المجلد الثامن - ذكر الخطبة لمشرف الدولة ببغداد

ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وأربعمائة

وقتل وزيره أبي غالب في هذه السنة في المحرم قطعت خطبة سلطان الدولة من العراق وخطب لمشرف الدولة فطلب الديلم من مشرف الدولة أن ينحدروا إلى بيوتهم بخوزستان فأذن لهم وأمر وزيره أبا غالب بالانحدار معهم فقال له‏:‏ إني إن فعلت خاطرت بنفسي ولكن أبذلها في خدمتك‏.‏

ثم انحدر في العساكر فلما وصل إلى الأهواز نادى الديلم بشعار سلطان الدولة وهجموا على أبي غالب فقتلوه فسار الأتراك الذين كانوا معه إلى طراد ابن دبيس الأسدي بالجزيرة التي لنبي دبيس ولم يقدروا أن يدفعوا عنه فكانت وزارته ثمانية عشر شهرًا وثلاثة أيام وعمره ستين سنة وخمسة أشهر فأخذ ولده أبو العباس وصودر على ثلاثين ألف دينار‏.‏

فلما بلغ سلطان الدولة قتله اطمأن وقويت نفسه وكان قد خافه وأنفذ ابنه أبا كاليجار إلى الأهواز فملكها‏.‏

في هذه السنة مرض صدقة صاحب البطيحة فقصدها أبو الهيجاء محمد بن عمران بن شاهين في صفر وكان أبو الهيجاء بعد موت أبيه قد تمزق في البلاد تارةً بمصر وتارةً عند بدر بن حسنويه وتارةً بينهما فلما ولي الوزير أبو غالب أنفق عليه لأدب كان فيه فكاتبه بعض أهل البطيحة ليسلموا إليه فسار إليهم فسمع به صدقة قبل موته بيومين فسير إليه جيشًا فقاتلوه فانهزم أبو الهيجاء وأخذ أسيرًا فأراد استبقاءه فمنعه سابور ابن المرزبان بن مروان وقتله بيده‏.‏

ثم توفي صدقة بعد قتله في صفر فاجتمع أهل البطيحة على ولاية سابور بن المرزبان فوليهم وكتب إلى مشرف الدولة يطلب أن يقرر عليه ما كان على صدقة من الحلم ويستعمل على البطيحة فأجابه إلى ذلك وزاد في القرار عليه واستقر في الأمر‏.‏

ثم إن أبا نصر شيرزاد بن الحسن بن مروان زاد في المقاطعة فلم يدخل سابور في الزيادة فولي أبو نصر البطيحة وسار إليها وفارقها سابور إلى الجزيرة بني دبيس واستقر أبو نصر في الولاية وأمنت به الطرق‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة توفي علي بن هلال المعروف بابن البواب الكاتب المشهور وإليه انتهى الخط ودفن بجوار أحمد بن حنبل وكان يقص بجامع بغداد ورثاه المرتضى وقيل كان موته سنة ثلاث عشرة وأربعمائة‏.‏

وفيها حج الناس من العراق وكان قد انقطع سنة عشر وسنة إحدى عشرة فلما كان هذه السنة قصد جماعة من أعيان خراسان السلطان محمود بن سبكتكين وقالوا له‏:‏ أنت أعظم ملوك الإسلام وأثرك في الجهاد مشهور والحج قد انقطع كما ترى والتشاغل به واجبٌ وقد كان بدر بن حسنويه وفي أصحابك كثير أعظم منه يسير الحاج بتدبيره وما له عشرون فاجعل لهذا الأمر حظًا من اهتمامك‏.‏

فتقدم إلى أبي محمد الناصحي قاضي قضاة بلاده بأن يسير بالحاج وأعطاه ثلاثين ألف دينار يعطيها للعرب سوى النفقة في الصدقات ونادى في خراسان بالتأهب للحج فاجتمع خلق عظيم وساروا وحج بهم أبو لحسن الأقساسي فلما بلغوا فيد حصرهم العرب فبذل لهم الناصحي خمسة آلاف دينار فلم يقنعوا وصمموا العزم على أخذ الحاج وكان مقدمهم رجل يقال له حمار بن عدي بضم العين من بني نبهان فركب فرسه وعليه درعه وسلاحه وجال جولة يرهب بها وكان من سمرقند شاب يوصف بجودة الرمي فرماه بسهم فقتله وتفرق وفيها قلد أبو جعفر السمناني الحسبة والمواريث ببغداد والموتى‏.‏

وتوفي هذه السنة أبو سعد أحمد بن محمد بن أحمد بن عبدالله الماليني الصوفي بمصر في شوال وهو من المكثرين في الحديث ومحمد بن أحمد بن محمد بن رزق البزاز المعروف بابن زرقويه شيخ الخطيب أبي بكر ومولده سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وكان فقيهًا شافعيًا وأبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي الصوفي النيسابوري صاحب طبقات الصوفية وأبو علي الحسن بن علي الدقاق النيسابوري الصوفي شيخ أبي القاسم القشيري وأبو الفتح بن أبي الفوارس‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وأربعمائة

ذكر الصلح بين سلطان الدولة ومشرف الدولة

في هذه السنة اصطلح سلطان الدولة وأخوه مشرف الدولة وحلف كل واحد منهما لصاحبه وكان الصلح بسعي من أبي محمد بن مكرم ومؤيد الملك الرخجي وزير مشرف الدولة على أن يكون العراق جميعه لمشرف الدولة وفارس وكرمان لسلطان الدولة‏.‏

ذكر مقتل المعز وزيره وصاحب جيشه

في هذه السنة قتل المعز بن باديس صاحب إفريقية وزيره وصاحب جيشه أبا عبد الله محمد بن الحسن‏.‏

وسبب ذلك أنه أقام سبع سنين لم يحمل إلى المعز من الأموال شيئًا بل يجبيها ويرفعها عنده وطمع طمعًا عظيمًا لا يصبر على مثله بكثرة أتباعه ولأن أخاه عبد الله بطرابلس الغرب مجاور لزناتة وهم أعداء دولته فصار المعز لا يكاتب ملكًا ولا يراسله إلا ويكتب أبو عبد الله معه عن نفسه فعظم ذلك على المعز وقتله‏.‏

يحكى عن أبي عبد الله أنه قال‏:‏ سهرت ليلة أفكر في شيء أحدثه في الناس وأخرجه عليهم من الخدم التي التزمتها فنمت فرأيت عبد الله بن محمد الكاتب وكان وزيرًا لباديس والد هذا المعز وكان عظيم القدر والمحل وهو يقول لي‏:‏ اتق الله أبا عبد الله في الناس كافة وفي نفسك خاصة فقد أسهرت عينيك وأبرمت حافظيك وقد بدا لي منك ما خفي عليك وعن قليل ترد على ما وردنا وتقدم على ما قدمنا‏.‏

