المجلد السابع - ذكر ابتداء دولة آل سبكتكين

في هذه السنة ملك سبكتكين مدينة غزنة وأعمالها وكان ابتداء أمره أنه كان من غلمان أبي إسحاق بن البتكين صاحب جيش غزنة للسامانية وكان مقدمًا عنده وعليه مدار أمره وقدم إلى بخارى أيام الأمير منصور بن نوح مع أبي إسحاق فعرفه أرباب تلك الدولة بالعقل والعفة وجودة الرأي والصرامة وعاد معه إلى غزنة فلم يلبث أبو إسحاق أن توفي ولم يخلف من أهله وأقاربه من يصلح للتقدم فاجتمع عسكره ونظروا فيمن يلي أمرهم ويجمع كلمتهم فاختلفوا ثم اتفقوا على سبكتكين لما عرفوه من عقله ودينه ومروءته وكمال خلال الخير فيه فقدموه عليهم وولوه أمرهم وحلفوا له وأطاعوه فوليهم وأحسن السيرة فيهم وساس أمورهم سياسةً حسنةً وجعل نفسه كأحدهم في الحال والمال وكان يذخر من إقطاعه ما يعمل منه طعامًا لهم في كل أسبوع مرتين‏.‏

ثم إنه جمع العساكر وسار نحو الهند مجاهدًا وجرى بينه وبين الهنود حروب يشيب لها الوليد وكشف بلادهم وشن الغارات عليها وطمع فيها وخافه الهنود ففتح من بلادهم حصونًا ومعاقل وقتل منهم ما لا يدخل تحت الإحصاء‏.‏

واتفق له في بعض غزواته أن الهنود اجتمعوا في خلق كثير وطاولوه الأيام وماطلوه القتال فعدم الزاد عند المسلمين وعجزوا عن الامتيار فشكوا إليه ما هم فيه فقال لهم‏:‏ إني استصحبت لنفسي شيئًا من السويق استظهارًا وأنا أقسمه بينكم قسمة عادلة على السواء إلى أن يمن الله بالفرج فكان يعطي كل إنسان منهم ملء قدح معه ويأخذ لنفسه مثل أحدهم فيجتزئ به يومًا وليلة وهم مع ذلك يقاتلون الكفار فرزقهم الله النصر عليهم والظفر بهم فقتلوا منهم وأسروا

ذكر ولاية سبكتكين على قصدار وبست

ثم إن سبكتكين عظم شأنه وارتفع قدره وحسن بين الناس وذكره وتعلقت الأطماع بالاستعانة به فأتاه بعض الأمراء الكبار وهو صاحب بست واسمه طغان مستعينًا به مستنصرًا‏.‏

وسبب ذلك أنه خرج عليه أمير يعرف ببابي تور فملك مدينة بست عليه وأجلاه عنها بعد حرب شديدة فقصد سبكتكين مستنصرًا به وضمن له مالًا مقررًا وطاعة يبذلها له فتجهز وسار معه حتى نزل على بست وخرج إليه بابي تور فقاتله قتالًا شديدًا ثم انهزم بابي تور وتفرق هو وأصحابه وتسلم طغان البلد‏.‏

فلما استقر فيه طالبه بكتكين بما استقر عليه من المال فأخذ في المطل فأغلظ له في القول لكثرة مطله فحمل طغان جهله على أن سل السيف فضرب يد سبكتكين فجرحها فأخذ سبكتكين السيف وضربه أيضًا فجرحه وحجز العسكر بينهما وقامت الحرب على ساق فانهزم طغان واستولى سبكتكين على بست‏.‏

ثم إنه سار إلى قصدار وكان متوليها قد عصى عليه لصعوبة مسالكها وحصانتها وظن أن ذلك يمنعه فسار إليه جريدة مجدًا فلم يشعر إلا والخيل معه فأخذ من داره ثم إنه من عليه ورده إلى ولايته وقرر عليه مالًا يحمله إليه كل سنة‏.‏

ذكر مسير الهند إلى بلاد الإسلام

وما كان منهم مع سبكتكين لما فرغ سبكتكين من بست وقصدار غزا الهند فافتتح قلاعًا حصينة على شواهق الجبال وعاد سالمًا ظافرًا‏.‏

ولما رأى جيبال ملك الهند ما دهاه وأن بلاده تملك من أطرافها أخذه ما قدم وحدث فحشد وجمع واستكثر من الفيول وسار حتى اتصل بولاية سبكتكين وقد باض الشيطان في رأسه وفرخ فسار سبكتكين عن غزنة إليه ومعه عساكره وخلق كثير من المتطوعة فالتقوا واقتتلوا أيامًا كثيرة وصبر الفريقان‏.‏

وكان بالقرب منهم عقبة غورك وفيها عين ماء لا تقبل نجسًا ولا قذرًا وإذا لقي فيه شيء من ذلك اكفهرت السماء وهبت الرياح وكثر الرعد والبرق والأمطار ولا تزال كذلك إلى أن تطهر من الذي ألقي فيها فأمر سبكتكين بإلقاء نجاسة في تلك العين فجاء الغيم والرعد والبرق وقامت القيامة على الهنود لأنهم رأوا ما لم يروا مثله وتوالت عليهم الصواعق والأمطار واشتد البرد حتى هلكوا وعميت عليهم المذاهب واستسلموا لشدة ما عاينوه‏.‏

وأرسل ملك الهند إلى سبكتكين يطلب الصلح وترددت الرسل فأجابهم إليه بعد امتناع من ولده محمود على مال يؤديه وبلاد يسلمها وخمسين فيلًا يحملها إليه فاستقر ذلك ورهن عنده جماعة من أهله على تسليم البلاد وسير معه سبكتكين من يتسلمها فإن المال والفيلة كانت معجلة فلما أبعد جيبال ملك الهند قبض على من معه من المسلمين وجعلهم عنده عوضًا عن رهائنه‏.‏

فلما سمع سبكتكين بذلك جمع العساكر وسار نحو الهند فأخرب كل ما مر عليه من بلادهم وقصد لمغان وهي من أحصن قلاعهم فافتتحها عنوةً وهدم بيوت الأصنام وأقام فيها شعار الإسلام وسار عنها يفتح البلاد ويقتل أهلها فلما بلغ ما أراده عاد إلى غزنة‏.‏

فلما بلغ الخبر إلى جيبال سقط في يده وجمع العساكر وسار في مائة ألف مقاتل فلقيه سبكتكين وأمر أصحابه أن يتناوبوا القتال مع الهنود ففعلوا ذلك فضجر الهنود من دوام القتال معهم وحملوا حملة واحدة فعند ذلك اشتد الأمر وعظم الخطب وحمل أيضًا المسلمون جميعهم واختلط بعضهم ببعض فانهزم الهنود وأخذهم السيف من كل جانب وأسر منهم ما وذل الهنود بعد هذه الوقعة ولم يكن لهم بعدها راية ورضوا بأن لا يطلبوا في أقاصي بلادهم ولما قوي سبكتكين بعد هذه الوقعة أطاعه الأفغانية والخلج وصاروا في طاعته‏.‏

ذكر ملك قابوس بن وشمكير جرجان

في هذه السنة توفي ظهير الدولة بيستون بن وشمكير بجرجان وكان قابوس أخوه زائرًا خاله رستم بجبل شهريار وخلف بيستون ابنًا صغيرًا بطبرستان مع جده لأمه فطمع جده أن يأخذ الملك فبادر إلى جرجان فرأى بها جماعة من القواد قد مالوا إلى قابوس فقبض عليهم وبلغ الخبر إلى قابوس فسار إلى جرجان فلما قاربها خرج الجيش إليه وأجمعوا عليه وملكوه وهرب من كان مع ابن بيستون فأخذه عمه قابوس وكفله وجعله أسوة أولاده واستولى على جرجان وطبرستان‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في جمادى الأولى نقلت ابنة عز الدولة بختيار إلى الطائع لله وكان تزوجها‏.‏

