المجلد الثامن - ذكر أخبار الترك بما وراء النهر

في هذه السنة في صفر أسلم من كفار الترك الذين كانوا يطرقون بلاد الإسلام بنواحي بلاساغون وكاشغر ويغيرون ويعيثون عشرة آلاف خركاة وضحوا يوم عيد الأضحى بعشرين ألف رأس غنم وكفى الله المسلمين شرهم‏.‏

وكانوا يصيفون بنواحي بلغار ويشتون بنواحي بلاساغون فلما أسلموا تفرقوا في البلاد فكان في كل ناحية ألف خركاة وأقل وأكثر لأمنهم فإنهم إنما كانوا يجتمعون ليحمي بعضهم بعضًا من المسلمين وبقي من الأتراك من لم يسلم تتر وخطا وهم بنواحي الصين‏.‏

وكان صاحب بلاساغون وبلاد الترك شرف الدولة وفيه دين وقد أقنع من إخوته وأقاربه بالطاعة وقسم البلاد بينهم فأعطى أخاه أصلان تكين كثيرًا من بلاد الترك وأعطى أخاه بغراجان طراز وأسبيجاب وأعطى عمه طغاخان فرغانة بأسرها وأعطى ابن علي تكين بخارى وسمرقند وغيرهما وقنع هو ببلاساغون وكاشغر‏.‏

ذكر أخبار الروم والقسطنطينية

في هذه السنة في صفر أيضًا ورد إلى القسطنطينية عدد كثير من الروس في البحر وراسلوا قسطنطين ملك الروم بما لم تجر به عادتهم فاجتمعت الروم على حربهم وكان بعضهم قد فارق المراكب إلى البر وبعضهم فيها فألقى الروم في مراكبهم النار فلم يهتدوا إلى إطفائها فهلك كثير منهم بالحرق والغرق وأما الذين على البر فقاتلوا وأبلوا وصبروا ثم انهزموا فلم يكن لهم ملجأ فمن استسلم أولًا استرق وسلم ومن امتنع حتى أخذ قهرًا قطع الروم أيمانهم وطيف بهم في البلد ولم يسلم منهم إلا اليسير مع ابن ملك الروسية وكفي الروم شرهم‏.‏

ذكر طاعة المعز بإفريقية للقائم بأمر الله

في هذه السنة أظهر المعز ببلاد إفريقية الدعاء للدولة العباسية وخطب للإمام القائم بأمر الله أمير المؤمنين ووردت عليه الخلع والتقليد ببلاد إفريقية وجميع ما يفتحه وفي أول الكتاب الذي مع الرسل‏:‏ من عبد الله ووليه أبي جعفر القائم بأمر الله أمير المؤمنين إلى الملك الأوحد ثقة الإسلام وشرف الإمام وعمدة الأنام ناصر دين الله قاهر أعداء الله ومؤيد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي تميم المعز بن باديس بن المنصور ولي أمير المؤمنين بولاية جميع المغرب وما افتتحه بسيف أمير المؤمنين وهو طويل‏.‏

وأرسل إليه سيف وفرس وأعلام على طريق القسطنطينية فوصل ذلك يوم الجمعة فدخل به إلى الجامع والخطيب ابن الفاكاة على المنبر يخطب الخطبة الثانية فدخلت الأعلام فقال‏:‏ هذا لواء الحمد يجمعكم‏.‏

وهذا معز الدين يسمعكم‏.‏

وأستغفر الله لي ولكم‏.‏

وقطعت الخطبة للعلويين من ذلك الوقت وأحرقت أعلامهم‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة جرت حرب بين ابن الهيثم صاحب البطيحة وبين الأجناد من الغز والديلم فأحرق الجامدة وغيرها وخطب الجند للملك أبي كاليجار‏.‏

وفيها أرسل الخليفة القائم بأمر الله أقضى القضاة أبا الحسن علي بن محمد ابن حبيب الماوردي الفقيه الشافعي إلى السلطان طغرلبك قبل وفاة جلال الدولة وأمره أن يقرر الصلح بين طغرلبك والملك جلال الدولة وأبي كاليجار فسار إليه وهو بجرجان فلقيه طغرلبك على أربعة فراسخ إجلالًا لرسالة الخليفة وعاد الماوردي سنة ست وثلاثين وأخبر عن طاعة طغرلبك للخليفة وتعظيمه لأوامره ووقوفه عنده‏.‏

وفيها توفي عبد الله بن أحمد بن عثمان بن الفرج بن الأزهر أبو القاسم ابن أبي الفتح الأزهري الصيرفي المعروف بابن السواري شيخ الخطباء أبي بكر وكان إمامًا في الحديث ومن تلامذته الخطيب البغدادي‏.‏

ثم دخلت سنة ست وثلاثين وأربعمائة

ذكر قتل الإسماعيلية بما وراء النهر

في هذه السنة أوقع بغراخان صاحب ما وراء النهر بجمع كثير من الإسماعيلية‏.‏

وكان سبب ذلك أن نفرًا منهم قصدوا ما وراء النهر ودعوا إلى طاعة المستنصر بالله العلوي صاحب مصر فتبعهم جمع كثير وأظهروا مذاهب أنكرها أهل تلك البلاد‏.‏

وسمع ملكها بغراخان خبرهم وأراد الإيقاع بهم فخاف أن يسلم منه بعض من أجابهم من أهل تلك البلاد فأظهر لبعضهم أنه يميل إليهم ويريد الدخول في مذاهبهم وأعلمهم ذلك وأحضرهم مجالسة ولم يزل حتى علم جميع من أجابهم إلى مقالتهم فحينئذ قتل من بحضرته منهم وكتب

ذكر الخطبة للملك أبي كاليجار وإصعاده إلى بغداد

قد ذكرنا لما توفي الملك جلال الدولة ما كان من مراسلة الجند الملك أبا كاليجار والخطبة له‏.‏

فلما استقرت القواعد بينه وبينهم أرسل أموالًا فرقت على الجند ببغداد وعلى أولادهم وأرسل عشرة آلاف دينار للخليفة ومعها هدايا كثيرة فخطب به ببغداد في صفر وخطب له أيضًا أبو الشوك في بلاده ودبيس بن مزيد ببلاده ونصر الدولة بن مروان بديار بكر ولقبه الخليفة محيي الدين وسار إلى بغداد في مائة فارس من أصحابه لئلا تخافه الأتراك‏.‏

فلما وصل إلى النعمانية لقيه دبيس بن مزيد ومضى إلى زيارة المشهدين بالكوفة وكربلاء ودخل إلى بغداد في شهر رمضان ومعه وزيره ذو السعادات أبو الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن فسانجس ووعده الخليفة القائم بأمر الله أن يستقبله فاستعفى من ذلك وأخرج عميد الدولة أبا سعد بن عبد الرحيم وأخاه كمال الملك وزيري جلال الدولة من بغداد فمضى أبو سعد إلى تكريت وزينت بغداد لقدومه وأمر فخلع على أصحاب الجيوش وهم‏:‏ البساسيري والنشاووري والهمام أبو اللقاء وجرى من ولاة العرض تقديم لبعض الجند وتأخير فشغب بعضهم وقتلوا واحدًا من ولاة العرض بمرأى من الملك أبي كاليجار فنزل في سميرية بكنكور

وفي رمضان منها توفي أبو القاسم علي بن أحمد الجرجرائي وزير الظاهر والمستنصر الخليفتين وكان فيه كفاية وشهامة وأمانة وصلى عليه المستنصر بالله‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة نزل الأمير أبو كاليجار كرشاسف بن علاء الدولة من كنكور وقصد همذان فملكها وأزاح عنها نواب السلطان طغرلبك وخطب للملك أبي كاليجار وصار في طاعته‏.‏

وفيها أمر الملك أبي كاليجار ببناء سور مدينة شيراز فبني وأحكم بناؤه وكان دوره اثني عشر ألف ذراع وعرضه ثمانية أذرع وله أحد عشر بابًا وفرغ منه سنة أربعين وأربعمائة‏.‏

