المجلد السابع - ذكر حادثة غريبة بالأندلس

في هذه السنة سير المنصور محمد بن أبي عامر أمير الأندلس لهشام المؤيد عسكرًا إلى بلاد الفرنج للغزاة فنالوا منهم وغنموا وأوغلوا في ديارهم وأسروا غرسية وهو ملك للفرنج ابن ملك من ملوكهم يقال له شانجة وكان من أعظم ملوكهم وأمنعهم وكان من القدر أن شاعرًا للمنصور يقال له أبو العلاء صاعد بن الحسن الربعي قد قصده من بلاد الموصل وأقام عنده وامتدحه قبل هذا التاريخ فلما كان الآن أهدى أبو العلاء إلى المنصور أيلًا وكتب معه أبياتًا منها‏:‏ يا حرز كلّ مخوّفٍ وأمان كلّ مشرّدٍ ومعزّ كلّ مذلّل جدواك إن تخصص به فلأهله وتعمّ بالإحسان كلّ مؤمّل يقول فيها‏:‏ مولاي مؤنس غربتي متخطّفي من ظفر أيّامي ممنّع معقلي عبدٌ رفعت بضبعه وغرسته في نعمةٍ أهدى إليك بأيّل سمّيته غرسيّة وبعثته في حبله ليتاح فيه تفاؤلي فلئن قبلت فتلك أسنى نعمةٍ أسدى بها ذو نعمةٍ وتطوّل فسمى هذا الشاعر الأيل غرسية تفاؤلًا بأسر ذلك غرسية فكان أسره في اليوم الذي أهدى فيه الأيل فانظر إلى هذا الاتفاق ما أعجبه‏.‏

في هذه السنة ورد الوزير أبو القاسم علي بن أحمد الأبرقوهي من البطيحة إلى بهاء الدولة بعد عوده من خوزستان وكان قد التجأ إلى مهذب الدولة فأرسل بهاء الدولة يطلبه ليستوزره فحضر عنده فلم يتم له ذلك فعاد إلى البطيحة وكان الفاضل وزير بهاء الدولة معه بواسط فلما علم الحال استأذن في الإصعاد إلى بغداد فأذن له فأصعد فعاد بهاء الدولة وطلبه ليرجع إليه فغالطه ولم يعد‏.‏

و في هذه السنة في ذي الحجة توفي أبو حفص عمر بن أحمد بن محمد ابن أيوب المعروف بابن شاهين الواعظ مولده في صفر سنة سبع وتسعين ومائتين وكان مكثرًا من الحديث ثقةً‏.‏

وفيها في ذي القعدة توفي الإمام أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي المعروف بالدارقطني الإمام المشهور‏.‏

وفيها في ربيع الأول توفي محمد بن عبدالله بن سكرة الهاشمي من ولد علي بن المهدي بالله وكان منحرفًا عن علي بن أبي طالب عليه السلام وكان خبيث اللسان يتقى سفهه ومن جيد شعره‏:‏ في وجه إنسانةٍ كلفت بها أربعةٌ ما اجتمعن في أحد الوجه بدرٌ والصدغ غاليةٌ والرّيق خمرٌ والثّغر من برد

وفيها توفي يوسف بن عمر بن مسروق أبو الفتح القواس الزاهد في ربيع الأول وله خمس وخمسون سنة‏.‏

ثم دخلت سنة ست وثمانين وثلاثمائة

ذكر وفاة العزيز بالله وولاية ابنه الحاكم

وما كان من الحروب إلى أن استقر أمره في هذه السنة توفي العزيز أبو منصور نزال بن المعز أبي تميم معد العلوي صاحب مصر لليلتين بقيتا من رمضان وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر ونصف بمدينة بلبيس وكان برز إليها لغزو الروم فلحقه عدة أمراض منها النقرس والحصا والقولنج فاتصلت به إلى أن مات‏.‏

وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفًا ومولده بالمهدية من إفريقية‏.‏

وكان أسمر طويلًا أصهب الشعر عريض المنكبين عارفًا بالخيل والجوهر قيل إنه ولى عيسى بن نسطورس النصراني كتابته واستناب بالشام يهوديًا اسمه منشا فاعتز بهما النصارى وإليهود وآذوا المسلمين فعمد أهل مصر وكتبوا قصة وجعلوها في يد صورة عملوها من قراطيس فيها‏:‏ بالذي أعز إليهود بمنشا والنصارى بعيسى بن نسطورس وأذل المسلمين بك إلا كشفت ظلامتي وأقعدوا تلك الصورة على طريق العزيز والرقعة بيدها فلما رآها أمر بأخذها فلما قرأ ما فيها ورأى الصورة من قراطيس علم ما أريد بذلك فقبض عليهما وأخذ من عيسى ثلاثمائة ألف دينار ومن إليهودي شيئًا كثيرًا‏.‏

وكان يحب العفو ويستعمله فمن حلمه أنه كان بمصر شاعر اسمه الحسن ابن بشر الدمشقي وكان كثير الهجاء فهجا يعقوب بن كلس وزير العزيز وكاتب الإنشاء من جهته أبا نصر عبدالله الحسين القيرواني فقال‏:‏ قل لأبي نصرٍ صاحب القصر والمتأتّي لنقض ذا الأمر انقض عرى الملك للوزير تفز منه بحسن الثناء والذكر وأعط وامنع ولا تخف أحدًا فصاحب القصر ليس في القصر وليس يدري ماذا يراد به وهو إذا ما درى فما يدري فشكاه ابن كلس إلى العزيز وأنشده الشعر فقال له‏:‏ هذا شيء اشتركنا فيه في الهجاء فشاركني في العفو عنه‏.‏

ثم قال هذا الشاعر أيضًا وعرض بالفضل القائد‏:‏

تنصّر فالتنصّر دين حقٍّ ** عليــه زماننا هذا يــدلّ

وقل بثلاثةٍ عزّوا وجلّوا ** وعطّل ما سـواهم فهو عطل

فشكاه أيضًا إلى العزيز فامتعض منه إلا أنه قال‏:‏ اعف عنه فعفا عنه‏.‏

ثم دخل الوزير على العزيز فقال‏:‏ لم يبق للعفو عن هذا معنىً وفيه غضٌّ من السياسة ونقضٌ لهيبة الملك فإنه قد ذكرك وذكرني وذكر ابن زبارج نديمك وسبك بقوله‏:‏ زبارجيٌّ نديمٌ وكلّسيٌّ وزير نعم على قدو الكلب يصلح الساجور فغضب العزيز وأمر بالقبض عليه فقبض عليه لوقته ثم بدا العزيز إطلاقه فأرسل إليه يستدعيه وكان للوزير عين في القصر فأخبره بذلك فأمر بقتله فقتل‏.‏

