المجلد السابع - ذكر ولاية محمد بن المظفر على خراسان

ولّما فرغ السعيد من أمر جُرجان وأحكمه استعمل أبا بكر محمّد ابن المظفَّر بن محتاج على جيوش خراسان وردّ إليه تدبير الأمور بنواحي خراسان جميعها وعاد إلى بخارى مقرّ عزّه وكرسيّ ملكه‏.‏

وكان سبب تقدُّم محمّد بن المظفَّر أنّه كان يومًا عند السعيد وهو يحادثه في بعض مهمّاته خاليًا فلسعته عقرب في إحدى رجليه عدّة لسعات فلم يتحرّك ولم يظهر عليه أثر ذلك فلمّا فرغ من حديثه وعاد محمّد إلى منزله نزع خفّه فرأى العقرب فأخذها‏.‏

فانتهى خبر ذلك إلى السعيد فأُعجب به وقال‏:‏ ما عجبتُ إلاّ من فراغ بالك لتدبير ما قلتُه لك فهلاّ قمتَ وأزلتَها‏!‏ فقال‏:‏ ما كنت لأقطعَ حديث الأمير بسبب عقرب وإذا لم أصبر بين يديك على لسعة عقرب فكيف أصبر وأنا بعيد منك على حدّ سيوف أعداء دولتك إذا دفعتهم عن مملكتك فعظم محلّه عنده وأعطاه مائتَيْ ألف درهم‏.‏

ذكر ابتداء دولة بني بُوَيْه

وهم عماد الدولة أبو الحسن عليّ وركن الدولة أبو عليّ الحسن ومعزّ الدولة أبو الحسن أحمد أولاد أبي شجاع بُوَيه بن فنّاخَسرو بن تمام بن كوهي بن شيرزيل الأصغر بن شير كنده بن شيرزيل الأكبر بن شيران شاه ابن شيرويه بن سشتان شاه بن سيس فيروز بن شيروزيل بن سنباد ابن بهرام جول الملك ابن يزدجرد الملك ابن هُرمُز الملك ابن شابور الملك ابن شابور ذي الأكتاف وباقي النسب قد تقدّم في أوّل الكتاب عند ذكر ملوك الفرس هكذا ساق نسبهم الأمير أبو نصر بن ماكولا رحمه الله‏.‏

وأمّا ابن مِسكويه فإنه قال إنّهم يزعمون أنّهم من ولد يزدجُرد بن شَهريَار آخر ملوك الفرس إلاّ أنّ النفس أكثر ثقة بنقل ابن ماكولا لأنّه الإمام العالم بهذه الأمور وهذا نسب عريق في الفرس ولا شكّ أنّهم نُسبوا إلى الديلم حيث طال مقامهم ببلادهم‏.‏وأمّا ابتداء أمرهم فإنّ والدهم أبا شجاع بُوَيه كان متوسّط الحال فماتت زوجته وخلّفت له ثلاثة بنين وقد تقدّم ذكرهم فلمّا ماتت اشتدّ حزنه عليها فحكى شهريار بن رستم الديلميّ قال‏:‏ كنتُ صديقًا لأبي شجاع بويه فدخلتُ إليه يومًا فعذلتُه على كثرة حزنه وقلتُ له‏:‏ أنت رجل يحتمل الحزن وهؤلاء المساكين أولادك يهلكهم الحزن وربّما مات أحدهم فيجدّد ذلك من الأحزان ما ينسيك المرأة وسلّيتُه بجهدي وأخذتُه ففرّجته وأدخلتُه ومعه أولاده إلى منزلي ليأكلوا طعامًا وشغلتُه عن حزنه‏.‏

فبينما هم كذلك اجتاز بنا رجل يقول عن نفسه‏:‏ أنّه منجّم ومعزّم ومعبّر للمنَامات ويكتب الرُّقى والطلّسمات وغير ذلك فأحضره أبو شجاع وقال له‏:‏ رأيتُ في منامي كأنّني أبول فخرج من ذكري نار عظيمة استطالت وعلت حتّى كادت تبلغ السماء ثم انفجرت فصارت ثلاث شعب وتولّد من تلك الشعب عدّة شعب فأضاءت الدنيا بتلك النيران ورأيت البلاد والعباد خاضعين لتلك النيران‏.‏

فقال المنجّم‏:‏ هذا مَنام عظيم لا أفسّره إلاّ بخلعة وفرس ومركب فقال أبو شجاع‏:‏ والله ما أملك إلاّ الثياب التي على جسدي فإن أخذتَها بقيتُ عريانًا قال المنجّم‏:‏ بعشرة دنانير قال‏:‏ والله ما أملك دينارًا فكيف عشرة‏!‏ فأعطاه شيئًا فقال المنجّم‏:‏ اعلم أنّه يكون لك ثلاثة أولاد يملكون الأرض ومَن عليها ويعلو ذكرهم في الآفاق كما علت تلك النار ويولد لهم جماعة ملوك بقدر ما رأيتَ من تلك الشعب‏.‏

فقال أبو شجاع‏:‏ أما تستحي تسخر منّا أنا رجل فقير وأولادي هؤلاء فقراء مساكين كيف يصيرون ملوكًا فقال المنجّم‏:‏ أخبرني بوقت ميلادهم فأخبره فجعل يحسب ثم قبض على يد أبي الحسن عليّ فقبّلها وقال‏:‏ هذا والله الذي يملك البلاد ثم هذا من بعده وقبض على يد أخيه أبي عليّ الحسن فاغتاظ منه أبو شجاع وقال لأولاده‏:‏ إصفعوا هذا الحكيم فقد أفرط في السخرية بنا ‏!‏ فصفعوه وهو يستغيث ونحن نضحك منه ثم أمسكوا فقال لهم‏:‏ اذكروا لي هذا إذا ثم خرج من بلاد الديلم جماعة تقدّم ذكرهم ليملك البلاد منهم ما كان بن كالي وليلى بن النُّعمان وأسفار بن شيرويه ومرداويج بن زيار وخرج مع كلّ واحد منهم خلق كثير من الدَّيلم وخرج أولاد أبي شجاع في جملة من خرج وكانوا من جملة قوّاد ما كان بن كالي فلمّا كان من أمر كان ما ذكرناه من الإتفاق ثم الإختلاف بعد قتل أسفار واستيلاء مرداويج على ما كان بيد ما كان من طَبَرِستان وجُرجان وعود ما كان مرّة أخرى إلى جُرجان والدامغان وعوده إلى نَيسابور مهزومًا‏.‏

فلمّا رأى أولاد بُويه ضعفه وعجزه قال له عماد الدولة وركن الدولة‏:‏ نحن في جماعة وقد صرنا ثقلًا عليك وعيالًا وأنت مضيق والأصلح لك أن نفارقك لنخفّف عنك مؤونتنا فإذا صلح أمرنا عُدنا إليك فأذن لهما فسارا إلى مرداويج واقتدى بهما جماعة من قوّاده ما كان وتبعوهما فلمّا صاروا إليه قبلهم أحسن قبول وخلع على ابني بويه وأكرمهما وقلّد كلّد واحد من قوّاد ما كان الواصلين إليه ناحية من نواحي الجبل فأمّا عليُّ بن بويه فإنّه قلّده كَرَج‏.‏

ذكر سبب تقدُّم عليّ بن بويه

كان السبب في ارتفاع عليّ بن بويه من بينهم بعد الأقدار أنّه كان سَمحًا حليمًا شجاعًا فلمّا قلّده مرداويج كَرَج وقلّد جماعة القوّاد المستأمنة معه الأعمال وكتب لهم العهود ساروا إلى الريّ وبها وشمكير بن زيار أخو مرداويج ومعه الحسين بن محمّد الملقّب بالعميد وهو والد أبي الفضل الذي وزر لركن الدولة بن بويه وكان العميد يومئذ وزير مرداويج‏.‏

وكان مع عماد الدولة بغلة شهباء من أحسن ما يكون فعرضها للبيع فبلغ ثمنها مائتَيْ دينار فعُرضت على العميد فأخذها وأنفذ ثمنها فلمّا حمل الثمن إلى عماد الدولة أخذ منه عشرة دنانير وردّ الباقي وجعل معه هدية جميلة‏.‏

ثم أنّ مرداويج ندم على ما فعل من تولية أولئك القوّاد البلاد فكتب إلى أخيه وشمكر وإلى العميد يأمرهما بمنعهم من المسير إلى أعمالهم وأن كان بعضهم قد خرج فيردّ‏.‏