وفيها نقل تابوت جلال الدولة من داره إلى مشهد باب التبن إلى تربة له هناك‏.‏

وفيها استوزر السلطان طغرلبك وزيره أبا القاسم علي بن عبد الله الجويني وهو أول وزير وزر له ثم وزر له بعده رئيس الرؤساء أبو عبد الله الحسين ابن علي بن ميكائيل ثم وزر له بعدهنظام الملك أبو محمد الحسن بن محمد الدهستاني وهو أول من لقب نظام الملك ثم وزر له بعده عميد الملك الكندري وهو أشهرهم وإنما اشتهر لأن طغرلبك في أيامه عظمت دولته ووصل إلى العراق وخطب به بالسلطنة وسيرد من أخباره ما فيه كفاية فلا حاجة إلى وفيها توفي الشريف المرتضى أبو القاسم علي أخر الرضي في آخر ربيع الأول ومولده سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وولي نقابة العلويين بعده أبو أحمد عدنان ابن أخيه الرضي‏.‏

وفيها توفي القاضي أبو عبد الله الحسين بن علي بن محمد الصيمري وهو شيخ أصحاب أبي حنيفة في زمانه ومن جملة تلامذته القاضي أبو عبد الله الدامغاني ومولده سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة وولي بعده قضاء الكرخ القاضي أبو الطيب الطبري مضافًا إلى ما كان يتولاه من القضاء بباب الطاق‏.‏

وفيها توفي القاضي أبو الحسن عبد الوهاب بن منصور بن المشتري قاضي خوزستان وفارس وكان شافعي المذهب‏.‏

وفيها توفي أبو الحسين محمد بن علي البصري المتكلم المعتزلي صاحب التصانيف المشهورة‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وأربعمائة

ذكر وصول إبراهيم ينار إلى همذان

في هذه السنة أمر السلطان طغرلبك أخاه إبراهيم ينال بالخروج إلى بلد الجبل وملكها فسار إليها من كرمان وقصد همذان وبها كرشاسف بن علاء الدولة ففارقها خوفًا ودخلها ينال

وكان أبو الشوك حينئذ بالدينور فسار عنها إلى قرميسين خوفًا وإشفاقًا من ينال فقوي طمع ينال حينئذ في البلاد وسار الدينور فملكها ورتب أمورها وسار منها يطلب قرميسين‏.‏

فلما سمع أبو الشوك به سار إلى حلوان وترك بقرميسين من في عسكره من الديلم والأكراد الشاذنجان ليمنعوها ويحفظوها ووافاهم ينال جريدة فقاتلوه فدفعوه عنها فانصرف عنهم وعاد بخركاهاته وحلله فقاتلوه فضعفوا عنه وعجزوا عن منعه فملك البلد في رجب عنوة وقتل من العساكر جماعة كثيرة وأخذ أموال من سلم من القتل وسلاحهم وطردهم ولحقوا بأبي الشوك ونهب البلد وقتل وسبى كثيرًا من أهله‏.‏

ولما سمع أبو الشوك ذلك سير أهله وأمواله وسلاحه من حلوان إلى قلعة السيروان وأقام جريدة في عسكره ثم إن ينال سار إلى الصيمرة في شعبان فملكها ونهبها وأوقع بالأكراد المجاورين لها من الجوزقان فانهزموا وكان كرشاسف بن علاء الدولة نازلًا عندهم فسار هو وهم إلى بلد شهاب الدولة أبي الفوارس منصور بن الحسين‏.‏

ثم إن إبراهيم ينال سار إلى حلوان وقد فارقها أبو الشوك ولحق بقلعة السيروان فوصل إليها إبراهيم آخر شعبان وقد جلا أهلها عنها وتفرقوا في البلاد فنهبها وأحرقها وأحرق دار أيب الشوك وانصرف بعد أن اجتاحها ودرسها‏.‏

وتوجه طائفة من الغز إلى خانقين في أثر جماعة من أهل حلوان كانوا ساروا بأهليهم وأولادهم وأموالهم فأدركوهم وظفروا بهم وغنموا ما معهم وانتشر الغز في تلك النواحي فبلغوا مايدشت وما يليها فنهبوها وأغاروا عليها‏.‏

فلما سمع الملك أبو كاليجار هذه الأخبار أزعجته وأقلقته وكان بخوزستان فعزم على المسير ودفع ينال ومن معه من الغز عن البلاد فأمر عساكره بالتجهز للسفر إليهم فعجزوا عن الحركة لكثرة ما مات من دوابهم فلما تحقق ذلك سار نحو بلاد فارس فحمل العسكر أثقالهم على الحمير

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في المحرم خطب للملك أبي كاليجار بأصبهان وأعمالها وعاد الأمير أبو منصور بن علاء الدولة إلى طاعته‏.‏

وكان سبب ذلك أنه لما عصى على الملك أبي كاليجار وقصد كرمان على ما ذكرناه والتجأ إلى طاعة طغرلبك لم يبلغ ما كان يؤمله من طغرلبك فلما عاد طغرلبك إلى خراسان خاف أبو منصور من الملك أبي كاليجار فراسله في العود إلى طاعته فأجابه إلى ذلك واصطلحا‏.‏

وفيها اصطلح أبو الشوك وأخوه مهلهل وكان متقاطعين من حين أسر مهلهل أبا الفتح بن أبي الشوك وموت أبي الفتح في سجنه‏.‏

فلما كان الآن وخافا من الغز تراسلا في الصلح واعتذر مهلهل وأرسل ولده أبا الغنائم إلى أبي الشوك وحلف له أن أبا الفتح توفي حتف أنفه من غير قتل وقال‏:‏ هذا ولدي تقتله عوضه فرضي أبو الشوك وأحسن إلى أبي الغنائم ورده إلى أبيه واصطلحا واتفقا‏.‏

وفيها في جمادى الأولى خلع الخليفة على أبي القاسم علي بن الحسن بن المسلمة واستوزره ولقبه رئيس الرؤساء وهو ابتداء حاله‏.‏

وكان السبب في ذلك أن ذا السعادات بن فسانجس وزير الملك أبي كاليجار كان يسيء الرأي في عميد الرؤساء وزير الخليفة فطلب من الخليفة أن يعزله فعزله واستوزر رئيس الرؤساء نيابة ثم خلع عليه وجلس في الدست‏.‏

وفيها في شعبان سار سرخاب بن محمد بن عناز أخو أبي الشوك إلى البندنيجين وبها سعدي بن أبي الشوك ففارقها سعدي ولحق بأبيه ونهب سرخاب بعضها وكان أبو الشوك قد أخذ بلد سرخاب ما عدا دزديلويه وهما متباينان لذلك‏.‏

وفيها في آخر رمضان توفي أبو الشوك فارس بن محمد بن عناز بقلعة السيروان وكان مرض

لما سار إلى السيروان من حلوان ولما توفي غدر الأكراد بابنه سعدي وصاروا مع عمه مهلهل فعند ذلك مضى سعدي إلى إبراهيم ينال وأتى بالغز على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وفيها قتل عيسى بن موسى الهذباني صاحب أربل وكان خرج إلى الصيد فقتله ابنا أخ له وساروا إلى قلعة إربل فملكاها وكان سلار بن موسى أخو المقتول نازلًا على قرواش بن المقلد صاحب الموصل لنفرة كانت بينه وبين أخيه فلما قتل سار قرواش مع السلار إلى إربل فملكها وسلمها إلى السلار وعاد قرواش إلى الموصل‏.‏

وفيها كانت ببغداد فتنة بين أهل الكرخ وباب البصرة وقتال اشتد قتل فيه جماعة‏.‏

وفيها وقع البلاء والوباء في الخيل فهلك من عسكر الملك أبي كاليجار اثنا عشر ألف فرس وعم ذلك البلاء‏.‏

وفيها توفي علي بن محمد بن نصر أبو الحسن الكاتب بواسط صاحب الرسائل المشهورة‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة

