المجلد السابع - ذكر ولاية بكجور دمشق

ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة

قد ذكرنا سنة ست وستين ولاية بكجور حمص لأبي المعالي ابن سيف الدولة بن حمدان فلما وليها عمرها وكان بلد دمشق قد خربه العرب وأهل العيث والفساد مدة تحكم قسام عليها وانتقل أهله إلى أعمال حمص فعمرت وكثر أهلها والغلات فيها ووقع الغلاء والقحط بدمشق فحمل بكجور الأقوات من حمص إليها وتردد الناس في حمل الغلات وحفظ الطرق وحماها‏.‏

وكاتب العزيز بالله بمصر وتقرب إليه فوعده ولاية دمشق فبقي كذلك إلى هذه السنة‏.‏

ووقعت وحشة بين سعد الدولة أبي المعالي بن سيف الدولة وبين بكجور فأرسل سعد الدولة يأمره بأن يفارق بلده فأرسل بكجور إلى العزيز بالله يطلب نجاز ما وعده من إمارة دمشق‏.‏

وكان الوزير ابن كلس يمنع العزيز من ولايته إلى هذه الغاية‏.‏

وكان القائد يلتكين قد ولي دمشق بعد قسام كما ذكرناه فهو مقيم بها‏.‏

فاجتمع المغاربة بمصر على الوثوب بالوزير ابن كلس وقتله فدعته الضرورة إلى أن يستحضر يلتكين من دمشق فأمره العزيز بإحضاره وتسليم دمشق إلى بكجور‏.‏

فقال‏:‏ إن بكجور إن وليها عصى فيها‏.‏

فلم يصغ إلى قوله وأرسل إلى يلتكين يأمره بقصد مصر وتسليم دمشق إلى بكجور ففعل ذلك ودخلها في رجب من هذه السنة واليًا عليها فأساء السيرة إلى أصحاب الوزير ابن كلس والمتعلقين به حتى إنه صلب بعضهم وفعل مثل ذلك في أهل البلد وظلم الناس وكان لا يخلوا من أخذ مالٍ وقتلٍ وصلبٍ وعقوبة فبقي كذلك إلى سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة وسنذكر هناك عزله إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر وفاة عضد الدولة

في هذه السنة في شوال اشتدت علة عضد الدولة وهو ما كان يعتاده من الصرع فضعفت قوته عن دفعه فخنقه فمات منه ثامن شوال ببغداد وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام فدفن به‏.‏

وكانت ولايته بالعراق خمس سنين ونصفًا‏.‏

ولما توفي جلس ابنه صمصام الدولة أبو كاليجار للعزاء فأتاه الطائع لله معزيًا وكان عمر عضد الدولة سبعًا وأربعين سنة‏.‏

وكان قد سير ولده شرف الدولة أبا الفوارس إلى كرمان مالكًا لها قبل أن يشتد مرضه وقيل إنه لما احتضر لم نطلق لسانه إلا بتلاوة ‏{‏مَا أَغْنْى عَنِّي مَاليه هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وكان عاقلًا فاضلًا حسن السياسة كثير الإصابة شديد الهيبة بعيد الهمة ثاقب الرأي محبًا للفضائل وأهلها باذلًا في مواضع العطاء مانعًا في أماكن الحزن ناظرًا في عواقب الأمور‏.‏

قيل‏:‏ لما مات عضد الدولة بلغ خبره بعض العلماء وعنده جماعة من أعيان الفضلاء فتذاكروا الكلمات التي قالها الحماء عند موت الإسكندر وقد ذكرتها في أخباره فقال بعضهم‏:‏ لو قلتم أنتم مثلها لكان ذلك يؤثر عنكم‏.‏

فقال أحدهم‏:‏ لقد وزن هذا الشخص الدنيا بغير مثقالها وأعطاها فوق قيمتها وطلب الربح فيها فخسر روحه فيها‏.‏

وقال الثاني‏:‏ من استيقظ للدنيا فهذا نومه ومن حلم فيها فهذا انتباهه‏.‏

وقال الثالث‏:‏ ما رأيت عاقلًا في عقله ولا غافلًا في غفلته مثله لقد كان ينقض جانبًا وهو يظن أنه مبرم ويغرم وهو يظن أنه غانم‏.‏

وقال الرابع‏:‏ من جد للدنيا هزلت به ومن هزل راغبًا عنها جدت له‏.‏

وقال الخامس‏:‏ ترك هذا الدنيا شاغرة ورحل عنها بلا زاد ولا راحلة‏.‏

وقال السابع‏:‏ إنما سلبك من قدر عليك‏.‏

وقال الثامن‏:‏ أما إنه لو كان معتبرًا في حياته لما صار عبرةً في مماته‏.‏

وقال التاسع‏:‏ الصاعد في درجات الدنيا إلى استفال والنازل في درجاتها إلى تعال‏.‏

وقال العاشر‏:‏ كيف غفلت عن كيد هذا الأمر حتى نفذ فيك وهلا اتخذت دونه جنةً تقيك إن في ذلك لعبرة للمعتبرين وإنك لآية للمستبصرين‏.‏

وبنى على مدينة النبي صلى الله علية وسلم سورًا‏.‏

وله شعر حسن فمن شعره لما أرسل إليه أبو تغلب بن حمدان يعتذر من مساعدته بختيار ويطلب الأمان فقال عضد الدولة‏:‏ أأفاق حين وطئت ضيق خناقه يبغي الأمان وكان يبغي صارما فلأركبنّ عزيمةً عضديّةً تاجيّة تدع الأنوف رواغما وقال أبياتًا منها بيت لم يفلح بعده وهي هذه‏:‏ ليس شرب الكأس إلاّ في المطر وغناءٍ من جوارٍ في السّحر غانياتٍ سالباتٍ للنّهى ناغماتٍ في تضاعيف الوتر مبرزات الكاس من مطلعها ساقيات الراح من فاق البشر عضد الدولة وابن ركنها ملك الأملاك غلاّب القدر

وحكي عنه أنه كان في قصره جماعة من الغلمان يحمل إليهم مشاهراتهم من الخزانة فأمر أبا نصر خواشاذه أن يتقدم إلى الخازن بأن يسلم جامكية الغلمان إلى نقيبهم في شهر قد بقي منه ثلاثة أيام‏.‏

قال أبو نصر‏:‏ فأنسيت ذلك أربعة أيام فسألني عضد الدولة عن ذلك فقلت‏:‏ أنسيته فأغلظ لي فقلت‏:‏ أمس استهل الشهر والساعة نحمل المال وما ها هنا ما يوجب شغل القلب‏.‏

فقال‏:‏ المصيبة بما لا تعلمه من الغلط أكثر منها في التفريط ألا تعلم أنا إذا أطلقنا لهم مالهم قبل محله كان الفضل لنا عليهم فإذا أخرنا ذلك عنهم حتى استهل الشهر الآخر حضروا عند عارضهم وطالبوه فيعدهم فيحضرونه في اليوم الثاني فيعدهم ثم يحضرونه في اليوم الثالث ويبسطون ألسنتهم فتضيع المنة وتحصل الجرأة ونكون إلى الخسارة أقرب منا إلى الربح‏.‏

وكان لا يعول في الأمور إلا على الكفاة ولا يجعل للشفاعات طريقًا إلى معارضة من ليس من جنس الشافع ولا فيما يتعلق به‏.‏

حكي عنه أنه مقدم جيشه أسفار بن كردويه شفع في بعض أبناء العدول ليتقدم إلى القاضي ليسمع تزكيته ويعدله فقال‏:‏ ليس هذا من أشغالك إنما الذي يتعلق بك الخطاب في زيادة قائد ونقل مرتبة جندي وما يتعلق بهم وأما الشهادة وقبولها فهو إلى القاضي وليس لنا ولا لك وكان يخرج في ابتداء كل سنة شيئًا كثيرًا من الأموال للصدقة والبر في سائر بلاده ويأمر بتسليم ذلك إلى القضاة ووجوه الناس ليصرفوه إلى مستحقيه‏.‏

وكان يوصل إلى العمال المتعطلين ما يقوم بهم ويحاسبهم به إذا عملوا‏.‏

وكان محبًا للعلوم وأهلها مقربًا لهم محسنًا إليهم وكان يجلس معهم يعارضهم في المسائل فقصده العلماء من كل بلد وصنفوا له الكتب منها الإيضاح في النحو والحجة في القراءات والملكي في الطب والتاجي في التاريخ إلى غير ذلك وعمل المصالح في سائر البلاد كالبيمارستانات والقناطر غير ذلك من المصالح العامة إلا أنه أحدث في آخر أيام رسومًا جائرة في المساحة والضرائب على بيع الدواب وغيرها من الأمتعة وزاد على ما تقدم ومنع من عمل الثلج والقز وجعلهما متجرًا للخاص وكان يتوصل إلى أخذ المال بكل طريق‏.‏

ولما توفي عضد الدولة قبض على نائبه أبي الريان من الغد فأخذ من كمه رقعة فيها‏:‏ أيا واثقًا بالدهر عند انصرافه‏!‏ رويدك إنّي بالزمان أخو خبر ويا شامتًا مهلًا فكم ذي شماتةٍ تكون له العقبى بقاصمة الظّهر

ذكر ولاية صمصام الدولة العراق وملك أخيه شرف الدولة بلاد فارس

لما توفي عضد الدولة اجتمع القواد والأمراء على ولده أبي كاليجار المرزبان فبايعوه وولوه الإمارة ولقبوه صمصام الدولة فلما ولي خلع على أخويه أبي الحسين أحمد وأبي طاهر فيروزشاه وأقطعهما فارس وأمرهما بالجد في السير ليسبقا أخاهما شرف الدولة أبا الفوارس شيرزيل إلى شيراز‏.‏

