المجلد الثامن - ذكر وقعة ليمين الدولة بالهند

ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة

في هذه السنة أوقع يمين الدولة محمود بن سبكتكين بجيبال ملك الهند وقعة عظيمة‏.‏

وسبب ذلك أنه لما اشتغل بأمر خراسان وملكها وفرغ منها ومن قتال خلف بن أحمد وخلا وجهه من ذلك أحب أن يغزو الهند غزوةً تكون كفارة لما كان منه من قتال المسلمين فثنى عنانه نحو تلك البلاد فنزل على مدينة برشور فأتاه عدو الله جيبال ملك الهند في عساكر كثيرة فاختار يمين الدولة من عساكره والمطوعة خمسة عشر ألفًا وسار نحوه فالتقوا في المحرم من هذه السنة فاقتتلوا وصبر الفريقان‏.‏

فلما انتصف النهار انهزم الهند وقتل فيهم مقتلة عظيمة وأسر جيبال ومعه جماعة كثيرة من أهله وعشيرته وغنم المسلمون منهم أموالًا جليلة وجواهر نفيسة وأخذ من عنق عدو الله جيبال قلادة من الجوهر العديم النظير قومت بمائتي ألف دينار وأصيب أمثالها في أعناق مقدمي الأسرى وغنموا خمس مائة ألف رأس من العبيد وفتح من بلاد الهند بلادًا كثيرة فلما فرغ من غزواته أحب أن يطلق جيبال ليراه الهنود في شعار الذل فأطلقه بمالٍ قرره عليه فأدى المال‏.‏

ومن عادة الهند أنهم من حصل منهم في أيدي المسلمين أسيرًا لم ينعقد له بعدها رئاسة فلما رأى جيبال حاله بعد خلاصه حلق رأسه ثم ألقى نفسه في النار فاحترق بنار الدنيا قبل نار الآخرة‏.‏

ذكر غزوة أخرى إلى الهند أيضًا

فلما فرغ يمين الدولة من أمر جيبال رأى أن يغزو غزوة أخرى فسار نحو ويهند فأقام عليها محاصرًا لها حتى فتحها قهرًا وبلغه أن جماعة من الهند قد اجتمعوا بشعاب تلك الجبال عازمين على الفساد والعناد فسير إليهم طائفة من عسكره فأوقعوا بهم وأكثروا القتل فيهم ولم ينج منهم إلا الشريد الفريد وعاد إلى غزنة سالمًا ظافرًا‏.‏

ذكر الحرب بين قرواش وعسكر بهاء الدولة

في هذه السنة سير قرواش بن المقلد جمعًا من عقيل إلى المدائن فحصروها فسير إليهم أبو جعفر نائب بهاء الدولة جيشًا فأزالوهم عنها فاجتمعت عقيل وأبو الحسن ابن مزيد في بني أسد وقويت شوكتهم فخرج الحجاج إليهم واستنجد خفاجة وأحضرهم من الشام فاجتمعوا معه واقتتلوا بنواحي باكرم في رمضان فانهزمت الديلم والأتراك وأسر منهم خلق كثير واستبيح عسكرهم‏.‏

فجمع أبو جعفر من عنده من العسكر وخرج إلى بني عقيل وابن مزيد فالتقوا بنواحي الكوفة واشتد القتال بينهم فانهزمت عقيل وابن مزيدن وقتل من أصحابهم خلق كثير وأسر مثلهم وسار إلى حلل ابن مزيد فأوقع بمن فيها فانهزموا أيضًا فنهبت الحلل والبيوت والأموال ورأوا فيها من العين والمصاغ والثياب ما لا يقدر قدره‏.‏

ولما سار أبو جعفر عن بغداد اختلت الأحوال بها وعاد أمر العيارين فظهر واشتد الفساد وقتلت النفوس ونهبت الأموال وأحرقت المساكن فبلغ ذلك بهاء الدولة فسير إلى العراق لحفظه أبا علي بن أبي جعفر المعروف بأستاذ هرمز ولقبه عميد الجيوش وأرسل إلى أبي جعفر الحجاج وطيب قلبه ووصل أبو علي إلى بغداد فأقام السياسة ومنع المفسدين فسكنت الفتنة وأمن الناس‏.‏

وفيها توفي محمد بن محمد بن جعفر أبو بكر الفقيه الشافعي المعروف بابن الدقاق صاحب الأصول‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة

ذكر ملك يمين الدولة سجستان

في هذه السنة ملك يمين الدولة محمود بن سبكتكين سجستان وانتزعها من يد خلف بن أحمد‏.‏