وكانت الكتب تصل إلى العميد قبل وشمكير فيقراها ثمّ يعرضها على وشمكير فلمّا وقف العميد على هذا الكتاب أنفذَ إلى عماد الدولة يأمره بالمسير من ساعته إلى عمله ويطوي المنازل فسار من وقته وكان المغرب وأمّا العميد فلمّا أصبح عرض الكتاب على وشمكير فمنع سائر القوّاد من الخروج من الريّ واستعاد التوقيعات التي معهم بالبلاد وأراد وشمكير أن يُنفذ خلف عماد الدولة من يردّه فقال العميد‏:‏ إنّه لا يرجع طوعًا وربّما قاتل من يقصده وخرج عن طاعتنا فتركه‏.‏

وسار عماد الدولة إلى كَرَج وأحسن إلى الناس ولطف بعمّال البلاد فكتبوا إلى مرداويج يشكرونه ويصفون ضبطه البلد وسياسته وافتتح قِلاعًا كانت للخُرّميّة وظفر منها بذخائر كثيرة صرفها جميعها إلى استمالة الرجال والصلات والهبات فشاع ذكره وقصده الناس وأحبّوه‏.‏

وكان مرداويج ذلك الوقت بَطَبرِستان فلمّا عاد إلى الريّ أطلق مالًا لجماعة من قوّاده على كَرَج فاستمالهم عماد الدولة ووصلهم وأحسن إليهم حتّى مالوا إليه وأحبّوا طاعته‏.‏

وبلغ ذلك مرداويج فاستوحش وندم على إنفاذ أولئك القوّاد إلى الكرج فكتب إلى عماد الدولة وأولئك يستدعيهم إليه وتلطّف بهم فدافعه عماد الدولة واشتغل بأخذ العهود عليهم وخوّفهم من سطوة مرداويج فأجابوه جميعهم فجبى مال كرَج واستأمن إليه شيرزاد وهو من أعيان قوّاد الدَّيلم فقويت نفسه بذلك وسار بهم عن كرج إلى أصبهان وبها المظفَّر ابن ياقوت في نحو من عشرة آلاف مقاتل وعلى خراجها أبو عليّ بن رستم فأرسل عماد الدولة إليهما يستعطفهما ويستأذنهما في الانحياز إليهما والدخول في طاعة الخليفة ليمضي إلى الحضرة ببغداد فلم يجيباه إلى ذلك وكان أبو عليّ أشدّهما كراهة فاتّفق للسعادة أنّ أبا عليّ مات في تلك الأيّام وبرز ابن ياقوت عن أصبهان ثلاثة فراسخ وكان في أصحابه جيل وديلم مقدار ستمائة رجل فاستأمنوا إلى عماد الدولة لما بلغهم من كرمه فضعف قلب ابن ياقوت وقوي جنان عماد الدولة فواقعه واقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم ابن ياقوت واستولى عماد الدولة على أصبهان وعظم في عيون الناس لأنّه كان في تسعمائة رجل هزم بهم ما يقارب عشرة آلاف رجل وبلغ ذلك الخليفة فاستعظمه وبلغ خبر هذه الوقعة مرداويج فأقلقه وخاف على ما بيده من البلاد واغتم لذلك غمًّا شديدًا‏.‏

ذكر استيلاء ابن بُوَيْه على أرّجان وغيرها وملك مرداويج أصبهان

لّما سار الرسول جهّز مرداويج أخاه وشمكير في جيش كثيف ليكبس ابن بويه وهو مطمئن إلى الرسالة التي تقدّمت فعلم ابن بويه بذلك فرحل عن أصبهان بعد أن جباها شهرَيْن توجّه إلى أرّجان وبها أبو بكر بن ياقوت فانهزم أبو بكر من غير قتال وقصد رامهرمُز واستولى ابن بويه على أرّجان في ذي الحجّة ولّما سار عن أصبهان دخلها وشمكير وعسكر أخيه مرداويج وملكوها فلّما سمع القاهر أرسل إلى مرداويج قبل خلعه ليمنع أخاه عن أصبهان ويسلّمها إلى محمّد بن ياقوت ففعل ذلك ووليها محمّد‏.‏

وأمّا ابن بويه فإنّه لّما ملك أرّجان استخرج منها أموالًا فقوي بها ووردت عليه كتب أبي طالب زيد بن عليّ النوبندجانيّ يستدعيه ويشير عليه بالمسير إلى شِيراز ويهوّن عليه أمر ياقوت وأصحابه ويعرّفه تهوره واشتغاله بجباية الأموال وكثرة مؤونته ومؤونة أصحابه وثقل وطأتهم على الناس مع فشلهم وجُبنهم فخاف ابن بويه أن يقصد ياقوتًا مع كثرة عساكره وأمواله ويحصل بين ياقوت وولده فلم يقبل مشورته ولم يبرح من مكانه فعاد أبو طالب وكتب إليه يشجّعه ويعلمه أنّ مرداويج قد كتب إلى ياقوت يطلب مصالحته فإنّ تمّ ذلك اجتمعا على محاربته ولم يكن له بهما طاقة ويقول له إنّ الرأي لمن كان في مثل حاله أن يعاجل مَن بين يديه ولا ينتظر بهم الاجتماع والكثرة وأن يحدقوا به من كلّ جانب فإنّه إذا هزم مَن بين يديه خافه الباقون ولم يقدموا عليه‏.‏

ولم يزل أبو طالب يراسله إلى أن سار نحو النُّوبَندجان في ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وقد سبقه إليهما مقدّمه ياقوت في نحو ألفَيّ فارس من شجعان أصحابه فلّما وافاهم ابن بويه لم يثبتوا له لّما لقيهم وانهزموا إلى كرَكان وجاءهم ياقوت في جميع أصحابه إلى هذا الموضع وتقدّم أبو طالب إلى وكلائه بالنُّوبندجان بخدمة ابن بويه والقيام بما يحتاج إليه وتنحى هو عن البلد إلى بعض القرى حتّى لا يعتقد فيه المواطأة له فكان مبلغ ما خسر عليه في أربعين وأنفذ عماد الدولة أخاه ركن الدولة الحسن إلى كازرون وغيرها من أعمال فارس فاستخرج منها أموالًا جليلة فأنفذ ياقوت عسكرًا إلى كازرون فواقعهم ركن الدولة فهزمهم وهو في نفر يسير وعاد غانمًا سالمًا إلى أخيه‏.‏

ثمّ أنّ عماد الدولة انتهى إليه مراسلة مرداويج وأخيه وشمكير إلى ياقوت ومراسلته إليهما فخاف اجتماعهم فاسر من النّوبندجان إلى إصْطَخْر ثم إلى البيضاء وياقوت يتبعه وانتهى إلى قنطرة على طريق كَرمان فسبقه ياقوت إليها ومنعه من عبورها واضطر إلى الحرب وذلك في آخر سنة إحدى وعشرين ودخلت سنة اثنتين وعشرين‏.‏

ذكر عدّة حوادث

في هذه السنة اجتمعت بنو ثعلبة إلى بني أسد القاصدين إلى ارض الموصل ومن معهم من طيّ فصاروا يدًا واحدة على بني مالك ومَن معهم من تغلب وقرب بعضهم من بعض للحرب فركب ناصر الدولة الحسن بن عبدالله بن حَمدان في أهله ورجاله ومعه أبو الأغرّ بن سعيد بن حَمدان للصلح بينهم فتكلّم أبو الأغرّ فطعنه رجل من حزب بني ثعلبة فقتله فحمل عليهم ناصر الدولة ومن معه فانهزموا وقُتل منهم ومُلكت بيوتهم وأُخذ حريمهم وأموالهم ونجوا على ظهور خيولهم وتبعهم ناصر الدولة إلى الحديثة فلمّا وصلوا إليها لقيهم يأنس غلام مؤنس وقد وليَ الموصل وهو مُصعد إليها فانضمّ إليه بنو ثعلبة وبنو أسد وعادوا إلى ديار ربيعة‏.‏

وفيها ورد الخبر إلى بغداد بوفاة تكين الخاصّة بمصر وكان أميرًا عليها فوليَ مكانه ابنه محمد وأرسل له القاهر بالله الخِلع شارد الجند بمصر فقاتلهم محمّد وظفر بهم‏.‏

وفيها أمر عليٌّ بن بليق قبل قبضه وكاتبه الحسن بن هارون بلعن معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد على المنابر ببغداد فاضطربت العامّة فأراد عليُّ بن بليق أن يقبض على البربهاريّ رئيس الحنابلة وكان يثير الفتن هو وأصحابه فعلم بذلك فهرب فأُخذ جماعة من أعيان أصحابه وحُبسوا وجُعلوا في زورق وأحدروا إلى عُمان‏.‏

