المجلد السابع - ذكر موت المرزبان

ثم دخلت سنة ست وأربعين وثلاثمائة

في هذه السنة في رمضان توفي السلار المرزبان بأذربيجان وهو صاحبها فلما يئس من وكان المرزبان قد تقدم أولًا إلى نوابه بالقلاع أن لا يسلموه بعده إلا إلى ولده جستان فإن مات فإلى ابنه إبراهيم فإن مات فإلى ابنه ناصر فإن لم يبق منهم أحد فإلى أخيه وهسوذان فلما أوصى هذه الوصية إلى أخيه عرفه علامات بينه وبين نوابه في قلاعه ليتسلمها منهم فلما مات المرزبان أنفذ أخوه وهسوذان خاتمه وعلاماته إليهم فأظهروا وصيته الأولى فظن وهسوذان أخاه خدعه بذلك فأقام مع أولاد أخيه فاستبدوا بالأمر دونه فخرج من أردبيل كالهارب إلى الطرم فاستبد جستان بالأمر وأطاعه إخوته وقلد وزارته أبا عبدالله النعيمي وأتاه قواد أبيه إلا جستان بن شرمزن فإنه عزم على التغلب على أرمينية وكان واليًا عليها‏.‏

وشرع وهسوذان في الإفساد بين أولاد أخيه وتفريق كلمتهم وإطماع أعدائهم فيهم حتى بلغ ما أراد وقتل بعضهم‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة كثر ببغداد ونواحيها أورام الحلق والماشرا وكثر الموت بهما وموت الفجأة وكل من افتصد انصب إلى ذراعيه مادة حادة عظيمة تبعها حمى حادة وما سلم أحد ممن افتصد وكان المطر معدومًا‏.‏

وفيها تجهز معز الدولة وسار نحو الموصل لقصد ناصر الدولة بسبب ما فعله فراسله ناصر الدولة وبذل له مالًا وضمن البلاد منه كل سنة بألفي ألف درهم وحمل إليه مثلها فعاد معز الدولة بسبب خراب بلاده للفتنة المذكورة ولأنه لم يثق بأصحابه‏.‏

ثم إن ناصر الدولة منع حمل المال فسار إليه معز الدولة على ما نذكره‏.‏

وفيها نقص البحر ثمانين باعًا فظهرت فيه جزائر وجبال لم تعرف قبل ذلك‏.‏

وفيها توفي أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل الأموي النيسابوري المعروف بالأصم وكان عالي الإسناد في الحديث وصحب الربيع بن سليمان صاحب الشافعي وروى عنه كتب الشافعي‏.‏

وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أحمد بن إسحاق الفقيه البخاري الأمين‏.‏

وفيها كانت بالعراق وبلاد الجبال وقم ونواحيها زلازل كثيرة متتابعة دامت نحو أربعين يومًا تسكن وتعود فتهدمت الأبنية وغارت المياه وهلك تحت الهدم من الأمم الكثير وكذلك كانت زلزلة بالري ونواحيها مستهل ذي الحجة أخربت كثيرًا من البلد وهلك من أهلها كثير وكذلك أيضًا كانت الزلزلة بالطالقان ونواحيها عظيمة جدًا أهلكت أممًا كثيرةً‏.‏

ذكر استيلاء معز الدولة على الموصل وعوده عنها

قد ذكرنا صلح معز الدولة مع ناصر الدولة على ألفي ألف درهم كل سنة فلما كان هذه السنة أخر ناصر الدولة حمل المال فتجهز معز الدولة إلى الموصل وسار نحوها منتصف جمادى الأولى ومعه وزيره المهلبي ففارقها ناصر الدولة إلى نصيبين واستولى معز الدولة على الموصل‏.‏

فكان من عادة ناصر الدولة إذا قصده أحدٌ سار عن الموصل واستصحب معه جميع الكتاب والوكلاء ومن يعرف أبواب المال ومنافع السلطان وربما جعلهم في قلاعه كقلعة كواشى والزعفران وغيرهما وكانت قلعة كواشى تسمى ذلك الوقت قلعة أردمشت وكان ناصر الدولة يأمر العرب بالإغارة على العلافة ومن يحمل الميرة فكان الذي يقصد بلاد ناصر الدولة يبقى محصورًا مضيفًا عليه‏.‏

فلما قصده معز الدولة هذه المرة فعل ذلك به فضاقت الأقوات على معز الدولة وعسكره وبلغه أن بنصيبين من الغلات السلطانية شيئًا كثيرًا فسار عن الموصل نحوها واستخلف بالموصل سبكتكين الحاجب الكبير فلما توسط الطريق بلغه أن أولاد ناصر الدولة أبا المرجى وهبة الله بسنجار في عسكر فسير إليهم عسكرًا فلم يشعر أولاد ناصر الدولة بالعسكر إلا وهو معهم فجعلوا عن أخذ أثقالهم فركبوا دوابهم وانهزموا ونهب عسكر معز الدولة ما تركوه ونزلوا في خيامهم فعاد أولاد ناصر الدولة إليهم وهم غارون فوضعوا السيف فيهم فقتلوا وأسروا وأقاموا بسنجار‏.‏

وسار معز الدولة إلى نصيبين ففارقها ناصر الدولة إلى ميافارقين ففارقه أصحابه وعادوا إلى معز الدولة مستأمنين فلما رأى ناصر الدولة ذلك سار إلى أخيه سيف الدولة بحلب فلما وصل خرج إليه ولقيه وبالغ في إكرامه وخدمه بنفسه حتى إنه نزع خفه بيديه‏.‏

وكان أصحاب ناصر الدولة في حصونه ببلد الموصل والجزيرة يغيرون على أصحاب معز الدولة بالبلد فيقتلون فيهم ويأسرون منهم ويقطعون الميرة عنهم‏.‏

ثم إن سيف الدولة راسل معز الدولة في الصلح وترددت الرسل في ذلك فامتنع معز الدولة في تضمين ناصر الدولة لخلفه معه مرة بعد أخرى فضمن سيف الدولة البلاد منه بألفي ألف درهم وتسع مائة ألف درهم وإطلاق من أسر من أصحابه بسنجار وغيرها وكان ذلك في المحرم سنة ثمان وأربعين‏.‏

وإنما أجاب معز الدولة إلى الصلح بعد تمكنه من البلاد لأنه ضاقت عليه الأموال وتقاعد الناس في حمل الحراج واحتجوا بأنهم لا يصلون إلى غلاتهم وطلبوا الحماية من العرب أصحاب ناصر الدولة فاضطر معز الدولة إلى الانحدار وأنف من ذلك فلما وردت عليه رسالة سيف الدولة استراح إليها وأجابه إلى ما طلبه من الصلح ثم انحدر إلى بغداد‏.‏

ذكر مسير جيوش المعز العلوي إلى أقاصي المغرب


وفيها عظم أمر أبي الحسن جوهر عند المعز بإفريقية وعلا محله وصار في رتبة الوزارة فسيره المعز في صفر في جيش كثيف منهم زيري بن مناد الصنهاجي وغيره وأمره بالمسير إلى أقاصي المغرب فسار إلى تاهرت فحضره عنده يعلى بن محمد الزناتي فأكرمه وأحسن إليه ثم خالف على جوهر فقبض عليه وثار أصحابه فقاتلهم جوهر فانهزموا وتبعهم جوهر إلى مدينة أفكان فدخلها بالسيف ونهبها ونهب قصور يعلى وأخذ ولده وكان صبيًا وأمر بهدم أفكان وإحراقها بالنار وكان ذلك في جمادى الآخرة‏.‏

ثم سار منها إلى فاس وبها صاحبها أحمد بن بكر فأغلق أبوابها فنازلها جوهر وقاتلها مدة فلم يقدر عليها وأتته هدايا الأمراء الفاطميين بأقاصي السوس وأشار على جوهر وأصحابه بالرحيل إلى سجلماسة وكان صاحبها محمد بن واسول قد تلقب بالشاكر لله ويخاطب بأمير المؤمنين وضرب السكة باسمه وهو على ذلك ست عشرة سنة فلما سمع بجوهر هرب ثم أراد الرجوع إلى سجلماسة فلقيه أقوام فأخذوه أسيرًا وحملوه إلى جوهر‏.‏

ومضى جوهر حتى انتهى إلى البحر المحيط فأمر أن يصطاد له من سمكه فاصطادوا له فجعله في قلال الماء وحمله إلى المعز وسلك تلك البلاد جميعها فافتتحها وعاد إلى فاس فقاتلها مدة طويلة فقام زيري بن مناد فاختار من قومه رجالًا لهم شجاعة وأمرهم أن يأخذوا السلاليم وقصدوا البلد فصعدوا إلى السور الأدنى في السلاليم وأهل فاس آمنون فلما صعدوا على السور قتلوا من عليه ونزلوا إلى السور الثاني وفتحوا الأبواب وأشعلوا المشاعل وضربوا الطبول وكانت الإمارة بين زيري وجوهر فلما سمعها جوهر ركب في العساكر فدخل فاسًا فاستخفى صاحبها وأخذ بعد يومين وجعل مع صاحب سجلماسة وكان فتحها في رمضان سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة فحملهما في قفصين إلى المعز بالمهدية وأعطى تاهرت لزيري ابن مناد‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة كان ببلاد الجبل وباء عظيم مات فيه أكثر أهل البلاد وكان أكثر من مات فيه النساء والصبيان وتعذر على الناس عيادة المرضى وشهود الجنائز لكثرتها‏.‏

وفيها انخسف القمر جميعه‏.‏

وفيها توفي أبو الحسن علي بن أحمد البوشنجي الصوفي بنيسابور وهو أحد المشهورين منهم وأبو الحسن محمد بن الحسن بن عبدالله بن أبي الشوارب قاضي بغداد وكان مولده سنة اثنتين وتسعين ومائتين وأبو علي الحسين بن علي بن يزيد الحافظ النيسابوري في جمادى الأولى‏.‏

وفيها توفي عبدالله بن جعفر بن درستويه أبو محمد الفارسي النحوي في صفر وكان مولده سنة ثمان وخمسين ومائتين وأخذ النحو عن المبرد‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة

في هذه السنة في المحرم تم الصلح بين سيف الدولة ومعز الدولة وعاد معز الدولة إلى العراق ورجع ناصر الدولة إلى الموصل‏.‏

وفيها أنفذ الخليفة لواء وخلعة لأبي علي بن إلياس صاحب كرمان‏.‏

وفيها مات أبو الحسن محمد بن أحمد المافروخي كاتب معز الدولة وكتب بعده أبو بكر بن وفيها كانت حرب شديدة بين علي بن كامة وهو ابن أخت ركن الدولة وبين بيستون بن وشمكير فانهزم بيستون‏.‏

وفيها غرق من حجاج الموصل في الماء بضعة عشر زورقًا‏.‏

وفيها غزت الروم طرسوس والرها فقتلوا وسبوا وغنموا وعادوا سالمين‏.‏

وفيها سار مؤيد الدولة بن ركن الدولة من الري إلى بغداد فتزوج بابنة عمه معز الدولة ونقلها معه إلى الري ثم عاد إلى أصبهان‏.‏

وفيها في جمادى الأولى وقعت حرب شديدة بين عامة بغداد وقتل فيها جماعة واحترق من البلد كثير‏.‏

وفيها توفي أبو بكر أحمد بن سليمان بن الحسن الفقيه الحنبلي المعروف بالنجاد وكان عمره خمسًا وتسعين سنة وجعفر بن محمد بن نصير الخلدي الصوفي وهو من أصحاب الجنيد فروى الحديث وأكثر‏.‏

وفيها انقطعت الأمطار وغلت الأسعار في كثير من البلاد فخرج الناس يستسقون في كانون الثاني في البلاد ومنها بغداد فما سقوا فلما كان في آذار ظهر جراد عظيم فأكل ما كان قد نبت من الخضراوات وغيرها فاشتد الأمر على الناس‏.‏

ذكر ظهور المستجير بالله

في هذه السنة ظهر بأذربيجان وجل من أولاد عيسى بن المكتفي بالله وتلقب بالمستجير بالله وبايع للرضا من آل محمد ولبس الصوف وأظهر العدل وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وكثر أتباعه‏.‏

وكان السبب في ظهوره أن جستان بن المرزبان صاحب أذربيجان ترك سيرة والده في سياسة الجيش واشتغل باللعب ومشاورة النساء وكان جستان بن شرمزن بأرمية متحصنًا بها وكان وهسوذان بالطرم يضرب بين أولاد أخيه ليختلفوا‏.‏

