلة لمؤنس وبُليق ما هو عليه القاهر من التدبير في استئصالهم خافوه وحملهم الخوف على الجدّ في خلعه واتّفق رأيهم على استخلاف أبي أحمد بن المكتفي وعقدوا له الأمر سرًّا وحلف له بُليق وابنه عليٌّ والوزير أبو عليّ بن مقلة والحسن بن هارون وبايعوه ثمّ كشفوا الأمر لمؤنس فقال لهم‏:‏ لستُ أشكّ في شرّ القاهر وخبثه ولقد كنتُ كارهًا لخلافته وأشرتُ بابن المقتدر فخالفتم وقد بالغتم الآن في الاستهانة به وما صبر على الهوان إلاّ من خبث طويّته ليدبّر عليكم فلا تعجلوا على أمر حتّى تؤنسوه وينبسط إليكم ثم فتّشوا لتعرفوا من مواطأة من القوّاد ومن الساجيّة والحجريّة ثم اعملوا على ذلك فقال عليُّ بن بُليق والحسن بن هارون‏:‏ ما يحتاج إلى هذا التطويل فإنّ الحجبة لنا والدار في أيدينا وما يحتاج أن نستعين في القبض عليه بأحدٍ لأنّه بمنزلة طائر في قفص‏.‏

وعملوا على معاجلته فاتّفق أن سقط بُليق من الدابّة فاعتلّ ولزم منزله واتّفق ابنه علٌّيُّ وأبو عليّ بن مقلة وزيّنا لمؤنس خلع القاهر هوّنا عليه الأمر فأذن لهما فاتّفق رأيهما على أن يُظهروا أنّ أبا طاهر القرمطيّ قد ورد الكوفة في خلق كثير وأنّ عليَّ بن بُليق سائر إليه في الجيش ليمنعه عن بغداد فإذا دخل على القاهر ليودّعه ويأخذ أمره فيما يفعل قبض عليه‏.‏

فلمّا اتّفقا على ذلك جلس ابن مقلة وعنده الناس فقال لأبي بكر ابن قرابة‏:‏ أعلمتَ أنّ القُرمُطيَّ قد دخل الكوفة في ستّة آلاف مقاتل بالسلاح التامّ قال‏:‏ لا‏!‏ قال ابن مقلة‏:‏ قد وصلَنا كتب النوّاب بها بذلك فقال ابن قرابة‏:‏ هذا كذب ومُحال فإنّ في جوارنا إنسانًا من الكوفة وقد أتاه اليوم كتاب على جَناح طائر تاريخه اليوم يخبر فيه بسلامته فقال له ابن مقلة‏:‏ سبحان الله أنتم أعرف منّا بالأخبار فسكت ابن قرابة وكتب ابن مقلة إلى الخليفة يعرّفه ذلك ويقول له‏:‏ إنّي قد جهّزت جيشًا مع عليّ بن بُليق ليسير يومنا هذا والعصرَ يحضر إلى الخدمة ليأمره مولانا بما يراه فكتب القاهر في جوابه يشكره ويأذن له في حضور ابن بُليق فجاءت رقعة القاهر وابن مقلة نائم فتركوها ولم يوصلوها إليه فلمّا استيقظ عاد وكتب رقعة أخرى في المعنى فأنكر القاهر الحال حيث قد كتب جوابه وخاف أن يكون هناك مكرٌ‏.‏

وهو في هذا إذ وصلت رقعة طريق السبكريّ يذكر أنّ عنده نصيحة وأنّه قد حضر في زيّ إمرأة لينهيها إليه فاجتمع به القاهر فذكر له جميع ما قد عزموا عليه وما فعلوه من التدبير ليقبض ابن بليق عليه إذا اجتمع به وأنّهم قد بايعوا أبا أحمد بن المكتفي فلمّا سمع القاهر ذلك أخذ حذره وأنفذ إلى الساجيّة فأحضرهم متفرّقين وكمّنهم في الدهاليز والممرّات والرواقات وحضر عليُّ بن بُليق بعد العصر وفي رأسه نبيذ ومعه عدد يسير من غلمانه بسلاح خفيف في طيارة وأمر جماعة من عسكره بالركوب إلى أبواب دار الخليفة وصعد من الطيارة وطلب وكان القاهر قد أحضر الساجيّة كما ذكرنا وهم عنده في الدار فأمرهم القاهر بردّه فخرجوا إليه وشتموه وشتموا أباه وشهروا سلاحهم وتقدّموا إليه جميعهم ففرّ أصحابه عنه وألقى نفسه في الطيارة وعبر إلى الجانب الغربيّ واختفى من ساعته فبلغ ابن مقلة الخبر فاستتر واستتر الحسن بن هارون أيضًا‏.‏