فاكتب عني ما أقول فإنني لا أقول إلا حقًا‏.‏

فأملى علي هذه الأبيات‏:‏ وليت وقد رأيت مصير قوم هم كانوا السماء وكنت أرضا سموا درج العلى حتى اطمأنوا وهد بهم فعاد الرفع خفضا وأعظم أسوة لك بي لأني ملكت ولم أعش طولًا وعرضا فلا تغتر بالدنيا وأقصر فإن أوان أمرك قد تقضى قال‏:‏ فانتبهت مرعوبًا ورسخت الأبيات في حفظي فلم يبق بعد هذا المنام غير شهرين حتى قتل‏.‏

ولما وصل خبر قتله إلى أخيه عبد الله بطرابلس بعث إلى زناتة فعاهدهم وأدخلهم مدينة طرابلس فقتلوا من كان فيها من صنهاجة وسائر الجيش وأخذوا المدينة‏.‏

فلما سمع المعز ذلك أخذ أولاد عبد الله ونفرًا من أهلهم فحبسهم ثم قتلهم بعد أيام لأن نساء المقتولين بطرابلس استغثن إلى المعز في قتلهم فقتلهم‏.‏

ذكر عدة حوادث

وفيها كان بإفريقية غلاء شديد ومجاعة عظيمة لم يكن مثلها في تعذر الأقوات إلا أنه لم يمت فيها أحد بسبب الجوع ولم يجد الناس كبير مشقة‏.‏

وفيها في شهر رمضان استوزر مشرف الدولة أبا الحسين بن الحسن الرخجي ولقب مؤيد الملك وامتدحه مهيار وغيره من الشعراء وبني مارستانا بواسط وأكثر فيه من الأدوية والأشربة ورتب له الخزان والأطباء ووقف عليه الوقوف الكثيرة وكان يعرض عليه الوزارة فيأباها فلما قتل أبو غالب ألزمه بها مشرف الدولة فلم يقدر على الامتناع‏.‏

وفيها توفي أبو الحسن علي بن عيسى السكري شاعر السنة ومولده ببغداد في صفر سنة سبع وخمسين وثلاثمائة‏.‏

وكان قد قرأ الكلام على القاضي أبي بكر بن الباقلاني وإنما سمي شاعر

وفيها توفي أبو علي عمر بن محمد بن عمر العلوي وأخذ السلطان ماله جميعه‏.‏

وفيها توفي أبو عبد الله بن المعلم فقيه الإمامية ورثاه المرتضى‏.‏

ثم دخلت سنة أربع عشرة وأربعمائة

ذكر استيلاء علاء الدولة على همذان

في هذه السنة استولى أبو جعفر بن كاكويه على همذان وملكها وكذلك غيرها مما يقاربها‏.‏

وسبب ذلك أن فرهاذ بن مرداويج الديلمي مقطع بروجرد قصده سماء الدولة أبو الحسن بن شمس الدولة بن بويه صاحب همذان وحصره فالتجأ فرهاذ إلى علاء الدولة فحماه ومنع عنه وسارا جميعًا إلى همذان فحصراها وقطعا الميرة عنها فخرج إليهما من بها من العسكر فاقتتلوا فرحل علاء الدولة إلى جرباذقان فهلك من عسكره ثلاثمائة رجل من شدة البرد‏.‏

فسار إليه تاج الملك القوهي مقدم عسكر همذان فحصره بها فصانع علاء الدولة الأكراد الذين مع تاج الملك فرحلوا عنه فخلص من الحصار وشرع بالتجهز ليعاود حصار همذان فأكثر من الجموع وسار إليها فلقيه سماء الدولة في عساكره ومعه تاج الملك فاقتتلوا فانهزم عسكر همذان ومضى تاج الملك إلى قلعة فاحتمى بها وتقدم علاء الدولة إلى سماء الدولة فترجل له وخدمه وأخذه وأنزله في خيمته وحمل إليه المال وما يحتاج إليه وسار وهو معه إلى القلعة التي بها تاج الملك فحصره وقطع الماء عن القلعة فطلب تاج الملك الأمان فأمنه فنزل إليه ودخل معه همذان‏.‏

ولما ملك علاء الدولة همذان سار إلى الدينور فملكها ثم إلى سابور خواست فملكها أيضًا وجمع تلك الأعمال وقبض على أمراء الديلم الذين بهمذان وسجنهم بقلعة عند أصبهان وأخذ أموالهم وأقطاعهم وأبعد كل من فيه شر من الديلم وترك عنده من يعلم أنه لا شر فيه وأكثر القتل فقامت هيبته وخافه الناس وضبط المملكة‏.‏

وقصد حسام الدولة أبا الشوك فأرسل إليه مشرف الدولة يشفع فيه فعاد عنه‏.‏

ذكر وزارة أبي القاسم المغربي لمشرف الدولة


في هذه السنة قبض مشرف الدولة على وزيره مؤيد الملك الرخجي في شهر رمضان وكانت وزارته سنتين وثلاثة أيام‏.‏

وكان سبب عزله أن الأثير الخادم تغير عليه لأنه صادر ابن شعيا اليهودي على مائة ألف دينار وكان متعلقًا على الأثير فسعى وعزله واستوزر بعده أبا القاسم الحسين بن علي بن الحسين المغربي ومولده بمصر سنة سبعين وثلاثمائة وكان أبوه من أصحاب سيف الدولة بن حمدان فسار إلى مصر فتولى بها فقتله الحاكم فهرب ولده أبو القاسم إلى الشام وقصد حسان بن المفرج بن الجراح الطائي وحمله على مخالفة الحاكم والخروج عن طاعته ففعل ذلك وحسن له أن يبايع أبا الفتوح الحسن بن جعفر العلوي أمير مكة فأجابه إليه واستقدمه إلى الرملة وخوطب بأمير المؤمنين‏.‏

فأنفذ الحاكم إلى حسان مالًا جليلًا وأفسد معه حال أبي الفتوح فأعاده حسان إلى وادي القرى وسار أبو الفتوح منه إلى مكة‏.‏

ثم قصد أبو القاسم العراق واتصل بفخر الملك فاتهمه القادر بالله لأنه من مصر فأبعده فخر الملك فقصد قرواشًا بالموصل فكتب له ثم عاد عنه وتنقلت به الحال إلى أن وزر بعد مؤيد الملك الرخجي‏.‏

