المجلد الثامن - ذكر ملك مودود بن مسعود وقتله عمه محمدا

لما قتل الملك مسعود وصل الخبر إلى ابنه مودود وهو بخراسان فعاد مجدًا في عساكره إلى غزنة فتصاف هو وعمه محمد في ثالث شعبان فانهزم محمد وعسكره وقبض عليه وعلى ولده أحمد وأنوشتكين الخصي البلخي وابن علي خويشاوند فقتلهم وقتل أولاد عمه جميعهم إلا عبد الرحيم لإنكاره على أخيه عبد الرحمن ما فعله بعمه مسعود وبنى موضع الوقعة قرية ورباطًا وسماها فتح آباذ وقتل كل من له في القبض على والده صنع وعاد إلى غزنة فدخلها في ثالث وعشرين شعبان سنة اثنتين وثلاثين واستوزر أبا نصر وزير أبيه وأظهر العدل وحسن السيرة وسلك سيرة جده محمود‏.‏

وكان داود أخو طغرلبك قد ملك مدينة بلخ واستباحها كما ذكرناه ومودود مقابله فتجدد قتل مسعود فعاد ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا فلما تجدد هذا الظفر لمودود ثار أهل هراة بمن عندهم من الغز السلجوقية فأخرجوهم وحفظوها لمودود واستقر الأمر لمودود بغزنة ولم يبق له هم إلا أمر أخيه مجدود فإن أباه قد سيره إلى الهند سنة ست وعشرين فخاف أن يخالف عليه فأتاه خبره أنه قصد لهاوور وملتان فملكهما وأخذ الأموال وجمع بها العساكر وأظهر الخلاف على أخيه فندب إليد مودود جيشًا ليمنعوه ويقاتلوه وعرض مجدود عسكره للمسير وحضر عيد الأضحى فبقي بعده ثلاثة أيام وأصبح ميتًا بلهاوور لا يدري كيف كان موته وأطاعت البلاد بأسرها مودودًا ورست قدمه وثبت ملكه ولما سمعت الغز السلجوقية ذلك خافوه واستشعروا منه وراسله ملك الترك بما وراء النهر بالانقياد والمتابعة‏.‏

في هذه السنة اختلف جلال الدولة ملك العراق وقرواش بن المقلد العقيلي صاحب الموصل‏.‏

وكان سبب ذلك أن قرواشًا كان قد أنفذ عسكرًا سنة إحدى وثلاثين فحصروا خميس بن ثعلب بتكريت وجرى بين الطائفتين حرب شديدة في ذي القعدة منها فأرسل خميس ولده إلى الملك جلال الدولة وبذل بذولًا كثيرة ليكف عنه قرواشًا فأجابه إلى ذلك وأرسل إلى قرواش يأمره بالكف عنه فغالط ولم يفعل وسار بنفسه ونزل عليه يحاصره فتأثر جلال الدولة منه‏.‏

ثم إنه أرسل كتبًا إلى الأتراك ببغداد يفسدهم وأشار عليهم بالشغب على الملك وإثارة الفتنة معه فوصل خبرها إلى جلال الدولة وأشياء أخر كانت هذه هي الأصل فأرسل جلال الدولة أبا الحارث أرسلان البساسيري في صفر من سنة اثنتين وثلاثين ليقبض على نائب قرواش بالسندية فسار ومعه جماعة من الأتراك وتبعه جمع من العرب فرأى في طريقه جمالًا لبني عيسى فتسرع إليها الأتراك والعرب فأخذوا منها قطعة وأوغل الأتراك في الطلب‏.‏

وبلغ الخبر إلى العرب وركبوا وتبعوا الأتراك وجرى بين الطائفتين حرب انهزم فيها الأتراك وأسر منهم جماعة وعاد المنهزمون فأخبروا البساسيري بكثرة العرب فعاد ولم يصل إلى مقصده‏.‏

وسار طائفة من بني عيسى فكمنوا بين صرصر وبغداد ليفسدوا في السواد فاتفق أن وصل بعض أكابر القواد الأتراك فخرجوا عليه فقتلوه وجماعة من أصحابه وحملوا إلى بغداد فارتج البلد واستحكمت الوحشة مع معتمد الدولة قرواش فجمع جلال الدولة العساكر وسار إلى الأنبار وهي لقرواش على عزم أخذها منه وغيرها من أقطاعه بالعراق فلما وصلوا إلى الأنبار أغلقت وقاتلهم أصحاب قرواش وسار قرواش من تكريت إلى خصة على عزم القتال فلما نزل الملك جلال الدولة على الأنبار قلت عليهم العلوفة فسار جماعة من العسكر والعرب إلى الحديثة ليمتاروا منها فخرج عليهم عندها جمع كثير من العرب فأوقعوا بهم فانهزم بعضهم وعادوا إلى العسكر ونهبت العرب ما معهم من الدواب التي تحمل الميرة وبقي المرشد أبو الوفاء وهو المقدم على العسكر الذين ساروا لإحضار الميرة وثبت معه جماعة‏.‏

ووصل الخبر إلى جلال الدولة أن المرشد أبا الوفاء يقاتل وأخبر سلامته وصبره للعرب وأنهم يقاتلونه وهو يطلب النجدة فسار الملك إليه بعسكر فوصلوا وقد عجز العرب عن الوصول إليه وعادوا عنه بعد أن حملوا عليه وعلى من معه عدة حملات صبر لها في قلة من معه‏.‏

ثم اختلف عقيل على قرواش فراسل جلال الدولة وطلب رضاه وبذل له بذلًا أصلحه به وعاد إلى طاعته فتحالفا وعاد كل إلى مكانه‏.‏

كانت دقوقا لأبي الماجد المهلهل بن محمد بن عناز فسير إليها أخوه حسام الدولة أبو الشوك ولده سعدي فحصرها فقاتله من بها‏.‏

ثم سار أبو الشوك إليها فجد في حصارها ونقب سورها ودخلها عنوة ونهب أصحابه بعض البلد وأخذوا سلاح الأكراد وثيابهم وأقام حسام الدولة بالبلد ليلة وعاد خوفًا على البندنيجين وحلوان فإن أخاه سرخاب ابن محمد بن عناز كان قد أغار على عدة مواضع من ولايته وحالف أبا الفتح ابن ورام والجاوانية عليه فأشفق من ذلك وأرسل إلى جلالة الدولة يطلبمنه نجدة فسير إليه عسكرًا امتنع بهم‏.‏