قال العتبي‏:‏ وكان سبب أخذها أن يمين الدولة لما رحل عن خلف بعد أن صالحه كما تقدم ذكره سنة تسعين عهد خلف إلى ولده طاهر وسلم إيه مملكته وانعكف هو على العبادة والعلم وكان عالمًا فاضلًا محبًا للعلماء وكان قصده أن يوهم يمين الدولة أنه ترك الملك وأقبل فلما استقر طاهر في الملك عق أباه وأهمل أمره فلاطفه أبوه ورفق به ثم إنه تمارض في حصنه المذكور واستدعى ولده ليوصي إليه فحضر عنده غير محتاطٍ ونسي إساءته فلما صار عنده قبض عليه وسجنه وبقي في السجن إلى أن مات فيه وأظهر عنه أنه قتل نفسه‏.‏

ولما سمع عسكر خلف وصاحب جيشه بذلك تغيرت نياتهم في طاعته وكرهوه وامتنعوا عليه في مدينته وأظهروا طاعة يمين الدولة وخطبوا له وأرسلوا إليه يطلبون من يتسلم المدينة ففعل وملكها واحتوى عليها

في هذه السنة وعزم على قصد خلف وأخذ ما بيده والاستراحة من مكره‏.‏

فسار إليه وهو في حصن الطاق وله سبعة أسوار محكمة يحيط بها خندق عميق عريض لا يخاض إلا من طريق على جسر يرفع عند الخوف فنازله وضايقه فلم يصل إليه فأمر بطم الخندق ليمكن العبور إليه فقطعت الأخشاب وطم بها وبالتراب في يوم واحد مكانًا يعبرون فيه ويقاتلون منه‏.‏

وزحف الناس ومعهم الفيول واشتدت الحرب وعظم الأمر وتقدم أعظم الفيول إلى باب السور فاقتلعه بنابيه وألقاه وملكه أصحاب يمين الدولة وتأخر أصحاب خلف إلى السور الثاني فلم يزل أصحاب يمين الدولة يدفعونهم عن سور سور فلما رأى خلف اشتداد الحرب وأن أسواره تملك عليه وأن أصحابه قد عجزوا وأن الفيلة تحطم الناس طار قلبه خوفًا وفرقًا فأرسل يطلب الأمان فأجابه يمين الدولة إلى ما طلب وكف عنه فلما حضره عنده أكرمه واحترمه وأمر بالمقام في أي البلاد شاء فاختار أرض الجوزجان فسير إليها في هيئة حسنة فأقام بها نحو أربع سنين‏.‏

ونقل إلى يمين الدولة عنه أنه يراسل ايلك الخان يغريه بقصد يمين الدولة فنقله إلى جردين واحتاط عليه هناك إلى أن أدركه أجله في رجب سنة تسع وتسعين فسلم يمين الدولة جميع ما خلفه إلى ولده أبي حفص‏.‏

وكان خلف مشهورًا بطلب العلم وجمع العلماء وله كتاب صنفه في تفسير القرآن من أكبر الكتب‏.‏

ذكر الحرب بين عميد الجيوش أبي علي وبين أبي جعفر الحجاج

في هذه السنة كانت الحرب بين أبي علي بن أبي جعفر أستاذ هرمز وبين أبي جعفر الحجاج‏.‏

وسبب ذلك أن أبا جعفر كان نائبًا عن بهاء الدولة بالعراق فجمع وغزا واستناب بعده عميد الجيوش أبا علي فأقام أبو جعفر بنواحي الكوفة ولم يستقر بينه وبين أبي علي صلح‏.‏

وكان أبو جعفر قد جمع جمعًا من الديلم والأتراك وخفاجة فجمع أبو علي أيضًا جمعًا كثيرًا وسار إليه والتقوا بنواحي النعمانية فاقتتلوا قتالًا عظيمًا وأرسل أبو علي بعض عسكره فأتوا فلما أمن أبو علي سار من العراق بعد الهزيمة إلى خوزستان وبلغ السوس وأتاه الخبر أن أبا جعفر قد عاد إلى الكوفة فرجع إلى العراق وجرى بينه وبين أبي جعفر منازعات ومراجعات إلى أن آل الأمر إلى الحرب فاستنجد كل واحدٍ منهم بني عقيل وبني خفاجة وبني أسد فبينما هم كذلك أرسل بهاء الدولة إلى عميد الجيوش أبي علي يستدعيه فسار إيه إلى خوزستان لأجل أبي العباس بن واصل صاحب البطيحة‏.‏

ذكر عصيان سجستان وفتحها ثانية

لما ملك يمين الدولة سجستان عاد عنها واستخلف عليها أميرًا كبيرًا من أصحابه يعرف بقنجى الحاجب فأحسن السيرة في أهلها‏.‏