وفيها توفي أبو الحسن محمد بن عبدالله بن زكرياء بن حيويه في رجب‏.‏

في صفر منها توفي أبو الحسن علي بن وصيف الناشئ المعروف بالخلال صاحب المراثي الكثيرة وفيها توفي أبو يعقوب بن الحسن الجنابي صاحب هجر وكان مولده سنة ثمانين ومائتين وتولى أمر القرامطة بعده ستة نفر شركة وسموا السادة وكانوا متفقين‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وستين وثلاثمائة

ذكر استيلاء عضد الدولة على العراق

في هذه السنة سار عضد الدولة إلى بغداد وأرسل إلى بختيار يدعوه إلى طاعته وأن يسير عن العراق إلى أي جهة أراد وضمن مساعدته بما يحتاج إليه من مال وسلاح وغير ذلك‏.‏

فاختلف أصحاب بختيار عليه في الإجابة إلى ذلك إلا أنه أجاب إليه لضعف نفسه فأنفذ له عضد الدولة خلعة فلبسها وأرسل إليه يطلب منه ابن بقية فقلع عينيه وأنفذه إليه‏.‏

وتجهز بختيار بما أنفذه إليه عضد الدولة وخرج عن بغداد عازمًا على قصد الشام وسار عضد الدولة فدخل بغداد وخطب له بها ولم يكن قبل ذلك يخطب لأحد ببغداد وضرب على بابه ثلاث نوب ولم تجر بذلك عادة من تقدمه وأمر بأن يلقى ابن بقية بين قوائم الفيلة لتقتله ففعل به ذلك وخبطته الفيلة حتى قتلته وصلب على رأس الجسر في شوال من هذه السنة فرثاه أبو الحسين الأنباري بأبيات حسنة في معناها وهي‏:‏ كأنّ الناس حولك حين قاموا وفود نداك أيّام الصّلات كأنّك قائمٌ فيهم خطيبًا وكلّهم قيامٌ للصّلاة مددت يديك نحوهم اقتفاءً كمدّهما إليهم في الهبات ولّما ضاق بطن الأرض عن أن يضمّ علاك من بعد الممات أصاروا الجوّ قبرك واستنابوا عن الأكفان ثوب السافيات لعظمك في النفوس تبيت ترعى بحرّاسٍ وحفّاظٍ ثقات وتشعل عندك النيران ليلًا كذلك كنت أيّام الحياة ولم أر قبل جذعك قطّ جذعًا تمكّن من عناق المكرمات ركبت مطّيةً من قبل زيدٌ علاها في السّنين الذّاهبات وهي كثيرة قوله زيد علاها يعني زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم لما قتل وصلب أيام هشام بن عبد الملك وقد

ذكر وبقي ابن بقية مصلوبًا إلى أيام صمصام الدولة فأنزل من جذعه ودفن‏.‏

ذكر قتل بختيار

لما سار بختيار عن بغداد عزم على قصد الشام ومعه حمدان بن ناصر الدولة ابن حمدان فلما صار بختيار بعكبرا حسن له حمدان قصد الموصل وكثرة أموالها وأطمعه فيها وقال إنها خير من الشام وأسهل‏.‏

فسار بختيار نحو الموصل وكان عضد الدولة قد حلفه أنه لا يقصد ولاية أبي تغلب بن حمدان لمودة ومكاتبة كانت بينهما فنكث وقصدها فلما صار إلى تكريت أتته رسل أبي تغلب تسأله أن يقبض على أخيه حمدان ويسلمه إيه وإذا فعل سار بنفسه وعساكره إليه وقاتل معه عضد الدولة وأعاده إلى ملكه بغداد فقبض بختيار على حمدان وسلمه إلى نواب أبي تغلب فحبسه في قلعة له وسار بختيار إلى الحديثة واجتمع مع أبي تغلب وسارا جميعًا نحو العراق وكان مع أبي تغلب نحو من عشرين ألف مقاتل‏.‏

وبلغ ذلك عضد الدولة فسار عن بغداد نحوهما فالقوا بقصر الجص بنواحي تكريت ثامن عشر شوال فهزمهما وأسر بختيار وأحضر عند عضد الدولة فلم يأذن بإدخاله إليه وأمر بقتله فقتل وذلك بمشورة أبي الوفاء طاهر بن إبراهيم وقتل من أصحابه خلق كثير واستقر ملك عضد الدولة بعد ذلك وكان عمر بختيار ستًا وثلاثين سنة وملك إحدى عشرة سنة وشهورًا‏.‏

لما انهزم أبو تغلب وبختيار سار عضد الدولة نحو الموصل فملكها ثاني عشر ذي القعدة وما يتصل بها وظن أبو تغلب أنه يفعل كما كان غيره يفعل يقيم يسيرًا ثم يضطر إلى المصالحة ويعود‏.‏

وكان عضد الدولة أحزم من ذلك فإنه لما قصد الموصل حمل معه الميرة والعلوفات ومن يعرف ولاية الموصل وأعمالها وأقام بالموصل مطمئنًا وبث السرايا في طلب أبي تغلب فأرسل أبو تغلب يطلب أن يضمن البلاد فلم يجبه عضد الدولة إلى ذلك وقال‏:‏ هذه البلاد أحب إلي من العراق‏.‏

وكان مع أبي تغلب المرزبان بن بختيار وأبو إسحاق وأبو طاهر ابنا معز الدولة ووالدتهما وهي أم بختيار وأسبابهم فسار أبو تغلب إلى نصيبين فسير عضد الدولة سرية عليها حاجبه أبو حرب طغان إلى جزيرة ابن عمر وسير في طلب أبي تغلب سرية واستعمل عليها أبا الوفاء طاهر ابن محمد على طريق سنجار فسار أبو تغلب مجدًا فبلغ ميافارقين وأقام بها ومعه أهله فلما بلغه مسير أبي الوفاء إليه سار نحو بدليس ومعه النساء وغيرهم من أهله ووصل أبو الوفاء إلى ميافارقين فأغلقت دونه وهي حصينة منيعة من حصون الروم القديمة وتركها وطلب أبا تغلب‏.‏

وكان أبو تغلب قد عدل من أرزن الروم إلى الحسنية من أعمال الجزيرة وصعد إلى قلعة كواشى وغيرها من قلاعه وأخذ ما له فيها من الأموال وعاد أبو الوفاء إلى ميافارقين وحصرها‏.‏

ولما اتصل بعضد الدولة مجيء أبي تغلب إلى قلاعه سار إليه بنفسه فلم يدركه ولكنه استأمن إليه أكثر أصحابه وعاد إلى الموصل وسير في أثر أبي تغلب عسكرًا مع قائد من أصحابه يقال له طغان فتعسف أبو تغلب إلى بدليس وظن أنه لا يتبعه أحدٌ فتبعه طغان فهرب من بدليس وقصد بلاد الروم ليتصل بملكهم المعروف بورد الرومي وليس من بيت الملك وإنما تملك عليهم قهرًا واختلف الروم عليه ونصبوا غيره من أولاد ملوكهم فطالت الحرب بينهم فصاهر ورد هذا أبا تغلب ليتقوى به فقدر أن أبا تغلب احتاج إلى الاعتضاد به‏.‏

ولما سار أبو تغلب من بدليس أدركه عسكر عضد الدولة وهم حريصون على أخذ ما معه من المال فإنهم كانوا قد سمعوا بكثرته فلما وقعوا عليه نادى أميرهم‏:‏ لا تتعرضوا لهذا المال فهو لعضد الدولة ففتروا عن القتال‏.‏

فلما رآهم أبو تغلب فاترين حمل عليهم فانهزموا فقتل منهم مقتلة عظيمة ونجا منهم فنزل بحصن زياد ويعرف الآن بخرتبرت وأرسل ورد المذكور فعرفه ما هو بصدده من اجتماع الروم عليه واستمده وقال‏:‏ إذا فرغت عدت إليك‏.‏

