المجلد الثامن - ذكر ملك طغرلبك أصبهان

كان أبو منصور بن علاء الدولة صاحب أصبهان غير ثابت على طريقة واحدة مع السلطان طغرلبك كان يكثر التلون معه تارة يطيعه وينحاز إليه وتارة ينحرف عنه ويطيع الملك الرحيم فأضمر له طغرلبك سوءًا فلما عاد هذه الدفعة من خراسان لأخذ البلاد الجبلية من أخيه إبراهيم ينال واستولى عليها على ما ذكرناه عدل إلى أصبهان عازمًا على أخذها من أبي منصور فسمع ذلك فتحصن ببلده واحتمى بأسواره ونازله طغرلبك في المحرم وأقام على محاصرته نحو سنة وكثرت الحروب بينهما إلا أن طغرلبك قد استولى على سواد البلد وأرسل سرية من عسكره نحو فارس فبلغوا إلى البيضاء فأغاروا على السواد هناك وعادوا غانمين‏.‏

ولما طال الحصار على أصبهان وأخرب أعمالها ضاق الأمر بصاحبها وأهلها وأرسلوا إليه يبذلون له الطاعة والمال فلم يجبهم إلى ذلك ولم يقنع منهم إلا بتسليم البلد فصبروا حتى نفدت الأقوات وامتنع الصبر وانقطعت المواد واضطر الناس حتى نقضوا الجامع وأخذوا أخشابه لشدة الحاجة إلى الحطب فحيث بلغ بهم الحال إلى هذا الحد خضعوا له واستكانوا وسلموا

البلد إليه فدخله وأخرج أجناده منه وأقطعهم في بلاد الجبل وأحسن إلى الرعية وأقطع صاحبها أبا منصور ناحيتي يزد وأبرقوية وتمكن من أصبهان ودخلها في المحرم من سنة ثلاث وأربعين واستطابها ونقل ما كان له بالري من مال وذخائر وسلاح إليها وجعلها دار مقامه وخرب قطعة من سورها وقال‏:‏ وإنما يحتاج إلى الأسوار من تضعف قوته فأما من حصنه عساكره وسيفه فلا حاجة به إليها‏.‏

ذكر عود عساكر فارس من الأهواز وعود الرحيم إليها

في هذه السنة في المحرم عادت عساكر فارس التي مع الأمير أبي منصور صاحبها عن الأهواز إلى فارس‏.‏

وسبب هذا العود أن الأجناد اختلفوا وشغبوا واستطالوا وعاد بعضهم إلى فارس بغير أمر صاحبهم وأقام بعضهم معه وسار بعضهم إلى الملك الرحيم وهو بالأهواز يطلبونه ليعود إليهم فعاد فيمن عنده من العساكر وأرسل إلى بغداد يأمر العساكر التي فيها بالحضور عنده ليسير بهم إلى فارس فلما وصل إلى الأهواز لقيه العساكر مقرين بالطاعة وأخبروه بطاعة

عساكر فارس وأنهم ينتظرون قدومه فدخل الأهواز في شهر ربيع الآخر فتوقف بالأهواز ينتظر عساكر بغداد ثم سار عنها إلى عسكر مكرم فملكها وأقام بها‏.‏

ذكر استيلاء زعيم الدولة على مملكة أخيه قرواش

في هذه السنة في جمادى الأولى استولى زعيم الدولة أبو كامل بركة ابن المقلد على أخيه قرواش وحجر عليه ومنعه من التصرف على اختياره‏.‏

وسبب ذلك أن قرواشًا كان قد أنف من تحكم أخيه في البلاد وأنه قد صار لا حكم له فعمل على الانحدار إلى بغداد ومفارقة أخيه وسار عن الموصل فشق ذلك على بركة وعظم عنده‏.‏

ثم أرسل إليه نفرًا من أعيان يشيرون عليه بالعود واجتماع الكلمة ويحذرونه من الفرقة والاختلاف فلما بلغوه ذلك امتنع عليهم فقالوا‏:‏ أنت ممنوع عن فعلك والرأي لك القبول والعود ما دامت الرغبة إليك فعلم حينئذ أنه يمنع قهرًا فأجاب إلى العود على شرط أن يسكن دار الإمارة بالموصل وسار معهم فلما قارب حلة أخيه زعيم الدولة لقيه وأنزله عنده فهرب أصحابه وأهله خوفًا فأمنهم زعيم الدولة وحضر عنده وخدمه وأظهر له الخدمة وجعل عليه

