المجلد السابع - ذكر خلافة الراضي بالله

هو أبو العبّاس أحمد بن المقتدر بالله ولّما قُبض القاهر سألوا الخدم عن المكان الذي فيه أبو العبّاس بن المقتدر فدلّوهم عليه وكان هو ووالدته محبوسين فقصدوه وفتحوا عليه ودخلوا فسلّموا عليه بالخلافة وأخرجوه وأجلسوه على سرير القاهر يوم الأربعاء لستّ خلون من جمادى الأولى ولقبوه بالراضي بالله وبايعه القوّاد والناس وأمر بإحضار عليّ بن عيسى وأخيه عبد الرحمن وصدر عن رأيهما فيما يفعله واستشارهما وأراد عليَّ بن عيسى على الوزارة فامتنع لكبره وعجزه وضعفه وأشار بابن مقلة‏.‏

ثم إنّ سيما قال للراضي‏:‏ إنّ الوقت لا يحتمل أخلاق عليّ وابن مقلة أليق بالوقت فكتب له أمانًا وأحضره واستوزره فلمّا وزر أحسن إلى كلّ مَن أساء إليه وأحسن سيرته وقال‏:‏

عاهدت الله عند استتاري بذلك فوفى به وأحضر الشهود والقضاة وأرسلهم إلى القاهر ليشهدوا عليه بالخلع فلم يفعل فسُمل من ليلته فبقي أعمى لا يبصر‏.‏

وأرسل ابن مقلة إلى الخصيبيّ وعيسى المتطبب بالأمان فظهرا وأحسن إليهما واستعمل الخصيبيَّ وولاّه واستعمل الراضي بالله على الشُّرطة بدرًا الخَرشَنيَّ واستعمل ابنُ مقلة أبا الفضل بن جعفر بن الفرات في جمادى الأولى نائبًا عنه على سائر العمّال بالموصل وقَرْدَى وبازَبْدي وماردين وطور عَبدين وديار الجزيرة وديار بكر وطريق الفرات والثغور الجزريّة والشاميّة وأجناد الشام وديار مصر يصرف من يرى ويستعمل مَن يرى في الخراج والمعاون والنفقات والبريد وغير ذلك‏.‏

وأرسل إلى محمّد بن رائق يستدعيه ليولّيه الحجبة وكان قد استولى على الأهواز وأعمالها ودفع عنها ابن ياقوت ولم يبق بيد ابن ياقوت من تلك الولاية إلاّ السُّوس وجُندَيسابور وهو يريد المسير إلى أصبهان أميرًا عليها على ما ذكرناه وكان ذلك آخر أيّام القاهر فلمّا وليَ الراضي واستحضره سار إلى واسط وأرسل محمّد بن ياقوت يخطب الحجبة فأُجيب إليها فسار في أثر ابن رائق وبلغ ابن رائق الخبر فلم يقف وسار من واسط مصعدًا إلى بغداد يسابق ابن ياقوت فلمّا وصل إلى المدائن لقيه توقيع الراضي يأمره بترك دخول بغداد وتقليده الحرب والمعاون بواسط مضافًا إلى ما بيده من البصرة وغيرها فعاد منحدرًا في دجلة ولقيه ابن ياقوت مصعدًا فيها أيضًا فسلّم بعضهم على بعض وأصعد ابن ياقوت إلى بغداد فتولّى الحجبة على ما نذكره‏.‏

ذكر وفاة المهديّ صاحب إفريقية وولاية ولده القائم

في هذه السنة في شهر ربيع الأوّل توفّي المهديُّ أبو محمّد عبيدالله العلويُّ بالمهديّة واخفى ولده أبو القاسم موته سنة لتدبير كان له وكان يخاف أن يختلف الناس عليه إذا علموا بموته وكان عمر المهديّ لّما توفّي ثلاثًا وستّين سنة وكانت ولايته منذ دخل رقّاده ودُعي له بالإمامة إلى أن توفّي أربعًا وعشرين سنة وشهرًا وعشرين يومًا‏.‏

ولّما توفّي ملك بعده ابنه أبو القاسم محمّد وكان أبوه قد عهد إليه ولّما أظهر وفاة والده كان قد تمكّن وفرغ من جميع ما أراده واتَّبع سُنّة أبيه وثار عليه جماعة فتمكّن منهم وكان من أشدّهم رجل يقال له ابن طالوت القرشيُّ في ناحية طرابلس ويزعم أنّه ولد المهديّ فقاموا معه وزحف إلى مدينة طرابلس فقاتله أهلها ثم تبينّ للبربر كذبه فقتلوه وحملوا رأسه إلى وجهّز القائم أيضًا جيشًا كثيفًا مع ميسور الفتى إلى المغرب فانتهى إلى فاس وإلى تَكرور وهزم خارجيًّا هناك وأخذ ولده أسيرًا وسيّر أيضًا جيشًا في البحر وقدّم عليهم رجلًا اسمه يعقوب بن إسحاق إلى بلد الروم فسبى وغنم في بلد جَنَوة وسيّر جيشًا آخر مع خادمه زيدان وبالغ في النفقة عليهم وتجهيزهم إلى مصر فدخلوا الإسكندريّة فأخرج إليهم محمّد الإخشيد عسكرًا كثيفًا فقاتلهم وهزموا المغاربة وقتلوا فيهم وأسروا وعاد المغاربة مفلولين‏.‏

ذكر استيلاء مرداويج على الأهواز

لما بلغ مَرداويجَ استيلاء عليّ بن بويه على فارس اشتدّ ذلك عليه فسار إلى أصبهان للتدبير على ابن بويه فرأى أن ينفذ عسكرًا إلى الأهواز ليستولي عليها ويسدّ الطريق على عماد الدولة بن بويه إذا قصده فلا يبقى له طريق إلى الخليفة ويقصده هو من ناحية أصبهان ويقصده عسكره من ناحية الأهواز فلا يثبت لهم‏.‏

فسارت عساكر مرداويج في شهر رمضان حتّى بلغت إيذَجَ فخاف ياقوت أن يحصل بينهم وبين ابن بويه فسار إلى الأهواز ومعه ابنه المظفَّر وكتب إلى الراضي ليقلّده أعمال الأهواز فقلّده ذلك وصار أبو عبدالله ابن البريديّ كاتبه مضافًا إلى ما بيده من أعمال الخراج بالأهواز ثم استولى عسكر مَرداويج على رامهرمز أوّل شوّال من هذه السنة وساروا نحو الأهواز فوقف لهم ياقوت على قنطرة أرْبَقَ فلم يمكنهم من العبور لشدة جرية الماء فأقاموا بإزائه أربعين يومًا ثم رحلوا فعبروا على الأطواف نهر المسرُقان فبلغ الخبر إلى ياقوت وقد أتاه مدد من بغداد قبل ذلك بيومَيْن فسار بهم إلى قرية الرِّيخ وسار منها إلى واسط وبها حينئذ محمّد بن رائع فأخلى له غربيَّ واسط فنزل فيه ياقوت‏.‏

ولّما بلغ عمادَ الدولة استيلاءُ مرداويج على الأهواز كاتب نائب مرداويج يستميله ويطلب منه أن يتوسّط الحال بينه وبين مرداويج ففعل ذلك وسعى فيه فأجابه مرداويج إلى ذلك على أن يطيعه ويخطب له فاستقرّ الحال بينهما وأهدى له ابن بويه هدية جليلة وأنفذ أخاه ركن الدولة رهينة وخطب لمرداويج في بلاده فرضي مرداويج منه واتّفق أنّه قُتل على ما نذكره فقوي أمر ابن بويه‏.‏

ذكر عود ياقوت إلى الأهواز

ولّما وصل ياقوت إلى واسط أقام بها إلى أن قُتل مرداويج ومعه أبو عبد الله البريديُّ يكتب له فلمّا قُتل مرداويج عاد ياقوت إلى الأهواز واستولى على تلك الولاية ولّما وصل ياقوت إلى عسكر مُكْرَم بعد قتل مرداويج كانت عساكر ابن بويه قد سبقته فالتقوا بنواحي أرّجان وكان ابن بويه قد لحق بأصحابه واشتدّ قتالهم بين يديه فانهزم ياقوت ولم يفلح بعدها‏.‏

وراسل أبو عبدالله البريديُّ ابنَ بُوَيه في الصلح فأجاب إلى ذلك وكتب به إلى الراضي فأجاب إلى ذلك وقرّر بلاد فارس على ابن بُوَيه واستقرّ بشِيراز واستقرّ ياقوت بالأهواز ومعه ابن البريديّ‏.‏

وكان محمّد بن ياقوت قد سَار إلى بغداد وتولّى الحجبة وخلع الراضي عليه وتولّى مع الحجبة رئاسة الجيش وأدخل يده في أمر الدواوين وتقدّم إليهم بأن لا يقبلوا توقيعًا بولاية ولا عزْل وإطلاق إلاّ إذا كان خطّه عليه وأمرهم بحضور مجلسه فصبر أبو عليّ بن مقلة على ذلك وألزم نفسه بالمصير إلى دار ابن ياقوت في بعض الأوقات وبقي كالمتعطّل‏.‏

ولقد كان في هذه الأيّام القليلة حوادث عظيمة منها‏:‏ انصراف وشمكير أخي مرداويج عن أصبهان بكتاب القاهر بعد أن ملكها واستعمال القاهر محمّد بن ياقوت عليها وخلع القاهر وخلافة الراضي وأمر الحجبة لمحمّد ابن رائق ثم انفساخه ومسير محمّد بن ياقوت من رامَهُرْمُز إلى بغداد وولايته الحجبة بعد أن كان سائرًا إلى أصبهان ليتولاّها وإعادة مرداويج أخاه وشمكير إليها وملك عليُّ بن بويه أرّجان هذا جميعه في هذه اللحظة القريبة في سبعين يومًا

ذكر قتل هارون بن غريب

في هذه السنة قُتل هارون بن غريب وكان سبب قتله أنّه كان كما ذكرنا قد استعمله القاهر على ماه الكوفة وقصبتها الدِّينَور وعلى ماسَبذان وغيرها فلمّا خُلع القاهر واستُخلف الراضي رأى هارون أنّه أحقّ بالدولة من غيره لقرابته من الراضي حيث هو ابن خال المقتدر فكاتب القوّاد ببغداد يعدهم الإحسان والزيادة في الأرزاق ثمّ سار من الدِّينَور إلى خانِقين فعظم ذلك على ابن مقلة وابن ياقوت والحجريّة والساجيّة واجتمعوا وشكوه إلى الراضي فأعلمهم أنّه كاره له وأذن لهم في منعه فراسلوه أوّلًا وبذلوا له طريق خراسان زيادة على ما في يده فلم يقنع به وتقدّم إلى النَّهروان وشرع في جباة الأموال وظلم الناس وعسفهم وقويت شوكته‏.‏

