المجلد السابع - ذكر خلاف عم المنصور عليه

و في هذه السنة أيضًا خالف أبو البهار عم المنصور بن يوسف بلكين صاحب إفريقية عليه لشيء جرى عليه من المنصور لم يحمله له لعزة نفسه فسار المنصور إليه بتاهرت ففارقها عمه إلى الغرب بمن معه من أهله وأصحابه ودخل عسكر المنصور تاهرت فانتهبوها ثم طلب أهلها الأمان فأمنهم ثم سار في طلب عمه حتى جاوز تاهرت سبع عشرة مرحلة ولقي العسكر شدة‏.‏

وقصد عمه زيري بن عطية صاحب فاس فأكرمه وأعلى محله وبقي جنده يغيرون على نواحي المنصور‏.‏

وفي سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة قصدوا النواحي المجاورة لفاس فأوقعوا بأصحاب المنصور بها واستولوا عليها‏.‏

ثم ندم أبو البهار فسار إلى المنصور معتذرًا مما جرى منه فقبله المنصور وأحسن إليه وأكرمه وحمل إليه كل ما يحتاج إليه من مالٍ وغيره‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة قبض بهاء الدولة على أبي الحسن محمد بن عمر العلوي الكوفي وكان قد عظم شأنه مع شرف الدولة واتسع جاهه وكثرت أمواله فلما ولي بهاء الدولة سعى به أبو الحسن المعلم إليه وأطمعه في أمواله وملكه وعظم ذلك عنده وقبض عليه‏.‏

وفيها أسقط بهاء الدولة ما كان يؤخذ من المراعي من سائر السواد‏.‏

وفيها خرج ابن الجراح الطائي على الحجاج بين سميراء وفيد ونازلهم فصالحوه على ثلاثمائة ألف درهم وشيء من الثياب فأخذها وانصرف‏.‏

وفيها بني جامع القطيعة ببغداد‏.‏

وفيها توفي محمد بن أحمد بن العباس بن أحمد بن جلاد أبو العباس السلمي النقاش كان من متكلمي الأشعرية وعنه أخذ أبو علي بن شاذان الكلام وكان ثقةً في الحديث‏.‏

ثم دخلت سنة ثمانين وثلاثمائة

ذكر قتل باذ

في هذه السنة قتل باذ الكردي صاحب ديار بكر‏.‏

وكان سبب قتله أن أبا طاهر والحسين ابني حمدان لما ملكا الموصل طمع فيها باذ وجمع الأكراد فأكثر وممن أطاعه الأكراد البشنوية أصحاب قلعة فنك وكانوا كثيرًا ففي ذلك يقول الحسين البشنوي الشاعر لبني مروان يعتد عليهم بنجدتهم خالهم باذًا من قصيدة‏:‏ البشنويّة أنصارٌ لدولتكم وليس في ذا خفًا في العجم والعرب أنصار باذٍ بأرجيشٍ وشيعته بظاهر الموصل الحدباء في العطب وكاتب أهل الموصل فاستمالهم فأجابه بعضهم فسار إليهم ونزل بالجانب الشرقي فضعفا عنه وراسلا أبا الذواد محمد بن المسيب أمير بني عقيل واستنصراه فطلب منهما جزيرة ابن عمر ونصيبين وبلدًا وغير ذلك فأجاباه إلى ما طلب واتفقوا وسار إليه أبو عبدالله بن حمدان وأقام أبو طاهر بالموصل يحارب باذًا‏.‏

فلما اجتمع أبو عبدالله وأبو الذواد سارا إلى بلد وعبرا دجلة وصارا مع باذ على أرض واحدة وهو لا يعلم فأتاه الخبر بعبورهما وقد قارباه فأراد الانتقال إلى الجبل لئلا يأتيه هؤلاء من خلفه وأبو طاهر من أمامه فاختلط أصحابه وأدركه الحمدانية فناوشوهم القتال وأراد باذ الانتقال من فرس إلى آخر فسقط واندقت ترقوته فأتاه ابن أخته أبو علي ابن مروان وأراده على الركوب فلم يقدر فتركوه وانصرفوا واحتموا بالجبل‏.‏

ووقع باذ بين القتلى فعرفه بعض العرب فقتله وحمل رأسه إلى بني حمدان وأخذ جائزةً سنيةً وصلبت جثته على دار الإمارة فثار العامة وقالوا‏:‏ رجل غازٍ ولا يحل فعل هذا به وظهر منهم محبة كثيرة له وأنزلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه‏.‏

ذكر ابتداء دولة بني مروان

لما قتل باذ سار ابن أخته أبو علي بن مروان في طائفة من الجيش إلى حصن كيفا وهو على دجلة وهو من أحصن المعاقل وكان به امرأة باذ وأهله فلما بلغ الحصن قال لزوجة خاله‏:‏ قد أنفذني خالي إليك في مهم فظنته حقًا فلما صعد إليها أعلمها بهلاكه وأطمعها في التزوج بها فوافقته على ملك الحصن وغيره ونزل وقصد حصنًا حصنًا حتى ملك ما كان لخاله وسار إلى ميافارقين وسار إليه أبو طاهر وأبو عبدالله ابنا حمدان طمعًا فيه ومعهما رأس باذ فوجدا أبا علي قد أحكم أمره فتصافوا واقتتلوا وظفر أبو علي وأسر أبا عبدالله بن حمدان فأكرمه وأحسن إليه ثم أطلقه فسار إلى أخيه أبي طاهر وهو بآمد يحصرها فأشار عليه بمصالحة ابن مروان فلم يفعل واضطر أبو عبدالله إلى موافقته وسارا إلى ابن مروان فواقعاه فهزمها وأسر أبا عبدالله أيضًا فأساء إليه وضيق عليه إلى أن كاتبه صاحب مصر وشفع فيه فأطلقه ومضى إلى مصر وتقلد منها ولاية حلب وأقام بتلك الديار إلى أن توفي‏.‏

وأما أبو طاهر فإنه لما وصل إلى نصيبين قصده أبو الذواد فأسره وعليًا ابنه والمزعفر أمير بني نمير وقتلهم صبرًا‏.‏

وأقام ابن مروان بديار بكر وضبطها وأحسن إلى أهلها وألان جانبه لهم فطمع فيه أهل ميافارقين فاستطالوا على أصحابه فأمسك عنهم إلى يوم العيد وقد خرجوا إلى المصلى فلما تكاملوا في الصحراء وافى إلى البلد وأخذ أبا الصقر شيخ البلد فألقاه من على السور وقبض على من كان معه وأخذ الأكراد ثياب الناس خارج البلد وأغلق أبواب البلد وأمر أهله أن ينصرفوا حيث شاءوا ولم يمكنهم من الدخول فذهبوا كل مذهب‏.‏

وكان قد تزوج ست الناس بنت سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان فأتته من حلب فعزم على زفافها بآمد فخاف شيخ البلد واسمه عبد البر أن يفعل بهم مثل فعله بأهل ميافارقين فأحضر ثقاته وحلفهم على كتمان سره وقال لهم‏:‏ قد صح عزم الأمير على أن يفعل بكم مثل فعله بأهل ميافارقين وهو يدخل من باب الماء ويخرج من باب الجهاد فقفوا له في الدركاه وانثروا عليه هذه الدراهم ثم اعتمدوا بها وجهه فإنه سيغطيه بكمه فاضربوه بالسكاكين في مقتله ففعلوا‏.‏

وجرت الحال كما وصف وتولى قتله إنسان يقال له ابن دمنة كان فيه إقدام وجرأة فاختبط الناس وماجوا فرمى برأسه إليهم فأسرعوا السير إلى ميافارقين‏.‏

وحدث جماعة من الأكراد نفوسهم بملك البلد فاستراب بهم مستحفظ ميافارقين لإسراعهم وقال‏:‏ إن كان الأمير حيًا فادخلوا معه وإن كان قتل فأخوه مستحق لموضعه فما كان بأسرع من أن وصل ممهد الدولة أبو منصور بن مروان أخو أبي علي إلى ميافارقين ففتح له باب البلد

وأما عبد البر فاستولى على آمد وزوج ابن دمنة الذي قتل أبا علي ابنته فعمل له ابن دمنة دعوة وقتله وملك آمدًا وعمر البلد وبنى لنفسه قصرًا عند السور وأصلح أمره مع ممهد الدولة وهادى ملك الروم وصاحب مصر وغيرهما من الملوك وانتشر ذكره‏.‏

وأما ممهد الدولة فإنه كان معه إنسان من أصحابه يسمى شروة حاكمًا في مملكته وكان لشروة غلام قد ولاه الشرطة وكان ممهد الدولة يبغضه ويريد قتله ويتركه احترامًا لصاحبه ففطن الغلام لذلك فأفسد ما بينهما فعمل شروة طعامًا بقلعة الهتاخ وهي إقطاعه ودعا إليها ممهد الدولة فلما حضر عنده قتله وذلك سنة اثنتين وأربعمائة وخرج من الدار إلى بني عم ممهد الدولة فقبض عليهم وقيدهم وأظهر أن ممهد الدولة أمره بذلك ومضى إلى ميافارقين وبين يديه المشاعل ففتحوا له ظنًا منهم أنه ممهد الدولة فملكها وكتب إلى أصحاب القلاع يستدعيهم وأنفذ إنسانًا إلى أرزن ليحضر متوليها ويعرف بخواجه أبي القاسم فسار خواجه نحو ميافارقين ولم يسلم القلعة إلى القاصد إليه‏.‏