ثم إن جستان بن المرزبان قبض على وزيره النعيمي وكان بينه وبين وزير جستان بن شرمزن مصاهرة وهو أبو الحسن عبيدالله بن محمد بن حمدويه فاستوحش أبو الحسن لقبض النعيمي فحمل صاحبه ابن شرمزن على مكاتبة إبراهيم بن المرزبان وكان بأرمينية فكاتبه وأطمعه في املك فسار إليه فقصدوا مراغة واستولوا عليها فلما علم جستان بن المرزبان بذلك راسل ابن شرمزن ووزيره أبا الحسن فأصلحهما وضمن لهما إطلاق النعيمي فعاد عن نصرة إبراهيم وظهر له ولأخيه نفاق ابن شرمزن فتراسلا واتفقا عليه‏.‏

ثم إن النعيمي هرب من حبس جستان بن المرزبان وسار إلى موقان وكاتب ابن عيسى بن المكتفي بالله وأطمعه في الخلافة وأن يجمع له الرجال ويملك له أذربيجان فإذا قوي قصد العراق فسار إليه في نحو ثلاثمائة رجل وأتاه جستان بن شرمزن فقوي به وبايعه الناس واستفحل أمره فسار إليهم جستان وإبراهيم ابنا المرزبان قاصدين قتالهم فلما التقوا انهزم أصحاب المستجير وأخذ أسيرًا فعدم فقيل إنه قتل وقيل بل مات‏.‏

ذكر استيلاء وهسوذان على بني أخيه وقتلهم

وأما وهسوذان فإنه لما رأى اختلاف أولاد أخيه وأن كل واحد منهم قد انطوى على غش صاحبه راسل إبراهيم بعد وقعة المستجير واستزاره فزاره فأكرمه عمه ووصله بما ملأ عينه وكاتب ناصرًا ولد أخيه أيضًا واستغواه ففارق أخاه جستان وصار إلى موقان فوجده الجند طريقًا إلى تحصيل الأموال ففارق أكثرهم جستان وصاروا إلى أخيه ناصر فقوي بهم على أخيه جستان واستولى على أردبيل‏.‏

ثم إن الأجناد طالبوا ناصرًا بالأموال فعجز عن ذلك وقعد عمه وهسوذان عن نصرته فعلم أنه كان يغويه فراسل أخاه جستان وتصالحا واجتمعا وهما في غاية ما يكون من قلة الأموال واضطراب الأمور وتغلب أصحاب الأطراف على ما بأيديهم فاضطر جستان وناصر ابنا المرزبان إلى المسير إلى عمهما وهسوذان مع والدتهما فراسلاه في ذلك وأخذا عليه العهود وساروا إليه فلما حصلوا عنده نكث وغدر بهم وقبض عليهم وهم جستان وناصر ووالدتهما واستولى على العسكر وعقد الإمارة لابنه إسماعيل وسلم إليه أكثر قلاعه وأخرج الأموال وأرضى الجند‏.‏

وكان إبراهيم بن المرزبان قد سار إلى أرمينية فتأهب لمنازعة إسماعيل واستنقاذ أخويه من حبس عمهما وهسوذان فلما علم وهسوذان ذلك ورأى اجتماع الناس عليه بادر فقتل جستان وناصرًا ابني أخيه وأمهما وكاتب جستان بن شرمزن وطلب إليه أن يقصد إبراهيم وأمده بالجند والمال ففعل ذلك واضطر إبراهيم إلى الهرب والعود إلى أرمينية واستولى ابن شرمزن على عسكره وعلى مدينة مراغة مع أرمية‏.‏

ذكر غزو سيف الدولة بلاد الروم

في هذه السنة غزا سيف الدولة بلاد الروم في جميع كثير فأثر فيها آثارًا كثيرة وأحرق وفتح عدة حصون وأخذ من السبي والغنائم والأسرى شيئًا كثيرًا وبلغ إلى خرشنة ثم إن الروم أخذوا عليه المضايق فلما أراد الرجوع قال له من معه من أهل طرسوس‏:‏ إن الروم قد ملكوا الدرب خلف ظهرك فلا تقدر على العود منه والرأي أن ترجع معنا فلم يقبل منهم وكان معجبًا برأيه يحب أن يستبد ولا يشاور أحدًا لئلا يقال إنه أصاب برأي غيره وعاد في الدرب الذي دخل منه فظهر الروم عليه واستردوا ما كان معه من الغنائم وأخذوا أثقاله ووضعوا السف في أصحابه فأتوا عليهم قتلًا وأسرًا وتخلص هو في ثلاثمائة رجل بعد جهد ومشقة وهذا من سوء رأي كل من يجهل آراء الناس العقلاء والله أعلم بالصواب‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة قبض عبد الملك بن نوح صاحب خراسان وما وراء النهر على رجل من أكابر قواده وأمرائه يسمى نجتكين وقتله فاضطربت خراسان‏.‏

وفيها استأمن أبو الفتح المعروف بابن العريان أخو عمران بن شاهين صاحب البطيحة إلى معز الدولة بأهله وماله وكان خاف أخاه فأكرمه معز الدولة وأحسن إليه‏.‏

وفيها مات أبو القاسم عبدالله بن أي عبدالله البريدي‏.‏

وفيها أسلم من الأتراك نحو مائتي ألف خركاة‏.‏

وفيها انصرف حجاج مصر من الحج فنزلوا واديًا وباتوا فيه فأتاهم السيل ليلًا فأخذهم جميعهم مع أثقالهم وجمالهم فألقاهم في البحر‏.‏

وفيها سار ركن الدولة من الري إلى جرجان فلقيه الحسن بن الفيرزان وابن عبد الرزاق فوصلهما بمال جليل‏.‏

وفيها كان بالبلاد غلاء شديد وكان أكثره بالموصل فبلغ الكر من الحنطة ألفًا ومائتي درهم والكر من الشعير ثمانمائة درهم وهر أهلها إلى الشام والعراق‏.‏

وفيها خامس شعبان كان ببغداد فتنة عظيمة بين العامة وتعطلت الجمعة من الغد لاتصال الفتنة في الجانبين سوى مسجد براثا فإن الجمعة تمت فيه وقبض على جماعة من بني هاشم اتهموا أنهم سبب الفتنة ثم أطلقوا من الغد‏.‏

وفيها توفي أبو الخي الأقطع التيناتي أو قريبًا من هذه السنة وكان عمره مائة وعشرين سنة وله كرامات مشهورة مسطورة‏.‏

التيناتي بالتاء المكسورة المعجمة باثنتين من فوق ثم الياء المعجمة باثنتين من تحت ثم بالنون والألف ثم بالتاء المثناة من فوق أيضًا‏.‏

وفيها مات أو إسحاق بن ثوابة كاتب الخليفة ومعز الدولة وقلد ديوان الرسائل بعده إبراهيم بن وفيها في آخرها مات أنوجور بن الإخشيد صاب مصر وتقلد أخوه علي مكانه‏.‏

ثم دخلت سنة خمسين وثلاثمائة

ذكر بناء معز الدولة دوره ببغداد

في هذه السنة في المحرم مرض معز الدولة وامتنع عليه البول ثم كان يبول بعد جهد ومشقة دمًا وتبعه البول والحصى والرمل فاشتد جزعه وقلقه وأحضر الوزير المهلبين والحاجب سبكتكين فأصلح بينهما ووصاهما بابنه بختيار وسلم جميع ماله إليه‏.‏

ثم إنه عوفي فعزم على المسير إلى الأهواز لأنه اعتقد أن ما اعتاده من الأمراض إنما هو بسبب مقامه ببغداد وظن أنه إن عاد إلى الأهواز عاوده ما كان فيه من الصحة ونسي الكبر والشباب فلما انحدر إلى كلواذى ليتوجه إلى الأهواز أشار عليه أصحابه بالمقام وأن يفكر في هذه الحركة ولا يعجل فأقام بها ولم يؤثر أحد من أصحابه انتقاله لمفارقة أوطانهم وأسفًا على بغداد كيف تخرب بانتقال دار الملك عنها فأشاروا عليه بالعود إلى بغداد وأن يبني بها له دارًا في أعلى بغداد لتكون أرق هواء وأصفى ماء ففعل وشرع في بناء داره في موضع المسناة المعزية فكان مبلغ ما خرج عليها إلى أن مات ثلاثة عشر ألف ألف درهم فاحتاج بسبب ذلك

ذكر موت الأمير عبد الملك بن نوح

في هذه السنة سقط الفرس تحت الأمير عبد الملك بن نوح صاحب خراسان فوقع إلى الأرض فمات من سقطته وافتتنت خراسان بعده وولي بعده أخوه منصور بن نوح وكان موته يوم الخميس حادي عشر شوال‏.‏

ذكر وفاة عبد الرحمن الناصر صاحب الأندلس وولاية ابنه الحاكم

في هذه السنة توفي عبد الرحمن بن محمد بن عبدالله صاحب الأندلس الملقب بالناصر لدين الله في رمضان فكانت إمارته خمسين سنة وستة أشهر وكان عمره ثلاثًا وسبعين سنة وكان أبيض أشهل حسن الوجه عظيم الجسم قصير الساقين كان ركاب سرجه يقارب الشبر وكان طويل الظهر وهو أول من تلقب من الأمويين بألقاب الخلفاء وتسمى بأمير المؤمنين وخلف أحد عشر ولدًا ذكرًا وكان من تقدمه من آبائه يخاطبون ويخطب لهم بالأمير وأبناء الخلائف‏.‏

وبقي هو كذلك إلى أن مضى من إمارته سبع وعشرون سنة فلما بلغه ضعف الخلفاء بالعراق وظهور العلويين بإفريقية ومخاطبتهم بأمير المؤمنين أمر حينئذ أن يلقب الناصر لدين الله ويخطب له بأمير المؤمنين ويقول أهل الأندلس إنه أول خليفة ولي بعد جده وكانت أمه أم ولد

اسمها مزنة ولم يبلغ أحد ممن تلقب بأمير المؤمنين مدته في الخلافة غير المستنصر العلوي صاحب مصر فإن خلافته كانت ستين سنة‏.‏

ولما مات ولي الأمر بعده ابنه الحاكم بن عبد الرحمن وتلقب بالمستنصر وأمه أم ولد تسمى مرجانة وخلف الناصر عدة أولاد منهم عبدالله وكان شافعي المذهب عالمًا بالشعر والأخبار وغيرهما وكان ناسكًا‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة سار قفل عظيم من إنطاكية إلى طرسوس ومعهم صاحب إنطاكية فخرج عليهم كمين للروم فأخذ من كان فيها من المسلمين وقتل كثيرًا منهم وأفلت صاحب إنطاكية وبه جراحات‏.‏

وفيها في رمضان دخل نجا غلام سيف الدولة بلاد الروم من ناحية ميافارقين غازيًا وإنه في رمضان غنم ما قيمته قيمة عظيمة وسبى وأسر وخرج سالمًا‏.‏

وفيها مات القاضي أبو السائب عتبة بن عبدالله وقبضت أملاكه وتولى قضاء القضاة أبو العباس بن عبدالله بن الحسن بن أبي الشوارب وضمن أن يؤدي كل سنة مائتي ألف درهم وهو أول من ضمن القضاء وكان ذلك أيام معز الدولة ولم يسمع بذلك قبله فلم يأذن له الخليفة المطيع لله بالدخول عليه وأمر بأن لا يحضر الموكب لما ارتكبه من ضمان القضاء ثم ضمنت بعده الحسبة والشرطة ببغداد‏.‏

وفيها وصل أبو القاسم أخو عمران بن شاهين إلى معز الدولة مستأمنًا‏.‏

وفيها توفي القاضي أبو بكر أحمد بن كامل وهو من أصحاب الطبري وكان يروي تاريخه‏.‏

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة

ذكر استيلاء الروم على عين زربة

في هذه السنة في المحرم نزل الروم مع الدمستق على عين زربة وهي في سفح جبل عظيم وهو مشرف عليها وهم في جمع عظيم فأنفذ بعض عسكره فصعدوا الجبل فملكوه فلما رأى ذلك أهلها وأن الدمستق قد ضيق عليهم ومعه الدبابات وقد وصل إلى السور وشرع في النقب طلبوا الأمان فأمنهم الدمستق وفتحوا له باب المدينة فدخلها فرأى أصحابه الذين في الجبل قد نزلوا إلى المدينة فندم على إجابتهم إلى الأمان‏.‏

ونادى في البلد أول الليل بأن يخرج جميع أهله إلى المسجد الجامع ومن تأخر في منزله قتل فخرج من أمكنه الخروج فلما أصبح أنفذ رجالته في المدينة وكانوا ستين ألفًا وأمرهم بقتل من وجدوه في منزله فقتلوا خلقًا كثيرًا من الرجال والنساء والصبيان وأمر بجمع ما في البلد من السلاح فجمع فكان شيئًا كثيرًا‏.‏