ذكر استيلاء الغز على مدينة فسا

وفيها في جمادى الأولى سار الملك ألب أرسلان بن داود أخي طغرلبك من مدينة مرو بخراسان وقصد بلاد فارس في المفازة فلم يعلم به أحد ولا أعلم عمه طغرلبك فوصل إلى مدينة فسا فانصرف النائب بها من بين يديه ودخلها ألب أرسلان فقتل من الديلم بها ألف رجل وعددًا كثيرًا من العامة ونهبوا ما قدره ألف ألف دينار وأسروا ثلاثة آلاف إنسان وكان الأمر عظيمًا‏.‏

فلما فرغوا من ذلك عادوا إلى خراسان ولم يلبثوا خوفًا من طغرلبك أن يرسل إليهم ويأخذ ما غنموه منهم‏.‏

ذكر استيلاء الخوارج على عمان

في هذه السنة استولى الخوارج المقيمون بجبال عمان على مدينة تلك الولاية‏.‏

وسبب ذلك أن صاحبها الأمير أبا المظفر ابن الملك أبي كاليجار كان مقيمًا بها ومعه خادم له قد استولى على الأمور وحكم على البلاد وأساء السيرة في أهلها فأخذ أموالهم فنفروا منه وأبغضوه‏.‏

وعرف إنسان من الخوارج يقال له ابن راشد الحال فجمع من عنده منهم فقصد المدينة فخرج وأقام ابن راشد مدة يجمع ويحتشد ثم سار ثانيًا وقاتله الديلم فأعانه أهل البلد لسوء سيرة الديلم فيهم فانهزم الديلم وملك ابن راشد البلد وقتل الخادم وكثيرًا من الديلم وقبض على الأمير أبي المظفر وسيره إلى جباله مستظهرًا عليه وسجن معه كل من خط بقلم من الديلم وأصحاب الأعمال وأخرب دار الإمارة وقال‏:‏ هذه أحق دار بالخراب‏!‏ وأظهر العدل وأسقط المكوس واقتصر على رفع عشر ما يرد إليهم وخطب لنفسه وتلقب بالراشد بالله ولبس الصوف وبنى موضعًا على شكل مسجد وقد كان هذا الرجل تحرك أيضًا أيام أبي القاسم بن مكرم فسير إليه أبو القاسم من منعه وحصره وأزال طمعه‏.‏

ذكر دخول العرب إلى إفريقية

في هذه السنة دخلت العرب إلى إفريقية‏.‏

وسبب ذلك أن المعز بن باديس كان خطب للقائم بأمر الله الخليفة العباسي وقطع خطبة المستنصر العلوي صاحب مصر سنة أربعين وأربعمائة فلما فعل ذلك كتب إليه المستنصر العلوي يتهدده فأغلظ المعز في الجواب‏.‏

ثم إن المستنصر استوزر الحسن بن علي اليازوري ولم يكن من أهل الوزارة إنما كان من أهل التبانة والفلاحة فلم يخاطبه المعز كما كان يخاطب من قبله من الوزراء كان يخاطبهم بعبده فخاطب اليازوري بصنيعته فعظم ذلك عليه فعاتبه فلم يرجع إلى ما يحب فأكثر الوقيعة في المعز وأغرى به المستنصر وشرعوا في إرسال العرب إلى الغرب فأصلحوا بني زغبة ورياح وكان بينهم حروب وحقود وأعطوهم مالًا وأمروهم بقصد بلاد القيروان وملكوهم كل ما يفتحونه ووعدوهم بالمدد والعدد‏.‏

فدخلت العرب إلى إفريقية وكتب اليازوري إلى المعز‏:‏ أما بعد فقد أرسلنا إليكم خيولًا فحولًا‏.‏

وحملنا عليها رجالًا كهولًا‏.‏

ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا‏.‏

فلما حلوا أرض برقة وما والاها وجدوا بلادًا كثيرة المرعى خالية من الأهل لأن زناتة كانوا أهلها فأبادهم المعز فأقامت العرب بها واستوطنتها وعاثوا في أطراف البلاد‏.‏

وبلغ ذلك المعز فاحتقرهم وكان المعز لما رأى تقاعد صنهاجة عن قتال زناتة اشترى العبيد وأوسع لهم في العطاء فاجتمع له ثلاثون ألف مملوك‏.‏