فخرج إليه محمّد بن ياقوت في سائر جيوش بغداد ونزل قريبًا منه ووقعت الطلائع بعضها على بعض وهرب بعض أصحاب محمّد بن ياقوت إلى هارون وراسله محمّد يستميله ويبذل له فلم يجب إلى ذلك وال‏:‏ لا بدّ من دخول بغداد‏.‏

فلمّا كان يوم الثلاثاء لست بقين من جمادى الآخرة تزاحف العسكران واشتدّ القتال واستظهر أصحاب هارون لكثرتهم فانهزم أكثر أصحاب ابن ياقوت ونُهب أكثر سوادهم وكثر فيهم الجراح والقتل فسار محمّد بن ياقوت حتّى قطع قنطرة نهر بين فبلغ ذلك هارون فسار نحو القنطرة منفردًا عن أصحابه طمعًا في قتل محمّد بن ياقوت أو أسره فتقنطر به فرسه فسقط عنه في ساقية فلحقه غلام له اسمه يمن فضربه بالطَّبرِزين حتّى أثخنه وكسّر عظامه ثم نزل إليه فذبحه ثم رفع رأسه وكبّر فانهزم أصحابه وتفرّقوا ودخل بعضهم بغداد سرًّا ونهب سواد هارون وقتل جماعة من قوّاده وأسر جماعة‏.‏

وسار محمّد إلى موضع جثّة هارون فأمر بحملها إلى مضربه وأمر بغسله وتكفينه ثم صلّى عليه ودفنه وأنفذ إلى داره من بحفظها من النهب ودخل بغداد ورأس هارون بين يديه ورؤوس جماعة من قوّاده فنُصب ببغداد‏.‏

ذكر ظهور إنسان ادّعى النبوّة

في هذه السنة ظهر بباسِند من أعمال الصغانيان رجل ادّعى النبوة فقصده فوج بعدَ فوج واتّبعه خلق كثير وحارب من خالفه فقتل خلقًا كثيرًا مّمن كذّبه فكثر أتباعه من أهل الشاش خصوصًا‏.‏

وكان صاحب حيل ومخاريق وكان يدخل يده في حوض ملآن ماء فيخرجها مملوءة دنانير إلى غير ذلك من المخاريق فكثر جمعه فأنفذ إليه أبو عليّ بن محمّد بن المظفَّر جيشًا فحاربوه وضيّقوا عليه وهو فوق جبل عالٍ حتّى قبضوا عليه وقتلوه وحملوا رأسه إلى أبي عليّ وقتلوا خلقًا كثيرًا مّمن اتّبعه وآمن به وكان يدّعي أنّه متى مات عاد إلى الدنيا فبقي بتلك الناحية جماعة كثيرة على ما دعاهم إليه مدّة طويلة ثم اضمحلّوا وفنوا‏.‏

ذكر قتل الشَّلمغانيّ وحكاية مذهبه

و في هذه السنة قُتل أبو جعفر محمّد بن عليّ الشَّلمغانيُّ المعروف بابن أبي القراقر وشلْمَغانُ التي يُنسب إليها قرية بنواحي واسط‏.‏

وسبب ذلك أنّه قد أحدث مذهبًا غاليًا في التشيع والتناسخ وحلول الإلهيّة فيه وإلى غير ذلك ممّا يحكيه وأظهر ذلك من فعله أبو القاسم الحسين ابن رَوْح الذي تسمّيه الإمامية الباب متداول وزارة حامد بن العبّاس ثم اتّصل أبو جعفر الشلمغانيُّ بالمحسن بن أبي الحسن بن الفرات في وزارة حامد بن العبّاس ثم اتّصل أبو جعفر الشلمغانيُّ بالمحسن بن أبي الحسن بن الفرات في وزارة أبيه الثالثة ثم إنّه طُلب في زارة الخاقانيّ فاستتر وهرب إلى الموصل فبقي سنين عند ناصر الدولة الحسن بن عبدالله بن حَمدان في حياة أبيه عبدالله بن حَمدان ثم انحدر إلى بغداد واستتر وظهر عنه ببغداد أنّه يدّعي لنفسه الربوبيّة وقيل أنّه اتّبعه على ذلك الحسين بن القاسم بن عبدالله بن سليمان بن وهب الذي وزر للمقتدر بالله وأبو جعفر وأبو عليّ ابنا بِسطام وإبراهيم ابن محمّد بن أبي عون وابن شبيب الزيّات وأحمد بن محمّد بن عبدوس كانوا يعتقدون ذلك فيه وظهر ذلك عنهم وطُلبوا أيّام وزارة ابن مقلة للمقتدر بالله لم يوجدوا‏.‏

فلمّا كان في شوّال سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ظهر الشلمغانيُّ فقبض عليه الوزير ابن مقلة وسجنه وكبس داره فوجد فيها رقاعًا وكتبًا مّمن يدّعي عليه أنّه على مذهبه يخاطبونه بما لا يخاطب به البشر بعضهم بعضًا وفيها خطّ الحسين بن القاسم فعُرضت الخطوط فعرفها الناس وعُرضت على الشلمغانيّ فأقرّ أنّها خطوطهم وأنكر مذهبه وأظهر الإسلام وتبرّأ ممّا يقال فيه وأُخذ ابن أبي عون وابن عبدوس معه وأُحضروا معه عند الخليفة وأُمرا بصفعه فامتنعا فلمّا أُكرها مدّ ابن عبدوس يده وصفعه وأمّا ابن أبي عون فأنّه مدّ يده إلى لحيته ورأسه فارتعدت يده فقبّل لحية الشلمغانيّ ورأسه ثم قال‏:‏ ألهي وسيدي ورازقي فقال له الراضي‏:‏ قد زعمتَ أنّك لا تدّعي الإلهيّة فما هذا فقال‏:‏ وما عليّ من قول ابن أبي عون والله يعلم أنّني ما قُلتُ له أنّني إله قط‏!‏ فقال ابن عبدوس‏:‏ إنّه لم يدّع الإلهيّة وإنّما ادّعى أنّه الباب إلى الإمام المنتظر مكان ابن رَوْح وكنتُ أظنّ أنّه يقول ذلك تقيّةٍ ثم أُحضروا عدّة مرّات ومعهم الفقهاء والقضاة والكتّاب والقوّاد وفي آخر الأيّام أفتى الفقهاء بإباحة دمه فصُلب ابن الشلمغانيّ وابن أبي عون في ذي القعدة فأُحرقا بالنار‏.‏

وكان من مذهبه أنّه إله الآلهة يحقّ الحقّ وأنّه الأوّل القديم الظاهر الباطن الرازق التامّ المومأ إليه بكلّ معنى وكان يقول‏:‏ إنّ الله سبحانه وتعالى يحلّ في كلّ شيء على قدر ما يحتمل وإنّه خلق الضدّ ليدلّ على لمضدود فمن ذلك أنّه حلّ في آدم لّما خلقه وفي إبليسه أيضًا وكلاهما ضدّ لصاحبه لمضادته إيّاه في معناه وأنّ الدليل على الحقّ أفضل من الحقّ وإنّ الضدّ أقرب إلى الشيء من شبهه وإنّ الله عز وجلّ إذا حلّ في جسد ناسوتيّ ظهر من القدرة والمعجزة ما يدلّ على أنّه هو وإنّه لّما غاب آدم ظهر اللاهوت في خمسة ناسوتيّة كلّما غاب منهم واحد ظهر مكانه آخر وفي خمسة أبالسة أضداد لتلك الخمسة ثم اجتمعت اللاهوتيّة في إدريس وإبليسه وتفرّقت بعدهما كما تفرّقت بعد آدم واجتمعت في نوح عليه السّلام وإبليسه وتفرّقت بعدهما كما تفرّقت بعد آدم واجتمعت في نوح عليه السّلام وإبليسه وتفرّقت عند غيبتهما واجتمعت في هود وإبليسه وتفرّقت بعدهما واجتمعت في صالح عليه السّلام وإبليسه عاقر الناقة وتفرّقت بعدهما واجتمعت في إبراهيم عليه السّلام وإبليسه نمرود وتفرّقت لّما غاب واجتمعت في هارون وإبليسه فرعون وتفرّقت بعدهما واجتمعت في سليمان وإبليسه وتفرّقت بعدهما واجتمعت في عيسى وإبليسه فلمّا غابا تفرّقت في تلاميذ عيسى وأبالستهم ثم اجتمعت في عليّ ابن أبي طالب وإبليسه‏.‏

ثمّ أنّ الله يظهر في كلّ شيء وكلّ معنى وإنّه في كلّ أحد بالخاطر الذي يخطر بقلبه فيتصوّر له ما يغيب عنه حتّى كأنّه يشاهده وإن الله اسم لمعنى وأنّ من احتاج الناس إليه فهو إلهٌ ولهذا المعنى يستوجب كلّ أحد أن يسمّى إلهًا وإنّ كّل أحد من أشياعه يقول‏:‏ إنّه ربّ لمن هو في دون درجته وإنّ الرجل منهم يقول‏:‏ أنا ربّ لفلان وفلان ربّ لفلان وفلان ربّ ربّي حتّى يقع الانتهاء إلى ابن أبي القراقر فيقول‏:‏ أنا ربّ الأرباب لا ربوبيّة بعده‏.‏

ولا ينسبون الحسن والحسين رضي الله عنهما إلى عليّ كرّم الله وجهه لأنّ من اجتمعت له الربوبيّة لا يكون له ولد ولا والد وكانوا يسمّون موسى ومحمّدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ الخائنين لأنّهمِ يدّعون أنّ هارون أرسل موسى وعليًّا أرسل محمّدًا فخاناهما ويزعمون أنّ عليّاَ أمهل محمّداَ عدّة سني أصحاب الكهف فإذا انقضت هذه العدّة وهي ثلاثمائة وخمسون سنة انتقلت الشريعة ويقولون أنّ الملائكة كلّ من ملك نفسه وعرف الحقّ وإنّ الجنّة معرفتهم ويعتقدون ترك الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات ولا يتناكحون بعقد ويبيحون الفروج ويقولون إنّ محمّدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث إلى كبراء قريش وجبابرة العرب ونفوسهم أبيّة فأمرهم بالسجود وإنّ الحكمة الآن أن يمتحن الناس بأباحة فروج نسائهم وإنّه يجوز أن يجامع الإنسان من شاء من ذوي رحمه وحرم صديقه وابنه بعد أن يكون على مذهبه وإنّه لا بدّ للفاضل منهم أن ينكح المفضول ليولج النور فيه ومن امتنع من ذلك قُلب في الدور الذي يأتي بعد هذا العالم امرأةً إذ كان مذهبهم التناسخ وكانوا يعتقدون أهلاك الطالبيّين والعبّاسيّين تعالى الله عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا‏.‏