ذكر الحرب بين عسكر مصر والروم

في هذه السنة كانت الوقعة بين عسكر المصريين سيره الدزبري وبين الروم فظفر المسلمون‏.‏

وكان سبب ذلك أن ملك الروم قد هادنه المستنصر بالله العلوي صاحب مصر على ما ذكرناه‏.‏

فلما كان الآن شرع يراسل ابن صالح بن مرداس ويستميله وراسله قبله صالح ليتقوى به على الدزبري خوفًا أن يأخذ منه الرقة فبلغ ذلك الدزبري فتهدد ابن صالح فاعتذر وجحد‏.‏

ثم إن جمعًا من بني جعفر بن كلاب دخلوا ولاية أفامية فعاثوا فيها ونهبوا عدة قرى فخرج وبلغ ذلك الناظر بحلب فأخرج من بها من تجار الفرنج وأرسل إلى المتولي بأنطاكية يأمره بإخراج من عندهم من تجار المسلمين فأغلظ للرسول وأراد قتله ثم تركه فأرسل الناظر بحلب إلى الدزبري يعرفه الحال وأن القوم على التجهز لقصد البلاد فجهز الدزبري جيشًا وسيره على مقدمته فاتفق أنهم لقوا جيشًا للروم وقد خرجوا لمثل ما خرج إليه هؤلاء والتقى الفريقان بين مدينة حماة وأفامية واشتد القتال بينهم ثم إن الله نصر المسلمين وأذل الكافرين فانهزموا وقتل منهم عدة كثيرة وأسر ابن عم للملك بذلوا في فدائه مالًا جزيلًا وعدة وافرة من أسراء المسلمين وانكف الروم عن الأذى بعدها‏.‏

ذكر الخلف بين المعز وبني حماد

في هذه السنة خالف أولاد حماد على المعز بن باديس صاحب إفريقية وعادوا إلى ما كانوا عليه من العصيان والخلاف عليه فسار إليه المعز وجمع العساكر وحشدها وحصر قلعتهم المعروفة بقلعة حماد وضيق عليهم وأقام عليهم نحو سنتين‏.‏

ذكر صلح أبي الشوك وعلاء الدولة

وفيها سار مهلهل أخو أبي الشوك إلى علاء الدولة بن كاكويه واستصرخه واستعان به على أخيه أبي الشوك فسار معه فلما بلغ قرميسين رجع أبو الشوك إلى حلوان فعرف علاء الدولة رجوعه فسار يتبعه حتى بلغ المرج وقرب من أبي الشوك فعزم أبو الشوك على قصد قلعة السيروان والتحصن بها ثم تجلد وأرسل إلى علاء الدولة‏:‏ إنني لم أنصرف من بين يديك إلا مراقبة لك وإعظامًا لقدرك واستعطافًا لك فإذا اضطررتني إلى ما لا أجد بدًا منه كان الغدر قائمًا لي فيه فإن ظفرت بك طمع فيك الأعداء وإن ظفرت بي سلمت قلاعي وبلادي إلى الملك جلال الدولة‏.‏

فأجابه علاء الدولة إلى الصلح على أن يكون له الدينور وعاد فلحقه المرض في طريقه وتوفي على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة كان بإفريقية غلاء شديد وسببه عدم الأمطار فسميت سنة الغبار ودام ذلك إلى سنة أربع وثلاثين فخرج الناس فاستسقوا‏.‏

وفيها توفي أمير الغز العراقية بالري ودفن بناحية من أعمالها‏.‏

وفيها توفي صاعد بن محمد أبو العلاء النيسابوري ثم الاستوائي قاضي نيسابور وكان عالمًا فقيهًا حنفيًا انتهت إليه رئاسة الحنفية بخراسان‏.‏

ذكر وفاة علاء الدولة بن كاكويه

في هذه السنة في المحرم توفي علاء الدولة أبو جعفر بن دشمنزيار المعروف بابن كاكويه بعد عوده من بلد أبي الشوك وإنما قيل له كاكويه لأنه ابن خال مجد الدولة بن بويه والخال بلغتهم كاكويه وقام بأصبهان ابنه ظهير الدين أبو منصور فرامرز مقامه وهو أكبر أولاده وأطاعه الجند بها فسار ولده أبو كاليجار كرشاسف إلى نهاوند فأقام بها وحفظها وضبط أعمال الجبل وأخذها لنفسه فأمسك عنه أخوه أبو منصور فرامرز‏.‏

ثم إن مستحفظًا لعلاء الدولة بقلعة نطنز أرسل أبو منصور إليه يطلب شيئًا مما عنده من الأموال والذخائر فامتنع وأظهر العصيان فسار إليه أبو منصور وأخوه الأصغر أبو حرب ليأخذ القلعة منه كيف أمكن فصعد أبو حرب إليها ووافق المستحفظ على العصيان فعاد أبو منصور إلى أصبهان وأرسل أبو حرب إلى الغز السلجوقية بالري يستنجدهم فسار طائفة منهم إلى قاجان فدخلوها ونهبوها وسلموها إلى أبي حرب وعادوا إلى الري فسير إليها أبو منصور عسكرًا ليستنقذها من أخيه فجمع أبو حرب الأكراد وغيرهم وجعل عليهم صاحبًا له وسيرهم إلى أصبهان ليملكوها بزعمه فسير إليهم أخوه أبو منصور عسكرًا فالتقوا وانهزم وتقدم أصحاب أبي منصور فحصروا أبا حرب فلما رأى الحال وخاف نزل منها متخفيًا وسار إلى شيراز إلى الملك أبي كاليجار صاحب فارس والعراق فحسن له قصد أصبهان وأخذها من أخيه فسار الملك إليها وحصرها وبها الأمير أبو منصور فامتنع عليه وجرى بين الفريقين عدة وقائع وكان آخر الأمر الصلح على أن يبقى أبو منصور بأصبهان وتقرر عليه مال وعاد أبو حرب إلى قلعة نطنز واشتد الحصار عليه فأرسل إلى أخيه يطلب المصالحة فاصطلحا على أن يعطي أخاه بعض ما في القلعة ويبقى بها على حاله‏.‏