فلما توسط الطريق سمع بقتل ممهد الدولة فعاد إلى أرزن وأرسل إلى أسعرد فأحضر أبا نصر بن مروان أخا ممهد الدولة وكان أخوه قد أبعده عنه وكان يبغضه لمنام رآه وهو أنه رأى كأن الشمس سقطت في حجره فنازعه أبو نصر عليها وأخذها فأبعده لهذا وتركه بأسعرد وكان شروة قد أنفذ إلى أبي نصر فوجدوه قد سار إلى ارزن فعلم حينئذ انتقاض أمره‏.‏

وكان مروان والد ممهد الدولة قد أضر وهو بأرزن عند قبر ابنه أبي علي هو وزوجته فأحضر خواجه أبا نصر عندهما وحلفه على القبول منه والعدل وأحضر القاضي والشهود على اليمين وملكه أرزن ثم ملك سائر بلاد ديار بكر فدامت أيامه وأحسن السيرة وكان مقصدًا للعلماء من سائر الآفاق وكثروا ببلاده‏.‏

وممن قصده أبو عبدالله الكازروني وعنه انتشر مذهب الشافعي بديار بكر وقصده الشعراء وأكثروا مدحه وأجزل جوائزهم وبقي كذلك من سنة اثنتين وأربعمائة إلى سنة ثلاث وخمسين فتوفي فيها وكان عمره نيفًا وثمانين سنة وكانت الثغور معه آمنة وسيرته في رعيته أحسن سيرةٍ فلما مات ملك بلاده ولده‏.‏

ذكر ملك آل المسيب الموصل

لما انهزم أبو طاهر بن حمدان من أبي علي بن مروان كما ذكرناه سار إلى نصيبين في قلة من أصحابه وكانوا قد تفرقوا فطمع فيه أبو الذواد محمد ابن المسيب أمير بني عقيل وكان صاحب نصيبين حينئذ كما ذكرناه فثار بأبي طاهر فأسره وأسر ولده وعدة من قوادهم وقتلهم وسار إلى الموصل فملكها وأعمالها وكاتب بهاء الدولة يسأله أن ينفذ إليه من يقيم عنده من أصحابه يتولى الأمور فسير إليه قائدًا من قواده‏.‏

وكان هاء الدولة قد سار من العراق إلى الأهواز على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وأقام نائب بهاء الدولة وليس له من الأمر شيء ولا يحكم إلا فيما يريده أبو الذواد وسيرد من ذكره وذكر عقبه ما تقف عليه إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر مسير بهاء الدولة إلى الأهواز وما كان منه ومن صمصام الدولة

في هذه السنة سار بهاء الدولة عن بغداد إلى خوزستان عازمًا على قصد فارس واستخلف ببغداد أبا نصر خواشاذه ووصل إلى البصرة ودخلها وسار عنها إلى خوزستان فأتاه نعي أخيه أبي طاهر فجلس للعزاء به ودخل أرجان فاستولى عليها وأخذ ما فيها من الأموال فكان ألف ألف دينار وثمانية آلاف ألف درهم ومن الثياب والجواهر ما لا يحصى فلما علم الجند بذلك شغبوا شغبًا متتابعًا فأطلقت تلك الأموال كلها لهم ولم يبق منها إلا القليل‏.‏

ثم سارت مقدمته وعليها أبو العلاء بن الفضل إلى النوبندجان وبها عساكر صمصام الدولة فهزمهم وبث أصحابه في نواحي فارس فسير إليهم صمصام الدولة عسكرًا وعليهم فولاذ وكان سبب الهزيمة أنه كان بين العسكرين وادٍ وعليه قنطرة وكان أصحاب أبي العلاء يعبرون القنطرة ويغيرون على أثقال الديلم عسكر صمصام الدولة فوضع فولاذ كمينًا عند القنطرة فلما عبر أصحاب بهاء الدولة خرجوا عليهم فقتلوهم جميعهم وراسل فولاذ أبا العلاء وخدعه ثم سار إليه وكبسه فانهزم من بين يديه وعاد إلى أرجان مهزومًا وغلت الأسعار بها‏.‏

ولما بلغ الخبر إلى صمصام الدولة سار عن شيراز إلى فولاذ وترددت الرسل في الصلح فتم على أن يكون لصمصام الدولة بلاد فارس وأرجان ولبهاء الدولة خوزستان والعراق وأن يكون لكل واحدٍ منهما إقطاع في بلد صاحبه وحلف كل واحد منهما لصاحبه وعاد بهاء الدولة إلى الأهواز‏.‏

ولما سار بهاء الدولة عن بغداد ثار العيارون بجانبي بغداد ووقعت الفتن بين السنة والشيعة وكثر القتل بينهم وزالت الطاعة وأحرق عدة محال ونهبت الأموال وأخربت المساكن ودام ذلك عدة شهور إلى أن عاد بهاء الدولة إلى بغداد‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة قبض بهاء الدولة على وزيره أبي منصور بن صالحان واستوزر أبا نصر سابور بن أردشير قبل ميره إلى خوزستان وكان المدبر لدولة بهاء الدولة أبا الحسين المعلم وإليه الحكم‏.‏

وفيها توفي أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس وزير العزيز صاحب مصر وكان كامل الأوصاف متمكنًا من صاحبه فلما مرض عاده العزيز صاحب مصر وقال‏:‏ وددت أنك تباع فأبتاعك بملك فهل من حاجة ترضى بها فبكى وقبل يده ووضعها على عينه وقال‏:‏ أما فيما يخصني فإنك أرعى لحقي من أن أوصيك بمخلفي ولكن فيما يتعلق بدولتك سالم الحمدانية ما سالموك واقنع منهم بالدعة وإن ظفرت بالمفرج فلا تبق عليه‏.‏

فلما مات حزن العزيز عليه وحضر جنازته وصلى عليه وألحده بيده في قصره وأغلق الدواوين عدة أيام واستوزر بعده أبا عبدالله الموصلي ثم صرفه وقلد عيسى بن نسطورس النصراني فمال إلى النصارى وولاهم واستناب بالشام يهوديًا يعرف بمنشا ففعل مع إليهود مثل ما فعل عيسى بالنصارى وجرى على المسلمين تحامل عظيم‏.‏

وفيها في ربيع الأول قلد الشريف أبو أحمد والد الرضي نقابة العلويين والمظالم وإمارة الحج وحج الناس أبو عبدالله أحمد بن محمد بن عبدالله العلوي نيابةً عن النقيب أبي أحمد الموسوي‏.‏وفيها توفي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن الفقيه الحنفي ومولده سنة عشرين وثلاثمائة‏.‏

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة

ذكر القبض على الطائع لله

في هذه السنة قبض الطائع لله قبضه بهاء الدولة وهو الطائع لله أبو كر عبد الكريم بن الفضل المطيع لله بن جعفر المقتدر بالله بن المعتضد بالله ابن أبي أحمد الموفق بن المتوكل‏.‏

وكان سبب ذلك أن الأمير بهاء الدولة قلت عنده الأموال فكثر شغب الجند فقبض على وزيره سابور فلم يغن عنه ذلك شيئًا‏.‏

وكان أبو الحسن بن المعلم قد غلب على بهاء الدولة وحكم في مملكته فحسن له القبض على الطائع وأطمعه في ماله وهون عليه ذلك وسهله فأقدم عليه بهاء الدولة وأرسل إلى الطائع وسأله الإذن في الحضور في خدمته ليجدد العهد به فأذن له في ذلك وجلس له كما جرت العادة فدخل بهاء الدولة ومعه جمع كثير فلما دخل قبل الأرض وأجلس على كرسي فدخل بعض الديلم كأنه يريد أن يقبل يد الخليفة فجذبه فأنزله عن سريره والخليفة يقول‏:‏ ‏{‏إنا لله وإنا إليه راجعون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 156‏]‏‏.‏ ‏!‏ وهو يستغيث ولا يلتفت إليه وأخذ ما في دار الخليفة من الذخائر فمشوا به في الحال ونهب الناس بعضهم بعضًا وكان من جملتهم الشريف الرضي فبادر بالخروج فسلم وقال من بعد ما كان ربّ الملك مبتسمًا إليّ أدنوه في النجوى ويدنيني أمسيت أرحم من قد كنت أغبطه لقد تقارب بين العزّ والهون ومنظرٌ كان بالسّراء يضحكني يا قرب ما عاد بالضّراء يبكيني هيهات أغترّ بالسّلطان ثانيةً قد ضلّ ولاّج أبواب السلاطين ولما حمل الطائع إلى دار بهاء الدولة أشهد عليه بالخلع وكان مدة خلافته سبع عشرة سنة وثمانية شهور وستة أيام وحمل إلى القادر بالله لما ولي الخلافة فبقي عنده إلى أن توفي سنة ثلاث وتسعين ليلة الفطر وصلى عليه القادر بالله وكبر عليه خمسًا‏.‏