وما أشبه هذه المقالة بمقالة النصيريّة ولعلّها هي هي فإن النصيرية يعتقدون في ابن الفرات‏!‏ ويجعلونه رأسًا في مذهبهم‏.‏

وكان الحسين بن القاسم بالرَّقّة فأرسل الراضي بالله إليه فقُتل آخر ذي القعدة وحُمل رأسه إلى بغداد‏.‏

ذكر عدّة حوادث

في هذه السنة أرسل محمّد بن ياقوت حاجب الخليفة رسولًا إلى أبي طاهر القُرمُطيّ يدعوه إلى طاعة الخلفة ليقرّه على ما بيده من البلاد ويقلّده بعد ذلك ما شاء من البلدان ويحسن إليه ويلتمس منه أن يكفّ عن الحاجّ جميعهم وأن يردّ الحجر الأسود إلى موضعه بمكّة فأجاب أبو طاهر إلى أنّه لا يتعرّض للحاجّ ولا يصيبهم بمكروه ولم يجْب إلى ردّ الحجر الأسود إلى مكّة وسأل أن يطلق له الميرة من البصرة ليخطب للخليفة في أعمال هجَر فسار الحاجّ إلى مكّة وعاد ولم يتعرّض لهم القرامطة‏.‏

وفيها في ذي القعدة عزم محمّد بن ياقوت على المسير إلى الأهواز لمحاربة عسكر مرداويج فتقدّم إلى الجند الحجريّة والساجيّة بالتجهّز للمسير معه وبذل مالًا يتجهّزون به فامتنعوا وتجمّعوا وقصدوا دار محمّد بن ياقوت فأغلظ لهم في الخطاب فسبّوا ورموا داره بالحجارة ولّما كان الغد قصدوا داره أيضًا وأغلظوا له في الخطاب وقاتلوا من بادره من أصحابه فرماهم أصحابه وغلمانه بالنشاب فانصرفوا وبطلت الحركة إلى الأهواز‏.‏

وفيها سار جماعة من أصحاب أبي طاهر القرمطي إلى نواحي تَوّج في مراكب وخرجوا منها إلى تلك الأعمال فلمّا بعدوا عن المراكب أرسل الوالي في البلاد إلى المراكب وأحرقها وجمع الناس وحارب القرامطة فقتل بعضًا وأسر بعضًا فيهم ابن الغمر وهو من أكابر دُعاتهم وسيّرهم إلى بغداد أيّام القاهر فدخلوها مشهورين وسُجنوا وكان من أمرهم ما ذكرناه في وفيها قتل القاهرُ بالله إسحاق بن إسماعيل النوبختيَّ وهو الذي أشار باستخلافه فكان كالباحث عن حتفه بظلفه وقتل أيضًا أبا السرايا بن حَمدان وهو أصغر ولد أبيه وسبب قتلهما أنّه أراد أن يشتري مغنّيتَيْن قبل أن يلي الخلافة فزادا عليه في ثمنهما فحقد ذلك عليهما فلمّا أراد قتلهما استدعاهما للمنادمة فتزيّنا وتطيّبا وحضرا عنده فأمر بإلقائهما إلى بئر في الدار وهو حاضر فتضرّعا وبكيا فلم يلتفت إليهما وألقاهما فيها وطمّها عليهما‏.‏

وفيها أُحضر أبو بكر بن مُقسم ببغداد في دار سلامة الحاجب وقيل له إنّه قد ابتدع قِراءة لم تُعرف وأُحضر ابن مجاهد والقضاة والقراء وناظروه فاعترف بالخطإ وتاب منه واحترقت كتبه‏.‏

وفيها سار الدّمُسْتُق قَرَقَاش في خمسين ألفًا من الروم فنازل مَلَطْية وحصرها مدّة طويلة وهلك أكثر أهلها بالجوع وضرب خيمتَيْن على إحداهما صليب وقال‏:‏ من أراد النصرانيّة انحاز إلى خيمة الصليب ليردّ عليه أهله وماله ومن أراد الإسلام انحاز إلى الخيمة الأخرى وله الأمان على نفسه ونبلغه مأمنه فانحاز أكثر المسلمين إلى الخيمة التي عليها الصليب طمعًا في أهليهم وأموالهم وسيّر مع الباقين بطريقًا يبلغهم مأمنهم وفتحها بالأمان مستهلّ جمادى الآخرة يوم الأحد وملكوا سُمَيساط وخرّبوا الأعمال وأكثروا القتل وفعلوا وفيها توفّي عبد الملك بن محمّد بن عديّ أبو نُعيم الفقيه الجرجانيُّ الاستراباذيُّ وأبو عليّ الروذباريُّ الصوفيُّ واسمه محمّد بن أحمد بن القاسم وقيل توفّي سنة ثلاث وعشرين‏.‏

وفيها توفّي خير بن عبدالله النسّاج الصوفيُّ من أهل سامرّا وكان من الأبدال ومحمّد بن عليّ بن جعفر أبو بكر الكنانيُّ الصوفيُّ المشهور وهو من أصحاب الجُنيد وأبي سعيد الخرّاز الخرّاز بالخاء المعجمة والراء والزاي‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة

ذكر قتل مرداويج


في هذه السنة قُتل مرداويج الديلميُّ صاحبُ بلاد الجبل وغيرها‏.‏

وكان سبب قتله أنّه كان كثير الإساءة للأتراك وكان يقول أنّ رُوح سليمان بن داود عليه السلام حلّت فيه وإنّ الأتراك هم الشياطين والمردة فإن قهرهم وإلاّ أفسدوا فثقلت وطأته عليهم وتمنّوا هلاكه‏.‏

فلمّا كان ليلة الميلاد من هذه السنة وهي ليلة الوَقود أمر بأن يُجمع الحطب من الجبال والنواحي وأن يُجعل على جانَبي الوادي المعروف بزندروذ كالمنابر والقباب العظيمة ويُعمل مثل ذلك على الجبل المعروف بكريم كوه المشرف على أصبهان من أسفله إلى أعلاه بحيث إذا اشتعلت تلك الأحطاب يصير الجبل كلّه نارًا وعمل مثل ذلك بجميع الجبال والتلال التي هناك وأمر فجُمع له النِّفط ومن يلعب به وعمل من الشموع ما لا يحصى وصِيدَ له من الغِربان والحدإ زيادة على ألفَيْ طائر ليجعل في أرجلها النِّفط وترسل لتطير بالنار في الهواء وأمر بعمل سماط عظيم كان من جملة ما فيه‏:‏ مائة فرس ومئتان من البقر مشوية صحاحًا سوى ما شُوي من الغنم فإنّها كانت ثلاثة آلاف رأس سوى المطبوخ وكان فيه من الدجاج وغيره من أنواع الطير زيادة على عشرة آلاف عدد وعمل من ألوان الحَلواء ما لا يُحدّ وعزم على أن يجمع الناس على ذلك السماط فإذا فرغوا قام إلى مجلس الشراب ويشعل النيران فيتفرّج‏.‏

فلمّا كان آخر النهار ركب وحده وغلمانه رجّالة وطاف بالسماط ونظر إليه وإلى تلك الأحطاب فاستحقر الجميع لسعة الصحراء فتضجّر وغضب ولعن من صنعه ودبّره فخافه من حضر فعاد ونزل ودخل خركاة له فنام فلم يجسر أحد أن يكلّمه‏.‏

واجتمع الأمراء والقوّاد وغيرهم وأرجفوا عليه فمن قائل أنّه غضب لكثرته لأنّه كان بخيلًا ومن قائل أنّه قد اعتراه جنون وقيل بل أوجعه فؤاده وقيل غير ذلك وكادت الفتنة تثور‏.‏

وعرف العميد وزره صورة الحال فأتاه ولم يزل حتّى استيقظ وعرّفه ما الناس فيه فخرج وجلس على الطعام وأكل ثلاث لقم ثم قام ونهب الناس الباقي ولم يجلس للشراب وعاد إلى مكانه وبقي في معسكره بظاهر أصبهان ثلاثة أيّام لا يظهر‏.‏

فلمّا كان اليوم الرابع تقدّم بإسراج الدوابّ ليعود من منزلته إلى داره بأصبهان فاجتمع ببابه خلق كثير وبقيت الدوابّ مع الغلمان وكثر صهيلها ولعبها والغلمان يصيحون بها لتسكن من الشغب وكانت مزدحمة فارتفع من الجميع أصوات هائلة‏.‏

وكان مرداويج نائمًا فاستيقظ فصعد فنظر فرأى ذلك فسأل فعرف الحال فازداد غضبًا وقال‏:‏ أما كفى من خرق الحرمة ما فعلوه في ذلك الطعام وما أرجعوا به حتّى انتهى أمري إلى هؤلاء الكلاب ثم سأل عن أصحاب الدوابّ فقيل‏:‏ أنّها للغمان الأتراك وقد نزلوا إلى خدمتك فأمر أن تُحطّ السروج عن الدوابّ وتجعل على ظهور أصحابها الأتراك ويأخذوا بأرسان الدوابّ إلى الإسطبلات ومن امتنع من ذلك ضربه الدَّيلم بالمقارع حتّى يطيع ففعلوا ذلك بهم وكانت صورة قبيحة يأنف منها أحقر الناس‏.‏

ثم ركب هو بنفسه مع خاصّته وهو يتوعّد الأتراك حتّى صار إلى داره قرب العِشاء وكان قد ضرب قبل ذلك جماعة من أكابر الغلمان الأتراك فحقدوا عليه وأرادوا قتله فلم يجدوا أعوانًا فلمّا جرت هذه الحادثة انتهزوا الفرصة وقال بعضهم‏:‏ ما وجه صبرنا على هذا الشيطان فاتّفقوا وتحالفوا على الفتك به فدخل الحمّام وكان كورتكين يحرسه في خلواته وحمّامه فأمره ذلك اليوم أن لا يتبعه فتأخرّ عنه مغضبًا وكان هو الذي يجمع الحرس فلشدة غضبه لم يأمر أحدًا أن يحضر حراسته وإذا أراد الله أمرًا هيّأ أسبابه‏.‏