ذكر ملك مهلهل قرميسين والدينور

في هذه السنة ملك مهلهل بن محمد بن عناز مدينة قرميسين والدينور‏.‏

وسبب ذلك أن إبراهيم ينال كان قد استعمل عند عوده من حلوان على قرميسين بدر بن طاهر بن هلال فلما ملك مهلهل بعد موت أخيه أبي الشوك سار إلى مايدشت ونزل بها ثم توجه نحو قرميسين فانصرف عنها بدر فملكها مهلهل وسير ابنه محمدًا إلى الدينور وبها عساكر ينال فاقتتلوا فقتل بين الفريقين جماعة وانهزم أصحاب ينال وملك محمد البلد‏.‏

ذكر اتصال سعدي بن أبي الشوك بإبراهيم ينال وما كان منه

في هذه السنة في شهر ربيع الأول فارق سعدي بن أبي الشوك عمه مهلهلًا ولحق بإبراهيم ينال فصار معه‏.‏

وسبب ذلك أن عمه تزوج أمه وأهمل جانبه واحتقره وكذلك أيضًا قصر في مراعاة الأكراد الشاذنجان فراسل سعدي إبراهيم ينال في اللحاق به فأذن له في ذلك ووعده أن يملكه ما كان لأبيه فسار إليه في جماعة من الأكراد الشاذنجان فقوي بهم فأكرمه ينال وضم إليه جمعًا من الغز وسيره إلى حلوان فملكها وخطب فيها لإبراهيم ينال في شهر ربيع الأول وأقام بها أيامًا ورجع إلى مايدشت فسار عمه مهلهل إلى حلوان فملكها وقطع منها خطبة ينال‏.‏

فلما سمع سعدي بذلك سار إلى حلوان ففارقها عمه مهلهل إلى ناحية بلوطة وملك سعدي حلوان وسار إلى عمه سرخاب فكبسه ونهب ما كان معه وسير جمعًا إلى البندنيجين فاستولوا عليها وقبضوا على نائب سرخاب بها ونهبوا بعضها وانهزم بعضها وانهزم سرخاب فصعد إلى قلعة دزديلويه ثم عاد سعدي إلى قرميسين فسير عمه مهلهل ابنه بدرًا إلى حلوان فملكها فجمع سعدي وأكثر وعاد إلى حلوان ففارقها من كان بها من أصحاب عمه من كان بالقلعة وملكها سعدي وكان قد صحبه كثير من الغز فسار بهم منها إلى عمه مهلهل وترك بها من يحفظها‏.‏

فلما علم عمه بقربه منه سار بين يديه إلى قلعة تيرانشاه بقرب شهرزور فاحتمى بها وملك الغز كثيرًا من النواحي والمواشي وغنموا كثيرًا من الأموال والدواب‏.‏

فلما رأى سعدي تحصن عمه منه خاف على من خلفه بحلوان فعاد عازمًا على محاصرة القلعة فمضى وحصرها وقاتله من بها من أصحاب عمه ونهب الغز حلوان وفتكوا فيها وافتضوا الأبكار وأحرقوا المساكن وتفرق الناس‏!‏ وفعلوا في تلك النواحي جميعها أقبح فعل‏.‏

ولما سمع أصحاب الملك أبي كاليجار ووزيره هذه الأخبار ندبوا العساكر إلى الخروج إلى مهلهل ومساعدته على ابن أخيه ودفعه عن هذه الأعمال فلم يفعلوا‏.‏

ثم إن سعدي أقطع أبا الفتح بن ورام البندنيجين واتفقا واجتمعا على قصد عمه سرجاب بن محمد بن عناز وحصره بقلعة دزديلويه فسارا فيمن معهما من العساكر فلما قاربوا القلعة دخلوا في مضيق هناك من غير أن يجعلوا لهم طليعة طمعًا فيه وإدلالًا بقوتهم وكان سرخاب قد جعل على رأس الجبل على فم المضيق جمعًا من الأكراد فلما دخلوا المضيق فتقطرت بهم خيلهم فسقطوا عنها ورماهم الأكراد الذين على الجبل فوهنوا وأسر سعدي وأبو الفتح بن ورام وغيرهما من الرؤوس وتفرق الغز والأكراد من تلك النواحي بعد أن كانوا قد توطنوها وملكوها‏.‏

ذكر حصار طغرلبك أصبهان

في هذه السنة حصر طغرلبك مدينة أصبهان وبها صاحبها أبو منصور فرامرز ابن علاء الدولة فضيق عليه ولم يظفر من البلد بطائل ثم اصطلحوا على مال يحمله فرامرز بن علاء الدولة لطغرلبك وخطب له بأصبهان وأعمالها‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة خرج من الترك من بلد التبت خلق لا يحصون كثرة فراسلوا أرسلان خان صاحب بلاساغون يشكرونه على حسن سيرته في رعيته ولم يكن منهم تعرض إلى مملكته ولكنهم أقاموا بها وراسلهم ودعاهم إلى الإسلام فلم يجيبوا ولم ينفروا منه‏.‏

وفيها انحدر علاء الدين أبو الغنائم ابن الوزير ذي السعادات إلى البطائح وحصرها وبها صاحبها أبو نصر بن الهيثم وضيق عليه واجتمع مع جمع كثير‏.‏

وفيها في ذي القعدة توفي عبد الله بن يوسف أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين أبي المعالي وكان إمامًا في الشافعية تفقه على أبي الطيب سهل ابن محمد الصعلوكي وكان عالمًا بالأدب وغيره من العلوم وهو من بني سنبس بطن من طئ‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وأربعمائة

ذكر صلح أبي كاليجار والسلطان طغرلبك

في هذه السنة أرسل الملك أبو كاليجار إلى السلطان ركن الدين طغرلبك في الصلح فأجابه إليه واصطلحا وكتب طغرلبك إلى أخيه ينال يأمره بالكف عما وراء ما بيده واستقر الحال بينهما أن يتزوج طغرلبك بابنة أبي كاليجار ويتزوج الأمير أبو منصور بن أبي كاليجار بابنة الملك داود أخي طغرلبك وجرى العقد في شهر ربيع الآخر من هذه السنة‏.‏

ذكر القبض على سرخاب أخي أبي الشوك

في هذه السنة قبض الأكراد اللرية وجماعة من عسكر سرخاب عليه لأنه أساء السيرة معهم ووترهم فقبضوا عليه وحملوه إلى إبراهيم ينال فقلع إحدى عينيه وطالبه بإطلاق سعدي بن أبي الشوك فلم يفعل‏.‏

وكان أبو العسكر بن سرخاب قد غاضبه لما قبض على سعدي واعتزله كراهية لفعله فلما أسر أبوه سرخاب سار إلى القلعة وأخرج سعدي ابن عمه وفك قيوده وأحسن إليه وأطلقه وأخذ عليه بطرح ما مضى والسعي في خلاص والده سرخاب فسار سعدي واجتمع عليه خلق كثير من الأكراد ووصل إلى إبراهيم ينال فلن يجد عنده الذي أراد ففارقه وعاد إلى الدسكرة وكاتب الخليفة ونواب الملك أبي كاليجار بالعود إلى الطاعة وأقام بها‏.‏

ذكر ملك إبراهيم ينال قلعة كنكور وغيرها

في هذه السنة سار إبراهيم ينال إلى قلعة كنكور وبها عكبر بن فارس صاحب كرشاسف بن علاء الدولة يحفظها له فامتنع عكبر بها إلى أن فنيت ذخائره وكانت قليلة فلما نفدت الذخائر عمد إلى بيوت الطعام التي في القلعة وملأها ترابا وحجارة وسد أبوابها ونثر من داخل الأبواب شيئًا من طعام وعلى رأس التراب والحجارة كذلك أيضًا وراسل إبراهيم في تسليم القلعة إليه على أن يؤمنه على من بها من الرجال وما بها من الأموال فأرسل إليه إبراهيم يمتنع عليه من ترك المال فأخذ عكبر رسول إبراهيم فطوفه على البيوت التي فيها الطعام وفتح مواضع من المسدود فرآها مملوءة فظنها طعامًا وقال له عكبر‏:‏ ما راسلت صاحبك خوفًا من المطاولة ولا إشفاقًا من نفاد الميرة لكنني أحببت الدخول في طاعته فإن بذل لي الأمان على ما طلبته لي وللأمير كرشاسف وأمواله ولمن بالقلعة سلمت إليه وكفيته مؤونة المقام‏.‏