ثم إن طوائف من أهل العيث والفساد قدموا عليهم رجلًا يجمعهم وخالفوا على السلطان فسار إليهم يمين الدولة وحصرهم في حصن أرك ونشبت الحرب في ذي الحجة من هذه السنة فظهر عليهم وظفر بهم وملك حصنهم وأكثر القتل فيهم وانهزم بعضهم فسير في آثارهم من يطلبهم فأدركوهم فأكثروا القتل فيهم حتى خلت سجستان منهم وصفت له واستقر ملكها عليه فأقطعها أخاه نصرًا مضافةً إلى نيسابور‏.‏

في هذه السنة في شوال منها توفي الطائع لله المخلوع ابن المطيع لله وحضر الأشراف والقضاة وغيرهم دار الخلافة للصلاة عليه والتعزية وصلى عليه القادر بالله وكبر عليه خمسًا وتكلمت العامة في ذلك فقيل‏:‏ إن هذا مما يفعل بالخلفاء وشيع جنازته ابن حاجب النعمان ورثاه الشريف الرضي فقال‏:‏ ما بعد يومك ما يسلو به السالي ومثل يومك لم يخطر على بالي وهي طويلة‏.‏

ذكر وفاة المنصور بن أبي عامر

في هذه السنة توفي أبو عامر محمد بن أبي عامر المعافري الملقب بالمنصور أمير الأندلس مع المؤيد هشام بن الحاكم وقد تقدم ذكره عند ذكر المؤيد وكان أصله من الجزيرة الخضراء من بيت مشهور بها وقدم قرطبة طالبًا للعلم وكانت له همة فتعلق بوالدة المؤيد في حياة أبيه المستنصر‏.‏

فلما ولي هشام كان صغيرًان فتكفل المنصور لوالدته القيام بأمره وإخماد الفتن الثائرة عليه وإقرار الملك عليه فولته أمره وكان شهمًا شجاعًا قوي النفس حسن التدبير فاستمال العساكر وأحسن إليهم فقوي أمره وتلقب بالمنصور وتابع الغزوات إلى الفرنج وغيرهم وسكنت البلاد معه فلم يضطرب منها شيء‏.‏

وكان عالمًا محبًا للعلماء يكثر مجالستهم ويناظرهم وقد أكثر العلماء

ذكر مناقبه

وصنفوا لها تصانيف كثيرة ولما مرض كان متوجها إلى الغزو فلم يرجع ودخل بلاد العدو فنال منهم وعاد وهو مثقل فتوفي بمدينة سالم وكان قد جمع الغبار الذي وقع على درعه في غزواته شيئًا صالحًا فأمر أن يجعل في كفنه تبركًا به‏.‏

وكان حسن الاعتقاد والسيرة عادلًا وكانت أيام أعيادًا لنضارتها وأمن الناس فيها رحمة الله‏.‏

وله شعر جيد وكانت أمه تميمية ولما مات ولي بعده ابنه المظفر أبو مروان عبد الملك فجرى مجرى أبيه‏.‏

ذكر محاصرة فلفل مدينة قابس

في هذه السنة سار يحيى بن علي الأندلسي وفلفل من طرابلس إلى مدينة قابس في عسكر كثير فحصروها ثم رجعوا إلى طرابلس‏.‏

ولما رأى يحيى بن عي ما هو عيه من قلة المال واختلال حاله وسوء مجاورة فلفل وأصحابه له رجع إلى مصر إلى الحاكم بعد أن أخذ فلفل وأصحابه خيولهم وما اختاروه من عددهم بين الشراء والغصب فأراد الحاكم قتله ثم عفا عنه‏.‏

وأقام فلفل بطرابلس إلى سنة أربعمائة فمرض وتوفي وولي أخوه ورو فأطاعته زناتة واستقام أمره فرحل باديس إلى طرابلس إلى سنة أربعمائة فمرض وتوفي وولي أخوه ورو فأطاعته زناتة واستقام أمره فرحل باديس إلى طرابلس لحرب زناتة فلما بلغهم رحيله فارقوها وملكها باديس ففر أهلها وأرسل ورو أخو فلفل إلى باديس يطلب أن يكون هو ومن معه من زناتة في أمانه ويدخلون في طاعته ويجعلهم عمالًا كسائر عماله فأمنهم وأحسن إليهم وأعطاهم نفزاوة وقسطيلة على أن يرحلوا من أعمال طرابلس ففعلوا ذلك‏.‏

ثم إن خزرون بن سعيد أخا ورو جاء إلى باديس ودخل في طاعته وفارق أخاه فأكرمه باديس وأحسن إليه ثم إن أخاه خالف على باديس وسار إلى طرابلس فحصرها وسار إليه خزرون ليمنعه عن حصارها وكان ذلك سنة ثلاث وأربعمائة‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في رمضان طلع كوكب كبير له ذؤابة وفي ذي القعدة انقض كوكب كبير أيضًا