وكان له أيضًا خادم أسود يتولى خدمته بالحمّام فاستمالوه فمال إليهم فقالوا للخادم ألاّ يحمل معه سلاحًا وكانت العادة أن يحمل معه خنجرًا طوله نحو ذراع ملفوفًا في منديل فلمّا قالوا ذلك للخادم قال‏:‏ ما أجسر فاتّفقوا على أن كسروا حديد الخنجر وتركوا النصاب في الغلاف بغير حديد فلفّوه في المنديل كما جرت العادة لئلاَّ ينكر الحال‏.‏

فلمّا دخل مرداويج الحمّام فعل الخادم ما قيل له وجاء خادم آخر وهو أستاذ داره فجلس على باب الحمّام فهجم الأتراك إلى الحمّام فقام أستاذ داره ليمنعهم وصاح بهم فضربه بعضهم بالسيف فقطع يده فصاح بالأسود وسقط وسمع مرداويج الضجة فبادر إلى الخنجر ليدفع به عن نفسه فوجده مكسورًا فأخذ سريرًا من خشب كان يجلس عليه إذا اغتسل فترّس به باب الحمّام من داخل ودفع الأتراك الباب فلم يقدروا على فتحه فصعد بعضهم إلى السطح وكسروا الجامات ورموه بالنشاب فدخل البيت الحارّ وجعل يتلطّفهم ويحلف لهم على الإحسان فلم يلتفتوا إليه وكسروا باب الحمّام ودخلوا عليه فقتلوه‏.‏

وكان الذين ألّبوا الناس عليه وشرعوا في قتله توزون وهو الذي صار أمير العساكر ببغداد وياروق وابن بغرا ومحمّد بن ينال الترجمان ووافقهم بجكم وهو الذي وليَ أمر العراق قبل توزون وسيرد ذكر ذلك إن شاء الله تعالى‏.‏

فلمّا قتلوه بادروا فأعلموا أصحابهم فركبوا ونهبوا قصره وهربوا ولم يعلم بهم الديلم لأنّ أكثرهم كانوا قد دخلوا المدينة ليلحق بهم وتخلف الأتراك معه لهذا السبب‏.‏

فلمّا علم الديلم والجيل ركبوا في أثرهم فلم يلحقوا منهم إلاّ نفرًا يسيرًا وقفت دوابّهم فقتلوهم وعادوا لينهبوا الخزائن فرأوا العميد قد ألقى النار فيها فلم يصلوا إليها فبقيت بحالها‏.‏

ومن عجيب ما يحكى أنّ العساكر في ذلك اليوم لّما رأوا غض مرداويج قعدوا يتذاكرون ما هم فيه معه من الجور وشدّة عتوّه وتمرّده عليهم ودخل بينهم رجل شيخ لا يعرفه منهم أحد وهو راكب فقال‏:‏ قد زاد أمر هذا الكافر واليوم تكفنونه ويأخذه الله ثمّ سار فلحقت الجماعة دهشة ونظر بعضهم في وجوه بعض ومرّ الشيخ فقالوا‏:‏ المصلحة أنّنا نتبعه ونأخذه ونستعيده الحديث لئلاّ يسمع مرداويج ما جرى فلا نلقى منه خيرًا فتبعوه فلم يروا أحدًا‏.‏

وكان مرداويج قد تجبّر قبل أن يُقتل وعتا وعمل له كرسيًّا من ذهب يجلس عليه وعمل كراسي من فضّة يجلس عليها أكابر قوّاده وكان قد عمل تاجًا مرصّعًا على صفة تاج كسرى وقد عزم على قصد العراق والاستيلاء عليه وبناء المدائن ودور كسرى ومساكنه وأن يخاطَب إذا فُعل ذلك بشاهنشاه فأتاه أمرُ الله وهو غافل عنه واستراح الناس من شرّه ونسأل الله تعالى أن يريحَ الناس من كلّ ظالم سريعًا‏.‏

ولّما قُتل مرداويج اجتمع أصحابه الديلم والجيل وتشاوروا وقالوا‏:‏ إن بقينا بغير رأس هلكنا فاجتمعوا على طاعة أخيه وشمكير بن زيار وهو والد قابوس وكان بالرَّيّ فحملوا تابوت مرداويج وساروا نحو الريّ فخرج من بها من أصحابه مع أخيه وشمكير فالتقوه على أربعة فراسخ مشاة حفاة وكان يومًا مشهودًا‏.‏

وأمّا أصحابه الذين كانوا بالأهواز وأعمالها فإنّهم لّما بلغهم الخبر كتموه وساروا نحو الريّ فأطاعوا وشمكير أيضًا واجتمعوا عليه‏.‏

ولذما قُتل مرداويج كان ركن الدولة بن بويه رهينة عنده كما ذكرناه فبذل للموكّلين مالًا فأطلقوه فخرج إلى الصحراء ليفكّ قيوده فأقبلت بغال عليها تبن وعليها أصحابه وغلمانه فأُلقي التبن وكسر أصحابه قيودَه وركبوا الدوابّ ونجوا إلى أخيه عماد الدولة بفارس‏.‏

ذكر استيلاء ما كان على جُرجان

و في هذه السنة استولى ما كان بن كالي على جُرجان‏.‏

وسبب ذلك أنّنا ذكرنا أوّلًا ما كان لّما عاد من جرجان أقام بنَيسابور وأقام بانجين بجُرجان فلمّا كان بعد ذلك خرج بانجين يلعب بالكرة فسقط عن دابّته فوقع ميّتًا‏.‏

وبلغ خبره ما كان بن كالي وهو بنَيسابور وكان قد استوحش من عارض جيش خراسان فاحتجّ على محمّد بن المظفّر صاحب الجيش بخراسان بأنّ بعض أصحابه قد هرب منه وأنّه قد يخرج في طلبه فأذن له في ذلك وسار عن نَيسابور إلى أسفرايين فأنفذ جماعة من عسكره إلى جُرجان واستولوا عليها فأظهر العصيان على محمّد بن المظفَّر وسار من أسفرايين إلى نَيسابور مغافصةً وبها محمّد بن المظفّر فخذل محمّدًا أصحابُه ولم يعاونوه وكان في قلّة من العسكر غير مستعدّ له فسار نحو سَرْخَس وعاد ما كان من نَيسابور خوفًا من اجتماع العساكر عليه وكان ذلك في شهر رمضان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة‏.‏

وفيها كتب ابن رائق كتابًا عن الراضي إلى أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفُرات يستدعيه ليجعله وزيرًا وكان يتولّى الخراج بمصر والشام وظنّ ابن رائق أنّه إذا استوزره جبى له أموال الشام ومصر فقدم إلى بغداد ونفذت له الخلع قبل وصوله فلقيته بهَيْت فلبسها ودخل بغداد وتولّى وزراة الخليفة ووزارة ابن رائق جميعًا‏.‏

ذكر عدّة حوادث

في هذه السنة قلّد الراضي محمّدَ بن طُغْج أعمال مصر مضافًا إلى ما بيده من الشام وعزل أحمد بن كَيْغَلَغ عن مصر‏.‏

وفيها انخسف القمر جميعه ليلة الجمعة لأربع عشرة خلت من ربيع الأوّل وانخسف جميعه أيضًا لأربع عشرة خلت من شوّال‏.‏

وفيها قُبض على أبي عبدالله بن عبدوس الجهشياريّ وصودر على مائتَيْ ألف دينار‏.‏

وفيها وُلد عضد الدولة أبو شجاع فنّاخَسرُو بن ركن الدولة أبي عليّ الحسن بن بويه بأصبهان‏.‏

وفيها توفّي أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك المعروف بجحظه وله شِعر مطبوع وكان عارفًا بفنون شتّى من العلوم‏.‏

وفيها توفّي أبو بكر أحمد بن موسى بن العبّاس بن مجاهد في شعبان وكان إمامًا في معرفة القراءات وعبد الله بن أحمد بن محمّد بن المغلِّس أبو الحسن الفقيه الظاهريُّ صاحب التصانيف المشهورة‏.‏

وفيها توفّي عبدالله بن محمّد بن زياد بن واصل أبو بكر النَّيسابوريُّ الفقيه الشافعيُّ في ربيع الأوّل وكان مولده سنة ثمان وثلاثين ومائتين وكان قد جالس الربيع بن سليمان والمزنيَّ ويونس بن عبد الأعلى أصحاب الشافعيّ وكان إمامًا‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة

ذكر مسير الراضي بالله إلى حرب البريديّ


في هذه السنة أشار محمّد بن رائق على الراضي بالله بالانحدار معه إلى واسط ليقرب من الأهواز ويراسل أبا عبدالله بن البريديّ فإن أجاب إلى ما يطلب منه وإلاّ قرّب قصده عليه فأجاب الراضي إلى ذلك وانحدر أوّل المحرّم فخالف الحجريّة وقالوا‏:‏ هذه حيلة علينا ليعمل بنا مثل ما عمل بالساجيّة فلم يلتفت ابن رائق إليهم وانحدر وتبعه بعضهم ثمّ انحدروا بعده فلمّا صاروا بواسط اعترضهم ابن رائق فأسقط أكثرهم فاضطروا وثاروا فقاتلهم قتالًا ولّما وصل المنهزمون إلى بغداد ركب لؤلؤ صاحب الشُّرطة ببغداد ولقيهم فأوقع بهم فاستتروا فنُهبت دورهم وقُبضت أموالهم وأملاكهم وقُطعت أرزاقهم‏.‏

فلّما فرغ منهم ابن رائق قتل من كان اعتقله من الساجيّة سوى صافي الخازن وهارون بن موسى فلّما فرغ أخرج مضاربه ومضار الراضي نحو الأهواز لإجلاء ابن البريديّ عنها فأرسل إليه في معنى تأخير الأموال وما قد ارتكبه من الاستبداد بها وإفساد الجيوش وتزيين العصيان لهم إلى غير ذلك من ذكر معايبه ثم يقول بعد ذلك‏:‏ وإنّه إن حمل الواجب عليه وسلّم الجند الذين أفسدهم أُقرّ على عمله وإن أبى قوبل بما استحقّه‏.‏