وفيها أمر القاهر بتحريم الخمر والغناء وسائر الأنبذة ونفى بعض مَن كان يُعرف بذلك إلى البصرة والكوفة وأمّا الجواري المغنّيات فأمر ببيعهنّ على أنهنّ سواذج لا يعرفن الغناء ثم وضع من يشتري له كلّ حاذقة في صنعه الغناء فاشترى منهنّ ما أراد بأرخص الأثمان وكان القاهر مشتهرًا بالغناء والسّماع فجعل ذلك طريقًا إلى تحصيل غرضه رخيصًا نعوذ بالله من هذه الأخلاق التي لا يرضاها عامّة الناس‏.‏

وفيها توفّي أبو بكر محمّد بن الحسن بن دُريد اللغويُّ في شعبان وأبو هاشم بن أبي عليّ وفيها توفّي محمّد بن يوسف بن مطر الفربريُّ وكان مولده سنة إحدى وثلاثين ومائتين وهو الذي روي صحيح البخاريّ عنه وكان قد سمعه عشرات ألوف من البخاري فلم ينتشر إلاّ عنه وهو منسوب إلى فربر بالفاء والرّاءَين المهملتين وبينهما باء معجمة موحدة وهي من قرى بخارى‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة

ذكر استيلاء ابن بويه على شِيراز


في هذه السنة ظفر عماد الدولة بن بويه بياقوت وملك شيراز وقد ذكرنا مسير عماد الدولة بن بويه إلى القنطرة وسبق ياقوت إليها فلّما وصلها ابن بويه وصدّه ياقوت عن عبورها اضطّر إلى محاربته فتحاربا في جمادى الآخرة وأحضر عليُّ بن بويه أصحابه ووعدهم أنّه يترجّل معهم عند الحرب ويقاتل كأحدهم ومنّاهم ووعدهم الإحسان‏.‏

وكان من سعادته أنّ جماعة من أصحابه استأمنوا إلى ياقوت فحين رآهم ياقوت أمر بضرب رقابهم فأيقن مَن مع ابن بويه أنّهم لا أمان لهم عنده فقاتلوا قتال مستقتل‏.‏

ثم إنّ ياقوتًا قدّم أمام أصحابه رجّالة كثيرة يقاتلون بقوارير النفط فانقلبت الريح في وجوههم واشتدّت فلمّا ألقوا النار عادت النار عليهم فعلقت بوجوههم وثيابهم فاختلطوا وأكبّ عليهم أصحاب ابن بويه فقتلوا أكثر الرجّالة وخالطوا الفرسان فانهزموا فكانت الدائرة على ياقوت وأصحابه‏.‏

فلمّا انهزم صعد على نشَز مرتفع ونادى في أصحابه الرجعة فاجتمع إليه نحو أربعة آلاف فارس فقال لهم‏:‏ اثبتوا فإنّ الديلم يشتغلون بالنهب ويتفرّقون فنأخذهم فثبتوا معه فلمّا رأى ابن بويه ثباتهم نهى أصحابه عن النهب وقال‏:‏ إنّ عدوّكم يرصدكم لتشتغلوا بالنهب فيعطف عليكم ويكون هلاككم فاتركوا هذا وافرغوا من المنهزمين ثم عودوا إليه ففعلوا ذلك فلمّا رأى ياقوت أنّهم على قصده ولّى منهزمًا واتّبعه أصحاب ابن بويه يقتلون ويأسرون ويغنمون الخيل والسلاح‏.‏

وكان معزُّ الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه في ذلك اليوم من أحسن الناس أثرًا وكان صبيًّا لم تنبت لحيته وكان عمره تسع عشرة سنة ثم رجعوا إلى السواد فغنموا ووجدوا في سواده برانس لبود عليها أذناب الثعالب ووجدوا قيودًا وأغلالًا فسألوا عنها فقال أصحاب ياقوت‏:‏ إنّ هذه أُعدّت لكم لتُجعل عليكم ويطاف بكم في البلاد فأشار أصحاب ابن بويه أن يفعل بهم مثل ذلك فامتنع وقال‏:‏ إنّه بغيٌ ولؤم ظفر ولقد لقي ياقوت بغيه‏.‏

ثم أحسن إلى الأسارى وأطلقهم وقال‏:‏ هذه نعمة والشكر عليها واجب يقتضي المزيد وخيّر الأسارى بين المقام عنده واللحوق بياقوت فاختارو المقام عنده فخلع عليهم وأحسن إليهم‏.‏

وسار من موضع الوقعة حتّى نزل بشيراز ونادى في الناس بالأمان وبثّ العدل وأقام لهم شحنة يمنع من ظلمهم واستولى على تلك البلاد وطلب الجند أرزاقهم فلم يكن عنده ما يعطيهم فكاد ينحلّ أمره فقعد في غرفة في دار الإمارة بشيراز يفكر في أمره فرأي حيّة خرجت من موضع في سقف تلك الغرفة ودخلت في ثقب هناك فخاف أن تسقط عليه فدعا الفرّاشين ففتحوا الموضع فرأوا وراءَه بابًا فدخلوه إلى غرفة أخرى وفيها عشرة صناديق مملوءة مالًا ومصوغًا وكان فيها ما قيمته خمس مائة ألف دينار فأنفقها وثبت ملكه بعد أن كان قد أشرف على الزوال‏.‏

وحُكي أنّه أراد أن يفصّل ثيابًا فدلّوه على خياط كان لياقوت فأحضره فحضر خائفًا وكان أصمّ فقال له عماد الدولة‏:‏ لا تخف فإنّما أحضرناك لتفصّل ثيابًا فلم يعلم ما قال فابتدأ وحلف بالطلاق والبراءة من دين الإسلام أنّ الصناديق التي عنده لياقوت ما فتحها فتعجّب الأمير من هذا الاتّفاق فأمره بأحضارها فأحضر ثمانية صناديق فيما مال وثياب قيمته ثلاثمائة ألف دينار ثم ظهر له من ودائع ياقوت وذخائر يعقوب وعمروا ابنَي الليث جملةٌ كثيرة فامتلأت فلمّا تمكّن من شِيراز وفارس كتب إلى الراضي بالله وكانت قد أفضت إليه الخلافة على ما نذكره وإلى وزيره أبي عليّ بن مقلة يعرّفهما أنّه على الطاعة ويطلب منه أن يقاطع على ما بيده من البلاد وبذلك ألف ألف درهم فأُجيب إلى ذلك فأنفذوا له الخِلع وشرطوا على الرسول أن لا يسلّم إليه الخِلع إلاّ بعد قبض المال‏.‏

فلمّا وصل الرسول خرج عماد الدولة إلى لقائه وطلب منه الخلع واللواء فذكر له الشرط فأخذهما منه قهرًا ولبس الخلع ونشر اللواء بين يديه ودخل البلد وغالط الرسول بالمال فمات الرسول عنده سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وعظم شأنه وقصده الرجال من الأطراف‏.‏

ولّما سمع مرداويج بما ناله من ابن بويه قام لذلك وقعد وسار إلى أصبهان للتدبير عليه وكان بها أخوه وشمكير لأنّه لّما خلع القاهر وتأخّر محمّد بن ياقوت عنها عاد إليها وشمكير بعد أن بقيت تسعة عشر يومًا خالية من أمير فلمّا وصلها مرداويج ردّ أخاه وشمكير إلى الريّ‏.‏

ذكر استيلاء نصر بن أحمد على كَرْمان

في هذه السنة خرج أبو عليّ محمّد بن إلياس من ناحية كَرْمان إلى بلاد فارس وبلغ إصطَخر فأظهر لياقوت أنّه يريد أن يستأمن إليه حيلةً ومكرًا فعلم ياقوت مكره فعاد إلى كَرمان فسيّر

إليه السعيدُ نصر بن أحمد صاحب خُراسان ما كانَ بن كالي في جيش كثيف فقاتله فانهزم ابن إلياس واستولى ما كان على كَرمان نيابةً عن صاحب خراسان‏.‏

وكان محمّد بن إلياس هذا من أصحاب نصر بن أحمد فغضب عليه وحبسه ثم شفع فيه محمّد بن عبيدالله البلغميُّ فأخرجه وسيّره مع محمّد ابن المظفَّر إلى جرجان فلمّا خرج يحى بن أحمد وإخوته ببخارى على ما ذكرناه سار محمّد بن إلياس إليه فصار معه فلمّا أدبر أمْره سار محمّد من نَيسابور إلى كَرمان فاستولى عليها إلى هذه الغاية فأزاله ما كان عنها فسار إلى الدِّينَوَر وأقام مكان بكَرمان فلمّا عاد عنها على ما نذكره رجع إليها محمّد بن إلياس‏.‏