فسير إليه أبو تغلب طائفة من عسكره فاتفق أن وردًا انهزم فلما علم أبو تغلب بذلك يئس من نصره وعاد إلى بلاد الإسلام فنزل بآمد وأقام بها شهرين إلى أن فتحت ميافارقين‏.‏

ذكر عدة حوادث

فيها ظهر بإفريقية في السماء حمرة بين المشرق والشمال مثل لهب النار فخرج الناس يدعون الله تعالى ويتضرعون إليه وكان بالمهدية زلازل وأهوال أقامت أربعين يومًا حتى فارق أهلها منازلهم وأسلموا أمتعتهم‏.‏

وفيها سير العزيز بالله العلوي صاحب مصر وإفريقية أميرًا على الموسم ليحج بالناس وكانت الخطبة له بمكة وكان الأمير على الموسم باديس بن زيري أخا يوسف بلكين خليفته بإفريقية فلما وصل إلى مكة أتاه اللصوص بها فقالوا له‏:‏ نتقبل منك الموسم بخمسين ألف درهم ولا تتعرض لنا فقال لهم أفعل ذلك اجمعوا إلي أصحابكم حتى يكون العقد مع جميعكم فاجتمعوا فكانوا نيفًا وثلاثين رجلًا فقال‏:‏ هل بقي منك أحد فحلفوا أنه لم يبق منهم أحد فقطع أيديهم كلهم‏.‏

وفيها زادت دجلة زيادة عظيمة وغرقت كثيرًا من الجانب الشرقي ببغداد وغرقت أيضًا مقابر بباب التبن بالجانب الغربي منها وبلغت السفينة أجرة وافرة وأشرف الناس على الهلاك ثم نقص الماء فأمنوا‏.‏

وفيها توفي القاضي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن قريعة وله نوادر مجموعة وعمره خمس وستون سنة‏.‏

وفيها خلع على القاضي عبد الجبار بن أحمد بالري وولي القضاء بها وبما تحت حكم مؤيد الدولة من البلاد وهو من أئمة المعتزلة ويرد في تراجم تصانيفه قاضي القضاة ويعني به قاضي قضاة أعمال الري وبعض من لا يعلم ذلك يظنه قاضي القضاة مطلقًا وليس كذلك‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وستين وثلاثمائة

ذكر فتح ميافارقين وآمد وغيرهما ‏

من ديار بكر على يد عضد الدولة لما عاد أبو الوفاء من طلب أبي تغلب نازل ميافارقين وكان الوالي عليها هزارمرد فضبط البلد وبالغ في قتال أبي الوفاء ثلاثة أشهر ثم مات هزارمرد فكوتب أبو تغلب بذلك فأمر أن يقام مقامه غلام من الحمدانية اسمه مؤنس فولي البلد ولم يكن لأبي الوفاء فيه حيلة فعدل عنه وراسل رجلًا من أعيان البلد اسمه أحمد بن عبيد الله واستماله فأجابه وشرع في استمالة الرعية إلى أبي الوفاء فأجابوه إلى ذلك وعظم أمره وأرسل إلى مؤنس يطلب منه المفاتيح فلم يمكنه منعه لكثرة أتباعه فأنفذها إليه وسأله أن يطلب له الأمان فأرسل أحمد بن عبيدالله إلى أبي الوفاء في ذلك فأمنه وأمن سائر أهل البلد ففتح له البلد وسلمه إليه‏.وكان أبو الوفاء مدة مقامه على ميافارقين قد بث سراياه في تلك الحصون المجاورة لها فافتتحها جميعها فلما سمع أبو تغلب بذلك سار عن آمد نحو الرحبة هو وأخته جميلة وأمر بعض أهله بالاستئمان إلى أبي الوفاء ففعلوا ثم إن أبا الوفاء سار إلى آمد فحصرها فلما رأى أهلها ذلك سلكوا مسلك أهل ميافارقين فسلموا البلد بالأمان فاستولى أبو الوفاء على سائر ديار بكر وقصده أصحاب أبي تغلب وأهله مستأمنين إليه فأمنهم وأحسن إليهم وعاد إلى الموصل‏.‏

وأما أبو تغلب فإنه لما قصد الرحبة أنفذ رسولًا إلى عضد الدولة يستعطفه ويسأله الصفح فأحسن جواب الرسل وبذل له إقطاعًا يرضيه على أن يطأ بساطه فلم يجبه أبو تغلب إلى ذلك وسار إلى الشام إلى العزيز بالله صاحب مصر‏.‏

كان متولي ديار مضر لأبي تغلب بن حمدان سلامة البرقعيدي فأنفذ إليه سعد الدولة بن سيف الدولة من حلب جيشًا فجرت بينهم حروب وكان سعد الدولة قد كاتب عضد الدولة وعرض نفسه عليه فأنفذ عضد الدولة النقيب أبا أحمد والد الرضي إلى البلاد التي بيد سلامة فتسلمها بعد حرب شديدة ودخل أهلها في الطاعة فأخذ عضد الدولة لنفسه الرقة حسب ورد باقيها إلى سعد الدولة فصارت له‏.‏

ثم استولى عضد الدولة على الرحبة وتفرغ بعد ذلك لفتح قلاعه وحصونه وهي قلعة كواشى وكانت فيها خزائنه وأمواله وقلعة هرور والملاسي وبرقى والشعباني وغيرها من الحصون فلما استولى على جميع أعمال أبي تغلب استخلف أبا الوفاء على الموصل وعاد إلى بغداد في سلخ ذي القعدة ولقيه الطائع لله وجمع من الجند وغيرهم‏.‏

ذكر ولاية قسام دمشق

لما فارق الفتكين دمشق كما ذكرناه تقدم على أهلها قسام وكان سبب تقدم قسام أن الفتكين قربه ووثق إليه وعول في كثير من أموره عليه فعلا ذكره وصيته وكثر أتباعه من الأحداث فاستولى على البلد وحكم فيه‏.‏

وكان القائد أبو محمود قد عاد إلى البلد واليًا عليه للعزيز فلم يتم له مع قسام أمر وكان لا حكم له ولم يزل أمر قسام على دمشق نافذًا وهو يدعو للعزيز بالله العلوي‏.‏

ووصل إليه أبو تغلب بن حمدان صاحب الموصل منهزمًا كما ذكرناه فمنعه قسام من دخول دمشق وخافه على البلد أن يتولاه إما غلبةً وإما بأمر العزيز فاستوحش أبو تغلب وجرى بين أصحابه وأصحاب أبي تغلب شيء من قتال فرحل أبو تغلب إلى طبرية‏.‏

وورد من عند العزيز قائد اسمه الفضل في جيش فحصر قسامًا بدمشق فلم يظفر به فعاد عنه وبقي قسام كذلك إلى سنة تسع وستين وثلاثمائة فسير من مصر أميرًا إلى دمشق اسمه سلمان بن جعفر بن فلاح فوصل إليها فنزل بظاهرها ولم يتمكن من دخولها وأقام في غير شيء فنهى الناس عن حمل السلاح فلم يسمعوا منه ووضع قسام أصحابه على سلمان فقاتلوه وأخرجوه من الموضع الذي كان فيه‏.‏

وكان قسام بالجامع والناس عنده فكتب محضرًا وسيره إلى العزيز يذكر أنه كان بالجامع عند هذه الفتنة ولم يشهدها وبذل من نفسه أنه إن قصده عضد الدولة بن بويه أو عسكر له قاتله ومنعه من البلد فأغضى العزيز لقسام على هذه الحال لأنه كان يخاف أن يقصد عضد الدولة الشام فلما فارق سلمان دمشق عاد إليها القائد أبو محمود ولا حكم له والحكم جميعه لقسام فدام ذلك‏.‏

في هذه السنة كانت زلازل شديدة كثيرة وكان أشدها بالعراق‏.‏

وفيها توفي القاضي أبو سعيد الحسن بن عبدالله السيرافي النحوي مصنف شرح كتاب سيبويه وكان فقيهًا فاضلًا مهندسًا منطيقيًا فيه كل فضيلة وعمره أربع وثمانون سنة وولي بعده أبو محمد بن معروف الحاكم بالجانب الشرقي ببغداد‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وستين وثلاثمائة