فلما وصلا إلى أرجان أتاهما خبر وصول شرف الدولة إلى شيراز فعادا إلى الأهواز‏.‏

وكان شرف الدولة بكرمان فلما بلغه خبر وفاة أبيه سار مجدًا إلى فارس فملكها وقبض على نصر بن هارون النصراني وزير أبيه وقتله لأنه كان يسيء صحبته أيام أبيه وأصلح أمر البلاد وأطلق الشريف أبا الحسين محمد بن عمر العلوي والنقيب أبا أحمد الموسوي والد الشريف الرضي والقاضي أبا محمد بن معروف وأبا نصر خواشاذه وكان عضد الدولة حبسهم وأظهر مشاقة أخيه صمصام الدولة وقطع خطبته وخطب لنفسه وتلقب بتاج الدولة وفرق الأموال وجمع الرجال وملك البصرة وأقطعها أخاه أبا الحسين فبقي كذلك ثلاث سنين إلى أن قبض عليه شرف الدولة على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

فلما سمع صمصام الدولة بما فعله شرف الدولة سير إليه جيشًا واستعمل عليهم الأمير أبا الحسن بن دبعش حاجب عضد الدولة فجهز تاج الدولة عسكرًا واستعمل عليهم الأمير أبا الأعز دبيس بن عفيف الأسدي فالتقيا بظاهر قرقوب واقتتلوا فانهزم عسكر صمصام الدولة وأسر دبعش فاستولى حينئذ أبو الحسين بن عضد الدولة على الأهواز وأخذ ما فيها وفي رامهرمز وطمع في الملك وكانت الوقعة في ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة‏.‏

ذكر قتل الحسين بن عمران بن شاهين

في هذه السنة قتل الحسين بن عمران بن شاهين صاحب البطيحة قتله أخوه أبو الفرج واستولى على البطيحة‏.‏

وكان سبب قتله أنه حسده على ولايته ومحبة الناس له فاتفق أن أختًا لهما مرضت فقال أبو الفرج لأخيه الحسين‏:‏ إن أختنا مشفية فلو عدتها ففعل وسار إليها ورتب أبو الفرج في الدار نفرًا يساعدونه على قتله فلما دخل الحسين الدار تخلف عنه أصحابه ودخل أبو الفرج معه وبيده سيفه فلما خلا به قتله ووقعت الصيحة فصعد إلى السطح وأعلم العسكر بقتله ووعدهم الإحسان فسكتوا وبذل لهم المال فأقروه في الأمر وكتب إلى بغداد يظهر الطاعة ويطلب تقليده الولاية وكان متهورًا جاهلًا‏.‏

ذكر عود ابن سيمجور إلى خراسان

لما عزل أبو الحسن بن سيمجور عن قيادة جيوش خراسان ووليها أبو العباس سار ابن سيمجور إلى سجستان فأقام بها فلما انهزم أبو العباس عن جرجان على ما ذكرناه ورأى الفتنة قد رفعت رأسها سار عن سجستان نحو خراسان وأقام بقهستان‏.‏

فلما سار أبو العباس إلى بخارى وخلت منه خراسان كاتب ابن سيمجور فائقًا يطلب موافقته على الاستيلاء على خراسان فأجابه إلى ذلك واجتمعا بنيسابور واستوليا على تلك النواحي‏.‏

وبلغ الخبر إلى أبي العباس فسار عن بخارى في جمع كثير إلى مرو وترددت الرسل بينهم فاصطلحوا على أن تكون نيسابور وقيادة لأبي العباس وتكون بلخ لفائق وتكون هراة لأبي علي بن أبي الحسن بن سيمجور وتفرقوا على ذلك وقصد كل واحد منهم ولايته‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة توفي نقيب النقباء أبو تمام الزينبي وولي النقابة بعد ابنه أبو الحسن وتوفي محمد بن جعفر المعروف بزوج الحرة في صفر ببغداد وتوفي في جمادى الأولى منصور بن أحمد بن هارون الزاهد وهو ابن خمس وستين سنة‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة

وعود فخر الدولة إلى مملكته في هذه السنة في شعبان توفي مؤيد الدولة أبو منصور بويه بن ركن الدولة بجرجان وكانت علته الخوانيق وقال له الصاحب بن عباد‏:‏ لو عهدت إلى أحد فقال‏:‏ أنا في شغل عن هذا ولم يعهد بالملك إلى أحد وكان عمره ثلاثًا وأربعين سنة‏.‏

وجلس صمصام الدولة للعزاء ببغداد فأتاه الطائع لله معزيًا فلقيه في طيارة‏.‏

لما مات مؤيد الدولة تشاور أكابر دولته فيمن يقوم مقامه فأشار الصاحب إسماعيل بن عباد بإعادة فخر الدولة إلى مملكته إذ هو كبير البيت ومالك تلك البلاد قبل مؤيد الدولة ولما فيه من آيات الإمارة والملك‏.‏

فكتب إليه واستدعاه وهو بنيسابور وأرسل الصاحب إليه من استخلفه لنفسه وأقام في الوقت خسرو فيروز بن ركن الدولة ليسكن الناس إلى قدوم فخر الدولة‏.‏

فلما وصلت الأخبار إلى فخر الدولة سار إلى جرجان فلقيه العسكر بالطاعة وجلس في دست ملكي في رمضان بغير منةٍ لأحدٍ فسبحان من إذا أراد أمرًا كان‏.‏

ولما عاد إلى مملكته قال له الصاحب‏:‏ يا مولانا قد بلغك الله وبلغني فيك ما أملته ومن حقوق خدمتي لك إجابتي إلى ترك الجندية وملازمة داري والتوفر على أمر الله‏.‏

فقال‏:‏ لا تقل هذا فما أريد الملك إلا لك ولا يستقيم لي أمر إلا بك وإذا كرهت ملابسة الأمور كرهتها أنا أيضًا وانصرفت‏.‏

فقبل الأرض وقال الأمر لك فاستوزره وأكرمه وعظمه وصدر عن رأيه في جليل الأمور وصغيرها‏.‏

وسيرت الخلع من الخليفة إلى فخر الدولة والعهد واتفق فخر الدولة وصمصام الدولة فصار يدًا واحدةً‏.‏

ذكر عزل أبي العباس عن خراسان وولاية ابن سيمجور

لما عاد أبو العباس عن بخارى إلى نيسابور كما ذكرناه استوزر الأمير نوح عبدالله بن عزيز وكان ضدًا لأبي الحسين العتبي وأبي العباس فلما ولي الوزارة بدأ بعزل أبي العباس عن خراسان وإعادة أبي الحسن بن سيمجور إليها فكتب من بخراسان من القواد إليه يسألونه أن يقر أبا العباس على عمله فلم يجبهم إلى ذلك فكتب أبو العباس إلى فخر الدولة بن بويه يستمده فأمده بمال كثير وعسكر فأقاموا بنيسابور وأتاهم أبو محمد عبدالله بن عبد الرزاق وكان أبو العباس حينئذ بمرو فلما سمع أبو الحسن بن سيمجور وفائق بوصول عسكر فخر الدولة إلى نيسابور قصدوهم فانحاز عسكر فخر الدولة عبد الرزاق وأقاموا ينتظرون أبا العباس ونزل ابن سيمجور ومن معه بظاهر نيسابور ووصل أبو العباس فيمن معه واجتمع بعسكر الديلم ونزل بالجانب الآخر وجرى بينهم حروب عدة أيام وتحصن ابن سيمجور بالبلد وأنفذ فخر الدولة إلى أبي العباس عسكرًا آخر أكثر من ألفي فارس فلما رأى ابن سيمجور قوة أبي العباس انحاز عن نيسابور فسار عنها ليلًا وتبعه عسكر أبي العباس فغنموا كثيرًا من أموالهم ودوابهم واستولى أبو العباس على نيسابور وراسل الأمير نوح بن منصور يستميله ويستعطفه ولج ابن عزيز في عزله ووافقه على ذلك والدة الأمير نوح وكانت تحكم في دولة ولدها وكانوا يصدرون عن رأيها فقال بعض أهل العصر في ذلك‏:‏ شيئان يعجز ذو الرّياضة عنهما‏:‏ رأي النّساء وإمرة الصّبيان أمّا النساء فميلهنّ إلى الهوى وأخو الصّبا يجري بغير عنان

ذكر انهزام أبي العباس إلى جرجان ووفاته

لما انهزم ابن سيمجور أقام أبو العباس بنيسابور يستعطف الأمير نوحًا ووزيره ابن عزيز وترك اتباع ابن سيمجور وإخراجه من خراسان فتراجع إلى ابن سيمجور أصحابه المنهزمون وعادت قوته وأتته الأمداد من بخارى وكاتب شرف الدولة أبا الفوارس بن عضد الدولة وهو بفارس يستمده فأمده بألفي فارس مراغمةً لعمه فخر الدولة فلما كثف جمعه قصد أبا العباس فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا إلى آخر النهار فانهزم أبو العباس وأصحابه وأسر منهم جماعة كثيرة‏.‏

وقصد أبو العباس جرجان وبها فخر الدولة فأكرمه وعظمه وترك له جرجان ودهستان وأستراباذ صافية له ولمن معه وسار عنها إلى الري وأرسل إليه من الأموال والآلات ما يجل عن الوصف‏.‏

وأقام أبو العباس بجرجان هو وأصحابه وجمع العساكر وسار نحو خراسان فلم يصل إليها وعاد إلى جرجان وأقام بها ثلاث سنين ثم وقع بها وباء شديد مات فيه كثير من أصحابه ثم مات هو أيضًا وكان موته سنة سبع وسبعين وقيل‏:‏ إنه مات مسمومًا‏.‏