ذكر خلع القاهر بالله

وفيها خُلع القاهر بالله في جُمادى الأولى‏.‏

وكان سبب ذلك أنّ أبا عليّ بن مقلة كان مستترًا من القاهر والقاهر يتطلّبه وكذلك الحسن بن هارون فكانا يراسلان قوّاد الساجيّة والحجريّة ويخوّفانهم من شرّه ويذكران لهم غدره ونكثه مرّة بعد أخرى‏:‏ كقتل مؤنس وبُليق وابنه عليّ بعد الأيمان لهم وكقبضه على طريف السُّبكريّ بعد اليمين له مع نصح طريف له إلى غير ذلك‏.‏

وكان ابن مقلة يجتمع بالقوّاد ليلًا تارة في زيّ أعمى وتارة في زيّ مُكَدٍّ وتارة في زيّ إمرأة ويغريهم به‏.‏

ثمّ إنّه أعطى منجّمًا كان لسيما مائتَيْ دينار وأعطاه الحسن مائة دينار وكان يذكر لسيما أن طالعه يقتضي أن ينكبه القاهر ويقتله وأعطى ابن مقلة أيضًا لمعبّر كان لسيما يعبّر له المنَامات فكان يحذره أيضًا من القاهر ويعبّر له على ما يريد فازداد نفورًا من القاهر‏.‏

ثم إنّ القاهر شرع في عمر مطامير في الدار فقيل لسيما ولجماعة قوّاد الساجيّة والحجريّة‏:‏ إنّما علمها لأجلكم فازداد نفورًا ونقل إلى سيما أنّ القاهر يريد قتله فجمع الساجيّة وكان هو رئيسهم المقدّم عليهم وأعطاهم السلاح وأنفذوا إلى الحجريّة‏:‏ إنْ كنتم موافقين لنا فجيئوا إلينا حتّى نحلف بعضنا لبعض وتكون كلمتنا واحدة فاجتمعوا جميعهم وتحالفوا على اجتماع الكلمة وقَتْل من خالف منهم‏.‏

فاتّصل ذلك بالقاهر ووزيره الحُصيبيّ فأرسل إليهم الوزير‏:‏ ما الذي حملكم على هذا فقالوا‏:‏ قد صحّ عندنا أنّ القاهر يريد القبض على سيما وقد عمل مطامير ليحبس فيها قوّادنا ورؤساءنا‏.‏

فلمّا كان يوم الأربعاء لستّ خلون من جمادى الأولى اجتمع الساجيّة والحجريّة عند سيما وتحالفوا على الاجتماع على القبض على القاهر فقال لهم سيما‏:‏ قوموا بنا الساعة حتى وبلغ ذلك الوزير فأرسل الحاجبَ سلامة وعيسى الطبيب ليعلماه بذلك فواجداه نائمًا قد شرب أكثر ليلته فلم يقدرا على إعلامه بذلك‏.‏

وزحف الحجريّة والساجيّة إلى الدار ووكّل سيما بأبوابها مَن يحفظها وبقي هو على باب العامّة وهجموا إلى الدار من سائر الأبواب فلمّا سمع القاهر الأصوات والجَلَبة استيقظ مخمورًا وطلب بابًا يهرب منه فقيل له إن الأبواب جميعها مشحونة بالرجال فهرب إلى سطح حمّام فلمّا دخل القوم لم يجدوه فأخذوا الخدم وسألوهم عنه فدلّهم عليه خادم صغير فقصدوه فرأوه وبيده السيف فاجتهدوا به فلم ينزل لهم فألانوا له القول وقالوا‏:‏ نحن عبيدك وإنّما نريد أن نأخذ عليك العهود فلم يقبل منهم وقال‏:‏ مَن صعد إليّ قتلتُه‏!‏ فأخذ بعضهم سهمًا وقال‏:‏ إن نزلت وإلاّ وضعتُه في نحرك‏!‏ فنزل حينئذ إليهم فأخذوه وساروا به إلى الموضع الذي فيه طريف السبكريُّ ففتحوه وأخرجوه منه وحبسوا القاهر مكانه ثمّ سملوه وهرب وزيره الخصيبيُّ وسلامة حاجبه‏.‏

وقيل في سبب خلعه وقيام الساجيّة والحجريّة غير ما تقدّم وهو أنّ القاهر لّما تمكّن من الخلافة أقبل ينقص الساجيّة والحجريّة على ممرّ الأيّام ولا يقضي لأكابرهم حاجة ويُلزمهم النوبة في داره ويؤخّر أعطياتهم ويغلظ لمن يخاطبه منهم في أمر ويحرمه فأقبل بعضهم ينذر بعضًا

ويتشاكون بينهم ثم إنّه كان يقول لسلامة حاجبه‏:‏ يا سلامة‏!‏ أنت بين يديّ كنزل مال يمشي فأيّ شيء يبين في مالك لو أعطَيتَني ألف ألف دينار فيحمل ذلك منه على الهزل‏.‏

وكان وزيره الخصيبيُّ أيضًا خائفًا لما يرى منه ثم أنّه حفر في الدار نحو خمسين مطمورة تحت الأرض وأحكم أبوابها فكان يقال‏:‏ إنّه عملها لمقدّمي الساجيّة والحجريّة فازداد نفورهم منه وخوفهم ثم إنّ جماعة من القرامطة أُخذوا بفارس وأُرسلوا إلى بغداد كما تقدّم فحُبسوا في تلك المطامير ثم تقدّم سرًّا بفتح الأبواب عليهم والإحسان إليهم وعزم على أن يقوى بهم على القبض على مقدّمي الحجريّة والساجيّة وبمن معه من غلمانه‏.‏

وأنكر الحجريّة والساجيّة حال القرامطة وكونهم معه في داره محسنًا إليهم وقالوا لوزيره الخصيبيّ وحاجبه سلامة في ذلك فقالا له فأخرجهم من الدار فسلّمهم إلى محمّد بن ياقوت وهو على شُرطة بغداد فأنزلهم في دار وأحسن إليهم وكان يدخل إليهم من يريد فعظم استيحاشهم‏.‏

ثمّ صار يذمّهم في مجلسه ويُظهر كراهتهم حتّى تبيّنوا ذلك في وجهه وحركاته معهم فأظهروا أنّ لبعض قوّادهم عرسًا فاجتمعوا بحجّته وقرّروا بينهم ما أرادوا وافترقوا وأرسلوا إلى سابور خادم والدة لمقتدر فقالوا له‏:‏ قد علمتَ ما فعله بمولاتك وقد ركبتَ في موافقته كلّ عظيم فإنّ وافقتنا على ما نحن عليه وتقدّمتَ إلى الخدم بحفظه فعفا الله عمّا سلف منك وإلاّ فنحن نبدأ بك فأعلمهم ما عنده من الخوف والكراهة للقاهر وأنّه موافقهم وكان ابن مقلة مع هذا يصنع عليه ويسعى فيه إلى أن خُلع كما ذكرنا وكانت خلافته سنة واحدة وستّة أشهر وثمانية أيّام

ذكر خلافة الراضي بالله

هو أبو العبّاس أحمد بن المقتدر بالله ولّما قُبض القاهر سألوا الخدم عن المكان الذي فيه أبو العبّاس بن المقتدر فدلّوهم عليه وكان هو ووالدته محبوسين فقصدوه وفتحوا عليه ودخلوا فسلّموا عليه بالخلافة وأخرجوه وأجلسوه على سرير القاهر يوم الأربعاء لستّ خلون من جمادى الأولى ولقبوه بالراضي بالله وبايعه القوّاد والناس وأمر بإحضار عليّ بن عيسى وأخيه عبد الرحمن وصدر عن رأيهما فيما يفعله واستشارهما وأراد عليَّ بن عيسى على الوزارة فامتنع لكبره وعجزه وضعفه وأشار بابن مقلة‏.‏

ثم إنّ سيما قال للراضي‏:‏ إنّ الوقت لا يحتمل أخلاق عليّ وابن مقلة أليق بالوقت فكتب له أمانًا وأحضره واستوزره فلمّا وزر أحسن إلى كلّ مَن أساء إليه وأحسن سيرته وقال‏:‏

عاهدت الله عند استتاري بذلك فوفى به وأحضر الشهود والقضاة وأرسلهم إلى القاهر ليشهدوا عليه بالخلع فلم يفعل فسُمل من ليلته فبقي أعمى لا يبصر‏.‏

وأرسل ابن مقلة إلى الخصيبيّ وعيسى المتطبب بالأمان فظهرا وأحسن إليهما واستعمل الخصيبيَّ وولاّه واستعمل الراضي بالله على الشُّرطة بدرًا الخَرشَنيَّ واستعمل ابنُ مقلة أبا الفضل بن جعفر بن الفرات في جمادى الأولى نائبًا عنه على سائر العمّال بالموصل وقَرْدَى وبازَبْدي وماردين وطور عَبدين وديار الجزيرة وديار بكر وطريق الفرات والثغور الجزريّة والشاميّة وأجناد الشام وديار مصر يصرف من يرى ويستعمل مَن يرى في الخراج والمعاون والنفقات والبريد وغير ذلك‏.‏