وكانت عرب زغبة قد ملكت مدينة طرابلس سنة ست وأربعين فتتابعت رياح والأثبج وبنو عدي إلى إفريقية وقطعوا السبيل وعاثوا في الأرض وأرادوا الوصول إلى القيروان فقال مؤنس بن يحيى المرداسي‏:‏ ليس المبادرة عندي برأي فقالوا‏:‏ كيف تحب أن تصنع فأخذ بساطًا فبسطه ثم قال لهم‏:‏ من يدخل إلى وسط البساط من غير أن يمشي عليه قالوا‏:‏ لا نقدر على ذلك‏!‏ قال‏:‏ فهكذا القيروان خذوا شيئًا فشيئًا حتى لا يبقى إلا القيروان فخذوها حينئذ‏.‏

فقالوا‏:‏ إنك لشيخ العرب وأميرها وأنت المقدم علينا ولسنا نقطع أمرًا دونك‏.‏

ثم قدم أمراء العرب إلى المعز فأكرمهم وبذل لهم شيئًا كثيرًا فلما خرجوا من عنده لم يجاوزه بما فعل من الإحسان بل شنوا الغارات وقطعوا الطريق وأفسدوا الزروع وقطعوا الثمار وحاصروا المدن فضاق بالناس الأمر وساءت أحوالهم وانقطعت أسفارهم ونزل بإفريقية بلاء لم ينزل بها مثله قط فحينئذ احتفل المعز وجمع عساكره فكانوا ثلاثين ألف فارس ومثلها رجالة وسار حتى أتى جندران وهو جبل بينه وبين القيروان ثلاثة أيام وكانت عدة العرب ثلاثة آلاف فارس فلما رأت العرب عساكر صنهاجة والعبيد مع المعز هالهم ذلك وعظم عليهم فقال لهم مؤنس بن يحيى‏:‏ ما هذا يوم فرار فقالوا‏:‏ أين نطعن هؤلاء وقد لبسوا الكزاغندات والمغافر قال‏:‏ في أعينهم فسمي ذلك اليوم يوم العين‏.‏

والتحم القتال واشتدت الحرب فاتفقت صنهاجة على الهزيمة وترك المعز مع العبيد حتى يرى فعلهم ويقتل أكثرهم فعند ذلك يرجعون على العرب فانهزمت صنهاجة وثبت العبيد مع المعز فكثر القتل فيهم فقتل منهم خلق كثير وأرادت صنهاجة الرجوع على العرب فلم يمكنهم ذلك واستمرت الهزيمة وقتل من صنهاجة أمة عظيمة ودخل المعز القيروان مهزومًا على كثرة

وإن ابن باديس لأفضل مالك ولكن لعمري ما لديه رجال ثلاثون ألفًا منهم غلبتهم ثلاثة ألف إن ذا لمحال ولما كان يوم النحر من هذه السنة جمع المعز سبعة وعشرين ألف فارس وسار إلى العرب جريدة وسبق خبره وهجم عليهم وهم في صلاة العيد فركبت العرب خيولهم وحملت فانهزمت صنهاجة فقتل منهم عالم كثير‏.‏

ثم جمع المعز وخرج بنفسه في صنهاجة وزناتة في جميع كثير فلما أشرف على بيوت العرب وهو قبلي جبل جندران انتشب القتال واشتعلت نيران الحرب وكانت العرب سبعة آلاف فارس فانهزمت صنهاجة وولى كل رجل منهم إلى منزله وانهزمت زناتة وثبت المعز فيمن معه من عبيده ثباتًا عظيمًا لم يسمع بمثله ثم انهزم وعاد إلى المنصورية وأحصي من قتل من صنهاجة ذلك اليوم فكانوا ثلاثة آلاف وثلاثمائة‏.‏

ثم أقبلت العرب حتى نزلت بمصلى القيروان ووقعت الحرب فقتل من المنصورية ورقادة خلق كثير فلما رأى ذلك المعز أباحهم دخول القيروان لما يحتاجون إليه من بيع وشراء فلما دخلوا استطالت عليهم العامة ووقعت بينهم حرب كان سببها فتنة بين إنسان عربي وآخر عامي وكانت الغلبة للعرب‏.‏

وفي سنة أربع وأربعين بني سور زويلة والقيروان وفي سنة ست وأربعين حاصرت العرب القيروان وملك مؤنس بن يحيى مدينة باجة وأشار المعز على الرعية بالانتقال إلى المهدية لعجزه عن حمايتهم من العرب‏.‏

وشرعت العرب في هدم الحصون والقصور وقطعوا الثمار وخربوا الأنهار وأقام المعز والناس ينتقلون إلى المهدية إلى سنة تسع وأربعين فعندها انتقل المعز إلى المهدية في شعبان فتلقاه ابنه تميم ومشى بين يديه وكان أبوه قد ولاه المهدية سنة خمس وأربعين فأقام بها إلى أن قدم أبوه الآن‏.‏