وأمر من في المسجد بأن يخرجوا من البلد حيث شاؤوا يومهم ذلك ومن أمسى قتلن فخرجوا مزدحمين فمات بالزحمة جماعة ومروا على وجوههم لا يدرون أين يتوجهون فماتوا في الطرقات وقتل الروم من وجدوه بالمدينة آخر النهار وأخذوا كل ما خلفه الناس من أموالهم وأمتعتهم وهدموا سوري المدينة‏.‏

وأقام الدمستق في بلد الإسلام أحدًا وعشرين يومًا وفتح حول عين زربة أربعة وخمسين حصنًا للمسلمين بعضها بالسيف وبعضها بالأمان وإن حصنًا من تلك الحصون التي فتحت بالأمان أمر أهله بالخروج منه فخرجوا فتعرض أحد الأرمن لبعض حرم المسلمين فلحق المسلمين غيرة عظيمة فجردوا سيوفهم فاغتاظ الدمستق لذلك فأمر بقتل جميع المسلمين وكانوا أربعمائة رجل وقتل النساء والصبيان ولم يترك إلا من يصلح أن يسترق‏.‏

فلما أدركه الصوم انصرف على أن يعود بعد العيد وخلف جيشه بقيسارية وكان ابن الزيات صاحب طرسوس قد خرج في أربعة آلاف رجل من الطرسوسيين فأوقع بهم الدمستق فقتل أكثرهم وقتل أخًا لابن الزيات فعاد إلى طرسوس وكان قد قطع الخطبة لسيف الدولة بن حمدان فلما أصابهم هذا الوهن أعاد أهل البلد الخطبة لسيف الدولة وراسلوه بذلك فلما علم ابن الزيات حقيقة الأمر صعد إلى روشن في داره فألقى نفسه منه إلى نهر تحته‏.‏

فغرق وراسل أهل بغراس الدمستق وبذلوا له مائة ألف درهم فأقرهم وترك معارضتهم‏.‏

ذكر استيلاء الروم على مدينة حلب وعودهم عنها بغير سبب

في هذه السنة استولى الروم على مدينة حلب دون قلعتها‏.‏

وكان سبب ذلك أن الدمستق سار إلى حلب ولم يشعر به المسلمون لأنه كان قد خلف عسكره بقيسارية ودخل بلادهم كما ذكرناه فلما قضى صوم النصارى خرج إلى عسكره من البلاد جريدة ولم يعلم به أحد وسار هم عند وصوله فسبق خبره وكبس مدينة حلب ولم يعلم به سيف الدولة ابن حمدان ولا غيره‏.‏

فلما بلغها وعلم سيف الدولة الخبر أعجله الأمر عن الجمع والاحتشاد فخرج إليه فيمن معه فقاتله فلم يكن له قوة الصبر لقلة من معه فقتل أكثرهم ولم يبق من أولاد داود بن حمدان أحد قتلوا جميعهم فانهزم سيف الدولة في نفر يسير وظفر الدمستق بداره وكانت خارج مدينة حلب تسمى الدارين فوجد فيها لسيف الدولة ثلاثمائة بدرة من الدراهم وأخذ له ألفًا وأربعمائة بغل ومن خزائن السلاح ما لا يحصى فأخذ الجميع وخرب الدار وملك الحاضر وحصر المدينة فقاتله أهلها‏.‏

وهدم الروم في السور ثلمة فقاتلهم أهل حلب عليها فقتل من الروم كثير ودفعوهم عنها فلما جنهم الليل عمروها فلما رأى الروم ذلك تأخروا إلى جبل جوشن‏.‏

ثم إن رجالة الشرطة بحلب قصدوا منازل الناس وخانات التجار لينهبوها فلحق الناس أموالهم ليمنعوها فخلا السور منهم فلما رأى الروم السور خاليًا من الناس قصدوه وقربوا منه فلم يمنعهم أحد فصعدوا إلى أعلاه فرأوا الفتنة قائمة في البلد بين أهله فنزلوا وفتحوا الأبواب ودخلوا البلد بالسيف يقتلون من وجدوا ولم يرفعوا السيف إلى أن تعبوا وضجروا‏.‏

وكان في حلب ألف وأربعمائة من الأسرى فتخلصوا وأخذوا السلاح وقتلوا الناس وسبي من البلد بضعة عشر ألف صبي وصبية وغنموا ما لا يوصف كثرةً فلما لم يبق مع الروم ما يحملون عليه الغنيمة أمر الدمستق بإحراق الباقي وأحرق المساجد وكان قد بذل لأهل البلد الأمان على أن يسلموا إليه ثلاثة آلاف صبي وصبية ومالًا ذكره وينصرف عنهم فلم يجيبوه إلى ذلك فملكهم كما ذكرنا وكان عدة عسكره مائتي ألف رجل منهم ثلاثون ألف رجل بالجواشن وثلاثون ألفًا للهدم وإصلاح الطرق من الثلج وأربعة آلاف بغل يحمل الحسك الحديد‏.‏

ولما دخل الروم البلد قصد الناس القلعة فمن دخلها نجا بحشاشة نفسه وأقام الدمستق تسعة أيام وأراد الانصراف عن البلد بما غنم فقال له ابن أخت الملك وكان معه‏:‏ هذا البلد قد حصل في أيدينا وليس من يدفعنا عنه فلأي سبب ننصرف عنه فقال الدمستق‏:‏ قد بلغنا ما لم يكن الملك يؤمله وغنمنا وقتلنا وخربنا وأحرقنا وخلصنا أسرانًا وبلغنا ما لم يسمع بمثله فتراجعا الكلام إلى أن قال له الدمستق‏:‏ انزل على القلعة فحاصرها فإنني مقيم بعسكري على باب المدينة فتقدم ابن أخت الملك إلى القلعة ومعه سيف وترس وتبعه الروم فلما قرب من باب القلعة ألقي عليه حجر فسقط ورمي بخشب فقتل فأخذه أصحابه وعادوا إلى الدمستق فلما رآه قتيلًا قتل من معه من أسرى المسلمين وكانوا ألفًا ومائتي رجل وعاد إلى بلاده ولم يعرض لسواد حلب وأمر أهله بالزراعة والعمارة ليعود إليهم بزعمه‏.‏

ذكر استيلاء ركن الدولة بن بويه على طبرستان وجرجان

في هذه السنة في المحرم سار ركن الدولة إلى طبرستان وبها وشمكير فنزل على مدينة سارية فحصرها وملكها ففارق حينئذ وشمكير طبرستان وقصد جرجان فأقام ركن الدولة بطبرستان إلى أن ملكها كلها وأصلح أمورها وسار في طلب وشمكير إلى جرجان فأزاح وشمكير عنها واستولى عليها واستأمن إليه من عسكر وشمكير ثلاثة آلاف رجل فازداد قوة وازداد وشمكير ضعفًا ووهنًا فدخل بلاد الجيل‏.‏

ذكر ما كتب على مساجد بغداد

في هذه السنة في ربيع الآخر كتب عامة الشيعة ببغداد بأمر معز الدولة على المساجد ما هذه صورته‏:‏ لعن الله معاوية بن أبي سفيان ولعن من غصب فاطمة رضي الله عنها فدكًا ومن منع من أن يدفن الحسن عند قبر جده عليه السلام ومن نفى أبا ذر الغفاري ومن أخرج العباس من الشورى فأما الخليفة فكان محكومًا عليه لا يقدر على المنع وأما معز الدولة فبأمره كان ذلك‏.‏

فلما كان الليل حكه بعض الناس فأراد معز الدولة إعادته وأشار عليه الوزير أبو محمد المهلبي بأن يكتب مكان ما محي‏:‏ لعن الله الظالمين لآل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا يذكر أحدًا في اللعن إلا معاوية ففعل ذلك‏.‏

وفي هذه السنة سارت جيوش المسلمين بصقلية وأميرهم حينئذ أحمد ابن الحسن بن علي بن أبي الحسين إلى قلعة طبرمين من صقلية أيضًا وهي بيد الروم فحصروها وهي من أمنع الحصون وأشدها على المسلمين فامتنع أهلها ودام الحصار عليهم فلما رأى المسلمون ذلك عمدوا إلى الماء الذي يدخلها فقطعوه عنها وأجروه إلى مكان آخر فعظم الأمر عليهم وطلبوا الأمان فلم يجابوا إليه فعادوا وطلبوا أن يؤمنوا على دمائهم ويكونوا رقيقًا للمسلمين وأموالهم فيئًا فأجيبوا إلى ذلك وأخرجوا من البلد وملكه المسلمون في ذي القعدة‏.‏

وكانت مدة الحصار سبعة أشهر ونصفًا وأسكنت القلعة نفرًا من المسلمين وسميت العزية نسبة إلى المعز العلوي صاحب إفريقية وسار جيش إلى رمطة مع الحسن بن عمار فحصروها وضيقوا عليها فكان ما نذكره سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في ربيع الأول أرسل الأمير منصور بن نوح صاحب خراسان وما وراء النهر إلى بعض قواده الكبار واسمه الفتكين يستدعيه فامتنع فأنفذ إليه جيشًا فلقيهم الفتكين فهزمهم وأسر وجوه القواد منهم وفيهم خال منصور‏.‏

وفيها في جمادى الأولى كانت فتنة بالبصرة وبهمذان أيضًا بين العامة بسبب المذاهب قتل فيها خلق كثير‏.‏

وفيها أيضًا فتح الروم حصن دلوك وثلاثة حصون مجاورة له بالسيف‏.‏

وفيها لقب الخليفة المطيع لله فناخسرو بن ركن الدولة بعضد الدولة‏.‏

وفيها في جمادى الآخرة أعاد سيف الدولة بناء عين زربة وسير حاجبه في جيش مع أهل طرسوس إلى بلاد الروم فغنموا وقتلوا وسبوا وعادوا فقصد الروم حصن سيسية فملكوه‏.‏

وفيها سار نجا غلام سيف الدولة في جيش إلى حصن زياد فلقيه جمع من الروم فهزمهم واستأمن إليه الروم من خمسمائة رجل‏.‏

وفيها في شوال أسرت الروم أبا فراس بن سعيد بن حمدان من منبج وكان متقلدًا لها وله ديوان شعر جيد‏.‏

وفيها سار جيش من الروم في البحر إلى جزيرة أقريطش فأرسل أهلها إلى المعز لدين الله العلوي صاحب إفريقية يستنجدونه فأرسل إليهم نجدة فقاتلوا الروم فانتصر المسلمون وأسر من كان بالجزيرة من الروم‏.‏

وفيها توفي أبو بكر محمد بن الحسن بن زياد النقاش المقرئ صاحب كتاب شفاء الصدور وعبد الباقي بن قانع مولى بني أمية وكان مولده سنة خمس وتسعين ومائتين ودعلج بن أحمد السجزي العدل وأبو عبدالله محمد بن أبي موسى الهاشمي‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة

ذكر عصيان أهل حران


في هذه السنة في صفر امتنع أهل حران على صاحبها هبة الله بن ناصر الدولة بن حمدان وعصوا عليه‏.‏

وسبب ذلك أنه كان متقلدًا لها ولغيرها من ديار مضر من قبل عمه سيف الدولة فعسفهم نوابه وظلموهم وطرحوا الأمتعة على التجار من أهل حران وبالغوا في ظلمهم‏.‏

وكان هبة الله عند عمه سيف الدولة بحلب فثار أهلها على نوابه وطردوهم فسمع هبة الله بالخبر فسار إليهم وحاربهم وحصرهم فقاتلهم وقاتلوه أكثر من شهرين فقتل منهم خلق كثير فلما رأى سيف الدولة شدة الأمر واتصال الشر قرب منهم وراسلهم وأجابهم إلى ما يريدون فاصطلحوا وفتحوا أبواب البلد وهرب منه العيارون خوفًا من هبة الله‏.‏

ذكر وفاة الوزير أبي محمد المهلبي

في هذه السنة سار الوزير أبو محمد المهلبي وزير معز الدولة في جمادى الآخرة في جيش كثيف إلى عمان ليفتحها فلما بلغ البحر اعتل واشتدت علته فأعيد إلى بغداد فمات في الطريق في شعبان وحمل تابوته إلى بغداد فدفن بها وقبض معز الدولة أمواله وذخائره وكل ما كان له وأخذ أهله وأصحابه وحواشيه حتى ملاحه ومن خدمه يومًا واحدًا فقبض عليهم وحبسهم فاستعظم الناس ذلك واستقبحوه‏.‏

وكانت مدة وزارته ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر وكان كريمًا فاضلًا ذا عقل ومروة فمات بموته الكرم‏.‏