وكان أصحابه قد أساؤوا السيرة مع أهل جرجان فلما مات ثار بهم أهلها ونهبوهم وجرت بينهم وقعة عظيمة أجلت عن هزيمة الجرجانية وقتل منهم خلق كثير وأحرقت دورهم ونهبت أموالهم وطلب مشايخهم الأمان فكفوا عنهم وتفرق أصحابه فسار أكثرهم إلى خراسان واتصلوا بأبي علي بن أبي الحسن بن سيمجور وكان حينئذ صاحب الجيش مكان أبيه وكان والده قد توفي فجأةً وهو يجامع بعض حظاياه فمات على صدرها فلما مات قام بالأمر بعد ابنه أبو علي واجتمع إخوته على طاعته منهم أخوه أبو القاسم وغيره فنازعه فائق الولاية وسنذكر ذلك سنة ثلاث وثمانين عند ملك الترك بخارى إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر قتل أبي الفرج محمد بن عمران وملك أبي المعالي ابن أخيه الحسن

في هذه السنة قتل أبو الفرج محمد بن عمران بن شاهين صاحب البطيحة وولي أبو المعالي ابن أخيه الحسن. وسبب قتله أن أبا الفرج قدم الجماعة الذين ساعدوه على قتل أخيه ووضع من حال مقدمي القواد فجمعهم المظفر بن علي الحاجب وهو أكبر قواد أبيه عمران وأخيه الحسن وحذرهم عاقبة أمرهم فاجتمعوا على قتل أبي الفرج فقتله المظفر وأجلس أبا المعالي مكانه وتولى تدبيره بنفسه وقتل كل من كان يخافه من القواد ولم يترك معه إلا من يثق به وكان أبو المعالي صغيرًا‏.‏ لما طالت أيام علي المظفر بن علي الحاجب وقوي أمره طمع في الاستقلال بأمر البطيحة فوضع كتابًا عن لسان صمصام الدولة إليه يتضمن التعويل عليه في ولاية البطيحة وسلمه إلى ركابي غريب وأمره أن يأتيه إذا كان القواد والأجناد عنده ففعل ذلك وأتاه وعليه أثر الغبار وسلم إليه الكتاب فقبله وفتحه وقرأه بمحضر من الأجناد وأجاب بالسمع والطاعة وعزل أبا المعالي وجعله مع والدته وأجرى عليهما جراية ثم أخرجهما إلى واسط وكان يصلهما بما ينفقانه واستبد بالأمر وأحسن السيرة وعدل في الناس مدةً‏.‏ ثم إنه عهد إلى ابن أخته أبي الحسن علي بن نصر الملقب بمهذب الدولة وكان يلقب حينئذ بالأمير المختار وبعده إلى أبي الحسن علي بن جعفر وهو ابن أخته الأخرى وانقرض بيت عمران بن شاهين وكذلك الدنيا دول وما أشبه حاله بحال باذٍ فإنه ملك وانتقل الملك إلى ابن أخته ممهد الدولة ابن مروان‏.‏

ذكر عصيان محمد بن غانم

وفيها عصى محمد بن غانم البرزيكاني بناحية كوردر من أعمال قم على فخر الدولة وأخذ بعض غلات السلطان وامتنع بحصن الهفتجان وجمع البرزيكاني إلى نفسه فسارت إليه فأرسل فخر الدولة إلى أبي النجم بدر بن حسنويه ينكر ذلك عليه ويأمره بإصلاح الحال معه ففعل وراسله فاصطلحوا أول سنة أربع وسبعين وبقي إلى سنة خمس وسبعين فسار إلى جيش لفخر الدولة فقاتله فأصابته طعنة وأخذ أسيرًا فمات من طعنته‏.‏

ذكر انتقال بعض صنهاجة من إفريقية إلى الأندلس وما فعلوه

في هذه السنة انتقل أولاد زيري بن مناد وهم زاوي وجلالة وماكسن إخوة بلكين إلى الأندلس‏.‏

وسبب ذلك أنهم وقع بينهم وبين أخيهم حماد حروب وقتال على بلاد بينهم فغلبهم حماد فتوجهوا إلى طنجة ومنها إلى قرطبة فأنزلهم محمد بن أبي عامر وسر بهم وأجرى عليهم الوظائف وأكرمهم وسألهم عن سبب انتقالهم فأخبروه وقالوا له‏:‏ إنما اخترناك على غيرك وأحببنا أن نكون معك نجاهد في سبيل الله‏.‏

فاستحسن ذلك منهم ووعدهم ووصلهم فأقاموا أيامًا‏.‏

ثم دخلوا عليه وسألوه إتمام ما وعدهم به من الغزو فقال‏:‏ انظروا ما أردتم من الجند نعطكم فقالوا‏:‏ ما يدخل معنا بلاد العدو غيرنا إلا الذين معنا من بني عمنا وصنهاجة وموالينا فأعطاهم الخيل والسلاح والأموال وبعث معهم دليلًا وكان الطريق ضيقًا فأتوا أرض جليقية فدخلوها ليلًا وكمنوا في بستان بالقرب من المدينة وقتلوا كل من به وقطعوا أشجاره‏.‏

فلما أصبحوا خرج جماعة من البلد فضربوا عليهم وأخذوهم وقتلوهم جميعهم ورجعوا‏.‏

وتسامع العدو فركبوا في أثرهم فلما أحسوا بذلك كمنوا وراء ربوة فلما جاوزهم العدو خرجوا عليهم من وراءهم وضربوا في ساقتهم وكبروا فلما سمع العدو تكبيرهم ظنوا أن العدد كثير فانهزموا وتبعهم صنهاجة فقتلوا خلقًا كثيرًا وغنموا دوابهم وسلاحهم وعادوا إلى قرطبة فعظم ذلك عند ابن أبي عامر ورأى من شجاعتهم ما لم يره من جند الأندلس فأحسن إليهم وجعلهم بطانته‏.‏

ذكر غزو ابن أبي عامر إلى الفرنج بالأندلس

لما رأى أهل الأندلس فعل صنهاجة حسدوهم ورغبوا في الجهاد وقالوا للمنصور بن أبي عامر‏:‏ لقد نشطنا هؤلاء للغزو‏.‏

فجمع الجيوش الكثيرة من سائر الأقطار وخرج إلى الجهاد وكان رأى في منامه تلك الليالي كأن رجلًا أعطاه الأسبراج فأخذه من يده وأكل منه فعبره على ابن أبي جمعة فقال له‏:‏ اخرج إلى بلد إليون فإنك ستفتحها فقال‏:‏ من أين أخذت هذا فخرج إليها ونازلها وهي من أعظم مدائنهم واستمد أهلها الفرنج فأمدوهم بجيوش كثيرة واقتتلوا ليلًا ونهارًا فكثر القتل فيهم وصبرت صنهاجة صبرًا عظيمًا ثم خرج قومص كبير من الفرنج لم يكن لهم مثله فجال بين الصفوف وطلب البراز فبرز إليه جلالة بن زيري الصنهاجي فحمل كل واحد منهما على صاحبه فطعنه الفرنجي فمال عن الطعنة وضربه بالسف على عاتقه فأبان عاتقه فسقط الفرنجي إلى الأرض وحمل المسلمون على النصارى فانهزموا إلى بلادهم وقتل منهم ما لا يحصى وملك المدينة‏.‏

وغنم ابن أبي عامر غنيمة عظيمة لم ير مثلها واجتمع من السبي ثلاثون ألفًا وأمر بالقتلى فنضدت بعضها على بعض وأمر مؤذنًا أذن فوق القتلى المغرب وخرب مدينة قامونة ورجع سالمًا وهو وعساكره‏.‏

ذكر وفاة يوسف بلكين وولاية ابنه المنصور

في هذه السنة لسبع بقين من ذي الحجة توفي يوسف بلكين بن زيري صاحب إفريقية بوارقلين‏.‏

وسبب مضيه إليها أن خزرون الزناتي دخل سجلماسة وطرد عنها نائب يوسف بلكين ونهب ما فيها من الأموال والعدد وتغلب على فارس زيري ابن عطية الزناتي فرحل يوسف إليها فاعتل في الطريق بقولنج وقيل خرج في يده بثرة فمات منها فأوصى بولاية ابنه المنصور وكان المنصور بمدينة أشير فجلس للعزاء بأبيه وأتاه أهل القيروان وسائر البلاد يعزونه بأبيه وينهونه بالولاية فأحسن إلى الناس وقال لهم‏:‏ إن أبي يوسف وجدي زيري كانا يأخذان الناس بالسيف وأنا لا آخذهم إلا بالإحسان ولست ممن يولى بكتاب ويعزل بكتاب يعني أن الخليفة بمصر لا يقدر على عزله بكتاب‏.‏

ثم سار إلى القيروان وسكن برقادة وولي الأعمال واستعمل الأمراء وأرسل هدية عظيمة إلى العزيز بالله بمصر قيل‏:‏ كانت قيمتها ألف ألف دينار ثم عاد إلى أشير واستخلف على جباية الأموال بالقيروان والمهدية وجميع إفريقية إنسانًا يقال له عبدالله بن الكاتب‏.‏

ذكر أمر باذ الكردي بني مروان وملكه الموصل

في هذه السنة قوي أمر باذ الكردي واسمه أبو عبدالله الحسين بن دوستك وهو من الأكراد الحميدية وكان ابتداء أمره أنه كان يغزو بثغور ديار بكر كثيرًا وكان عظيم الخلقة له بأس وشدة فلما ملك عضد الدولة الموصل حضر عنده فلما رأى عضد الدولة خافه وقال‏:‏ ما أظنه يبقي علي فهرب حين خرج من عنده وطلبه عضد الدولة بعد خروجه ليقبض عليه وقال‏:‏ له بأسٌ وشدة وفيه شر ولا يجوز الإبقاء على مثله فأخبر بهربه فكف عن طلبه‏.‏