فلما عاد الرسول إلى إبراهيم وأخبره أجابه إلى ما طلب ونزل عكبر وتسلمها إبراهيم فلما صعد إلى القلعة انكشفت الحيلة وسار عكبر بمن معه إلى قلعة سرماج وصعد إليها‏.‏

ولما ملك ينال كنكور عاد إلى همذان فسير جيشًا لأخذ قلاع سرخاب واستعمل عليهم نسيبًا له اسمه أحمد وسلم إليه سرخابًا ليفتح به قلاعه فسار به إلى قلعة كلكان فامتنعت عليه فساروا إلى قلعة دزديلويه فحصروها وامتدت طائفة منهم إلى البندنيجين فنهبوها في جمادى الآخرة وفعلوا الأفاعيل القبيحة من النهب والقتل وافتراش النساء والعقوبة على تخليص الأموال فمات منهم جماعة لشدة الضرب‏.‏

وسارت طائفة منهم إلى أبي الفتح بن ورام فانصرف عنهم خوفًا منهم وترك حلله بحالها وقصد أن يشتغلوا بنهب حلله فيعود عليهم فلم يعرجوا على النهب وتبعوه فلشدة خوفه أن يظفروا به ويأخذوه قاتلهم فظفر بهم وقتل وأسر جماعة منهم وغنم ما معهم ورجع الباقون وأرسل إلى بغداد يطلب نجدة خوفًا من عودهم فلم ينجدوه لعدم الهيبة وقلة إمساك الأمر فعبر بنو ورام دجلة إلى الجانب الغربي‏.‏

ثم إن الغز أسروا إلى سعدي بن أبي الشوك في رجب وهو نازل على فرسخين من باحسري وكبسوه فانهزم هو ومن معه لا يلوي الأخ على أخيه ولا الوالد على ولده فقتل منهم خلق كثير وغنم الغز أموالهم ونهبوا تلك الأعمال وكان سعدي قد أنزل مالًا من قلعة السيروان فوصله تلك الليلة فغنمه الغز إلا من سلم معه ونجا سعدي من الوقعة بجريعة الذقن ونهب الغز الدسكرة وباجسري والهارونية وقصر سابور وجميع تلك الأعمال‏.‏

ووصل الخبر إلى بغداد بأن إبراهيم ينال عازم على قصد بغداد فارتاع الناس واجتمع الأمراء والقواد إلى الأمير أبي منصور ابن الملك أبي كاليجار ليجتمعوا ويسيروا إليه ويمنعوه واتفقوا على ذلك فلم يخرج غير خيم الأمير أبي منصور والوزير ونفر يسير وتخلف الباقون وهلك من أهل تلك النواحي المنهوبة خلق كثير فمنهم من قتل ومنهم من غرق ومنهم من قتله البر‏.‏

ووصل سعدي إلى ديالى ثم سار منها إلى أبي الأغر دبيس بن مزيد فأقام عنده‏.‏

ثم إن إبراهيم ينال سار إلى السيروان فحصر القلعة وضيق على من بها وأرسل سرية نهبت البلاد وانتهت إلى مكان بينه وبين تكريت عشرة فراسخ ودخل بغداد من أهل طريق خراسان خلق كثير وذكروا من حالهم ما أبكى العيون ثم سلمها إليه مستحفظًا بعد أن أمنه على نفسه وماله وأخذ منها ينال من بقايا ما خلفه سعدي شيئًا كثيرًا ولما فتحها استخلف فيها مقدمًا كبيرًا من أصحابه يقال له سخت كمان وانصرف إلى حلوان وعاد منها إلى همذان ومعه بدر ومالك ابنا مهلهل فأكرمهما‏.‏

ثم إن صاحب قلعة سرماج توفي وهو من ولد بدر بن حسنويه وسلمت القلعة بعده إلى إبراهيم ينال وسير إبراهيم ينال وزيره إلى شهرزور فأخذها وملكها فهرب منه مهلهل فأبعد في الهرب‏.‏

ثم نزل أحمد على قلعة تيرانشاه وحاصرها ونقب عليها عدة نقوب ثم إن مهلهلًا راسل أهل شهرزور يعدهم بالمسير إليهم في جمع كثير ويأمرهم بالوثوب بمن عندهم من الغز ففعلوا وقتلوا منهم وسمع أحمد بن طاهر فعاد إليهم وأوقع بهم ونهبهم وقتل كثيرًا منهم‏.‏

ثم إن الغز المقيمين بالبندنيجين ومن معهم ساروا إلى براز الروز وتقدموا إلى نهر السليل فاقتتلوا هم وأبو دلف القاسم بن محمد الجاواني قتالًا شديدًا ظفر فيه أبو دلف وانهزم الغز وأخذ ما معهم‏.‏

وسار في ذي الحجة جمع من الغز إلى بلد علي بن القاسم الكردي فأغاروا وعاثوا فأخذ عليهم المضيق وأوقع بهم وقتل كثيرًا منهم وارتجع ما غنموه من بلده‏.‏

في هذه السنة اشتد الحصار من عسكر الملك أبي كاليجار على أب نصر بن الهيثم صاحب البطيحة فجنح إلى الصلح فاشتط عليه أبو الغنائم ابن الوزير ذي السعادات ثم استأمن نفر من أصحاب أبي نصر وملاحيه إلى أبي الغنائم وأخبروه بضعف أبي نصر وعزمه على الانتقال من مكانه فحفظ الطرق عليه فلما كان خامس صفر جرت وقعة كبيرة بين الفريقين واشتد القتال فظفر أبو الغنائم وقتل من البطائحيين جماعة كثيرة وغرق منهم سفن كثيرة وتفرقوا في الآجام ومضى ابن الهيثم ناجيًا بنفسه في زبزب وملكت داره ونهب ما فيها‏.‏

ذكر ظهور الأصفر وأسره

في هذه السنة ظهر الأصفر التغلبي برأس عين وادعى أنه من المذكورين في الكتب واستغوى قومًا بمخاريق وضعها وجمع جمعًا وغزا نواحي الروم فظفر وغنم وعاد وظهر حديثه وقوي ناموسه وعاودوا الغزو في عدد أكثر من العدد الأول ودخل نواحي الروم وأوغل وغنم أضعاف ما غنمه أولًا حتى بيعت الجارية الجميلة بالثمن البخس‏.‏

وتسامع الناس به فقصدوه وكثر جمعه واشتدت شوكته وثقلت على الروم وطأته فأرسل ملك الروم إلى نصر الدولة بن مروان يقول له‏:‏ إنك عالم بما بيننا من الموادعة وقد فعل هذا

واتفق في ذلك الوقت أن وصل رسول من الأصفر إلى نصر الدولة أيضًا ينكر عليه ترك الغزو والميل إلى الدعة فساءه ذلك أيضًا واستدعى قومًا من بني نمير وقال لهم‏:‏ إن هذا الرجل قد أثار الروم علينا ولا قدرة لنا عليهم وبذل لهم مالًا على الفتك به فساروا إليه فقربهم ولازموه فركب يومًا غير متحرز فأبعد وهم معه فعطفوا عليه وأخذوه وحملوه إلى نصر الدولة بن مروان فاعتقله وتلافى أمر الروم‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة تجددت الهدنة بين صاحب مصر وبين الروم وحمل كل واحد منهما لصاحبه هدية عظيمة‏.‏

وفيها كان ببغداد والموصل وسائر البلاد العراقية والجزرية غلاء عظيم حتى أكل الناس الميتة وتبعه وباء شديد مات فيه كثير من الناس حتى خلت الأسواق وزادت أثمان ما يحتاج إليه المرضى حتى بيع المن من الشراب بنصف دينار ومن اللوز بخمسة عشر قيراطًا والرمانة بقيراطين والخيارة بقيراط وأشباه ذلك‏.‏

وفيها جمع الأمير أبو كاليجار فناخسرو بن مجد الدولة بن بويه جمعًا وسار إلى آمد فدخلها وساعده أهلها وأوقع بمن كان فيها من أصحاب طغرلبك فقتل وأسر وعرف طغرلبك ذلك فسار عن الري قاصدًا إليه ومتوجهًا إلى قتاله‏.‏