فلما وصل رسول العزيز في طلبه أراه رأسه مقطوعًا فعاد إليه فأخبره فاغتم له‏.‏

ولما مات العزيز ولي بعده ابنه أبو علي المنصور ولقب الحاكم بأمر الله بعهد من أبيه فولي وعمره إحدى عشرة سنة وستة أشهر وأوصى العزيز إلى أرجوان الخادم وكان يتولى أمر داره وجعله مدبر دولة ابنه الحاكم فقام بأمره وبايع له وأخذ له البيعة على الناس وتقدم الحسن ابن عمار شيخ كتامة وسيدها وحكم في دولته واستولى عليها وتلقب بأمين الدولة وهو أول من تلقب في دولة العلويين المصريين فأشار عليه ثقاته بقتل الحاكم وقالوا‏:‏ لا حاجة بنا إلى من يتعبدنا فلم يفعل احتقارًا له واستصغارًا لسنه‏.‏

وانبسطت كتامة في البلاد وحكموا فيها ومدوا أيديهم إلى أموال الرعية وحريمهم وأرجوان مقيم مع الحاكم في القصر يحرسه واتفق معه شكر خادم عضد الدولة وقد ذكرنا قبض شرف الدولة عليه ومسيره إلى مصر فلما اتفقا وصارت كلمتهما واحدة كتب أرجوان إلى منجوتكين يشكو ما يتم عليه من ابن عمار فتجهز وسار من دمشق نحو مصر فوصل الخبر إلى ابن عمار فأظهر أن منجوتكين قد عصى على الحاكم وندب العساكر إلى قتاله وسير إليه جيشًا كثيرًا وجعل عليهم أبا تميم سليمان بن جعفر بن فلاح الكتامي فساروا إليه فلقوه بعسقلان فانهزم منجوتكين وأصحابه وقتل منهم ألفا رجل وأسر منجوتكين وحمل إلى مصر فأبقى عليه ابن عمار وأطلقه استمالةً للمشارقة بذلك‏.‏

واستعمل ابن عمار على الشام أبا تميم الكتامي واسمه سليمان بن جعفر فسار إلى طبرية فاستعمل على دمشق أخاه عليًا فامتنع أهلها عليه فكاتبهم أبو تميم يتهددهم فخافوا وأذعنوا بالطاعة واعتذروا من فعل سفهائهم وخرجوا إلى علي فلم يعبأ بهم وركب ودخل البلد فأحرق وقتل وعاد إلى عسكره‏.‏

وقدم عليهم أبو تميم فأحسن إليهم وأمنهم وأطلق المحبسين ونظر في أمر الساحل واستعمل أخاه عليًا على طرابلس وعزل عنها جيش بن الصمصامة الكتامي فمضى إلى مصر واجتمع مع أرجوان على الحسن بن عمار فانتهز أرجوان الفرصة ببعد كتامة عن مصر مع أبي تميم فبلغ ذلك ابن عمار فعمل على الإيقاع بأرجوان وشكر العضدي فأخبرهما عيون لهما على ابن عمار بذلك فاحتاطا ودخلا قصر الحاكم باكين وثارت الفتنة واجتمعت المشارقة ففرق فيهم المال وواقعوا ابن عمار ومن معه فانهزم واختفى‏.‏

فلما ظفر أرجوان أظهر الحاكم وأجلسه وجدد له البيعة وكتب إلى وجوه القواد والناس بدمشق بالإيقاع بأبي تميم فلم يشعر إلا وقد هجموا عليه ونهبوا خزائنه فخرج هاربًا وقتلوا من كان عنده من كتامة وعادت الفتنة بدمشق واستولى الأحداث‏.‏

ثم إن أرجوان أذن للحسن بن عمار في الخروج من استتاره وأجراه على إقطاعه وأمره بإغلاق بابه‏.‏

وعصى أهل صور وأمروا عليهم رجلًا ملاحًا يعرف بعلاقة وعصى أيضًا المفرج بن دغفل بن الجراح ونزل على الرملة وعاث في البلاد‏.‏

واتفق أن الدوقس صاحب الروم نزل على حصن أفامية فأخرج أرجوان جيش بن الصمصامة في عسكر ضخم فسار حتى نزل بالرملة فأطاعه وإليها وظفر فيها بأبي تميم فقبض عليه وسير عسكرًا إلى صور وعليهم أبو عبدالله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان فغزاها برًا وبحرًا‏.‏

فأرسل علاقة إلى ملك الروم يستنجده فسير إليه عدة مراكب مشحونة بالرجال فالتقوا بمراكب المسلمين على صور فاقتتلوا وظفر المسلمون وانهزم الروم وقتل منهم جمع فلما انهزموا انخذل أهل صور وضعفت نفوسهم فملك البلد أبو عبدالله بن حمدان ونهبه وأخذت الأموال وقتل كثير من جنده وكان أول فتح كان على يد أرجوان وأخذ علاقة أسيرًا فسيره إلى مصر فسلخ وصلب بها وأقام بصور وسار جيش بن الصمصامة لقصد المفرج ابن دغفل فهرب من بين يديه وأرسل يطلب العفو فأمنه‏.‏

وسار جيش أيضًا إلى عسكر الروم فلما وصل إلى دمشق تلقاه أهلها مذعنين فأحسن إلى رؤساء الأحداث وأطلق المؤن وأباح دم كل مغربي يتعرض لأهلها فاطمأنوا إليه‏.‏

وسار إلى أفامية فصاف الروم عندها فانهزم هو وأصحابه ما عدا بشارة الإخشيدي فإن ثبت في خمسمائة فارس‏.‏

ونزل الروم إلى سواد المسلمين يغنمون ما فيه والدوقس واقف على رايته وبين يديه ولده وعدة غلمان فقصده كردي يعرف بأحمد بن الضحاك من أصحاب بشارة ومعه خشت فظنه الدوقس مستأمنًا فلم يحترز منه فلما دنا منه حمل عليه وضربه بالخشت فقتله فصاح المسلمون‏:‏ قتل عدو الله‏!‏ وعادوا ونزل النصر عليهم فانهزمت الروم وقتل منهم مقتلة عظيمة‏.‏