فلمّا سمع الرسالة جدّد ضمان الأهواز كل سنة بثلاثمائة وستّين ألف دينار يحمل كلّ شهر بقسطه وأجاب إلى تسليم الجيش إلى من يؤمر بتسليمهِ إليه مّمن يسير به إلى قتال ابن بوَيْه إذ كانوا كارهين للعود إلى بغداد لضيق الأموال بها واختلاف الكلمة فكتب الرسل ذلك إلى ابن رائق فعرضه على الراضي وشاور فيه أصحابه فأشار الحسين بن عليّ النُّوبختيُّ بأن لا يقبل منه ذلك فإنّه خداع ومكر للقرب منه ومتى عُدتم عنه لم يقف على ما بذله‏.‏

وأشار أبو بكر بن مقابل بإجابته إلى ما التمس من الضمان وقال‏:‏ إنّه لا يقوم غيره مقامه وكان يتعصّب للبريديّ فسمع قوله وعقد الضمان على البريديّ وعاد هو والراضي إلى بغداد

فأمّا المال فما حمل منه دينارًا واحدًا وأمّا الجيش فإنّ ابن رائق أنفذ جعفر بن ورقاء ليتسلّمه منه وليسير بهم إلى فارس فلّما وصل إلى الأهواز لقيه ابن البريديّ في الجيش جمعيه ولّما عاد سار الجيش مع البريديّ إلى داره واستصحب معه جعفرًا وقدّم لهم طعامًا كثيرًا فأكلوا وانصرفوا وأقام جعفر عدّة أيّام‏.‏

ثم إنّ جعفرًا أمر الجيش فطالبوه بمال يفرّقه فيهم ليتجهّزوا به إلى فارس فلم يكن معه شيء فشتموه وتهدّدوه بالقتل فاستتر منهم ولجأ إلى البريديّ وقال له البريديُّ‏:‏ ليس العجب ممّن أرسلك وإنّما العجب منك كيف جئتَ بغير شيء فلو أن الجيش مماليك لما ساروا إلاّ بمال ترضيهم به ثم أخرجه ليلًا وقال‏:‏ انجُ بنفسك فسار إلى بغداد خائبًا‏.‏

ثم إنّ ابن مقاتل شرع مع ابن رائق في عزل الحسين بن عليّ النوبختيّ وزيره وأشار عليه بالاعتضاد بالبريديّ وأن يجعله وزيرًا له عوض النوبختيّ وبذل له ثلاثين ألف دينار فلم يجبه إلى ذلك فلم يزل ابن مقاتل يسعى ويجتهد إلى أن أجابه إليه فكان من أعظم الأسباب في بلوغ ابن مقاتل غرضه أنّ النوبختيّ كان مريضًا فلّما تحدّث ابن مقاتل مع ابن رائق في عزله امتنع من ذلك وقال له‏:‏ عليّ حقّ كثير هو الذي سعى لي حتّى بلغتُ هذه الرتبة فلا أبتغي به بديلًا‏.‏

فقال ابن مقاتل‏:‏ فإنّ النوبختيّ مريض لا مطمع في عافيته‏.‏

فقال‏:‏ إنّ الطبيب يعلم منزلته منك وأنّه وزير الدولة فلا يلقاك في أمره بما تكره ولكن أحضر ابن أخي النوبختيّ وصهره عليَّ بن أحمد واسأله عنه سرًّا فهو يخبرك بحاله‏.‏

فقال‏:‏ أفعل‏.‏

وكان النوبختيُّ قد استناب ابن أخيه هذا عند ابن رائق ليقوم بخدمته في مرضه ثم إنّ مقاتل فارق ابن رائق على هذا واجتمع بعليّ بن أحمد وقال له‏:‏ قد قرّرت لك مع الأمير ابن رائق الوزارة فإذا سألك عن عمّك فأعلمه أنّه على الموت ولا يجيء منه شيء لتتمّ لك الوزارة‏.‏

فلّما اجتمع ابن رائق بعليّ بن أحمد سأله عن عمّه فغشي عليه ثم لطم برأسه ووجهه وقال‏:‏ يبقي الله الأمير ويعظّم أجره فيه فلا يعدّه الأمير إلاّ في الأموات‏!‏ فاسترجع وحوقل وقال‏:‏ لو فُدي بجميع ما أملكه لفعلتُ‏.‏

فلمّا حضر عنده ابن مقاتل قال له ابن رائق‏:‏ قد كان الحقّ معك وقد يئسنا من النوبختيّ فاكتب إلى البريديّ ليرسل من ينوب عنه في وزارتي ففعل وكتب إلى البريديّ بإنفاذ أحمد بن عليّ الكوفيّ لينوب عنه في وزارة ابن رائق فأنفذه فاستولى على الأمور وتمشّى حال البريديّ بذلك فإنّ النوبختيَّ كان عارفًا به لا يتمشّى معه محاله‏.‏

فلّما استولى الكوفّي وابن مقاتل شرعًا في تضمين البصرة من أبي يوسف ابن البريديّ أخي أبي عبدالله فامتنع ابن رائق من ذلك فخدعاه إلى أن أجاب إليه وكان نائب ابن رائق بالبصرة محمّد بن يزداد وقد أساس السيرة وظلم أهلها فلّما ضمنها البريديُّ حضر عنده بالأهواز جماعة من أعيان أهلها فوعدهم ومنّاهم وذمّ ابن رائق عندهم بما كان يفعله ابن يزداد فدعوا له‏.‏

ثم أنفذ البريديُّ غلامه إقبالًا في ألفَيْ رجل وأمرهم بالمقام بحصن مهديّ إلى أن يأمرهم بما يفعلون فلّما علم ابن يزداد بهم قامت قيامته من ذلك وعلم أنّ البريديَّ يريد التغلّب على البصرة وإلاّ لو كان يريد التصرّف في ضمانه لكان يكفيه عامل في جماعته‏.‏

وأمر البريديُّ بإسقاط بعض ما كان ابن يزداد يأخذه من أهل البصرة حتّى اطمأنّوا وقاتلوا معه عسكر ابن رائق ثم عطف عليهم فعمل بهم أعمالًا تمدنوا معها أيّام ابن رائق وعدّوها أعيادًا‏.‏

ذكر ظهور الوحشة بين ابن رائق والبريديّ والحرب بينهما

في هذه السنة أيضًا ظهرت الوحشة بين ابن رائق والبريديّ وكان لذلك عدّة أسباب منها أنّ رائق لّما عاد من واسط إلى بغداد أمر بظهور مَن اختفى من الحجريّين فظهروا فاستخدم منهم نحو ألفَيْ رجل وأمر الباقين بطلب الرزق أين أرادوا فخرجوا من بغداد واجتمعوا بطريق خراسان ثم ساروا إلى أبي عبدالله البريديّ فأكرمهم وأحسن إليهم وذمّ ابن رائق وعابه وكتب إلى بغداد يعتذر عن قبولهم ويقول‏:‏ إنّني خفتهم فلهذا قبلتُهم وجعلهم طريقًا إلى قطع ما استقرّ عليه من المال وذكر أنّهم اتّفقوا مع الجيش الذي عنده ومنعوه من حمل المال الذي استقرّ عليه فأنفذ إليه ابن رائق يُلزمه بإبعاد الحجريّة فاعتذر ولم يفعل‏.‏

ومنها أنّ ابن رائق بلغه ما ذمّه به ابن الريديّ عند أهل البصرة فساءه ذلك وبلغه مقام إقبال في جيشه بحصن مهديّ فعظم عليه واتّهم الكوفيَّ بمحاباة البريديّ وأراد عزله فمنعه عنه أبو بكر محمّد بن مقاتل وكان مقبول القول عند ابن رائق فأمر الكوفيَّ أن يكتب إلى البريديّ يعاتبه على هذه الأشياء ويأمره بإعادة عسكره من حصن مهديّ فكتب إليه في ذلك فأجاب بأنّ أهل البصرة يُخفون القرامطة وابن يزداد عاجز عن حمايتهم وقد تمسّكوا بأصحابي لخوفهم‏.‏

وكان أبو طاهر الهجريُّ قد وصل إلى الكوفة في الثالث والعشرين من ربيع الآخر فخرج ابن رائق في عساكره إلى قصر ابن هُبيرة وأرسل إلى القُرمُطيّ فلم يستقرّ بينهم أمر فعاد القُرمُطيُّ إلى بلده فعاد حينئذ ابن رائق وسار إلى واسط فبلغ ذلك البريديَّ فكتب إلى عسكره بحصن مهديّ يأمرهم بدخول البصرة وقتال مَن منعهم وأنفذ إليهم جماعة من الحجريّة معونة لهم

فأنفذ ابن يزداد جماعة من عنده ليمنعهم من دخول البصرة فاقتتلوا بنهر الأمير فانهزم أصحاب ابن يزداد فأعادهم وزاد في عدّتهم كلّ متجنّد بالبصرة واقتتلوا ثانيًا فانهزموا أيضًا‏.‏

ودخل إقبال وأصحاب البريديّ البصرة وانهزم ابن يزداد إلى الكوفة وقامت القيامة على ابن رائق وكتب إلى أبي عبدالله البريديّ يتهدّده ويأمره بإعادة أصحابه من البصرة فاعتذر ولم يفعل وكان أهل البصرة في أوّل الأمر يريدون البريديَّ لسوء سيرة ابن يزداد‏.‏

ذكر استيلاء بجكم على الأهواز

لّما وصل جواب الرسالة من البريديّ إلى ابن رائق بالمغالطة عن إعادة جنده من البصرة استدعى بدرًا الخَرشنيَّ وخلع عليه وأحضر بجكم أيضًا وخلع عليه وسيّرهما في جيش وأمرهم أن يقيموا بالجامدة فبادر بجكم ولم يتوقف على بدر ومَن معه وسار إلى السُّوس‏.‏

فبلغ ذلك البريديَّ فأخرج إليه جيشًا كثيفًا في ثلاثة آفلا مقاتل ومقدّمهم غلامه محمّد المعروف بالحمّال فاقتتلوا بظاهر السُّوس وكان مع بجكم مائتان وسبعون رجلًا من الأتراك فانهزم أصحاب البريديّ وعادوا إليه فضرب البريديُّ محمّدًا الحمّال وقال‏:‏ انهزمتَ بثلاثة آلاف من ثلاثمائة فقال له‏:‏ أنت ظنَنتَ أنّك تحارب ياقوتًا المدبر قد جاءك خلاف ما عهدتَ فقام