وفيها توفي عميد الدولة أبو سعد محمد بن الحسين بن عبد الرحيم بجزيرة ابن عمر في ذي القعدة وله شعر حسن ووزر لجلال الدولة عدة دفعات‏.‏

وفيها سير المعز بن باديس صاحب إفريقية أسطولًا إلى جزائر القسطنطينية فظفر وغنم وعاد‏.‏

وفيها اقتتلت طوائف من تلكاتة قاتل بعضهم بعضًا وكان بينهم حرب صبروا فيها فقتل منهم خلق كثير‏.‏

وفيها قبض الملك أبي كاليجار على وزيره محمد بن جعفر بن أبي الفرج الملقب بذي السعادات بن فسانجس وسجنه وهرب ولده أبو الغنائم وبقي الوزير مسجونًا إلى أن مات في شهر رمضان سنة أربعين وقيل أرسل إليه أبو كاليجار من قتله وعمره إحدى وخمسون سنة وللوزير ذي السعادات مكاتبات حسنة وشعر جيد منه‏:‏ أودعكم وإني ذو اكتئاب وأرحل عنكم والقلب آبي وإن فراقكم في كل حال لأوجع من مفارقة الشباب وأشكر كلما أوطنت دارًا ليالينا القصار بلا اجتناب وأذكركم إذا هبت جنوب فتذكرني غرارات التصابي لكم مني المودة في اغتراب وأنتم إلف نفسي في اقترابي وهو أطول من هذا‏.‏

ولما قبض ذو السعادات استوزر أبو كاليجار كمال الملك أبا المعالي بن عبد الرحيم‏.‏

وفيها توفي أبو القاسم عبد الواحد بن محمد بن يحيى بن أيوب المعروف بالمطرز الشاعر وله شعر جيد فمن قوله في الزهد‏:‏ يا عبد كم لك من ذنب ومعصية إن كنت ناسيها فالله أحصاها لا بد يا عبد من يوم تقوم به ووقفة لك يدمي القلب ذكراها إذا عرضت على قلبي تذكرها وساء ظني فقلت استغفر اللاها وفيها مات أبو الخطاب الجبلي الشاعر ومضى إلى الشام ولقي المعري وعاد ضريرًا وله شعر منه قوله‏:‏ ما حكم الحب فهو ممتثل وما جناه الحبيب محتمل تهوى وتشكو الضنى وكل هوى لا ينحل الجسم فهو منتحل وفيها توفي أبو محمد الحسن بن محمد بن الحسن الخلال الحافظ ومولده سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة سمع أبا بكر القطيعي وغيره ومن أصحابه الخطيب أبو بكر الحافظ‏.‏

وفيها قتل الفقيه أحمد الولوالجي وهو من أعيان الفقهاء الحنفية إلا أنه كان يكثر الوقيعة في الأئمة والعلماء وسلك طريق الرياضة وفسد دماغه فقتل بين مرو وسرخس في ذي الحجة‏.‏

ثم دخلت سنة أربعين وأربعمائة

ذكر رحيل عسكر ينال عن تيرانشاه

وعود مهلهل إلى شهرزور قد ذكرنا في السنة المتقدمة استيلاء أحمد بن طاهر وزير ينال على شهرزور ومحاصرته قلعة تيرانشاه ولم يزل يحاصرها إلى الآن فوقع في عسكره الوباء وكثر الموت فأرسل إلى صاحبه ينال يستمده ويطلب إنجاده ويعرفه كثرة الوباء عنده فأمره بالرحيل عنها فسار إلى مايدشت‏.‏

فلما سمع مهلهل ذلك سير أحد أولاد شهرزور فملكها وانزعج الغز الذين بالسيروان وخافوا‏.‏

ثم سار جمع من عسكر بغداد إلى حلوان وحصروا قلعتها فلم يظفروا بها فنهبوا تلك الأعمال وأتوا على ما تخلف من الغز فخربت الأعمال بالكلية وسار مهلهل ومعه أهله وأمواله إلى بغداد فأنزلهم بباب المراتب بدار الخلافة خوفًا من الغز وعاد إلى حلله وبينه وبين بغداد ستة فراسخ وسار جمع من عسكر بغداد إلى البندنيجين وبها جمع من الغز مع عكبر ابن أحمد بن عياض فتواقعوا واقتتلوا فانهزم عسكر بغداد وقتل منهم جماعة وأسر جماعة قتلوا أيضًا صبرًا‏.‏

ذكر غزو إبراهيم ينال الروم

في هذه السنة غزا إبراهيم ينال الروم فظفر بهم وغنم‏.‏

وكان سبب ذلك أن خلقًا كثيرًا من الغز بما وراء النهر قدموا عليه فقال لهم‏:‏ بلادي تضيق عن مقامكم والقيام بما تحتاجون إليه والرأي أن تمضوا إلى غزو الروم وتجاهدوا في سبيل الله وتغنموا وأنا سائر على أثركم ومساعد لكم على أمركم‏.‏

ففعلوا‏.‏ وساروا بين يديه وتبعهم فوصلوا إلى ملازكرد وأرزن الروم وقاليقلا وبلغوا طرابزون وتلك النواحي كلها ولقيهم عسكر عظيم لروم والأبخاز يبلغون خمسين ألفًا فاقتتلوا واشتد القتال بينهم وكانت بينهم عدة وقائع تارة يظفر هؤلاء وتارة هؤلاء وكان آخر الأمر الظفر للمسلمين فأكثروا القتل في الروم وهزموهم وأسروا جماعة كثيرة من بطارقتهم وممن أسر قاريط ملك الأبخاز فبذل في نفسه ثلاثمائة ألف دينار وهدايا بمائة ألف فلم يجبه إلى ذلك ولم يجوس تلك البلاد وينهبها إلى انهزموا أن بقي بينه وبين القسطنطينية خمسة عشر يومًا واستولى المسلمون على تلك النواحي فنهبوها وغنموا ما فيها وسبوا أكثر من مائة ألف رأس وأخذوا من الدواب والبغال والغنائم والأموال ما لا يقع عليه الإحصاء وقيل إن الغنائم حملت على عشرة آلاف عجلة وإن في جملة الغنيمة تسعة عشر ألف درع‏.‏

وكان قد دخل بلد الروم جمع من الغز يقدمهم إنسان نسيب طغرلبك فلم يؤثر كبير أثر وقتل من أصحابه جماعة وعاد ودخل بعده إبراهيم ينال ففعل هذا الذي ذكرناه‏.‏

ذكر موت الملك أبي كاليجار وملك ابنه الملك الرحيم

في هذه السنة توفي الملك أبي كاليجار المرزبان بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه رابع جمادى الأولى بمدينة جناب من كرمان‏.‏

وكان سبب مسيره إليها أنه كان قد عول في ولاية كرمان حربًا وخرابًا على بهرام بن لشكرستان الديلمي وقرر عليه مالًا فتراخى بهرام في تحرير الأمر وأحاله إلى المغالطة والمدافعة فشرع حينئذ أبو كاليجار في إعمال الحيلة عليه وأخذ قلعة بردسير من يده وهي معقله الذي يحتمي به ويعول عليه فراسل بعض من بها من الأجناد وأفسدهم فعلم بهم بهرام فقتلهم وزاد نفوره واستشعاره وأظهر ذلك فسار إليه الملك أبو كاليجار في ربيع الآخر فبلغ قصر مجاشع فوجد في حلقه خشونة فلم يبال بها وشرب وتصيد وأكل من كبد غزال مشوي واشتدت علته ولحقه حمى وضعف عن الركوب ولم يمكنه المقام لعدم الميرة بذلك المنزل فحمل في محفة على أعناق الرجال إلى مدينة جناب فتوفي بها وكان عمره أربعين سنة وشهورًا وكان ملكه بالعراق بعد وفاة جلال الدولة أربع سنين وشهرين ونيفًا وعشرين يومًا‏.‏