وأرسل إلى محمّد بن رائق يستدعيه ليولّيه الحجبة وكان قد استولى على الأهواز وأعمالها ودفع عنها ابن ياقوت ولم يبق بيد ابن ياقوت من تلك الولاية إلاّ السُّوس وجُندَيسابور وهو يريد المسير إلى أصبهان أميرًا عليها على ما ذكرناه وكان ذلك آخر أيّام القاهر فلمّا وليَ الراضي واستحضره سار إلى واسط وأرسل محمّد بن ياقوت يخطب الحجبة فأُجيب إليها فسار في أثر ابن رائق وبلغ ابن رائق الخبر فلم يقف وسار من واسط مصعدًا إلى بغداد يسابق ابن ياقوت فلمّا وصل إلى المدائن لقيه توقيع الراضي يأمره بترك دخول بغداد وتقليده الحرب والمعاون بواسط مضافًا إلى ما بيده من البصرة وغيرها فعاد منحدرًا في دجلة ولقيه ابن ياقوت مصعدًا فيها أيضًا فسلّم بعضهم على بعض وأصعد ابن ياقوت إلى بغداد فتولّى الحجبة على ما نذكره‏.‏

ذكر وفاة المهديّ صاحب إفريقية وولاية ولده القائم

في هذه السنة في شهر ربيع الأوّل توفّي المهديُّ أبو محمّد عبيدالله العلويُّ بالمهديّة واخفى ولده أبو القاسم موته سنة لتدبير كان له وكان يخاف أن يختلف الناس عليه إذا علموا بموته وكان عمر المهديّ لّما توفّي ثلاثًا وستّين سنة وكانت ولايته منذ دخل رقّاده ودُعي له بالإمامة إلى أن توفّي أربعًا وعشرين سنة وشهرًا وعشرين يومًا‏.‏

ولّما توفّي ملك بعده ابنه أبو القاسم محمّد وكان أبوه قد عهد إليه ولّما أظهر وفاة والده كان قد تمكّن وفرغ من جميع ما أراده واتَّبع سُنّة أبيه وثار عليه جماعة فتمكّن منهم وكان من أشدّهم رجل يقال له ابن طالوت القرشيُّ في ناحية طرابلس ويزعم أنّه ولد المهديّ فقاموا معه وزحف إلى مدينة طرابلس فقاتله أهلها ثم تبينّ للبربر كذبه فقتلوه وحملوا رأسه إلى وجهّز القائم أيضًا جيشًا كثيفًا مع ميسور الفتى إلى المغرب فانتهى إلى فاس وإلى تَكرور وهزم خارجيًّا هناك وأخذ ولده أسيرًا وسيّر أيضًا جيشًا في البحر وقدّم عليهم رجلًا اسمه يعقوب بن إسحاق إلى بلد الروم فسبى وغنم في بلد جَنَوة وسيّر جيشًا آخر مع خادمه زيدان وبالغ في النفقة عليهم وتجهيزهم إلى مصر فدخلوا الإسكندريّة فأخرج إليهم محمّد الإخشيد عسكرًا كثيفًا فقاتلهم وهزموا المغاربة وقتلوا فيهم وأسروا وعاد المغاربة مفلولين‏.‏

ذكر استيلاء مرداويج على الأهواز

لما بلغ مَرداويجَ استيلاء عليّ بن بويه على فارس اشتدّ ذلك عليه فسار إلى أصبهان للتدبير على ابن بويه فرأى أن ينفذ عسكرًا إلى الأهواز ليستولي عليها ويسدّ الطريق على عماد الدولة بن بويه إذا قصده فلا يبقى له طريق إلى الخليفة ويقصده هو من ناحية أصبهان ويقصده عسكره من ناحية الأهواز فلا يثبت لهم‏.‏

فسارت عساكر مرداويج في شهر رمضان حتّى بلغت إيذَجَ فخاف ياقوت أن يحصل بينهم وبين ابن بويه فسار إلى الأهواز ومعه ابنه المظفَّر وكتب إلى الراضي ليقلّده أعمال الأهواز فقلّده ذلك وصار أبو عبدالله ابن البريديّ كاتبه مضافًا إلى ما بيده من أعمال الخراج بالأهواز ثم استولى عسكر مَرداويج على رامهرمز أوّل شوّال من هذه السنة وساروا نحو الأهواز فوقف لهم ياقوت على قنطرة أرْبَقَ فلم يمكنهم من العبور لشدة جرية الماء فأقاموا بإزائه أربعين يومًا ثم رحلوا فعبروا على الأطواف نهر المسرُقان فبلغ الخبر إلى ياقوت وقد أتاه مدد من بغداد قبل ذلك بيومَيْن فسار بهم إلى قرية الرِّيخ وسار منها إلى واسط وبها حينئذ محمّد بن رائع فأخلى له غربيَّ واسط فنزل فيه ياقوت‏.‏

ولّما بلغ عمادَ الدولة استيلاءُ مرداويج على الأهواز كاتب نائب مرداويج يستميله ويطلب منه أن يتوسّط الحال بينه وبين مرداويج ففعل ذلك وسعى فيه فأجابه مرداويج إلى ذلك على أن يطيعه ويخطب له فاستقرّ الحال بينهما وأهدى له ابن بويه هدية جليلة وأنفذ أخاه ركن الدولة رهينة وخطب لمرداويج في بلاده فرضي مرداويج منه واتّفق أنّه قُتل على ما نذكره فقوي أمر ابن بويه‏.‏

ذكر عود ياقوت إلى الأهواز

ولّما وصل ياقوت إلى واسط أقام بها إلى أن قُتل مرداويج ومعه أبو عبد الله البريديُّ يكتب له فلمّا قُتل مرداويج عاد ياقوت إلى الأهواز واستولى على تلك الولاية ولّما وصل ياقوت إلى عسكر مُكْرَم بعد قتل مرداويج كانت عساكر ابن بويه قد سبقته فالتقوا بنواحي أرّجان وكان ابن بويه قد لحق بأصحابه واشتدّ قتالهم بين يديه فانهزم ياقوت ولم يفلح بعدها‏.‏

وراسل أبو عبدالله البريديُّ ابنَ بُوَيه في الصلح فأجاب إلى ذلك وكتب به إلى الراضي فأجاب إلى ذلك وقرّر بلاد فارس على ابن بُوَيه واستقرّ بشِيراز واستقرّ ياقوت بالأهواز ومعه ابن البريديّ‏.‏

وكان محمّد بن ياقوت قد سَار إلى بغداد وتولّى الحجبة وخلع الراضي عليه وتولّى مع الحجبة رئاسة الجيش وأدخل يده في أمر الدواوين وتقدّم إليهم بأن لا يقبلوا توقيعًا بولاية ولا عزْل وإطلاق إلاّ إذا كان خطّه عليه وأمرهم بحضور مجلسه فصبر أبو عليّ بن مقلة على ذلك وألزم نفسه بالمصير إلى دار ابن ياقوت في بعض الأوقات وبقي كالمتعطّل‏.‏

ولقد كان في هذه الأيّام القليلة حوادث عظيمة منها‏:‏ انصراف وشمكير أخي مرداويج عن أصبهان بكتاب القاهر بعد أن ملكها واستعمال القاهر محمّد بن ياقوت عليها وخلع القاهر وخلافة الراضي وأمر الحجبة لمحمّد ابن رائق ثم انفساخه ومسير محمّد بن ياقوت من رامَهُرْمُز إلى بغداد وولايته الحجبة بعد أن كان سائرًا إلى أصبهان ليتولاّها وإعادة مرداويج أخاه وشمكير إليها وملك عليُّ بن بويه أرّجان هذا جميعه في هذه اللحظة القريبة في سبعين يومًا

ذكر قتل هارون بن غريب

في هذه السنة قُتل هارون بن غريب وكان سبب قتله أنّه كان كما ذكرنا قد استعمله القاهر على ماه الكوفة وقصبتها الدِّينَور وعلى ماسَبذان وغيرها فلمّا خُلع القاهر واستُخلف الراضي رأى هارون أنّه أحقّ بالدولة من غيره لقرابته من الراضي حيث هو ابن خال المقتدر فكاتب القوّاد ببغداد يعدهم الإحسان والزيادة في الأرزاق ثمّ سار من الدِّينَور إلى خانِقين فعظم ذلك على ابن مقلة وابن ياقوت والحجريّة والساجيّة واجتمعوا وشكوه إلى الراضي فأعلمهم أنّه كاره له وأذن لهم في منعه فراسلوه أوّلًا وبذلوا له طريق خراسان زيادة على ما في يده فلم يقنع به وتقدّم إلى النَّهروان وشرع في جباة الأموال وظلم الناس وعسفهم وقويت شوكته‏.‏