وكان مولده سنة سبع عشرة وثلاثمائة وكان أبيض مربوعًا حسن الجسم وكان أنفه كبيرًا جدًا وكان شديد القوة كثير الإقدام اسم أمه عتب وعاشت إلى أن أدركت أيامه ولم يكن له من الحكم في ولايته ما يعرف به حال يستدل به على سيرته‏.‏

ذكر خلافة القادر بالله لما قبض على الطائع لله

ذكر بهاء الدولة من يصلح للخلافة فاتفقوا على القادر بالله وهو أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر بن المعتضد وأمه أم ولد اسمها دمنة وقيل تمنى وكان بالبطيحة كما ذكرناه فأرسل إليه بهاء الدولة خواص أصحابه ليحضروه إلى بغداد ليتولى الخلافة فانحدروا إليه وشغب الديلم ببغداد ومنعوا من الخطبة فقيل على المنبر‏:‏ اللهم أصلح عبدك وخليفتك القادر بالله ولم يذكروا اسمه وأرضاهم بهاء الدولة‏.‏

ولما وصل الرسل إلى القادر بالله كان تلك الساعة يحكي منامًا رآه تلك الليلة وهو ما حكاه هبة الله بن عيسى كاتب مهذب الدولة قال‏:‏ كنت أحضر عند القادر بالله كل أسبوع مرتين فكان يكرمني فدخلت عليه يومًا فوجدته قد تأهب تأهبًا لم تجر به عادته ولم أر منه ما ألفته من إكرامه واختلفت بي الظنون فسألته عن سبب ذلك فإن كان لزلة مني اعتذرت عن نفسي‏.‏

فقال‏:‏ بل رأيت البارحة في منامي كأن نهركم هذا نهر الصليق قد اتسع فصار مثل دجلة دفعات فسرت على حافته متعجبًا منه ورأيت قنطرة عظيمة فقلت‏:‏ من قد حدث نفسه بعمل هذه القنطرة على هذا البحر العظيم ثم صعدتها وهي محكمة فبينا أنا عليها أتعجب منها إذ رأيت شخصًا قد تأملني من ذلك الجانب فقال‏:‏ أتريد أن تعبر قلت نعم فمد يده حتى وصلت إلي فأخذني وعبرني فهالني وتعاظمني فعله قلت‏:‏ من أنت قال‏:‏ علي بن أبي طالب وهذا الأمر صائر إليك ويطول عمرك فيه فأحسن إلى ولدي وشيعتي‏.‏

فما انتهى القادر إلى هذا القول حتى سمعنا صياح الملاحين وغيرهم وسألنا عن ذلك وإذا هم الواردون إليه لإصعاده ليتولى الخلافة فخاطبته بإمرة المؤمنين وبايعته وقام مهذب الدولة بخدمته أحسن قيام وحمل إليه من المال وغيره ما يحمله كبار الملوك للخلفاء وشيعه‏.‏

فسار القادر بالله إلى بغداد فلما دخل جبل انحدر بهاء الدولة وأعيان الناس لاستقباله وساروا في خدمته فدخل دار الخلافة ثاني عشر رمضان وبايعه بهاء الدولة والناس وخطب له ثالث عشر رمضان وجدد أمر الخلافة وعظم ناموسها وسيرد من أخباره إن شاء الله تعالى وما يعلم به ذلك وحمل إليه بعض ما نهب من دار الخلافة وكانت مدة مقامه في البطيحة سنتين وأحد عشر شهرًا ولم يخطب له في جميع خراسان كانت الخطبة فيها للطائع لله‏.‏

ذكر ملك خلف بن أحمد كرمان

في هذه السنة أنفذ خلف بن أحمد صاحب سجستان وهو ابن بانوا بنت عمرو بن الليث الصفار ابنه عمرًا إلى كرمان فملكها‏.‏

وكان سبب ذلك أنه كان لما قوي أمره وجمع الأموال الكثيرة حدث نفسه بملك كرمان ولم يتهيأ له ذلك لهدنة كانت بينه وبين عضد الدولة‏.‏

فلما مات عضد الدولة وملك شرف الدولة واستقر أمره وانتظم وأمن ملكه لم يتحرك بشيء من ذلك‏.‏

فلما توفي شرف الدولة واضطرب ملوك بني بويه ووقع الخلف بين صمصام الدولة وبهاء الدولة قوي طمعه وانتهز الفرصة وجهز ولده عمرًا وسيره في عسكر كثير إلى كرمان وبها قائد يقال له تمرتاش كان قد استعمله شرف الدولة فلم يشعر تمرتاش إلا وعمرو قد قاربه فلم يكن له ولمن معه حيلة إلا الدخول إلى بردسير وحملوا ما أمكنهم حمله وغنم عمروا الباقي وملك كرمان ما عدا بردسير وصادر الناس وجبى الأموال‏.‏

فلما وصل الخبر إلى صمصام الدولة وهو صاحب فارس جهز العساكر وسيرها إلى تمرتاش وقدم عليهم قائدًا يقال له أبو جعفر وأمره بالقبض على تمرتاش عند الاجتماع به لأنه اتهمه بالميل إلى أخيه بهاء الدولة‏.‏

فسار أبو جعفر فلما اجتمع بتمرتاش أنزله عنده بعلة الاجتماع على ما يفعلانه‏!‏ وقبض عليه وحمله إلى شيراز فسار أبو جعفر بالعسكر جميعه يقصد عمرو ابن خلف ليحاربه فالتقوا بدارزين واقتتلوا فانهزم أبو جعفر والديلم وعادوا على طريق جيرفت‏.‏

وبلغ الخبر إلى صمصام الدولة وأصحابه فانزعجوا لذلك ثم اجمعوا أمرهم على إنفاذ العباس بن أحمد في عسكر أكثر من الأول فسيروه في عدد كثير وعدة ظاهرة فسار حتى بلغ عمرًا فالتقوا بقرب السيرجان واقتتلوا فكانت الهزيمة على عمرو بن خلف وأسر جماعة من قواده وأصحابه وكان هذا في المحرم سنة اثنتين وثمانين وعاد عمرو إلى أبيه بسجستان مهزومًا فلما

دخل عليه لامه ووبخه ثم حبسه أيامًا ثم قتله بين يديه وتولى غسله والصلاة عليه ودفنه في القلعة‏.‏

فسبحان الله ما كان أقسى قلب هذا الرجل مع علمه ومعرفته‏!‏ ثم إن صمصام الدولة عزل العباس عن كرمان واستعمل عليها أستاذ هرمز فلما وصل إلى كرمان خافه خلف بن أحمد فكاتبه في تجديد الصلح واعتذر عن فعله فاستقر الصلح وأنفذ خلف قاضيًا كان بسجستان يعرف بأبي يوسف كان له قبول عند العامة والخاصة ووضع عليه إنسانًا يكون معه وأمره أن يسقيه سمًا إذا صار عند أستاذ هرمز ويعود مسرعًا ويشيع بأن أستاذ هرمز قتله‏.‏

فسار أبو يوسف إلى كرمان فصنع له أستاذ هرمز طعامًا فحضره وأكل منه فلما عاد إلى منزله سقاه ذلك الرجل سمًا فمات منه وركب جمازة وسار مجدًا إلى خلف فجمع له خلف وجوه الناس ليسمعوا له فذكر أن أستاذ هرمز قتل القاضي أبا يوسف وبكى خلف وأظهر الجزع عليه ونادى في الناس بغزو كرمان والأخذ بثأر أبي يوسف فاجتمع الناس واحتشدوا فسيرهم مع ولده طاهر فوصلوا إلى نرماسير وبها عسكر الديلم فهزموهم وأخذوا البلد منهم‏.‏

ولحق الديلم بجيرفت فاجتمعوا بها وجعلوا ببردسير من يحميها وهي أصل بلاد كرمان ومصرها فقصدها طاهر وحصرها ثلاثة أشهر فضاق بأهلها وكتبوا إلى أستاذ هرمز يعلمونه حالهم وأنه إن لم يدركهم سلموا البلد‏.‏

فركب الخطر وسار مجدًا في مضايق وجبال وعرة حتى أتى بردسير فلما وصل إليها رحل طاهر ومن معه عنها وعادوا إلى سجستان واستقرت كرمان للديلم وكان ذلك سنة أربع وثمانين وثلاثمائة‏.‏

ذكر عصيان بكجور على سعد الدولة بن حمدان وقتله

لما وصل بكجور إلى الرقة منهزمًا من عساكر مصر بدمشق وأقام على ما ذكرناه واستولى على الرحلة وما يجاور الرقة راسل الملك بهاء الدولة ابن بويه بالانضمام إليه وكاتب أيضًا باذًا الكردي المتغلب على ديار بكر والموصل بالمسير إليه وراسل سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب بأن يعود إلى طاعته على قاعدته الأولى ويقطعه منه مدينة حمص كما كانت له فليس فيهم من أجابه إلى شيء مما طلب فبقي في الرقة يراسل جماعة رفقاء من مماليك سعد الدولة ويستميلهم فأجابوه إلى الموافقة على قصد بلد سعد الدولة وأخبروه أنه مشغول بلذاته وشهواته عن تدبير الملك فأرسل حينئذ بكجور إلى العزيز بالله صاحب مصر يطمعه في حلب ويقول له إنها دهليز العراق ومتى أخذت كان ما بعدها أسهل منها ويطلب الإنجاد بالعساكر‏.‏