وفي رمضان من سنة تسع وأربعين نهبت العرب القيروان‏.‏

وفي سنة خمسين خرج بلكين ومعه العرب لحرب زناتة فقاتلهم فانهزمت زناتة وقتل منها عدد كثير‏.‏

وفي سنة ثلاث وخمسين وقعت الحرب بين العرب وهوارة فانهزمت هوارة وقتل منها الكثير‏.‏

وفي سنة ثلاث وخمسين قتل أهل تقيوس من العرب مائتين وخمسين رجلًا وسبب ذلك أن العرب دخلت المدينة متسوقة فقتل رجل من العرب رجلًا متقدمًا من أهل البلد لأنه سمعه يثني على المعز ويدعو له فلما قتل ثار أهل البلد بالعرب فقتلوه منهم العدد المذكور‏.‏

وكان ينبغي أن يأتي كل شيء من ذلك في السنة التي حدث فيها وإنما أوردناه متتابعًا ليكون أحسن لسياقته فإنه إذا انقطع وتخللته الحوادث في السنين لم يفهم‏.‏

ذكر عدة حوادث

فيها سار المهلهل بن محمد بن عناز أخو أبي الشوك إلى السلطان طغرلبك فأحسن إليه وأقره على إقطاعه ومن جملته السيروان ودقوقا وشهرزور والصامغان وشفعه في أخيه سرخاب بن محمد بن عناز وكان محبوسًا عند طغرلبك وسار سرخاب إلى قلعة الماهكي وهي له وأقطع سعدي بن أبي الشوك الواندين‏.‏

وفيها قبض المستنصر بمصر على أبي الربركات عم أبي القاسم الجرجرائي واستوزر القاضي أبا محمد الحسن بن عبد الرحمن اليازوري ويازور من أعمال الرملة‏.‏

وفيها توفي محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله أبو الحسين ومولده سنة أربع وثمانين وثلاثمائة‏.‏

وفيها في شعبان توفي أبو الحسن علي بن عمر القزويني الزاهد وكان من الصالحين روى الحديث والحكايات والأشعار وروى عن ابن نباتة شيئًا من شعره فمن ذلك قال ابن نباتة‏:‏

فالنار بالماء هو الذي هو ضدها تعطي النضاج وطبعها الإحراق وفيها في ذي القعدة توفي أبو القاسم عمر بن ثابت النحوي الضرير المعروف بالثمانيني‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة

ذكر نهب سرّق والحرب الكائنة عندها وملك الرحيم رامهرمز

وفيها في المحرم اجتمع جمع كثير من العرب والأكراد وقصدوا سرق من خوزستان ونهبوها ونهبوا دورق ومقدمهم مطارد بن منصور ومذكور بن نزار فأرسل إليهم الملك الرحيم جيشًا ولقوهم بين سرق ودورق فاقتتلوا فقتل مطارد وأسر ولده وكثر القتل فيهم واستنقذوا ما نهبوه ونجا الباقون على أقبح صورة من الجراح والنهب فلما تم هذا الفتح للملك الرحيم انتقل من عسكر مكرم متقدمًا إلى قنطرة أربق ومعه دبيس بن مزيد والبساسيري وغيرهما‏.‏

ثم إن الأمير أبا منصور صاحب فارس وهزارسب بن بنكير ومنصور بن الحسين الأسدي ومن معهما من الديلم والأتراك ساروا من أرجان يطلبون تستر فسابقهم الرحيم إليها وحال ثم إن الإرجاف وقع في عسكر هزارسب بوفاة الأمير أبي منصور ابن الملك أبي كاليجار بمدينة شيراز فسقط في أيديهم وعادوا وقصد كثير منهم الملك الرحيم فصاروا معه فسير قطعة من الجيش إلى رامهرمز وبها أصحاب هزارسب وقد أفسدوا في تلك الأعمال فلما وصل إليها عسكر الرحيم خرج أولئك إلى قتالهم فاقتتلوا قتالًا شديدًا أكثر فيه القتل والجراح ثم انهزم أصحاب هزارسب فدخلوا البلد وحصروا فيه ثم ملك البلد عنوة ونهب وأسر جماعة من العساكر التي فيه وهرب كثير منهم إلى هزارسب وهو بإيذج وملك الملك الرحيم البلد في ربيع الأول من هذه السنة‏.‏