ذكر قتل أبي تغلب بن حمدان

في هذه السنة في صفر قتل أبو تغلب فضل الله بن ناصر الدولة بن حمدان‏.‏

وكان سبب قتله أنه سار إلى الشام على ما تقدم ذكره ووصل إلى دمشق وبها قسام قد تغلب عليها كما ذكرناه فلم يمكن أبا تغلب من دخولها فنزل بظاهر البلد وأرسل رسولًا إلى العزيز بمصر يستنجده ليفتح له دمشق فوقع بين أصحابه وأصحاب قسام فتنة فرحل إلى نوى وهي من أعمال دمشق فأتاه كتاب رسوله من مصر يذكر أن العزيز يريد أن يحضر هو عنده بمصر ليسير معه العساكر فامتنع وترددت الرسل ورحل إلى بحيرة طبرية وسير العزيز عسكرًا إلى دمشق مع قائد اسمه الفضل فاجتمع بأبي تغلب عند طبرية ووعده عن العزيز بكل ما أحب وأراد أبو تغلب المسير معه إلى دمشق فمنعه بسبب الفتنة التي جرت بين أصحابه وأصحاب قسام لئلا يستوحش قسام وأراد أخذ البلد منه سلمًا ورحل الفضل إلى دمشق فلم يفتحها‏.‏

وكان بال رملة دغفل بن المفرج بن الجراح الطائي قد استولى على هذه الناحية وأظهر طاعة العزيز من غير أن يتصرف بأحكامه وكثر جمعه وسار إلى أحياء عقيل المقيمة بالشام ليخرجها من الشام فاجتمعت عقيل إلى أبي تغلب وسألته نصرتها وكتب إليه دغفل يسأله أن لا يفعل فتوسط أبو تغلب الحال فرضوا بما يحكم به العزيز‏.‏

ورحل أبو تغلب فنزل في جوار عقيل فخافه دغفل والفضل صاحب العزيز وظنا أنه يريد أخذ تلك الأعمال‏.‏

ثم إن أبا تغلب سار إلى الرملة في المحرم سنة تسع وستين فلم يشك ابن الجراح والفضل أنه يريد حربهما وكانا بالرملة فجمع الفضل العساكر من السواحل وكذلك جمع دغفل من أمنه جمعه وتصاف الناس للحرب فلما رأت عقيل كثرة الجمع انهزمت ولم يبق مع أبي تغلب إلا نحو سبعمائة رجل من غلمانه وغلمان أبيه فانهزم ولحقه الطلب فوقف يحمي نفسه وأصحابه فضرب على رأسه فسقط وأخذ أسيرًا وحمل إلى دغفل فأسره وكتفه‏.‏

وأراد الفضل أخذه وحمله إلى العزيز بمصر فخاف دغفل أن يصطنعه العزيز كما فعل بالفتكين ويجعله عنده فقتله فلامه الفضل على قتله وأخذ رأسه وحمله إلى مصر وكان مع أخته جميلة بنت ناصر الدولة وزوجته وهي بنت عمه سيف الدولة فلما قتل حملهما بنو عقيل إلى حلب إلى سعد الدولة بن سيف الدولة فأخذ أخته وسير جميلة إلى الموصل فسلمت إلى أبي الوفاء نائب عضد الدولة فأرسلها إلى بغداد فاعتقلت في حجرة في دار عضد الدولة‏.‏

ذكر محاربة الحسن بن عمران بن شاهين مع جيوش عضد الدولة

في هذه السنة توفي عمران بن شاهين فجأةً في المحرم وكانت ولايته بعد أن طلبه الملوك والخلفاء وبذلوا الجهد في أخذه وأعملوا الحيل أربعين سنة فلم يقدرهم الله عليه ومات حتف أنفه‏.‏

فلما مات ولي مكانه ابنه الحسن فتجدد لعضد الدولة طمع في أعمال البطيحة فجهز العساكر مع وزيره المطهر بن عبدالله فأمدهم بالأموال والسلاح والآلات وسار المطهر في صفر فلما وصل شرع في سد أفواه الأنهار الداخلة في البطائح فضاع فيها الزمان والأموال وجاءت المدود وبثق الحسن بن عمران بعض تلك السدود فأعانه الماء فقلعها‏.‏

وكان المطهر إذا سد جانبًا انفتحت عدة جوانب ثم جرت بينه وبين الحسن وقعة في الماء فاستظهر عليه الحسن وكان المطهر سريعًا قد ألف المناجزة ولم يألف المصابرة فشق ذلك عليه‏.‏

وكان معه في عسكره أبو الحسن محمد بن عمر العلوي الكوفي فاتهمه بمراسلة الحسن وإطلاعه على أسراره وخاف المطهر أن تنقص منزلته عند عضد الدولة ويشمت به أعداؤه كأبي الوفاء وغيره فعزم على قتل نفسه فأخذ سكينًا وقطع شرايين ذراعه فخرج الدم منه فدخل فراش له فرأى الدم فصاح فدخل الناس فرأوه وظنوا أن أحدًا فعل به ذلك فتكلم وكان بآخر رمق وقال‏:‏ إن محمد بن عمر أحوجني إلى هذا ثم مات وحمل إلى بلده كازرون فدفن فيها‏.‏

وأرسل عضد الدولة من حفظ العسكر وصالح الحسن بن عمران على مال يؤديه وأخذ رهائنه وانفرد نصر بن هارون بوزارة عضد الدولة وكان مقيمًا بفارس فاستخلف له عضد الدولة بحضرته أبا الريان حمد بن محمد‏.‏

ذكر الحرب بين بني شيبان وعسكر عضد الدولة

في هذه السنة في رجب سير عضد الدولة جيشًا إلى بني شيبان وكانوا قد أكثروا الغارات على البلاد والفساد وعجز الملوك عن طلبهم وكانوا قد عقدوا بينهم وبين أكراد شهرزور مصاهرات وكانت شهرزور ممتنعة على الملوك فأمر عضد الدولة عسكره بمنازلة شهرزور لينقطع طمع بني شيبان عن التحصن بها فاستولى أصحابه عليها وملكوها فهرب بنو شيبان وسار العسكر في طلبهم وأوقعوا بهم وقعة عظيمة قتل من بني شيبان فيها خلق كثير ونهبت أموالهم ونساؤهم وأسر منهم ثمانمائة أسير وحملوا إلى بغداد‏.‏

ذكر وصول ورد الرومي إلى ديار بكر وما كان منه

في هذه السنة وصل ورد الرومي إلى ديار بكر مستجيرًا بعضد الدولة وأرسل إليه يستنصره على ملوك الروم ويبذل له الطاعة إذا ملك وحمل الخراج‏.‏

وكان سبب قدومه أن أرمانوس ملك الروم لما توفي خلف ولدين له صغيرين فملكا بعده وكان نقفور وهو حينئذ الدمستق قد خرج إلى بلاد الإسلام فنكى فيها وعاد فلما قارب القسطنطينية بلغه موت أرمانوس فاجتمع إليه الجند وقالوا له‏:‏ إنه لا يصلح للنيابة عن الملكين غيرك فإنهما صغيران فامتنع فألحوا عليه فأجابهم وخدم الملكين وتزوج بوالدتهما ولبس التاج‏.‏

ثم إنه جفا والدتهما فراسلت ابن الشمشقيق في قتل نقفور وإقامته مقامه فأجابها إلى ذلك وسار إليها سرًا هو وعشرة رجال فاغتالوا الدمستق فقتلوه واستولى ابن الشمشقيق على الأمر وقبض على لاون أخي الدمستق وعلى ورديس ابن لاون واعتقله في بعض القلاع وسار إلى أعمال الشام فأوغل فيها ونال من المسلمين ما أراد وبلغ إلى طرابلس فامتنع عليه أهلها فحصرهم‏.‏

وكان لوالدة الملكين أخ خصي وهو حينئذ الوزير فوضع على ابن الشمشقيق من سقاه سمًا فلما أحس به أسرع العود إلى القسطنطينية فمات في طريقه‏.‏