فأجابه العزيز إلى ذلك وأرسل إلى نزال والي طرابلس وإلى ولاة غيرها من البلاد الشامية يأمرهم بتجهيز العساكر مع نزال إلى بكجور والتصرف على ما يأمرهم به من قتال سعد الدولة وقصد بلاده‏.‏

وكتب عيسى بن نسطورس النصراني وزير العزيز إلى نزال يأمره بمدافعة بكجور وإطماعه في المسير إليه فإذا تورط في قصد سعد الدولة تخلى عنه‏.‏

وكان السبب في فعل عيسى هذا ببكجور أنه كان بينه وبين بكجور عداوة مستحكمة وولي الوزارة بعد وفاة ابن كلس فكتب إلى نزال ما ذكرناه‏.‏

فلما وصل أمر العزيز إلى نزال بإنجاد بكجور كتب إليه يعرفه ما أمر به من نجدته بنفسه وبالعساكر معه وقال له بكجور‏:‏ مسيرك عن الرقة يوم كذا ومسيري أنا عن طرابلس يوم كذا ويكون اجتماعنا على حلب يوم كذا وتابع رسله إليه بذلك فسار مغترًا بقوله إلى بالس فامتنعت عليه فحصرها خمسة أيام فلم يظفر بها فسار عنها‏.‏

وبلغ الخبر بمسير بكجور إلى سعد الدولة فسار عن حلب ومعه لؤلؤ الكبير ومولى أبيه سيف الدولة وكتب إلى بكجور يستميله ويدعوه إلى الموادعة ورعاية حق الرق والعبودية ويبذل له أن يقطعه من الرقة إلى حمص فلم يقبل منه ذلك‏.‏

وكان سعد الدولة قد كاتب الوالي بأنطاكية لملك الروم يستنجده فسير إليه جيشًا كثيرًا من الروم وكاتب أيضًا من مع بكجور من العرب يرغبهم في الإقطاع والعطاء الكثير والعفو عن مساعدتهم بكجور فمالوا إليه ووعدوه الهزيمة بين يديه فلما التقى العسكران اقتتلوا واشتد القتال فلما اختلط الناس في الحرب وشغل بعضهم ببعض عطف العرب على سواد بكجور فنهبوه واستأمنوا إلى سعد الدولة فلما رأى بكجور ذلك اختار من شجعان أصحابه أربعمائة رجل وعزم على أ يقصد موقف سعد الدولة ويلقي نفسه عليه فإما له وإما عليه فهرب واحد ممن حضر الحال إلى لؤلؤ الكبير وعرفه ذلك فطلب لؤلؤ من سعد الدولة أن يتحرك من موقفه ويقف مكانه فأجابه إلى ذلك بعد امتناع‏.‏

فحمل بكجور ومن معه فوصلوا إلى موقف لؤلؤ بعد قتال شديد عج الناس منه واستعظموه كلهم فلما رأى لؤلؤًا ألقى نفسه عليه وهو يظنه سعد الدولة فضربه على رأسه فسقط إلى الأرض فظهر حينئذ سعد الدولة وعاد إلى موقفه ففرح به أصحابه وقويت نفوسهم وأحاطوا ببكجور وصدقوه القتال فمضى منهزمًا هو وعامة أصحابه وتفرقوا وبقي منهم معه سبعة أنفس وكثر القتل والأسر في الباقين‏.‏

ولما طال الشوط ببكجور ألقى سلاحه وسار فوقف فرسه فنزل عنه وسار راجلًا فلحقه نفر من العرب فأخذوا ما عليه وقصد بعض العرب فنزل عليه وعرفه نفسه وضمن له حمل بعير ذهبًا ليوصله إلى الرقة فلم يصدقه لبخله المشهور عنه فتركه في بيته وتوجه إلى سعد الدولة فعرفه أن بكجور عنده فحكمه سعد الدولة في مطالبه فطلب مائتي فدان ملكًا ومائة ألف درهم ومائة جمل تحمل له حنطة وخمسين قطعة ثيابًا فأعطاه ذلك أجمع وزيادة وسير معه سرية فتسلموا بكجور وأحضروه عند سعد الدولة فلما رآه أمر بقتله فقتل ولقي عاقبة بغيه وكفره‏.‏

إحسان مولاه‏.‏

فلما قتله سعد الدولة سار إلى الرقة فنازلها وبها سلامة الرشيقي ومعه أولاد بكجور وأبو الحسن علي بن الحسين المغربي وزير بكجور فسلموا البلد إليه بأمان وعهود أكدوها وأخذوها عليه لأولاد بكجور وأموالهم وللوزير المغربي ولسلامة الرشيقي ولأموالهم فلما خرج أولاد بكجور بأموالهم رأى سعد الدولة ما معهم فاستعظمه واستكثره‏.‏

وكان عند القاضي ابن أبي الحصين فقال سعد الدولة‏:‏ ما كنت أظن أن بكجور يملك هذا جميعه فقال له القاضي‏:‏ لم لا تأخذه فهو لكلأنه مملوك لا يملك شيئًا ولا حرج عليك ولا حنث‏.‏

فلما سمع هذا أخذ المال جميعه وقبض عليهم وهرب الوزير المغربي إلى مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام وكتب أولاد بكجور إلى العزيز يسألونه الشفاعة فيهم فأرسل إليه يشفع فيهم ويأمره أن يسيرهم إلى مصر ويتهدده إن لم يفعل‏.‏

فأهان الرسول وقال له‏:‏ قل لصاحبك أنا سائر إليك‏.‏

وسير مقدمته إلى حمص ليلحقهم‏.‏ فلما برز سعد الدولة ليسير إلى دمشق لحقه قولنج فعاد إلى حلب ليتداوى فزال ما به وعوفي وعزم على العود إلى معسكره وحضر عند إحدى سراريه فواقعها فسقط عنها وقد فلج وبطل نصفه فاستدعى الطبيب فقال له‏:‏ أعطني يدك لآخذ محبسك فأعطاه اليسرى فقال‏:‏ أعطني اليمين فقال‏:‏ لا تركت لي اليمين يمينًا يعني نكثه بأولاد بكجور هو الذي أهلكه وقد ذكر ذلك وندم عليه حيث لم تنفعه الندامة وعاش بعد ذلك ثلاثة أيام ومات بعد أن عهد إلى ولده أبي الفضائل وصى إلى لؤلؤ به وبسائر أهله‏.‏

فلما توفي قام أبو الفضائل وأخذ له لؤلؤ العهد على الأجناد وتراجعت العساكر إلى حلب‏.‏

وكان الوزير أبو الحسن المغربي قد سار من مشهد علي عليه السلام إلى العزيز بمصر وأطمعه في حلب فسير جيشًا وعليهم منجوتكين أحد أمرائه إلى حلب فسار إليها في جيش كثيف فحصرها وبها أبو الفضائل ولؤلؤ فكتبا إلى بسيل ملك الروم يستنجدانه وهو يقاتل البلغار فأرسل بسيل إلى نائبه بأنطاكية يأمره بإنجاد أبي الفضائل فسار في خمسين ألفًا حتى نزل على الجسر الجديد بالعاصي فلما سمع منجوتكين الخبر سار إلى الروم ليلقاهم قبل اجتماعهم بأبي الفضائل وعبر إليهم العاصي وأوقعوا بالروم فهزموهم وولوا الأدبار إلى إنطاكية وكثر القتل فيهم‏.‏

وسار منجوتكين إلى إنطاكية فنهب بلدها وقراها وأحرقها وأنفذ أبو الفضائل إلى بلد حلب فنقل ما فيه من الغلال وأحرق الباقي إضرارًا بعساكر مصر وعاد منجوتكين إلى حلب فحصرها فأرسل لؤلؤ إلى أبي الحسن المغربي وغيرهم وبذل لهم مالًا ليردوا منجوتكين عنهم هذه السنة بعلة تعذر الأقوات ففعلوا ذلك وكان منجوتكين قد ضجر من الحرب فأجابهم إليه وسار إلى دمشق‏.‏

ولما بلغ الخبر إلى العزيز غضب وكتب بعود العسكر إلى حلب وإبعاد المغربي وأنفذ الأقوات من مصر في البحر إلى طرابلس ومنها إلى العسكر فنازل العسكر حلب وأقاموا عليها ثلاثة عشر شهرًا فقلت الأقوات بحلب‏.‏

وعاد إلى مراسلة ملك الروم والاعتضاد به وقال له‏:‏ متى أخذت حلب أخذت إنطاكية وعظم عليك الخطب‏.‏