ذكر ملك الملك الرحيم إصطخر وشيراز

في هذه السنة سير الملك الرحيم أخاه الأمير أبا سعد في جيش إلى بلاد فارس‏.‏

وكان سبب ذلك أن المقيم في قلعة إصطخر وهو أبو نصر بن خسرو وكان له أخوان قبض عليهما هزارسب بن بنكير بأمر الأمير أبي منصور فكتب إلى الملك الرحيم يبذل له الطاعة والمساعدة ويطلب أن يسير إليه أخاه ليملكه بلاد فارس فسير إليه أخاه أبا سعد في جيش فوصل إلى دولتاباذ فأتاه كثير من عساكر فارس الديلم والترك والعرب والأكراد وسار منها إلى قلعة إصطخر فنزل إليه صاحبها أبو نصر فلقيه وأصعده إلى القلعة وحمل له وللعساكر التي معه الإقامات والخلع وغيرها‏.‏

ثم ساروا منها إلى قلعة بهندر فحصروها وأتاه كتب بعض مستحفظي البلاد الفارسية بالطاعة منها مستحفظ درابجرد وغيرها ثم سار إلى شيراز فملكها في رمضان فلما سمع أخوه الأمير أبو منصور وهزارسب ومنصور بن الحسين الأسدي ذلك ساروا في عسكرهم إلى الملك الرحيم فهزموه على ما نذكره إن شاء الله تعالى وفارق الأهواز إلى واسط ثم عطفوا من الأهواز إلى شيراز لإجلاء الأمير أبي سعد عنها فلما قاربوها لقيهم أبو سعد وقاتلهم فهزمهم فالتجأوا إلى جبل قلعة بهندر وتكررت الحروب بين الطائفتين إلى منتصف شوال فتقدمت طائفة من عسكر أبي سعد فاقتتلوا عامة النهار ثم عادوا فلما كان الغد التقى العسكران جميعًا واقتتلوا فانهزم عسكر الأمير أبي منصور وظفر أبو سعد وقتل منهم خلقًا كثيرًا واستأمن إليه كثير منهم وصعد أبو منصور إلى قلعة بهندر واحتمى بها وأقام إلى أن عاد إلى ملكه على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ولما فارق الأمير أبو منصور الأهواز أعيدت الخطبة للملك الرحيم وأرسل من بها من الجند يستدعونه إليهم‏.‏

لما انصرف الأمير ابو منصور وهزارسب ومن معهما من منزلهم قريب تستر على ما ذكرناه مضوا إلى إيذج وأقاموا فيها وخافوا الملك الرحيم واستضعفوا نفوسهم عن مقاومته فاتفق رأيهم على أن راسلوا السلطان طغرلبك وبذلوا له الطاعة وطلبوا منه المساعدة فأرسل إليهم عسكرًا كثيرًا وكان قد ملك أصبهان وفرغ باله منها‏.‏

وعرف الملك الرحيم ذلك وقد فارقه كثير من عسكره منهم‏:‏ البساسيري ونور الدولة دبيس بن مزيد والعرب والأكراد وبقي في الديلم الأهوازية وطائفة قليلة من الأتراك البغداديين كانوا وصلوا إليه أخيرًا فقرر رأيه على أن عاد من عسكر مكرم إلى الأهواز لأنها أحصن وينتظر بالمقام فيها وصول العساكر ورأى أن يرسل أخاه الأمير أبا سعد إلى فارس حيث طلب إلى إصطخر على ما ذكرناه وسير معه جمعًا صالحًا من العساكر ظنًا منه أن أخاه إذا وصل إلى فارس وملكت قلعة إصطخر انزعج الأمير أبو منصور وهزارسب ومن معهما واشتغلوا بتلك النواحي عنه فازداد قلقًا وضعفًا فلم يلتفت أولئك إلى الأمير أبي سعد بل ساروا مجدين إلى الأهواز فوصلوها أواخر ربيع الآخر‏.‏

ووقعت الحرب بين الفريقين يومين متتابعين كثر فيهما القتال واشتد فانهزم الملك الرحيم وسار في نفر قليل إلى واسط ولقي في طريقه مشقة وسلم واستقر بواسط فيمن لحق به من المنهزمين

ونهبت الأهواز وأحرق فيها عدة محال وفقد في الوقعة الوزير كمال الملك أبو المعالي بن عبد الرحيم وزير الملك الرحيم فلم يعرف له خبر‏.‏

ذكر الفتنة بين العامة ببغداد وإحراق المشهد على ساكنيه السلام

في هذه السنة في صفر تجددت الفتنة ببغداد بين السنة والشيعة وعظمت أضعاف ما كانت قديمًا فكان الاتفاق الذي ذكرناه في السنة الماضية غير مأمون الانتقاض لما في الصدور من الإحن‏.‏