وكان خبيثًا محتالًا حسودًا إذا دخل عليه ذو فضيلة سأله عن غيرها ليظهر للناس جهله‏.‏

وفيها في المحرم قدم مشرف الدولة إلى بغداد ولقيه القادر بالله في الطيار وعليه السواد ولم يلق قبله أحدًا من ملوك بني بويه‏.‏

وفيها قتل أبو محمد بن سهلان قتله نبكير بن عياض عند إيذج‏.‏

في هذه السنة كان يوم النفر الأول يوم الجمعة فقام رجل من مصر بإحدى يديه سيف مسلول وفي الأخرى دبوس بعدما فرغ الإمام من الصلاة فقصد ذلك الرجل الحجر الأسود كأنه يستلمه فضرب الحجر ثلاث ضربات بالدبوس وقال‏:‏ إلى متى يعبد الحجر الأسود ومحمد وعلي فليمنعني مانع من هذا فإني أريد أن أهدم البيت‏.‏

فخاف أكثر الحاضرين وتراجعوا عنه وكاد يفلت فثار به رجل فضربه بخنجر فقتله وقطعه الناس وأحرقوه وقتل ممن اتهم بمصاحبته جماعة وأحرقوا وثارت الفتنة وكان الظاهر من القتلى أكثر من عشرين رجلًا غير من اختفى منهم‏.‏

وألح الناس ذلك اليوم على المغاربة والمصريين بالنهب والسلب وعلى غيرهم في طريق منى إلى البلد‏.‏

فلما كان الغد ماج الناس واضطربوا وأخذوا أربعة من أصحاب ذلك الرجل فقالوا‏:‏ نحن مائة رجل فضربت أعناق هؤلاء الأربعة وتقشر بعض وجه الحجر من الضربات فأخذ ذلك الفتات وعجن بلك وأعيد إلى موضعه‏.‏

ذكر فتح قلعة من الهند


في هذه السنة أوغل يمين الدولة محمود بن سبكتكين في بلاد الهند فغنم وقتل حتى وصل إلى قلعة على رأس جبل منيع ليس له مصعد إلا من موضع واحد وهي كبيرة تسع خلقًا وبها خمسمائة فيل وفي رأس الجبل من الغلات والمياه وجميع ما يحتاج الناس إليه فحصرهم يمين الدولة وأدام الحصار وضيق عليهم واستمر القتال فقتل منهم كثير‏.‏

فلما رأوا ما حل بهم أذعنوا له وطلبوا الأمان فأمنهم وأقر ملكهم فيها على خراج يأخذه منه وأهدى له هدايا كثيرة منها طائر على هيئة القمري من خاصيته إذا أحضر الطعام وفيه سم دمعت عينا هذا الطائر وجرى منهما ماء وتحجر فإذا حك وجعل على الجراحات الواسعة ألحمها‏.‏

ذكر عدة حوادث

فيها توفي القاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي الرازي صاحب التصانيف المشهورة في الكلام وغيره وكان موته بمدينة الري وقد جاوز تسعين سنة وأبو عبد الله الكشفلي الفقيه الشافعي وأبو جعفر محمد بن أحمد الفقيه الحنفي النسفي وكان زاهدًا مصنفًا وهلال بن محمد بن جعفر أبو الفتح الحفار ومولده سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وكان عالمًا بالحديث عالي الإسناد‏.‏

ذكر الخلف بين مشرف الدولة والأتراك وعزل الوزير المغربي

في هذه السنة تأكدت الوحشة بين الأثير عنبر الخادم ومعه الوزير ابن المغربي وبين الأتراك فاستأذن الأثير والوزير ابن المغربي الملك مشرف الدولة في الانتزاح إلى بلد يأمنان فيه على أنفسهما فقال‏:‏ أنا أسير معكما‏.‏

فساروا جميعًا ومعهم جماعة من مقدمي الديلم إلى السندية وبها قرواش فأنزلهم ثم ساروا كلهم إلى أوانا‏.‏

فلما علم الأتراك ذلك عظم عليهم وانزعجوا منه وأرسلوا المرتضى وأبا الحسن الزينبي وجماعة من قواد الأتراك يعتذرون ويقولون‏:‏ نحن العبيد فكتب إليهم أبو القاسم المغربي‏:‏ إنني تأملت ما لكم من الجامكيات فإذا هي ستمائة ألف دينار وعملت دخل بغداد فإذا هو أربعمائة ألف دينار فإن أسقطتم مائة ألف دينار تحملت بالباقي فقالوا‏:‏ نحن نسقطها فاستشعر منهم أبو القاسم المغربي فهرب إلى قرواش فكانت وزارته عشرة أشهر وخمسة أيام فلما أبعد خرج الأتراك فسألوا الملك والأثير الانحدار معهم فأجابهم إلى ذلك وانحدروا جميعهم‏.‏

ذكر الفتنة بالكوفة ووزارة أبي القاسم المغربي لابن مروان

وسببها أن المختار أبا علي بن عبيد الله العلوي وقعت بينه وبين الزكي أبي علي النهرسابسي وبين أبي الحسن علي بن أبي طالب بن عمر مباينة فاعتضد المختار بالعباسيين فساروا إلى بغداد وشكوا ما يفعل بهم النهرسابسي فتقدم الخليفة القادر بالله بالإصلاح بينهم مراعاة لأبي القاسم الوزير المغربي لأن النهرسابسي كان صديقه وابن أبي طالب كان صهره فعادوا واستعان كل فريق بخفاجة فأعان كل فريق من الكوفيين طائفة من خفاجة فجرى بينهم قتال فظهر العلويون وقتل من العباسيين ستة نفر وأحرقت دورهم ونهبت فعادوا إلى بغداد ومنعوا من الخطبة يوم الجمعة وثاروا وقتلوا ابن أبي العباس العلوي وقالوا‏:‏ إن أخاه كان في جملة الفتكة بالكوفة‏.‏

فبرز أمر الخليفة إلى المرتضى يأمره بصرف ابن أبي طالب عن نقابة الكوفة وردها إلى المختار فأنكر الوزير المغربي ما يجري على صهره ابن أبي طالب من العزل وكان عند قرواش بسر من رأى فاعترض أرحاء كانت للخليفة بدرزيجان فأرسل الخليفة القاضي أبا جعفر السمناني في رسالة إلى قرواش يأمره بإبعاد المغربي عنه ففعل فسار المغربي إلى ابن مروان بديار بكر وغضب الخليفة على النهرسابسي وبقي تحت السخط إلى سنة ثماني عشرة وأربعمائة فشفع فيه الأتراك وغيرهم فرضي عنه وحلفه على الطاعة فحلف‏.‏