وسار جيش إلى باب إنطاكية يغنم ويسبي ويحرق وعاد إلى دمشق فنزل بظاهرها وكان الزمان شتاء فسأله أهل دمشق ليدخل البلد فلم يفعل ونزل ببيت لهيا وأحسن السيرة في أهل دمشق واستخص رؤساء الأحداث واستحجب جماعة منهم وجعل يبسط الطعام كل يوم لهم ولمن يجيء معهم من أصحابهم فكان يحضر كل إنسان منهم في جمع من أصحابه وأشياعه وأمرهم إذا فرغوا من الطعام أن يحضروا إلى حجرة له يغسلون أيديهم فيها فعبر على ذلك برهة من الزمان فأمر أصحابه أن رؤساء الأحداث إذا دخلوا الحجرة لغسل أيديهم أن يغلقوا باب الحجرة عليهم ويضعوا السيف في أصحابهم فلما كان الغد حضروا الطعام وقام الرؤساء إلى الحجرة فأغلقت الأبواب عليهم وقتل من أصحابهم نحو ثلاثة آلاف رجل ودخل دمشق فطافها فاستغاث الناس وسألوه العفو وعفا عنهم وأحضر أشراف أهلها وقتل رؤساء الأحداث بين أيديهم وسير الأشراف إلى مصر وأخذ أموالهم ونعمهم ثم مرض بالبواسير وشدة الضربان فمات‏.‏

وولي بعده ابنه محمد وكانت ولايته هذه تسعة أشهر ثم إن أرجوان بعد هذه الحادثة راسل بسيل ملك الروم وهادنه عشر سنين واستقامت الأمور على يد أرجوان‏.‏

وسير أيضًا جيشًا إلى برقة وطرابلس الغرب ففتحها واستعمل عليها أنسًا الصقلبي ونصح الحاكم وبالغ في ذلك ولازم خدمته فثقل مكانه على الحاكم فقتله سنة تسع وثمانين‏.‏

وكان خصيًا أبيض وكان لأرجوان وزير نصراني اسمه فهد بن إبراهيم فاستوزره الحاكم ثم إن الحاكم رتب الحسين بن جوهر موضع أرجوان ولقبه قائد القواد ثم قتل الحسن بن عمار المقدم ذكره ثم قتل الحسين بن جوهر ولم يزل يقيم الوزير بعد الوزير ويقتلهم‏.‏

ثم جهز يارختكين للمسير إلى حلب وحصرها وسير معه العساكر الكثيرة فسار عنها فخافه حسان بن المفرج الطائي فلما رحل من غزة إلى عسقلان كمن له حسان ووالده وأوقعا به وبمن معه وأسراه وقتلاه وقتل من الفريقين قتلى كثيرة وحصرا الرملة ونهبا النواحي وكثر جمعهما وملكا الرملة وما والاها فعظم ذلك على الحاكم وأرسل يعاتبهما وسبق السيف العذل فأرسلا إلى الشريف أبي الفتوح الحسن بن جعفر العلوي الحسني أمير مكة وخاطباه بأمير المؤمنين وطلباه إليهما ليبايعا له بالخلافة فحضر واستناب بمكة وخوطب بالخلافة‏.‏

ثم إن الحاكم راسل حسانًا وأباه وضمن لهما الإقطاع الكثيرة والعطاء الجزير واستمالهما فعدلا عن أبي الفتوح ورداه إلى مكة وعادا إلى طاعة الحاكم‏.‏

ثم إن الحاكم جهز عسكرًا إلى الشام واستعمل عليهم علي بن جعفر بن فلاح فلما وصل إلى الرملة أزاح حسان بن الفمرج وعشيرته عن تلك الأرض وأخذ ما كان له من الحصون بجبل الشراة واستولى على أمواله وذخائره وسار إلى دمشق واليًا عليها فوصل إليها في شوال سنة وأما حسان فإنه بقي شريدًا نحو سنتين ثم أرسل والده إلى الحاكم فأمنه وأقطعه فسار حسان إليه بمصر فأكرمه وأحسن إليه وكان المفرج والد حسان قد توفي مسمومًا وضع الحاكم عليه من سمه فبموته ضعف أمر حسان على ما ذكرناه‏.‏

ذكر استيلاء عسكر صمصام الدولة على البصرة

في هذه السنة سار قائد كبير من قواد صمصام الدولة اسمه لشكرستان إلى البصرة فأجلى عنها نواب بهاء الدولة‏.‏

وسبب ذلك أن الأتراك لما عادوا عن العلاء كما ذكرناه كان لشكرستان هذا مع العلاء فأتاهم من الديلم الذين مع بهاء الدولة أربعمائة رجل مستأمنين فأخذهم لشكرستان وسار بهم وبمن معه إلى البصرة فكثر جمعه فنزلوا قرب البصرة بين البساتين يقاتلون أصحاب بهاء الدولة ومال الأيهم بعض أهل البصرة ومقدمهم أبو الحسن بن أبي جعفر العلوي وكانوا يحملون إليهم الميرة‏.‏

وعلم بهاء الدولة بذلك فأنفذ من يقبض عليهم فهرب كثير منهم إلى لشكرستان فقوي بهم وجمعوا السفن وحملوه فيها ونزلوا إلى البصرة فقاتلوا أصحاب بهاء الدولة بها وأخرجوهم عنها وملك لشكرستان البصرة وقتل من أهلها كثيرًا وهرب كثير منهم وأخذ كثيرًا من أموالهم‏.‏

فكتب بهاء الدولة إلى مهذب الدولة صاحب البطيحة يقول‏:‏ أنت أحق بالبصرة‏.‏

فسير إليها جيشًا مع عبدالله بن مرزوق فأجلى لشكرستان عن البصرة فقيل‏:‏ إنه سار عن البصرة بغير حرب ودخلها ابن مرزوق‏.‏

وقيل‏:‏ إنما فارقها بعد أن حارب فيها وضعف عن المقام بين يديه‏.‏

وصفت البصرة لمهذب الدولة‏.‏

ثم إن لشكرستان عمل على العود إلى البصرة فهجم عليها في السفن ونزل أصحابه بسوق الطعام واقتتلوا فاستظهر لشكرستان وكاتب بهاء الدولة يطلب المصالحة ويبذل الطاعة ويخطب له بالبصرة فأجابه مهذب الدولة إلى ذلك وأخذ ابنه رهينة‏.‏

وكان لشكرستان يظهر طاعة صمصام الدولة وبهاء الدولة ومهذب الدولة وعسف أهل البصرة مدة فتفرقوا ثم إنه أحسن إليهم وعدل فيهم فعادوا‏.‏