وكان سبب هذه الفتنة أن أهل الكرخ شرعوا في عمل باب السماكين وأهل القلائين في عمل ما بقي من باب مسعود ففرغ أهل الكرخ وعملوا أبراجًا كتبوا عليها بالذهب‏:‏ محمد وعلي خير البشر وأنكر السنة ذلك وادعوا أن المكتوب‏:‏ محمد وعلي خير البشر فمن رضي فقد شكر ومن أبى فقد كفر وأنكر أهل الكرخ الزيادة وقالوا‏:‏ ما تجاوزنا ما جرت به عادتنا فيما نكتبه على مساجدنا‏.‏

فأرسل الخليفة القائم بأمر الله أبا تمام نقيب العباسيين ونقيب العلويين وهو عدنان بن الرضي لكشف الحال وإنهائه فكتبا بتصديق قول الكرخيين فأمر حينئذ الخليفة ونواب الرحيم بكف القتال فلم يقبلوا وانتدب ابن المذهب القاضي والزهيري وغيرهما من الحنابلة أصحاب عبد الصمد بحمل العامة على الإغراق في الفتنة فأمسك نواب الملك الرحيم عن كفهم غيظًا من رئيس الرؤساء لميله إلى الحنابلة ومنع هؤلاء السنة من حمل الماء من دجلة إلى الكرخ وكان نهر عيسى قد انفتح بثقه فعظم الأمر عليهم وانتدب جماعة منهم وقصدوا دجلة وحملوا الماء وجعلوه في الظروف وصبوا عليه ماء الورد ونادوا‏:‏ الماء للسبيل فأغروا بهم السنة‏.‏

وتشدد رئيس الرؤساء على الشيعة فمحوا خير البشر وكتبوا‏:‏ عليهما السلام فقالت السنة‏:‏ لا نرضى إلا أن يقلع الآجر الذي عليه محمد وعلي وأن لا يؤذن‏:‏ حي على خير العمل وامتنع الشيعة من ذلك ودام القتال إلى ثالث ربيع الأول وقتل فيه رجل هاشمي من السنة فحمله أهله على نعش وطافوا به في الحربية وباب البصرة وسائر محال السنة واستنفروا الناس للأخذ بثأره ثم دفنوه عند أحمد بن حنبل وقد اجتمع معهم خلق كثير أضعاف ما تقدم‏.‏

فلما رجعوا من دفنه قصدوا مشهد باب التبن فأغلق بابه فنقبوا في سوره وتهددوا البواب فخافهم وفتح الباب فدخلوا ونهبوا ما في المشهد من قناديل ومحاريب ذهب وفضة وستور وغير ذلك ونهبوا ما في الترب والدور وأدركهم الليل فعادوا‏.‏

فلما اكن الغد كثر الجمع فقصدوا المشهد وأحرقوا جميع الترب والآزاج واحترق ضريح موسى وضريح ابن ابنه محمد بن علي والجوار والقبتان الساج اللتان عليهما واحترق ما يقابلهما ويجاورهما من قبور ملوك بني بويه معز الدولة وجلال الدولة ومن قبور الوزراء والرؤساء وقبر جعفر بن أبي جعفر المنصور وقبر الأمير محمد بن الرشيد وقبر أمه زبيده وجرى من الأمر الفظيع ما لم يجر في الدنيا مثله‏.‏

فلما كان الغد خامس الشهر عادوا وحفروا قبر موسى بن جعفر ومحمد بن علي لينقلوهما إلى مقبرة أحمد بن حنبل فحال الهدم بينهم وبين معرفة القبر فجاء الحفر إلى جانبه‏.‏

وسمع أبو تمام نقيب العباسيين وغيره من الهاشميين السنة الخبر فجاؤوا ومنعوا عن ذلك وقصد أهل الكرخ إلى خان الفقهاء الحنفيين فنهبوه وقتلوا مدرس الحنفية أبا سعد السرخسي وأحرقوا الخان ودور الفقهاء وتعدت الفتنة إلى الجانب الشرقي فاقتتل أهل باب الطاق وسوق بج والأساكفة وغيرهم‏.‏ولما انتهى خبر إحراق المشهد إلى نور الدولة دبيس بن مزيد عظم عليه واشتد وبلغ منه كل مبلغ لأنه وأهل بيته وسائر أعماله من النيل وتلك الولاية كلهم شيعة فقطعت في أعماله خطبة الإمام القائم بأمر الله فروسل في ذلك وعوتب فاعتذر بأن أهل ولايته شيعة واتفقوا على ذلك فلم يمكنه أن يشق عليهم كما أن الخليفة لم يمكنه كف السفهاء الذين فعلوا بالمشهد ما فعلوا وأعاد الخطبة إلى حالها‏.‏