وحصل بثغور ديار بكر وأقام بها إلى أن استفحل أمره وقوي وملك ميافارقين وكثيرًا من ديار بكر بعد موت عضد الدولة ووصل بعض أصحابه إلى نصيبين فاستولى عليها فجهز صمصام الدولة إليه العساكر مع أبي سعد بهرام بن أردشير فواقعه فانهزم بهرام وأسر جماعة من أصحابه وقوي أمر باذ فأرسل صمصام الدولة إليه أبا القاسم سعد بن محمد الحاجب في عسكر كثير فالتقوا بباجلايا على خابور الحسينية من بلد كواشى واقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم سعد وأصحابه واستولى باذ على كثير من الديلم واقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم سعد وأصحابه واستولى باذ على كثير من الديلم فقتل وأسر ثم قتل الأسرى صبرًا‏.‏

وفي هذه الوقعة يقول أبو الحسين البشنوي‏:‏ بباجلايا جلونا عنه غمّته ونحن في الروع جلاّؤون للكرب يعنى باذًا وسنذكر سببه سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة إن شاء الله تعالى‏.‏

ولما هزم باذ الديلم وسعدًا وفعل بهم ما تقدم ذكره سبقه سعد فدخل الموصل وسار باذ في أثره فثار العامة بسعد لسوء سيرة الديلم فيهم فنجا منهم بنفسه ودخل باذ إلى الموصل واستولى عليها وقويت شوكته وحدث نفسه بالتغلب على بغداد وإزالة الديلم عنها وخرج من حد المتطرفين وصار في عداد أصحاب الأطراف‏.‏

فخافه صمصام الدولة وأهمه أمره وشغله عن غيره وجمع العساكر ليسيرها إليه فانقضت السنة‏.‏

وقد حدثني بعض أصدقائنا من الأكراد الحميدية ممن يعتني بأخبار باذ أن باذًا كنيته أبو شجاع واسمه باذ وأن أبا عبدالله هو الحسين بن دوستك وهو أخو باذ وكان ابتداء أمره أنه كان يرعى الغنم وكان كريمًا جوادًا وكان يذبح الغنم التي له ويطعم الناس فظهر عنه اسم الجود فاجتمع عليه الناس وصار يقطع الطريق وكلما حصل له شيء أخرجه فكثر جمعه وصار يغزو ثم إنه دخل أرمينية فملك مدينة أرجيش وهي أول مدينة ملكها فقوي بها وسار منها إلى ديار بكر فملك مدينة آمد ثم ملك مدينة ميافارقين وغيرها من ديار بكر وسار إلى الموصل فملكها كما

ذكرناه‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة استعمل العزيز بالله الخليفة العلوي على دمشق وأعمالها بكجور التركي مولى قرعويه أحد غلمان سيف الدولة بن حمدان وكان له حمص فسار منها إلى دمشق وظلم

وفيها وزر أبو محمد علي بن العباس بن فسانجس لشرف الدولة‏.‏

وفيها في ربيع الأول انقض كوكب عظيم أضاءت له الدنيا وسمع له مثل دوي الرعد الشديد‏.‏

وفيها غلت الأسعار بالعراق وما يجاوره من البلاد وعدمت الأقوات فمات كثير من الناس جوعًا‏.‏

وفيها وزر أبو عبدالله الحسين بن أحمد بن سعدان لصمصام الدولة‏.‏

وفيها ورد القرامطة إلى قريب بغداد وطمعوا بموت عضد الدولة فصولحوا على مال أخذوه وعادوا‏.‏

وفيها في جمادى الآخرة توفي سعيد بن سلام أبو عثمان المغربي بنيسابور ومولده بالقيروان ودخل الشام فصحب الشيوخ منهم أبو الخير الأقطع وغيره وكان من أرباب الأحوال‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وسبعين وثلاثمائة

ذكر عود الديلم إلى الموصل وانهزام باذ

لما استولى باذ الكردي على الموصل اهتم صمصام الدولة ووزيره ابن سعدان بأمره فوقع الاختيار على إنفاذ زيار بن شهراكويه وهو أكبر قوادهم فأمره بالمسير إلى قتاله وجهزه وبالغ في أمره وأكثر معه الرجال والعدد والأموال وسار إلى باذ فخرج إليهم ولقيهم في صفر من هذه السنة فأجلت الوقعة عن هزيمة باذ وأصحابه وأسر كثير من عسكره وأهله وحملوا إلى بغداد فشهروا بها وملك الديلم الموصل‏.‏

وأرسل زيار عسكرًا مع سعد الحاجب في طلب باذ فسلكوا على جزيرة ابن عمر وأرسل عسكرًا آخر إلى نصيبين فاختلفوا على مقدميهم فلم يطاوعوهم على المسير إليه وكان باذ بديار بكر قد جمع خلقًا كثيرًا فكتب وزير صمصام الدولة إلى سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان وبذل له تسليم ديار بكر إليه فسير إليها جيشًا فلم يكن لهم قوة بأصحاب باذ فعادوا إلى حلب وكانوا قد حصروا ميافارقين فلما شاهد سعد ذلك من عسكره أعمل الحيلة في قتل باذ فوضع رجلًا على ذلك فدخل الرجل خيمة باذ ليلًا وضربه بالسيف وهو يظن أنه يضرب رأسه فوقعت الضربة على ساقه فصاح وهرب ذلك الرجل فمرض باذ من تلك الضربة فأشفى على الموت وكان قد جمع معه من الرجال خلقًا كثيرًا فراسل زيارًا وسعدًا يطلب الصلح فاستقر الحال بينهم واصطلحوا على أن تكون داير بكر لباذ والنصف من طور

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة قلد أبو طريف عليان بن ثمال الخفاجي حماية الكوفة وهي أول إمارة بني ثمال‏.‏

وفيها خطب أبو الحسين بن عضد الدولة بالأهواز لفخر الدولة وخطب له أبو طاهر بن عضد الدولة بالبصرة ونقشا اسمه على السكة‏.‏

وفيها خطب لصمصام الدولة بعمان وكانت لشرف الدولة ونائبه بها أستاذ هرمز فصار مع صمصام الدولة فلما بلغ الخبر إلى شرف الدولة أرسل إليه جيشًا فانهزم أستاذ هرمز وأخذ أسيرًا وعادت عمان إلى شرف الدولة وحبس أستاذ هرمز في بعض القلاع وطولب بمال كثير‏.‏

وفيها توفي علي بن كامة مقدم عسكر ركن الدولة‏.‏

وفيها أفرج شرف الدولة عن أبي منصور بن صالحان واستوزره وقبض على وزيره أبي محمد بن فسانجس‏.‏

وفيها أرسل شرف الدولة رسولًا إلى القرامطة فلما عاد قال‏:‏ إن القرامطة سألوني عن الملك فأخبرتهم بحسن سيرته فقالوا‏:‏ من ذلك أنه استوزر ثلاثة في سنة لغير سبب فلم يغير شرف الدولة بعد هذا على وزيره أبي منصور بن صالحان‏.‏

و في هذه السنة توفي أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي الموصلي الحافظ المشهور وقيل في سنة تسع وستين وكان ضعيفًا في الحديث‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وسبعين وثلاثمائة

ذكر الفتنة ببغداد

في هذه السنة جرت فتنة ببغداد بين الديلم وكان سببها أن أسفار بن كردويه وهو من أكابر القواد استنفر من صمصام الدولة واستمال كثيرًا من العسكر إلى طاعة شرف الدولة واتفق رأيهم على أن يولوا الأمير بهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة العراق نيابةً عن أخيه شرف الدولة‏.‏

وكان صمصام الدولة مريضًا فتمكن أسفار من الذي عزم عليه وأظهر ذلك وتأخر عن الدار وراسله صمصام الدولة يستميله ويسكنه فما زاده إلا تماديًا فلما رأى ذلك من حاله راسل الطائع يطلب منه الركوب معه وكان صمصام الدولة قد أبل من مرضه فامتنع الطائع من ذلك فشرع صمصام الدولة واستمال فولاذ زماندار وكان موافقًا لأسفار إلا أنه كان يأنف من متابعته لكبر شأنه‏.‏

فلما راسله صمصام الدولة أجابه واستحلفه على ما أراد وخرج من عنده وقاتل أسفار فهزمه فولاذ وأخذ الأمير أبو نصر أسيرًا وأحضر عند أخيه صمصام الدولة فرق له وعلم أنه لا ذنب له فاعتقله مكرمًا وكان عمره حينئذ خمس عشرة سنة‏.‏

وثبت أمر صمصام الدولة وسعي إليه بابن سعدان الذي كان وزيره فعزله وقيل إنه كان هواه معهم فقتل ومضى أسفار إلى الأهواز واتصل بالأمير أبي الحسين بن عضد الدولة وخدمه وسار باقي العسكر إلى شرف الدولة‏.‏

ذكر أخبار القرامطة

في هذه السنة ورد إسحاق وجعفر البحريان وهما من الستة القرامطة الذين يلقبون بالسادة فملكا الكوفة وخطبا لشرف الدولة فانزعج الناس لذلك لما في النفوس من هيبتهم وبأسهم وكان لهم من الهيبة ما إن عضد الدولة وبختيار أقطعاهم الكثير‏.‏

وكان نائبهم ببغداد يعرف بأبي بكر بن شاهويه يتحكم تحكم الوزراء فقبض عليه صمصام الدولة فلما ورد القرامطة الكوفة كتب إليهما صمصام الدولة يتلطفهما ويسألهما عن سبب حركتهما فذكرا أن قبض نائبهم هو السبب في قصدهم بلاده وبثا أصحابهما وجبيا المال‏.‏

ووصل أبو قيس الحسن بن المنذر إلى الجامعين وهو من أكابرهم فأرسل صمصام الدولة العساكر ومعهم العرب فعبروا الفرات إليه وقاتلوه فانهزم عنهم وأسر أبو قيس وجماعة من قوادهم فقتلوا فعاد القرامطة وسيروا جيشًا آخر في عدد كثير وعدة فالتقوا هم وعساكر صمصام الدولة بالجامعين أيضًا فأجلت الوقعة عن هزيمة القرامطة وقتل مقدمهم وغيره وأسر جماعة ونهب سوادهم فلما بلغ المنهزمون إلى الكوفة رحل القرامطة وتبعهم العسكر إلى القادسية فلم يدركوهم وزال من حينئذ ناموسهم‏.‏