ولما توفي نهب الأتراك من العسكر الخزائن والسلاح والدواب وانتقل ولده أبو منصور فلاستون إلى مخيم الوزير أبي منصور وكانت منفردة عن العسكر فأقام عنده وأراد الأتراك نهب الوزير والأمير فمنعهم الديلم وعادوا إلى شيراز فملكها الأمير أبو منصور واستشعر الوزير فصعد إلى قلعة خرمة فامتنع بها‏.‏

فلما وصل خبر وفاته إلى بغداد وبها ولده الملك الرحيم أبو نصر خرة فيروز أحضر الجند واستحلفهم وراسل الخليفة القائم بأمر الله في معنى الخطبة له وتلقيبه بالملك الرحيم وترددت الرسل بينهم في ذلك إلى أن أجيب إلى ملتمسه سوى الملك الرحيم فإن الخليفة امتنع من إجابته

واستقر ملكه بالعراق وخوزستان والبصرة وكان بالبصرة أخوه أبو علي بن أبي كاليجار‏.‏

وخلف أبو كاليجار من الأولاد‏:‏ الملك الرحيم والأمير أبا منصور فلاستون وأبا طالب كامرو وأبا المظفر بهرام وأبا علي كيخسرو وأبا سعد خسروشاه وثلاثة بنين أصاغر فاستولى ابنه أبو منصور على شيراز فسير إليه الملك الرحيم أخاه أبا سعد في عسكر فملكوا شيراز وخطبوا للملك الرحيم وقبضوا على الأمير أبي منصور والدته وكان ذلك في شوال‏.‏

ذكر محاصرة العساكر المصرية مدينة حلب

في جمادى الآخرة وصلت عساكر مصر إلى حلب في جمع كثير فحصروها وبها معز الدولة أبو علوان ثمال بن صالح الكلابي فجمع جمعًا كثيرًا بلغوا خمسة آلاف فارس وراجل فلما نزلوا على حلب خرج إليهم ثمال وقاتلهم قتالًا شديدًا صرب فيه لهم إلى الليل ثم دخل البلد فلما كان الغد اقتتلوا إلى آخر النهار وصبر أيضًا ثمال وكذلك أيضًا اليوم الثالث‏.‏

فلما رأى المصريون صبر ثمال وكانوا ظنوا أن أحدًا لا يقوم بين أيديهم رحلوا عن البلد فاتفق أن تلك الليلة جاء مطر عظيم لم ير الناس مثله جاءت المدود إلى منزلهم فبلغ الماء ما يقارب قامتين ولو لم يرحلوا لغرقوا ثم رحلوا إلى الشام الأعلى‏.‏

في هذه السنة اختلف قرواش والأكراد الحميدية والهذبانية وكان للحميدية عدة حصون تجاور الموصل منها العقر وما قاربها وللهذبانية قلعة إربل وأعمالها وكان صاحب العقر حينئذ أبا الحسن بن عيسكان الحميدي وصاحب إربل أبو الحسن بن موسك الهذباني وله أخ اسمه أبو علي بن موسك فأعانه الحميدي على أخذ إربل من أخيه أبي الحسن فملكها منه وأخذ صاحبها أبا الحسن أسيرًا‏.‏

وكان قرواش وأخوه زعيم الدولة أبو كامل بالعراق مشغولين فلما عادا إلى الموصل وقد سخطا هذه الحالة لم يظهراها وأرسل قرواش يطلب من الحميدي والهذباني نجدة له على نصر الدولة بن مروان‏.‏

فأما أبو الحسن الحميدي فسار إليه بنفسه وأما أبو علي الهذباني فأرسل أخاه واصطلح قرواش ونصر الدولة وقبض على أبي الحسن الحميدي ثم صانعه على إطلاق أبي الحسن الهذباني الذي كان صاحب إربل وأخذ إربل من أخيه أبي علي وتسليمها إليه فإن امتنع أبو علي كان عونًا عليه فأجاب إلى ذلك ورهن عليه أهله وأولاده وثلاث قلاع من حصونه إلى أن يتسلم إربل وأطلق من الحبس‏.‏

وكان أخ له قد استولى على قلاعه فخرج إليها وأخذها منه وعاد إلى قرواش أخيه زعيم الدولة فوثقا به وأطلقا أهله ثم إنه راسل أبا علي صاحب إربل في تسليمها فأجاب إلى ذلك وحضر بالموصل ليسلم إربل إلى أخيه أبي الحسن فقال الحميدي لقراوش‏:‏ إنني قد وفيت بعهدي فتسلمان إلي حصوني فسلما إليه قلاعه وسار هو وأبو الحسن وأبو علي الهذباني إلى إربل ليسلماها إلى أبي الحسن فغدرا به في الطريق وكان قد أحس بالشر فتخلف عنهما وسير معهما أصحابه ليتسلموا إربل فقبضا على أصحابه وطلبوه ليقبضوه فهرب إلى الموصل وتأكدت الوحشة حينئذ بين الأكراد وقرواش وأخيه وتقاطعوا وأضمر كل منهم الشر لصاحبه‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة أسر الملك الرحيم من بغداد إلى خوزستان فلقيه من بها من الجند وأطاعوه وفيهم كرشاسف بن علاء الدولة الذي كان صاحب همذان وكنكور فإنه كان انتقل إلى الملك أبي كاليجار بعد أن استولى ينال على أعماله ولما مات أبو كاليجار سار الملك العزيز ابن الملك جلال الدولة إلى البصرة طمعًا في ملكها فلقيه من بها من الجند وقاتلوه وهزموه فعاد عنها وكان قبل ذلك عند قرواش ثم عند ينال ولما سمع باستقامة الأمور للملك الرحيم انقطع أمله ولما سار الملك الرحيم عن بغداد كثرت الفتن بها ودامت بين أهل باب الأزج والأساكفة وهم السنة فأحرقوا عقارًا كثيرًا‏.‏

وفيها سار سعدي بن أبي الشوك من حلة دبيس بن مزيد إلى إبراهيم ينال بعد أن راسله وتوثق منه وتقرر بينهما أنه كل ما يملكه سعدي مما ليس بيد ينال ونوابه فهو له فسار سعدي إلى الدسكرة وجرى بينه وبين من بها من عسكر بغداد حرب انهزموا فيها منه وملكها وما يليها فسير إليها عسكر ثان من بغداد فقتل مقدمهم وهزمهم وسار من الدسكرة وتوسط تلك الأعمال بالقرب من بعقوبا ونهب أصحابه البلاد وخطبوا لإبراهيم ينال‏.‏

وفيها كان ابتداء الوحشة بين معتمد الدولة قرواش بن المقلد وبين أخيه زعيم الدولة أبي كامل بن المقلد فانضاف قريش بن بدران بن المقلد إلى عمه قرواش وجمع جمعًا وقاتل عمه أبا كامل فظفر ونصر وانهزم أبو كامل ولم يزل قريش يغري قرواشًا بأخيه حتى تأكدت الوحشة وتفاقم الشر بينهما‏.‏

وفيها خطب للأمير أبي العباس محمد بن القائم بأمر الله بولاية العهد ولقب ذخيرة الدين وولي عهد المسلمين‏.‏

وفيها في رمضان قتل الأمير أقسنقر بهمذان قتله الباطنية لأنه كان كثير الغزو إليهم والقتل فيهم والنهب لأموالهم والتخريب لبلادهم فلما كان الآن قصد إنسانًا من الزهاد ليزوره فوثب عليه جماعة من الإسماعيلية فقتلوه‏.‏

وفيها توفي أبو الحسن محمد بن الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله وكان من الصالحين ورواة الحديث وأوصى أن يدفن بجوار أحمد بن حنبل ومولده سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة وأبو طالب محمد بن محمد بن غيلان البزاز ومولده سنة سبع وأربعين وثلاثمائة روى عن أبي بكر الشافعي وغيره وتوفي في شوال وهو راوي الأحاديث المعروفة بالغيلانيات التي خرجها الدارقطني له وهي من أعلى الحديث وأحسنه وعبيد الله بن عمر أحمد ابن عثمان أبو القاسم الواعظ المعروف بابن شاهين ومولده سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة‏.‏