ذكر ولاية المقلد الموصل

في هذه السنة ملك المقلد بن المسيب مدينة الموصل‏.‏

وكان سبب ذلك أن أخاه أبا الذواد توفي هذه السنة فطمع المقلد في الإمارة فلم تساعده عقيل على ذلك وقلدوا أخاه عليًا لأنه أكبر منه فأسرع المقلد واستمال الديلم الذين كانوا مع أبي جعفر الحجاج بالموصل فمال إليه بعضهم وكتب إلى بهاء الدولة قد ولاه الموصل وسأله مساعدته على أبي جعفر لأنه قد منعه عنها فساروا ونزلوا على الموصل فخرج إليهم كل من استماله المقلد من الديلم وضعف الحجاج وطلب منهم الأمان فأمنوه وواعدهم يومًا يخرج إليهم فيه‏.‏

ثم إنه انحدر في السفن قبل ذلك اليوم فلم يشعروا به إلا بعد انحداره فتبعوه فلم ينالوا منه شيئًا ونجا بماله منهم وسار إلى بهاء الدولة ودخل المقلد البلد واستقر الأمر بينه وبين أخيه على أن يخطب لهما ويقدم علي لكبره ويكون له معه نائب يجبي المال واشتركا في البلد والولاية وسار علي إلى البر وأقام المقلد وجرى الأمر على ذلك مديدةً ثم تشاجروا واختصموا وكان ما نذكره إن شاء الله‏.‏

وكان المقلد يتولى حماية غربي الفرات من أرض العراق وكان له ببغداد نائب فيه تهور فجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة مشاجرة فكتب إلى المقلد يشكو فانحدر من الموصل في عساكره وجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة حرب انهزموا فيها وكتب إلى بهاء الدولة وكان بهاء الدولة مشغولًا بمن يقاتله من عسكر أخيه فاضطر إلى المغالطة ومد المقلد يده فأخذ الأموال فبرز نائب بهاء الدولة ببغداد وهو حينئذ أبو علي بن إسماعيل وخرج إلى حرب المقلد فبلغ الخبر إليه فأنفذ أصحابه ليلًا فاقتتلوا وعادوا إلى المقلد فلما بلغ الخبر إلى بهاء الدولة بمجيء أصحاب المقلد إلى بغداد أنفذ أبا جعفر الحجاج إلى بغداد وأمره بمصالحة المقلد والقبض على أبي علي بن إسماعيل فسار إلى بغداد في آخر ذي الحجة فلما وصل إليها راسله المقلد في الصلح فاصطلحا على أن يحمل إلى بهاء الدولة عشرة آلاف دينار ولا يأخذ من البلاد إلا رسم الحماية ويخطب لأبي جعفر بعد بهاء الدولة وأن يخلع على المقلد الخلع السلطانية ويلقب بحسام الدولة ويقطع الموصل والكوفة والقصر والجامعين واستقر الأمر على ذلك وجلس القادر بالله له‏.‏

ولم يف المقلد من ذلك بشيء إلا بحمل المال واستولى على البلاد ومد يده في المال وقصده المتصرفون والأماثل وعظم قدره وقبض أبو جعفر على أبي علي ثم هرب أبو علي نائب بهاء الدولة واستتر وسار إلى البطيحة مستترًا ملتجئًا إلى مهذب الدولة‏.‏

ذكر وفاة المنصور بن يوسف

في هذه السنة توفي المنصور بن يوسف بلكين أمير إفريقية أوائل ربيع الأول خارج صبرة ودفن بقصره‏.‏

وكان ملكًا كريمًا شجاعًا حازمًا ولم يزل مظفرًا منصورًا حسن السيرة محبًا للعدل والرعية أوسعهم عدلًا وأسقط البقايا عن أهل إفريقية وكانت مالًا جليلًا‏.‏

ولما توفي ولي بعده ابنه باديس ويكنى أبا مناد فلما استقر في الأمر سار إلى سردانية وأتاه الناس من كل ناحية للتعزية والتهنئة وأراد بنو زيري أعمام أبيه أن يخالفوا عليه فمنعهم أصحاب أبيه وأصحابه‏.‏

وكان مولد باديس سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وأتته الخلع والعهد بالولاية من الحاكم بأمر الله من مصر فقرئ العهد وبايع للحاكم هو وجماعة بني عمه والأعيان من القواد‏.‏

وفيها ثار على باديس رجل صنهاجيٌ اسمه خليفة بن مبارك فأخذ وحمل إلى باديس فأركب حمارًا وجعل خلفه رجل أسود يصفعه وطيف به ولم يقتل احتقارًا له وسجن‏.‏

وفيها استعمل باديس عمه حماد بن يوسف بلكين على أشير وأقطعه إياه وأعطاه من الخيل والسلاح والعدد شيئًا كثيرًا فخرج إليها وحماد هذا هو جد بني حماد الذين كانوا ملوك إفريقية والقلعة المنسوبة إليهم مشهورة بإفريقية ومنهم أخذها عبد المؤمن بن علي‏.‏

في هذه السنة قبض بهاء الدولة على الفاضل وزيره وأخذ ماله واستوزر بهاء الدولة سابور بن أردشير فأقام نحو شهرين وفرق الأموال ووقع بها للقواد قصدًا ليضعف بهاء الدولة ثم هرب إلى البطيحة وبقي منصب الوزارة فارغًا واستوزر أبو العباس بن سرجس‏.‏

وفيها استكتب القادر بالله أبا الحسن علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان‏.‏

وفيها توفي أحمد بن إبراهيم بن محمد بن إسحاق أبو حامد بن أبي إسحاق المزكي النيسابوري في شعبان وكان إمامًا ومولده سنة ثلاث وعشرين‏.‏

وفيها توفي علي بن عمر بن محمد بن الحسن أبو إسحاق الحميري المعروف بالسكري وبالحربي وبالكيال ومولده سنة ست وتسعين ومائتين‏.‏

وفيها توفي أبو الأغر دبيس بن عفيف الأسدي بخوزستان وأبو طالب محمد بن علي بن عطية المكي صاحب قوت القلوب روي أنه صنف قوت القلوب وكان قوته عروق البردي‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وثمانين وثلاثمائة

ذكر موت الأمير نوح بن منصور وولاية ابنه منصور

في هذه السنة توفي الأمير الرضي نوح بن منصور الساماني في رجب واختل بموته ملك آل سامان وضعف أمرهم ضعفًا ظاهرًا وطمع فيهم أصحاب الأطراف فزال ملكهم بعد مدةٍ يسيرة‏.‏