وكان ورد بن منير من أكابر أصحاب الجيوش وعظماء البطارقة فطمع في الأمر وكاتب أبا تغلب بن حمدان وصاهره واستجاش بالمسلمين من الثغور فاجتمعوا عليه فقصد الروم فأخرج إليه الملكان جيشًا بعد جيش وهو يهزمهم فقوي جنانه وعظم شأنه وقصد القسطنطينية فخافه الملكان فأطلقا ورديس بن لاون وقدماه على الجيوش وسيراه لقتال ورد فاقتتلوا قتالًا شديدًا وطال الأمر بينهما ثم انهزم ورد إلى بلاد الإسلام فقصد ديار بكر ونزل بظاهر ميافارقين وراسل عضد الدولة وأنفذ إليه أخاه يبذل الطاعة والاستنصار به فأجابه إلى ذلك ووعده به‏.‏

ثم إن ملكي الروم راسلا عضد الدولة واستمالاه فقوي في نفسه ترجيح جانب الملكين وعاد عن نصرة ورد وكاتب أبا علي التميمي وهو حينئذ ينوب عنه بديار بكر بالقبض على ورد وأصحابه فشرع يدبر الحيلة عليه واجتمع إلى ورد أصحابه وقالوا له‏:‏ إن ملوك الروم قد كاتبوا عضد الدولة وراسلوه في أمرنا ولا شك أنهم يرغبونه في المال وغيره فيسلمنا إليهم والرأي أن نرجع إلى بلاد الروم على صلح إن أمكننا أو على حرب نبذل فيها أنفسنا فإما ظفرنا أو متنا كرامًا‏.‏

فقال‏:‏ ما هذا رأي ولا رأينا من عضد الدولة إلا الجميل ولا يجوز أن ننصرف عنه قبل أن نعلم ما عنده ففارقه كثير من أصحابه فطمع فيه أبو علي التميمي وراسله في الاجتماع فأجابه إلى ذلك فلما اجتمع به قبض عليه وعلى ولده وأخيه وجماعة من أصحابه واعتقلهم بميافارقين ثم حملهم إلى بغداد فبقوا في الحبس إلى أن فرج الله عنهم على ما نذكره وكان قبضه سنة سبعين وثلاثمائة‏.‏

ذكر عمارة عضد الدولة بغداد

في هذه السنة شرع عضد الدولة في عمارة بغداد وكانت قد خربت بتوالي الفتن فيها وعمر مساجدها وأسواقها وأدر الأموال على الأئمة والمؤذنين والعلماء والقراء والغرباء والضعفاء الذين يأوون إلى المساجد وألزم أصحاب الأملاك الخراب بعمارتها وجدد ما دثر من الأنهار وأعاد حفرها وتسويتها وأطلق مكوس الحجاج وأصلح الطريق من العراق إلى مكة شرفها الله تعالى وأطلق الصلات لأهل البيوتات والشرف والضعفاء المجاورين بمكة والمدينة وفعل مثل ذلك بمشهدي على والحسين عليهما السلام وسكن الناس من الفتن وأجرى الجرايات على الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمفسرين والنحاة والشعراء والنسابين والأطباء والحساب والمهندسين وأذن لوزيره نصر بن هارون وكان نصرانيًا في عمارة البيع والديرة وإطلاق الأموال لفقرائهم‏.‏

ذكر وفاة حسنويه الكردي

في هذه السنة توفي حسنويه بن الحسين الكردي البرزيكاني بسرماج وكان أميرًا على جيش من البرزيكان يسمون البرزينية وكان خالاه ونداد وغانم ابنا أحمد أميرين على صنف آخر منهم يسمون العيشانية وغلبا على أطراف نواحي الدينور وهمذان ونهاوند والصامغان وبعض أطراف أذربيجان إلى حد شهرزور نحو خمسين سنة‏.‏

وكان يقود كل واحد منهما عدة ألوف فتوفي غانم سنة خمسين وثلاثمائة فكان ابنه أبو سالم ديسم بن غانم مكانه بقلعته قسان إلى أن أزاله أبو الفتح بن العميد واستصفى قلاعه المسماة قسنان وغانم آباذ وغيرهما‏.‏

وتوفي ونداد بن أحمد سنة تسع وأربعين فقام مقام ابنه أبو الغنائم عبد الوهاب إلى أن أسره الشاذنخان وسلموه إلى حسنويه فأخذ قلاعه وأملاكه‏.‏

وكان حسنويه مجدودًا حسن السياسة والسيرة ضابطًا لأمره ومنع أصحابه من التلصص وبنى قلعة سرماج بالصخور المهندمة وبنى بالدينور جامعًا على هذا البناء وكان كثير الصدقة بالحرمين إلى أن مات في هذه السنة وافترق أولاده من بعده فبعضهم انحاز إلى فخر الدولة وبعضهم إلى عضد الدولة وهم أبو العلاء وعبد الرزاق وأبو النجم بدرٌ وعاصم وأبو عدنان وبختيار وعبد الملك‏.‏

وكان بختيار بقلعة سرماج ومعه الأموال والذخائر فكاتب عضد الدولة ورغب في طاعته ثم تلون عنه وتغير فسير عضد الدولة إليه جيشًا فحصره وأخذ قلعته وكذلك قلاع غيره من إخوته واصطنع من بينهم أبا النجم بدر ابن حسنويه وقواه بالرجال فضبط تلك النواحي وكف عادية من بها من الأكراد واستقام أمره وكان عاقلًا‏.‏

في هذه السنة سار عضد الدولة إلى بلاد الجل فاحتوى عليها‏.‏

وكان سبب ذلك أن بختيار بن معز الدولة كان يكاتب ابن عمه فخر الدولة بعد موت ركن الدولة ويدعوه إلى الاتفاق معه على عضد الدولة فأجابه إلى ذلك واتفقا‏.‏

وعلم عضد الدولة به فكتم ذلك إلى الآن فلما فرغ من أعدائه كأبي تغلب وبختيار وغيرهما ومات حسنويه بن الحسين ظن عضد الدولة أن الأمر يصلح بينه وبين أخويه فراسل أخويه فخر الدولة ومؤيد الدولة وقابوس بن وشمكير‏.‏

فأما رسالته إلى أخيه مؤيد الدولة فيشكره على طاعته وموافقته فإنه كان مطيعًا له غير مخالف‏.‏

وأما إلى فخر الدولة فيعاتبه ويستميله ويذكر له ما يلزمه به الحجة‏.‏

وأما إلى قابوس فيشير عليه بحفظ العهود التي بينهما‏.‏

فأجاب فخر الدولة جواب المناظر المناوئ ونسي كبر السن وسعة الملك وعهد أبيه‏.‏

وأما قابوس فأجاب جواب المراقب‏.‏

وكان الرسول خواشاده وهو من أكابر أصحابه فاستمال أصحاب فخر الدولة فضمن لهم الإقطاعات وأخذ عليهم العهود فلما عاد الرسول برز عضد الدولة من بغداد على عزم المسير إلى الجبل وإصلاح تلك الأعمال وابتدأ فقدم العساكر بين يديه يتلو بعضها بعضًا منهم أبو الوفاء على عسكر وخواشاده على عسكر وأبو الفتح المظفر بن محمد في عسكر فسارت هذه العساكر وأقام هو بظاهر بغداد‏.‏

ثم سار عضد الدولة فلقيته البشائر بدخول جيوشه همذان واستئمان العدد الكثير من قواد فخر الدولة ورجال حسنويه ووصل إليه أبو الحسن عبيدالله بن محمد بن حمدويه وزير فخر الدولة ومعه جماهير أصحابه فانحل أمر فخر الدولة وكان بهمذان فخاف من أخيه وتذكر قتل ابن عمه بختيار فخرج هاربًا وقصد بلد الديلم ثم خرج منها إلى جرجان فنزل على شمس المعالي قابوس بن وشمكير والتجأ إليه فأمنه وآواه وحمل إليه فوق ما حدث به نفسه وشركه فيما تحت يده من ملك وغيره‏.‏