فخرج إليه محمّد بن ياقوت في سائر جيوش بغداد ونزل قريبًا منه ووقعت الطلائع بعضها على بعض وهرب بعض أصحاب محمّد بن ياقوت إلى هارون وراسله محمّد يستميله ويبذل له فلم يجب إلى ذلك وال‏:‏ لا بدّ من دخول بغداد‏.‏

فلمّا كان يوم الثلاثاء لست بقين من جمادى الآخرة تزاحف العسكران واشتدّ القتال واستظهر أصحاب هارون لكثرتهم فانهزم أكثر أصحاب ابن ياقوت ونُهب أكثر سوادهم وكثر فيهم الجراح والقتل فسار محمّد بن ياقوت حتّى قطع قنطرة نهر بين فبلغ ذلك هارون فسار نحو القنطرة منفردًا عن أصحابه طمعًا في قتل محمّد بن ياقوت أو أسره فتقنطر به فرسه فسقط عنه في ساقية فلحقه غلام له اسمه يمن فضربه بالطَّبرِزين حتّى أثخنه وكسّر عظامه ثم نزل إليه فذبحه ثم رفع رأسه وكبّر فانهزم أصحابه وتفرّقوا ودخل بعضهم بغداد سرًّا ونهب سواد هارون وقتل جماعة من قوّاده وأسر جماعة‏.‏

وسار محمّد إلى موضع جثّة هارون فأمر بحملها إلى مضربه وأمر بغسله وتكفينه ثم صلّى عليه ودفنه وأنفذ إلى داره من بحفظها من النهب ودخل بغداد ورأس هارون بين يديه ورؤوس جماعة من قوّاده فنُصب ببغداد‏.‏

ذكر ظهور إنسان ادّعى النبوّة

في هذه السنة ظهر بباسِند من أعمال الصغانيان رجل ادّعى النبوة فقصده فوج بعدَ فوج واتّبعه خلق كثير وحارب من خالفه فقتل خلقًا كثيرًا مّمن كذّبه فكثر أتباعه من أهل الشاش خصوصًا‏.‏

وكان صاحب حيل ومخاريق وكان يدخل يده في حوض ملآن ماء فيخرجها مملوءة دنانير إلى غير ذلك من المخاريق فكثر جمعه فأنفذ إليه أبو عليّ بن محمّد بن المظفَّر جيشًا فحاربوه وضيّقوا عليه وهو فوق جبل عالٍ حتّى قبضوا عليه وقتلوه وحملوا رأسه إلى أبي عليّ وقتلوا خلقًا كثيرًا مّمن اتّبعه وآمن به وكان يدّعي أنّه متى مات عاد إلى الدنيا فبقي بتلك الناحية جماعة كثيرة على ما دعاهم إليه مدّة طويلة ثم اضمحلّوا وفنوا‏.‏

ذكر قتل الشَّلمغانيّ وحكاية مذهبه

و في هذه السنة قُتل أبو جعفر محمّد بن عليّ الشَّلمغانيُّ المعروف بابن أبي القراقر وشلْمَغانُ التي يُنسب إليها قرية بنواحي واسط‏.‏

وسبب ذلك أنّه قد أحدث مذهبًا غاليًا في التشيع والتناسخ وحلول الإلهيّة فيه وإلى غير ذلك ممّا يحكيه وأظهر ذلك من فعله أبو القاسم الحسين ابن رَوْح الذي تسمّيه الإمامية الباب متداول وزارة حامد بن العبّاس ثم اتّصل أبو جعفر الشلمغانيُّ بالمحسن بن أبي الحسن بن الفرات في وزارة حامد بن العبّاس ثم اتّصل أبو جعفر الشلمغانيُّ بالمحسن بن أبي الحسن بن الفرات في وزارة أبيه الثالثة ثم إنّه طُلب في زارة الخاقانيّ فاستتر وهرب إلى الموصل فبقي سنين عند ناصر الدولة الحسن بن عبدالله بن حَمدان في حياة أبيه عبدالله بن حَمدان ثم انحدر إلى بغداد واستتر وظهر عنه ببغداد أنّه يدّعي لنفسه الربوبيّة وقيل أنّه اتّبعه على ذلك الحسين بن القاسم بن عبدالله بن سليمان بن وهب الذي وزر للمقتدر بالله وأبو جعفر وأبو عليّ ابنا بِسطام وإبراهيم ابن محمّد بن أبي عون وابن شبيب الزيّات وأحمد بن محمّد بن عبدوس كانوا يعتقدون ذلك فيه وظهر ذلك عنهم وطُلبوا أيّام وزارة ابن مقلة للمقتدر بالله لم يوجدوا‏.‏

فلمّا كان في شوّال سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ظهر الشلمغانيُّ فقبض عليه الوزير ابن مقلة وسجنه وكبس داره فوجد فيها رقاعًا وكتبًا مّمن يدّعي عليه أنّه على مذهبه يخاطبونه بما لا يخاطب به البشر بعضهم بعضًا وفيها خطّ الحسين بن القاسم فعُرضت الخطوط فعرفها الناس وعُرضت على الشلمغانيّ فأقرّ أنّها خطوطهم وأنكر مذهبه وأظهر الإسلام وتبرّأ ممّا يقال فيه وأُخذ ابن أبي عون وابن عبدوس معه وأُحضروا معه عند الخليفة وأُمرا بصفعه فامتنعا فلمّا أُكرها مدّ ابن عبدوس يده وصفعه وأمّا ابن أبي عون فأنّه مدّ يده إلى لحيته ورأسه فارتعدت يده فقبّل لحية الشلمغانيّ ورأسه ثم قال‏:‏ ألهي وسيدي ورازقي فقال له الراضي‏:‏ قد زعمتَ أنّك لا تدّعي الإلهيّة فما هذا فقال‏:‏ وما عليّ من قول ابن أبي عون والله يعلم أنّني ما قُلتُ له أنّني إله قط‏!‏ فقال ابن عبدوس‏:‏ إنّه لم يدّع الإلهيّة وإنّما ادّعى أنّه الباب إلى الإمام المنتظر مكان ابن رَوْح وكنتُ أظنّ أنّه يقول ذلك تقيّةٍ ثم أُحضروا عدّة مرّات ومعهم الفقهاء والقضاة والكتّاب والقوّاد وفي آخر الأيّام أفتى الفقهاء بإباحة دمه فصُلب ابن الشلمغانيّ وابن أبي عون في ذي القعدة فأُحرقا بالنار‏.‏

وكان من مذهبه أنّه إله الآلهة يحقّ الحقّ وأنّه الأوّل القديم الظاهر الباطن الرازق التامّ المومأ إليه بكلّ معنى وكان يقول‏:‏ إنّ الله سبحانه وتعالى يحلّ في كلّ شيء على قدر ما يحتمل وإنّه خلق الضدّ ليدلّ على لمضدود فمن ذلك أنّه حلّ في آدم لّما خلقه وفي إبليسه أيضًا وكلاهما ضدّ لصاحبه لمضادته إيّاه في معناه وأنّ الدليل على الحقّ أفضل من الحقّ وإنّ الضدّ أقرب إلى الشيء من شبهه وإنّ الله عز وجلّ إذا حلّ في جسد ناسوتيّ ظهر من القدرة والمعجزة ما يدلّ على أنّه هو وإنّه لّما غاب آدم ظهر اللاهوت في خمسة ناسوتيّة كلّما غاب منهم واحد ظهر مكانه آخر وفي خمسة أبالسة أضداد لتلك الخمسة ثم اجتمعت اللاهوتيّة في إدريس وإبليسه وتفرّقت بعدهما كما تفرّقت بعد آدم واجتمعت في نوح عليه السّلام وإبليسه وتفرّقت بعدهما كما تفرّقت بعد آدم واجتمعت في نوح عليه السّلام وإبليسه وتفرّقت عند غيبتهما واجتمعت في هود وإبليسه وتفرّقت بعدهما واجتمعت في صالح عليه السّلام وإبليسه عاقر الناقة وتفرّقت بعدهما واجتمعت في إبراهيم عليه السّلام وإبليسه نمرود وتفرّقت لّما غاب واجتمعت في هارون وإبليسه فرعون وتفرّقت بعدهما واجتمعت في سليمان وإبليسه وتفرّقت بعدهما واجتمعت في عيسى وإبليسه فلمّا غابا تفرّقت في تلاميذ عيسى وأبالستهم ثم اجتمعت في عليّ ابن أبي طالب وإبليسه‏.‏