ذكر الإفراج عن ورد الرومي وما صار أمره إليه ودخول الروس في النصرانية

في هذه السنة أفرج صمصام الدولة عن ورد الرومي وقد تقدم ذكر حبسه‏.‏

فلما كان الآن أفرج عنه وأطلقه وشرط عليه إطلاق عدد كثير من أسرى المسلمين وأن يسلم إليه سبعة حصون من بلد الروم برساتيقها وأن لا يقصد بلاد الإسلام هو ولا أحد من أصحابه ما عاش وجهزه بما يحتاج إليه من مال وغيره فسار إلى بلاد الروم واستمال في طريقه خلقًا كثيرًا من البوادي وغيرهم وأطمعهم في العطاء والغنيمة وسار حتى نزل بملطية فتسلمها وقوي بها وبما وقصد ورديس بن لاون فتراسلا واستقر الأمر بينهما على أن تكون القسطنطينية وما جاورها من شمالي الخليج لورديس وهذا الجانب من الخليج لورد وتحالفا واجتمعا فقبض ورديس على ورد وحبسه ثم إنه ندم فأطلقه عن قريب وعبر ورديس الخليج وحصر القسطنطينية وبها الملكان ابنا أرمانوس وهما بسيل وقسطنطين وضيف عليهما فراسلا ملك الروسية واستنجداه وزوجاه بأخت لهما فامتنعت من تسليم نفسها إلى من يخالفها في الدين فتنصر وكان هذا أول النصرانية بالروس وتزوجها وسار إلى لقاء ورديس فاقتتلوا وتحاربوا فقتل ورديس واستقر الملكان في ملكهما وراسلا وردًا وأقراه على ما بيده فبقي مديدةً ومات قيل إنه مات مسمومًا‏.‏

وتقدم بسيل في الملك وكان شجاعًا عادلًا حسن الرأي ودام ملكه وحارب البلغار خمسًا وثلاثين سنة وظفر بهم وأجلى كثيرًا منهم من بلادهم وأسكنها الروم وكان كثير الإحسان إلى المسلمين والميل إليهم‏.‏

ذكر ملك شرف الدولة الأهواز

في هذه السنة شرف الدولة أبو الفوارس بن عضد الدولة من فارس يطلب الأهواز وأرسل إلى أخيه أبي الحسين وهو بها يطبب نفسه ويعده الإحسان وأن يقره على ما بيده من الأعمال وأعلمه أن مقصده العراق وتخليص أخيه الأمير أبي نصر من محبسه فلم يصغ أبو الحسين إلى قوله وعزم على منعه وتجهز لذلك فأتاه الخبر بوصول شرف الدولة إلى أرجان ثم إلى رامهرمز فتسلل أجناده إلى شرف الدولة ونادوا بشعاره فهرب أبو الحسين نحو الري إلى عمه فخر الدولة فبلغ أصبهان وأقام بها واستنصر عمه فأطلق له مالًا ووعده بنصره‏.‏

فلما طال عليه الأمر قصد التغلب على أصبهان ونادى بشعار أخيه شرف الدولة فثار به جندها وأخذوه أسيرًا وسيروه إلى الري فحبسه عمه وبقي محبوسًا إلى أن مرض عمه فخر الدولة مرض الموت فلما اشتد مرضه أرسل إليه من قتله وكان يقول شعرًا فمن قوله‏:‏ هب الدهر أرضاني وأعتب صرفه وأعقب بالحسنى وفكّ من الأسر فمن لي بأيّام الشباب التي مضت ومن لي بما قد فات في الحبس من عمري وأما شرف الدولة فإنه سار إلى الأهواز وملكها وأرسل إلى البصرة فملكها وقبض على أخيه أبي طاهر وبلغ الخبر إلى صمصام الدولة فراسله في الصلح فاستقر الأمر على أن يخطب لشرف الدولة بالعراق قبل صمصام الدولة ويكون صمصام الدولة نائبًا عنه ويطلق أخاه الأمير بهاء الدولة أبا نصر فأطلقه وسيره إليه وصلح الحال واستقام‏.‏

وكان قواد شرف الدولة يحبون الصلح لأجل العود إلى أوطانهم وخطب لشرف الدولة بالعراق وسيرت إليه الخلع والألقاب من الطائع لله فإلى أن عادت الرسل إلى شرف الدولة ليحلفوه ألقت إليه البلاد مقاليدها كواسط وغيرها وكاتبه القواد بالطاعة فعاد عن الصلح وعزم على قصد بغداد والاستيلاء على الملك ولم يحلف لأخيه‏.‏

وكان معه الشريف أبو الحسن محمد بن عمر يشير عليه بقصد العراق ويحثه عليه ويطمعه فيه فوافقه على ذلك‏.‏

وسنذكر باقي خبره سنة ست وسبعين إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر انهزام عساكر المنصور من صاحب سجلماسة

قد ذكرنا استيلاء خزرون وزيري الزناتيين على سجلماسة وفاس وموت يوسف بلكين لما قصدهما فلما مات تمكنا من تلك البلاد فلما استقر المنصور سير جيشًا كثيفًا إليهما ليردهما إلى طاعته فلما صار الجيش قريب فاس خرج إليهم صاحبها زيري بن عطية الزناتي المعروف بالقرطاس في عساكره فاقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم عسكر المنصور وقتل منهم خلق كثير وأسر جماعة كثيرة وثبت قدمه في ولايته‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة خرج بعمان طائر من البحر كبير أكبر من الفيل ووقف على تل هناك وصاح بصوت عالٍ ولسان فصيح‏:‏ قد قرب قد قرب قد قرب ثلاثًا ثم غاص في البحر ففعل ذلك ثلاثة أيام ثم غاب ولم ير بعد ذلك‏.‏

وفيها جدد صمصام الدولة ببغداد على الثياب الإبرسيم والقطن المبيعة ضريبة مقدارها عشر الثمن فاجتمع الناس في جامع المنصور وعزموا على قطع الصلاة وكاد البلد يفتتن فأعفوا من ذلك‏.‏

وفيها توفي ابن مؤيد الدولة بن بويه فجلس صمصام الدولة للعزاء فأتاه الطائع لله معزيًا‏.‏

وفيها توفي أبو علي الحسن بن الحسين بن أبي هريرة الفقيه الشافعي المشهور وأبو القاسم عبد العزيز بن عبدالله الداركي وكان رئيس أصحاب الشافعي بالعراق وتوفي في شوال وله نيف وسبعون سنة وأبو بكر محمد بن عبدالله بن محمد بن صالح الفقيه المالكي ومولده سنة سبع وثمانين ومائتين وسئل أن يلي قضاء القضاة فامتنع والوليد بن أحمد بن محمد بن الوليد أبو العباس الزوزني الصوفي المحدث كان من العلماء في الحقائق وله تصانيف حسنة‏.‏

ثم دخلت سنة ست وسبعين وثلاثمائة

وقبض صمصام الدولة في هذه السنة سار شرف الدولة أبو الفوارس بن عضد الدولة من الأهواز إلى واسط فملكها فأرسل إليه صمصام الدولة أخاه أبا نصر يستعطفه بإطلاقه وكان محبوسًا عنده فلم يتعطف له واتسع الخرق على صمصام الدولة وشغب عليه جنده فاستشار أصحابه في قصد أخيه والدخول في طاعته فنهوه عن ذلك وقال بعضهم‏:‏ الرأي أننا نصعد إلى عكبرا لنعلم بذلك من هو لنا ممن هو علينا فإن رأينا عدتنا كثيرة قاتلناهم وأخرجنا الأموال وإن عجزنا سرنا إلى الموصل فهي وسائر بلاد الجبل لنا فيقوى أمرنا ولا بد أن الديلم والأتراك تجري بينهم منافسة ومحاسدة ويحدث اختلال فنبلغ الغرض‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الرأي أننا نسير إلى قرميسين تكاتب عمك فخر الدولة وتستنجده وتسير على طريق خراسان وأصبهان إلى فارس فتتغلب عليها على خزائن شرف الدولة وذخائره فما هناك ممانع ولا مدافع فإذا فعلنا ذلك لا يقدر شرف الدولة على المقام بالعراق فيعود حينئذ فيقع الصلح‏.‏

فأعرض صمصام الدولة عن الجميع وسار في طيار إلى أخيه شرف الدولة في خواصه فوصل

إلى أخيه شرف الدولة فلقيه وطيب قلبه‏.‏

فلما خرج من عنده قبض عليه وأرسل إلى بغداد من يحتاط على دار المملكة وسار فوصل إلى بغداد في شهر رمضان فنزل بالشفيعي وأخوه صمصام الدولة معه تحت الاعتقال وكانت إمارته بالعراق ثلاث سنين وأحد عشر شهرًا‏.‏

ذكر الفتنة بين الأتراك والديلم

في هذه السنة جرت فتنة بين الديلم والأتراك الذين مع شرف الدولة ببغداد‏.‏

وسببها أن الديلم اجتمعوا مع شرف الدولة في خلق كثير بلغت عدتهم خمسة عشرة ألف رجل وكان الأتراك في ثلاثة آلاف فاستطال عليهم الديلم فجرت منازعة بين بعضهم في دار وإصطبل ثم صارت إلى المحاربة فاستظهر الديلم لكثرتهم وأرادوا إخراج صمصام الدولة وإعادته إلى ملكه‏.‏

وبلغ شرف الدولة الخبر فوكل بصمصام الدولة من يقتله إن هم الديلم بإخراجه‏.‏

ثم إن الديلم لما استظهروا على الأتراك تبعوهم فتشوشت صفوفهم فعادت الأتراك عليهم من أمامهم وخلفهم فانهزموا وقتل منهم زيادة على ثلاثة آلاف ودخل الأتراك البلد فقتلوا من وجدوه منهم ونهبوا أموالهم وتفرق الديلم فبعضهم اعتصم بشرف الدولة وبعضهم سار عنه‏.‏