ثم إن إبراهيم ينال خرج إلى الري على ما نذكره وأرسل إلى أبي منصور فرامرز يطلب منه الموادعة فلم يجبه وسار فرامرز إلى همذان وبروجرد فملكهما ثم اصطلح هو وأخوه كرشاسف وأقطعه همذان وخطب لأبي منصور على منابر بلاد كرشاسف واتفقت كلمتهما وكان المدبر لأمرهما الكيا أبو الفتح الحسن بن عبد الله وهو الذي سعى في جمع كلمتهما‏.‏

ذكر ملك طغرلبك جرجان وطبرستان

في هذه السنة ملك طغرلبك جرجان وطبرستان وسبب ذلك أن أنوشروان ابن منوجهر بن قابوس بن وشمكير صاحبها قبض على أبي كاليجار بن ويهان القوهي صاحب جيشه وزوج أمه بمساعدة أمه عليه فعلم حينئذ طغرلبك أن البلاد لا مانع له عنها فسار إليها وقصد جرجان ومعه مرداويج بن بسو فلما نازلها فتح له المقيم بها فدخلها وقرر على أهلها مائة ألف دينار صلحًا وسلمها إلى مرداويج بن بسو وقرر عليه خمسين ألف دينار كل سنة عن جميع الأعمال وعاد إلى نيسابور‏.‏

وقصد مرداويج أنوشروان بسارية وكان بها فاصطلحا على أن ضمن أنوشروان له ثلاثين ألف دينار وأقيمت الخطبة لطغرلبك في البلاد كلها وتزوج مرداويج بوالدة أنوشروان وبقي أنوشروان يتصرف بأمر مرداويجلا يخالفه في شيء البتة‏.‏

ذكر أحوال ملوك الروم

نذكر هاهنا أحوال ملوك الروم من عهد بسيل إلى الآن فنقول‏:‏ من عادة ملوك الروم أن يركبوا أيام الأعياد إلى البيعة المخصوصة بذلك العيد فإذا اجتاز الملك بالأسواق شاهده الناس وبأيديهم المداخن يبخرون فيها فركب والد بسيل وقسطنطين في بعض الأعياد وكان لبعض أكابر الروم بنت جميلة فخرجت تشاهد الملك فلما مر بها استحسنها فأمر من يسأل عنها فلما عرفها خطبها وتزوجها وأحبها وولدت منه بسيل وقسطنطين وتوفي وهما صغيران فتزوجت بعده بمدة طويلة نقفور فكره كل واحد منهما صاحبه فعملت على قتله فراسلت الشمشقيق في ذلك فقصد قسطنطينية متخفيًا فأدخلته إلى دار الملك واتفقا وقتلاه ليلًا وأحضرت البطارقة متفرقين وأعطتهم الأموال ودعتهم إلى تمليك الشمشقيق ففعلوا ولم يصبح وقد فرغت مما تريد ولم يجر خلف‏.‏

وتزوجت الشمشقيق وأقامت معه سنة فخافها واحتال عليها وأخرجها إلى دير بعيد وحمل ولديها معها فأقامت فيه سنة ثم أحضرت راهبًا ووهبته مالًا وأمرته بقصد قسطنطينية والمقام بكنيسة الملك والاقتصار على قدر القوت فإذا وثق به الملك وأراد القربان من يده ليلة العيد سقاه سمًا ففعل الراهب ذلك فلما كان ليلة العيد سارت ومعها ولداها ووصلت قسطنطينية في اليوم الذي توفي فيه الشمشقيق فملك ولدها بسيل ودبرت هي الأمر لصغره فلما كبر بسيل قصد بلد البلغار وتوفيت وهو هناك فبلغه وفاتها فأمر خادمًا له أن يدبر الأمور في غيبته‏.‏ودام قتاله لبلغار أربعين سنة فظفروا به فعاد مهزومًا وأقام بالقسطنطينية يتجهز للعود فعاد إليهم فظفر بهم وقتل ملكهم وسبى أهله وأولاده وملك بلاده ونقل أهلها إلى الروم وأسكن البلاد طائفة من الروم وهؤلاء البلغار غير الطائفة المسلمة فإن هؤلاء أقرب إلى بلد الروم من المسلمين بنحو شهرين وكلاهما يسمى بلغار‏.‏

وكان بسيل عادلًا حسن السيرة ودام ملكه نيفًا وسبعين سنة وتوفي ولم يخلف ولدًا فملك أخوه قسطنطين وبقي إلى أن توفي ولم يخلف غير ثلاث بنات فملكت الكبرى وتزوجت أرمانوس وهو من أقارب الملك وملكته فبقي مدة وهو الذي ملك الرها من المسلمين‏.‏

وكان لأرمانوس صاحب له يخدمه قبل ملكه من أولاد بعض الصيارف اسمه ميخائيل فلما ملك حكمه في داره فمالت زوجة قسطنطين إليه وعملا الحيلة في قتل أرمانوس فمرض أرمانوس فأدخلاه إلى الحمام كارهًا وخنقاه وأظهرا أنه مات في الحمام وملكت زوجته ميخائيل وتزوجته على كره من الروم‏.‏

وعرض لميخائيل صرع لازمه وشوه صورته فعهد بالملك بعده إلى ابن أخت له اسمه ميخائيل أيضًا فلما توفي ملك ابن أخته وأحسن السيرة وقبض على أهل خاله وإخوته وهم أخواله وضرب الدنانير في هذه السنة وهي سنة ثلاث وثلاثين ثم أحضر زوجته بنت الملك وطلب منها أن تترهب وتنزع نفسها عن الملك فأبت فضربها وسيرها إلى جزيرة في البحر ثم عزم على القبض على البطرك والاستراحة من تحكمه عليه فإنه كان لا يقدر على مخالفته فطلب إليه أن يعمل له طعامًا في دير ذكره بظاهر القسطنطينية ليحضر عنده فأجابه إلى ذلك وخرج إلى الدير ليعمل ما قال الملك فأرسل الملك جماعة من الروس والبلغار ووافقهم على قتله سرًا فقصدوه ليلًا وحصروه في الدير فبذل لهم مالًا كثيرًا وخرج متخفيًا وقصد البيعة التي يسكنها وضرب الناقوس فاجتمع الروم عليه ودعاهم إلى عزل الملك فأجابوه إلى ذلك وحصروا الملك في دار فأرسل الملك إلى زوجته وأحضرها من الجزيرة التي نفاها إليها ورغب في أن ترد عنه فلم تفعل وأخرجته إلى البيعة يترهب فيها‏.‏