في هذه السنة في شوال توفي الملك سلطان الدولة أبو شجاع بن بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة بشيراز وكان عمره اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر‏.‏

وكان ابنه أبو كاليجار بالأهواز فطلبه الأوحد أبو محمد بن مكرم ليملك بعد أبيه وكان هواه معه وكان الأتراك يريدون عمه أبة الفوارس ابن بهاء الدولة صاحب كرمان فكاتبوه يطلبونه إليهم أيضًا فتأخر أبو كاليجار عنها فسبقه عمه أبو الفوارس إليها فملكها‏.‏

وكان أبو المكارم بن أبي محمد بن مكرم قد أشار على أبيه لما رأى الاختلاف أن يسير إلى مكان يأمن فيه على نفسه فلم يقبل قوله فسار وتركه وقصد البصرة فندم أبوه حيث لم يكن معه فقال له العادل أبو منصور ابن مافنة‏:‏ المصلحة أن تقصد سيراف وتكون مالك أمرك وابنك أبو القاسم بعمان فتحتاج الملوك إليك‏.‏

فركب سفينة لمضي إليها فأصابه برد فبطل عن الحركة وأرسل العادل بن مافنة إلى كرمان لإحضار أبي الفوارس فسار إليه العادل وأبلغه رسالة ابن مكرم باستدعائه فسار مجدًا ومعه العادل فوصلوا إلى فارس وخرج ابن مكرم يلتقي أبا الفوارس ومعه الناس فطالبه الأجناد بحق البيعة فأحالهم على ابن مكرم فتضجر ابن مكرم فقال له العادل‏:‏ الرأي أن تبذل مالك وأموالنا حتى تمشي الأمور فانتهره فسكت وتلوم ابن مكرم بإيصال المال إلى الأجناد فشكوه إلى أبي الفوارس فقبض عليه وعلى العادل بن مافنة فلما سمع ابنه أبو القاسم بقتله صار مع الملك أبي كاليجار وأطاعه وتجهز أبو كاليجار وأقام بأمره أبو مزاحم صندل الخادم وكان مربيه وساروا بالعساكر إلى فارس فسير عمه أبو الفوارس عسكرًا مع وزيره أبي منصور الحسن بن علي الفسوي لقتاله فوصل أبو كاليجار والوزير متهاون به لكثرة عسكره فأتوه وهو نائم وقد تفرق عسكره في البلد يبتاعون ما يحتاجون إليه وكان جاهلًا بالحرب فلما شاهدوا أعلام أبي كاليجار شرع الوزير يرتب العسكر وقد داخلهم الرعب فحمل عليهم أبو كاليجار وهم على اضطراب فانهزموا وغنم أبو كاليجار وعسكره أموالهم ودوابهم وكل مالهم فلما انتهى خبر الهزيمة إلى عمه أبي الفوارس سار إلى كرمان وملك أبو كاليجار بلاد فارس ودخل شيراز‏.‏

ذكر عود أبي الفوارس إلى فارس وإخراجه عنها

ولما ملك أبو كاليجار بلاد فارس ودخل شيراز جرى على الديلم الشيرازية من عسكره ما أخرجهم عن طاعته وتمنوا معه أنهم كانوا قتلوا مع عمه‏.‏

وكان جماعة من الديلم بمدينة فسا في طاعة أبي الفوارس وهم يريدون أن يصلحوا حالهم مع

أبي كاليجار ويصيروا معه فأرسل إليهم الديلم الذين بشيراز يعرفونهم ما يلقون من الأذى ويأمرونهم بالتمسك بطاعة أبي الفوارس ففعلوا ذلك‏.‏

ثم إن عسكر أبي كاليجار طالبوه بالمال وشغبوا عليه فأظهر الديلم الشيرازية ما في نفوسهم من الحقد فعجز عن المقام معهم فسار عن شيراز إلى النوبنذجان ولقي شدة في طريقه ثم انتقل عنها لشدة حرها ووخامة هوائها ومرض أصحابه فأتى شعب بوان فأقام به‏.‏

فلما سار عن شيراز أرسل الديلم الشيرازية إلى عمه أبي الفوارس يحثونه على المجيء إليهم ويعرفونه بعد أبي كاليجار عنه فسار إليهم فسلموا إليه شيراز وقصد إلى أبي كاليجار بشعب بوان ليحاربه ويخرجه عن البلاد فاختار العسكران الصلح فسفروا فيه فاستقر لأبي الفوارس كرمان وفارس ولأبي كاليجار خوزستان وعاد أبو الفوارس إلى شيراز وسار أبو كاليجار إلى أرجان‏.‏

ثم إن وزير أبي الفوارس خبط الناس وأفسد قلوبهم وصادرهم وجاز به مال لأبي كاليجار والديلم الذين معه فأخذه فحينئذ حث العادل ابن مافنة صندلًا الخادم على العود إلى شيراز وكان قد فارق بها نعمة عظيمة وصار مع أبي كاليجار وكان الديلم يطيعونه فعادت الحال إلى أشد مما كانت عليه فسار كل واحد من أبي كاليجار وعمه أبي الفوارس إلى صاحبه فالتقوا واقتتلوا فانهزم أبو الفوارس إلى داربجرد وملك أبو كاليجار فارس وعاد أبو الفوارس فجمع الأكراد فأكثر فاجتمع معه منهم عشرة آلاف مقاتل فالتقوا بين البيضاء وإصطخر فاقتتلوا أشد من القتال الأول فعاود أبو الفوارس الهزيمة فسار إلى كرمان واستقر ملك أبي كاليجار بفارس سنة سبع عشرة وأربعمائة وكان أهل شيراز يكرهونه‏.‏

ذكر خروج زناتة والظفر بهم

في هذه السنة خرج بإفريقية جمع كثير من زناتة فقطعوا الطريق وأفسدوا بقسطيلية ونفزاوة وأغاروا وغنموا واشتدت شوكتهم وكثر جمعهم‏.‏فسير إليهم المعز بن باديس جيشًا جريدة وأمرهم أن يجدوا السير ويسبقوا أخبارهم ففعلوا ذلك وكتموا خبرهم وطووا المراحل حتى أدركوهم وهم آمنون من الطلب فوضعوا فيهم السيف فقتل منهم خلق كثير وعلق خمسمائة رأس في أعناق الخيول وسيرت إلى المعز وكان يوم دخولها يومًا مشهودًا‏.‏