فلما كان الغد دخل شرف الدولة بغداد والديلم المعتصمون به معه فخرج الطائع لله ولقيه

وهنأه بالسلامة وقبل شرف الدولة الأرض وأخذ الديلم يذكرون صمصام الدولة فقيل لشرف الدولة‏:‏ اقتله وإلا ملكوه الأمر‏.‏

ثم إن شرف الدولة أصلح بين الطائفتين وحلف بعضهم لبعض وحمل صمصام الدولة إلى فارس فاعتقل في قلعةٍ هناك فرد شرف الدولة على الشريف محمد بن عمر جميع أملاكه وزاده عليها وكان خراج أملاكه كل سنة ألفي ألف وخمس مائة ألف درهم ورد على النقيب أبي أحمد الموسوي أملاكه وأقر الناس على مراتبهم ومنع الناس من السعايات ولم يقبلها فأمنوا وسكنوا‏.‏

ووزر له أبو منصور بن صالحان‏.‏

ذكر ولاية مهذب الدولة البطيحة

في هذه السنة توفي المظفر بن علي وولي بعده ابن أخته أبو الحسن علي ابن نصر بالعهد المذكور وكتب إلى شرف الدولة يبذل له الطاعة ويطلب التقليد فأجيب إلى ذلك ولقب بمهذب الدولة فأحسن السيرة وبذل الخير والإحسان فقصده الناس وأمن عنده الخائف‏.‏

وصارت البطيحة معقلًا لكل من قصدها واتخذها الأكابر وطنًا وبنوا فيها الدور الحسنة ووسعهم بره وإحسانه وكاتب ملوك الأطراف وكاتبوه وزجه بهاء الدولة ابنته وعظم شأنه إلى

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة توفي أبو الحسين عبد الرحمن بن عمر الصوفي المنجم لعضد الدولة وكان مولده بالري سنة إحدى وتسعين ومائتين‏.‏

وفيها كان بالموصل زلزلة شديدة تهدم بها كثير من المنازل وهلك كثير من الناس‏.‏

وفيها قتل المنصور بن يوسف صاحب إفريقية عبدالله الكاتب وقام على ولاية الأعمال بإفريقية عوضه يوسف بن أبي محمد وكان والي قفصة قبل ذلك‏.‏

وفيها كان بالعراق غلاء شديد جلا لشدته أكثر أهله‏.‏

وفيها توفي أحمد بن يوسف بن يعقوب بن البهلول التنوخي الأزرق الأنباري الكاتب‏.‏

وأحمد بن الحسين بن علي أبو حامد المروزي ويعرف بابن الطبري الفقيه الحنفي تفقه ببغداد على أبي الحسن الكرخي وولي قضاء القضاة بخراسان ومات في صفر وكان عابدًا محدثًا ثقة‏.‏

وإسحاق بن المقتدر بالله أو محمد والد القادر ومولده سنة سبع عشرة وثلاثمائة وصلى عليه ابنه القادر وهو حينئذ أمير‏.‏

وأبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي النحوي صاحب الإيضاح قيل كان وأبو أحمد محمد بن أحمد بن الحسين بن الغطريف الجرجاني توفي في رجب وهو عالي الإسناد في الحديث‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وسبعين وثلاثمائة

الحرب بين ابن حسنويه وشرف الدولة

ذكر الحرب بين بدر بن حسنويه وعسكر شرف الدولة

في هذه السنة جهز شرف الدولة عسكرًا كثيفًا مع قراتكين الجهشياري وهو مقدم عسكره وكبيرهم وأمرهم بالمسير إلى بدر بن حسنويه وقتاله‏.‏

وسبب ذلك أن شرف الدولة كان مغيظًا حنقًا على بدر لانحرافه عنه وميله إلى عمه فخر الدولة فلما استقر ملكه ببغداد وأطاعه الناس شرع في أمره بدر وكان قراتكين قد جاوز الحد في التحكم والإدلال وحماية الناس على نواب شرف الدولة فرأى أن يخرجه في هذا الوجه فإن ظفر ببدر شفى غيظه منه وإن ظفر به بدر استراح منه‏.‏

فساروا نحو بدر وتجهز بدر وجمع العساكر وتلاقيا على الوادي بقرميسين فلما اقتتلوا انهزم بدر حتى توارى عنه وظن قراتكين وأصحابه أنه مضى على وجهه فنزلوا عن خيولهم وتفرقوا

في خيامهم فلم يلبثوا إلا ساعة حتى كر بدر راجعًا إليهم وأكب عليهم وأعجلهم عن الركوب وقتل منهم مقتلة عظيمة واحتوى على جميع ما في عسكرهم ونجا قراتكين في نفرٍ من غلمانه فبلغ جسر النهروان وأقام به حتى اجتمع إليه المنهزمون ودخل بغداد‏.‏

واستولى بدر بعد ذلك على أعمال الجبل وما والاها وقويت شوكته‏.‏

وأما قرتكين فإنه لما عاد من الهزيمة زاد إدلاله وتجنيه وأغرى العسكر بالشغب والتوثب على الوزير أبي منصور بن صالحان فلقوه بما يكره فلاطفهم ودفعهم وأصلح شرف الدولة بين الوزير وبين قراتكين وشرع في إعمال الحيلة على قراتكين فلم تمض غير أيام حتى قبض عليه وعلى جماعة من أصحابه وكتابه وأخذ أموالهم وشغب الجند لأجله فقتله شرف الدولة فسكنوا وقدم عليهم طغان الحاجب فصلحت طاعته‏.‏

ذكر مسير المنصور بن يوسف لحرب كتامة

في هذه السنة جمع المنصور صاحب إفريقية عساكره وسار إلى كتامة قاصدًا حربها‏.‏

وسبب ذلك أن العزيز بالله العلوي بمصر كان قد أرسل داعيًا له إلى كتامه يقال له أبو الفهم واسمه حسن بن نصر يدعوهم إلى طاعته وغرضه أن تميل كتامة إليه وترسل إليه جندًا يقاتلون المنصور ويأخذون إفريقية منه لما رأى من قوته‏.‏

فدعاهم أبو الفهم فكثر تبعه وقاد الجيوش وعظم شأنه وعزم المنصور على قصده فأرسل إلى العزيز بمصر يعرفه الحال فأرسل العزيز رسولين إلى المنصور ينهاه عن التعرض لأبي الفهم وكتامة وأمرهما أن يسيرا إلى كتامة بعد الفراغ من رسالة المنصور‏.‏

فلما وصلا إلى المنصور وأبلغاه رسالة العزيز أغلظ القول لهما وللعزيز أيضًا وأغلظا له فأمرهما بالمقام عنده بقية شعبان ورمضان ولم يتركهما يمضيان إلى كتامة وتجهز لحرب كتامة وأبي الفهم وسار بعد عيد الأضحى فقصده مدينة ميلة وأراد قتل أهلها وسبي نسائهم وذراريهم فخرجوا إليه يتضرعون ويبكون فعفا عنهم وخرب سورها وسار منها إلى كتامة والرسولان معه‏.‏

فكان لا يمر بقصر ولا منزل إلا هدمه حتى بلغ مدينة سطيف وهي كرسي عزهم فاقتتلوا عندها قتالًا عظيمًا فانهزمت كتامة وهرب أبو الفهم إلى جبل وعرٍ فيه ناس من كتامة يقال لهم بنو إبراهيم فأرسل إليهم المنصور يتهددهم إن لم يسلموه فقالوا‏:‏ هو ضيفنا ولا نسلمه ولكن أرسل أنت إليه فخذه ونحن لا نمنعه‏.‏

فأرسل فأخذه وضربه ضربًا شديدًا ثم قتله وسلخه وأكلت صنهاجة وعبيد المنصور لحمه وقتل معه جماعة من الدعاة ووجوه كتامة وعاد إلى أشير ورد الرسولين إلى العزيز فأخبراه بما فعل بأبي الفهم وقالا‏:‏ جئنا من عند شياطين يأكلون الناس‏.‏

فأرسل العزيز إلى المنصور يطيب قلبه وأرسل إليه هدية ولم يذكر له أبا الفهم‏.‏

ذكر معاودة باذ القتال

في هذه السنة تجدد لباذ الكردي طمع في بلاد الموصل وغيرها‏.‏

وسبب ذلك أن سعدًا الحاجب الذي تقدم ذكره توفي بالموصل فسير إليها شرف الدولة أبا نصر خواشاذه وجهز إليه العساكر وكتب يستمد من شرف الدولة العساكر والأموال فتأخرت الأموال عنه فأحضر العرب من بني عقيل وأقطعهم البلاد ليمنعوا عنها وانحدر باذ فاستولى على طور عبدين ولم يقدر على النزول إلى الصحراء وأرسل أخاه في عسكر فقاتلوا العرب فقتل أخوه وانهزم عسكره وأقام بعضهم مقابل بعض‏.‏

فبينما هم كذلك أتاهم الخبر بموت شرف الدولة فعاد خواشاذه إلى الموصل وأظهر موته وأقامت العرب بالصحراء تمنع باذًا من النزول إليها وباذ بالجبل وكان خواشاذه يصلح أمره ليعاود حرب باذ فأتاه إبراهيم وأبو الحسين ابنا ناصر الدولة على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة جلس الطائع لله لشرف الدولة جلوسًا عامًا وحضره أعيان الدولة وخلع عليه وحلف كل واحد منهما لصاحبه‏.‏

وفيها ولد الأمير أبو علي الحسن بن فخر الدولة في رجب‏.‏

وفيها سار الصاحب بن عباد إلى طبرستان فأصلحها ونفى المتغلبين عنها وفتح عدة حصون منها‏:‏ حصن قريم وعاد في سنته‏.‏