ولما توفي قام بالملك بعده ابنه أبو الحرث منصور بن نوح وبايعه الأمراء والقواد وسائر الناس وفرق فيهم بقايا الأموال فاتفقوا على طاعته‏.‏

وقام بأمر دولته وتدبيرها بكتوزون‏.‏

ولما بلغ خبر موته إلى ايلك خان سار إلى سمرقند وانضم إليه فائق الخاصة فسيره جريدة إلى بخارى فلما سمع بمسيره الأمير منصور تحير في أمره وأعجله عن التجهز فسار عن بخارى وقطع النهر ودخل فائق بخارى وأظهر أنه إنما قصد المقام بخدمة الأمير منصور رعايةً لحق أسلافه عليه إذ هو مولاهم وأرسل إليه مشايخ بخارى ومقدمهم في العود إلى بلده وملكه وأعطاه من نفسه ما يطمئن إليه من العهود والمواثيق فعاد إليها ودخلها وولي فائق أمره وحكم في دولته وولي بكتوزون إمرة الجيوش بخراسان‏.‏

وكان محمود بن سبكتكين حينئذ مشغولًا بمحاربة أخيه إسماعيل على ما نذكره إن شاء الله تعالى وسار بكوتوزن إلى خراسان فوليها واستقرت القواعد بها‏.‏

و في هذه السنة توفي ناصر الدولة سبكتكين في شعبان وكان مقامه ببلخ وقد ابتنى بها دورًا ومساكن فمرض وطال مرضه وانزاح إلى هواء غزنة فسار عن بلخ إليها فمات في الطريق فنقل ميتًا إلى غزنة ودفن فيها وكانت مدة ملكه نحو عشرين سنة‏.‏

وكان عادلًا خيرًا كثير الجهاد حسن الاعتقاد ذا مروة تامة وحسن عهد ووفاء لا جرم بارك الله في بيته ودام ملكهم مدة طويلة جازت مدة ملك السامانية والسلجوقية وغيرهم‏.‏

وكان ابنه محمود أول من لقب بالسلطان ولم يلقب به أحدٌ قبله‏.‏

ولما حضرته الوفاة عهد إلى ولده إسماعيل بالملك بعده فلما مات بايع الجند لإسماعيل وحلفوا له وأطلق لهم الأموال وكان أصغر من أخيه محمود فاستضعفه الجند فاشتطوا في الطلب حتى أفنى الخزائن التي خلفها أبوه‏.‏

ذكر استيلاء أخيه محمود بن سبكتكين على الملك

لما توفي سبكتكين وبلغ الخبر إلى ولده يمين الدولة محمود بنيسابور جلس للعزاء ثم أرسل إلى أخيه إسماعيل يعزيه بأبيه ويعرفه أن أباه إنما عهد إليه لبعده عنه ويذكره ما يتعين من تقديم الكبير ويطلب منه الوفاق وإنفاذ ما يخصه تركة أبيه‏.‏

فلم يفعل وترددت الرسل بينهما فلم تستقر القاعدة‏.‏

فسار محمود عن نيسابور إلى هراة عازمًا على قصد أخيه بغزنة واجتمع بعمه بغراجق بهراة فساعده على أخيه إسماعيل وسار نحو بست وبها أخوه نصر فتبعه وأعانه وسار معه إلى غزنة‏.‏

وبلغ الخبر إلى إسماعيل وهو ببلخ فسار عنها مجدًا فسبق أخاه محمودًا إليها وكان الأمراء الذين مع إسماعيل كاتبوا أخاه محمودًا يستدعونه ووعدوه الميل إليه فجد في المسير والتقى هو وإسماعيل بظاهر غزنة واقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم إسماعيل وصعد إلى قلعة غزنة فاعتصم بها فحصره أخوه محمود واستنزله بأمان‏.‏

فلما نزل إليه أكرمه وأحسن إليه وأعلى منزلته وشركه في ملكه وعاد إلى بلخ واستقامت الممالك له‏.‏

وكانت مدة ملك إسماعيل سبعة أشهر وهو فاضل حسن المعرفة له نظم ونثر وخطب في بعض الجمعات فكان يقول بعض الخطبة للخليفة‏:‏ ‏{‏رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَني مِنْ تَأوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أنْتَ وَلِيِّي في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنيِ مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنيِ بِالصَّالحِيِنَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 101‏]‏‏.‏

ذكر وفاة فخر الدولة بن بويه

في هذه السنة توفي فخر الدولة أبو الحسن علي بن ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه بقلعة طبرق في شعبان‏.‏

وكان سبب ذلك أنه أكل لحمًا مشويًا وأكل بعده عنبًا فأخذه المغص ثم اشتد مرضه فمات منه‏.‏

فلما مات كانت مفاتيح الخزائن بالري عند أم ولده مجد الدولة فطلبوا له كفنًا فلم يجدوه وتعذر النزول إلى البلد لشدة شغب الديلم فاشتروا له من قيم الجامع ثوبًا كفنوه فيه وزاد شغب الجند فلم يمكنهم دفنه فبقي حتى أنتن ثم دفنوه‏.‏

وحين توفي قام بملكه بعده ولده مجد الدولة أبو طالب رستم وعمره أربع سنين أجلسه الأمراء في الملك وجعلوا أخاه شمس الدولة بهمذان وقرميسين إلى حدود العراق‏.‏

وكان المرجع إلى والدة أبي طالب في تدبير الملك وعن رأيها يصدرون وبين يديها في مباشرة الأعمال أبو طاهر صاحب فخر الدولة وأبو العباس الضبي الكافي‏.‏

ذكر وفاة مأمون بن محمد وولاية ابنه علي

وفيها توفي مأمون بن محمد صاحب خوارزم والجرجانية فلما توفي اجتمع أصحابه على ولده علي وبايعوه واستقر له ما كان لأبيه وراسل يمين الدولة محمود بن سبكتكين وخطب إليه أخته فزوجه واتفقت كلمتهما وصارا يدًا واحدةً إلى أن مات علي وقام بعده أخوه أبو العباس مأمون بن مأمون واستقر في الملك فأرسل إلى يمين الدولة يخطب أخته أيضًا فأجابه إلى ذلك وزوجه فداما أيضًا على الاتفاق والاتحاد مدة‏.‏