ثم إن البطرك والروم نزعوا زوجته من الملك وملكوا أختًا لها صغيرة واسمها تذورة وجعلوا معها خدم أبيها يدبرون الملك وكحلوا ميخائيل ووقعت الحرب بالقسطنطينية بين من يتعصب له وبين من يتعصب لتذورة والبطرك فظفر أصحاب تذورة بهم ونهبوا أموالهم‏.‏

ثم إن الروم افتقروا إلى ملك يدبرهم فكتبوا أسماء جماعة يصلحون للملك في رقاع ووضعوها في بنادق طين وأمروا من يخرج منها بندقة وهو لا يعرف باسم من فيها فخرج اسم قسطنطين فملكوه وتزوجته الملكة الكبيرة واستنزلت أختها الصغيرة تذورة عن الملك بمال بذلته لها واستقر في الملك سنة أربع وثلاثين فخرج عليه فيها خارجي من الروم اسمه أرميناس ودعا إلى نفسه فكثر جماعه حتى زادوا على عشرين ألفًا فأهم قسطنطين أمره وسير إليه جيشًا كثيفًا فظفروا بالخارجي وقتلوه وحملوا رأسه إلى القسطنطينية وأسر من أعيان أصحابه مائة رجل فشهروا في البلد ثم أطلقوا وأعطوا نفقة وأمروا بالانصراف إلى أي جهة أرادوا‏.‏

ذكر فاسد حال الدزبري بالشام وما صار الأمر إليه بالبلاد

في هذه السنة فسد أمر أنوشتكين الدزبري نائب المستنصر بالله صاحب مصر بالشام وقد كان كبيرًا على مخدومه بما يراه من تعظم الملوك له وهيبة الروم منه‏.‏

وكان الوزير أبو القاسم الجرجرائي يقصده ويحسده إلا أنه لا يجد طريقًا إلى الوقيعة فيه ثم اتفق أنه سعي بكاتب للدزبري اسمه أبو سعد وقيل عنه إنه يستميل صاحبه إلى غير جهة المصريين فكوتب الدزبري بإبعاده فلم يفعل واستوحشوا منه ووضع الجرجرائي حاجب الدزبري وغيره على مخالفته‏.‏

ثم إن جماعة من الأجناد قصدوا مصر وشكوا إلى الجرجرائي منه فعرفهم سوء رأيه فيه وأعادهم إلى دمشق وأمرهم بإفساد الجند عليه ففعلوا ذلك‏.‏

وأحس الدزبري بما يجري فأظهر ما في نفسه وأحضر نائب الجرجرائي عنده وأمر بإهانته وضربه ثم إنه أطلق لطائفة من العسكر يلزمون خدمته أرزاقهم ومنع الباقين فحرك ما في نفوسهم وقوى طمعهم فيه بما كوتبوا به من مصر فأظهروا الشغب عليه وقصدوا قصره وهو بظاهر البلد وتبعهم من العامة من يريد النهب فاقتتلوا فعلم الدزبري ضعفه وعجزه عنهم ففارق مكانه واستصحب أربعين غلامًا له وما أمكنه من الدواب والأثاث والأموال ونهب الباقي وسار إلى بعلبك فمنعه مستحفظها وأخذ ما أمكنه أخذه من مال الدزبري وتبعه طائفة من الجند يقفون أثره وينهبون ما يقدرون عليه‏.‏

وسار إلى مدينة حماة فمنع عنها وقوتل وكاتب المقلد الكناني الكفرطابي واستدعاه فأجابه وحضر عنده في نحو ألفي رجل من كفرطاب وغيرها فاحتمى به وسار إلى حلب ودخلها وأقام بها مدة وتوفي في منتصف جماى الأولى من هذه السنة‏.‏

فلما توفي فسد أمر بلاد الشام وانتشرت الأمور بها وزال النظام وطمعت العرب وخرجوا في نواحيه فخرج حسان بن المفرج الطائي بفلسطين وخرج معز الدولة بن صالح الكلابي بحلب وقصدها وحصرها وملك المدينة وامتنع أصحاب الدزبري بالقلعة وكتبوا إلى مصر يطلبون النجدة فلم يفعلوا واشتغل عساكر دمشق ومقدمهم الحسين بن أحمد الذي ولي أمر دمشق بعد الدزبري بحرب حسان ووقع الموت في الذين في القلعة فسلموها إلى معز الدولة بالأمان‏.‏

في هذه السنة سير الملك أبو كاليجار من فارس عسكرًا في البحر إلى عمان وكان قد عصى من بها فوصل العسكر إلى صحار مدينة عمان فملكوها واستعادوا الخارجين عن الطاعة واستقرت الأمور بها وعادت العساكر إلى فارس‏.‏

وفيها قصد أبو نصر بن الهيثم الصليق من البطائح فملكها ونهبها ثم استقر أمرها على مال يؤديه إلى جلال الدولة‏.‏

وفيها توفي أبو منصور بهرام بن مافنة وهو الملقب بالعادل وزير الملك أبي كاليجار ومولده سنة ست وستين وثلاثمائة وكان حسن السيرة وبنى دار الكتب بفيروزاباذ وجعل فيها سبعة آلاف مجلد فلما مات وزر بعده مهذب الدولة أبو منصور هبة الله بن أحمد الفسوي‏.‏

وفيها وصل جماعة من البلغار إلى بغداد يريدون الحج فأقيم لهم من الديوان الإقامات الوافرة فسئل بعضهم‏:‏ من أي الأمم هم البلغار فقال‏:‏ هم قوم تولدوا بين الترك والصقالبة وبلدهم في أقصى الترك وكانوا كفارًا فأسلموا عن قريب وهم على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه‏.‏

وفيها توفي ميخائيل ملك الروم وملك بعده ابن أخيه ميخائيل أيضًا‏.‏

وفيها في جمادى الآخرة توفي أبو الحسن محمد بن جعفر الجهرمي الشاعر وهو القائل‏:‏ يا ويح قلبي من تقلبه أبدًا يحن إلى معذبه بأبي حبيبًا غير مكترث عني ويكثر من تعتبه حسبي رضاه من الحياة وما قلقي وموتي من تغضبه وكان بينه وبين المطرز مهاجاة‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وأربعمائة