ثمّ أنّ الله يظهر في كلّ شيء وكلّ معنى وإنّه في كلّ أحد بالخاطر الذي يخطر بقلبه فيتصوّر له ما يغيب عنه حتّى كأنّه يشاهده وإن الله اسم لمعنى وأنّ من احتاج الناس إليه فهو إلهٌ ولهذا المعنى يستوجب كلّ أحد أن يسمّى إلهًا وإنّ كّل أحد من أشياعه يقول‏:‏ إنّه ربّ لمن هو في دون درجته وإنّ الرجل منهم يقول‏:‏ أنا ربّ لفلان وفلان ربّ لفلان وفلان ربّ ربّي حتّى يقع الانتهاء إلى ابن أبي القراقر فيقول‏:‏ أنا ربّ الأرباب لا ربوبيّة بعده‏.‏

ولا ينسبون الحسن والحسين رضي الله عنهما إلى عليّ كرّم الله وجهه لأنّ من اجتمعت له الربوبيّة لا يكون له ولد ولا والد وكانوا يسمّون موسى ومحمّدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ الخائنين لأنّهمِ يدّعون أنّ هارون أرسل موسى وعليًّا أرسل محمّدًا فخاناهما ويزعمون أنّ عليّاَ أمهل محمّداَ عدّة سني أصحاب الكهف فإذا انقضت هذه العدّة وهي ثلاثمائة وخمسون سنة انتقلت الشريعة ويقولون أنّ الملائكة كلّ من ملك نفسه وعرف الحقّ وإنّ الجنّة معرفتهم ويعتقدون ترك الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات ولا يتناكحون بعقد ويبيحون الفروج ويقولون إنّ محمّدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث إلى كبراء قريش وجبابرة العرب ونفوسهم أبيّة فأمرهم بالسجود وإنّ الحكمة الآن أن يمتحن الناس بأباحة فروج نسائهم وإنّه يجوز أن يجامع الإنسان من شاء من ذوي رحمه وحرم صديقه وابنه بعد أن يكون على مذهبه وإنّه لا بدّ للفاضل منهم أن ينكح المفضول ليولج النور فيه ومن امتنع من ذلك قُلب في الدور الذي يأتي بعد هذا العالم امرأةً إذ كان مذهبهم التناسخ وكانوا يعتقدون أهلاك الطالبيّين والعبّاسيّين تعالى الله عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا‏.‏

وما أشبه هذه المقالة بمقالة النصيريّة ولعلّها هي هي فإن النصيرية يعتقدون في ابن الفرات‏!‏ ويجعلونه رأسًا في مذهبهم‏.‏

وكان الحسين بن القاسم بالرَّقّة فأرسل الراضي بالله إليه فقُتل آخر ذي القعدة وحُمل رأسه إلى بغداد‏.‏

ذكر عدّة حوادث

في هذه السنة أرسل محمّد بن ياقوت حاجب الخليفة رسولًا إلى أبي طاهر القُرمُطيّ يدعوه إلى طاعة الخلفة ليقرّه على ما بيده من البلاد ويقلّده بعد ذلك ما شاء من البلدان ويحسن إليه ويلتمس منه أن يكفّ عن الحاجّ جميعهم وأن يردّ الحجر الأسود إلى موضعه بمكّة فأجاب أبو طاهر إلى أنّه لا يتعرّض للحاجّ ولا يصيبهم بمكروه ولم يجْب إلى ردّ الحجر الأسود إلى مكّة وسأل أن يطلق له الميرة من البصرة ليخطب للخليفة في أعمال هجَر فسار الحاجّ إلى مكّة وعاد ولم يتعرّض لهم القرامطة‏.‏

وفيها في ذي القعدة عزم محمّد بن ياقوت على المسير إلى الأهواز لمحاربة عسكر مرداويج فتقدّم إلى الجند الحجريّة والساجيّة بالتجهّز للمسير معه وبذل مالًا يتجهّزون به فامتنعوا وتجمّعوا وقصدوا دار محمّد بن ياقوت فأغلظ لهم في الخطاب فسبّوا ورموا داره بالحجارة ولّما كان الغد قصدوا داره أيضًا وأغلظوا له في الخطاب وقاتلوا من بادره من أصحابه فرماهم أصحابه وغلمانه بالنشاب فانصرفوا وبطلت الحركة إلى الأهواز‏.‏

وفيها سار جماعة من أصحاب أبي طاهر القرمطي إلى نواحي تَوّج في مراكب وخرجوا منها إلى تلك الأعمال فلمّا بعدوا عن المراكب أرسل الوالي في البلاد إلى المراكب وأحرقها وجمع الناس وحارب القرامطة فقتل بعضًا وأسر بعضًا فيهم ابن الغمر وهو من أكابر دُعاتهم وسيّرهم إلى بغداد أيّام القاهر فدخلوها مشهورين وسُجنوا وكان من أمرهم ما ذكرناه في وفيها قتل القاهرُ بالله إسحاق بن إسماعيل النوبختيَّ وهو الذي أشار باستخلافه فكان كالباحث عن حتفه بظلفه وقتل أيضًا أبا السرايا بن حَمدان وهو أصغر ولد أبيه وسبب قتلهما أنّه أراد أن يشتري مغنّيتَيْن قبل أن يلي الخلافة فزادا عليه في ثمنهما فحقد ذلك عليهما فلمّا أراد قتلهما استدعاهما للمنادمة فتزيّنا وتطيّبا وحضرا عنده فأمر بإلقائهما إلى بئر في الدار وهو حاضر فتضرّعا وبكيا فلم يلتفت إليهما وألقاهما فيها وطمّها عليهما‏.‏

وفيها أُحضر أبو بكر بن مُقسم ببغداد في دار سلامة الحاجب وقيل له إنّه قد ابتدع قِراءة لم تُعرف وأُحضر ابن مجاهد والقضاة والقراء وناظروه فاعترف بالخطإ وتاب منه واحترقت كتبه‏.‏

وفيها سار الدّمُسْتُق قَرَقَاش في خمسين ألفًا من الروم فنازل مَلَطْية وحصرها مدّة طويلة وهلك أكثر أهلها بالجوع وضرب خيمتَيْن على إحداهما صليب وقال‏:‏ من أراد النصرانيّة انحاز إلى خيمة الصليب ليردّ عليه أهله وماله ومن أراد الإسلام انحاز إلى الخيمة الأخرى وله الأمان على نفسه ونبلغه مأمنه فانحاز أكثر المسلمين إلى الخيمة التي عليها الصليب طمعًا في أهليهم وأموالهم وسيّر مع الباقين بطريقًا يبلغهم مأمنهم وفتحها بالأمان مستهلّ جمادى الآخرة يوم الأحد وملكوا سُمَيساط وخرّبوا الأعمال وأكثروا القتل وفعلوا وفيها توفّي عبد الملك بن محمّد بن عديّ أبو نُعيم الفقيه الجرجانيُّ الاستراباذيُّ وأبو عليّ الروذباريُّ الصوفيُّ واسمه محمّد بن أحمد بن القاسم وقيل توفّي سنة ثلاث وعشرين‏.‏

وفيها توفّي خير بن عبدالله النسّاج الصوفيُّ من أهل سامرّا وكان من الأبدال ومحمّد بن عليّ بن جعفر أبو بكر الكنانيُّ الصوفيُّ المشهور وهو من أصحاب الجُنيد وأبي سعيد الخرّاز الخرّاز بالخاء المعجمة والراء والزاي‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة

ذكر قتل مرداويج


في هذه السنة قُتل مرداويج الديلميُّ صاحبُ بلاد الجبل وغيرها‏.‏

وكان سبب قتله أنّه كان كثير الإساءة للأتراك وكان يقول أنّ رُوح سليمان بن داود عليه السلام حلّت فيه وإنّ الأتراك هم الشياطين والمردة فإن قهرهم وإلاّ أفسدوا فثقلت وطأته عليهم وتمنّوا هلاكه‏.‏

فلمّا كان ليلة الميلاد من هذه السنة وهي ليلة الوَقود أمر بأن يُجمع الحطب من الجبال والنواحي وأن يُجعل على جانَبي الوادي المعروف بزندروذ كالمنابر والقباب العظيمة ويُعمل مثل ذلك على الجبل المعروف بكريم كوه المشرف على أصبهان من أسفله إلى أعلاه بحيث إذا اشتعلت تلك الأحطاب يصير الجبل كلّه نارًا وعمل مثل ذلك بجميع الجبال والتلال التي هناك وأمر فجُمع له النِّفط ومن يلعب به وعمل من الشموع ما لا يحصى وصِيدَ له من الغِربان والحدإ زيادة على ألفَيْ طائر ليجعل في أرجلها النِّفط وترسل لتطير بالنار في الهواء وأمر بعمل سماط عظيم كان من جملة ما فيه‏:‏ مائة فرس ومئتان من البقر مشوية صحاحًا سوى ما شُوي من الغنم فإنّها كانت ثلاثة آلاف رأس سوى المطبوخ وكان فيه من الدجاج وغيره من أنواع الطير زيادة على عشرة آلاف عدد وعمل من ألوان الحَلواء ما لا يُحدّ وعزم على أن يجمع الناس على ذلك السماط فإذا فرغوا قام إلى مجلس الشراب ويشعل النيران فيتفرّج‏.‏