وسيرد من أخباره معه سنة سبع وأربعمائة إن شاء الله تعالى ما تقف عليه‏.‏

ذكر وفاة العلاء بن الحسن وما كان بعده

في هذه السنة توفي أبو القاسم العلاء بن الحسن نائب صمصام الدولة بخوزستان وكان موته بعسكر مكرم وكان شهمًا شجاعًا حسن التدبير فأنفذ صمصام الدولة أبا علي بن أستاذ هرمز ومعه المال ففرقه في الديلم وسار إلى جنديسابور فدفع أصحاب بهاء الدولة عنها وجرت له معهم وقائع كثيرة كان الظفر فيها له وأزاح الأتراك عن خوزستان وعادوا إلى واسط وخلت لأبي علي البلاد ورتب العمال وجبى الأموال وكاتب أتراك بهاء الدولة واستمالهم فأتاه بعضهم فأحسن إليهم واستمر حال أبي علي في أعمال خوزستان‏.‏

ثم إن أبا محمد بن مكرم والأتراك عادوا من واسط واستعد أبو علي للحرب وجرى بينهم وقائع‏.‏

ولم يكن للأتراك قوة على الديلم فعزموا على العود إلى واسط ثانيًا فاتفق مسير بهاء الدولة من البصرة إلى القنطرة البيضاء وكان ما نذكره إن شاء الله‏.‏

ذكر القبض على علي بن المسيب وما كان بعد ذلك

في هذه السنة قبض المقلد على أخيه علي‏.‏ وكان سبب ذلك ما ذكرناه من الاختلاف الواقع بين أصحابهما بالموصل واشتغل المقلد بما ذكرناه بالعراق فلما خلا وجهه وعاد إلى الموصل عزم على الانتقام من أصحاب أخيه ثم خافه فأعمل الحيلة في قبض أخيه فأحضر عسكره من الديلم والأكراد وأعلمهم أنه يريد قصد دقوقا وحلفهم على الطاعة وكانت داره ملاصقة دار أخيه فنقب في الحائط ودخل إليه وهو سكران فأخذه وأدخله الخزانة وقبض عليه وأرسل إلى زوجته يأمرها بأخذ ولديه قرواش وبدران واللحاق بتكريت قبل أن يسمع أخوه الحسن الخبر ففعلت ذلك وخلصت وكانت في الحلة التي له على أربعة فراسخ من تكريت‏.‏

وسمع الحسن الخبر فبادر إلى الحلة ليقبض أولاد أخيه فلم يجدهم وأقام المقلد بالموصل يستدعي رؤساء العرب ويخلع عليهم فاجتمع عنده زهاء ألفي فارس وسار الحسن في حلل أخيه ومعه أولاد أخيه علي وحرمه ويستنفرهم على المقلد فاجتمع معهم نحو عشرة آلاف وراسل المقلد يؤذنه بالحرب فسار عن الموصل وبقي بينهم منزلٌ واحدٌ ونزل بإزاء العلث فحضره وجوه العرب واختلفوا عليه فمنهم من أشار بالحرب ومنهم رافع بن محمد بن مقن ومنهم من أشار بالكف عن القتال وصلة الرحم ومنهم غريب بن محمد بن مقن وتنازع هو وأخوه‏.‏

فبينما هم في ذلك قيل لمقلد‏:‏ إن أختك رهيلة بنت المسيب تريد لقاءك وقد جاءتك فركب وخرج إليها فلم تزل معه حتى أطلق أخاه عليًا ورد إليه ماله ومثله معه وأنزله في خيم ضربها له‏.‏

فسر الناس بذلك وتحالفا وعاد علي إلى حلته‏.‏

وعاد المقلد إلى الموصل وتجهز للمسير إلى أبي الحسن علي بن مزيد الأسدي لأنه تعصب لأخيه علي وقصد ولاية المقلد بالأذى فسار إليه‏.‏

ولما خرج عليٌ من محبسه اجتمع العرب إليه وأشاروا عليه بقصد أخيه المقلد فسار إلى الموصل وبها أصحاب المقلد فامتنعوا عليه فافتتحها فسمع المقلد بذلك فعاد إليه واجتاز في طريقه بحلة أخيه الحسن فخرج إليه ورأى كثرة عسكره فخاف على أخيه علي منه فأشار عليه بالوقوف ليصلح الأمر وسار إلى أخيه علي وقال له‏:‏ إن الأعور يعني المقلد قد أتاك بحده وحديده وأنت غافل وأمره بإفساد عسكر المقلد فكتب إليهم فظفر المقلد بالكتب فأخذها وسار مجدًا إلى الموصل فخرج إليه أخواه علي والحسن وصالحاه ودخل الموصل وهما معه‏.‏

ثم خاف علي فهرب من الموصل ليلًا وتبعه الحسن وترددت الرسل بينهم فاصطلحوا على أن يدخل أحدهما البلد في غيبة الآخر وبقوا كذلك إلى سنة تسع وثمانين‏.‏

ومات علي سنة تسعين وقام الحسن مقامه فقصده المقلد ومعه بنو خفاجة فهرب الحسن إلى العراق وتبعه المقلد فلم يدركه فعاد‏.‏

ولما استقر أمر المقلد بعد أخيه علي سار إلى بلد علي بن مزيد الأسدي فدخله ثانية والتجأ ابن مزيد إلى مهذب الدولة فتوسط ما بينه وبين المقلد وأصلح الأمر معه وسار المقلد إلى دقوقا فملكها‏.‏

ذكر ملك جبرئيل دقوقا

في هذه السنة ملك جبرئيل بن محمد دقوقا‏.‏

وجبرئيل هذا كان من الرجالة الفرس ببغداد وخد مهذب الدولة بالبطيحة فهم بالغزو وجمع جمعًا كثيرًا واشترى السلاح وسار فاجتاز في طريقه بدقوقا فوجد المقلد بن المسيب يحاصرها فاستغاث أهلها بجبريل فحماهم ومنع عنهم‏.‏

وكان بدقوقا رجلان نصرانيان قد تمكنا في البلد وحكما فيه واستعبدا أهله فاجتمع جماعة من المسلمين إلى جبرئيل وقالوا له‏:‏ إنك تريد الغزو ولست تدري أتبلغ غرضًا أم لا وعندنا من هذين النصرانيين من قد تعبدنا وحكم علينا فلو أقمت عندنا وكفيتنا أمرهما ساعدناك على ذلك‏.‏