ذكر ملك طغرلبك مدينة خوارزم

قد تقدم أن خوارزم كانت من جملة مملكة محمود بن سبكتكين فلما توفي وملك بعده ابنه مسعود كانت له وكان فيها التونتاش حاجب أبيه محمود وهو من أكابر أمرائه يتولاها لمحمود ومسعود بعده ولما كان مسعود مشغولًا بقصد أخيه محمد لأخذ الملك قصد الأمير علي تكين صاحب ما وراء النهر أطراف بلاده وشعثها فلما فرغ مسعود من أمر أخيه واستقر الملك له كاتب التونتاش في سنة أربع وعشرين بقصد أعمال علي تكين وأخذ بخارى وسمرقند وأمده بجيش كثيف فعبر جيحون وفتح من بلاد علي تكين ما أراد وانحاز علي تكين من بين يديه‏.‏

وأقام التونتاش بالبلاد التي فتحها فرأى دخلها لا يفي بما تحتاج عساكره لأنه كان يريد أن يكون في جمع كثير يمتنع بهم على الترك فكاتب مسعودًا في ذلك واستأذنه في العود إلى خوارزم فأذن له فلما عاد لحقه علي تكين على غرة وكبسه فانهزم علي تكين وصعد إلى قلعة دبوسية فحصره التونتاش وكاد يأخذه‏!‏ فراسله علي تكين واستعطفه وضرع إليه فرحل عنه وعاد إلى خوارزم‏.‏

وأصاب التونتاش في هذه الوقعة جراحة فلما عاد إلى خوارزم مرض منها وتوفي وخلف من الأولاد ثلاثة بنين‏:‏ هارون ورشيد وإسماعيل فلما توفي ضبط البلد وزيره أبو نصر أحمد بن محمد بن عبد الصمد وحفظ الخزائن وغيرها وأعلم مسعودًا فولى ابنه الكبر هارون خوارزم وسيره إليها وكان عنده‏.‏

واتفق أن الميمندي وزير مسعود توفي فاستحضر أبا نصر بن محمد ابن عبد الصمد واستوزره فاستناب أبو نصر عند هارون ابنه عبد الجبار وجعله وزيره فجرى بينه وبين هارون منافرة أسرها هارون في نفسه وحسن له أصحابه القبض على عبد الجبار والعصيان على مسعود فأظهر العصيان في شهر رمضان سنة خمس وعشرين وأراد قتل عبد الجبار فاختفى منه فقال أعداء أبيه للملك مسعود‏:‏ إن أبا نصر واطأ هارون على العصيان وإنما اختفى ابنه حيلة ومكرًا فاستوحش منه إلا أنه لم يظهر ذلك له‏.‏

وعزم مسعود على الخروج من غزنة إلى خوارزم فسار عن غزنة والزمان شتاء فلم يمكنه قصد خوارزم فسار إلى جرجان طالبًا أنوشروان بن منوجهر ليقابله على ما ظهر منه عند اشتغال مسعود بقتال أحمد ينالتكين ببلاد الهند‏.‏

فلما كان ببلاد جرجان أتاه كتاب عبد الجبار بن أبي نصر بقتل هارون وإعادة البلد إلى طاعته وكان عبد الجبار في بدء استتاره يعمل على قتل هارون ووضع جماعة على الفتك به فقتلوه عند خروجه إلى الصيد وقام عبد الجبار بحفظ البلد‏.‏

فلما وقف مسعود على كتاب عبد الجبار علم أن الذي قيل عن أبيه كان باطلًا فعاد إلى الثقة به وبقي عبد الجبار أيامًا يسيرة فوثب به غلمان هارون فقتلوه وولوا البلد إسماعيل بن التونتاش وقام بأمره شكر خادم أبيه وعصوا على مسعود‏.‏

فكتب مسعود إلى شاهملك بن علي أحد أصحاب الأطراف بنواحي خوارزم بقصد خوارزم وأخذها فسار إليها فقاتله شكر وإسماعيل ومنعاه عن البلد فهزمهما وملك البلد فسار إلى طغرلبك وداود السلجقيين والتجآ إليهما وطلبا المعونة منهما فسار داود معهما إلى خوارزم فلقيهم شاهملك وقاتلهم فهزمهم ولما جرى على مسعود من القتل ما جرى وملك مودود دخل شاهملك في طاعته وصافاه وتمسك كل واحد منهما بصاحبه‏.‏

ثم إن طغرلبك سار إلى خوارزم فحصرها وملكها واستولى عليها وانهزم شاهملك بين يديه واستصحب أمواله وذخائره ومضى في المفازة إلى دهستان ثم انتقل عنها إلى طبس ثم إلى أطراف كرمان ثم إلى عمال التيز ومكران فلما وصل إلى هناك علم خلاصه ببعده وأمن في نفسه فعرف خبره أرتاش أخو إبراهيم ينال وهو ابن عم طغرلبك فقصده في أربعة آلاف فارس فأوقع به وأسره وأخذ ما معه ثم عاد به فسلمه إلى داود وحصل هو بما غنم من أمواله وعاد بعد ذلك إلى باذغيس المقاربة لهراة وأقام على محاصرة هراة لأنهم إلى هذه الغاية كانوا مقيمين على الامتناع والاعتصام ببلدهم والثبات على طاعة مودود بن مسعود فقاتلهم أهل هراة وحفظوا بلدهم مع خراب سوادهم وإنما حملهم على ذلك الحرب خوفًا من الغز‏.‏

ذكر قصد إبراهيم ينال همذان وما كان منه

قد ذكرنا خروج إبراهيم ينال من خراسان إلى الري واستيلاءه عليها‏.‏

فلما استقر أمرها سار عنها وملك البلاد المجاورة لها ثم انتقل إلى بروجرد فملكها ثم قصد همذان وكان بها أبو كاليجار كرشاسف بن علاء الدولة صاحبها ففارقها إلى سابور خواست ونزل إبراهيم ينال على همذان وأراد دخولها فقال له أهلها‏:‏ إن كنت تريد الطاعة وما يطلبه السلطان من الرعية فنحن باذلوه وداخلون تحته فاطلب أولًا هذا المخالف عليك الذي كان عندنا يعنون فكف عنهم وسار إلى كرشاسف بعد أن أخذ من أهل البلد مالًا فلما قارب سابور خواست صعد كرشاسف إلى القلعة فتحصن بها وحصر إبراهيم البلد فقاتله أهله خوفًا من الغز فلم يكن لهم طاقة على دفعهم فملك البلد قهرًا ونهب الغز أهله وفعلوا الأفاعيل القبيحة بهم ثم عادوا بما غنموه إلى الري فرأوا طغرلبك قد وردها ولما فارق إبراهيم والغز همذان نزل كرشاسف إليها فأقام بها إلى أن وصل طغرلبك إلى الري فسار إليه إبراهيم على ما نذكر إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر خروج طغرلبك إلى الري وملك بلد الجبل