فلمّا سمع طريق الخبر ركب في أصحابه وعليهم السلاح وحضروا دار الخليفة ووقف القاهر فعظم الأمر حينئذٍ على ابن بُليق وجماعتهم وأنكر بُليق ما جرى على ابنه وسبّ الساجيّة وقال‏:‏ لا بدّ من المضي إلى دار الخليفة فإن كان الساجيّة فعلوا هذا بغير تقدُّم قابلتُهم بما يستحقّونه وإن كان بتقدم سألته عن سبب ذلك‏.‏

فحضر دار الخليفة ومعه جميع القوّاد الذين بدار مؤنس فلم يوصله القاهر إليه وأمر بالقبض عليه وحبسه وأمر بالقبض على أحمد بن زيرك صاحب الشُّرطة وحصل الجيش كلّهم في الدار فأنقذ القاهر وطيّب نفوسهم ووعدهم الزيادة وأنّه يوقف هؤلاء على ذنوبهم ثمّ يطلقهم ويحسن إليهم فعادوا وراسل القاهر مؤنسًا يسأله الحضور عنده ليعرض عليه ما رفع عليهم ليفعل ما يراه وقال‏:‏ إنّه عندي بمنزلة الوالد وما أُحبُّ أن أعمل شيئًا إلاّ عن رأيه فاعتذر مؤنس عن الحركة ونهاه أصحابه عن الحضور عنده‏.‏

فلمّا كان الغد أحضر القاهر طريفًا السبكريَّ وناوله خاتمه وقال له‏:‏ قد فوّضتُ إلى ولدي عبد الصمد ما كان المقتدر فوّضه إلى ابنه محمّد وقلّدتُك خلافته ورئاسة الجيش وإمارة الأمراء وبيوت الأموال كما كان ذلك إلى مؤنس ويجب أن تمضي إليه وتحمله إلى الدار فإنّه ما دام في منزله يجتمع إليه من يريد الشرّ ولا نأمن تولُّد شغل فيكون ها هنا مرفهًا ومعه من أصحابه من يخدمه على عادته‏.‏

فمضى إلى دار مؤنس وعنده أصحابه في السلاح وهو قد استولى عليه الكبر والضعف فسأله أصحاب مؤنس عن الحال فذكر سوء صنيع بُليق وابنه فكلّهم سبّهما وعرّفهم ما أخذ لهم من الأمان والعهود فسكتوا ودخل إلى مؤنس وأشار عليه بالحضور عند القاهر وحمله عليه وقال له‏:‏ إنّ تأخّرت طمع ولو رآك نائمًا ما تجاسر أن يوقظك وكان موافقًا على مؤنس وأصحابه لما نذكره فسار مؤنس إليه فلمّا دخل الدار قبض القاهر عليه وحبسه ولم يره‏.‏

قال طريف‏:‏ لّما أعلمتُ القاهر بمجيء مؤنس ارتعد وتغيّرتْ أحواله وزحف من صدر فراشه فخفتُه أن أكلّمه في معناه وعلمتُ أنّني قد أخطأتُ وندمتُ وتيقّنتُ أنّني لاحق بالقوم عن قريب وذكرتُ قول مؤنس فيه إنّه يعرفه بالهوج والشرّ ولإقدام والجهل وكان أمر الله مقدورًا وكانت وزارة ابن مقلة هذه تسعة أشهر وثلاثة أيّام‏.‏

واستوزر القاهر أبا جعفر محمّد بن القاسم بن عبيدالله مستهلّ شعبان وخلع عليه وأنفذ القاهر وختم على دور مؤنس وبُليق وابنه عليّ وابن مقلة وأحمد بن زيرك والحسن بن هارون ونقل دوابّهم ووكّل بحرمهم وأنفذ فاستقدم عيسى المتطّبب من الموصل وأمر بنقل ما في دار ابن مقلة وإحراقها فنُهبت وأُحرقت ونُهبت دور المتعلّقين بهم وظهر محمّد ابن ياقوت وقام بالحجبة ثمّ رأى كراهية طريق السبكريّ والساجيّة له فاختفى وهرب إلى أبيه بفارس فكاتبه القاهر يلومه على عجلته بالهرب وقلّده كور الأهواز‏.‏