وفيها كان الغلاء والوباء عامًا في البلاد جميعها بمكة والعراق والموصل والجزيرة والشام ومصر وغيرها من البلاد‏.‏

وفيها قبض بمصر على الوزير فخر الملك صدقة بن يوسف وقتل وكان أول أمره يهوديًا فأسلم واتصل بالدزبري وخدمه بالشام ثم خافه فعاد إلى مصر وخدم الجرجرائي الوزير وأنفق عليه فلما توفي الجرجرائي استوزره المستنصر إلى الآن ثم قتله واستوزر القاضي أبا محمد الحسن بن عبد الرحمن اليازوري في ذي القعدة‏.‏

ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وأربعمائة

أبي كامل وصلحهما في هذه السنة ظهر الخلف بين معتمد الدولة قرواش وبين أخيه زعيم الدولة أبي كامل ظهورًا آل إلى المحاربة وقد تقدم سبب ذلك‏.‏

فلما اشتد الأمر وفسد الحال فسادًا لا يمكن إصلاحه جمع كل منهما جمعًا لمحاربة صاحبه وسار قرواش في المحرم وعبر دجلة بنواحي بلد وجاءه سليمان بن نصر الدولة بن مروان وأبو الحسن بن عيسكان الحميدي وغيرهما من الأكراد وساروا إلى معلشايا فأخربوا المدينة ونهبوها ونزلوا بالمغيثة وجاء أبو كامل فيمن معه من العرب وآل المسيب فنزلوا بمرج بابنيثا وبين الطائفتين نحو فرسخ واقتتلوا يوم السبت ثاني عشر المحرم وافترقوا من غير ظفر ثم اقتتلوا يوم الأحد كذلك ولم يلابس الحرب سليمان بن مروان بل كان ناحية ووافقه أبو الحسن الحميدي وساروا عن قرواش وفارقه جمع من العرب وقصدوا أخاه فضعف أمر قرواش وبقي في حلته وليس معه إلا نفر يسير فركب العرب من أصحابه أبي كامل لقصده فمنعهم وأسفر الصبح يوم الاثنين وقد تسرع بعضهم ونهب بعضًا من عرب قرواش وجاء أبو كامل إلى قرواش واجتمع به ونقله إلى حلته وأحسن عشرته ثم أنفذه إلى الموصل محجورًا عليه وجعل معه بعض زوجاته في دار‏.‏

وكان مما فت في عضد قرواش وأضعف نفسه أنه كان قد قبض على قوم من الصيادين بالأنبار لسوء طريقهم وفسادهم فهرب الباقون منهم وبقي بعضهم بالسندية فلما كان الآن سار جماعة منهم إلى الأنبار وتسلقوا السور ليلة خامس المحرم من هذه السنة وقتلوا حارسًا وفتحوا الباب ونادوا بشعار أبي كامل فانضاف إليهم أهلوهم وأصدقاؤهم ومن له هوى في أبي كامل فكثروا وثار بهم أصحاب قرواش فاقتتلوا فظفروا وقتلوا من أصحاب معتمد الدولة قرواش جماعة وهرب الباقون فبلغه خبر استيلاء أخيه ولم يبلغه عود أصحابه‏.‏

ثم إن المسيب وأمراء العرب كلفوا أبا كامل ما يعجز عنه واشتطوا عليه فخاف أن يؤول الأمر بهم إلى طاعة قرواش وإعادته إلى مملكته فبادرهم إليه وقبل يده وقال له‏:‏ إنني وإن كنت أخاك فإنني عبدك وما جرى هذا إلا بسبب من أفسد رأيك في وأشعرك الوحشة مني والآن فأنت الأمير وأنا الطائع لأمرك والتابع لك فقال له قرواش‏:‏ بل أنت الأخ والأمر لك مسلم وأنت أقوم به مني‏.‏

وصلح الحال بينهما وعاد قرواش إلى التصرف على حكم اختياره‏.‏

وكان أبو كامل قد أقطع بلال بن غريب بن مقن حربى وأوانا فلما اصطلح أبو كامل وقرواش أرسلا إلى حربى من منع بلالًا عنها فتظاهر بلال بالخلاف عليهما وجمع إلى نفسه جمعًا وقاتل أصحاب قرواش وأخذ حربى وأوانا بغير اختيارهما فانحدر قرواش من الموصل إليهما

ذكر مسير الملك الرحيم إلى شيراز وعوده عنها

في هذه السنة في المحرم اسر الملك الرحيم من الأهواز إلى بلاد فارس فوصلها وخرج عسكر شيراز إلى خدمته ونزل بالقرب من شيراز ليدخل البلد‏.‏

ثم إن الأتراك الشيرازيين والبغداديين اختلفوا وجرى بينهم مناوشة استظهر فيها البغداديون وعادوا إلى العراق فاضطر الملك الرحيم إلى المسير معهم لأنه لم يكن يثق بالأتراك الشيرازية‏.‏

وكان ديلم بلاد فارس قد مالوا إلى أخيه فولاستون وهو بقلعة إصطخر فهو أيضًا منحرف عنهم فاضطر إلى صحبة البغداديين فعاد في ربيع الأول من هذه السنة إلى الأهواز وأقام بها واستخلف بأرجان أخويه أبا سعد وأبا طالب ووقع الخلف بفارس فإن الأمير أبا منصور فولاستون وكان قد خلص وصار بقلعة إصطخر واجتمع معه جماعة من أعيان العسكر الفارسي فلما عاد الملك الرحيم إلى الأهواز انبسط في البلاد وقصده كثير من العساكر واستولى على بلاد فارس ثم سار إلى أرجان عازمًا على قصد الأهواز وأخذها‏.‏

ذكر الحرب بين البساسيري وعقيل

في هذه السنة سار جمع من بني عقيل إلى بلد العجم من أعمال العراق وبادوريا فنهبوهما وأخذوا من الأموال الكثير وكانا في إقطاع البساسيري فسار من بغداد بعد عوده من فارس إليهم فالتقوا هم وزعيم الدولة أبو كامل ابن المقلد واقتتلوا قتالًا شديدًا أبلى الفريقان فيه بلاء حسنًا وصبرا صبرًا جميلًا وقتل جماعة من الفريقين‏.‏

ذكر الوحشة بين طغرلبك وأخيه إبراهيم ينال

في هذه السنة استوحش إبراهيم ينال من أخيه السلطان طغرلبك‏.‏

وكان سبب ذلك أن طغرلبك طلب من إبراهيم ينال أن يسلم إليه مدينة همذان والقلاع التي بيده من بلد الجبل فامتنع من ذلك واتهم وزيره أبا علي بالسعي بينهما في الفساد فقبض عليه وأمر فضرب بين يديه وسمل إحدى عينيه وقطع شفتيه وسار عن طغرلبك وجمع جمعًا من عسكره والتقيا وكان بين العسكرين قتال شديد انهزم ينال وعاد منهزمًا فسار طغرلبك في أثره فملك قلاعه وبلاده جميعها‏.‏

وتحصن إبراهيم ينال بقلعة سرماج وامتنع على أخيه فحصره طغرلبك فيها وكانت عساكره قد بلغت مائة ألف من أنواع العسكر وقاتله فملكها في أربعة أيام وهي من أحصن القلاع وأمنعها واستنزل ينال منها مقهورًا وأرسل إلى نصر الدولة بن مروان يطلب منه إقامة الخطبة له في بلاده فأطاعه وخطب له في سائر ديار بكر وراسل ملك الروم طغرلبك وأرسل إليه هدية عظيمة وطلب منه المعاهدة فأجابه إلى ذلك‏.‏

وأرسل ملك الروم إلى ابن مروان يسأله أن يسعى في فداء ملك الأبخاز المقدم ذكره فأرسل نصر الدولة شيخ الإسلام أبا عبد الله بن مروان في المعنى إلى السلطان طغرلبك فأطلقه بغير فداء فعظم ذلك عنده وعند ملك الروم وأرسل عوضه من الهدايا شيئًا كثيرًا وعمروا مسجد القسطنطينية وأقاموا فيه الصلاة والخطبة لطغرلبك ودان حينئذ الناس كلهم له وعظم شأنه وتمكن ملكه وثبت‏.‏