وفيها اشتدت الفتنة ببغداد وانتشر العيارون والمفسدون فبعث بهاء الدولة عميد الجيوش أبا علي بن أستاذ هرمز إلى العراق ليدبر أمره فوصل إلى بغداد فزينت له وقمع المفسدين ومنع السنة والشيعة من إظهار مذاهبهم ونفى بعد ذلك ابن المعلم فقيه الإمامية فاستقام البلد‏.‏

وفيها في ذي الحجة ولد الأمير أبو علي الحسن بن بهاء الدولة وهو الذي ملك الأمر وتلقب بمشرف الدولة‏.‏

وفيها هرب الوزير أبو العباس الضبي وزير مجد الدولة بن فخر الدولة ابن بويه من الري إلى بدر بن حسنويه فأكرمه وقام بالوزارة بعده الخطير أبو علي‏.‏

وفيها ولى الحاكم بأمر الله على دمشق وقيادة العساكر الشامية أبا محمد الأسود واسمه تمضولت فقدم إليها ونزل في قصر الإمارة فأقام واليًا عليها سنةً وشهرين ومن أعماله فيها أنه أطاف إنسانًا مغربيًا وشهره ونادى عليه‏:‏ هذا جزاء من يحب أبا بكر وعمر‏!‏ ثم أخرجه عنها‏.‏

وفيا توفي عثمان بن جني النحوي مصنف اللمع وغيرها ببغداد وله شعر بارز والقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني بالري وكان إمامًا فاضلًا ذا فنون كثيرة والوليد بن بكر بن مخلد الأندلسي الفقيه المالكي وهو محدث مشهور‏.‏

وفيها توفي أبو الحسن محمد بن عبدالله السلامي الشاعر البغدادي ومن شعره يصف الدرع وهي هذه الأبيات‏:‏ يا ربّ سابغةٍ حبتني نعمةً كأفاتها بالسّوء غير مفنّد أضحت تصون عن المنايا مهجتي وظللت أبذلها لكلّ مهنّد وله من أحسن المديح في عضد الدولة‏:‏ وليت وعزمي والظلام وصارمي ثلاثة أشباحٍ كما اجتمع النّسر وبشّرت آمالي بملكٍ هو الورى ودارٍ هي الدنيا ويومٍ هو الدهر وقدم الموصل فاجتمع بالخالديين من الشعراء منهم أبو الفرج الببغاء وأبو الحسين التلعفري فامتحنوه وكان صبيًا فبرز عند الامتحان‏.‏

وفيها توفي محمد بن العباس الخوارزمي الأديب الشاعر وكان فاضلًا وتوفي بنيسابور‏.‏

وفيها توفي محمد بن عبد الرحمن بن زكرياء أبو طاهر المخلص المحدث المشهور وأول سماعه سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وتسعين وثلاثمائة

في هذه السنة في شعبان غلب أبو العباس بن واصل على البطيحة وأخرج منها مهذب الدولة‏.‏

وكان ابتداء حال أبي العباس أنه كان ينوب عن طاهر بن زيرك الحاجب في الجهبذة وارتفع معه ثم أشفق منه ففارقه وسار إلى شيراز واتصل بخدمة فولاذ وتقدم عنده فلما قبض على فولاذ عاد أبو العباس إلى الأهواز بحال سيئة فخدم فيها‏.‏

ثم أصعد إلى بغداد فضاق الأمر عليه فخرج منها وخدم أبا محمد ابن مكرم ثم انتقل إلى خدمة مهذب الدولة بالبطيحة فجرد معه عسكرًا وسيره إلى حرب لشكرستان حين استولى على البصرة ومضى إلى سيراف وأخذ ما بها لأبي محمد بن مكرم من سفن ومال وأتى أسافل دجلة فغلب عليها وخلع طاعة مهذب الدولة‏.‏

فأرسل غليه مهذب الدولة مائة سميرية فيها مقاتلة فغرق بعضها وأخذ أبو العباس ما بقي منها وعدل إلى الأبلة فهزم أبا سعد بن ماكولا وهو يصحب لشكرستان فانهزم أيضًا لشكرستان من بين يديه واستولى ابن واصل على البصرة ونزل دار الإمارة وأمن الديلم والأجناد‏.‏