ونظر في الأمور بعده أبو الفضل العباس بن الحسين الشيرازي وأبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس من غير تسمية لأحدهما بوزارة‏.‏

ذكر غزوة إلى الروم وعصيان حران

في هذه السنة في شوال دخل أهل طرسوس بلاد الروم غازين ودخلها أيضًا نجا غلام سيف الدولة بن حمدان من درب آخر ولم يكن سيف الدولة معهم لمرضه فإنه كان قد لحقه قبل ذلك بسنتين فالج فأقام على رأس دربٍ من تلك الدروب فأوغل أهل طرسوس في غزوتهم حتى وصلوا إلى قونية وعادوا فرجع سيف الدولة إلى حلب فلحقه في الطريق غشية أرجف عليه الناس بالموت فوثب هبة الله ابن أخيه ناصر الدولة بن حمدان بابن دنجا النصراني فقتله وكان خصيصًا بسيف الدولة وإنما قتله لأنه كان يتعرض لغلام له فغار لذلك‏.‏

ثم أفاق سيف الدولة فلما علم هبة الله أن عمه لم يمت هرب إلى حران فلما دخلها أظهر لأهلها أن عمه مات وطلب منهم اليمين على أن يكونوا سلمًا لمن سالمه وحربًا لن حاربه فحلفوا له واستثنوا عمه في اليمن فأرسل سيف الدولة غلامه نجا إلى حران في طلب هبة الله فلما قاربها هرب هبة الله إلى أبيه بالموصل فنزل نجا على حران في السابع والعشرين من شوال فخرج أهلها إليه من الغد فقبض عليهم وصادرهم على ألف ألف درهم ووكل بهم حتى أدوها في خمسة أيام بعد الضرب الوجيع بحضرة عيالاتهم وأهليهم فأخرجوا أمتعتهم فباعوا كل ما يساوي دينارًا بدرهم لأن أهل البلد كلهم كانوا يبيعون ليس فيهم من يشتري لأنهم مصادرون فاشترى ذلك أصحاب نجا بما أرادوا وافتقر أهل البلد وسار نجا إلى ميافارقين وترك حران شاغرة بغير والٍ فتسلط العيارون على أهلها وكان من أمر نجا ما نذكره سنة ثلاث وخمسين‏.‏

في هذه السنة عاشر المحرم أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء وأن يظهروا النياحة ويلبسوا قبابًا عملوها بالمسوح وأن يخرج النساء منشرات الشعور مسودات الوجوه قد شققن ثيابهن يدرن في البلد بالنوائح ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي رضي الله عنهما ففعل الناس ذلك ولم يكن للسنة قدرة على المنع منه لكثرة الشيعة ولأن السلطان معهم‏.‏

وفيها في ربيع الأول اجتمع من رجالة الأرمن جماعة كثيرة وقصدوا الرها فأغاروا عليها فغنموا وأسروا وعادوا موفورين‏.‏

وفيها عزل ابن أبي الشوارب عن قضاء بغداد وتقلد مكانه أبو بشر عمرو ابن أكثم وعفي عما كان يحمله ابن أبي الشوارب من الضمان عن القضاء وأمر بإبطال أحكامه وسجلاته‏.‏

وفيها في شعبان ثار الروم بملكهم فقتلوه وملكوا غيره وصار ابن شمشقيق دمستقًا وهو الذي يقوله العامة ابن الشمشكي‏.‏

وفيها في ثامن عشر ذي الحجة أمر معز الدولة بإظهار الزينة في البلد وأشعلت النيران بمجلس الشرطة وأظهر الفرح وفتحت الأسواق بالليل كما يفعل ليالي الأعياد فعل ذلك فرحًا بعيد الغدير يعني غدير خم وضربت الدبادب والبوقات وكان يومًا مشهودًا‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة

ذكر عصيان نجا وقتله وملك سيف الدولة بعض أرمينية


قد ذكرنا سنة اثنتين وخمسين ما فعله نجا غلام سيف الدولة بن حمدان بأهل حران وما أخذه من أموالهم فلما اجتمعت عنده تلك الأموال قوي بها وبطر ولم يشكر ولي نعمته بل كفره وسار إلى ميافارقين وقصد بلاد أرمينية وكان قد استولى على كثير منها رجل من العرب يعرف بأبي الورد فقاتله نجا فقتل أبو الورد وأخذ نجا قلاعه وبلاده‏:‏ خلاط وملازكرد وموش وغيرها وحصل له من أموال أبي الورد شيء كثير فأظهر العصيان على سيف الدولة‏.‏

فاتفق أن معز الدولة بن بويه سار من بغداد إلى الموصل ونصيبين واستولى عليها وطرد عنها ناصر الدولة على ما ذكرناه آنفًا فكاتبه نجا وراسله وهو بنصيبين يعده المعاضدة والمساعدة على مواليه بني حمدان فلما عاد معز الدولة إلى بغداد واصطلح هو وناصر الدولة سيف الدولة إلى نجا ليقاتله على عصيانه عليه وخروجه عن طاعته فلما وصل إلى ميافارقين هرب نجا من بين يديه فملك سيف الدولة بلاده وقلاعه التي أخذها من أبي الورد واستأمن إليه جماعة من أصحاب نجا فقتلهم واستأمن إليه أخو نجا فأحسن إليه وأكرمه وأرسل إلى نجا يرغبه ويرهبه إلى أن حضر عنده فأحسن إليه وأعاده إلى مرتبته‏.‏

ثم إن غلمان سيف الدولة وثبوا على نجا في دار سيف الدولة بميافارقين في ربيع الأول سنة أربع وخمسين فقتلوه بين يديه فغشي على سيف الدولة وأخرج نجا فألقي في مجرى الماء والأقذار وبقي إلى الغد ثم أخرج ودفن‏.‏

ذكر حصر الروم المصيصة ووصول الغزاة من خراسان


في هذه السنة حصر الروم مع الدمستق المصيصة وقاتلوا أهلها ونقبوا سورها واشتد قتال أهلها على النقب حتى دفعهم عنه بعد قتال عظيم وأحرق الروم رستاقها ورستاق أذنه وطرسوس لمساعدتهم أهلها فقتل من المسلمين خمسة عشر ألف رجل وأقام الروم في بلاد الإسلام خمسة عشر يومًا لم يقصدهم من يقاتلهم فعادوا لغلاء الأسعار وقلة الأقوات‏.‏

ثم إن إنسانًا وصل إلى الشام من خراسان يريد الغزاة ومعه نحو خمسة آلاف رجل وكان طريقهم على أرمينية وميارفارقين فلما وصلوا إلى سيف الدولة في صفر أخذهم سيف الدولة وسار بهم نحو بلاد الروم لدفعهم عن المسلمين فوجدوا الروم قد عادوا فتفرق الغزاة الخراسانية ولما أراد الدمستق العود إلى بلاد الروم أرسل إلى أهل المصيصة وأذنه وطرسوس‏:‏ إني منصرف عنكم لا لعجز ولكن لضيق العلوفة وشدة الغلاء وأنا عائد إليكم فمن انتقل منكم فقد نجا ومن وجدته بعد عودي قتله‏.‏

ذكر ملك معز الدولة الموصل وعوده عنها

في هذه السنة في رجب سار معز الدولة من بغداد إلى الموصل وملكها‏.‏

وسبب ذلك أن ناصر الدولة كان قد استقر الصلح بينه وبين معز الدولة على ألف ألف درهم يحملها ناصر الدولة كل سنة فلما حصلت الإجابة من معز الدولة بذل زيادة ليكون اليمين أيضًا لولده أبي تغلب فضل الله الغضنفر معه وأن يحلف معز الدولة لهما فلم يجب إلى ذلك وتجهز معز الدولة وسار إلى الموصل في جمادى الآخرة فلما قاربها سار ناصر الدولة إلى نصيبين ووصل معز الدولة إلى الموصل وملكها في رجب وسار يطلب ناصر الدولة حادي عشر شعبان واستخلف على الموصل أبا العلاء صاعد بن ثابت ليحمل الغلات ويجبي الخراج وخلف بكتوزون وسبكتكين العجمي في جيش ليحفظ البلد‏.‏

فلما قارب معز الدولة نصيبين فارقها ناصر الدولة وملك معز الدولة نصيبين ولم يعلم أي جهة قصد ناصر الدولة فخاف أن يخالفه إلى الموصل فعاد عن نصيبين نحو الموصل وترك بها من يحفظها وكان أبو تغلب بن ناصر الدولة قد قصد الموصل وحارب من بها من أصحاب معز الدولة وكانت الدائرة عليه فانصرف بعد أن أحرق السفن التي لمعز الدولة وأصحابه‏.‏

ولما انتهى الخبر إلى معز الدولة بظفر أصحابه سكنت نفسه وأقام ببرقعيد يتوقع أخبار ناصر الدولة فبلغه أنه نزل بجزيرة ابن عمر فرحل عن برقعيد إليها فوصلها سادس شهر رمضان فلم يجد بها ناصر الدولة فملكها وسأل عن ناصر الدولة فقيل‏:‏ إنه بالحسنية ولم يكن كذلك وإنما كان قد اجتمع هو وأولاده وعساكره وسار نحو الموصل فأوقع بمن فيها من أصحاب معز الدولة فقتل كثيرًا منهم وأسر كثيرًا وفي الأسرى أبو العلاء وسبكتكين وبكتوزون وملك جميع ما خلفه معز الدولة من مال وسلاح وغير ذلك وحمل جميعه مع الأسرى إلى قلعة كواشى‏.‏

فلما سمع معز الدولة بما فعله ناصر الدولة سار يقصده فرحل ناصر الدولة إلى سنجار فلما وصل معز الدولة بلغه مسير ناصر الدولة إلى سنجار فعاد إلى نصيبين فسار أبو تغلب بن ناصر الدولة إلى الموصل فنزل بظاهرها عند الدير الأعلى ولم يتعرض إلى أحد ممن بها من أصحاب معز الدولة فلما سمع معز الدولة بنزول أبي تغلب بالموصل سار إليها ففارقها أبو تغلب وقصد الزاب فأقام عنده وراسل معز الدولة في الصلح فأجابه لأنه علم أنه متى فارق الموصل عادوا وملكوها ومتى أقام بها لا يزال مترددًا وهم يغيرون على النواحي فأجابه إلى ما التمسه وعقد عليه ضمان الموصل وديار ربيعة والرحبة وما كان في يد أبيه بمال قرره وأن يطلق من عندهم من الأسرى فاستقرت القواعد على ذلك ورحل معز الدولة إلى بغداد وكان معه في سفرته هذه ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة‏.‏

ذكر حال الداعي العلوي

كان قد هرب أبو عبدالله محمد بن الحسين المعروف بابن الداعي من بغداد وهو حسني من أولاد الحسن بن علي رضي الله عنهما وسار نحو بلاد الديلم وترك أهله وعياله ببغداد فلما وصل إلى بلاد الديلم اجتمع عليه عشرة آلاف رجل فهرب ابن الناصر العلوي من بين يديه وتلقب ابن الداعي بالمهدي لدين الله وعظم شأنه وأوقع بقائد كبير من قواد وشمكير فهزمه‏.‏

ذكر حصر الروم طرسوس والمصيصة

و في هذه السنة أيضًا نزل ملك الروم على طرسوس وحصرها وجرى بينهم وبين أهلها حروب كثيرة سقط في بعضها الدمستق بن الشمشقيق إلى الأرض وكاد يؤسر فقاتل عليه الروم وخلصوه وأسر أهل طرسوس بطريقًا كبيرًا من بطارقة الروم ورحل الروم عنهم وتركوا عسكرًا على المصيصة مع الدمستق فحصرها ثلاثة أشهر لم يمنعهم منها أحد فاشتد الغلاء على الروم وكان شديدًا قبل نزولهم فلهذا طمعوا في البلاد لعدم الأقوات عندهم فلما نزل الروم زاد شدةً وكثر الوباء أيضًا فمات من الروم كثير فاضطروا إلى الرحيل‏.‏

ذكر فتح رمطة والحرب بين المسلمين والروم بصقلية

قد ذكرنا سنة إحدى وخمسين فتح طرمين وحصر رمطة والروم فيها فلما رأى الروم ذلك خافوا وأرسلوا إلى ملك القسطنطينية يعلمونه الحال ويطلبون منه أن ينجدهم بالعساكر فجهز إليهم عسكرًا عظيمًا يزيدون على أربعين ألف مقاتل وسيردهم في البحر فوصلت الأخبار إلى الأمير أحمد أمير صقلية فأرسل إلى المعز بإفريقية يعرفه ذلك ويستمده ويسأل إرسال العساكر إليه سريعًا وشرع هو في إصلاح الأسطول والزيادة فيه وجمع الرجال المقاتلة في البر والبحر‏.‏