وكان السبب في ميل طريف السبكريّ والساجيّة والحجريّة إلى القاهر ومواطأتهم على مؤنس وبُليق وابنه ما نذكره وهو أن طريفًا كان قد أخذ قوّاد مؤنس وأعلاهم منزلة وكان بُليق وابنه ممّن يقبّل يده ويخدمه فلمّا استخلف القاهر بالله تقدّم بُليق وابنه وحكما في الدولة كما ذكرناه وأهمل ابن بُليق جانب طريف وقصده وعطله من أكثر أعماله فلمّا طالت عُطلته استحيا منه بُليق وخاف جانبه فعزم على استعماله على ديار مصر ليقضي حقّه ويبعده ومعه أعيان رفقائه ليأمنهم وقال ذلك للوزير أبي عليّ بن مقلة فرآه صوابًا فاعتذر بُليق إلى طريق لسبب عُطلته وأعلمه بحديث مصر فشكره وشكر الوزير أيضًا فمنع عليَّ بن بُليق من إتمامه وتولّيى هو العمل وأرسل إليه من يخلفه فيه فصار طريف عدوًّا يتربّص بهم الدوائر‏.‏

وأمّا الساجيّة فإنّهم كانوا عُدّة مؤنس وعضده وساروا معه إلى الموصل وعادوا معه إلى قتال المقتدر ووعدهم مؤنس المظفَّر بالزيادة فلمّا قُتل المقتدر لم يروا لميعاده وفاء ثناه عنه ابن بُليق وطرّحهم ابن بُليق أيضًا وأعرض عنهم‏.‏

وكان من جملتهم خادم أسود اسمه صندل وكان من أعيانهم وكان له خادم اسمه مؤتَمَن فباعه فاتّصل بالقاهر قبل خلافته فلمّا استخلف قدّمه وجعله لرسائله فلمّا بُلي القاهر بابن بُليق وسوء معاملته كان كالغريق يتمسّك بكلّ شيء وكان خبيرًا بالدهاء والمكر فأمر مؤتمنًا أن يقصد صَندلًا الساجيَّ الذي باعه ويشكو من القاهر فإن رأى منه ردًّا لما يقوله أعلمه بحال القاهر وما يقاسي من ابن بُليق وابنه وإن رأى منه خلاف ذلك سكت فجاء إليه وفعل ما أمره‏.‏

فلمّا شكا قال له صندل‏:‏ وفي أيّ شيء هو الخليفة حتّى يعطيك ويوسّع عليك إن فرّج الله عنه من هذا المفسد احتجتُ أنا وغيري إليك ولله عليّ صوم وصدقة أن ملك الخليفة أمره واستراح وأراحنا من هذا الملعون فأعاد المؤتمن الحديث على القاهر فأرسل على يده هدية جميلة من طيب وغيره إلى زوجة صندل وقال له‏:‏ تحمله إليها وزوجها غائب عنها وتقول لها‏:‏ إنّ الخليفة قسم فينا شيئًا وهذا من نصيبي أهديتُه إليكم ففعل هذا فقبلته ثمّ عاد إليها من الغد وقال‏:‏ أيّ شيء قال صندل لّما رأى انبساطي عليكم فقالت‏:‏ اجتمع هو وفلان وفلان وذكرتْ ستّة نفر من أعيانهم ورأوا ما أهديتَ إلينا فاستعملوا منه ودعوا للخليفة‏.‏

فبينما هو عندها إذ حضر زوجها فشكر مؤتمنًا وسأله عن أحوال الخليفة فأثنى عليه ووصفه بالكرم وحُسن الأخلاق وصلابته في الدين فقال صندل إنّ ابن بليق نسبَه إلى قلّة الدين ويرميه بأشياء قبيحة فحلف مؤتمن على بُطلان ذلكن وأن جميعه كذبٌ‏.‏

ثمّ أمر القاهر مؤتّمنًا أن يقصد زوجة صندل ويستدعيها إلى قهرمانة القاهر فتحضر متنكرة على أنّها قابلة يأنس بها مَن عند القاهر لّما كانوا بدار ابن طاهر وقد حضرت لحاجة بعض أهل الدار إليها ففعلت ذلك ودخلت الدار وباتت عندهم فحملها القاهر رسالة إلى زوجها ورفقائه وكتب إليهم رقعة بخطّة يعدهم بالزيادة في الإقطاع والجاري وأعطاها لنفسها مالًا فعادت إلى زوجها وأخبرته بما كان جميعه فوصل الخبر إلى ابن بُليق أنّ امرأة من دار ابن طاهر دخلت إلى دار الخليفة فلهذا منع ابن بُليق من دخول امرأة حتّى تُبصَر وتُعرف‏.‏