وملك عضد الدولة ما كان بيد فخر الدولة همذان والري وما بينهما من البلاد وسلمها إلى أخيه مؤيد الدولة بن بويه وجعله خليفته ونائبه في تلك البلاد ونزل الري واستولى على تلك النواحي‏.‏

ثم عرج عضد الدولة إلى ولاية حسنويه الكردي فقصد نهاوند وكذلك الدينور وقلعة سرماج وأخذ ما فيها من ذخائر حسنويه وكانت جليلة المقدار وملك معها عدة من قلاع حسنويه ولحقه في هذه السفرة صرع وكان هذا قد أخذه بالموصل وحدث به فيها فكتمه وصار كثير النسيان لا يذكر الشيء إلا بعد جهدٍ وكتم ذلك أيضًا وهذا دأب الدنيا لا تصفو لأحد‏.‏

وأتاه أولاد حسنويه فقبض على عبد الرزاق وأبي العلاء وأبي عدنان وأحسن إلى بدر بن حسنويه وخلع عليه وولاه رعاية الأكراد هذا آخر ما في تجارب الأمم تأليف أبي علي بن مسكويه‏.‏

ذكر ملك عضد الدولة بلد الهكارية

في هذه السنة سير عضد الدولة جيشًا إلى الأكراد الهكارية من أعمال الموصل فأوقع بهم وحصر قلاعهم وطال مقام الجند في حصرها‏.‏

وكان من بالحصون من الأكراد ينتظرون نزول الثلج لترحل العساكر عنهم فقدر الله تعالى أن الثلج تأخر نزوله في تلك السنة فأرسلوا يطلبون الأمان فأجيبوا إلى ذلك وسلموا قلاعهم ونزلوا مع العسكر إلى الموصل فلم يفارقوا أعمالهم غير يوم واحد حتى نزل الثلج‏.‏

ثم إن مقدم الجيش غدر بهم وصلبهم على جانبي الطريق من معلثايا إلى الموصل نحو خمسة فراسخ وكف الله شرهم عن الناس‏.‏

في هذه السنة ورد رسول العزيز بالله صاحب مصر إلى عضد الدولة برسائل أداها‏.‏

وفيها قبض عضد الدولة على محمد بن عمر العلوي وأنفذه إلى فارس وكان سبب قبضه ما تكلم به المطهر في حقه عند موته وأرسل إلى الكوفة فقبض أمواله فوجد له من المال والسلاح والذخائر ما لا يحصى واصطنع عضد الدولة أخاه أبا الفتح أحمد وولاه الحج بالناس‏.‏

وفيها تجددت وصلة بين الطائع لله وبين عضد الدولة فتزوج الطائع ابنته وكان غرض عضد الدولة أن تلد ابنته ولدًا ذكرًا فيجعله ولي عهده فتكون الخلافة في ولد لهم فيه نسب وكان الصداق مائة ألف دينار‏.‏

وفيها كانت فتنة عظيمة ين عامة شيراز من المسلمين وبين المجوس نهبت فيها دور المجوس وضربوا وقتل منهم جماعة فسمع عضد الدولة الخبر فسير إليهم من جمع كل من له أثر في ذلك وضربهم وبالغ في تأديبهم وزجرهم‏.‏

وفيها أرسل سرية إلى عين التمر وبها ضبة بن محمد الأسدي وكان يسلك سبيل اللصوص وقطاع الطريق فلم يشعر إلا والعساكر معه فترك أهله وماله ونجا بنفسه فريدًا وأخذ ماله وأهله وملكت عين التمر وكان قبل ذلك قد نهب مشهد الحين صلوات الله عليه فعوقب بهذا‏.‏

وفيها قبض عضد الدولة على النقيب أبي أحمد الحسين الموسوي والد الشريف الرضي وعلى أخيه أبي عبدالله وعلى قاضي القضاة أبي محمد وسيرهم إلى فارس واستعمل على قضاء القضاة أبا سعد بشر بن الحسين وهو شيخ كبير وكان مقيمًا بفارس واستناب على القضاء ببغداد‏.‏

وفيها توفي أبو عبدالله أحمد بن عطاء بن أحمد بن محمد بن عطاء الروذباري الصوفي بنواحي عكا وكان قد انتقل من بغداد إلى الشام‏.‏

وفيها في ذي الحجة توفي محمد بن عيسى بن عمرويه أبو أحمد الجلودي الزاهد راوي صحيح مسلم عن ابن سفيان ودفن بالحيرة في نيسابور وله ثمانون سنة‏.‏

الجلودي بفتح الجيم وقيل بضمها وهو قليل والحيرة بكسر الحاء المهملة وبالراء المهملة وهي محلة بنيسابور‏.‏

وفيها توفي أبو الحسين أحمد بن زكرياء بن فارس اللغوي صاحب كتاب المجمل وغيره‏.‏

وله شعر فمن ذلك قوله قبل وفاته بيومين‏:‏ يا ربّ إنّ ذنوبي قد أحطت بها علمًا وبي وبإعلاني وإسراري أنا الموحّد لكنّي المقرّ بها فهب ذنوبي لتوحيدي وإقراري وفي شوال توفي أبو الحسن ثابت بن إبراهيم الحراني المتطبب الصابي ومولده بالرقة سنة ثلاث وثمانين ومائتين وكان عارفًا حاذقًا في الطب‏.‏

ثم دخلت سنة سبعين وثلاثمائة

ذكر إقطاع مؤيد الدولة همذان

في هذه السنة أرسل الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد إلى عضد الدولة بهمذان رسولًا من عند أخيه مؤيد الدولة يبذل له الطاعة والموافقة فالتقاه عضد الدولة بنفسه وأكرمه وأقطع أخاه مؤيد الدولة همذان وغيرها وأقام عند عضد الدولة إلى أن عاد إلى بغداد فرده إلى مؤيد الدولة فأقطعه إقطاعًا كثيرًا وسير معه عسكرًا يكون عند مؤيد الدولة في خدمته‏.‏

ذكر قتل أولاد حسنويه سوى بدر

لما خلع عضد الدولة على بدر وأخويه عاصم وعبد الملك وفضل بدرًا عليهما وولاه الأكراد حسده أخواه فشقا العصا وخرجا عن الطاعة واستمال عاصم جماعة الأكراد المخالفين فاجتمعوا عليه فسير إليه عضد الدولة عسكرًا فأوقعوا بعاصم ومن معه فانهزموا وأسر عاصم وأدخل همذان على جمل ولم يعرف له خبر بعد ذلك اليوم وقتل أولاد حسنويه إلا بدرًا فإنه ترك على حاله وأقر على عمله وكان عاقلًا لبيبًا حازمًا كريمًا حليمًا وسيرد من أخباره ما يعلم به ذلك إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر ملك عضد الدولة قلعة سندة

وفيها استولى عضد الدولة على قلاع أبي عبدالله المري بنواحي الجبل وكان منزله بسندة وله فيها مساكن نفيسة وكان قديم البيت فقبض عليه وعلى أولاده واعتقلهم فبقوا كذلك إلى أن أطلقهم الصاحب بن عباد فيما بعد واستخدم ابنه أبا طاهر واستكتبه وكان حسن الخط واللفظ‏.‏

ذكر الحرب بين عسكر العزيز وابن جراح وعزل قسام عن دمشق

في هذه السنة سيرت العساكر من مصر لقتال المفرج بن جراح‏.‏

وسبب ذلك أن ابن جراح عظم شأنه بأرض فلسطين وكثر جمعه وقويت شوكته وبالغ هو في العيث والفساد وتخريب البلاد فجهز العزيز بالله العساكر وسيرها وجعل عليها القائد يلتكين التركي فسار إلى الرملة واجتمع إليه من العرب من قيس وغيرها جمع كثير وكان مع ابن جراح جمع يرمون بالنشاب ويقاتلون قتال الترك فالتقوا ونشبت الحرب بينهما وجعل يلتكين