وأما المعز فإنه جمع الرجال وحشد وفرق فيهم الأموال الجليلة وسيرهم مع الحسن بن علي والد أحمد فوصلوا إلى صقلية في رمضان وسار بعضهم إلى الذين يحاصرون رمطة فكانوا فأما الروم فإنهم وصلوا أيضًا إلى صقلية ونزلوا عند مدينة مسيني في شوال وزحفوا منها بجموعهم التي لم يدخل صقلية مثلها إلى رمطة فلما سمع الحسن بن عمار مقدم الجيش الذين يحاصرون رمطة ذلك جعل عليها طائفة من عسكره يمنعون من يخرج منها وبرز بالعساكر للقاء الروم وقد عزموا على الموت ووصل الروم وأحاطوا بالمسلمين‏.‏

ونزل أهل رمطة إلى من يليهم ليأتوا المسلمين من ظهورهم فقاتلهم الذين جعلوا هناك لمنعهم وصدوهم عما أرادوا وتقدم الروم إلى القتال وهم مدلون بكثرتهم وبما معهم من العدد وغيرها والتحم القتال وعظم الأمر على المسلمين وألحقهم العدو بخيامهم وأيقن الروم بالظفر فلما رأى المسلمون عظم ما نزل بهم اختاروا الموت ورأوا أنه أسلم لهم وأخذوا بقول الشاعر‏:‏ تأخّرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياةً مثل أن أتقدّما فحمل بهم الحسن بن عمار أميرهم وحمي الوطيس حينئذ وحرضهم على قتال الكفار وكذلك فعل بطارقة الروم حملوا وحرضوا عساكرهم‏.‏

وحمل منويل مقدم الروم فقتل في المسلمين فطعنه المسلمون فلم يؤثر فيه لكثرة ما عليه من اللباس فرمى بعضهم فرسه فقتله واشتد القتال عليه فقتل هو وجماعة من بطارقته فلما قتل انهزم الروم أقبح هزيمة وأكثر المسلمون فيهم القتل ووصل المنهزمون إلى جرف خندق عظيم كالحفرة فسقطوا فيها من خوف السيف فقتل بعضهم بعضًا حتى امتلأت وكانت الحرب من بكرة إلى العصر وبات المسلمون يقاتلونهم في كل ناحية وغنموا من السلاح والخيل وصنوف الأموال ما لا يحد‏.‏

وكان في جملة الغنيمة سيف هندي عليه مكتوب‏:‏ هذا سيف هندي وزنه مائة وسبعون مثقالًا طالما ضرب به بين يدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأرسل إلى المعز مع الأسرى والرؤوس وسار من سلم من الروم إلى ريو‏.‏

وأما أهل رمطة فإنهم ضعفت نفوسهم وكانت الأقوات قد قلت عندهم فأخرجوا من فيها من الضعفاء وبقي المقاتلة فزحف إليهم المسلمون وقاتلوهم إلى الليل ولزموا القتال في الليل أيضًا وتقدموا بالسلاليم فملكوها عنوة وقتلوا من فيها وسبوا الحرم والصغار وغنموا ما فيها وكان شيئًا كثيرًا عظيمًا ورتب فيها من المسلمين من يعمرها ويقيم فيها‏.‏

ثم إن الروم تجمع من سلم منهم وأخذوا معهم من في صقلية وجزيرة ريو منهم وركبوا مراكبهم يحفظون نفوسهم فركب الأمير أحمد في عساكره وأصحابه في المراكب أيضًا وزحف إليهم في الماء وقاتلهم واشتد القتال بينهم وألقى جماعة من المسلمين نفوسهم في الماء وخرقوا كثيرًا من المراكب التي للروم فغرقت وكثر القتل في الروم فانهزموا لا يلوي أحد على أحد وسارت سرايا المسلمين في مدائن الروم فغنموا منها فبذل أهلها لهم من الأموال وهادنوهم وكان ذلك سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وهذه الوقعة الأخيرة هي المعروفة بوقعة المجاز‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة عاشر المحرم أغلقت الأسواق ببغداد يوم عاشوراء وفعل الناس ما تقدم ذكره فثارت فتنة عظيمة بين الشيعة والسنة جرح فيها كثير ونهبت الأموال‏.‏

وفيها في ذي الحجة ظهر بالكوفة إنسان ادعى أنه علوي وكان مبرقعًا فوقع بينه وبينه أبي الحسن محمد بن عمر العلوي وقائع فلما عاد معز الدولة من الموصل هرب المبرقع‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وخمسين وثلاثمائة

ذكر استيلاء الروم على المصيصة وطرسوس

في هذه السنة فتح الروم المصيصة وطرسوس‏.‏

وكان سبب ذلك أن نقفور ملك الروم بنى بقيسارية مدينة ليقرب من بلاد الإسلام وأقام بها ونقل أهله إليها فأرسل إليه أهل طرسوس والمصيصة يبذلون له إتاوة ويطلبون منه أن ينفذ إليهم بعض أصحابه يقيم عندهم فعزم على إجابتهم إلى ذلك‏.‏

فأتاه الخبر بأنهم قد ضعفوا وعجزوا وأنهم لا ناصر لهم وأن الغلاء قد اشتد عليهم وقد عجزوا عن القوت وأكلوا الكلاب والميتة وقد كثر فيهم الوباء فيموت منهم في اليوم نحو ثلاثمائة نفس فعاد نقفور عن إجابتهم وأحضر الرسول وأحرق الكتاب على رأسه واحترقت لحيته وقال لهم أنتك كالحية في الشتاء تخدر وتذبل حتى تكاد تموت فإن أخذها إنسان وأحسن إليها وادفأها انتعشت ونهشته وأنتم إنما أطعتم لضعفكم وإن تركتكم حتى تستقيم أحوالكم تأذيت بكم‏.‏

وأعاد الرسول وجمع جيوش الروم وسار إلى المصيصة بنفسه فحاصرها وفتحها عنوة بالسيف يوم السبت ثالث عشر رجب ووضع السيف فيهم فقتل منهم مقتلة عظيمة ثم رفع السيف ونقل كل من بها إلى بلد الروم كانوا نحو مائتي ألف إنسان‏.‏

ثم سار طرسوس فحصرها فأذعن أهلها بالطاعة وطلبوا الأمان فأجابهم إليه وفتحوا البلد فلقيهم بالجميل وأمرهم أن يحملوا من سلاحهم وأموالهم ما يطيقون ويتركوا الباقي ففعلوا ذلك وساروا برًا وبحرًا وسير معهم من يحميهم حتى بلغوا إنطاكية‏.‏

وجعل الملك المسجد الجامع إصطبلًا لدوابه وأحرق المنبر وعمر طرسوس وحصنها وجلب الميرة إليها حتى رخصت الأسعار وتراجع إليها كثير من أهلها ودخلوا في طاعة الملك وتنصر وأراد المقام بها ليقرب من بلاد الإسلام ثم عاد إلى القسطنطينية وأراد الدمستق وهو ابن الشمشقيق أن يقصد ميافارقين وبها سيف الدولة فأمره الملك باتباعه إلى القسطنطينية فمضى إليه‏.‏

ذكر مخالفة أهل إنطاكية على سيف الدولة

و في هذه السنة عصى أهل إنطاكية على سيف الدولة بن حمدان‏.‏

وكان سبب ذلك أن إنسانًا من أهل طرسوس كان مقدمًا فيها يسمى رشيقًا النسيمي كان في جملة من سلمها إلى الروم وخرج إلى إنطاكية فلما وصلها خدمه إنسان يعرف بابن الأهوازي كان يضمن الأرحاء بإنطاكية فسلم إليه ما اجتمع عنده من حاصل الأرحاء وحسن له العصيان وأعلمه أن سيف الدولة بميافارقين قد عجز عن العود إلى الشام فعصى واستولى على إنطاكية وسار إلى حلب وجرى بينه وبين النائب عن سيف الدولة وهو قرعويه حروب كثيرة وصعد قرعويه إلى قلعة حلب فتحصن بها وأنفذ سيف الدولة عسكرًا مع خادمه بشارة نجدة لقرعويه فلما علم بهم رشيق انهزم عن حلب فسقط عن فرسه فنزل إليه إنسان عربي فقتله وأخذ رأسه وحمله إلى قرعويه وبشارة‏.‏

ووصل ابن الأهوازي إلى إنطاكية فأظهر إنسانًا من الديلم اسمه دزبر وسماها الأمير وتقوى بإنسان علوي ليقيم له الدعوة وتسمى هو بالأستاذ فظلم الناس وجمع الأموال وقصد قرعويه إلى إنطاكية وجرت بينهما وقعة عظيمة فكانت على ابن الأهوازي أولًا ثم عادت على قرعويه فانهزم وعاد إلى حلب‏.‏

ثم إن سيف الدولة عاد عن ميافارقين عند فراغه من الغزاة إلى حلب فأقام بها ليلة وخرج من الغد فواقع دزبر وابن الأهوازي فقاتل من بها فانهزموا وأسر دزبر وابن الأهوازي فقتل دزبر وسجن ابن الأهوازي مدة ثم قتله‏.‏

ذكر عصيان أهل سجستان


و في هذه السنة عصى أهل سجستان على أميرهم خلف بن أحمد وكان خلف هذا هو صاحب سجستان حينئذ وكان عالمًا محبًا لأهل العلم فاتفق أنه حج سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة واستخلف على أعماله إنسانًا من أصحابه يسمى طاهر بن الحسين فطمع في الملك وعصى على خلف لما عاد من الحج فسار خلف إلى بخارى واستنصر بالأمير منصور بن نوح وسأله معونته ورده إلى ملكه فأنجده وجهز معه العساكر فسار بهم نحو سجستان فلما أحس بهم طاهر فارق مدينة خلف وتوجه نحو اسفرار وعاد خلف إلى قراره وملكه وفرق العساكر‏.‏

فلما علم طاهر بذلك عاد إليه وغلب على سجستان وفارقها خلف وعاد إلى حضرة الأمير منصور أيضًا ببخارى فأكرمه وأحسن إليه وأنجده بالعساكر الكثيرة ورده إلى سجستان فوافق وصوله موت طاهر وانتصاب ابنه الحسين مكانه فحاصره خلف وضايقه وكثر بينهم القتلى واستظهر خلف عليه فلما رأى ذلك كتب إلى بخارى يعتذر ويتنصل ويظهر الطاعة ويسأل الإقالة فأجابه الأمير منصور إلى ما طلبه وكتب في تمكينه من المسير إليه فسار من سجستان إلى بخارى فأحسن الأمير منصور إليه‏.‏

واستقر خلف بن أحمد بسجستان ودامت أيامه فيها وكثرت أمواله ورجاله فقطع ما كان يحمله إلى بخارى من الخلع والخدم والأموال التي استقرت القاعدة عليها فجهزت العساكر إليه وجعل مقدمها الحسين بن طاهر بن الحسين المذكور فساروا إلى سجستان وحصروا خلف بن أحمد بحصن أرك وهو من أمنع الحصون وأعلاها محلًا وأعمقها خندقًا فدام الحصار عليه سبع سنين‏.‏

وكان خلف يقاتلهم بأنواع السلاح ويعمل بهم أنواع الحيل حتى إنه كان يأمر بصيد الحيات فلما طال ذلك الحصار وفنيت الأموال والآلات كتب نوح بن منصور إلى أبي الحسن بن سيمجور الذي كان أمير جيوش خراسان وكان حينئذ قد عزل عنها على ما سنذكره يأمره بالمسير إلى خلف ومحاصرته وكان بقوهستان فسار منها إلى سجستان وحصر خلفًا وكان بينهما مودة فأرسل إليه أبو الحسن يشير عليه بالنزول عن حصن أرك وتسليمه إلى الحسين بن طاهر ليصير لمن قد حصره من العساكر طريق وحجة يعودون بها إلى بخارى فإذا تفرقت العساكر عاود هو محاربة الحسين وبكر بن الحسين مفردًا من العساكر فقبل خلف مشورته وفارق حصن أرك إلى حصن الطارق ودخل أبو الحسن السيمجوري إلى أرك وأقام به الخطبة للأمير نوح وانصرف عنه وقرر الحسين بن طاهر فيه‏.‏

وسنورد ما يتجدد فيما بعد وكان هذا أول وهن دخل على دولة السامانية فطمع أصحاب الأطراف فيهم لسوء طاعة أصحابهم لهم وقد كان ينبغي أن نورد كل حادثٍ من هذه الحوادث في سنته لكننا جمعناه لقلته فإنه كان ينسي أوله لبعد ما بينه وبين آخره‏.‏