ثم رجع عسكره وأضاف إليهم من لم يشهد الوقعة فبلغوا ستّة آلاف رجل وسيّرهم مع الحمّال أيضًا فالتقوا عند نهر تُستَر فبادر بجكم فعبر النهر هو وأصحابه فلّما رآه أصحاب البريديِّ انهزموا من غير حرب فلّما رآهم أبو عبدالله البريديُّ ركب هو وإخوته ومن يلزمه في السفن فأخذ معه ما بقي عنده من المال وهو ثلاثمائة ألف دينار فغرقت السفينة بهم فأخرجهم الغوّاصون وقد كادوا يغرقون وأُخرج بعض المال وأُخرج باقي المال لبجكم ووصلوا إلى البصرة فأقاموا بالأُبُلّة وأعدّوا المراكب للهرب أن انهزم إقبال‏.‏

وسيّر أبو عبدالله البريديُّ غلامه إقبالًا إلى مطارا وسيّر معه جمعًا من فتيان البصرة فالتقوا بمطارا مع أصحاب ابن رائق فانهزمت الرائقيّة وأُسر منهم جماعة فأطلقهم البريديُّ وكتب إلى ابن رائق يستعطفه وأرسل إليه جماعة من أعيان أهل البصرة فلم يجبهم وطلبوا منه أن يحلف لأهل البصرة ليكونوا معه ويساعدوه فامتنع وحلف لئن ظفر بها ليحرقنّها ويقتل كلّ من فيها فازدادوا بصيرة في قتاله‏.‏

واطمأنَّ البريدّيون بعد انهزام عسكر ابن رائق وأقاموا حينئذ بالبصرة واستولى بجكم على الأهواز فلّما بلغ ابن رائق هزيمة أصحابه جهّز جيشًا آخر وسيّره إلى البرّ والماء فالتقى عسكره الذي على الظهر مع عسكر البريديّ فانهزم الرائقيّة وأمّا العسكر الذي في الماء فإنّهم استولوا على الكلاّء فلمّا رأى ذلك أبو عبدالله البريديُّ ركب في السفن وهرب إلى جزيرة أُوال وترك أخاه أبا الحسين بالبصرة في عسكر يحميها فخرج أهل البصرة مع أبي الحسين لدفع عسكر ابن رائق عن الكلاّء فقاتلوهم حتّى أجلوهم عنه‏.‏

فلّما اتصل ذلك بابن رائق سار بنفسه من واسط إلى البصرة على الظهر وكتب إلى بَجكم ليلحق به فأتاه فيمن عنده من الجند فتقدموا وقاتلوا أهل البصرة فاشتدّ القتال وحامى أهل البصرة وشتموا ابن رائق فلّما رأى بجكم ذلك هاله وقال لابن رائق‏:‏ ما الذي عملتَ بهؤلاء القوم حتى أحوجتَهم إلى هذا فقال‏:‏ والله لا أدري‏!‏ وعاد ابن رائق وبجكم إلى معسكرهما‏.‏

وأمّا أبو عبدالله البريديُّ فأنّه سار من جزيرة أوال إلى عماد الدولة ابن بويه واستجار به وأطمعه في العراق وهوّن عليه أمر الخليفة وإبن رائق فنفّذ معه أخاه معزّ الدولة على ما نذكره‏.‏

فلّما سمع ابن رائق بإقبالهم من فارس إلى الأهواز سيّر بجكم إليها فامتنع من المسير إلاّ أن يكون إليه الحرب والخراج فأجابه إلى ذلك وسيّره إليها‏.‏

ثم إن جماعة من أصحاب البريديّ قصدوا عسكر ابن رائق ليلًا فصاحوا في جوانبه فانهزموا فلّما رأى ابن رائق ذلك أمر بإحراق سواده وآلاته لئلا يغنمه البريديُّ وسار إلى الأهواز جريدة

فأشار جماعة على بجكم بالقبض عليه فلم يفعل وأقام ابن رائق أيّامًا وعاد إلى واسط وكان باقي عسكره قد سبقوه إليها‏.‏

ذكر الفتنة بين أهل صقلّية وأمرائهم

في هذه السنة خالف أهل جُرجنت وهي من بلاد صِقلّية على أميرهم سالم بن راشد وكان استعمله عليهم القائم العلويُّ صاحب أفريقية وكان سيئ السيرة في الناس فأخرجوا عامله عليهم فسيّر إليهم سالم جيشًا كثيرًا من أهل صِقلّية وأفريقية فاقتتلوا أشدّ قتال فهزمهم أهل جرجنت وتبعهم فخرج إليهم سالم ولقيهم واشتدّ القتال بينهم وعظم الخطب فانهزم أهل جرجنت في شعبان‏.‏

فلمّا رأى أهل المدينة خلاف أهل جرجنت خرجوا أيضًا على سالم وخالفوه وعظم شغبهم عليه وقاتلوه في ذي القعدة من هذه السنة فهزمهم وحصرهم بالمدينة فأرسل إلى القائم بالمهديّة يعرّفه أنّ أهل صِقلّية قد خرجوا عن طاعته وخالفوا عليه ويستمدّه فأمدّه القائم بجيش واستعمل عليهم خليل بن إسحاق فساروا حتّى وصلوا إلى صِقلّية فرأى خليل من طاعة أهلها ما سرّه وشكوا إليه مِن ظُلم سالم وجوره وخرج إليه النساء والصبيان يبكون وجاء أهل البلاد إلى خليل وأهل جرجنت فلمّا وصلوا اجتمع بهم سالم وأعلمهم أنّ القائم قد أرسل خليلًا لينتقم منهم بمن قتلوا من عسكره فعاودوا الخلاف فشرع خليل في بناء مدينة على مَرسى المدينة وحصّنها ونقض كثيرًا من المدينة وأخذ أبوابها وسمّاها الخالصة‏.‏

ونال الناس شدّة في بناء المدينة فبلغ ذلك أهل جرجنت فخافوا وتحقّق عندهم ما قال لهم سالم وحصّنوا مدينتهم واستعدّوا للحرب فسار إليهم خليل في جمادى الأولى سنة ستّ وعشرين وثلاثمائة وحصرهم فخرجوا إليه والتحم القتال واشتدّ الأمر وبقي محاصرًا لهم ثمانية أشهر لا يخلو يوم من قتال وجاء الشتاء فرحل عنهم في ذي الحجّة إلى الخالصة فنزلها‏.‏

ولّما دخلت سنة سبع وعشرين خالف على خليل جميع القلاع وأهل مَازَر كلّ ذلك بسعي أهل جرجنت وبثّوا سراياهم واستفحل أمرهم وكاتبوا ملك القُسطنطينيّة يستنجدونه فأمدّهم بالمراكب فيها الرجال والطعام فكتب خليل إلى القائم يستنجده فبعث إليه جيشًا كثيرًا فخرج خليل بمن معه من أهل صِقلّية فحصروا قلعة أبي ثَور فملكوها وكذلك أيضًا البلّوط ملكوها وحصروا قلعة أبلاطنوا وأقاموا عليها حتّى انقضت سنة سبع وعشرين وثلاثمائة‏.‏

فلمّا دخلت سنة ثمان وعشرين رحل خليل عن أبلاطنوا وحصر جرجنت وأطال الحصار ثم رحل عنها وترك عليها عسكرًا يحاصرها مقدّمهم أبو خلف بن هارون فدام الحصار إلى سنة تسع وعشرين وثلاثمائة فسار كثير من أهلها إلى بلاد الروم وطلب الباقون الأمان فأمّنهم على أن ينزلوا من القلعة فلمّا نزلوا غدر بهم وحملهم إلى المدينة‏.‏

فلمّا رأى أهل سائر القلاع ذلك أطاعوا فلمّا عادت البلاد الإسلامية إلى طاعته رحل إلى إفريقية في ذي الحجّة سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وأخذ معه وجوه أهل جرجنت وجعلهم في مركب وأمر بنقبه وهو في لّجة البحر فغرقوا‏.‏

ذكر عدّة حوادث

في هذه السنة خرجت الفرنج إلى بلاد الأندلس التي للمسلمين فنهبوا وقتلوا وسبوا ومّمن قُتل من المشهورين جحّاف بن يُمن قاضي بلنسية‏.‏

وفيها توفّي عبدالله بن محمّد بن سفيان أبو الحسين الجزّاز النحوي في ربيع الأول وكان صحب ثعلبًا والمُبرد وله تصانيف في علوم القرآن‏.‏

ثم دخلت سنة ست وعشرين وثلاثمائة

ذكر استيلاء معزّ الدولة على الأهواز

في هذه السنة سار معز الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه إلى الأهواز وتلك البلاد فملكها واستولى عليها‏.‏

وكان سبب ذلك ما ذكرناه من مسير أبي عبدالله البريديّ إلى عماد الدولة كما سبق فلّما وصل إليه أطمعه في العراق والاستيلاء عليه فسير معه أخاه معز الدولة إلى الأهواز وترك أبو عبدالله البريدي ولديه‏:‏ أبا الحسن محمدًا وأبا جعفر الفياض عند عماد الدولة بن بويه رهينةً وساروا فبلغ الخبر إلى بجكم بنزولهم أرجان فسار لحربهم فانهزم من بين أيديهم‏.‏

وكان سبب الهزيمة أن المطر اتصل أيامًا كثيرة فعطلت أوتار قسي الأتراك فلم يقدروا على رمي النشاب فعاد بجكم وأقام بالأهواز وجعل بعض عسكره بعسكر مكرم فقاتلوا معز الدولة بها ثلاثة عشر يومًا ثم انهزموا إلى تستر فاستولى معز الدولة على عسكر مكرم وسار بجكم إلى تستر من الأهواز وأخذ معه جماعة من أعيان الأهواز وسار هو وعسكره إلى واسط وأرسل من الطريق إلى ابن رائق يعلمه الخبر ويقول له‏:‏ إن العسكر محتاج إلى المال فإن كان معك مائتا ألف دينار فتقيم بواسط حتى نصل إليك وتنفق فيهم المال وإن كان المال قليلًا فالرأي أنك تعود إلى بغداد لئلا يجري من العسكر شغب‏.‏

فلما بلغ الخبر إلى ابن رائق عاد من واسط إلى بغداد ووصل بجكم إلى واسط فأقام بها واعتقل من معه من الأهوازيين وطالبهم بخمسين ألف دينار وكان فيهم أبو زكرياء يحيى بن سعيد السوسي‏.‏