وفيها عصى الأمير أبو منصور بن كوريكنج صاحب قزوين على فخر الدولة فلاطفه فخر الدولة وبذل له الأمان والإحسان فعاد إلى طاعته‏.‏

وفيها في رمضان حدثت فتنة شديدة بين الديلم والعامة بمدينة الموصل قتل فيها مقتلة عظيمة ثم أصلح الحال بين الطائفتين‏.‏

وفيها تأخر المطر حتى انتصف كانون الثاني وغلت الأسعار بالعراق وما يجاوره من البلاد واستسقى الناس مرتين فلم يسقوا حتى جاء المطر سابع عشر كانون الثاني وزال القنوط وتتابعت الأمطار‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة

في هذه السنة قبض شرف الدولة على شكرٍ الخادم وكان أخص الناس عند والده عضد الدولة وأقربهم إليه يرجع إلى قوله ويعول عليه‏.‏

وكان سبب قبضه أنه كان أيام والده يقصد شرف الدولة ويؤذيه وهو الذي تولى إبعاده إلى كرمان من بغداد وقام بأمر صمصام الدولة فحقد عليه شرف الدولة ذلك فلما ملك شرف الدولة العراق اختفى شكر فطلبه أشد الطلب فلم يوجد وكان له جارية حبشية قد تزوجها فطلبها إليه فأقامت عنده مدة تخدمه‏.‏

وكان قد علق بقلبها غيره فصارت تأخذ المأكول وغيره وتحمله إلى حيث شاءت فأحس بها شكر فلم يحتملها فضربها فخرجت غضبى إلى باب دار شرف الدولة فأخبرت بحال شكرٍ فأخذ وأحضر عند شرف الدولة فأراد قتله فشفع فيه نحرير الخادم فوهبه له وأستأذنه في الحج فأذن له فسار إلى مكة ثم منها إلى مصر فنال هناك منزلةً كبيرةً وسيرد خبره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر عزل بكجور عن دمشق

في هذه السنة عزل بكجور عن دمشق‏.‏

وسبب ذلك أنه أساء السيرة في دمشق وفعل الأعمال الذميمة وكان الوزير يعقوب بن كلس منحرفًا عنه يسيء الرأي فيه وانضاف إلى ذلك ما فعله بأصحابه بدمشق على ما ذكرناه‏.‏

فلما بلغه فعله بدمشق تحرك في عزله وقبح ذكره عند العزيز بالله فأجابه إلى ذلك فجهزت العساكر من مصر مع القائد منير الخادم فساروا إلى الشام‏.‏

فجمع بكجور العرب وغيرها وخرج فلقي العسكر المصري عند داريا وقاتلهم فاشتد القتال بينهم فانهزم بكجور وعسكره وخاف من وصول نزال والي طرابلس وكان قد كوتب من مصر بمعاضدة منير فلما انهزم بكجور خاف أن يجيء نزال فيؤخذ فأرسل يطلب الأمان ليسلم البلد إليهم فأجابوه إلى ذلك فجمع ماله جميعه وسار وأخفى أثره لئلا يغدر المصريون به وتوجه إلى الرقة فاستولى عليها وتسلم منير البلد ففرح به أهله وسرهم ولايته وسنذكر سنة إحدى وثمانين باقي أخباره وقتله إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر ظفر الأصفر بالقرامطة

في هذه السنة جمع إنسان يعرف بالأصفر من بني المنتفق جمعًا كثيرًا وكان بينه وبين جمع من القرامطة وقعة شديدة قتل فيها مقدم القرامطة وانهزم أصحابه وقتل منهم وأسر كثير‏.‏

وسار الأصفر إلى الأحساء فتحصن منه القرامطة فعدل إلى القطيف فأخذ ما كان فيها من عبيدهم وأموالهم ومواشيهم وسار بها إلى البصرة‏.‏

ذكر نكتة حسنة

في هذه السنة أهدى الصاحب بن عباد أول المحرم إلى فخر الدولة دينارًا وزنه ألف مثقال وكان على أحد جانبيه مكتوب‏:‏ وأحمر يحكي الشمس شكلًا وصورةً فأوصافه مشتقّةٌ من صفاته فإن قيل دينارٌ فقد صدق اسمه وإن قيل ألفٌ كان بعض سماته بديعٌ ولم يطبع على الدهر مثله ولا ضربت أضرابه لسراته فقد أبرزته دولةٌ فلكيّةٌ أقام بها الإقبال صدر قناته وصار إلى شاهانشاه انتسابه على أنّه مستصغرٌ لعفاته يخبّر أن يبقى سنين كوزنه لتستبشر الدنيا بطول حياته تأنّق فيه عبده وابن عبده وغرس أياديه وكافي كفاته وكان على الجانب الآخر سورة الإخلاص ولقب الخليفة الطائع لله ولقب فخر الدولة واسم جرجان لأنه ضر بها‏.‏

قوله‏:‏ دولة فكلية يعني أن لقب فخر الدولة كان فلك الأمة‏.‏

وقوله‏:‏ وكافي كفاته فإن الصاحب كان لقبه كافي الكفاة‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة تتابعت الأمطار وكثرت البروق والرعود والبرد الكبار وسالت منه الأودية وامتلأت الأنهار والآبار ببلاد الجبل وخربت المساكن وامتلأت الأقناء طينًا وحجارةً وانقطعت الطرق‏.‏

وفيها عصى نصر بن الحسن بن الفيرزان بالدامغان على فخر الدولة واجتاز به أحمد بن سعيد الشبيبي الخراساني مقبلًا من الري ومعه عسكر من الديلم لمحاربته فلما رأى الجد في أمره راسل فخر الدولة وعاود طاعته فأجابه إلى قبول ذلك منه وأقره على حاله وفيها توفي الأمير أبو علي بن فخر الدولة في رجب‏.‏

وفيها وقع الوباء بالبصرة والبطائح من شدة الحر فمات خلق كثير حتى امتلأت منهم الشوارع‏.‏

وفي شعبان كثرت الرياح العواصف وجاءت وقت العصر خامس شعبان ريح عظيمة بفم الصلح فهدمت قطعة من الجامع وأهلكت جماعة من الناس وغرقت كثيرًا من السفن الكبار المملوءة واحتملت زورقًا منحدرًا فيه دواب وعدة من السفن وألقت الجميع على مسافة من موضعها‏.‏

وفيها توفي أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب المفيد كان محدثًا مكثرًا ومولده سنة أربع وثمانين ومائتين‏.‏

وأبو حامد محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق الحاكم النيسابوري في ربيع الأول وهو صاحب التصانيف المشهورة‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وسبعين وثلاثمائة

ذكر سمل صمصام الدولة

كان نحرير الخادم يشير على شرف الدولة بقتل أخيه صمصام الدولة وشرف الدولة يعرض عن كلامه فلما اعتقل شرف الدولة واشتدت علته ألح عليه نحرير وقال له‏:‏ الدولة معه على خطرٍ فإن لم تقتله فاسلمه‏.‏

فأرسل في ذلك محمدًا الشيرازي الفراش فمات شرف الدولة قبل أن يصل الفراش إلى صمصام الدولة فلما وصل الفراش إلى القلعة التي بها صمصام الدولة لم يقدم على سلمه فاستشار أبا القاسم العلاء بن الحسن الناظر هناك فأشار بذلك فسلمه‏.‏

وكان

ذكر وفاة شرف الدولة وملك بهاء الدولة

في هذه السنة مستهل جمادى الآخرة توفي الملك شرف الدولة أبو الفوارس شيرزيل بن عضد الدولة مستسقيًا وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام فدفن به وكانت إمارته بالعراق سنتين وثمانية أشهر وكان عمره ثمانيًا وعشرين سنة وخمسة أشهر‏.‏

ولما اشتدت علته سير ولده أبا على إلى بلاد فارس وأصحبه الخزائن والعدد وجماعة كثيرة من الأتراك فلما أيس أصحابه منه اجتمع إليه أعيانهم وسألوه أن يملك أحدًا فقال‏:‏ أنا في شغل عما تدعونني إليه‏.‏

فقالوا له ليأمر أخاه بهاء الدولة أبا نصر أن ينوب عنه إلى أن يعافى ليحفظ الناس لئلا تثور فتنة ففعل ذلك وتوقف بهاء الدولة ثم أجاب إليه‏.‏

فلما مات جلس بهاء الدولة في المملكة وقعد للعزاء وركب الطائع لله أمير المؤمنين إلى العزاء في الزبزب فتلقاه بهاء الدولة وقبل الأرض بين يديه وانحدر الطائع لله إلى داره وخلع على بهاء الدولة خلع السلطنة وأقر بهاء الدولة أبا منصور بن صالحان على وزارته‏.‏

ذكر مسير الأمير أبي علي بن شرف الدولة إلى فارس  وما كان منه 

لما اشتد مرض شرف الدولة جهز ولده الأمير أبا علي وسيره إلى فارس ومعه والدته وجواريه وسير معه من الأموال والجواهر والسلاح أكثرها‏.‏

فلما بلغ البصرة أتاهم الخبر بموت شرف الدولة فسير ما معه في البحر إلى أرجان وسار هو مجدًا إلى أن وصل إليها واجتمع معه من بها من الأتراك وساروا نحو شيراز وكاتبهم متوليها وهو أبو القاسم العلاء بن الحسن بالوصول إليها ليسلمها إليهم وكان المرتبون في القلعة التي بها صمصام الدولة وأخوه أبو طاهر قد أطلقوهما ومعهما فولاذ وساروا إلى سيراف‏.‏

واجتمع على صمصام الدولة كثير من الديلم‏.‏

وسار الأمير أبو علي إلى شيراز ووقعت الفتنة بها بين الأتراك والديلم وخرج الأمير أبو علي من داره إلى معسكر الأتراك فنزل معهم واجتمع الديلم وقصدوا ليأخذوه ويسلموه إلى صمصام الدولة فرأوه قد انتقل إلى الأتراك فكشفوا القناع ونابذوا الأتراك وجرى بينهم قتال عدة أيام‏.‏