ولما نزل ينال إلى طغرلبك أكرمه وأحسن إليه ورد عليه كثيرًا مما أخذ منه وخيره بين أن يقطعه بلادًا يسير إليها وبين أن يقيم معه فاختار المقام معه‏.‏

ذكر الحرب بين دبيس بن مزيد وعسكر واسط

في هذه السنة كانت حرب شديدة بين نور الدولة دبيس بن مزيد وبين الأتراك الواسطيين‏.‏

وسبب ذلك أن الملك الرحيم أقطع نور الدولة حماية نهر الصلة ونهر الفضل وهما من إقطاع الواسطيين فسار إليهما ووليهما فسمع عسكر واسط ذلك فسخطوه واجتمعوا وساروا إلى نور الدولة ليقاتلوه ويدفعوه عنهما وأرسلوا إليه يتهددونه فأعاد الجواب يقول‏:‏ إن الملك أقطعني هذا فنرسل إليه أنا وأنتم فبأي شيء أمر رضينا به‏.‏

فسبوه وساروا مجدين إليه فأرسل إلى طريقهم طائفة من عسكره فلقوهم وكمن لهم فلما التقوا استجرهم العرب إلى أن جاوزوا الكمين وخرج عليهم الكمين فأوقعوا بهم وقتلوا منهم جماعة كثيرة وأسروا كثيرًا وجرح مثلهم وتمت الهزيمة على الواسطيين وغنم نور الدولة أموالهم ودوابهم وساروا إلى واسط فنزلوا بالقرب منها‏.‏

وأرسل الواسطيون إلى بغداد يستنجدون جندها ويبذلون للبساسيري أن يدفع عنهم نور الدولة ويأخذ نهر الصلة ونهر الفضل لنفسه‏.‏

ذكر وفاة مودود بن مسعود وملك عمه عبد الرشيد


في هذه السنة في العشرين من رجب توفي أبو الفتح مودود بن مسعود ابن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة وعمره تسع وعشرون سنة وملكه تسع سنين وعشرة أشهر وكان موته بغزنة وكان قد كاتب أصحاب الأطراف في سائر البلاد ودعاهم إلى نصرته وإمداده بالعساكر وبذل لهم الأموال الكثيرة وتفويض أعمال خراسان ونواحيها إليهم على قدر مراتبهم فأجابوا إلى ذلك منهم أبو كاليجار صاحب أصبهان فإنه جمع عساكره وسار في المفازة فهلك كثير من عسكره ومرض وعاد‏.‏

ومنهم خاقان ملك الترك فإنه سار إلى ترمذ ونهب وخرب وصادر أهل تلك الأعمال وسارت طائفة أخرى مما وراء النهر إلى خوارزم‏.‏

وسار مودود من غزنة فلم يسر غير مرحلة واحدة حتى عارضه قولنج اشتد عليه فعاد إلى غزنة مريضًا وسير وزيره أبا الفتح عبد الرزاق بن أحمد الميمندي إلى سجستان في جيش كثيف لأخذها من الغز واشتدت العلة بمودود فتوفي وقام في الملك بعده ولده فبقي خمسة أيام ثم عدل الناس عنه إلى عمه علي بن مسعود وكان مودود لما ملك قبض على عمه عبد الرشيد ابن محمود وسجنه في قلعة ميدين بطريق بست فلما توفي كان وزيره قد قارب هذه القلعة فنزل عبد الرشيد إلى العسكر ودعاهم إلى طاعته فأجابوه وعادوا معه إلى غزنة فلما قاربها هرب عنها علي بن مسعود وملك عبد الرشيد واستقر الأمر له ولقب شمس دين الله سيف الدولة وقيل جمال الدولة ودفع الله شر مودود عن داود وهذه السعادة التي تقتل الأعداء بغير

ذكر استيلاء البساسيري على الأنبار

في هذه السنة أيضًا في ذي القعدة ملك البساسيري الأنبار ودخلها أصحابه‏.‏

وكان سبب ملكها أن قرواشًا أساء السيرة في أهلها ومد يده إلى أموالهم فسار جماعة من أهلها إلى البساسيري ببغداد وسألوه أن ينفذ معهم عسكرًا يسلمون إليه الأنبار فأجابهم إلى ذلك وسير معهم جيشًا فتسلموا الأنبار ولحقهم البساسيري وأحسن إلى أهلها وعدل فيهم ولم يمكن أحدًا من أصحابه أن يأخذ رطل الخبز بغير ثمنه وأقام فيها إلى أن أصلح حالها وقرر قواعدها وعاد إلى بغداد‏.‏

ذكر انهزام الملك الرحيم من عسكر فارس

في هذه السنة عاد الملك الرحيم من الأهواز إلى رامهرمز في ذي القعدة فلما وصل إلى وادي الملح لقيه عسكر فارس واقتتلوا قتالًا شديدًا فغدر بالملك الرحيم بعض عسكره وانهزم هو وجميع العسكر ووصل إلى بصنى ومعه أخوه أبو سعد وأبو طالب وسار منها إلى واسط وسار عسكر فارس إلى الأهواز فملكوها وخيموا بظاهرها‏.‏

ذكر عدة حوادث

وفيها وصل عسكر من مصر إلى حلب وبها صاحبها ثمال بن صالح بن مرداس فخالفهم لكثرتهم فانصرف عنها فملكها المصريون‏.‏

وفيها في ذي القعدة ارتفعت سحابة سوداء مظلمة ليلًا‏!‏ فزادت ظلمتها على ظلمة الليل وظهر في جوانب السماء كالنار المضطرمة وهبت معها ريح شديدة قلعت رواشن دار الخليفة وشاهد الناس من ذلك ما أزعجهم وخوفهم فلزموا الدعاء والتضرع فانكشفت في باقي الليل‏.‏

وفيها في شعبان سار البساسيري من بغداد إلى طريق خراسان وقصد ناحية الدزدار وملكها وغنم ما فيها وكان سعدي بن أبي الشوك قد ملكها وقد عمل لها سورًا وحصنها وجعلها معقلًا يتحصن فيه ويدخر بها كل ما يغنمه فأخذه البساسيري جميعه‏.‏

وفيها منع أهل الكرخ من النوح وفعل ما جرت عادتهم بفعله يوم عاشوراء فلم يقبلوا وفعلوا ذلك فجرى بينهم وبين السنة فتنة عظيمة قتل فيها وجرح كثير من الناس ولم ينفصل الشر بينهم حتى عبر الأتراك وضربوا خيامهم عندهم فكفوا حينئذ ثم شرع أهل الكرخ في بناء سور على الكرخ فلما رآهم السنة من القلائين ومن يجري مجراهم شرعوا في بناء سور على سوق القلائين وأخرج الطائفتان في العمارة مالًا جليلًا وجرت بينهما فتن كثيرة وبطلت الأسواق

وزاد الشر حتى انتقل كثير من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي فأقاموا به وتقدم الخليفة إلى أبي محمد بن النسوي بالعبور وإصلاح الحال وكف الشر فسمع أهل الجانب الغربي ذلك فاجتمع السنة والشيعة على المنع منه وأذنوا في القلائين وغيرها بحي على خير العمل وأذنوا في الكرخ‏:‏ الصلاة خير من النوم وأظهروا الترحم على الصحابة فبطل عبوره‏.‏

وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله الصوري الحافظ كان إمامًا صحب عبد الغني بن سعيد وتخرج به ومن تلامذته الخطيب أبو بكر‏.‏

وفيها توفي الملك العزيز أبو بكر منصور بن جلال الدولة وقد ذكرنا تنقل الأحوال به فيما تقدم وله شعر حسن‏.‏

وفيها توفي أحمد بن محمد بن أحمد أبو الحسن العتيقي نسب إلى جد له يسمى عتيقًا ومولده سنة سبع وستين وثلاثمائة‏.‏

وفيها توفي أبو القاسم عبد الوهاب ابن أقضى القضاة أبي الحسن الماوردي وكانت شهادته سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة وقبلها القاضي في بيت النوبة ولم يفعل ذلك مع غيره وإنما فعل معه هذا احترامًا لأبيه‏.‏  ‏