ذكر عودة الحاج على الشام وما كان من الظاهر إليهم

في هذه السنة عاد الحجاج من مكة إلى العراق على الشام لصعوبة الطريق المعتاد فلما وصلوا إلى مكة بذل لهم الظاهر العلوي صاحب مصر أموالًا جليلة وخلعًا نفيسة وتكلف شيئًا وكان على تسيير الحجاج الشريف أبو الحسن الأقساسي وعلى حجاج خراسان حسنك نائب يمين الدولة بن سبكتبكين فعظم ما جرى على الخليفة القادر بالله وعبر حسنك دجلة عند أوانا وسار إلى خراسان وتهدد القادر بالله ابن الأقساسي فمرض فمات ورثاه المرتضي وغيره وأرسل إلى يمين الدولة في المعنى فسير يمين الدولة الخلع التي خلعت على صاحبه حسنك إلى بغداد فأحرقت‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة تزوج السلطان مشرف الدولة بابنة علاء الدولة بن كاكويه وكان الصداق خمسين ألف دينار وتولى العقد المرتضى‏.‏

وفيها قلد القاضي أبو جعفر السمناني قضاء الرصافة وباب الطاق‏.‏

وفيها توفي أبو الحسن علي بن محمد السمسمي الأديب وابن الدقاق النحوي وأبو الحسين بن بشران المحدث وعمره سبع وثمانون سنة والقاضي أبو محمد بن أبي حامد المروروذي قاضي البصرة بها وأبو الفرج أحمد بن عمر المعروف بابن المسلمة الشاهد وهو جد رئيس الرؤساء وأحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم أبو الحسن المحاملي الفقيه الشافعي تفقه على أبي حامد وصنف المصنفات المشهورة وعبيد الله بن عمر بن علي بن محمد بن الأشرس أبو القاسم المقريء الفقيه الشافعي‏.‏

ثم دخلت سنة ست عشرة وأربعمائة

ذكر فتح سومنات

في هذه السنة فتح يمين الدولة في بلاد الهند عدة حصون ومدن وأخذ الصنم المعروف بسومنات وهذا الصنم كان أعظم أصنام الهند وهم يحجون إليه كل ليلة خسوف فيجتمع عنده ما ينيف على مائة ألف إنسان وتزعم الهنود أن الأرواح إذا فارقت الأجساد اجتمعت إليه على مذهب التناسخ فينشئها فيمن شاء وأن المد والجزر الذي عنده إنما هو عبادة البحر على قدر استطاعته‏.‏

وكانوا يحملون إليه كل علق نفيس ويعطون سدنته كل مال جزيل وله من الموقوف ما يزيد على عشرة آلاف قرية وقد اجتمع في البيت الذي هو فيه من نفيس الجوهر ما لا تحصى قيمته ولأهل الهند نهر كبير يسمى كنك يعظمونه غاية التعظيم ويلقون فيه عظام من يموت من كبرائهم ويعتقدون أنها تساق إلى جنة النعيم‏.‏

وبين هذا النهر وبين سومنات نحو مائتي فرسخ وكان يحمل من مائة كل يوم إلى سومنات ما يغسل به ويكون عنده من البرهميين كل يوم ألف رجل لعبادته وتقديم الوفود إليه وثلاثمائة رجل يحلقون رؤوس زواره ولحاهم وثلاثمائة رجل وخمسمائة أمة يغنون ويرقصون على باب الصنم ولكل واحد من هؤلاء شيء معلوم كل يوم‏.‏

وكان يمين الدولة كلما فتح من الهند فتحًا وكسر صنمًا يقول الهنود‏:‏ إن هذه الأصنام قد سخط عليها سومنات ولو أنه راض عنها لأهلك من تقصدها بسوء فلما بلغ ذلك يمين الدولة عزم على غزوه وإهلاكه ظنًا منه أن الهنود إذا فقدوه ورأوا كذب ادعائهم الباطل دخلوا في الإسلام فاستخار الله تعالى وسار عن غزنة عاشر شعبان من هذه السنة في ثلاثين ألف فارس من عساكره سوى المتطوعة وسلك سبيل الملتان فوصلها منتصف شهر رمضان‏.‏

وفي طريقه إلى الهند برية قفر لا ساكن فيها ولا ماء ولا ميرة فتجهز هو وعسكره على قدرها ثم زاد بعد الحاجة عشرين ألف جمل تحمل الماء والميرة وقصد أنهلوارة فلما قطع المفازة رأى في طرفها حصونًا مشحونة بالرجال وعندها آبار قد غوروها ليتعذر عليه حصرها فيسر الله تعالى فتحها عند قربه منها بالرعب الذي قذفه في قلوبهم وتسلمها وقتل سكانها وأهلك أوثانها وامتاروا منها الماء وما يحتاجون إليه‏.‏

وسار إلى أنهلوارة فوصلها مستهل ذي القعدة فرأى صاحبها المدعو بهيم قد أجفل عنها وتركها وأمعن في الهرب وقصد حصنًا له يحتمي به فاستولى يمين الدولة على المدينة وسار إلى سومنات فلقي في طريقه عدة حصون فيها كثير من الأوثان شبه الحجاب والنقباء لسومنات على ما سول لهم الشيطان فقاتل من بها وفتحها وخربها وكسر أصنامها وسار إلى سومنات في مفازة قفرة قليلة الماء فلقي فيها عشرين ألف مقاتل من سكانها لم يدينوا للملك فأرسل إليهم السرايا فقاتلوهم فهزموهم وغنموا مالهم وامتاروا من عندهم وساروا حتى بلغوا دبولوارة وهي على مرحلتين من سومنات وقد ثبت أهلها له ظنًا منهم أن سومنات يمنعهم ويدفع عنهم فاستولى عليها وقتل رجالها وغنم أموالها وسار عنها إلى سومنات فوصلها يوم الخميس منتصف ذي القعدة فرأى حصنًا حصينًا مبنيًا على ساحل البحر بحيث تبلغه أمواجه وأهله على الأسوار يتفرجون على المسلمين واثقين أن معبودهم يقطع دابرهم ويهلكهم‏.‏

فلما كان من الغد وهو يوم الجمعة زحف وقاتل من به فرأى الهنود من المسلمين قتالًا لم يعهدوا مثله ففارقوا السور فنصب المسلمون عليه السلاليم وصعدوا إليه وأعلنوا بكلمة الإخلاص وأظهروا شعار الإسلام فحينئذ اشتد القتال وعظم الخطب وتقدم جماعة الهنود إلى سومنات فعفروا له خدودهم وسألوه النصر وأدركهم الليل فكف بعضهم عن بعض‏.‏