في هذه السنة خرج طغرلبك من خراسان إلى الري بعد فراغه من خوارزم وجرجان وطبرستان فلما سمع أخوه إبراهيم ينال بقدومه سار إليه فلقيه وتسلم طغرلبك الري منه وتسلم غيرها من بلد الجبل وسار إبراهيم إلى سجستان وأخذ طغرلبك أيضًا قلعة طبرك من مجد الدولة بن بويه وأقام عنده مكرمًا وأمر طغرلبك بعمارة الري وكانت قد خربت فوجد في دار الإمارة مراكب ذهب مجوهرة وبرنيتي صيني مملوءتين جوهرًا ومالًا كثيرًا وغير ذلك‏.‏

وكان كامرو يهادي طغرلبك وهو بخراسان ويخدمه وخدم أخاه إبراهيم لما كان بالري فلما حضر عنده أهدى له هدايا كثيرة من أنواع شتى وهو يظن أن طغرلبك يزيد في إقطاعه ويرعى له ما تقدم من خدمته له فخاب ظنه وقرر على بيده كل سنة سبعة وعشرين ألف دينار‏.‏

ثم ساروا إلى قزوين فامتنع عليه أهلها فزحف إليهم ورماهم بالسهام والحجارة فلم يقدروا أن يقفوا على السور وقتل من أهل البلد برشق وأخذ ثلاثمائة وخمسين رجلًا فلما رأى كامرو ومرداويج بن بسو ذلك خافوا أن يملك البلد عنوة وينهب فمنعوا الناس من القتال وأصلحوا الحال على ثمانين ألف دينار وصار صاحبها في طاعته‏.‏

ثم إنه أرسل إلى كوكتاش وبوقا وغيرهما من أمراء الغز الذين تقدم خروجهم يمنيهم ويدعوهم إلى الحضور في خدمته فلما وصل رسوله إليهم ساروا حتى نزلوا على نهر بنواحي زنجان ثم أعادوا رسوله وقالوا له‏:‏ قل له قد علمنا أن غرضك أن تجمعنا لتقبض علينا والخوف منك أبعدنا عنك وقد نزلنا هاهنا فإن أردنا قصدنا خراسان أو الروم ولا نجتمع بك ابدًا‏.‏

وأرسل طغرلبك إلى ملك الديلم يدعوه إلى الطاعة ويطلب منه مالًا ففعل ذلك وحمل إليه مالًا وعروضًا وأرسل أيضًا إلى سلار الطرم يدعوه إلى خدمته ويطالبه بحمل مائتي ألف دينار فاستقر الحال بينهما على الطاعة وشيء من المال‏.‏

وأرسل سرية إلى أصبهان وبها أبو منصور فرامرز بن علاء الدولة فأغارت على أعمالها وعادت سالمة‏.‏

وخرج طغرلبك من الري وأظهر قصد أصبهان فراسله فرامرز وصانعه بمال فعاد عنه وسار إلى همذان فملكها من صاحبها كرشاسف بن علاء الدولة وكان قد نزل إليه وهو بالري بعد أن راسله طغرلبك غير مرة وسار معه من الري إلى أبهر وزنجان فأخذ منه همذان وتفرق أصحابه عنه وطلب منه طغرلبك تسليم قلعة كنكور فأرسل إلى من بها بالتسليم فلم يفعلوا وقالوا لرسل طغرلبك‏:‏ قل لصاحبك والله لو قطعته قطعًا ما سلمناها إليك‏.‏

فقال له طغرلبك‏:‏ ما امتنعوا إلا بأمرك ورأيك فاصعد إليهم وأقم معهم ولا تفارق موضعك حتى آذن لك‏.‏

ثم عاد إلى الري واستناب بهمذان ناصرًا العلوي وكان كرشاسف قد قبض عليه فأخرجه طغرلبك وولاه الري وأمره بمساعدة من يجعله في البلد وكان معه مرداويج بن بسو نائبه في جرجان وطبرستان فمات وقام ولده جستان مقامه فسار طغرلبك إلى جرجان فعزل جستان عنها واستعمل على جرجان أسفار وهو من خواص منوجهر بن قابوس فلما فرغ أمر جرجان وطبرستان سار إلى دهستان فحصرها وبها صاحبها كاميار معتصمًا بها لحصانتها‏.‏

وسير طغرلبك طائفة من أصحابه إلى كرمان مع أخيه إبراهيم ينال بعد أن دخل الري وقيل إن إبراهيم لم يقصد كرمان وإنما قصد سجستان وكان مقدم العساكر التي سارت إلى كرمان غيره فلما وصلوا إلى أطراف كرمان نهبوا ولم يقدموا على التوغل فيها فلم يروا من العساكر من يكفهم فتوسطوا وملكوا عدة مواضع منها ونهبوها‏.‏

فبلغ الخبر إلى الملك أبي كاليجار صاحبها فسير وزيره مهذب الدولة في العساكر الكثيرة وأمره بالجد في المسير ليدركهم قبل أن يملكوا جيرفت وكانوا يحاصرونها فطوى المراحل حتى قاربهم فرحلوا عن جيرفت ونزلوا عى ستة فراسخ منها‏.‏

وجاء مهذب الدولة فنزلها وأرسل ليحمل الميرة إلى العسكر فخرجت الغز إلى الجمال والبغال والميرة ليأخذوها وسمع مهذب الدولة ذلك فسير طائفة من العسكر لمنعهم فتواقعوا واقتتلوا وتكاثر الغز فسمع مهذب الدولة الخبر فسار في العساكر إلى المعركة وهم يقتتلون وقد ثبتت كل طائفة لصاحبتها واشتد القتال إلى حد أن بعض الغز رمى فرس بعض أصحاب أبي كاليجار بسهم فوقع فيه وطعنه صاحب الفرس برمح فأصاب فرس الغزي وحمل الغزي على صاحب الفرس فضربه ضربة قطعت يده وحمل عليه صاحب الفرس وهو على هذه الحالة فضربه بسيفه فقطعه قطعتين وسقطا إلى الأرض قتيلين والفرسان قتيلان وهذه حالة لم يدون عن فلما وصل مهذب الدولة إلى المعركة انهزم الغز وتركوا ما كانوا ينهبونه ودخلوا المفازة وتبعهم الديلم إلى رأس الحد وعادوا إلى كرمان فأصلحوا ما فسد منها‏.‏