فأقام وقبض عليهما وأخذ مالهما وقوي أمره فملك البلد في شهر ربيع الأول وثبت قدمه وأحسن معاملة أهل البلد وعدل فيهم وبقي مدة على اختلاف الأحوال‏.‏

ثم ملكها المقلد وملكها بعده محمد بن عناز ثم أخذها بعده قرواش ثم انتقلت إلى فخر الدولة أبي غالب فعاد جبرئيل هذا حينئذ إلى دقوقا واجتمع مع أمير من الأكراد يقال له موصك بن جكويه ودفعا عمال فخر الدولة عنها وأخذاها فقصدها بدران بن المقلد وغلبهما وأخذها منهما‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة خرج أبو الحسن علي بن مزيد على طاعة بهاء الدولة فسير إليه عسكرًا فهرب من بين أيديهم إلى مكان لا يقدرون على الوصول إليه فيه ثم أرسل بهاء الدولة وأصلح حاله معه وعاد إلى طاعته‏.‏

وفيها توفي أبو الوفاء محمد بن المهندسي الحاسب‏.‏

وفيها في المحرم توفي عبيدالله بن محمد بن حمران أبو عبدالله العكبري المعروف بابن بطة الحنبلي وكان مولده في شوال سنة أربع وثلاثمائة وكان زاهدًا عابدًا عالمًا ضعيفًا في الرواية‏.‏

وفيها في ذي القعدة توفي أبو الحسين محمد بن أحمد بن إسماعيل المعروف بابن سمعون الواعظ الزاهد له كرامات وكان مولده سنة ثلاثمائة‏.‏

وفيها في تاسع ذي الحجة توفي الحسن بن عبدالله بن سعيد أبو أحمد العسكري الراوية العلامة صاحب التصانيف الكثيرة في الأدب واللغة والأمثال وغيرها‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة

ذكر عود أبي القاسم السيمجوري إلى نيسابور

قد ذكرنا مسير أبي القاسم بن سيمجور أخي أبي علي إلى جرجان ومقامه بها‏.‏

فلما مات فخر الدولة أقام عنده ولده مجد الدولة واجتمع عنده جماعة كثيرة من أصحاب أخيه‏.‏

وكان قد أرسل إلى شمس المعالي يستدعيه من نيسابور ليسلمها إليه فسار إليه حتى وافى جرجان فلما بلغها رأى أبا القاسم قد سار عنها فعاد شمس المعالي إلى نيسابور‏.‏

فكتب فائق من بخارى إلى أبي القاسم يغريه ببكتوزون ويأمره بقصد خراسان وإخراج بكتوزون عنها لعدواة بينهما‏.‏

فسار أبو القاسم عن جرجان نحو نيسابور وسر سرية إلى أسفرايين وبها عسكر لبكتوزون فقاتلوهم وأجلوهم عن أسفرايين واستولى أصحاب أي القاسم عليها وسار أبو القاسم إلى نيسابور فالتقى هو وبكتوزون بظاهرها في ربيع الأول واقتتلوا واشتد القتال بينهم فانهزم أبو القاسم وقتل من أصحابه وأسر خلق كثير‏.‏

وسار أبو القاسم إلى قهستان وأقام بها حتى اجتمع إليه أصحابه وسار إلى بوشنج واحتوى عليها وتصرف فيها فسار إليه بكتوزون وترددت الرسل بينهما حتى اصطلحا وتصاهرا وعاد بكتوزون إلى نيسابور‏.‏

ذكر استيلاء محمود بن سبكتكين على نيسابور وعوده عنها

لما فرغ محمود من أمر أخيه وملك غزنة وعاد إلى بلخ رأى بكتوزون قد ولي خراسان على ما ذكرناه فأرسل إلى الأمير منصور بن نوح يذكر طاعته والمحاماة عن دولته ويطلب خراسان فأعاد الجواب يعتذر عن خراسان ويأمره بأخذ ترمذ وبلخ وما وراءها من أعمال بست وهراة فلم يقنع بذلك وأعاد الطلب فلم يجبه إلى ذلك فلما تيقن المنع سار إلى نيسابور وبها بكتوزون فلما بلغه خبر مسيره نحوه رحل عنها فدخلها محمود وملكها‏.‏

فلما سمع الأمير منصور بن نوح سار عن بخارى نحو نيسابور فلما علم محمود بذلك سار عن نيسابور إلى مرو الروذ ونزل عند قنطرة راعول ينتظر ما يكون منهم‏.‏

ذكر عود قابوس إلى جرجان


في هذه السنة عاد شمس المعالي قابوس بن وشمكير إلى جرجان وملكها ولما ملك فخر الدولة بن بويه جرجان والري أراد أن يسلم جرجان إلى قابوس فرده عن ذلك الصاحب بن عباد وعظمها في عينه فأعرض عن الذي أراده ونسي ما كان بينهما من الصحبة بخراسان وأنه بسببه خرجت البلاد عن يد قابوس والملك عقيم‏.‏

وقد ذكرنا كيف أخذت منه ومقامه بخراسان وإنفاذ ملوك السامانية الجيوش في نصرته مرة ولما ولي سبكتكين خراسان اجتمع به ووعده أن يسير معه الجيوش ليرده إلى مملكته فمضى إلى بلخ ومرض ومات‏.‏

فلما كان هذه السنة بعد موت فخر الدولة سير شمس المعالي قابوس الأصبهبذ شهريار بن شروين إلى جبل شهريار وعليه رستم بن المرزبان خال مجد الدولة بن فخر الدولة فاقتتلا فانهزم رستم واستولى الأصبهبذ على الجبل وخطب لشمس المعالي وكان باتي بن سعيد بناحية الاستندارية وله ميل إلى شمس المعالي فسار إلى آمل وبها عسكر لمجد الدولة فطردهم عنها واستولى عليها وخطب لقابوس وكتب إليه بذلك‏.‏

ثم إن أهل جرجان كتبوا إلى قابوس يستدعونه فسار إليهم من نيسابور وسار الأصبهبذ وباتي بن سعيد إلى جرجان وبها عسكر لمجد الدولة فالتقوا واقتتلوا فانهزم عسكر مجد الدولة إلى جرجان فلما بلغوها صادفوا مقدمة قابوس قد بلغتها فأيقنوا بالهلاك وانهزموا من أصحاب قابوس هزيمة ثانية وكانت قرحًا على قرح ودخل شمس المعالي جرجان في شعبان من هذه السنة‏.‏