وكان للساجيّة قائد كبير اسمه سيما وكلّهم يرجعون إلى قوله فاتّفق صندل ومَن معه على إعلام سيما بذلك إذ لا بدّ لهم منه وأعلموه برسالة القاهر إليهم فقال‏:‏ هذا صواب والعاقبة فيه جميلة ولكن لا بدّ من أن يُدخلوا في الأمر بعض هؤلاء القوم يعني أصحاب بُليق ومؤنس وليكن من أكابرهم فاتّفقوا على طريق السبكريّ وقالوا‏:‏ هو أيضًا متسخّط فحضروا عنده وشكوا إليه ما هم فيه وقالوا‏:‏ لو كان الأستاذ يعنون مؤنسًا يملك أمره لبلغنا مرادنا ولكن قد عجز وضعف واستبدّ عليه ابن بُليق بالأمور فوجدوا عنده من كراهتهم أضعاف ما أرادوا فأعلموه حينئذ حالهم فأجابهم إلى موافقتهم واستحلفهم أنّه لا يلحق مؤنسًا وبُليقًا وابنه مكروه وأذى في أنفسهم وأبدانهم وأموالهم وإنّما يلزم بُليق وابنه بيوتهم ويكون مؤنس على مرتبته لا يتغيّر فحلفوا على ذلك وحلف لهم على الموافقة وطلب خطّ القاهر بما طلب فأرسلوا إلى القاهر بما كان فكتب إليهم بما أرادوا وزاد بأن قال‏:‏ إنّه يصلّي بالناس ويخطب أيّام الجمع ويحجّ بهم ويغزو معهم ويقعد للناس ويكشف مظالمهم إلى غير ذلك من حُسن السيرة‏.‏

ثم إنّ طريفًا اجتمع بجماعة من رؤساء الحجريّة وكان ابن بُليق قد أبعدهم عن الدار وأقام بها أصحابه فهم حنقون عليه فلمّا أعلمهم طريف الأمر أجابوه إليه فظهر شيء من هذا الحديث إلى ابن مقلة وابن بليق ولم يعلموا تفصيله فاتّفقوا على أن يقبضوا على جماعة من قوّاد الساجيّة والحجريّة فلم يقدموا عليهم خوف الفتنة‏.‏

وكان القاهر قد أظهر مرضًا من دماميل وغيرها فاحتجب عن الناس خوفًا منهم فلم يكن يراه أحدٌ إلاّ خواصّ خدمه من الأوقات النادرة فتعذّر على ابن مقلة وابن بليق الاجتماع به ليبلغوا منه ما يريدون فوضعا ما ذكرناه من أخبار القرامطة ليظهروا لهم ويفعلوا به ما أرادوا ولّما قبض القاهر على مؤنس وجماعته استعمل القاهرّ على الحجَبة سلامة الطولونيَّ وعلى الشُّرطة أبا العبّاس أحمد بن خاقن واستوزر أبا جعفر محمّد بن القاسم ابن عبيدالله وأمر بالنداء على المستترين وأباحة مال من أخفاهم وهدْم داره وجدّ في طلب أحمد بن المكتفي فظفر به فبنى عليه حائطًا وهو حيّ فمات وظفر بعليّ بن بليق فقتله‏.‏

ذكر قتل مؤنس وبُليق وولده عليّ والنوبختيّ

وفيها في شعبان قتل القاهر مؤنسًا المظفَّر وبُليقًا وعليَّ بن بُليق‏.‏

وكان سبب قتلهم أنّ أصحاب مؤنس شغبوا وثاروا وتبعهم سائر الجند وأحرقوا روشَن دار الوزير أبي جعفر ونادوا بشعار مؤنس وقالوا‏:‏ لا نرضى إلاّ بإطلاق مؤنس‏.‏

وكان القاهر قد ظفر بعليّ بن بليق وأفرد كلّ واحد منهم في منزل فلمّا شغب الجند دخل القاهر إلى عليّ بن بليق فأمر به فذُبح واحتُزّ رأسه فوضعوه في طشت ثم مضى القاهر والطشت يُحمَل بين يديه حتّى دخل على بليق فوضع الطشت بين يديه وفيه رأسه ابنه فلمّا رآه بكى وأخذه يقبّله ويترشفه فأمر به القاهر فذُبح أيضًا وجُعل رأسه في طشت وحُمل بين يدي القاهر ومضى حتّى دخل على مؤنس فوضعهما بين يديه فلمّا رأى الرأسَيْن تشهَّد واسترجع ولعن قاتلهما فقال القاهر‏:‏ جُرّوا برجل الكلب الملعون‏!‏ فجرّوه وذبحوه وجعلوا رأسه في طشت وأمر فطيفَ بالرؤوس في جانبَيْ بغداد ونودي عليها‏:‏ هذا جزاء من يخون الإمام ويسعى في فساد دولته ثم أُعيدت ونُظِّفت وجُعلت في خزانة الرؤوس كما جرت العادة‏.‏