ذكر طاعة أهل عمان معز الدولة وما كان منهم

وفيها سير معز الدولة عسكرًا إلى عمان فلقوا أميرها وهو نافع مولى يوسف بن وجيه وكان يوسف قد هلك وملك نافع البلد بعده وكان أسود فدخل نافع في طاعة معز الدولة وخطب له وضرب له اسمه على الدينار والدرهم فلما عاد العسكر عنه وثب به أهل عمان فأخرجوه عنهم وأدخلوا القرامطة الهجريين إليهم وتسلموا البلد فكانوا يقيمون فيه نهارًا ويخرجون ليلًا إلى معسكرهم وكتبوا إلى أصحابهم بهجر يعرفونهم الخبر ليأمروهم بما يفعلون‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة ليلة السبت رابع عشر صفر انخسف القمر جميعه‏.‏

وفيها نزلت طائفة من الترك على بلاد الخزر فانتصر بأهل خوارزم فلم ينجدوهم وقالوا‏:‏ أنتم كفار فإن أسلمتم نصرناكم فأسلموا إلا ملكهم فنصرهم أهل خوارزم وأزالوا الترك عنهم ثم أسلم ملكهم بعد ذلك‏.‏

وفيها رابع جمادى الآخرة تقلد الشريف أبو أحمد الحسين بن موسى والد الرضي والمرتضى نقابة العلويين وإمارة الحاج وكتب له منشور من ديوان الخليفة‏.‏

وفيها أنفذ القرامطة سرية إلى عمان والشراة في جبالها كثير فاجتمعوا فأوقعوا بالقرامطة فقتلوا كثيرًا منهم وعاد الباقون‏.‏

وفيها ثار إنسان من القرامطة الذين استأمنوا إلى سيف الدولة واسمه مروان وكان يتقلد السواحل لسيف الدولة فلما تمكن ثار بحمص فملكها وملك غيرها فخرج إليه غلام لقرعويه حاجب سيف الدولة اسمه بدر وواقع القرمطي عدة وقعات ففي بعضها رمى بدر مروان بنشابة مسمومة واتفق أن أصحاب مروان أسروا بدرًا فقتله مروان ثم عاش بعد قتله أيامًا ومات‏.‏

وفيها قتل المتنبي الشاعر واسمه أبو الطيب أحمد بن الحسين الكندي قريبًا من النعمانية وقتل معه ابنه وكان قد عاد من عند الدولة بفارس فقتله الأعراب هناك وأخذوا ما معه‏.‏

وفيها توفي محمد بن حبان بن أحمد بن حبان أبو حاتم البستي صاحب التصانيف المشهورة وأبو بكر محمد بن الحسن بن يعقوب بن مقسم المفسر النحوي المقرئ وكان عالمًا بنحو الكوفيين وله تفسير كبير حسن ومحمد بن عبدالله بن إبراهيم بن عبدويه أبو بكر الشافعي في ذي الحجة وكان عالمًا بالحديث عالي الإسناد‏.‏

حبان بكسر الحاء والباء الموحدة‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وخمسين وثلاثمائة

واستيلاء معز الدولة عليه قد ذكرنا في السنة التي قبل هذه خبر عمان ودخول القرامطة إليها وهرب نافع عنها فلما هرب نافع واستولى القرامطة على البلد كان معهم كاتب يعرف بعلي بن أحمد ينظر في أمر البلد وكان بعمان قاضٍ له عشيرة وجاه فاتفق هو وأهل البلد أن ينصبوا في الإمرة رجلًا يعرف بابن طغان وكان من صغار القواد بعمان وأدناهم مرتبةً فلما استقر في الإمرة خاف ممن فوقه من القواد فقبض على ثمانين قائدًا فقتل بعضهم وغرق بعضهم‏.‏

وقدم البلد ابنا أخت لرجل ممن قد غرقهم فأقاما مدة ثم إنهما دخلا على طغان يومًا من أيام السلام فسلما عليه فلما تقوض المجلس قتلاه فاجتمع رأي الناس على تأمير عبد الوهاب بن أحمد بن مروان وهو من أقارب القاضي فولي الإمارة بعد امتناع منه واستكتب علي بن أحمد الذي كان مع الهجريين فأمر عبد الوهاب كاتبه عليًا أن يعطي الجند أرزاقهم صلة ففعل ذلك فلما انتهى إلى الزنج وكانوا ستة آلاف رجل ولهم بأس وشدة قال لهم علي‏:‏ إن الأمير عبد الوهاب أمرني أن أعطي البيض من الجند كذا وكذا وأمر لكم بنصف ذلك فاضطربوا وامتنعوا فقال لهم‏:‏ هل لكم أن تبايعوني فأعطيكم مثل سائر الأجناد فأجابوه إلى ذلك وبايعوه وأعطاهم مثل البيض من الجند فامتنع البيض من ذلك ووقع بينهم حرب فظهر الزنج عليهم فسكنوا واتفقوا مع الزنج وأخرجوا عبد الوهاب من البلد فاستقر في الإمارة علي بن أحمد‏.‏

ثم إن معز الدولة سار إلى واسط لحرب عمران بن شاهين ولإرسال جيش إلى عمان فلما وصل إلى واسط قدم عليه نافع الأسود الذي كان صاحب عمان فأحسن إليه وأقام للفراغ من أمر عمران بن شاهين على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وانحدر من واسط إلى الأبلة في شهر رمضان فأقام بها يجهز الجيش والمراكب ليسيروا إلى عمان ففرغ منه وساروا منتصف شوال واستعمل عليهم أبا الفرج محمد بن العباس بن فسانجس وكانوا في مائة قطعة فلما كانوا بسيراف انضم إليهم الجيش الذي جهزه عضد الدولة من فارس نجدةً لعمة معز الدولة فاجتمعوا وساروا إلى عمان ودخلها تاسع ذي الحجة وخطب لمعز الدولة فيها وقتل من أهلها مقتلة عظيمة وأحرقت مراكبهم وهي تسعة وثمانون مركبًا‏.‏

ذكر هزيمة إبراهيم بن المرزبان

وسبب ذلك أن إبراهيم لما انهزم من جستان بن شرمزن على ما ذكرناه سنة تسع وأربعين وثلاثمائة قصد أرمينية وشرع يستعد ويتجهز للعود إلى أذربيجان وكانت ملوك أرمينية من الأرمن والأكراد وراسل جستان ابن شرمزن وأصلحه فأتاه الخلق الكثير‏.‏

واتفق أن إسماعيل ابن عمه وهسوذان توفي فسار إبراهيم إلى أردبيل فملكها وانصرف أبو القاسم بن مسيكي إلى وهسوذان وصار معه وسار إبراهيم إلى عمه وهسوذان يطالبه بثأر إخوته فخافه عمه وهسوذان وسار هو وابن مسيكي إلى بلد الديلم واستولى إبراهيم على أعمال عمه وخبط أصحابه وأخذ أمواله التي ظفر بها‏.‏

وجمع وهسوذان الرجال وعاد إلى قلعته بالطرم وسير أبا القاسم بن مسيكي في الجيوش إلى إبراهيم فلقيهم إبراهيم فاقتتلوا قتالًا شديدًا وانهزم إبراهيم وتبعه الطلب فلم يدركوه وسار وحده حتى وصل إلى الري إلى ركن الدولة فأكرمه ركن الدولة وأحسن إليه وكان زوج أخت إبراهيم فبالغ في إكرامه لذلك وأجزل له الهدايا والصلات‏.‏

ذكر خبر الغزاة الخراسانية مع ركن الدولة

في هذه السنة في رمضان خرج من خراسان جمع عظيم يبلغون عشرين ألفًا إلى الري بنية الغزاة فبلغ خبرهم إلى ركن الدولة وكثرة جمعهم وما فعلوه في أطراف بلاده من الفساد وأن رؤساءهم لم يمنعوهم عن ذلك فأشار عليه الأستاذ أبو الفضل بن العميد وهو وزيره بمنعهم من دخول بلاده مجتمعين فقال‏:‏ لا تتحدث الملوك أنني خفت جمعًا من العزاة فأشار عليه بتأخيرهم إلى أن يجمع عسكره وكانوا متفرقين في أعمالهم فلم يقبل منه فقال له‏:‏ أخاف أن يكون لهم مع صاحب خراسان مواطأة على بلادك ودولتك فلم يلتفت إلى قوله‏.‏

فلما وردوا الري اجتمع رؤساؤهم وفيهم القفال الفقيه وحضروا مجلس ابن العميد وطلبوا مالًا ينفقونه فوعدهم فاشتطوا في الطلب وقالوا‏:‏ نريد خراج هذه البلاد جميعها فإنه لبيت المال وقد فعل الروم بالمسلمين ما بلغكم واستولوا على بلادكم وكذلك الأرمن ونحن غزاة وفقراء وأبناء سبيل فنحن أحق بالمال منكم وطلبوا جيشًا يخرج معهم واشتطوا في الاقتراح فعلم ابن العميد حينئذ خبث سرائرهم وتيقن ما كان ظنه فيهم فرفق بهم وداراهم فعدلوا عنه إلى مشاتمة الديلم ولعنهم وتكفيرهم ثم قاموا عنه وشرعوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسلبون العامة بحجة ذلك ثم إنهم أثاروا الفتنة وحاربوا جماعة من الديلم إلى أن حجز بينهم الليل ثم باكروا القتال ودخلوا المدينة ونهبوا دار الوزير ابن العميد وجرحوه وسلم من القتل‏.‏

وخرج ركن الدولة إليهم في أصحابه وكان في قلة فهزمه الخراسانية فلو تبعوه لأتوا عليه وملكوا البلد منه لكنهم عادوا عنه لأن الليل أدركهم فلما أصبحوا راسلهم ركن الدولة ولطف بهم لعلهم يسيرون من بلده فلم يفعلوا وكانوا ينتظرون مددًا يأتيهم من صاحب خراسان فإنهم كان بينهم مواعدة على تلك البلاد‏.‏

ثم إنهم اجتمعوا وقصدوا البلد ليملكوه فخرج ركن الدولة إليهم فقاتلهم وأمر نفرًا من أصحابه أن يسيروا إلى مكان يراهم ثم يثيروا غبرة شديدة ويرسلوا إليه من يخبره أن الجيوش قد أتته ففعلوا ذلك‏.‏

وكان أصحابه قد خافوا لقلتهم وكثرة عدوهم فلما رأوا الغبرة وأتاهم من أخبرهم أن أصحابهم لحقوهم قويت نفوسهم وقال لهم ركن الدولة‏:‏ احملوا على هؤلاء لعلنا نظفر بهم قبل وصول أصحابنا فيكون الظفر والغنيمة لنا فكبروا وحملوا حملة صادقة فكان لهم الظفر وانهزم الخراسانية وقتل منهم خلق كثير وأسر أكثر ممن قتل وتفرق الباقون فطلبوا الأمان فأمنهم ركن الدولة وكان قد دخل البلد جماعة منهم يكبرون كأنهم يقاتلون الكفار ويقتلون كل من رأوه بزي الديلم ويقولون هؤلاء رافضة فبلغهم خبر انهزام أصحابهم وقصدهم الديلم ليقتلوهم فمنعهم ركن الدولة وأمنهم وفتح لهم الطريق ليعودوا ووصل بعهم نحو ألفي رجل بالعدة والسلاح فقاتلهم ركن الدولة فهزمهم وقتل فيهم ثم أطلق الأسرى وأمر لهم بنفقات وردهم إلى بلادهم وكان إبراهيم بن المرزبان عند ركن الدولة فأثر فيهم آثارًا حسنة‏.‏

ذكر عود إبراهيم بن المرزبان إلى أذربيجان

في هذه السنة عاد إبراهيم بن المرزبان إلى أذربيجان واستولى عليها‏.‏

وكان سبب ذلك أنه لما قصد ركن الدولة على ما ذكرناه جهز العساكر معه وسير الأستاذ أبا الفضل بن العميد ليرده إلى ولايته ويصلح له أصحاب الأطراف فسار معه إليها واستولى عليها وأصلح له جستان بن شرمزن وقاده إلى طاعته وغيره من طوائف الأكراد ومكنه من البلاد‏.‏

وكان ابن العميد لما وصل إلى تلك البلاد رأى كثرة دخلها وسعة مياهها ورأى ما يتحصل لإبراهيم منها فوجده قليلًا لسوء تدبيره وطمع الناس فيه لاشتغاله بالشرب والنساء فكتب إلى ركن الدولة يعرفه الحال ويشير بأن يعوضه من بعض ولايته بمقدار ما يتحصل له من هذه البلاد ويأخذها منه فإنه لا يستقيم له حال مع الذين بها وإنها تؤخذ منه فامتنع ركن الدولة