وكان قد توسط بلاد البلغار فعاد وجد في السير وكان الزمان ربيعًا وعسكر مصر قد أرسل إلى منجوتكين يعرفه الحال وأتته جواسيسه بمثل ذلك فأخرب ما كان بناه من سوق وحمام وغير ذلك وسار كالمنهزم عن حلب ووصل ملك الروم فنزل على باب حلب وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ وعاد إلى حلب ورحل بسيل إلى الشام ففتح حمص وشيزر ونهبهما وسار إلى طرابلس فنازلها فامتنعت عليه وأقام عليها نيفًا وأربعين يومًا فلما ولما بلغ الخبر إلى العزيز عظم عليه ونادى في الناس بالنفير لغزو الروم وبرز من القاهرة وحدث به أمراض منعته وأدركه الموت على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة عزل المنصور صاحب إفريقية نائبه في البلاد يوسف واستعمل بعده على البلاد أبا عبدالله محمد بن أبي العرب‏.‏

وفيها توفي القائد جوهر بعد عزله وجوهر هذا هو الذي فتح مصر للمعز العلوي‏.‏

وفيها قبض بهاء الدولة على وزيره أبي نصر سابور بالأهواز واستوزر أبا القاسم عبد العزيز بن يوسف‏.‏

وفيها أيضًا قبض بهاء الدولة على أبي نصر خواشاذه وأبي عبدالله بن طاهر بعد عوده من خوزستان وكان سب قبضهما أن أبا نصر كان شحيحًا فلم يواصل ابن المعلم بخدمه وهداياه فشرع في القبض عليه‏.‏

وفيها هرب فولاذ زماندر من عند صمصام الدولة إلى الري وكان سبب هربه أنه تحكم على صمصام الدولة تحكمًا عظيمًا أنف منه فأراد القبض عليه فعلم به فهرب منه‏.‏

وفيها كتب أهل الرحبة إلى بهاء الدولة يطلبون إنفاذ من يسلمون إليه الرحبة فأنفذ خمارتكين الحفصي إلى الرحبة فتسلمها وسار منها إلى الرقة وبها بدر غلام سعد الدولة بن حمدان فجرت بينهما وقعات فلم يظفر بها وبلغه اختلاف ببغداد فعاد فخرج عليه بعض العرب فأخذوه أسيرًا ثم افتدى منهم بمال كثير‏.‏

وفيها حلف بهاء الدولة للقادر بالله على الطاعة والقيام بشروط البيعة وحلف له القادر بالوفاء والخلوص وأشهد عليه أنه قلده ما وراء بابه‏.‏

وفيها كثرت الفتن بين العامة ببغداد وزالت هيبة السلطنة وتكرر الحريق في المحال واستمر الفساد‏.‏

وفيها توفي قاضي القضاة عبيدالله بن أحمد بن معروف أبو محمد ومولده سنة ست وثلاثمائة وكان فاضلًا عفيفًا نزيهًا وكان معتزليًا ومحمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم بن زاذان أبو بكر المعروف بابن المقري الأصبهاني وله ست وتسعون سنة وهو راوي مسند أبي يعلى الموصلي عنه‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة

كان بهاء الدولة قد أنفذا أبا جعفر الحجاج بن هرمز في عسكر كثير إلى الموصل فملكها آخر سنة إحدى وثمانين فاجتمعت عقيل وأميرهم أبو الذواد محمد بن المسيب على حربه فجرى بينهم عدة وقائع ظهر من أبي جعفر فيها بأس شديد حتى إنه كان يضع له كرسيًا بين الصفين ويجلس عليه فهابه العرب واستمد من بهاء الدولة عسكرًا فأمده بالوزير أبي القاسم علي بن أحمد وكان مسيره أول هذه السنة فلما وصل إلى العسكر كتب بهاء الدولة إلى أبي جعفر بالقبض عليه فعلم أبو جعفر إنه إن قبض عليه اختلف العسكر وظفر به العرب فتراجع في أمره‏.‏

وكان سبب ذلك أن ابن المعلم كان عدوًا له فسعى به عند بهاء الدولة فأمر بقبضه وكان بهاء الدولة أذنًا يسمع ما يقال له ويفعل به وعلم الوزير الخبر فشرع في صلح أبي الذواد وأخذ رهائنه والعود إلى بغداد فأشار عليه أصحابه باللحاق بأبي الذواد فلم يفعل أنفةً وحسن عهدٍ فلما وصل إلى بغداد رأى ابن المعلم قد قبض وقتل وكفي شره‏.‏

ولما أتاه خبر قبض ابن المعلم وقتله ظهر عليه الانكسار فقال له خواصه‏:‏ ما هذا الهم وقد كفيت شر عدوك فقال‏:‏ إن ملكًا قرب رجلًا كما قرب بهاء الدولة ابن المعلم ثم فعل به هذا لحقيق بأن تخاف ملابسته‏.‏

وكان بهاء الدولة قد أرسل الشريف أبا أحمد الموسوي رسولًا إلى أبي الذواد فأسره العرب ثم أطلقوه فورد إلى الموصل وانحدر إلى بغداد‏.‏

ذكر تسليم الطائع إلى القادر وما فعله معه

في هذه السنة في رجب سلم بهاء الدولة الطائع لله إلى القادر بالله فأنزله حجرةً من خاص حجره ووكل به من ثقات خدمه من يقوم بخدمته وأحسن ضيافته وكان يطلب الزيادة في الخدمة كما كان أيام الخلافة فيؤمر له بذلك‏.‏

حكي عنه أن القادر بالله أرسل إليه طيبًا فقال‏:‏ من هذا يتطيب أبو العباس يعني القادر فقالوا‏:‏ نعم‏!‏ فقال‏:‏ قولوا له عني‏:‏ في الموضع الفلاني كندوج أستعمله فليرسل إلي بعضه ويأخذ الباقي لنفسه‏.‏ ففعل ذلك‏.‏

وأرسل إليه يومًا القادر بالله عدسية فقال‏:‏ ما هذا فقالوا‏:‏ عدس وسلق فقال‏:‏ أوقد أكل أبو العباس من هذا نعم قال‏:‏ له عني‏:‏ لما أردت أن تأكل عدسية لم اختفيت فما كانت العدسية تعوزك ولم تقلدت هذا الأمر فأمر حينئذ القادر أن يفرد له جارية من طباخاته تطبخ له ما يلتمسه كل يوم فأقام على هذا إلى أن توفي‏.‏

في هذه السنة قبض بهاء الدولة على أبي الحسن بن المعلم وكان قد استولى على الأمور كلها وخدمه الناس كلهم حتى الوزراء فأساء السيرة مع الناس فشغب الجند في هذا الوقت وشكوا منه وطلبوا منه تسليمه إليهم فراجعهم بهاء الدولة ووعدهم كف يده عنهم فلم يقبلوا منه فقبض عليه وعلى جميع أصحابه فظن أن الجند يرجعون فلم يرجعوا فسلمه إليهم فسقوه السم مرتين فلم يعمل فيه شيئًا فخنقوه ودفنوه‏.‏

وفيها في شوال تجددت الفتنة بين أهل الكرخ وغيرهم واشتد الحال فركب أبو الفتح محمد بن الحسن الحاجب فقتل وصلب فسكن البلد‏.‏

وفيها غلت الأسعار ببغداد فبيع رطل الخبز بأربعين درهمًا‏.‏

وفيها قبض بهاء الدولة على وزيره أبي القاسم علي بن أحمد المذكور وكان سبب قبضه أن بهاء الدولة اتهمه بمكاتبة الجند في أمر ابن المعلم واستوزر أبا نصر بن سابور وأبا منصور بن صالحان جمع بينهما في الوزارة‏.‏

وفيها قبض صمصام الدولة على وزيره أبي القاسم العلاء بن الحسن بشيراز وكان غالبًا على أمره وبقي محبوسًا إلى سنة ثلاث وثمانين فأخرجه صمصام الدولة واستوزره وكان يدبر الأمر مدة حبسه أبو القاسم المدلجي‏.‏

وفيها نزل ملك الروم بأرمينية وحصر خلاط وملازكرد وأرجيش فضعفت نفوس الناس عنه ثم هادنه أبو علي الحسن بن مروان مدة عشر سنين وعاد ملك الروم‏.‏

وفيها في شوال ولد الأمير أبو الفضل بن القادر بالله‏.‏

وفيها سار بغراخان ايلك ملك الترك بعساكره إلى بخارى فسير الأمير نوح بن منصور جيشًا كثيرًا ولقيهم ايلك وهزمهم فعادوا إلى بخارى مفلولين وهو في أثرهم فخرج نوح بنفسه وسائر عسكره ولقيه فاقتتلوا قتالًا شديدًا وأجلت المعركة عن هزيمة ايلك فعاد منهزمًا إلى بلاساغون وهي كرسي مملكته‏.‏

وفيها توفي أبو عمرو محمد بن العباس بن حسنويه الخزار ومولده سنة خمس وتسعين ومائتين‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة

ذكر خروج أولاد بختيار

في هذه السنة ظهر أولاد بختيار من محبسهم واستولوا على القلعة التي كانوا معتقلين بها‏.‏