وقصد لشكرستان مهذب الدولة فأعاده إلى قتال أبي العباس في جيش فلقيه أبو العباس وقاتله فانهزم لشكرستان وقتل كثير من رجاله واستولى أبو العباس على ثقله وأمواله وأصعد إلى البطيحة وأرسل إلى مهذب الدولة يقول له‏:‏ قد هزمت جندك ودخلت بلدك فخذ لنفسك فسار مهذب الدولة إلى بشامني وصار عند أبي شجاع فارس بن مردان وابنه صدقة فغدرا به وأخذا أمواله فاضطرا إلى الهرب وسار إلى واسط فوصلها على أقبح صورة فخرج إليه أهلها فلقوه وأصعدت زوجته ابنة الملك بهاء الدولة إلى بغداد وأصعد مهذب الدولة إليها فلم يمكن من الوصول إليها‏.‏

وأما ابن واصل فإنه استولى على أموال مهذب الدولة وبلاده وكانت عظيمة ووكل بدار زوجته ابنة بهاء الدولة من يحرسها ثم جمع كل ما فيها وأسله إلى أبيها واضطرب عليه أهل البطائح واختلفوا فسير سبع مائة فارس إلى الجازرة لإصلاحها فقاتلهم أهلها فظفروا بالعسكر وقتلوا فيهم كثيرًا‏.‏

وانتشر الأمر على أبي العباس بن واصل فعاد إلى البصرة خوفًا أن ينتشر الأمر عليه بها وترك البطائح شاغرة ليس فيها أحد يحفظها‏.‏

ولما سمع بهاء الدولة بحال أبي العباس وقوته خافه على البلاد فسار من فارس إلى الأهواز لتلافي أمره وأحضر عنده عميد الجيوش من بغداد وجهز معه عسكرًا كثيفًا وسيرهم إلى أبي العباس فأتى إلى واسط وعمل ما يحتاج إليه من سفن وغيرها وسار إلى البطائح وفرق جنده في البلاد لتقرير قواعدها‏.‏

وسمع أبو العباس بمسيره إليه فأصعد إليه من البصرة وأرسل يقول له‏:‏ ما أحوجك تتكلف الانحدار وقد أتيتك فخذ لنفسك‏.‏

ووصل إلى عميد الجيوش وهو على تلك الحال من تفرق العسكر عنه فلقيه فيمن معه بالصليق فانهزم عميد الجيوش ووقع من معه بعضهم على بعضٍ ولقي عميد الجيوش شدة إلى أن وصل إلى واسط وذهب ثقله وخيامه وخزائنه فأخبره خازنه أنه قد دفن في الخيمة ثلاثين ألف دينار وخمسين ألف درهم فأنفذ من أحضرها فقوي بها‏.‏

ونذكر باقي خبر البطائح سنة خمس وتسعين‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة قلد بهاء الدولة النقيب أبا أحمد الموسوي والد الشريف الرضي نقابة العلويين بالعراق وقضاء القضاة والحج والمظالم وكتب عهده بذلك من شيراز ولقب الطاهر ذا المناقب فامتنع الخليفة من تقليده قضاء القضاة وأمضى ما سواه‏.‏

وفيها خرج الأصيفر المنتفقي على الحاج وحصرهم بالبطانية وعزم على أخذهم وكان فيهم أبو الحسن الرفاء وأبو عبدالله الدجاجي وكانا يقرآن القرآن بأصواتٍ لم يسمع مثلها فحضرا عند الأصيفر وقرآ القرآن فترك الحجاج وعاد وقال لهما‏:‏ قد تركت لكما ألف ألف دينار‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وتسعين وثلاثمائة

ذكر عود مهذب الدولة إلى البطيحة


قد ذكرنا انهزام عميد الجيوش من أبي العباس بن واصل فلما انهزم أقام بواسط وجمع العساكر عازمًا على العود إلى البطائح وكان أبو العباس قد ترك بها نائبًا له فلم يتمكن من المقام بها ففارقها إلى صاحبه فأرسل عميد الجيوش إليها نائبًا من أهل البطائح فعسف الناس وأخذ الأموال ولم يلتفت إلى عميد الجيوش فأرسل إلى بغداد وأحضر مهذب الدولة وسلموا إليه جميع الولايات واستقر عليه بهاء الدولة كل سنة خمسين ألف دينار ولم يعترض عليه ابن واصل فاشتغل عنه بالتجهيز إلى خوزستان وحفر نهرًا إلى جانب النهر العضدي بين البصرة والأهواز وكثر ماؤه وكان قد اجتمع عنده جمع كثير من الديلم وأنواع الأجناد‏.‏

ولما كثر ماله وذخائره وما استولى عليه من البطيحة قوي طمعه في الملك وسار هو وعسكره إلى الأهواز في ذي القعدة فجهز إليه بهاء الدولة جيشًا في الماء فالتقوا بنهر السدرة فاقتتلوا وخاتلهم أبو العباس وسار إلى الأهواز وتبعه من كان قد لقيه من العسكر فالتقوا بظاهر الأهواز وانضاف إلى عسكر بهاء الدولة العساكر التي بالأهواز فاستظهر أبو العباس عليهم‏.‏