كمينًا فخرج على عسكر ابن جراح من وراء ظهورهم عند اشتداد الحرب فانهزموا وأخذتهم سيوف المصريين ومضى ابن جراح منهزمًا إلى إنطاكية فاستجار بصاحبها فأجاره وصادف خروج ملك الروم من القسطنطينية في عساكر عظيمة يريد بلاد الإسلام فخاف ابن جراح وكاتب بكجور بحمص والتجأ إليه‏.‏

وأما عسكر مصر فإنهم نازلوا دمشق مخادعين لقسام لم يظهروا له إلا أنهم جاؤوا لإصلاح البلد وكف الأيدي المتطرقة إلى الأذى وكان القائد أبو محمود قد مات سنة سبعين وهو والي البلد ولا حكم له وإنما الحكم لقسام فلما مات قام بعده في الولاية جيش بن الصمصامة وهو ابن أخت أبي محمود فخرج إلى يلتكين وهو يظن أنه يريد إصلاح البلد فأمره أن يخرج هو ومن معه وينزلوا بظاهر البلد ففعلوا‏.‏

وحذر قسام وأمر من معه بمباشرة الحرب فقاتلوا دفعات عدة فقوي عسكر يلتكين ودخلوا أطراف البلد وملكوا الشاغور وأحرقوا ونهبوا فاجتمع مشايخ البلد عند قسام وكلموه في أن يخرجوا إلى يلتكين ويأخذوا أمانًا لهم وله فانخذل وذل وخضع بعد تجبره وتكبره وقال‏:‏ افعلوا ما شئتم‏.‏

وعاد أصحاب قسام إليه فوجدوه خائفًا ملقيًا بيده فأخذ كل لنفسه‏.‏

وخرج شيوخ البلد إلى يلتكين فطلبوا منه الأمان لهم ولقسام فأجابهم إليه وقال‏:‏ أريد أن أتسلم البلد اليوم فقالوا‏:‏ وكان مبدأ هذه الحرب والحصر في المحرم سنة سبعين لعشر بقين منه والدخول إلى البلد لثلاث بقين منه ولم يعرض لقسام ولا لأحد من أصحابه وأقام قسام في البلد يومين ثم استتر فأخذ كل ما في داره وما حولها من دور أصحابه وغيرهم ثم خرج إلى الخيام فقصد حاجب يلتكين وعرفه نفسه فأخذه وحمله إلى يلتكين فحمله يلتكين إلى مصر فأطلقه العزيز واستراح الناس من تحكمه عليهم وتغلبه بمن تبعه من الأحداث من أهل العيث والفساد‏.‏

ذكر عدة حوادث

وفيها توفي علي بن محمد الأحدب المزور وكان يكتب على خط كل واحد فلا يشك المكتوب عنه أنه خطه وكان عضد الدولة إذا أراد الإيقاع بين الملوك أمره أن يكتب على خط بعضهم إليه في الموافقة على من يريد إفساد الحال بينهما ثم يتوصل ليصل المكتوب إليه فيفسد الحال‏.‏

وكان هذا الأحدب ربما ختمت يده لهذا السبب‏.‏

وفيها زادت الفرات زيادة عظيمة جاوزت المألوف وغرق كثير من الغلات وتمردت الصراة وخربت قناطرها العتيقة والجديدة وأشفى أهل الجانب الغربي من بغداد على الغرق وبقيت الزيادة بها وبدجلة ثلاثة أشهر ثم نقصت‏.‏

وفيها ورد على عضد الدولة هدية من صاحب اليمن فيها قطعة واحدة من عنبر وزنها ستة وخمسون رطلًا وحج بالناس أبو الفتح أحمد بن عمر بن يحيى العلوي وخطب بمكة والمدينة للعزيز بالله صاحب مصر العلوي‏.‏

وفيها توفي أبو بكر أحمد بن علي الرازي إمام الفقهاء الحنفية في زمانه وطلب ليلي قضاء القضاة فامتنع وهو من أصحاب الكرخي‏.‏

وفيها توفي الزبير بن عبد الواحد بن موسى أبو يعلى البغدادي سمع البغوي وابن صاعد وسافر إلى أصبهان وخراسان وأذربيجان وغيرها وسمع فيها الكثير وتوفي بالموصل هذه السنة ومحمد بن جعفر بن الحسين بن محمد أبو بكر المفيد المعروف بغندر توفي بمفازة بخارى وأبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس وأبو محمد علي بن الحسن الأصبهاني والحسن ابن بشر الآمدي‏.‏

وفيها توفي القائد أبو محمود إبراهيم بن جعفر والي دمشق للعزيزي وقام بعده جيش بن الصمصامة‏.‏

ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة

في هذه السنة عزل أبو الحسن محمد بن إبراهيم بن سيمجور عن قيادة جيوش خراسان واستعمل عوضه حسام الدولة أبو العباس تاش‏.‏

وكان سبب ذلك أن الأمير نوح بن منصور لما ملك خراسان وما وراء النهر وهو صبي استوزر أبا الحسين العتبي فقام في حفظ الدولة القيام المرضي وكان محمد بن سيمجور قد استوطن خراسان وطالت أيامه فيها فلا يطيع إلا فيما يريد فعزله أبو الحسين العتبي عنها واستعمل مكانه حسام الدولة أبا العباس تاش وسيره من بخارى إلى نيسابور

في هذه السنة فاستقر بها ودبر خراسان ونظر في أمورها وأطاعه جندها‏.‏

ذكر استيلاء عضد الدولة على جرجان

في هذه السنة في جمادى الآخرة استولى عضد الدولة على بلاد جرجان وطبرستان وأجلى عنها صاحبها قابوس بن وشمكير‏.‏

وسبب ذلك أن عضد الدولة لما استولى على بلاد أخيه فخر الدولة انهزم فخر الدولة فلحق بقابوس كما ذكرناه وبلغ ذلك عضد الدولة فأرسل إلى قابوس يبذل له الرغائب من البلاد والأموال والعهود وغير ذلك ليسلم إليه أخاه فخر الدولة فامتنع قابوس من ذلك ولم يجب إليه‏.‏

فجهز عضد الدولة أخاه مؤيد الدولة وسيره ومعه العساكر والأموال والعدد إلى جرجان‏.‏

وبلغ الخبر قابوسًا فسار إليه فلقيه بنواحي أستراباذ فاقتتلوا من بكرة إلى الظهر فانهزم قابوس وأصحابه في جمادى الأولى وقصد قابوس بعض قلاعه التي فيها ذخائره وأمواله فأخذ ما أراد وسار نحو نيسابور فلما وردها لحق به فخر الدولة وانضم إليهما من تفرق من أصحابهما‏.‏

وكان وصولهما إليها‏.‏

عند ولاية حسام الدولة أبي العباس تاش خراسان فكتب حسام الدولة إلى الأمير أبي القاسم نوح بن منصور يعرفه خبر وصولهما وكتبا أيضًا إلى نوح يعرفانه حالهما ويستنصرانه على مؤيد الدولة‏.‏

فوردت كتب نوح على حسام الدولة يأمره بإجلال محلهما وإكرامهما وجمع العساكر والمسير معهما وإعادتهما إلى ملكهما وكتب وزيره أبو الحسين بذلك أيضًا‏.‏

ذكر مسير حسام الدولة وقابوس إلى جرجان

فلما وردت الكتب من الأمير نوح على حسام الدولة بالمسير بعساكر خراسان جميعها مع فخر الدولة وقابوس جمع العساكر وحشد فاجتمع بنيسابور عساكر سدت الفضاء وساروا نحو جرجان فنازلوها وحصروها وبها مؤيد الدولة ومعه من عساكره وعساكر أخيه عضد الدولة جمع كثير إلا أنهم لا يقاربون عساكر خراسان فحصرهم حسام الدولة شهرين يغاديهم القتال ويراوحهم وضاقت الميرة على أهل جرجان حتى كانوا يأكلون نخالة الشعير معجونة بالطين فلما اشتد عليهم الأمر خرجوا من جرجان في شهر رمضان على عزم صدق القتال إما لهم وإما عليهم‏.‏