وكان سبب حبسهم أن شرف الدولة أحسن إليهم بعد والده وأطلقهم وأنزلهم بشيراز وأقطعهم فلما مات شرف الدولة حبسوا في قلعة ببلاد فارس فاستمالوا مستحفظها ومن معه من الديلم فأفرجوا عنهم وأنفذوا إلى أهل تلك النواحي وأكثرهم رجالة فجمعوهم تحت القلعة‏.‏

وعرف صمصام الدولة الحال فسير أبا علي بن أستاذ هرمز في عسكر فلما قاربهم تفرق من معهم من الرجالة وتحصن بنو بختيار وكانوا ستة ومن معهم من الديلم بالقلعة وحصرهم أبو علي وراسل أحد وجوه الديلم وأطمعه في الإحسان فأصعدهم إلى القلعة سرًا فملكوها وأخذوا أولاد بختيار أسراء فأمر صمصام الدولة بقتل اثنين منهم وحبس الباقين ففعل ذلك بهم‏.‏

ذكر ملك صمصام الدولة خوزستان

في هذه السنة ملك صمصام الدولة خوزستان‏.‏

وكان سبب نقض الصلح أن بهاء الدولة سير أبا العلاء عبدالله بن الفضل إلى الأهواز وتقدم إليه بأن يكون مستعدًا لقصد بلاد فارس وأعلمه أنه يسير إليه العساكر متفرقين فإذا اجتمعوا عنده سار بهم إلى بلاد فارس بغتةً فلا يشعر صمصام الدولة إلا وهم معه في بلاده‏.‏

فسار أبو العلاء ولم يتهيأ لبهاء الدولة إمداده بالعساكر وظهر الخبر فجهز صمصام الدولة عسكره وسيرهم إلى خوزستان وكتب أبو العلاء إلى بهاء الدولة بالخبر وبطلب إمداده بالعساكر فسير إليه عسكرًا كثيرًا ووصلت عساكر فارس فلقيهم أبو العلاء فانهزم هو وأصحابه وأخذ أسيرًا وحمل إلى صمصام الدولة فألبس ثيابًا مصبغة وطيف به وسألت فيه والدة صمصام الدولة فلم يقتله واعتقله‏.‏

ولما سمع بهاء الدولة بذلك أزعجه وأقلقه وكانت خزانته قد خلت من الأموال فأرسل وزيره أبا نصر بن سابور إلى واسط ليحصل ما أمنه وأعطاه رهونًا من الجواهر والأعلاق النفسية ليقترض عليها من مهذب الدولة صاحب البطيحة فلما وصل إلى واسط تقرب منها إلى مهذب الدولة وترك ما معه من الرهون بحاله وأرسل بهاء الدولة ورهنها واقترض عليها‏.‏

ذكر ملك الترك بخارى

في هذه السنة ملك مدينة بخارى شهاب الدولة هارون بن سليمان ايلك المعروف ببغراخان التركي وكان له كاشغر وبلاساغون إلى حد الصين‏.‏

وكان سبب ذلك أن أبا الحسن بن سيمجور لما مات وولي ابنه أبو علي خراسان بعده كاتب الأمير الرضي نوح بن منصور يطلب أن يقره على ما كان أبوه يتولاه فأجيب إلى ذلك وحملت إليه الخلع وهو لا يشك أنها له فلما بلغ الرسول طريق هراة عدل إليها وبها فائق فأوصل الخلع والعهد بخراسان إليه فعلم أبو علي أنهم مكروا به وأن هذا دليل سوء يريدونه به فلبس فائق الخلع وسار عن هراة نحو أبي علي فبلغه الخبر فسار جريدة في نخبة أصحابه وطوى المنازل حتى سبق خبره فأوقع بفائق فيما بين بوشنج وهراة فهزم فائقًا وأصحابه وقصدوا مرو الروذ‏.‏

وكتب أبو علي إلى الأمير نوح يجدد طلب ولاية خراسان فأجابه إلى ذلك وجمع له ولاية خراسان جميعها بعد أن كانت هراة لفائق فعاد أبو علي إلى نيسابور ظافرًا وجبى أموال خراسان فكتب إليه نوح يستنزله عن بعضها ليصرفه في أرزاق جنده فاعتذر إليه ولم يفعل وخاف عاقبة المنع فكتب إلى بغراخان المذكور يدعوه إلى أن يقصد بخارى ويملكها على السامانية وأطمعه فيهم واستقر الحال بينهما على أن يملك بغراخان ما وراء النهر كله ويملك أبو علي خراسان فطمع بغراخان في البلاد وتجدد له إليها حركة‏.‏

وأما فائق فإنه أقام بمرو الروذ حتى انجبر كسره واجتمع إليه أصحابه وسار نحو بخارى من غير إذن فارتاب الأمير نوح به فسير إليه الجيوش وأمرهم بمنعه فلما لقوه قاتلوه فانهزم فائق وأصحابه وعاد على عقبيه وقصد ترمذ‏.‏

فكتب الأمير نوح إلى صاحب الجوزجان من قبله وهو أبو الحرث أحمد بن محمد الفريغوني وأمره بقصد فائق فجمع جمعًا كثيرًا وسار نحوه وكاتب أيضًا بغراخان يطمعه في البلاد فسار نحو بخارى وقصد بلاد السامانية فاستولى عليها شيئًا بعد شيء‏.‏

فسير إليه نوح جيشًا كثيرًا واستعمل عليهم قائدًا كبيرًا من قواده اسمه انج فلقيهم بغراخان فهزمهم وأسر انج وجماعة من القواد فلما ظفر بهم قوي طمعه في البلاد وضعف نوح وأصحابه وكاتب الأمير نوح أبا علي بن سيمجور يستنصره ويأمره بالقدوم إليه بالعساكر فلم يجبه إلى ذلك ولا لبى دعوته وقوي طمعه في الاستيلاء على خراسان‏.‏

وسار بغراخان نحو بخارى فلقيه فائق واختص به وصار في جملته ونازلوا بخارى فاختفى الأمير نوح وملكها بغراخان ونزلها وخرج نوح منها مستخفيًا فعبر النهر إلى آمل الشط وأقام بها ولحق به أصحابه فاجتمع عنده منهم جمع كثير وأقاموا هناك‏.‏

وتابع نوحٌ كتبه إلى أبي علي ورسله يستنجده ويخضع له فلم يصغ إلى ذلك‏.‏

وأما فائق فإنه استأذن بغراخان في قصد بلخ والاستيلاء عليها فأمره بذلك فسار نحوها ونزلها‏.‏

ذكر عود نوح إلى بخارى وموت بغراخان

لما نزل بغراخان بخارى وأقام بها استوخمها فلحقه مرض ثقيل فانتقل عنها نحو بلاد الترك

فلما فارقها ثار أهلها بساقة عسكره ففتكوا بهم وغنموا أموالهم ووافقهم الأتراك الغزية على النهب والقتل لعسكر بغراخان‏.‏

فلما سار بغراخان عن بخارى أدركه أجله فمات ولما سمع الأمير نوح بمسيره عن بخارى بادر إليها فيمن معه من أصحابه فدخلها وعاد إلى دار ملكه وملك آبائه وفرح أهلها به وتباشروا بقدومه‏.‏

وأما بغراخان فإنه لما مات عاد أصحابه إلى بلادهم وكان دينًا خيرًا عادلًا حسن السيرة محبًا للعلماء وأهل الدين مكرمًا لهم وكان يحب أن يكتب عنه‏:‏ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي أمر الترك بعده أيلك خان‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة كثر شغب الديلم على بهاء الدولة ونهبوا دار الوزير أبي نصر ابن سابور واختفى منهم واستعفى ابن صالحان من الأنفراد بالوزارة فأعفي واستوزر أبا القاسم علي بن أحمد ثم هرب وعاد سابور إلى الوزارة بعد أن أصلح الديلم‏.‏

وفيها جلس القادر بالله لأهل خراسان بعد عودهم من الحج وقال لهم في معنى الخطبة له

وفيها عقد النكاح للقادر على بنت بهاء الدولة بصداق مبلغه مائة ألف دينار وكان العقد بحضرته والولي النقيب أبو أحمد الحسين بن موسى والد الرضي وماتت قبل النقلة‏.‏

وفيها كان بالعراق غلاء شديد فبيعت كارة الدقيق بمائتين وستين درهمًا وكر الحنطة بستة آلاف وستمائة درهم غياتية‏.‏

وفيها بنى أبو نصر سابور بن أردشير ببغداد دارًا للعلم ووقف فيها كتبًا كثيرة على المسلمين المنتفعين بها‏.‏

وفيها توفي أبو الحسن علي بن محمد بن سهل الماسرجسي الفقيه الشافعي شيخ أبي الطيب الطبري بنيسابور وأبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي الشاعر‏.‏

وأبو طالب عبد السلام بن الحسن المأموني وهو من أولاد المأمون وكان فاضلًا حسن الشعر‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وثمانين وثلاثمائة

ذكر ولاية محمود بن سبكتكين خراسان وإجلاء أبي علي عنها

في هذه السنة ولى الأمير نوح محمود بن سبكتكين خراسان وكان سبب ذلك أن نوحًا لما عاد إلى بخارى على ما تقدم ذكره سقط في يد أبي علي وأما فائق فإنه لما استقر نوح ببخارى حدث نفسه بالمسير إليه والاستيلاء عليه والحكم في دولته فسار عن بلخ إلى بخارى‏.‏