ورحل بهاء الدولة إلى قنطرة أربق عازمًا على المسير إلى فارس ودخل أبو العباس إلى دار المملكة وأخذ ما فيها من الأمتعة والأثاث المتخلف عن بهاء الدولة إلا أنه لم يمكنه المقام لأن بهاء الدولة كان قد جهز عسكرًا ليسير في البحر إلى البصرة فخاف أبو العباس من ذلك وراسل بهاء الدولة وصالحه وزاد في إقطاعه وحلف كل واحد منهما لصاحبه وعاد إلى البصرة وحمل معه كل ما أخذه من دار بهاء الدولة ودور الأكابر والقواد والتجار‏.‏ 

ذكر غزوة بهاطية

في هذه السنة غزا يمين الدولة بهاطية من أعمال الهند وهي وراء المولتان وصاحبها يعرف ببحيرا وهي مدينة حصينة عالية السور يحيط بها خندق عميق فامتنع صاحبها بها ثم إنه خرج إلى ظاهرها فقاتل المسلمين ثلاثة أيام ثم انهزم في الرابع وطلب المدينة ليدخلها فسبقهم المسلمون إلى باب البلد فملكوه عليهم وأخذتهم السيوف من بين أيديهم ومن خلفهم فقتل المقاتلة وسبيت الذرية وأخذت الأموال‏.‏

وأما بحيرا فإنه لما عاين الهلاك أخذ جماعة من ثقاته وسار إلى رؤوس تلك الجبال فسير إليه يمين الدولة سرية فلم يشعر بهم بحيرا إلا وقد أحاطوا به وحكموا السيوف في أصحابه فلما أيقن بالعطب أخذ خنجرًا معه فقتل به نفسه وأقام يمين الدولة ببهاطية حتى أصلح أمرها ورتب قواعدها وعاد عنها إلى غزنة واستخلف بها من يعلم من أسلم من أهلها ما يجب عليهم تعلمه ولقي في عوده شدة شديدة من الأمطار وكثرتها وزيادة الأنهار فغرق منه ومن عسكره شيء عظيم‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة كان بإفريقية غلاء شديد بحيث تعطلت المخابز والحمامات وهلك الناس وذهبت الأموال من الأغنياء وكثر الوباء فكان يموت كل يوم ما بين خمسمائة إلى سبعمائة‏.‏

وفيها وصل قرواش وأبو جعفر الحجاج إلى الكوفة فقبضا على أبي علي عمر بن محمد بن عمر العلوي وأخذ منه قرواش مائة ألف دينار وحمله معه إلى الأنبار‏.‏

وفيها توفي محمد بن علي بن الحسين بن الحسن بن أبي إسماعيل العلوي الهمذاني الفقيه الشافعي رحمه الله تعالى‏.‏

ثم دخلت سنة ست وتسعين وثلاثمائة

ذكر غزوة المولتان

في هذه السنة غزا السلطان يمين الدولة المولتان‏.‏

وكان سبب ذلك أن واليها أبا الفتوح نقل عنه خبث اعتقاده ونسب إلى الإلحاد وأنه قد دعا أهل ولايته إلى ما هو عليه فأجابوه‏.‏

فرأى يمين الدولة أن يجاهده ويستنزله عما هو عليه فسار نحوه فرأى الأنهار التي في طريقه كثيرة الزيادة عظيمة المد وخاصة سيحون فإنه منع جانبه من العبور فأرسل إلى أندبال يطلب إليه أن يأذن له في العبور ببلاده إلى المولتان فلم يجبه إلى ذلك فابتدأ به قبل المولتان وقال‏:‏ نجمع بين غزوتين لأنه لا غزو إلا التعقيب فدخل بلاده وجاسها وأكثر القتل فيها والنهب لأموال أهلها والإحراق لأبنيتها ففر أندبال من بين يديه وهو في أثره كالشهاب في أثر الشيطان من مضيق إلى مضيق إلى أن وصل إلى قشمير‏.‏

ولما سمع أبو الفتوح بخبر إقباله إليه علم عجزه عن الوقوف بين يديه والعصيان عليه فنقل أمواله إلى سرنديب وأخلى المولتان فوصل يمين الدولة إليها ونازلها فإذا أهلها في ضلالهم يعمهون فحصرهم وضيق عليهم وتابع القتال حتى افتتحها عنوةً وألزم أهلها عشرين ألف درهم عقوبةً لعصيانهم‏.‏