ذكر عصيان بني قرة على المستنصر بالله بمصر

في هذه السنة في شعبان عصى بنو قرة بمصر على المستنصر بالله الخليفة العلوي‏.‏

وكان سبب ذلك أنه أمر عليهم رجلًا منهم يقال له المقرب وقدمه فنفروا من ذلك وكرهوه واستعفوا منه فلم يعزله عنهم فكاشفوا بالخلاف والعصيان وأقاموا بالجيزة مقابل مصر وتظاهروا بالفساد فعبر إليهم المستنصر بالله جيشًا يقاتلهم ويكفهم فقاتلهم بنو قرة فانهزم الجيش وكثر القتل فيهم فانتقل بنو قرة إلى طرف البر فعظم الأمر على المستنصر بالله وجمع العرب من طيء وكلب وغيرهما من العساكر وسيرهم في أثر بني قرة فأدركوهم بالجيزة فواقعوهم في ذي القعدة واشتد القتال وكثر القتل في بني قرة وانهزموا وعاد العسكر إلى مصر وتركوا في مقابل بني قرة طائفة منهم لترد بني قرة إن أرادوا التعرض إلى البلاد وكفى الله شرهم‏.‏

ذكر وفاة زعيم الدولة وإمارة قريش بن بدران

في هذه السنة في شهر رمضان توفي زعيم الدولة أبو كامل بركة بن المقلد بتكريت وكان انحدر إليها في حلله قاصدًا نحو العراق لينازع النواب به عن الملك الرحيم وينهب البلاد فلما بلغها انتقض عليه جرح كان أصابه من الغز لما ملكوا الموصل فتوفي ودفن بمشهد الخضر بتكريت‏.‏

واجتمعت العرب من أصحابه على تأمير علم الدين أبي المعالي قريش بن بدران بن المقلد فعاد بالحلل والعرب إلى الموصل وأرسل إلى عمه قرواش وهو تحت الاعتقال يعلمه بوفاة زعيم الدولة وقيامه بالإمارة وأنه يتصرف على اختياره ويقوم بالأمر نيابة عنه‏.‏

فلما وصل قريش إلى الموصل جرى بينه وبين عمه قرواش منازعة ضعف فيها قرواش وقوي ابن أخيه ومالت العرب إليه واستقرت الإمارة له وعاد عمه إلى ما كان عليه من الاعتقال الجميل والاقتصار به على قليل من الحاشية والنساء والنفقة ثم نقله إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل فاعتقل بها‏.‏

ذكر عدة حوادث

ظهر ببغداد يوم الأربعاء سابع صفر وقت العصر كوكب غلب نوره على نور الشمس له ذؤابة نحو ذراعين وسار سيرًا بطيئًا ثم انقض والناس يشاهدونه‏.‏

وفيها في رمضان ورد رسل السلطان طغرلبك إلى الخليفة جوابًا عن رسالة الخليفة إليه وشكر لإنعام الخليفة عليه بالخلع والألقاب وأرسل معه طغرلبك إلى الخليفة عشرة آلاف دينار عينًا وأعلاقًا نفيسة من الجواهر والثياب والطيب وغير ذلك وأرسل خمسة آلاف دينار للحاشية وألفي دينار لرئيس الرؤساء وأنزل الخليفة الرسل بباب المراتب وأمر بإكرامهم ولما جاء العيد أظهر أجناد بغداد الزينة الرائقة والخيول النفيسة والتجافيف الحسنة وأرادوا إظهار قوتهم عند الرسل‏.‏

وفيها عاد الغز أصحاب الملك داود أخي طغرلبك عن كرمان وسبب ذلك عودهم أن عبد الرشيد بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة سار عنها إلى خراسان فالتقى هو والملك داود واقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم داود فاقتضى الحال عود أصحابه عن كرمان‏.‏

وفيها أيضًا عاد السلطان طغرلبك عن أصبهان إلى الري‏.‏

وفيها توفي أبو كاليجار كرشاسف بن علاء الدولة بن كاكويه بالأهواز وكان قد استخلفه بها الأمير أبو منصور عند عوده عنها إلى شيراز فلما توفي خطب للملك الرحيم بالأهواز‏.‏