فلمّا كان آخر النهار ركب وحده وغلمانه رجّالة وطاف بالسماط ونظر إليه وإلى تلك الأحطاب فاستحقر الجميع لسعة الصحراء فتضجّر وغضب ولعن من صنعه ودبّره فخافه من حضر فعاد ونزل ودخل خركاة له فنام فلم يجسر أحد أن يكلّمه‏.‏

واجتمع الأمراء والقوّاد وغيرهم وأرجفوا عليه فمن قائل أنّه غضب لكثرته لأنّه كان بخيلًا ومن قائل أنّه قد اعتراه جنون وقيل بل أوجعه فؤاده وقيل غير ذلك وكادت الفتنة تثور‏.‏

وعرف العميد وزره صورة الحال فأتاه ولم يزل حتّى استيقظ وعرّفه ما الناس فيه فخرج وجلس على الطعام وأكل ثلاث لقم ثم قام ونهب الناس الباقي ولم يجلس للشراب وعاد إلى مكانه وبقي في معسكره بظاهر أصبهان ثلاثة أيّام لا يظهر‏.‏

فلمّا كان اليوم الرابع تقدّم بإسراج الدوابّ ليعود من منزلته إلى داره بأصبهان فاجتمع ببابه خلق كثير وبقيت الدوابّ مع الغلمان وكثر صهيلها ولعبها والغلمان يصيحون بها لتسكن من الشغب وكانت مزدحمة فارتفع من الجميع أصوات هائلة‏.‏

وكان مرداويج نائمًا فاستيقظ فصعد فنظر فرأى ذلك فسأل فعرف الحال فازداد غضبًا وقال‏:‏ أما كفى من خرق الحرمة ما فعلوه في ذلك الطعام وما أرجعوا به حتّى انتهى أمري إلى هؤلاء الكلاب ثم سأل عن أصحاب الدوابّ فقيل‏:‏ أنّها للغمان الأتراك وقد نزلوا إلى خدمتك فأمر أن تُحطّ السروج عن الدوابّ وتجعل على ظهور أصحابها الأتراك ويأخذوا بأرسان الدوابّ إلى الإسطبلات ومن امتنع من ذلك ضربه الدَّيلم بالمقارع حتّى يطيع ففعلوا ذلك بهم وكانت صورة قبيحة يأنف منها أحقر الناس‏.‏

ثم ركب هو بنفسه مع خاصّته وهو يتوعّد الأتراك حتّى صار إلى داره قرب العِشاء وكان قد ضرب قبل ذلك جماعة من أكابر الغلمان الأتراك فحقدوا عليه وأرادوا قتله فلم يجدوا أعوانًا فلمّا جرت هذه الحادثة انتهزوا الفرصة وقال بعضهم‏:‏ ما وجه صبرنا على هذا الشيطان فاتّفقوا وتحالفوا على الفتك به فدخل الحمّام وكان كورتكين يحرسه في خلواته وحمّامه فأمره ذلك اليوم أن لا يتبعه فتأخرّ عنه مغضبًا وكان هو الذي يجمع الحرس فلشدة غضبه لم يأمر أحدًا أن يحضر حراسته وإذا أراد الله أمرًا هيّأ أسبابه‏.‏

وكان له أيضًا خادم أسود يتولى خدمته بالحمّام فاستمالوه فمال إليهم فقالوا للخادم ألاّ يحمل معه سلاحًا وكانت العادة أن يحمل معه خنجرًا طوله نحو ذراع ملفوفًا في منديل فلمّا قالوا ذلك للخادم قال‏:‏ ما أجسر فاتّفقوا على أن كسروا حديد الخنجر وتركوا النصاب في الغلاف بغير حديد فلفّوه في المنديل كما جرت العادة لئلاَّ ينكر الحال‏.‏

فلمّا دخل مرداويج الحمّام فعل الخادم ما قيل له وجاء خادم آخر وهو أستاذ داره فجلس على باب الحمّام فهجم الأتراك إلى الحمّام فقام أستاذ داره ليمنعهم وصاح بهم فضربه بعضهم بالسيف فقطع يده فصاح بالأسود وسقط وسمع مرداويج الضجة فبادر إلى الخنجر ليدفع به عن نفسه فوجده مكسورًا فأخذ سريرًا من خشب كان يجلس عليه إذا اغتسل فترّس به باب الحمّام من داخل ودفع الأتراك الباب فلم يقدروا على فتحه فصعد بعضهم إلى السطح وكسروا الجامات ورموه بالنشاب فدخل البيت الحارّ وجعل يتلطّفهم ويحلف لهم على الإحسان فلم يلتفتوا إليه وكسروا باب الحمّام ودخلوا عليه فقتلوه‏.‏

وكان الذين ألّبوا الناس عليه وشرعوا في قتله توزون وهو الذي صار أمير العساكر ببغداد وياروق وابن بغرا ومحمّد بن ينال الترجمان ووافقهم بجكم وهو الذي وليَ أمر العراق قبل توزون وسيرد ذكر ذلك إن شاء الله تعالى‏.‏

فلمّا قتلوه بادروا فأعلموا أصحابهم فركبوا ونهبوا قصره وهربوا ولم يعلم بهم الديلم لأنّ أكثرهم كانوا قد دخلوا المدينة ليلحق بهم وتخلف الأتراك معه لهذا السبب‏.‏

فلمّا علم الديلم والجيل ركبوا في أثرهم فلم يلحقوا منهم إلاّ نفرًا يسيرًا وقفت دوابّهم فقتلوهم وعادوا لينهبوا الخزائن فرأوا العميد قد ألقى النار فيها فلم يصلوا إليها فبقيت بحالها‏.‏

ومن عجيب ما يحكى أنّ العساكر في ذلك اليوم لّما رأوا غض مرداويج قعدوا يتذاكرون ما هم فيه معه من الجور وشدّة عتوّه وتمرّده عليهم ودخل بينهم رجل شيخ لا يعرفه منهم أحد وهو راكب فقال‏:‏ قد زاد أمر هذا الكافر واليوم تكفنونه ويأخذه الله ثمّ سار فلحقت الجماعة دهشة ونظر بعضهم في وجوه بعض ومرّ الشيخ فقالوا‏:‏ المصلحة أنّنا نتبعه ونأخذه ونستعيده الحديث لئلاّ يسمع مرداويج ما جرى فلا نلقى منه خيرًا فتبعوه فلم يروا أحدًا‏.‏

وكان مرداويج قد تجبّر قبل أن يُقتل وعتا وعمل له كرسيًّا من ذهب يجلس عليه وعمل كراسي من فضّة يجلس عليها أكابر قوّاده وكان قد عمل تاجًا مرصّعًا على صفة تاج كسرى وقد عزم على قصد العراق والاستيلاء عليه وبناء المدائن ودور كسرى ومساكنه وأن يخاطَب إذا فُعل ذلك بشاهنشاه فأتاه أمرُ الله وهو غافل عنه واستراح الناس من شرّه ونسأل الله تعالى أن يريحَ الناس من كلّ ظالم سريعًا‏.‏

ولّما قُتل مرداويج اجتمع أصحابه الديلم والجيل وتشاوروا وقالوا‏:‏ إن بقينا بغير رأس هلكنا فاجتمعوا على طاعة أخيه وشمكير بن زيار وهو والد قابوس وكان بالرَّيّ فحملوا تابوت مرداويج وساروا نحو الريّ فخرج من بها من أصحابه مع أخيه وشمكير فالتقوه على أربعة فراسخ مشاة حفاة وكان يومًا مشهودًا‏.‏

وأمّا أصحابه الذين كانوا بالأهواز وأعمالها فإنّهم لّما بلغهم الخبر كتموه وساروا نحو الريّ فأطاعوا وشمكير أيضًا واجتمعوا عليه‏.‏

ولذما قُتل مرداويج كان ركن الدولة بن بويه رهينة عنده كما ذكرناه فبذل للموكّلين مالًا فأطلقوه فخرج إلى الصحراء ليفكّ قيوده فأقبلت بغال عليها تبن وعليها أصحابه وغلمانه فأُلقي التبن وكسر أصحابه قيودَه وركبوا الدوابّ ونجوا إلى أخيه عماد الدولة بفارس‏.‏