ذكر عزوة كواكير

ثم سار عنها إلى قلعة كواكير وكان صاحبها يعرف ببيدا وكان بها ستمائة صنم فافتتحها وأحرق الأصنام فهرب صاحبها إلى قلعته المعروفة بكالنجار فسار خلفه إليها وهو حصن كبير يسع خمسمائة ألف إنسان وفيه خمسمائة فيل وعشرون ألف دابة وفي الحصن ما يكفي الجميع مدة‏.‏

فلما قاربها يمين الدولة وبقي بينهما سبعة فراسخ رأى من الغياض المانعة من سلوك الطريق ما لا حد عليه فأمر بقطعها ورأى في الطريق واديًا عظيم العمق بعيد القعر فأمر أن يطم منه مقدار ما يسع عشرين فارسًا فطموه بالجلود المملوءة ترابًا ووصل إلى القلعة فحصرها ثلاثة وأربعين يومًا وراسله صاحبها في الصلح فلم يجبه‏.‏

ثم بلغه عن خراسان اختلاف بسبب قصد ايلك الخان لها فصالح ملك الهند على خمسمائة فيل وثلاثة آلاف من فضة ولبس خلعه يمين الدولة بعد أن استعفى من شد المنطقة فإنه اشتد عليه فلم يجبه يمين الدولة إلى ذلك فشد المنطقة وقطع إصبعه الخنصر وأنفذها إلى يمين الدولة توثقةً فيما يعتقدونه وعاد يمين الدولة إلى خراسان لإصلاح ما اختلف فيها وكان عازمًا على الوغول في بلاد الهند‏.‏

ذكر عبور عسكر ايلك الخان إلى خراسان كان يمين الدولة

لما استقر له ملك خراسان وملك ايلك الخان ما وراء النهر قد راسله ووافقه وتزوج ابنته وانعقدت بينهما مصاهرة ومصالحة فلم تزل السعاة حتى أفسدوا ذات بينهما وكتم ايلك الخان ما في نفسه فلما سار يمين الدولة إلى المولتان اغتنم ايلك الخان خلو خراسان فسير سباشي تكين صاحب جيشه في هذه السنة إلى خراسان في معظم جنده وسير أخاه جعفر تكين إلى بلخ في عدة من الأمراء‏.‏

وكان يمين الدولة قد جعل بهراة أميرًا من أكابر أمرائه يقال له‏:‏ أرسلان الجاذب فأمره إذا ظهر عليه مخالف أن ينحاز إلى غزنة‏.‏

فلما عبر سباشي تكين إلى خراسان سار أرسلان إلى غزنة وملك سباشي هراة وأقام بها وأرسل إلى نيسابور من استولى عليها‏.‏

واتصلت الأخبار بيمين الدولة وهو بالهند فرجع إلى غزنة لا يلوي على دار ولا يركن إلى قرار فلما بلغها فرق في عساكره الأموال وقواهم وأصلح ما أراد إصلاحه واستمد الأتراك الخلجية فجاءه منه خلق كثير وسار بهم نحو بلخ وبها جعفر تكين أخو ايلك الخان فعبر إلى ترمذ ونزل يمين الدولة ببلخ وسير العساكر إلى سباشي تكين بهراة فلما قاربوه سار نحو مرو ليعبر النهر فلقيه التركمان الغزية فقاتلوه فهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة‏.‏

ثم سار نحو أبيورد لتعذر العبور عليه فتبعه عسكر يمين الدولة كلما رحل نزلوا حتى ساقه الخوف من الطلب إلى جرجان فأخرج عنها ثم عاد إلى خراسان فعارضه يمين الدولة فمنعه عن مقصده وأسر أخو سباشي تكين وجماعة من قواده ونجا هو في خف من أصحابه فعبر النهر‏.‏

وكان ايلك الخان قد عبر أخاه جعفر تكين إلى بلخ ليلفت يمين الدولة عن طلب سباشي فلم يرجع وجعل دأبه إخراج سباشي من خراسان فلما أخرجه عنها عاد إلى بلخ فانهزم من كان بها مع جعفر تكين وسلمت خراسان ليمين الدولة‏.‏

ذكر الحرب بين عسكر بهاء الدولة والأكراد

في هذه السنة سير عميد الجيوش عسكرًا إلى البندنيجين وجعل المقدم عليهم قائدًا كبيرًا من الديلم فلما وصلوا إليها سار إليهم جمع كثير من الأكراد فاقتتلوا فانهزم الديلم وغنم الأكراد رحلهم ودوابهم وجرد المقدم عليهم من ثيابه فأخذ قميصًا من رجل سوادي وعاد راجلًا حافيًا ولم يكن مقامهم غير أيام قليلة‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة قلد الشريف الرضي نقالة الطالبيين بالعراق ولقب بالرضي ذي الحسبين ولقب أخوه المرتضى ذا المجدين فعل ذلك بهاء الدولة‏.‏