ذكر الوحشة بين القائم بأمر الله أمير المؤمنين وجلال الدولة


في هذه السنة افتتحت الجوالي في المحرم ببغداد فأنفذ الملك جلال الدولة فأخذ ما تحصل منها وكانت العادة أن يحمل منها إلى الخلفاء لا تعارضهم فيها الملوك فلما فعل جلال الدولة ذلك عظم الأمر فيه على القائم بأمر الله واشتد عليه وأرسل مع أقضى القضاة أبي الحسن الماوردي في ذلك وتكررت الرسائل فلم يصغ جلال الدولة لذلك وأخذ الجوالي فجمع الخليفة الهاشميين بالدار والرجالة وتقدم بإصلاح الطيار والزبازب وأرسل إلى أصحاب الأطراف والقضاة بما عزم عليه وأظهر العزم على مفارقة بغداد فلم يتم ذلك وحدث وحشة من الجهتين فاقتضت الحال أن الملك يترك معارضة النواب الإمامية فيها في السنة الآتية‏.‏

ذكر محاصرة شهرزور وغيرها

في هذه السنة سار أبو الشوك إلى شهرزور فحصرها ونهبها وأحرقها وخرب قراها وسوادها وحصر قلعة تبرانشاه فدفعه أبو القاسم بن عياض عنها ووعده أن يخلص ولده أبا وكان مهلهل قد سار من شهرزور لما بلغه أن أخاه أبا الشوك يريد قصدها وقصد نواحي سندة وغيرها من ولايات أبي الشوك فنهبها وأحرقها وهلكت الرعية في الجهتين‏.‏

ثم إن أبا الشوك راسل أبا القاسم بن عياض يستنجزه ما وعده به من تخليص ولده والشروط التي تقررت بينهما فأجابه بأن مهلهلًا غير مجيب إليه‏.‏

فعند ذلك سار أبو الشوك من حلوان إلى الصامغان ونهبها ونهب الولاية التي لمهلهل جميعها فانزاح مهلهل من بين يديه وترددت الرسل بينهما فاصطلحا على دغل ودخل وعاد أبو الشوك‏.‏

ذكر خروج سكين بمصر

في هذه السنة في رجب خرج بمصر إنسان اسمه سكين كان يشبه الحاكم صاحب مصر فادعى أنه الحاكم وقد رجع بعد موته فاتبعه جمع ممن يعتقد رجعة الحاكم فاغتنموا خلو دار الخليفة بمصر من الجند وقصدوها مع سكين نصف النهار فدخلوا الدهليز فوثب من هناك من الجند فقال لهم أصحابه‏:‏ إنه الحاكم فارتاعوا لذلك ثم ارتابوا به فقبضوا على سكين ووقع الصوت واقتتلوا فتراجع الجند إلى القصر والحرب قائمة فقتل من أصحابه جماعة وأسر الباقون وصلبوا أحياء ورماهم الجند بالنشاب حتى ماتوا‏.‏

في هذه السنة كانت زلزلة عظيمة بمدينة تبريز هدمت قلعتها وسورها ودورها وأسواقها وأكثر دار الإمارة وسلم الأمير لأنه كان في بعض البساتين فأحصي من هلك من أهل البلد وكانوا قريبًا من خمسين ألفًا ولبس الأمير السواد والمسوح لعظم المصيبة وعزم على الصعود إلى بعض قلاعه خوفًا من توجه الغز السلجوقية إليه وأخبر بذلك أبو جعفر بن الرقي العلوي النقيب بالموصل‏.‏

وفيها قتل قرواش كاتبه أبا الفتح صبرًا‏.‏

وفيها توفي عبد الله بن أحمد أبو ذر الهروي الحافظ أقام بمكة وتزوج من العرب وأقام بالسروات وكان يحج كل سنة يحدث في الموسم ويعود إلى أهله وصحب القاضي أبا بكر البقلاني‏.‏

وفيها توفي عمر بن إبراهيم بن سعيد الزهري من ولد سعد بن أبي وقاص وكان فقيهًا شافعيًا‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وأربعمائة

ذكر إخراج المسلمين والنصارى القسطنطينية

وسبب ذلك أنه وقع الخبر بالقسطنطينية أن قسطنطين قتل ابنتي الملك المتقدم اللتين قد صار الملك فيهما الآن فاجتمع أهل البلد وأثاروا الفتنة وطمعوا في النهب فأشرف عليهم قسطنطين وسألهم عن السبب في ذلك فقالوا‏:‏ قتلت الملكتين وأفسدت الملك فقال‏:‏ ما قتلتهما وأخرجهما حتى رآهما الناس فسكنوا‏.‏

ثم إنه سأل عن سبب ذلك فقيل له‏:‏ إنه فعل الغرباء وأشاروا بإبعادهم وأمر فنودي أن لا يقيم أحد ورد البلد منذ ثلاثين سنة فمن أقام بعد ثلاثة أيام كحل فخرج منها أكثر من مائة ألف إنسان ولم يبق بها أكثر من اثني عشر نفسًا ضمنهم الروم فتركهم‏.‏

ذكر وفاة جلال الدولة وملك أبي كاليجار

في هذه السنة في سادس شعبان توفي الملك جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه ببغداد وكان مرضه ورمًا في كبده وبقي عدة أيام مريضًا وتوفي وكان مولده سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة وملكه ببغداد ست عشرة سنة وأحد عشر شهرًا ودفن بداره ومن علم سيرته وضعفه واستيلاء الجند والنواب عليه ودوام ملكه إلى هذه الغاية علم أن وكان يزور الصالحين ويقرب منهم وزار مرة مشهدي علي والحسين عليهما السلام وكان يمشي حافيًا قبل أن يصل إلى كل مشهد منهما نحو فرسخ يفعل ذلك تدينًا‏.‏