من قبول ذلك منه وقال‏:‏ لا يتحدث الناس عني أني استجار بي إنسان وطمعت فيه وأمر أبا الفضل بالعود عنه وتسليم البلاد إليه ففعل وعاد وحكى لركن الدولة صورة الحال وحذره خروج البلاد من يد إبراهيم وكان الأمر كما ذكره حتى أخذ إبراهيم وحبس على ما نذكره‏.‏

ذكر خروج الروم إلى بلاد الإسلام

و في هذه السنة في شوال خرجت الروم فقصدوا مدينة آمد ونزلوا عليها وحصروها وقاتلوا أهلها فقتل منهم ثلاثمائة رجل وأسر نحو أربعمائة أسير ولم يمكنهم فتحها فانصرفوا إلى دارا وقربوا من نصيبين ولقيهم قافلة واردة من ميافارقين فأخذوها وهرب الناس من نصيبين خوفًا منهم حتى بلغت أجرة الدابة مائة درهم‏.‏

وراسل سيف الدولة الأعراب ليهرب معهم وكان في نصيبين فاتفق أن الروم عادوا قبل هربه فأقام بمكانه وساروا من ديار الجزيرة إلى الشام فنازلوا إنطاكية فأقاموا عليها مدة طويلة يقاتلون أهلها فلم يمكنهم فتحها فخربوا بلدها ونهبوه وعادوا إلى طرسوس‏.‏

ذكر ما جرى لمعز الدولة مع عمران بن شاهين

قد ذكرنا انحدار معز الدولة إلى واسط لأجل قصد ولاية عمران بن شاهين بالبطائح فلما وصل إلى واسط أنفذ الجيش مع أبي الفضل العباس بن الحسن فساروا فنزلوا الجامدة وشرعوا في سد الأنهار التي تصب إلى البطائح‏.‏

وسار معز الدولة إلى الأبلة وأرسل الجيش إلى عمان على ما ذكرناه وعاد إلى واسط لإتمام حرب عمران وملك بلده فأقام بها فمرض وأصعد إلى بغداد لليلتين بقيتا من ربيع الأول سنة ست وخمسين وهو عليل وخلف العسكر بها ووعدهم أنه يعود إليهم فلما وصل إلى بغداد توفي على ما نذكره فدعت الضرورة إلى مصالحة عمران والانصراف عنه‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة خرجت بنو سليم على الحجاج السائرين من مصر والشام وكانوا عالمًا كثيرًا ومعهم من الأموال ما لا حد عليه لأن كثيرًا من الناس من أهل الثغور والشام هربوا من خوفهم من الروم بأموالهم وأهليهم وقصدوا مكة ليسيروا منها إلى العراق فأخذوا ومات من الناس في البرية ما لا يحصى ولم يسلم إلا القليل‏.‏

وفيها عظم أمر أبي عبدالله الداعي بالديلم ولبس الصوف وأظهر النسك والعبادة وحارب ابن وشمكير فهزمه وعزم على المسير إلى طبرستان وكتب إلى العراق كتابًا يدعوهم فيه إلى وفيها تم الفداء بين سيف الدولة والروم وسلم سيف الدولة ابن عمه أبا فراس بن حمدان وأبا الهيثم ابن القاضي أبي الحصين‏.‏

وفيها انخسف القمر جميعه ليلة السبت ثالث عشر شعبان وغاب منخسفًا‏.‏

وفيها توفي أبو بكر محمد بن عمر بن محمد بن سالم المعروف بابن الجعابي الحافظ البغدادي بها وكان يتشيع وأبو عبدالله محمد بن الحسين بن علي ابن الحسين بن الوضاح الوضاحي الشاعر الأنباري‏.‏

ثم دخلت سنة ست وخمسين وثلاثمائة

ذكر موت معز الدولة وولاية ابنه بختيار

في هذه السنة ثالث عشر ربيع الآخر توفي معز الدولة بعلة الذرب وكان بواسط وقد جهز الجيوش لمحاربة عمران بن شاهين فابتدأ به الإسهال وقوي عليه فسار نحو بغداد وخلف أصحابه ووعدهم أنه يعود إليهم لأنه رجا العافية فلما وصل إلى بغداد اشتد مرضه وصار لا يثبت في معدته شيء فلما أحس بالموت عهد إلى ابنه عز الدولة بختيار وأظهر التوبة

وتصدق بأكثر ماله وأعتق مماليكه ورد شيئًا كثيرًا على أصحابه وتوفي ودفن بباب التبن في مقابر قريش فكانت إمارته إحدى وعشرين سنة وأحد عشر شهرًا ويومين‏.‏

وكان حليمًا كريمًا عاقلًا ولما مات معز الدولة وجلس ابنه عز الدولة في الإمارة مطر الناس ثلاثة أيام بلياليها مطرًا دائمًا منع الناس من الحركة فأرسل إلى القواد فأرضاهم فانجلت السماء وقد رضوا فسكنوا ولم يتحرك أحد‏.‏

وكتب عز الدولة إلى العسكر بمصالحة عمران بن شاهين ففعلوا وعادوا‏.‏

وكانت إحدى يدي معز الدولة مقطوعة واختلف في سببها قطعها فقيل قطعت بكرمان لما سار إلى قتال من بها وقد ذكرناه وقيل غير ذلك وهو الذي أحدث أمر السعاة وأعطاهم عليه الجرايات الكثيرة لأنه أراد أن يصل خبره إلى أخيه ركن الدولة سريعًا فنشأ في أيامه فضل ومرعوش وفاقا جميع السعاة وكان كل واحد منهما يسير في اليوم نيفًا وأربعين فرسخًا وتعصب لهما الناس وكان أحدهما ساعي السنة والأخر ساعي الشيعة‏.‏

ذكر سوء سيرة بختيار وفساد حاله

لما حضرت معز الدولة الوفاة وصى ولده بختيار بطاعة عمه ركن الدولة واستشارته في كل ما يفعله وبطاعة عضد الدولة ابن عمه لأنه أكبر منه سنًا وأقوم بالسياسة ووصاه بتقرير كاتبيه أبي الفضل العباس بن الحسين وأبي الفرج محمد بن العباس لكفايتهما وأمانتهما ووصاه بالديلم والأتراك وبالحاجب سبكتكين فخالف هذه الوصايا جميعها واشتغل باللهو واللعب وعشرة النساء والمساخر والمغنين وشرع في إيحاش كاتبيه وسبكتكين فاستوحشوا وانقطع سبكتكين عنه فلم يحضر داره‏.‏

ونفى كبار الديلم عن مملكته شرهًا إلى إقطاعتهم وأموالهم وأموال المتصلين بهم فاتفق أصاغرهم عليه وطلبوا الزيادات واضطر إلى مرضاتهم واقتدى بهم الأتراك فعملوا مثل ذلك ولم يتم له على سبكتكين ما يريد لاحتياطه واتفق الأتراك معه وخرج الديلم إلى الصحراء وطالعوا بختيار بإعادة من أسقط منهم فاحتاج أن يجيبهم لتغير سبكتكين عليه وفعل الأتراك أيضًا مثل فعلهم‏.‏

واتصل خبر موت معز الدولة بكاتبه أبي الفرج محمد بن العباس وهو متولي أمر عمان فسلمها إلى نواب عضد الدولة وسار نحو بغداد‏.‏

وكان سبب تسليمها إلى عضد الدولة أن بختيار لما ملك بعد موت أبيه تفرد أبو الفضل بالنظر في الأمور فخاف أبو الفرج أن يستمر انفراده عنه فسلم عمان إلى عضد الدولة لئلا يؤمر بالمقام فيها لحفظها وإصلاحها وسار إلى بغداد فلم يتمكن من الذي أراد وتفرد أبو الفضل بالوزارة‏.‏

ذكر خروج عساكر خراسان وموت وشمكير

و في هذه السنة جهز الأمير منصور بن نوح صاحب خراسان وما وراء النهر الجيوش إلى الري‏.‏

وكان سبب ذلك أن أبا علي بن إلياس سار من كرمان إلى بخارى ملتجئًا إلى الأمير منصور على ما نذكره إن شاء الله تعالى فلما ورد عليه أكرمه وعظمه فأطمعه في ممالك بني بويه وحسن له قصدها وعرفه أن نوابه لا يناصحونه وأنهم يأخذون الرشي من الديلم فوافق ذلك ما كان يذكره له وشمكير فكاتب الأمير منصور وشمكير والحسن بن الفيرزان يعرفهما ما عزم عليه من قصد الري ويأمرهما بالتجهز لذلك ليسيرا مع عسكره‏.‏

ثم إنه جهز العساكر وسيرها مع صاحب جيوش خراسان وهو أبو الحسن محمد بن إبراهيم سيمجور الدواتي وأمره بطاعة وشمكير والانقياد له والتصرف بأمره وجعله مقدم الجيوش جميعها‏.‏

فلما بلغ الخبر إلى ركن الدولة أتاه ما لم يكن في حسابه وأخذه المقيم المقعد‏.‏

وعلم أن الأمر قد بلغ الغاية فسير أولاده وأهله إلى أصبهان وكاتب ولده عضد الدولة يستمده وكاتب ابن أخيه عز الدولة بختيار يستنجده أيضًا‏.‏

فأما عضد الدولة فإنه جهز العساكر وسيرهم إلى طريق خراسان وأظهر أنه يريد قصد خراسان لخلوها من العساكر فبلغ الخبر أهل خراسان فأحجموا قليلًا ثم ساروا حتى بلغوا الدامغان وبرز ركن الدولة في عساكره من الري نحوهم فاتفق موت وشمكير فكان سبب موته أنه وصله من صاحب خراسان هدايا من جملتها خيل فاستعرض الخيل واختار أحدها وركبه للصيد فعارضه خنزير قد رمي بحربة وهي ثابتة فيه فحمل الخنزير على وشمكير وهو غافل فضرب الفرس فشب تحته فألقاه إلى الأرض وخرج الدم من أذنيه وأنفه فحمل ميتًا وذلك في المحرم من سنة سبع وخمسين وانتقض جميع ما كانوا فيه وكفى الله ركن الدولة شرهم‏.‏

ولما مات وشمكير قام ابنه بيستون مقامه وراسل ركن الدولة وصالحه فأمده ركن الدولة بالمال والرجال‏.‏

ومن أعجب ما يحكى مما يرغب في حسن النية وكرم المقدرة أن وشمكير لما اجتمعت معه عساكر خراسان وسار كتب إلى ركن الدولة يتهدده بضروب من الوعيد والتهديد ويقول‏:‏ والله

لئن ظفرت بك لأفعلن بك ولأصنعن بألفاظ قبيحة فلم يتجاسر الكاتب أن يقرأه فأخذه ركن الدولة فقرأه وقال للكاتب‏:‏ اكتب إليه‏:‏ أما جمعك وأحشادك فما كنت قط أهون منك علي الآن وأما تهديدك وإيعادك فوالله لئن ظفرت بك لأعاملنك بضده ولأحسنن إليك ولأكرمنك فلقي وشمكير سوء نيته ولقي ركن الدولة حسن نيته‏.‏

وكان بطبرستان عدو لركن الدولة يقال له نوح بن نصر شديد العداوة له لا يزال يجمع له ويقصد أطراف بلاده فمات الآن وعصى عليه بهمذان إنسان يقال له أحمد بن هارون الهمذاني لما رأى خروج عساكر خراسان وأظهر العصيان فلما أتاه خبر موت وشمكير مات لوقته وكفى الله ركن الدولة هم الجميع‏.‏

ذكر القبض على ناصر الدولة بن حمدان

في هذه السنة قبض أبو تغلب بن ناصر الدولة على أبيه وحبسه في القلعة ليلة الست لست بقين من جمادى الأولى‏.‏

وكان سبب قبضه أنه كان قد كبر وساءت أخلاقه وضيق على أولاده وأصحابه وخالفهم في أغراضهم للمصلحة فضجروا منه‏.‏

وكان فيما خالفهم فيه أنه لما مات معز الدولة عزم أولاده على قصد العراق وأخذه من بختيار فنهاهم وقال لهم‏:‏ إن معز الدولة قد خلف مالًا يستظهر به ابنه عليكم فاصبروا حتى يفرق ما عنده من المال ثم اقصدوه وفرقوا الأموال فإنكم تظفرون به لا محالة فوثب عليه أبو تغلب فقبضه ورفعه إلى القلعة ووكل به من يخدمه ويقوم بحاجاته وما يحتاج إليه‏.‏