فلما كان الغد بكر المسلمون إليهم وقاتلوهم فأكثروا في الهنود القتل وأجلوهم عن المدينة إلى بيت صنمهم سومنات فقاتلوا على بابه أشد قتال وكان الفريق منهم بعد الفريق يدخلون إلى سومنات فيعتنقونه ويبكون ويتضرعون إليه ويخرجون فيقاتلون إلى أن يقتلوا حتى كاد الفناء يستوعبهم فبقي منهم القليل فدخلوا البحر إلى مركبين لهم لينجو فيهما فأدركهم المسلمون فقتلوا بعضًا وغرق بعض‏.‏

وأما البيت الذي فيه سومنات فهو مبني على ست وخمسين سارية من الساج المصفح بالرصاص وسومنات من حجر طوله خمسة أذرع‏:‏ ثلاثة مدورة ظاهرة وذراعان في البناء وليس بصورة مصورة فأخذه يمين الدولة فكسره وأحرق بعضه وأخذ بعضه معه إلى غزنة فجعله عتبة الجامع‏.‏

وكان بيت الصنم مظلمًا وإنما الضوء الذي عنده من قناديل الجوهر الفائق وكان عنده سلسلة ذهب فيها جرس وزنها مائتا من كلما مضى طائفة معلومة من الليل حركت السلسلة فيصوت الجرس فيقوم طائفة من البرهميين إلى عبادتهم وعنده خزانة فيها عدة من الأصنام الذهبية والفضية وعليها الستور المعلقة المرصعة بالجوهر كل واحد منها منسوب إلى عظيم من عظمائهم وقيمة ما في البيوت تزيد على عشرين ألف ألف دينار فأخذ الجميع وكانت عدة ثم إن يمين الدولة ورد عليه الخبر أن بهيم صاحب أنهلوارة قد قصد قلعة تسمى كندهة في البحر بينها وبين البر من جهة سومنات أربعون فرسخًا فسار إليها يمين الدولة من سومنات فلما حاذى القلعة رأى رجلين من الصيادين فسألهما عن خوض البحر هناك فعرفاه أنه يمكن خوضه لكن إن تحرك الهواء يسيرًا غرق من فيه‏.‏

فاستخار الله تعالى وخاضه هو ومن معه فخرجوا سالمين فرأوا بهيم وقد فارق قلعته وأخلاها فعاد عنها وقصد المنصورة وكان صاحبها قد ارتد عن الإسلام فلما بلغه خبر مجيء يمين الدولة فارقها واحتمى بغياض أشبة فقصده يمين الدولة من موضعين فأحاط به وبمن معه فقتل أكثرهم وغرق منهم كثير ولم ينج منهم إلا القليل‏.‏

ثم سار إلى بهاطية فأطاعه أهلها ودانوا له فرحل إلى غزنة فوصلها عاشر صفر من سنة سبع عشرة وأربعمائة‏.‏

ذكر وفاة مشرف الدولة وملك أخيه جلال الدولة

في هذه السنة في ربيع الأول توفي الملك مشرف الدولة أبو علي بن بهاء الدولة بمرض حاد وعمره ثلاث وعشرون سنة وثلاثة أشهر وملكه خمس سنين وخمسة وعشرون يومًا وكان كثير الخير قليل الشر عادلًا حسن السيرة وكانت والدته في الحياة وتوفيت سنة خمس وعشرين‏.‏

ولما توفي مشرف الدولة خطب ببغداد بعد موته لأخيه أبي طاهر جلال الدولة وهو بالبصرة وطلب إلى بغداد فلم يصل إليها وإنما بلغ إلى واسط وأقام بها ثم عاد إلى البصرة فقطعت خطبته وخطب لابن أخيه الملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة في شوال وهو حينئذ صاحب خوزستان والحرب بينه وبين عمه أبي الفوارس صاحب كرمان بفارس فلما سمع جلال الدولة بذلك أصعد إلى بغداد فانحدر عسكرها ليردوه عنها فلقوه بالسيب من أعمال النهروان فردوه فلم يرجع فرموه بالنشاب ونهبوا بعض خزائنه فعاد إلى البصرة وأرسلوا إلى الملك أبي كاليجار ليصعد إلى بغداد ليملكوه فوعدهم الإصعاد ولم يمكنه لأجل صاحب كرمان ولما أصعد جلال الدولة كان وزيره أبا سعد بن ماكولا‏.‏

ذكر ملك نصر الدولة بن مروان مدينة الرها

و في هذه السنة ملك نصر الدولة بن مروان صاحب ديار بكر مدينة الرها‏.‏

وكان سبب ملكها أن الرها كانت لرجل من بني نمير يسمى عطيرًا وفيه شر وجهل وكان عطير يقيم بحلته ويدخل البلد في الأوقات المتفرقة فرأى أن نائبه يحكم في البلد ويأمر وينهى فحسده فقال له يومًا‏:‏ قد أكلت مالي واستوليت على بلدي وصرت الأمير وأنا النائب فاعتذر إليه فلم يقبل عذره وقتله‏.‏

فأنكرت الرعية قتله وغضبوا على عطير وكاتبوا نصر الدولة ابن مروان ليسلموا إليه البلد فسير إليهم نائبًا كان له بآمد يسمى زنك فتسلمها وأقام بها ومعه جماعة من الأجناد ومضى عطير إلى صالح بن مرداس وسأله الشفاعة له إلى نصر الدولة فشفع فيه فأعطاه نصف البلد ودخل عطير إلى نصر الدولة بميافارقين فأشار أصحاب نصر الدولة بقبضه فلم يفعل وقال‏:‏ لا أغدر به وإن كان أفسد وأرجو أن أكف شره بالوفاء‏.‏

وتسلم عطير نصف البلد ظاهرًا وباطنًا وأقام فيه مع نائب نصر الدولة‏.‏

ثم إن نائب نصر الدولة عمل طعامًا ودعاه فأكل وشرب واستدعى ولدًا كان لأحمد الذي قتله عطير وقال‏:‏ أتريد أن تأخذ بثأر أبيك قال‏:‏ نعم‏!‏ قال‏:‏ هذا عطير عندي في نفر يسير فإذا خرج فتعلق به في السوق وقل له‏:‏ يا ظالم قتلت أبي فإنه سيجرد سيفه عليك فإذا فعل فاستنفر الناس عليه واقتله وأنا من ورائك‏.‏

ففعل ما أمره وقتل عطيرًا ومعه ثلاثة نفر من العرب‏.‏

فاجتمع بنو نمير وقالوا‏:‏ هذا فعل زنك ولا ينبغي لنا أن نسكت عن ثأرنا ولئن لم نقتله ليخرجنا من بلادنا‏.‏