ثم سار أبو علي والأتراك إلى فسا فاستولوا عليها وأخذوا ما بها من مال وقتلوا من بها من الديلم وأخذوا أموالهم وسلاحهم فقووا بذلك‏.‏

وسار أبو علي إلى أرجان وعاد الأتراك إلى شيراز فقاتلوا صمصام الدولة ومن معه من الديلم ونهبوا البلد وعادوا إلى أبي علي بأرجان وأقاموا معه مديدةً‏.‏

ثم وصل رسول من بهاء الدولة إلى أبي علي وأدى الرسالة وطيب قلبه ووعده ثم إنه راسل الأتراك سرًا واستمالهم إلى نفسه وأطعمهم فحسنوا لأبي علي المسير إلى بهاء الدولة فسار إليه فلقيه بواسط منتصف جمادى الآخرة سنة ثمانين وثلاثمائة فأنزله وأكرمه وتركه عدة أيام وقبض عليه ثم قتله بعد ذلك بيسير وتجهز بهاء الدولة للمسير إلى الأهواز لقصد بلاد فارس‏.‏

ذكر الفتنة ببغداد بين الأتراك والديلم


و في هذه السنة أيضًا وقعت الفتنة ببغداد بين الأتراك والديلم واشتد الأمر ودام القتال بينهم خمسة أيام وبهاء الدولة في داره يراسلهم في الصلح فلم يسمعوا قوله وقتل بعض رسله‏.‏

ثم إنه خرج إلى الأتراك وحضر القتال معهم فاشتد حينئذ الأمر وعظم الشر ثم إنه شرع في الصلح ورفق بالأتراك وراسل الديلم فاستقر الحال بينهم وحلف بعضهم لبعض وكانت مدة الحرب اثني عشر يومًا‏.‏

ثم إن الديلم تفرقوا فمضى فريق بعد فريق وأخرج بعضهم وقبض على البعض فضعف أمرهم وقويت شوكة الأتراك واشتدت حالهم‏.‏

ذكر مسير فخر الدولة إلى العراق وما كان منه


و في هذه السنة سار فخر الدولة بن ركن الدولة من الري إلى همذان عازمًا على قصد العراق والاستيلاء عليها‏.‏

وكان سبب حركته أن الصاحب بن عباد كان يحب العراق لا سيما بغداد ويؤثر التقدم بها ويرصد أوقات الفرصة فلما توفي شرف الدولة علم أن الفرصة قد أمنت فوضع على فخر الدولة من يعظم عنده ملك العراق ويسهل أمره عليه ولم يباشر هو ذلك خوفًا من خطر العاقبة إلى أن قال له فخر الدولة‏:‏ ما عندك في هذا الأمر فأحال على أن سعادته تسهل كل صعب وعظم البلاد فتجهز وسار إلى همذان وأتاه بدر بن حسنويه وقصده دبيس بن عفيف الأسدي فاستقر الأمر على أن يسير الصاحب بن عباد وبدر إلى العراق على الجادة ويسير فخر الدولة على خوزستان‏.‏

فلما سار الصاحب حذر فخر الدولة من ناحيته وقيل له ربما استماله أولاد عضد الدولة فاستعاده إليه وأخذه معه إلى الأهواز فملكها وأساء السيرة مع جندها وضيق عليهم ولم يبذل الماء فخابت ظنون الناس فيه واستشعر منه أيضًا عسكره وقالوا‏:‏ هكذا يفعل بنا إذا تمكن من إرادته فتخاذلوا‏.‏

وكان الصاحب قد أمسك نفسه تأثرًا بما قيل عنه من اتهامه فالأمور بسكوته غير مستقيمة‏.‏

فلما سمع بهاء الدولة بوصولهم إلى الأهواز سير إليهم العساكر والتقوا هم وعساكر فخر الدولة‏.‏

فاتفق أن دجلة الأهواز زادت ذلك الوقت زيادة عظيمة وانفتحت البثوق منها فظنها عسكر فخر الدولة مكيدة فانهزموا فقلق فخر الدولة من ذلك وكان قد استبد برأيه فعاد حينئذ إلى رأي الصاحب فأشار ببذل المال واستصلاح الجند وقال له‏:‏ إن الرأي في مثل هذه الأوقات إخراج المال وترك مضايقة الجند فإن أطلقت المال ضمنت لك حصول أضعافه بعد سنة‏.‏

فلم يفعل ذلك وتفرق عنه كثير من عسكر الأهواز واتسع الخرق عليه وضاقت الأمور به فعاد إلى الري وقبض في طريقه على جماعة من القواد الرازيين وملك أصحاب بهاء الدولة الأهواز‏.‏

ذكر هرب القادر بالله إلى البطيحة

في هذه السنة هرب القادر بالله من الطائع لله إلى البطيحة فاحتمى فيها‏.‏

وكان سبب ذلك أن إسحاق بن المقتدر والد القادر لما توفي جرى بين القادر وبين أخت له منازعة في ضيعة وطال الأمر بينهما‏.‏

ثم إن الطائع لله مرض مرضًا أشفى منه ثم أبل فسعت إليه بأخيه القادر وقالت له‏:‏ إنه شرع في طلب الخلافة عند مرضك فتغير رأيه فيه فأنفذ أبا الحسن بن النعمان وغيره للقبض عليه وكان بالحريم الطاهري فأصعدوا في الماء إليه‏.‏

وكان القادر قد رأى في منامه كأن رجلًا يقرأ عليه‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَاَلَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمٍ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللُه وَنِعْمَ الوَكِيلُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏‏.‏ فهو يحكي هذا المنام لأهله ويقول‏:‏ أنا خائف من طالب يطلبني ووصل أصحاب الطائع لله إليه واستدعوه فأراد لبس ثيابه فلم يمكنوه من مفارقتهم فأخذه النساء منهم قهرًا وخرج عن داره واستتر ثم سار إلى البطيحة فنزل على مهذب الدولة فأكرم نزله ووسع عليه وحفظه وبالغ في خدمته ولم يزل عنده إلى أن أتته الخلافة فلما وليها جعل علامته‏:‏ ‏{‏حَسْبُنَا اللُه وَنِعْمَ الوَكِيلُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏‏.‏

ذكر عود بني حمدان إلى الموصل

في هذه السنة ملك أبو طاهر إبراهيم وأبو عبدالله الحسين ابنا ناصر الدولة ابن حمدان الموصل‏.‏

وسبب ذلك أنهما كانا في خدمة شرف الدولة ببغداد فلما توفي وملك بهاء الدولة استأذنا في الإصعاد إلى الموصل فأذن لهما فأصعدا ثم علم القواد الغلط في ذلك فكتب بهاء الدولة إلى خواشاذه وهو يتولى الموصل يأمره بدفعهما عنها فأرسل إليهما خواشاذه يأمرهما بالعود عنه فأعادا جوابًا جميلًا وجدا في السير حتى نزلا بالدير الأعلى بظاهر الموصل‏.‏

وثار أهل الموصل بالديلم والأتراك فنهبوهم وخرجوا إلى بني حمدان وخرج الديلم إلى قتالهم فهزمهم المواصلة وبنو حمدان وقتل منهم خلق كثير واعتصم الباقون بدار الإمارة وعزم أهل الموصل على قتلهم والاستراحة منهم فمنعهم بنو حمدان عن ذلك وسيروا خواشاذه ومن معه إلى بغداد وأقاموا بالموصل وكثر العرب عندهم‏.‏

ذكر خلاف كتامة على المنصور

و في هذه السنة خرج إنسان آخر من كتامة يقال له أبو الفرج لا يعرف من أي موضعٍ هو وزعم أن أباه ولد القائم العلوي جد المعز لدين الله فعمل أكثر مما عمله أبو الفهم واجتمعت إليه كتامة واتخذ البنود والطبول وضرب السكة وجرت بينه وبين نائب المنصور وعساكره بمدينة ميلة وسطيف حروب كثيرة ووقعات متعددة فسار المنصور إليه في عساكره وزحف هو إلى المنصور في عساكر كتامة فكان بينهما حرب شديدة فانهزم أبو الفرج وكتامة وقتل منهم مقتلة عظيمة واختفى أبو الفرج في غارٍ في جبل فوثب عليه غلامان كانا له فأخذاه وأتيا به المنصور فسره ذلك وقتله شر قتلة‏.‏

وشحن المنصور بلاد كتامة بالعساكر وبث عماله فيها ولم يدخلها عامل قبل ذلك فجبوا أموالها وضيقوا على أهلها‏.‏

ورجع المنصور إلى مدينة أشير فأتاه سعيد بن خزرون الزناتي وكان أبوه قد تغلب على سجلماسة سنة خمس وستين وثلاثمائة وصار في طاعة المنصور واختص به وعلت منزلته عنده فقال له المنصور يومًا‏:‏ يا سعيد هل تعرف أحدًا أكرم مني وكان قد وصله بمال كثير فقال‏:‏ نعم‏!‏ أنا أكرم منك‏.‏

فقال المنصور‏:‏ وكيف ذلك قال‏:‏ لأنك جدت علي بالمال وأنا جدت عليك بنفسي‏.‏

فاستعمله المنصور على طبنة وزوج ابنه ببعض بنات سعيد‏.‏

فلامه على ذلك بعض أهله فقال‏:‏ كان أبي وجدي يستتبعانهم بالسيف وأما أنا فمن رماني برمح رميته بكيس حتى تكون مودتهم طبعًا واختيارًا‏.‏

ورجع سعيد إلى أهله وبقي إلى سنة إحدى وثمانين ثم عاد إلى المنصور زائرًا فاعتل سعيد أيامًا وتوفي أول رجب‏.‏

ثم قدم فلفل بن سعيد على المنصور فأحسن إليه وحمل إليه مالًا كثيرًا فرده إلى طبنة ولاية أبيه‏.‏   ‏  ‏ ‏ ‏