وفيها توفي أبو أحمد عبد الرحيم بن علي بن المرزبان الأصبهاني قاضي خراسان وكان إليه أمر البيمارستان ببغداد‏.‏

وفيها مستهل شعبان طلع كوكب كبير يشب الزهرة عن يسرة قبلة العراق له شعاع على الأرض كشعاع القمر وبقي إلى منتصف ذي القعدة وغاب‏.‏

وفيها توفي أبو سعد إسماعيل بن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الإسماعيلي الإمام الفقيه الشافعي بجرجان في ربيع الآخر ومحمد بن إسحاق بن محمد ابن يحيى بن مندة أبو عبدالله الحافظ الأصبهاني المشهور له التصانيف المعروفة‏.‏

ذكر هزيمة ايلك الخان

لما أخرج يمين الدولة عساكر ايلك الخان من خراسان راسل ايلك الخان قدر خان بن بغراخان ملك الختل لقرابة بينهما وذكر له حاله واستعان به واستنصره واستنفر الترك من أقاصي بلادها وسار نحو خراسان واجتمع هو وايلك الخان فعبرا النهر‏.‏

وبلغ الخبر يمين الدولة وهو بطخارستان فسار وسبقهما إلى بلخ واستعد للحرب وجمع الترك الغزية والخلج والهند والأفغانية والغزنوية وخرج عن بلخ فعسكر على فرسخين بمكان فسيح يصلح للحرب وتقدم ايلك الخان وقدرخان في عساكرهما فنزلوا بإزائه واقتتلوا يومهم ذلك إلى الليل‏.‏

فلما كان الغد برز بعضهم إلى بعض واقتتلوا واعتزل يمين الدولة إلى نشز مرتفع ينظر إلى الحرب ونزل عن دابته وعفر وجهه على الصعيد تواضعًا لله تعالى وسأله النصر والظفر ثم نزل وحمل في فيلته على قلب ايلك الخان فأزاله عن مكانه ووقعت الهزيمة فيهم وتبعهم أصحاب يمين الدولة يقتلون ويأسرون ويغنمون إلى أن عبروا بهم النهر وأكثر الشعراء تهنئة يمين لدولة بهذا الفتح‏.‏

فلما فرغ يمين لدولة من الترك سار نحو الهند للغزاة‏.‏

وسبب ذلك أن بعض أولاد ملوك الهند يعرف بنواسه شاه وكان قد أسلم على يده واستخلفه على بعض ما افتتحه من بلادهم‏.‏

فلما كان الآن بلغه أنه ارتد عن الإسلام ومالأ أهل الكفر والطغيان فسار إليه مجدًا فحين قاربه فر الهندي من بين يديه واستعاد يمين الدولة تلك الولاية وأعادها إلى حكم الإسلام واستخلف عليها بعض أصحابه وعاد إلى غزنة‏.‏

ذكر حصر أبي جعفر الحجاج بغداد

في هذه السنة جمع أبو جعفر الحجاج جمعًا كثيرًا وأمده بدر بن حسنويه بجيش كثير فسار بالجميع وحصر بغداد‏.‏

وسبب ذلك أن أبا جعفر كان نازلًا على قلج حامي طريق خراسان وكان قلج مباينًا لعميد الجيوش فاجتمعا لذلك‏.‏

فتوفي قلج هذه السنة فجعل عميد الجيوش على حماية الطريق أبا الفتح بن عناز وكان عدوًا لبدر بن حسنويه فحقد ذلك بدر فاستدعى أبا جعفر الحجاج وجمع له جمعًا كثيرًا منهم الأمير هندي بن سعدي وأبو عيسى شاذي بن محمد وورام بن وكان الأمير أبو الحسن علي بن مزيد الأسدي قد عاد من عند بهاء الدولة بخوزستان مغضبًا فاجتمع معهم فزادت عدتهم على عشرة آلاف فارس‏.‏

وكان عميد الجيوش عند بهاء الدولة لقتال أبي العباس بن واصل فسار أبو جعفر ومن اجتمع معه إلى بغداد ونزلوا على فرسخ منها وأقاموا شهرًا وببغداد جمعٌ من الأتراك ومعهم أبو الفتح بن عناز فحفظوا البلد فبينما هم كذلك أتاهم خبر انهزام أبي العباس وقوة بهاء الدولة ففت ذلك في أعضاد أبي جعفر ومن معه فتفرقوا فعاد ابن مزيد إلى بلده وسار أبو جعفر وأبو عيسى إلى حلوان وراسل أبو جعفر في إصلاح حاله مع بهاء الدولة فأجابه إلى ذلك فحضر عنده بتستر فلم يلتفت إليه لئلا يستوحش عميد الجيوش‏.‏