فاجتمعت نمير وكمنوا له بظاهر البلد كمينًا وقصد فريق منهم البلد فأغاروا على ما يقاربه‏.‏

فسمع زنك الخبر فخرج فيمن عنده من العساكر وطلب القوم فلما جاوز الكمناء خرجوا عليه فقاتلهم فأصابه حجر مقلاع فسقط وقتل وكان قتله سنة ثماني عشرة وأربعمائة في أولها وخلصت المدينة لنصر الدولة‏.‏

ثم إن صالح بن مرداس شفع في ابن عطير وابن شبل النميريين ليرد الرها إليهما فشفعه وسلمها إليهما وكان فيها برجان أحدهما أكبر من الآخر فأخذ ابن عطير البرج الكبير وأخذ ابن شبل البرج الصغير وأقاما في البلد إلى أن باعه ابن عطير من الروم على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر غرق الأسطول بجزيرة صقلية

في هذه السنة خرج الروم إلى جزيرة صقلية في جمع كثير وملكوا ما كان للمسلمين في جزيرة قلورية وهي مجاورة لجزيرة صقلية وشرعوا في بناء المساكن ينتظرون وصول مراكبهم وجموعهم مع ابن أخت الملك‏.‏

فبلغ ذلك المعز بن باديس فجهز أسطولًا كبيرًا‏:‏ أربعمائة قطعة وحشد فيها وجمع خلقًا كثيرًا وتطوع جمع كثير بالجهاد رغبة في الأجر فسار الأسطول في كانون الثاني فلما قرب من جزيرة قوصرة وهي قريب من بر أفريقية خرج عليهم ريح شديدة ونوء عظيم فغرق أكثرهم ولم ينج إلا اليسير‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة ظهر أمر العيارين ببغداد وعظم شرهم فقتلوا النفوس ونهبوا الأموال وفعلوا ما أرادوا وأحرقوا الكرخ وغلا السعر بها حتى بيع كر الحنطة بمائتي دينار قاسانية‏.‏

وفيها قبض جلال الدولة على وزيره أبي سعد بن ماكولا واستوزر ابن عمه أبا علي بن ماكولا وفيها أرسل القادر بالله القاضي أبا جعفر السمناني إلى قرواش يأمره بإبعاد الوزير أبي القاسم المغربي وكان عنده فأبعده فقصد نصر الدولة بن ميافارقين وقد تقدم السبب فيه‏.‏

وفيها توفي الوزير أبو منصور محمد بن الحسن بن صالحان وزير مشرف الدولة أبي الفوارس وعمره ست وسبعون سنة‏.‏

وقاضي القضاة أبو الحسن أحمد بن محمد بن أبي الشوارب ومولده في ذي القعدة سنة تسع عشرة وثلاثمائة وكان عفيفًا نزهًا وقيل توفي سنة سبع عشرة‏.‏

وفيها ورد رسول محمود بن سبكتكين إلى القادر بالله ومعه خلع قد سيرها له الظاهر لإعزاز دين الله العلوي صاحب مصر ويقول‏:‏ أنا الخادم الذي أرى الطاعة فرضًا ويذكر إرسال هذه الخلع إليه وأنه سيرها إلى الديوان ليرسم فيها بما يرى فأحرقت على باب النوبي فخرج منها ذهب كثير تصدق به على ضعفاء بني هاشم‏.‏

وفيها توفي سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة وكان كاتبًا سديدًا وعمل دار الكتب ببغداد سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وجعل فيها أكثر من عشرة آلاف مجلد وبقيت إلى أن احترقت عند مجيء طغرلبك إلى بغداد سنة خمسين وأربعمائة‏.‏

وفيها توفي عثمان الخركوشي الواعظ النيسابوري وكان صالحًا خيرًا وكان إذا دخل على محمود بن سبكتكين يقوم ويلتقيه وكان محمود قد قسط على نيسابور مالًا يأخذه منهم فقال له الخركوشي‏:‏ بلغني أنك تكدي الناس وضاق صدري فقال‏:‏ وكيف قال‏:‏ بلغني أنك تأخذ أموال الضعفاء وهذه كدية فترك القسط وأطلقه‏.‏

وفيها بطل الحج من العراق وخراسان‏.‏

ثم دخلت سنة سبع عشرة وأربعمائة

في هذه السنة كانت حرب شديدة بين عساكر علاء الدولة بن كاكويه وبين الأكراد الجوزقان‏.‏

وكان سببها أن علاء الدولة استعمل أبا جعفر ابن عمه على سابور خواست وتلك النواحي فضم إليه الأكراد الجوزقان وجعل معه على الأكراد أبا الفرج البابوني منسوب إلى بطن منهم فجرى بين أبي جعفر وأبي الفرج مشاجرة أدت إلى المنافرة فأصلح بينهما علاء الدولة وأعادهما إلى عملهما‏.‏

فلم يزل الحقد يقوى والشر يتجدد فضرب أبو جعفر أبا الفرج بلت كان في يده فقتله فنفر الجوزقان بأسرهم ونهبوا وأفسدوا فطلبهم علاء الدولة وسير عسكرًا واستعمل عليهم أبا منصور ابن عمه أخا أبي جعفر الأكبر وجعل معه فرهاذ بن مرداويج وعلي بن عمران‏.‏

فلما علم الجوزقان ذلك أرسلوا إلى علي بن عمران يسألونه أن يصلح حالهم مع علاء الدولة وقصده جماعة منهم فشرع في الإصلاح فطالبه أبو جعفر وفرهاذ بالجماعة الذين قصدوه ليسلمهم إليهما وأرادا أخذهم منه قهرًا فانتقل إلى الجوزقان واحتمى كل منهم بصاحبه وجرى بين الطائفتين قتال غير مرة كان في آخره لعلي بن عمران والجوزقان فانهزم فرهاذ وأسر أبو منصور وأبو جعفر ابنا عم علاء الدولة‏.‏

فأما أبو جعفر فقتل قصاصًا بأبي الفرج وأما أبو منصور فسجن‏.‏

فلما قتل أبو جعفر علم علي بن عمران أن الأمر قد فسد مع علاء الدولة ولا

ذكر الحرب بين قرواش وبني أسد وخفاجة

في هذه السنة اجتمع دبيس بن علي بن مزيد الأسدي وأبو الفتيان منيع بن حسان أمير بني خفاجة وجمع عشائرهما وغيرهم وانضاف إليهما عسكر بغداد على قتال قرواش بن المقلد العقيلي‏.‏