قال أبو زكرياء‏:‏ أردت أن أعلم ما في نفس بجكم فأنفذت إليه أقول‏:‏ عندي نصيحة فأحضرني عنده فقتل‏:‏ أيها الأمير أنت تحدث نفسك بمملكة الدنيا وخدمة الخلافة وتدبير الممالك كيف يجوز أن تعتقل قومًا منكوبين قد سلبوا نعمتهم وتطالبهم بمال وهم في بلد غربة وتأمر بتعذيبهم حين جعل أمس طشت فيه نار على بطن بعضهم أما تعلم أن هذا إذا سمع عنك استوحش منك الناس وعاداك من لا يعرفك وقد أنكرت على ابن رائق إيحاشه لأهل البصرة أتراه أساء إلى جميعهم لا والله بل أساء إلى بعضهم فأبغضوه كلهم وعوام بغداد لا تحتمل أمثال هذا‏.‏

وذكرت له فعل مرداويج فلما سمع ذلك قال‏:‏ قد صدقتني ونصحتني ثم أمر بإطلاقهم‏.‏

ولّما استولى ابن بويه والبريدي على عسكر مكرم سار أهل الأهواز إلى البريدي يهنونه وفيهم طبيب حاذق وكان البريدي يحم بحمى الربع فقال لذلك الطبيب‏:‏ أما ترى يا أبا زكرياء حالي وهذه الحمى فقال له‏:‏ خلطٌ يعني في المأكول فقال له‏:‏ أكثر من هذا التخليط قد رهجت الدنيا‏.‏

ثم ساروا إلى الأهواز فأقاموا بها خمسة وثلاثين يومًا ثم هرب البريدي من ابن بويه إلى الباسيان فكاتبه بعتب كثير ويذكر غدره في هربه‏.‏

وكان سبب هربه أن ابن بويه طلب عسكره الذين بالبصرة ليسيروا إلى أخيه ركن الدولة بأصبهان معونةً له على حرب وشمكير فأحضر منهم أربعة آلاف فلما حضروا قال لمعز الدولة‏:‏ إن أقاموا وقع بينهم وبين الديلم فتنة والرأي أن يسيروا إلى السوس ثم يسيروا إلى أصبهان فأذن له في ذلك ثم طالبه بأن يحضر عسكره الذين بحصن مهدي ليسيرهم في الماء إلى واسط فخاف البريدي أن يعمل به مثل ما عمل هو بياقوت‏.‏

وكان الديلم يهينونه ولا يلتفتون إليه فهرب وأمر جيشه الذي بالسوس فساروا إلى البصرة وكاتب معز الدولة بالافراج له عن الأهواز حتّى يتمكن من ضمانه فأنه كان قد ضمن الأهواز والبصرة من عماد الدولة بن بويه كل سنة بثمانية عشر ألف ألف درهم فرحل عنها إلى عسكر مكرم خوفًا من أخيه عماد الدولة لئلا يقول له‏:‏ كسرت المال فانتقل البريدي إلى بناباذ وأنفذ خليفته إلى الأهواز وأنفذ إلى معز الدولة يذكر له حاله وخوفه منه ويطلب أن ينتقل إلى السوس من عسكر مكرم ليبعد عنه ويأمن بالأهواز‏.‏

فقال له أبو جعفر الصيمري وغيره‏:‏ إن البريدي يريد أن يفعل بك كما فعل بياقوت ويفرق أصحابك عنك ثم يأخذك فيتقرب بك إلى بجكم وابن رائق ويستعيد أخاك لأجلك فامتنع معز الدولة من ذلك‏.‏

وعلم بجكم بالحال فأنفذ جماعة من أصحابه فاستولوا على السوس وجنديسابور وبقيت الأهواز بيد البريدي ولم يبق بيد معز الدولة من كور الأهواز إلا عسكر مكرم فاشتد الحال عليه وفارقه بعض جنده وأرادوا الرجوع إلى فارس فمنعم أصفهدوست وموسى قياده وهما من أكابر القواد وضمنا لهم أرزاقهم ليقيموا شهرًا فأقاموا وكتب إلى أخيه عماد الدولة يعرفه حاله فأنفذ له جيشًا فقوي بهم وعاد فاستولى على الأهواز وهرب البريدي إلى البصرة واستقر فيها فاستقر ابن بويه بالأهواز‏.‏

وأقام بجكم بواسط طامعًا في الاستيلاء على بغداد ومكان ابن رائق ولا يظهر له شيئًا من ذلك وأنفذ ابن رائق علي بن خلف بن طياب إلى بجكم ليسير مع إلى الأهواز ويخرج منها ابن بويه فإذا فعل ذلك كانت ولايتها لبجكم والخراج إلى علي بن خلف فلما وصل عليٌ إلى بجكم بواسط استوزره بجكم وأقام معه وأخذ بجكم جميع مال واسط‏.‏

ولما رأى أبو الفتح الوزير ببغداد إدبار الأمور أطمع ابن رائق في مصر والشام وصاهره وعقد بينه وبين ابن طغج عهدًا وصهرًا وقال لابن رائق‏:‏ أنا أجبي إليك مال مصر والشام أن سيرتني

ذكر الحرب بين بجكم والبريدي والصلح بعد ذلك

لما أقام بجكم بواسط وعظم شأنه خافه ابن رائق لأنه ظن ما فعله بجكم من التغلب على العراق فراسل أبا عبدالله البريدي وطلب منه الصلح على بجكم فإذا انهزم تسلم البريدي واسطًا وضمنها بستمائة ألف دينار في السنة على أن ينفذ أبو عبدالله عسكرًا‏.‏

فسمع بجكم بذلك فخاف واستشار أصحابه في الذي يفعله فأشاروا عليه بأن يبتديء بأبي عبدالله البردي وأن لا يهجم إلى حضرة الخلافة ولا يكاشف ابن رائق إلا بعد الفراغ من البريدي فجمع عسكره وسار إلى البصرة يريد البريدي فسير أبو عبدالله جيشًا بلغت عدتهم عشرة آلاف رجل عليهم غلامه أبو جعفر محمد الحمال فالتقوا واقتتلوا فانهزم عسكر البريدي ولم يتبعهم بجكم بل كف عنهم‏.‏

وكان البريديون بمطارا ينتظرون ما ينكشف من الحال فلما انهزم عسكرهم خافوا وضعفت نفوسهم إلا أنه لما رأى عسكره سالمًا لم يقتل منهم أحد ولا غرق طاب قلبه‏.‏

وكانت نية بجكم إذلال البريدي وقطعه عن ابن رائق ونفسه معلقة بالحضرة فأرسل ثاني يوم الهزيمة إلى البريدي يعتذر إليه مما جرى ويقول له‏:‏ أنت بدأت وتعرضت بي وقد عفوت عنك وعن أصحابك ولو تبعتهم لغرق وقتل أكثرهم وأنا أصالحك على أن أقلدك واسطًا إذا ملكت الحضرة وأصاهرك فسجد البريدي شكرًا لله تعالى وحلف لبجكم وتصالحا وعاد إلى واسط وأخذ في التدبير على ابن رائق والاستيلاء على الحضرة ببغداد‏.‏

ذكر قطع يد ابن مقلة ولسانه

في هذه السنة في منتصف شوال قطعت يد الوزير أبي عليّ بن مقلة‏.‏


وكان سبب قطعها أن الوزير أبا الفتح بن جعفر بن الفرات لما عجز عن الوزارة وسار إلى الشام استوزر الخليفة الراضي بالله أبا علي بن مقلة وليس له من الأمر شيء إنما الأمر جميعه إلى ابن رائق وكان ابن رائق قبض أموال ابن مقلة وأملاكه وأملاك ابنه فخاطبه فلم يردها فاستمال أصحابه وسألهم مخاطبته في ردها فوعدوه فلم يقضوا حاجته فلما رأى ذلك سعى بابن رائق فكاتب بجكم يطمعه في موضع ابن رائق وكتب إلى وشمكير بمثل ذلك وهو بالري وكتب إلى الراضي يشير عليه بالقبض على ابن رائق وأصحابه ويضمن أنه يستخرج منهم ثلاثة آلاف ألف دينار وأشار عليه باستدعاء بجكم وإقامته مقام ابن رائق فأطمعه الراضي وهو كاره لما قاله فعجل ابن مقلة وكتب إلى بجكم يعرفه إجابة الراضي ويستحثه على الحركة وطلب ابن مقلة من الراضي أن ينتقل ويقيم عنده بدار الخلافة إلى أن يتم على ابن رائق ما اتفقا عليه فأذن له في ذلك فحضر متنكرًا ليلة من رمضان وقال‏:‏ أن القمر تحت الشعاع وهو يصلح للأسرار فكان عقوبته حيث نظر إلى غير الله أن ذاع سره وشهر أمره فلما حصل بدار الخليفة لم يوصله الراضي إليه واعتقله في حجرة فلما كان الغد أنفذ إلى ابن رائق يعرفه الحال ويعرض عليه خط ابن مقلة فشكر الراضي وما زالت الرسل تتردد بينهما في معنى ابن مقلة إلى منتصف شوال فأُخرج ابن مقلة من محبسه وقطعت يده ثم عولج فبرأ فعاد يكاتب الراضي ويخطب الوزارة ويذكر أن قطع يده لم يمنعه من عمله وكان يشد القلم على يده المقطوعة ويكتب‏.‏

فلما قرب بجكم من بغداد سمع الخدم يتحدثون بذلك فقال‏:‏ أن وصل بجكم فهو يخلصني وأكافئ ابن رائق وصار يدعو على من ظلمه وقطع يده فوصل خبره إلى الراضي وإلى ابن رائق فأمرا بقطع لسانه ثم نقل إلى محبس ضيق ثم لحقه ذرب في الحبس ولم يكن عنده من يخدمه فآل به الحال إلى أن كان يستقي الماء من البئر بيده اليسرى ويمسك الحبل بفيه ولحقه شقاء شديد إلى أن مات ودفن بدار الخليفة ثم إن أهله سألوا فيه فنبش وسلم إليهم فدفنوه في داره ثم نبش فنقل إلى دار أخرى‏.‏

ومن العجب أنه ولي الوزارة ثلاث دفعات ووزر لثلاثة خلفاء وسافر ثلاث سفرات‏:‏ اثنتين منفيًا إلى شيراز وواحدة في وزارته إلى الموصل ودفن بعد موته ثلاث مرات وخص به من خدمة ثلاثة‏.‏

ذكر استيلاء بجكم على بغداد

وفي هذه السنة دخل بجكم بغداد ولقي الراضي وقلد إمرة الأمراء مكان ابن رائق ونحن نذكر ابتداء أمر بجكم وكيف بلغ إلى هذه الحال فإن بعض أمره قد تقدم وإذا افترق لم يحصل الغرض منه‏.‏