وبلغ المنهزمون الري فجهزت العساكر من الري نحو جرجان فساروا وحصروها فغلت الأسعار بالبلد وضاقت الأمور بالعسكر أيضًا وتوالت عليهم الأمطار والرياح فاضطروا إلى الرحيل فتبعهم شمس المعالي فلحقهم وواقعهم فاقتتلوا وانهزم عسكر الري وأسر من أعيانهم جماعة كثيرة وقتل أكثر منهم فأطلق شمس المعالي الأسرى واستولى على تلك الأعمال ما بين جرجان وأستراباذ‏.‏

ثم إن الأصبهبذ حدث نفسه بالاستقلال والتفرد عن قابوس واغتر بما اجتمع عنده من الأموال والذخائر فسارت إليه العساكر من الري وعليها المرزبان خال مجد الدولة فهزموا الأصبهبذ وأسروه ونادوا بشعار شمس المعالي لوحشة كانت عند المرزبان من مجد الدولة وكتب إلى شمس المعالي بذلك وانضافت مملكة الجبل جميعها إلى ممالك جرجان وطبرستان فولاها شمس المعالي ولده منوجهر ففتح الرويان وسالوس وراسل قابوس يمين الدولة محمودًا وهاداه وصالحه واتفقا على ذلك‏.‏

ذكر مسير بهاء الدولة إلى واسط

في هذه السنة عاد أبو علي بن إسماعيل إلى طاعة بهاء الدولة وهو بواسط فوزر له ودبر أمره وأشار عليه بالمسير إلى أبي محمد بن مكرم ومن معه من الجند ومساعدتهم ففعل ذلك وسار على كرهٍ وضيقٍ فنزل بالقنطرة البيضاء وثبت أبو علي بن أستاذ هرمز وعسكره وضاق الأمر ببهاء الدولة وتعذرت عليه الأقوات فاستمد بدر بن حسنويه فأنفذ إليه شيئًا قام ببعض ما يريده وأشرف بهاء الدولة على الخطر وسعى أعداء أبي علي بن إسماعيل به حتى كاد يبطش به فتجدد من أمر ابني بختيار وقتل صمصام الدولة ما يأتي ذكره وأتاه الفرج من حيث لم يحتسب وصلح أمر أبي علي عنده واجتمعت الكلمة عليه وسيأتي شرح ذلك إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر قتل صمصام الدولة

في هذه السنة في ذي الحجة قتل صمصام الدولة بن عضد الدولة‏.‏

وسبب ذلك أن جماعة كثيرة من الديلم استوحشوا من صمصام الدولة لأنه أمر بعرضهم وإسقاط من ليس بصحيح النسب فأسقط منهم مقدار ألف رجل فبقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون‏.‏

واتفق أن أبا القاسم وأبا نصر ابني عز الدولة بختيار كانا مقبوضين فخدعا الموكلين بهما في القلعة فأفرجوا عنهما فجمعا لفيفًا من الأكراد واتصل خبرهما بالذين أسقطوا من الديلم فأتوهم وقصدوا إلى أرجان فاجتمعت عليها العساكر وتحير صمصام الدولة ولم يكن عنده وكان أبو جعفر أستاذ هرمز مقيمًا بفسا فأشار عليه بعض من عنده بتفريق ما عنده من المال في الرجال والمسير إلى صمصام الدولة وأخذه إلى عسكره بالأهواز وخوفه إن لم يفعل ذلك‏.‏

فشح بالمال فثار به الجند ونهبوا داره وهربوا فاختفى فأخذ وأتي به إلى ابني بختيار فحبس ثم احتال فنجا‏.‏

وأما صمصام الدولة فإنه أشار عليه أصحابه بالصعود إلى القلعة التي على باب شيراز والامتناع بها إلى أن يأتي عسكره ومن يمنعه فأراد الصعود إليها فلم يمكنه المستحفظ بها وكان معه ثلاثمائة رجل فقالوا له‏:‏ الرأي أننا نأخذك ووالدتك ونسير إلى أبي علي بن أستاذ هرمز وأشار بعضهم بقصد الأكراد وأخذهم والتقوي بهم ففعل ذلك وخرج معهم بخزائنه وأمواله فنهبوه وأرادوا أخذه فهرب وسار إلى الدودمان على مرحلتين من شيراز‏.‏

وعرف أبو نصر بن بختيار الخبر فبادر إلى شيراز ووثب رئيس الدودمان واسمه طاهر بصمصام الدولة فأخذه وأتاه أبو نصر بن بختيار وأخذه منه فقتله في ذي الحجة فلما حملرأسه إليه قال‏:‏ هذه سنة سنها أبوك يعني ما كان من قتل عضد الدولة بختيار‏.‏

وكان عمر صمصام الدولة خمسًا وثلاثين سنة وسبعة أشهر ومدة إمارته بفارس تسع سنين وثمانية أيام وكان كريمًا حليمًا‏.‏

وأما والدته فسلمت إلى بعض قواد الديلم فقتلها وبنى عليها

ذكر هرب ابن الوثاب

في هذه السنة هرب أبو عبدالله بن جعفر المعروف بابن الوثاب من الاعتقال في دار الخلافة‏.‏

وكان هذا الرجل يقرب بالنسب من الطائع فلما خلع الطائع هرب هذا وصار عند مهذب الدولة فأرسل القادر بالله في أمره فأخرجه فسار إلى المدائن وأتى خبره إلى القادر فأخذه وحبسه فهرب هذه السنة ومضى إلى كيلان وادعى أنه هو الطائع لله وذكر من أمور الخلافة ما كان يعرفه وزوجه محمد بن العباس مقدم كيلان وشد منه وأقام له الدعوة وأطاعه أهل نواحٍ أخر وأدوا إليه العشر على عادتهم‏.‏

وورد من هؤلاء القوم جماعة يحجون فأحضرهم القادر وكشف لهم حاله وكتب على أيديهم كتبًا في المعنى فلم يقدح ذلك فيه‏.‏

وكان أهل كيلان يرجعون إلى القاضي أبي القاسم بن كج فكوتب من بغداد في المعنى فكشف لهم الأمر فأخرجوا أبا عبدالله عنهم‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة عظم أمر بدر بن حسنويه وعلا شأنه ولقب من ديوان الخليفة ناصر الدين والدولة وكان كثير الصدقات بالحرمين ويكثر الخرج على العرب بطريق مكة ليكفوا عن أذى وفيها نظر أبو علي بن أبي الريان في الوزارة بواسط‏.‏

وفيها مات أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف الجكار‏.‏ ‏   ‏  ‏ ‏ ‏