وكان سببه أن خفاجة تعرضوا إلى السواد وما بيد قرواش منه فانحدر من الموصل لدفعهم فاستعانوا بدبيس فسار إليهم واجتمعوا فأتاهم عسكر بغداد فالتقوا بظاهر الكوفة وهي لقرواش فجرى بين مقدمته ومقدمتهما مناوشة‏.‏

وعلم قرواش أنه لا طاقة له بهم فسار ليلًا جريدة في نفر يسير وعلم أصحابه بذلك فتبعوه منهزمين فوصلوا إلى الأنبار وسارت أسد وخفاجة خلفهم فلما قاربوا الأنبار فارقها قرواش إلى حلله فلم يمكنهم الإقدام عليه واستولوا على الأنبار ثم تفرقوا‏.‏

ذكر الفتنة ببغداد وطمع الأتراك والعيارين

في هذه السنة كثر تسلط الأتراك ببغداد فأكثروا مصادرات الناس وأخذوا الأموال حتى إنهم قسطوا على الكرخ خاصة مائة ألف دينار وعظم الخطب وزاد الشر وأحرقت المنازل والدروب والأسواق ودخل في الطمع العامة والعيارون فكانوا يدخلون على الرجل فيطالبونه بذخائره كما يفعل السلطان بمن يصادره فعمل الناس الأبواب على الدروب فلم تغن شيئًا ووقعت الحرب بين الجند والعامة فظفر الجند ونهبوا الكرخ وغيره فأخذ منه مال جليل وهلك أهر الستر والخير‏.‏

فلما رأى القواد وعقلاء الجند أن الملك أبا كاليجار لا يصل إليهم وأن البلاد قد خربت وطمع فيهم المجاورون من العرب والأكراد راسلوا جلال الدولة في الحضور إلى بغداد فحضر على ما نذكره سنة ثماني عشرة وأربعمائة‏.‏

ذكر إصعاد الأثير إلى الموصل والحرب الواقعة بين بني عقيل

في هذه السنة أصعد الأثير عنبر إلى الموصل من بغداد‏.‏

وكان سببه أن الأثير كان حاكمًا في الدولة البويهية ماضي الحكم نافذ الأمر والجند من أطوع الناس له وأسمعهم لقوله‏.‏

فلما كان الآن زال ذلك وخالفه الجند فزالت طاعته عنهم فلم يلتفتوا إليه فخافهم على نفسه فسار إلى قرواش فندم الجند على ذلك وسألوه أن يعود فلم يفعل وأصعد إلى الموصل مع قرواش فأخذ ملكه وإقطاعه بالعراق‏.‏

ثم إن نجدة الدولة بن قراد ورافع بن الحسين جمعا جمعًا كثيرًا من عقيل وانضم إليهم بدران أخو قرواش وساروا يريدون حرب قرواش وكان قرواش لما سمع خبرهم قد اجتمع هو وغريب بن مقن والأثير عنبر وأتاه مدد من ابن مروان فاجتمع في ثلاثة عشر ألف مقاتل فالتقوا عند بلد واقتتلوا وثبت بعضهم لبعض وكثر القتل ففعل ثروان بن قراد فعلًا جميلًا وذاك أنه قصد غريبًا في وسط المصاف واعتنقه وصالحه وفعل أبو الفضل بدران بن المقلد بأخيه قرواش كذلك فاصطلح الجميع وأعاد قرواش إلى أخيه بدران مدينة نصيبين‏.‏

ذكر إحراق خفاجة الأنبار وطاعتهم لأبي كاليجار

في هذه السنة سار منيع بن حسان أمير خفاجة إلى الجامعين وهي لنور الدولة دبيس فنهبها فسار دبيس في طلبه إلى الكوفة ففارقها وقصد الأنبار وهي لقرواش كان استعادها بعد ما ذكرناه قبل‏.‏

فلما نازلها منيع قاتله أهلها فلم يكن لهم بخفاجة طاقة فدخل خفاجة الأنبار ونهبوها وأحرقوا أسواقها فانحدر قرواش إليهم ليمنعهم وكان مريضًا ومعه غريب والأثير عنبر إلى الأنبار ثم تركها ومضى إلى القصر فاشتد طمع خفاجة وعادوا إلى الأنبار فأحرقوها مرة ثانية‏.‏

وسار قرواش إلى الجامعين فاجتمع هو ونور الدولة دبيس بن مزيد في عشرة آلاف مقاتل وكانت خفاجة في ألف فلم يقدم قرواش في ذلك الجيش العظيم على هذه الألف وشرع أهل الأنبار في بناء سور على البلد وأعانهم قرواش وأقام عندهم الشتاء ثم إن منيع بن حسان سار إلى الملك أبي كاليجار فأطاعه فخلع عليه وأتى منيع الخفاجي إلى الكوفة فخطب فيها لأبي كاليجار وأزال حكم عقيل عن سقي الفرات‏.‏

ذكر الصلح بإفريقية بين كتامة وزناتة وبين المعز بن باديس

في هذه السنة وردت رسل زناتة وكتامة إلى المعز بن باديس صاحب إفريقية يطلبون منه الصلح وأن يقبل منهم الطاعة والدخول تحت حكمه وشرطوا أنهم يحفظون الطريق وأعطوا على ذلك عهودهم ومواثيقهم فأجابهم إلى ما سألوا وجاءت مشيخة زناتة وكتامة إليه فقبلهم وأنزلهم ووصلهم وبذل لهم أموالًا جليلة‏.‏

ذكر وفاة حماد بن المنصور وولاية ابنه القائد

في هذه السنة توفي حماد بن بلكين عم المعز بن باديس صاحب إفريقية وكان خرج من قلعته

متنزهًا فمرض ومات وحمل إلى القلعة فدفن بها وولي بعده ابنه القائد وعظم على المعز موته لأن الأمر بينهما كان قد صلح واستقامت الأمور للمعز بعده وأذعن له أولاد عمه حماد بالطاعة‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة كان بالعراق برد شديد جمد فيه الماء في دجلة والأنهار الكبيرة فأما السواقي فإنها جمدت كلها وتأخر المطر وزيادة دجلة فلم يزرع في السواد إلا القليل‏.‏

وفيها بطل الحج من خراسان والعراق‏.‏

وفيها انقض كوكب عظيم استنارت له الأرض فسمع له دوي عظيم كان ذلك في رمضان‏.‏

وفيها مات أبو سعد بن ماكولا وزير جلال الدولة في محبسه وأبو خازم عمر بن أحمد بن إبراهيم العبدوي النيسابوري الحافظ وهو من مشايخ خطيب بغداد وأبو الحسن علي بن أحمد بن عمر الحمامي المقريء مولده سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة‏.‏