فلما علم نوح بذلك سير إليه الجيوش لترده عن ذلك فلقوه واقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم فائق وأصحابه ولحقوا بأبي علي ففرح بهم وقوي جنانه بقربهم واتفقوا على مكاشفة الأمير نوح بالعصيان فلما فعلوا ذلك كتب الأمير نوح إلى سبكتكين وهو حينئذ بغزنة يعرفه الحال ويأمره بالمسير إليه لينجده وولاه خراسان‏.‏

وكان سبكتكين في هذه الفتن مشغولًا بالغزو غير ملتفت إلى ما هم فيه فلما أتاه كتاب نوح ورسوله أجابه إلى ما أراد وسار نحو جريدة واجتمع به وقررا بينهما ما يفعلانه وعاد سبكتكين فجمع العساكر وحشد‏.‏

فلما بلغ أبا علي وفائقًا الخبر جمعا وراسلا فخر الدولة بن بويه يستنجدانه ويطلبان منه عسكرًا فأجابهما إلى ذلك وسير إليهما عسكرًا كثيرًا وكان وزيره الصاحب بن عباد هو الذي قرر القاعدة في ذلك‏.‏

وسار سبكتكين من غزنة ومعه ولده محمود نحو خراسان وسار نوح فاجتمع هو وسبكتكين فقصدوا أبا علي وفائقًا فالتقوا بنواحي هراة واقتتلوا فانحاز دارا بن قابوس بن وشمكير من عسكر أبي علي إلى نوح ومعه أصحابه فانهزم أصحاب أبي علي وركبهم أصحاب سبكتكين يأسرون ويقتلون ويغنمون وعاد أبو علي وفائق نحو نيسابور وأقام سبكتكين ونوح بظاهر هراة حتى استراحوا وساروا نحو نيسابور فلما علم بهم أبو علي سار هو وفائق نحو جرجان وكتبا إلى فخر الدولة بخبرهما فأرسل إليهما الهدايا والتحف والأموال وأنزلهما بجرجان‏.‏

واستولى نوح على نيسابور واستعمل عليها وعلى جيوش خراسان محمود بن سبكتكين ولقبه سيف الدولة ولقب أباه سبكتكين ناصر الدولة فأحسنا السيرة وعاد نوح إلى بخارى وسبكتكين إلى هراة وأقام محمود بنيسابور‏.‏

ذكر عود الأهواز إلى بهاء الدولة

في هذه السنة ملك بهاء الدولة الأهواز‏.‏ وكان سببه أنه أنفذ عسكرًا إليها عدتهم سبع مائة رجل وقدم عليهم طغان التركي فلما بلغوا السوس رحل عنها أصحاب صمصام الدولة فدخلها عسكر بهاء الدولة وانتشروا في أعمال خوزستان وكان أكثرهم من الترك فعلت كلمتهم على الديلم وتوجه صمصام الدولة إلى الأهواز ومعه عساكر الديلم وتميم وأسد‏.‏

فلما بلغ تستر رحل ليلًا ليكبس الأتراك من عسكر بهاء الدولة فضل الأدلاء في الطريق فأصبح على بعدٍ منهم ورأتهم طلائع الأتراك فعادوا بالخبر فحذروا واجتمعوا واصطفوا وجعل مقدمهم واسمه طغان كمينًا فلما التقوا واقتتلوا خرج الكمين على الديلم فكانت الهزيمة وانهزم صمصام الدولة ومن معه من الديلم وكانوا ألوفًا كثيرة واستأمن منهم أكثر من ألفي رجل وغنم الأتراك من أثقالهم شيئًا كثيرًا‏.‏

وضرب طغان للمستأمنة خيمًا يسكنونها فلما نزلوا اجتمع الأتراك وتشاوروا وقالوا‏:‏ هؤلاء أكثر من عدتنا ونحن نخاف أن يثوروا بنا واستقر رأيهم على قتلهم فلم يشعر الديلم إلا وقد ألقيت الخيام عليهم ووقع الأتراك فيهم بالعمد حتى أتوا عليهم فقتلوا كلهم‏.‏

وورد الخبر على بهاء الدولة وهو بواسط قد اقترض مالًا من مهذب الدولة فلما سمع ذلك سار إلى الأهواز وكان طغان والأتراك قد ملكوها قبل وصوله إليها‏.‏

وأما صمصام الدولة فإنه لبس السواد وسار إلى شيراز فدخلها فغيرت والدته ما عليه من السواد وأقام يتجهز للعود إلى أخيه بهاء الدولة بخوزستان‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة عقد النكاح لمهذب الدولة على ابنة بهاء الدولة وللأمير أبي منصور بويه بن بهاء الدولة على ابنة مهذب الدولة وكان الصداق من كل جانب مائة ألف دينار‏.‏

وفيها عاد الحجاج من الثعلبية ولم يحج من العراق والشام أحد وسبب عودهم أن الأصيفر أمير العرب اعترضهم وقال‏:‏ إن الدراهم التي أرسلها السلطان عام أول كانت نقرة مطلية وأريد العوض فطالت المخاطبة والمراسلة وضاق الوقت على الحجاج فرجعوا‏.‏

وفيها توفي أبو القاسم النقيب الزينبي وولي النقابة بعده ابنه أبو الحسن‏.‏

وفيها ولي نقابة الطالبيين أبو الحسن النهرسابسي وعزل عنها أبو أحمد الموسوي وكان ينوب عنه فيها ابناه المرتضى والرضي‏.‏

وفيها توفي عبدالله بن محمد بن نافع بن مكرم أبو العباس البستي الزاهد وكان من الصالحين حج من نيسابور ماشيًا وبقي سبعين سنة لا يستند إلى حائط ولا إلى مخدة وعلي بن الحسين بن جموية بن زيد أبو الحسين الصوفي سمع الحديث وحدث وصحب أبا الخير الأقطع وغيره وعلي ابن عيسى بن علي بن عبدالله أبو الحسن النحوي المعروف بالرماني ومولده سنة ست وتسعين ومائتين روى عن أبن دريد وغيره وله تفسير كبير ومحمد بن العباس بن أحمد بن القزاز أبو الحسن سمع الكثير وكتب الكثير وخطه حجة في صحة النقل وجودة الضبط وأبو عبيدالله محمد بن عمران المرزباني الكاتب والمحسن بن علي بن علي بن محمد بن أبي الفهم أبو علي التنوخي القاضي ومولده سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وكان فاضلًا‏.‏

وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الكاتب المشهور وكان عمره إحدى وتسعين سنة وكان قد زمن وضاقت به الأمور وقلت عليه الأموال‏.‏

وفيها اشتد أمر العيارين ببغداد ووقعت الفتنة بين أهل الكرخ وأهل باب البصرة واحترق كثير من المحال ثم اصطلحوا‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وثمانين وثلاثمائة

ذكر عود أبي علي إلى خراسان

لما عاد الأمير نوح إلى بخارى وسبكتكين إلى هراة وبقي محمود بنيسابور طمع أبو علي وفائق في خراسان فسارا عن جرجان إلى نيسابور في ربيع الأول فلما بلغ محمودًا خبرهما كتب إلى أبيه بذلك وبرز هو فنزل بظاهر نيسابور وأقام ينتظر المدد فأعجلاه فصبر لهما فقاتلاه وكان في قلة من الرجال فانهزم عنهما نحو أبيه وغنم أصحابهما منه شيئًا كثيرًا وأشار أصحاب أبي علي عليه باتباعه وإعجاله ووالده عن الجميع والاحتشاد فلم يفعل وأقام بنيسابور وكاتب الأمير نوحًا يستميله ويستقيل من عثرته وزلته وكذلك كاتب سبكتكين بمثل ذلك وأحال بما جرى على فائق فلم يجيباه إلى ما أراد‏.‏

وجمع سبكتكين العساكر فأتوه على كل صعبٍ وذلولٍ وسار نحو أبي علي فالتقوا بطوس في جمادى الآخرة فاقتتلوا عامة يومهم وأتاهم محمود بن سبكتكين في عسكر ضخم من ورائهم فانهزموا وقتل من أصحابهم خلق كثير ونجا أبو علي وفائق فقصدا أبيورد فتبعهم سبكتكين واستخلف ابنه محمودًا بنيسابور فقصدا مرو ثم آمل الشط وراسلا الأمير نوحًا يستعطفانه فأجاب أبا علي إلى ما طلب من قبول عذره إن فارق فائقًا ونزل بالجرجانية ففعل ذلك فحذره فائق وخوفه من مكيدتهم به ومكرهم فلم يلتفت لأمر يريده الله عز وجل ففارق فائقًا وسار نحو الجرجانية فنزل بقرية بقرب خوارزم تسمى هزار أس فأرسل إليه أبو عبدالله خوارزمشاه من أقام له ضيافة ووعده أنه يقصده ليجتمع به فسكن إلى ذلك‏.‏