فلما رآهم أهل خراسان ظنوها كما تقدم من الدفعات يكون قتال ثم تحاجز فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا فرأوا الأمر خلاف ما ظنوه‏.‏

وكان مؤيد الدولة قد كاتب بعض قواد خراسان يسمى فائق الخاصة وأطعمه ورغبه فأجابه إلى الأنهزام عند اللقاء وسيرد من أخبار فائق هذا ما يعرف به محله من الدولة‏.‏

فلما خرج مؤيد الدولة هذا اليوم حمل عسكره على فائق وأصحابه فانهزم هو ومن معه وتبعه الناس وثبت فخر الدولة وحسام الدولة في القلب واشتد القتال إلى آخر النهار فلما رأوا تلاحق الناس في الهزيمة لحقوا بهم وغنم أصحاب مؤيد الدولة منهم ما لا يعلمه إلا الله تعالى وأخذوا من الأقوات شيئًا كثيرًا‏.‏

وعاد حسام الدولة وفخر الدولة وقابوس إلى نيسابور وكتبوا إلى بخارى بالخبر فأتاهم الجواب يمنيهم ويعدهم بانفاذ العساكر والعود إلى جرجان والري وأمر الأمير نوح سائر العساكر بالمسير إلى نيسابور فأتوها من كل حدبٍ ينسلون فاجتمع بظاهر نيسابور من العساكر أكثر من المرة الأولى وحسام الدولة ينتظر تلاحق الأمداد ليسير بهم فأتاهم الخبر بقتل الوزير أبي الحسين العتبي فتفرق ذلك الجمع وبطل ذلك التدبير‏.‏

وكان سبب قتله أن أبا الحسن بن سيمجور وضع جماعة من المماليك على قتله فوثبوا به فقتلوه فلما قتل كتب الرضي نوح بن منصور إلى حسام الدولة يستدعيه إلى بخارى ليدبر دولته ويجمع ما انتشر منها بقتل أبي الحسين فسار عن نيسابور إليها وقتل من ظفر به من قتلة أبي الحسين وكان قتله سنة اثنتين وسبعين‏.‏

ذكر قتل الأمير أبي القاسم أمير صقلية وهزيمة الفرنج

في هذه السنة في ذي القعدة سار الأمير أبو القاسم أمير صقلية من المدينة يريد الجهاد‏.‏

وسبب ذلك أن ملكًا من ملوك الفرنج يقال له بردويل خرج في جموع كثيرة من الفرنج إلى صقلية فحصر قلعة ملطة وملكها وأصاب سريتين للمسلمين فسار الأمير أبو القاسم بعساكره ليرحله عن القلعة فلما قاربها خاف وجبن فجمع وجوه أصحابه وقال لهم‏:‏ إني راجع من مكاني هذا فلا تكسروا علي رأيي‏.‏ فرجع هو وعساكره‏.‏

وكان أسطول الكفار يساير المسلمين في البحر فلما رأوا المسلمين راجعين أرسلوا إلى بردويل ملك الروم يعلمونه ويقولون له‏:‏ إن المسلمين خائفون منك فالحق بهم فإنك تظفر‏.‏

فجرد الفرنجي عسكره من أثقالهم وسار جريدة وجد في السير فأدركهم في العشرين من المحرم سنة اثنتين وسبعين فتعبأ المسلمون للقتال واقتتلوا واشتدت الحرب بينهم فحملت طائفة من الفرنج على القلب والأعلام فشقوا العسكر ووصلوا إليها وقد تفرق كثير من المسلمين عن أميرهم واختل نظامهم فوصل الفرنج إليه فأصابته ضربة على أم رأسه فقتل وقتل معه جماعة من أعيان الناس وشجعانهم‏.‏

ثم إن المنهزمين من المسلمين رجعوا مصممين على القتال ليظفروا أو يموتوا واشتد حينئذ الأمر وعظم الخطب على الطائفتين فانهزم الفرنج أقبح هزيمة وقتل منهم نحو أربعة آلاف قتيل وأسر من بطارقتهم كثير وتبعوهم إلى أن أدركهم الليل وغنموا من أموالهم كثيرًا‏.‏

وأفلت ملك الفرنج هاربًا ومعه رجل يهوديٌ كان خصيصًا به فوقف فرس الملك فقال له إليهودي‏:‏ اركب فرسي فإن قتلت فأنت لولدي فركبه الملك وقتل إليهودي فنجا الملك إلى خيامه وبها زوجته وأصحابه فأخذهم وعاد إلى رومية‏.‏

ولما قتل الأمير أبو القاسم كان معه ابنه جابر فقام مقام أبيه ورحل بالمسلمين لوقتهم ولم يمكنهم من إتمام الغنيمة فتركوا كثيرًا منها وسأله أصحابه ليقيم إلى أن يجمع السلاح وغيره ويعمر به الخزائن فلم يفعل‏.‏

وكانت ولاية أبي القاسم على صقلية اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام وكان عادلًا حسن السيرة كثير الشفقة على رعيته والإحسان إليهم عظيم الصدقة ولم يخلف دينارًا ولا درهمًا ولا عقارًا فإنه كان قد وقف جميع أملاكه على الفقراء وأبواب البر‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة وقع حريق بالكرخ ببغداد فاحترق فيها مواضع كثيرة هلك فيها خلق كثير من الناس وبقي الحريق أسبوعًا‏.‏

وفيها قبض عضد الدولة على القاضي أبي علي المحسن بن علي التنوخي وألزمه منزله وعزله عن أعماله التي كان يتولاها وكان حنفي المذهب شديد التعصب على الشافعي يطلق لسانه فيه قاتله الله‏!‏ وفيها أفرج عضد الدولة عن أبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الكاتب وكان القبض عليه سنة سبع وستين‏.‏

وكان سبب قبضه أنه كان يكتب عن بختيار كتبًا في معنى الخلف الواقع بينه وبين عضد الدولة فكان ينصح صاحبه فمما كتبه عن الخليفة الطائع إلى عضد الدولة في المعنى وقد لقب عز الدولة بشاهنشاه فتزحزح له عن سنن المساواة فنقم عليه عضد الدولة ذلك وهذا من أعجب الأشياء فإنه كان ينبغي أن يعظم في عينه لنصحه لصاحبه فلما أطلقه أمره بعمل كتاب يتضمن أخبارهم ومحاسنها فعمل التاجي في دولة الديلم‏.‏

وفيها أرسل عضد الدولة القاضي أبا بكر محمد بن الطيب الأشعري المعروف بابن الباقلاني إلى ملك الروم في جواب رسالة وردت منه فلما وصل إلى الملك قيل له ليقبل الأرض بين يديه فلم يفعل فقيل‏:‏ لا سبيل إلى الدخول إلا مع تقبيل الأرض فأصر على الامتناع فعمل الملك بابًا صغيرًا يدخل منه القاضي منحنيًا ليرهم الحاضرين أنه قبل الأرض فلما رأى القاضي الباب علم ذلك فاستدبره ودخل منه فلما جازه استقبل الملك وهو قائم فعظم عندهم محله‏.‏

وفيها فتح المارستان العضدي غربي بغداد ونقل إليه جميع ما يحتاج إليه من الأدوية‏.‏

و في هذه السنة توفي الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الاسماعيلي الجرجاني الفقيه الشافعي وكان عالمًا بالحديث وغيره من العلوم والإمام محمد بن أحمد بن عبدالله بن محمد أبو زيد المروزي الفقيه الشافعي الزاهد يروي صحيح البخاري عن الفربري وتوفي في رجب وأبو

عبدالله محمد بن خفيف الشرازي شيخ الصوفية في وقته صحب الجريري وابن عطاء وغيرهما‏.‏

وفيها توفي أبو الحسن علي بن إبراهيم الصوفي المعروف بالحصري‏.‏  ‏  ‏ ‏ ‏