ولما توفي انتقل الوزير كمال الملك بن عبد الرحيم وأصحاب الملك الأكابر إلى باب المراتب وحريم دار الخلافة خوفًا من نهب الأتراك والعامة دورهم فاجتمع قواد العسكر تحت دار المملكة ومنعوا الناس من نهبها‏.‏

ولما توفي كان ولده الأكبر الملك العزيز أبو منصور بواسط على عادته فكاتبه الأجناد بالطاعة وشرطوا عليه تعجيل ما جرت به العادة من حق البيعة فترددت المراسلات بينهم في مقداره وتأخيره لفقده‏.‏

وبلغ موته إلى الملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة فكاتب القواد والأجناد ورغبهم في المال وكثرته وتعجيله فمالوا إليه وعدلوا عن الملك العزيز‏.‏

وأما الملك العزيز فإنه أصعد إلى بغداد لما قرب الملك أبو كاليجار منها على ما نذكره سنة ست وثلاثين عازمًا على قصد بغداد ومعه عسكره فلما بلغ النعمانية غدر به عسكره ورجعوا إلى واسط وخطبوا لأبي كاليجار فلما رأى ذلك مضى إلى نور الدولة دبيس بن مزيد لأنه بلغه ميل جند بغداد إلى أبي كاليجار وسار من عند دبيس إلى قرواش بن المقلد فاجتمع به بقرية خصة من أعمال بغداد وسار مع إلى الموصل ثم فارقه وقصد أبا الشوك لأنه حموه فلما وصل إلى أبي الشوك غدر به وألزمه بطلاق ابنته ففعل وسار عنه إلى إبراهيم ينال أخي طغرلبك وتنقلت به الأحوال حتى قدم بغداد في نفر يسير عازمًا على استمالة العسكر وأخذ الملك فثار به أصحاب الملك أبي كاليجار فقتل بعض من عنده وسار هو متخفيًا فقصد نصر الدولة بن مروان فتوفي عنده بميافارقين وحمل إلى بغداد ودفن عند أبيه بمقابر قريش في مشهد باب التبن سنة إحدى وأربعين‏.‏

وقد ذكر الشيخ أبو الفرج بن الجوزي أنه آخر ملوك بني بويه وليس كذلك فإنه ملك بعده أبو كاليجار ثم الملك الرحيم بن أبي كاليجار وهو آخرهم على ما تراه‏.‏

وأما الملك أبو كاليجار فلم تزل الرسل تتردد بينه وبين عسكر بغداد حتى استقر الأمر له وحلفوا وخطبوا له ببغداد في صفر من سنة ست وثلاثين وأربعمائة على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر حال أبي الفتح مودود بن سبكتكين

في هذه السنة سير الملك أبو الفتح مودود بن مسعود بن سبكتكين عسكرًا مع حاجب له إلى

نواحي خراسان فأرسل إليهم داود أخو طغرلبك وهو صاحب خراسان ولده ألب أرسلان في عسكر فالتقوا واقتتلوا فكان الظفر للملك ألب أرسلان وعاد عسكر غزنة منهزمًا‏.‏

وفيها أيضًا في صفر سار جمع من الغز إلى نواحي بست وفعلوا ما عرف منهم من النهب والشر فسير إليهم أبو الفتح مودود عسكرًا فالتقوا بولاية بست واقتتلوا قتالًا شديدًا انهزم الغز فيه وظفر عسكر مودود وأكثروا فيهم القتل والأسر‏.‏

ذكر ملك مودود عدة حصون

في هذه السنة اجتمع ثلاث ملوك من ملوك الهند وقصدوا لهاوور وحصروها فجمع مقدم العساكر الإسلامية بتلك الديار من عنده منهم وأرسل إلى صاحبه مودود يستنجده فسير إليه العساكر‏.‏

فاتفق أن بعض أولئك الملوك فارقهم وعاد إلى طاعة مودود فرحل الملكان الآخران إلى بلادهما فسارت العساكر الإسلامية إلى أحدهما ويعرف بدوبال هرباته فانهزم منهم وصعد إلى قلعة له منيعة هو وعساكره فاحتموا بها وكانوا خمسة آلاف فارس وسبعين ألف راجل وحصرهم المسلمون وضيقوا عليهم وأكثروا القتل فيهم فطلب الهنود الأمان على تسليم

الحصن فامتنع المسلمون من إجابتهم إلى ذلك إلا بعد أن يضيفوا إليه باقي حصون ذلك الملك الذي لهم فحملهم الخوف وعدم الأقوات على إجابتهم إلى ما طلبوا وتسلموا الجميع وغنم المسلمون الأموال وأطلقوا ما في الحصون من أسرى المسلمين وكانوا نحو خمسة آلاف نفر‏.‏

فلما فرغوا من هذه الناحية قصدوا ولاية الملك الثاني واسمه تابت بالري فتقدم إليهم ولقيهم فاقتتلوا قتالًا شديدًا وانهزمت الهنود وأجلت المعركة عن قتل ملكهم وخمسة آلاف قتيل وجرح وأسر ضعفاهم وغنم المسلمون أموالهم وسلاحهم ودوابهم‏.‏

فلما رأى باقي الملوك من الهند ما لقي هؤلاء أذعنوا بالطاعة وحملوا الأموال وطللبوا الأمان والإقرار على بلادهم فأجيبوا إلى ذلك‏.‏

ذكر الخلف بين الملك أبي كاليجار وفرامرز بن علاء الدولة

في هذه السنة نكث الأمير أبو منصور فرامرز بن علاء الدولة بن كاكويه صاحب أصبهان العهد الذي بينه وبين الملك أبي كاليجار وسير عسكرًا إلى نواحي كرمان فملكوا منها حصنين وغنموا ما فيهما‏.‏

فأرسل الملك أبو كاليجار إليه في إعادتهما وإزالة الاعتراض عنهما فلم يفعل فتجهز عسكرًا

وسيره إلى أبرقوة فحصرها وملكها فانزعج فرامرز لذلك وجهز عسكرًا كثيرًا وسيره إليهم فسمع الملك أبو كاليجار بذلك فسير عسكرًا ثانيًا مددًا لعسكره الأول والتقى العسكران فاقتتلوا وصبروا ثم انهزم عسكر أصبهان وأسر مقدمهم الأمير إسحاق بن ينال واسترد نواب أبي كاليجار ما كانوا أخذوه من كرمان‏.‏ ‏