فلما كان الليل أرسل إليه خوارزمشاه جمعًا من عسكره فأحاطوا به وأخذوه أسيرًا في رمضان من هذه السنة فاعتقله في بعض دوره وطلب أصحابه فأسر أعيانهم وتفرق الباقون‏.‏

وأما فائق فإنه سار إلى ايلك خان بما وراء النهر فأكرمه وعظمه ووعده أن يعيده إلى قاعدته وكتب إلى نوح يشفع في فائق وأن يولى سمرقند فأجابه إلى ذلك وأقام بها‏.‏

ذكر خلاص أبي علي

لما أسر أبو علي بلغ خبره إلى مأمون بن محمد والي الجرجانية فقلق لذلك وعظم عليه وجمع عساكره وسار نحو خوارزمشاه وعبر إلى كاث وهي مدينة خوارزمشاه فحصروها وقاتلوها وفتحوها عنوةً وأسروا أبا عبدالله خورازمشاه وأحضروا أبا علي ففكوا عنه قيده وأخذوه وعادوا إلى الجرجانية واستخلف مأمون بخوارزم بعض أصحابه وصارت في جملة ما بيده وأحضر خوارزمشاه وقتله بين يدي أبي علي بن سيمجور‏.‏

ذكر قبض أبي علي بن سيمجور وموته

لما حصل أبو علي عند مأمون بن محمد بالجرجانية كتب إلى الأمير نوح يشفع فيه ويسأل الصفح عنه فأجيب إلى ذلك وأمر أبا علي بالمسير إلى بخارى فسار إليها فيمن بقي معه من أهله وأصحابه فلما بلغوا بخارى لقيهم الأمراء والعساكر فلما دخلوا على الأمير نوح أمر بالقبض عليهم‏.‏

وبلغ سبكتكين أن ابن عزير وزير الأمير نوح يسعى في خلاص أبي علي فأرسل إليه يطلب أبا علي إليه فحبسه فمات في حبسه سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وكان ذلك خاتمة أمره وآخر حال بيت سيمجور جزاءً لكفران إحسان مولاهم فتبارك الحي الدائم الباقي الذي لا يزول ملكه‏.‏

وكان ابنه أبو الحسن قد لحق بفخر الدولة بن بويه فأحسن إليه وأكرمه فسار عنه سرًا إلى خراسان لهوىً كان له بها وظن أن أمره يخفى فظهر حاله فأخذ أسيرًا وسجن عند والده‏.‏

وأما أبو القاسم أخو أبي علي فإنه أقام في خدمة سبكتكين مدة يسيرة ثم ظهر منه خلاف الطاعة وقصد نيسابور فلم يتم له ما أراد وعاد محمود ابن سبكتكين إليه فهرب منه وقصد فخر الدولة وبقي عنده وسيرد باقي أخباره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر وفاة الصاحب بن عباد

في هذه السنة مات الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد وزير فخر الدولة بالري وكان واحد زمانه علمًا وفضلًا وتدبيرًا وجودة رأي وكرمًا عالمًا بأنواع العلوم عارفًا بالكتابة وموادها ورسائله مشهورة مدونة وجمع من الكتب ما لم يجمعه غيره حتى إنه كان يحتاج في نقلها إلى أربع مائة جمل‏.‏

ولما مات وزر بعده لفخر الدولة أبو العباس أحمد بن إبراهيم الضبي الملقب بالكافي‏.‏

ولما حضره الموت قال لفخر الدولة‏:‏ قد خدمتك خدمةً استفرغت فيها وسعي وسرت سيرةً جلبت لك حسن الذكر فإن أجريت الأمور على ما كانت عليه نسب ذلك الجميل إليك وتركت أنا وإن عدلت عنه كنت أنا المشكور ونسبت الطريقة الثانية إليك وقدح ذلك في دولتك‏.‏

فكان هذا نصحه له إلى أن مات‏.‏

فلما توفي أنفذ فخر الدولة من احتاط على ماله وداره ونقل جميع ما فيها إليه فقبح الله خدمة الملوك هذا فعلهم مع من نصح لهم فكيف مع غيره‏!‏ ونقل الصاحب بعد ذلك إلى أصبهان وكثير ما بين فعل فخر الدولة مع ابن عباد وبين العزيز بالله العلوي مع وزيره يعقوب بن كلس وقد تقدم‏.‏

وكان الصاحب بن عباد قد أحسن إلى القاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي وقدمه وولاه قضاء الري وأعمالها فلما توفي قال عبد الجبار‏:‏ لا أرى الترحم عليه لأنه مات عن غير توبة ظهرت منه فنسب عبد الجبار إلى قلة الوفاء‏.‏

ثم إن فخر الدولة قبض على عبد الجبار وصادره فباع في جملة ما باع ألف طيلسان وألف ثوب صوف رفيع فلم لا نظر لنفسه وتاب عن أخذ مثل هذا واذخاره من غير حله ثم إن فخر الدولة قبض على أصحاب ابن عباد وأبطل كل مسامحة كانت منه وقرر هو ووزراؤه المصادرات في البلاد فاجتمع له منها شيء كثير ثم تمزق بعد وفاته في أقرب مدة وحصل بالوزر وسوء الذكر‏.‏

ذكر إيقاع صمصام الدولة بالأتراك

في هذه السنة أمر صمصام الدولة بقتل من بفارس من الأتراك فقتل منهم جماعة وهرب الباقون فعاثوا في البلاد وانصرفوا إلى كرمان ثم منها إلى بلاد السند واستأذنوا ملكها في دخول بلاده فأذن لهم وخرج إلى تلقيهم ووافق أصحابه على الإيقاع بهم فلما رآهم جعل أصحابه صفين فلما حصل الأتراك في وسطهم أطبقوا عليهم وقتلوهم فلم يفلت منهم إلا نفر جرحى وقعوا بين القتلى وهربوا تحت الليل‏.‏

ذكر وفاة خواشاذه

في هذه السنة توفي أبو نصر خواشاذه بالبطائح وكان قد هرب إليها بعد أن قبض وكاتبه بهاء الدولة وفخر الدولة وصمصام الدولة وبدر بن حسنويه كل منهم يستدعيه ويبذل له ما يريده وقال له فخر الدولة‏:‏ لعلك تسيء الظن بما قدمته في خدمة عضد الدولة وما كنا لنؤاخذك بطاعة من قدمك ومناصحته وقد علمت ما عملته مع الصاحب بن عباد وتركنا ما فعله معنا‏.‏

فعزم على قصده فأدركه أجله قبل ذلك وتوفي وكان من أعيان قواد عضد الدولة‏.‏

ذكر عود عسكر صمصام الدولة إلى الأهواز

في هذه السنة جهز صمصام الدولة عسكره من الديلم وردهم إلى الأهواز مع العلاء بن الحسن واتفق أن طغان نائب بهاء الدولة بالأهواز توفي وعزم من معه من الأتراك على العود إلى بغداد وكتب من هناك إلى بهاء الدولة بالخبر فأقلقه ذلك وأزعجه فسير أبا كاليجار المرزبان بن شهفيروز إلى الأهواز نائبًا عنه وأنفذ أبا محمد الحسن بن مكرم إلى الفتكين وهو برامهرمز قد عاد من بين يدي عسكر صمصام الدولة إليها يأمره بالمقام بموضعه فلم يفعل وعاد إلى الأهواز فكتب إلى أبي محمد بن مكرم بالنظر في الأعمال وسار بعدهم بهاء الدولة نحو خوزستان فكاتبه العلاء وسلك طريق اللين والخداع‏.‏

ثم سار على نهر المسرقان إلى أن حصل بخان طوق ووقعت الحرب بينه وبين أبي محمد بن مكرم والفتكين وزحف الديلم بين البساتين حتى دخلوا البلد وانزاح عنه ابن مكرم والفتكين وكتبا إلى بهاء الدولة يشيران عليه بالعبور إليها فتوقف عن ذلك ووعدهما به وسير إليهما

ثمانين غلامًا من الأتراك فعبروا وحملوا على الديلم من خلفهم فأفرج لهم الديلم فلما توسطوا بينهم أطبقوا عليهم فقتلوهم‏.‏

فلما عرف بهاء الدولة ذلك ضعفت نفسه وعزم على العود ولم يظهر ذلك فأمر بإسراج الخيل وحمل السلاح ففعل ذلك وسار نحو الأهواز يسيرًا ثم عاد إلى البصرة فنزل بظاهرها‏.‏

فلما عرف ابن مكرم خبر بهاء الدولة عاد إلى عسكر مكرم وتبعهم العلاء والديلم فأجلوهم عنها فنزلوا براملان بين عسكر مكرم وتستر وتكررت الوقائع بين الفريقين مدةً‏.‏

وكان بيد الأتراك أصحاب بهاء الدولة من تستر إلى رامهرمز ومع الديلم منها إلى أرجان وأقاموا ستة أشهر ثم رجعوا إلى الأهواز ثم عبر بهم النهر إلى الديلم واقتتلوا نحو شهرين ثم رحل الأتراك وتبعهم العلاء فوجدهم قد سلكوا طريق واسط فكف عنهم وأقام بعسكر مكرم‏.‏ ‏   ‏  ‏ ‏ ‏