فلما فعل ذلك خالفه بعض إخوته وانتشر أمرهم الذي كان يجمعهم وصار قصاراهم حفظ ما في أيديهم واحتاج أبو تغلب إلى مداراة عز الدولة بختيار وتجديد عقد الضمان ليحتج بذلك على إخوته ومن خالفه فضمنه البلاد بألف ألف مائتي ألف درهم كل سنة‏.‏

ذكر من مات من الملوك

مات فيها وشمكير بن زيار كما ذكرناه ومعز الدولة وقد ذكرناه والحسن بن الفيرزان وكافور الإخشيدي ونقفور ملك الروم وأبو علي محمد بن إلياس صاحب كرمان وسيف الدولة بن حمدان‏.‏

فأما سيف الدولة أبو الحسن علي بن أبي الهيجاء عبدالله بن حمدان بن حمدون التغلبي فإنه مات بحلب في صفر وحمل تابوته إلى ميافارقين فدفن بها وكانت علته الفالج وقيل عسر البول

وكان مولده في ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثمائة وكان جوادًا كريمًا شجاعًا وأخباره مشهورة في ذلك وكان يقول الشعر فمن شعره في أخيه ناصر الدولة‏:‏ وهبت لك العليا وقد كنت أهلها وقلت لهم بيني وبين أخي فرق وما كان بي عنها نكولٌ وإنما تجاوزت عن حقّي فتمّ لك الحقّ أما كنت ترضى أن أكون مصلّيًا إذا كنت أرضى أن يكون لك السّبق وله أيضًا قد جرى في دمعه دمه فإلى كم أنت تظلمه ردّ عنه الطّرف منك فقد جرحته منك أسهمه كيف يستطيع التجلّد من خطرات الوهم تؤلمه ولما توفي سيف الدولة ملك بلاده بعده ابنه أبو المعالي شريف‏.‏

وأما أبو علي بن إلياس فسيرد ذكر موته سنة سبع وخمسين‏.‏

وأما كافور فإنه كان صاحب مصر وكان من موالي الإخشيد محمد ابن طغج واستولى على مصر ودمشق بعد موت الإخشيد لصغر أولاده وكان خصيًا أسود وللمتنبي فيه مديح وهجو وكان قصده إلى مصر وخبره معه مشهور ولما دفن كتب على قبره‏:‏ دنياهم ضحكت أيّام دولتهم حتّى إذا انقرضوا ناحت لهم وبكت وفيها توفي أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد بن أحمد الأصبهاني الأموي وهو من ولد محمد بن مروان بن الحكم الأموي وكان شيعيًا وهذا من العجب وهو صاحب كتاب الأغاني وغيره‏.‏

وفيها توفي يوسف بن عمر بن أبي عمر القاضي وكان مولده سنة خمس وثلاثمائة وولي قضاء بغداد في حياة أبيه وبعده‏.‏

وفيه توفي أبو الحسن أحمد بن محمد بن سالم صاحب سهل التستري رضي الله عنه

ثم دخلت سنة سبع وخمسين وثلاثمائة

ذكر عصيان حبشي ابن معز الدولة على بختيار بالبصرة وأخذه قهرًا


في هذه السنة عصى حبشي بن معز الدولة على أخيه بختيار وكان بالبصرة لما مات والده فحسن له من عنده من أصحابه الاستبداد بالبصرة وذكروا له أن أخاه بختيار لا يقدر على قصده فشرع في ذلك فانتهى الخبر إلى أخيه فسير وزيره أبا الفضل العباس بن الحسين إليه وأمره بأخذه كيف أمكن فأظهر الوزير أنه يريد الانحدار إلى الأهواز‏.‏

ولما بلغ واسط أقام بها ليصلح أمرها وكتب إلى حبشي يعده أنه يسلم إليه البصرة سلمًا ويصالحها عليها ويقول له‏:‏ إنني قد لزمني مال على الوزارة ولا بد من مساعدتي فأنفذ إليه حبشي مائتي ألف درهم وتيقن حصول البصرة له فوصلها هو وعسكر الأهواز لميعادهم فلم يتمكن حبشي من إصلاح شأنه وما يحتاج إليه فظفروا به وأخذوه أسيرًا وحبسوه برامهرمز فأرسل عمه ركن الدولة وخلصه فسار إلى عضد الدولة فأقطعه إقطاعًا وافرًا وأقام عنده إلى أن مات في آخر سنة تسع وستين وثلاثمائة وأخذ الوزير من أمواله بالبصرة شيئًا كثيرًا ومن جملة ما أخذ له خمسة عشر ألف مجلد سوى الأجزاء والمسرس وما ليس له جلد‏.‏

ذكر البيعة لمحمد بن المستكفي

في هذه السنة ظهر ببغداد بين الخاص والعام دعوة إلى رجل من أهل البيت اسمه محمد بن عبدالله وقيل إنه الدجال الذي وعد به رسول الله ـ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ وإنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويجدد ما عفا من أمور الدين فمن كان من أهل السنة قيل له‏:‏ إنه عباسي ومن كان أهل الشيعة قيل له‏:‏ إنه علوي فكثرت الدعاة إليه والبيعة له‏.‏

وكان الرجل بمصر وقد أكرمه كافور الإخشيدي وأحسن إليه وكان في جملة من بايع له

سبكتكين العجمي وهو من أكابر قواد معز الدولة وكان يتشيع فظنه علويًا وكتب إليه يستدعيه من مصر فسار إلى الأنبار وخرج سبكتكين إلى طريق الفرات وكان يتولى حمايته فلقي ابن المستكفي وترجل له وخدمه وأخذه وعاد إلى بغداد وهو لا يشك في حصول الأمر له‏.‏

ثم ظهر لسبكتكين أن الرجل عباسيٌ فعاد عن ذلك الرأي ففطن ابن المستكفي وخاف هو وأصحابه فهربوا وتفرقوا فأخذ ابن المستكفي ومعه أخ له وأحضر عند بختيار فأعطاهما الأمان ثم إن المطيع تسلمه من بختيار فجدع أنفه ثم خفي خبره‏.‏

ذكر استيلاء عضد الدولة على كرمان

في هذه السنة ملك عضد الدولة بلاد كرمان‏.‏


وكان سبب ذلك أن أبا علي بن إلياس كان صاحبها مدة طويلة على ما ذكرناه ثم إنه أصابه فالج خاف منه على نفسه فجمع أكابر أولاده وهم ثلاثة‏:‏ إليسع وإلياس وسليمان فاعتذر إلى إليسع من جفوة كانت منه له قديمًا وولاه الأمر ثم بعده أخاه إلياس وأمر سليمان بالعود إلى بلادهم وهي بلاد الصغد وأمره بأخذ أموال له هناك وقصد إبعاده عن إليسع لعدواة كانت

فسار من عند أبيه واستولى على السيرجان فلما بلغ أباه ذلك أنفذ إليه إليسع في جيش وأمره بمحاربته وإجلائه عن البلاد ولم يمكنه من قصد الصغد إن طلب ذلك فسار إليه وحصره واستظهر عليه فلما رأى سليمان ذلك جمع أمواله وسار نحو خراسان واستقر أمر إليسع بالسيرجان وملكها وأمر بنهبها فنهبت فسأله القاضي وأعيان البلد العفو عنهم فعفا‏.‏

ثم إن جماعة من أصحاب والده خافوه فسعوا به إلى أبيه فقبض عليه وسجنه في قلعة له فمشت والدته إلى والدة أخيه إلياس وقالت لها‏:‏ إن صاحبها قد فسخ ما كان عقده لولدي وبعده يفعل بولدك مثله ويخرج الملك عن آل إلياس والرأي أن تساعديني على تخليص ولدي ليعود الأمر إلى ما كان عليه‏.‏

وكان والده أبو علي تأخذه غشية في بعض الأوقات فيمكث زمانًا طويلًا لا يعقل فاتفقت المرأتان وجمعتا الجواري في وقت غشيته وأخرجن إليسع من حبسه ودلينه من ظهر القلعة إلى الأرض فكسر قيده وقصد العسكر فاستبشروا به وأطاعوه وهرب منه من كان أفسد حاله مع أبيه وأخذ بعضهم ونجا بعضهم وتقدم إلى القلعة ليحصرها‏.‏

فلما أفاق والده وعرف الصورة راسل ولده وسأله أن يكف عنه ويؤمنه على ماله وأهله حتى يسلم إليه القلعة وجميع أعمال كرمان ويرحل إلى خراسان ويكون عونًا له هناك فأجابه إلى ذلك وسلم إليه القلعة وكثيرًا من المال وأخذ معه ما أراد وسار إلى خراسان وقصد بخارى فأكرمه الأمير منصور بن نوح وأحسن إليه وقربه منه فحمل منصورًا على تجهيز العساكر إلى الري وقصد بني بويه على ما ذكرناه وأقام عنده إلى أن توفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة بعلة الفالج على ما ذكرناه‏.‏

وكان ابنه سليمان ببخارى أيضًا وأما إليسع فإنه صفت له كرمان فحمله ترف الشباب وجهله على مغالبة عضد الدولة على بعض حدود عمله وأتاه جماعة من أصحاب عضد الدولة وأحسن إليهم ثم عاد بعضهم إلى عضد الدولة فاتهم إليسع الباقين فعاقبهم ومثل بهم‏.‏

ثم إن جماعة من أصحابه استأمنوا إلى عضد الدولة فأحسن إليهم وأكرمهم ووصلهم فلما رأى أصحابه تباعد ما بين الحالين تألبوا عليه وفارقوه متسللين إلى عضد الدولة وأتاه منهم في دفعة واحدة نحو ألف رجل من وجوه أصحابه فبقي في خاصته وفارقه معظم عسكره‏.‏

فلما رأى ذلك أخذ أمواله وأهله وسار بهم نحو بخارى لا يلوي على شيء وسار عضد الدولة إلى كرمان فاستولى عليها وملكها وأخذ ما بها من أموال آل إلياس وكان ذلك في شهر رمضان وأقطعها ولده أبا الفوارس وهو الذي لقب بعد ذلك شرف الدولة وملك العراق واستخلف عليها كورتكين ابن جستان وعاد إلى فارس وراسله صاحب سجستان وخطب وأما إليسع فإنه لما وصل إلى بخارى أكرمه وأحسن إليه وصار يذم أهل سامان في قعودهم عن نصره وإعادته إلى ملكه فنفي عن بخارى إلى خوارزم‏.‏

وبلغ أبا علي بن سيمجور خبره فقصد ماله وأثقاله وكان خلفها ببعض نواحي خراسان فاستولى على ذلك جميعه وأصاب إليسع رمد شديد بخوارزم فأقلقه فحمله الضجر وعدم السعادة إلى أن قلع عينه الرمدة بيده وكان ذلك سبب هلاكه ولم يعد لآل إلياس بكرمان دولة وكان الذي أصابه لشؤم عصيان والده وثمرة عقوقه‏.‏

ذكر قتل أبي فراس بن حمدان

في هذه السنة في ربيع الآخر قتل أبو فراس بن أبي العلاء سعيد بن حمدان‏.‏

وسبب ذلك أنه كان مقيمًا بحمص فجرى بينه وبين أي المعالي بن سيف الدولة بن حمدان وحشة فطلبه أبو المعالي فانحاز أبو فراس إلى صدد وهي قرية في طرف البرية عند حمص فجمع أبو المعالي الأعراب من بني كلاب وغيرهم وسيرهم في طلبه مع قرعويه فأدركه بصدد فكبسوه فاستأمن أصحابه واختلط هو بمن استأمن منهم فقال قرعويه لغلام له‏:‏ اقتله فقتله وأخذ رأسه وتركت جثته في البرية حتى دفنها بعض الأعراب‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة منتصف شعبان مات المتقي لله إبراهيم بن المقتدر في داره ودفن فيها‏.‏

وفيها في ذي القعدة وصلت سرية كثيرة من الروم إلى إنطاكية فقتلوا في سوادها وغنموا وسبقوا اثني عشر ألفًا من المسلمين‏.‏

وفيها كان بين هبة الرفعاي وبني أسد بن وزير الغبري حرب فاستمدت أسد خزر اليشكري الذي مع عمران بن شاهين صاحب البطائح وأوقع بهبة وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة وهزمه واستولى على جنبلا وقسين من أرض العراق فسار سبكتكين العجمي إلى خزر وضيق عليه فمضى إلى البصرة واستأمن إلى الوزير أبي الفضل‏.‏

وفيها عمل أهل بغداد يوم عاشوراء وغدير خم كما جرت به عادتهم من إظهار الحزن يوم عاشوراء والسرور يوم الغدير وتوفي علي بن بندار ابن الحسين أبو الحسن الصوفي المعروف بالصيرفي النيسابوري‏.‏  ‏ ‏ ‏