كان بجكم هذا من غلمان أبي علي العارض وكان وزيرًا لما كان بن كالي الديلمي فطلبه منه ما كان فوهبه له ثم إنه فارق ما كان مع من فارقه من أصحابه والتحق بمرداويج وكان في جملة من قتله وسار إلى العراق واتصل بابن رائق وسيره إلى الأهواز فاستولى عليها وطرد البريدي عنها‏.‏

ثم خرج البريدي مع معز الدولة بن بويه من فارس إلى الأهواز فأخذوها من بجكم وانتقل بجكم من الأهواز إلى واسط وقد تقدم ذكر ذلك مفصلًا فلما استقر بواسط تعلقت همته بالاستيلاء على حضرة الخليفة وهو مع ذلك يظهر التبعية لابن رائق وكان على أعلامه وتراسه بجكم الرائقي فلما وصلته كتب ابن مقلة يعرفه أنه قد استقر مع الراضي أن يقلده إمرة الأمراء طمع في ذلك وكاشف ابن رائق ومحا نسبته إليه من أعلامه وسار من واسط نحو بغداد غرة ذي القعدة‏.‏

واستعد ابن رائق له وسأل الراضي أن يكتب إلى بجكم يأمره بالعود إلى واسط فكتب الراضي إليه وسير الكتاب فلما قرأه ألقاه عن يده ورمى به وسار حتى نزل شرقي نهر ديالي وكان أصحاب ابن رائق على غربيه فألقى أصحاب بجكم نفوسهم في الماء فانهزم أصحاب ابن رائق وعبر أصحاب بجكم وساروا إلى بغداد وخرج ابن رائق عنها إلى عكبرا ودخل بجكم بغداد ثالث عشر ذي القعدة ولقي الراضي من الغد وخلع عليه وجعله أمير الأمراء وكتب كتبًا عن الراضي إلى القواد الذين مع ابن رائق يأمرهم بالرجوع إلى بغداد ففارقوه جميعهم وعادوا‏.‏

فلما رأى ابن رائق ذلك عاد إلى بغداد واستتر ونزل بجكم بدار مؤنس واستقر أمره ببغداد فكانت مدة إمارة أبي بكر بن رائق سنة واحدة وعشرة أشهر وستة عشر يومًا ومن مكر بجكم أنه كان يراسل ابن رائق على لسان أبي زكرياء يحيى بن سعيد السوسي قال أبو زكرياء‏:‏

أشرت على بجكم أنه لا يكاشف ابن رائق فقال‏:‏ لم أشرت بهذا فقلت له‏:‏ أنه قد كان له عليك رئاسة وإمرة وهو أقوى منك وأكثر عددًا والخليفة معه والمال عنده كثير فقال‏:‏ أما كثرة رجاله فهم جوز فارغ وقد بلوتهم فما أبالي بهم قلوا أم كثروا وأما كون الخليفة معه فهذا لا يضرني عند أصحابي وأما قلة المال معي فليس الأمر كذلك وقد وفيت أصحابي مستحقهم ومعي ما يستظهر به فكم تظن مبلغه فقلت‏:‏ لا أدري‏!‏ فقال‏:‏ على كل حال فقلت‏:‏ مائة ألف درهم فقال‏:‏ غفر الله لك معي خمسون ألف دينار لا أحتاج إليها‏.‏

فلما استولى على بغداد قال لي يومًا‏:‏ أتذكر إذ قلت لك‏:‏ معي خمسون ألف دينار والله لم يكن معي غير خمسة آلاف درهم فقلت‏:‏ هذا يدلّ على قلة ثقتك بي قال‏:‏ لا ولكنك كنت رسولي إلى ابن رائق فإذا علمت قلة المال معي ضعفت نفسك فطمع العدو فينا فأردت أن تمضي إليه بقلب قوي فتكلمه بما تخلع به قلبه وتضعف نفسه‏.‏

قال‏:‏ فعجبت من مكره وعقله‏.‏

ذكر استيلاء لشكري على أذربيجان وقتله

وفيها تغلب لشكري بن مردى على أذربيجان ولشكري هذا أعظم من الذي تقدم ذكره فإن هذا كان خليفة وشمكير على أعمال الجبل فجمع مالًا ورجالًا وسار إلى أذربيجان وبها يومئذ ديسم بن إبراهيم الكردي وهو من أصحاب ابن أبي الساج فجمع عسكرًا وتحارب هو ولشكري فانهزم ديسم ثم عاد وجمع وتصافا مرة ثانية فانهزم أيضًا واستولى لشكري على بلاده إلا أردبيل فإن أهلها امتنعوا بها لحصانتها ولهم بأس ونجدة وهي دار المملكة بأذربيجان فراسلهم لشكري ووعدهم الإحسان لما كان يبلغهم من سوء سيرة الديلم مع بلاد الجبل همذان وغيرها فحصرهم وطال الحصار ثم صعد أصحابه السور ونقبوه أيضًا في عدة مواضع ودخلوا البلد‏.‏

وكان لشكري يدخله نهارًا ويخرج منه ليلًا إلى عسكره فبادر أهل البلد وأصلحوا ثلم السور وأظهروا العصيان وعاودوا الحرب فندم على التفريط وإضاعة الحزم فأرسل أهل أردبيل إلى ديسم يعرفونه الحال ويواعدونه يومًا يجيء فيه ليخرجوا فيه إلى قتال لشكري ويأتي هو من ورائه ففعل وسار نحوهم وظهروا يوم الموعد في عدد كثير وقاتلوا لشكري وأتاه ديسم من خلف ظهره فانهزم أقبح هزيمة وقتل من أصحابه خلق كثير وانحاز إلى موقان فأكرمه أصبهبذها ويعرف بابن دولة وأحسن ضيافته‏.‏

وجمع لشكري وسار نحو ديسم وساعده ابن دولة فهرب ديسم وعبر نهر أرس وعبر بعض أصحاب لشكري إليه فانهزم ديسم وقصد وشمكير وهو بالري وخوفه من لشكري وبذل له مالًا كل سنة ليسير معه عسكرًا فأجابه إلى ذلك وسير معه عسكرًا وكاتب عسكر لكشري وشمكير يعلمونه بما هم عليه من طاعته وأنهم متى رأوا عسكره صاروا معه على لشكري فظفر لشكري بالكتب فكتم ذلك عنهم فلما قرب منه عسكر وشمكير جمع أصحابه وأعلمهم ذلك وأنه لا يقوى بهم وأنه يسير بهم نحو الزوزان وينهب من على طريقه من الأرمن ويسير نحو الموصل ويستولي عليها وعلى غيرها فأجابوه إلى ذلك فسار بهم إلى أرمينية وأهلها غافلون فنهب وغنم وسبى وانتهى إلى الزوزان ومعهم الغنائم فنزل بولاية إنسان أرمني وبذل له مالًا ليكف عنه وعن بلاده فأجابه إلى ذلك‏.‏

ثم إن الأرمني كمن كمينًا في مضيق هناك وأمر بعض الأرمن أن ينهب شيئًا من أموال لشكري ويسلك ذلك المضيق ففعلوا وبلغ إلى لشكري فركب في خمسة أنفس فسار وراءهم فخرج عليه الكمين فقتلوه ومن معه ولحقه عسكره فرأوه قتيلًا ومن معه فعادوا وولوا عليهم ابنه لشكرستان واتفقوا على أن يسيروا على عقبة التنين وهي تجاوز الجودي ويحرزوا سوادهم ويرجعوا إلى بلد الأمني فيدركوا آثارهم فبلغ ذلك طرم فرتب الرجال على تلك المضايق يرمونهم بالحجارة ويمنعونهم العبور فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا وسلم القليل منهم وفيمن سلم لشكرستان وسار فيمن معه إلى ناصر الدولة بن حمدان بالموصل فأقام بعضهم عنده وانحدر بعضهم إلى فأما الذين أقاموا بالموصل فسيرهم مع ابن عم أبي عبدالله الحسين بن سعيد بن حمدان إلى ما بيده من أذربيجان لما أقبل نحوه ديسم ليستولي عليه وكان أبو عبدالله من قبل ابن عمه ناصر الدولة على معاون أذربيجان فقصده ديسم وقاتله فلم يكن لابن حمدان به طاقة ففارق أذربيجان واستولى عليها ديسم‏.‏

ذكر اختلال أمور القرامطة

في هذه السنة فسد حال القرامطة وقتل بعضهم بعضًا‏.‏


وسبب ذلك أنه كان رجل منهم يقال له ابن سنبر وهو من خواص أبي سعيد القرمطي والمطلعين على سره وكان له عدو من القرامطة اسمه أبو حفص الشريك فعمد ابن سنبر إلى رجل من أصبهان وقال له‏:‏ إذا ملكتك أمر القرامطة أريد منك أن تقتل عدوي أبا حفص فأجابه إلى ذلك وعاهده عليه فأطلعه على أسرار أبي سعيد وعلامات كان يذكر أنها في صاحبهم الذي يدعون إليه فحضر عند أولاد أبي سعيد وذكر لهم ذلك فقال أبو طاهر‏:‏ هذا هو الذي يدعون إليه فحضر عند أولاد أبي سعيد وذكر لهم ذلك فقال أبو طاهر‏:‏ هذا هو الذي يدعو إليه فأطاعوه ودانوا له حتى كان يأمر الرجل بقتل أخيه فيقتله وكان إذا كره وبلغ أبا طاهر أن الأصبهاني يريد قتله ليتفرد بالملك فقال لإخوته‏:‏ لقد أخطأنا في هذا الرجل وسأكتشف حاله فقال له‏:‏ إن لنا مريضًا فانظر إليه ليبرأ فحضروا وأضجعوا والدته وغطوها بإزار فلما رآها قال‏:‏ أن هذا المريض لا يبرأ فاقتلوه‏!‏ فقالوا له‏:‏ كذبت هذه والدته ثم قتلوه بعد أن قتل منهم خلق كثير من عظمائهم وشجعانهم‏.‏

وكان هذا سبب تمسكهم بهجر وترك قصد البلاد والإفساد فيها‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة كان الفداء بين المسلمين والروم في ذي القعدة وكان القيم به ابن ورقاء الشيباني وكان عدة من فودي من المسلمين ستة آلاف وثلاثمائة من بين ذكر وأنثى وكان الفداء على نهر البدندون‏.‏

وفيها ولد الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد‏.‏