وقيل إنّه قتل يُليقًا وابنه مستخفٍ ثمّ ظفر بابنه بعد ذلك فأمر به فضُرب فأقبل ابن بُليق على القاهر وسبّه أقبح سبّ وأعظم شتم فأمر به القاهر فقُتل وطيف برأسه في جانبَيْ بغداد ثمّ أرسل إلى ابن يعقوب النّوبختيّ وهو في مجلس وزيره محمّد بن القاسم فأخذه وحبسه ورأى الناس من شدّة القاهر ما علموا معه أنّهم لا يسلمون من يده وندم كلّ من أعانه من سُبُك والساجيّة والحجريّة حيث لم ينفعهم الندم‏.‏

ذكر وزارة محمّد بن القاسم للخليفة وعزله ووزارة الخصيبيّ

لّما قبض القاهر بالله على مؤنس وبُليق وابنه سأل عمّن يصلح للوزارة فدُل على أبي جعفر محمّد بن القاسم بن عبيدالله فاستوزره فبقي وزيرًا إلى يوم الثلاثاء ثالث عشر ذي القعدة من السنة فأرسل القاهر فقبض عليه وعلى أولاده وعلى أخيه عبيدالله وحُرَمه وكان مريضًا بقُولَنْج فبقي محبوسًا ثمانية عشر يومًا ومات فحُمل إلى منزله وأطلق أولاده واستوزر أبا العبّاس أحمد بن عبيدالله بن سليمان الخصيبيّ وكانت وزارة أبي جعفر ثلاثة أشهر واثني عشر يومًا‏.‏

ذكر القبض على طريف السبكريّ

لّما تمكّن القاهر وقبض على مؤنس وأصحابه وقتلهم ولم يقف على اليمين والأمان اللذين كتبهما لطريف وكان القاهر يُسمع طريفًا ما يكره ويستخفّ به ويعرض له بالأذى فلمّا رأى ذلك خافه وتيقّن القبض عليه والقتل فوصَّى وفرغ من جميع ما يريده‏.‏

واشتغل القاهر عنه بقبض مَن قبض عليه من وزير وغيره ثم أحضره بعد أن قبض على وزيره أبي جعفر فقبض عليه فتيقّن القتل أُسوةً بمن قتل من أصحابه ورفقائه فبقي محبوسًا يتوقّع القتل صباحًا ومساء إلى أن خُلع القاهر‏.‏

في هذه السنة سار مرداويج من الرَّيّ إلى جُرجان وبها أبو بكر محمّد ابن المظفَّر مريضًا فلمّا قصده مرداويج عاد إلى نَيسابور وكان السعيد نصر بن أحمد بنَيسابور فلمّا بلغها محمّد بن المظفّر سار السعيد نحو جُرجان وكاتب محمّدُ بن عبيدالله البلغميُّ مطرفَ بن محمّد وزير مرداويج واستماله فمال إليه فانتهى الخبر بذلك إلى مرداويج فقبض على مطرف وقتله‏.‏

وأرسل محمّدُ بن عبيدالله البلغميُّ إلى مرداويج يقول له‏:‏ أنا أعلم أنّك لا تستحسن كفر ما يفعله معك الأمير السعيد وأنّك أنّما حملك على قصد جُرجان وزيرك مطرفٌ ليرى أهلُها محلّه منك كما فعله أحمد بن أبي ربيعة كاتب عمرو بن الليث حمل عَمرًا على قصد بلْخْ ليشاهد أهلها منزلته من عمرو فكان منه ما بلغك وأنا لا أرى لك مناصبة ملكٍ يطيف به مائة ألف رجل من غلمانه ومواليه وموالي أبيه والصواب أنّك تترك جُرجان له وتبذل عن الريّ مالًا تصالحه عليه ففعل مرداويج ذلك وعاد من جُرجان وبذل عن الريّ مالًا وعاد إليها وصالحه السعيد عليها‏.‏    ‏ ‏  ‏  ‏   ‏ ‏ ‏