وفيها توفي أبو عبد الله الحسين بن المرتضى الموسوي‏.‏

وفيها في ربيع الأول توفي أبو الحسن محمد بن محمد البصروي الشاعر وهو منسوب إلى قرية تسمى بصرى قريب عكبرا وكان صاحب نادرة قال له رجل‏:‏ شربت البارحة ماء كثيرًا فاحتجت إلى القيام كل ساعة كأني جدي فقال له‏:‏ لم تصغر نفسك ومن شعره‏:‏ ترى الدنيا وزينتها فتصبو وما يخلو من الشهوات قلب فضول العيش أكثرها هموم وأكثر ما يضرك ما تحب فلا يغررك زخرف ما تراه وعيش لين الأعطاف رطب إذا ما بلغة جاءتك عفوًا فخذها فالغنى مرعى وشرب إذا اتفق القليل وفيه سليم فلا ترد الكثير وفيه حرب

ثم دخلت سنة أربع وأربعين وأربعمائة

ذكر قتل عبد الرشيد صاحب غزنة وملك فرخ زاد

في هذه السنة قتل عبد الرشيد بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة‏.‏

وكان سبب ذلك أن حاجبًا لمودود ابن أخيه مسعود اسمه طغرل وكان مودود قد قدمه ونوه باسمه وزوجه أخته فلما توفي مودود وملك عبد الرشيد أجرى طغرل على عادته في تقدمه وجعله حاجب حجابه فأشار عليه طغرل بقصد الغز وإجلائهم من خراسان فتوقف استبعادًا لذلك فألح عليه طغرل فسيره في ألف فارس فسار نحو سجستان وبها أبو الفضل نائبًا عن بيغو فأقام طغرل على حصار قلعة طاق وأرسل إلى أبي الفضل يدعوه إلى طاعة عبد الرشيد فقال له‏:‏ إنني نائب عن بيغو وليس من الدين والمروءة خيانته فاقصده فإذا فرغت منه سلمت إليك‏.‏

فقام على حصار طاق أربعين يومًا فلم يتهيأ له فتحها وكتب أبو الفضل إلى بيغو يعرفه حال طغرل فسار إلى سجستان ليمنع عنها طغرل‏.‏

ثم إن طغرل ضجر من مقامه على حصار طاق فسار نحو مدينة سجستان فلما كان على نحو فرسخ منها كمن بحيث لا يراه أحد لعلة يجدها وفرصة ينتهزها فسمع أصوات دبادب وبوقات فخرج وسأل بعض من على الطريق فأخبره أن بيغو قد وصل فعاد إلى أصحابه وأخبرهم وقال لهم‏:‏ ليس لنا إلا أن نلتقي القوم ونموت تحت السيوف أعزة فإنه لاسبيل لنا إلى الهرب لكثرتهم وقلتنا‏.‏

فخرجوا من مكمنهم فلما رآهم بيغو سأل أبا الفضل عنهم فأخبره أنه طغرل فاستقل من معه وسير طائفة من أصحابه لقتالهم فلما رآهم طغرل لم يعرج عليهم بل أقحم فرسه نهرًا هناك فعبره وقصد بيغو ومن معه فقاتلهم وهزمهم طغرل وغنم ما معهم ثم عطف على الفريق الآخر فصنع بهم مثل ذلك وأم بيغو وأبو الفضل نحو هراة وتبعهم طغرل نحو فرسخين وعاد إلى المدينة فملكها وكتب إلى عبد الرشيد بما كان منه ويطلب الإمداد ليسير إلى خراسان فأمده بعدة كثيرة من الفرسان فوصلوا إليه فاشتد بهم وأقام مديدة‏.‏

ثم حدث نفسه بالعود إلى غزنة والاستيلاء عليها فأعلم أصحابه ذلك وأحسن إليهم واستوثق منهم ورحل إلى غزنة طاويًا للمراحل كاتمًا أمره فلما صار على خمسة فراسخ من غزنة أرسل إلى عبد الرشيد مخادعًا له يعلمه أن العسكر خالفوا عليه وطلبوا الزيادة في العطاء وأنهم عادوا بقلوب متغيرة مستوحشة‏.‏

فلما وقف على ذلك جمع أصحابه وأهل ثقته وأعلمهم الخبر فحذروه منه وقالوا له‏:‏ إن الأمر قد أعجل عن الاستعداد وليس غير الصعود إلى القلعة والتحصن بها‏.‏

فصعد إلى قلعة غزنة وامتنع بها‏.‏

ووافى طغرل من الغد إلى البلد ونزل في دار الإمارة وراسل المقيمين بالقلعة في تسليم عبد الرشيد ووعدهم ورغبهم إن فعلوا وتهددهم إن امتنعوا‏.‏

فسلموه إليه فأخذه طغرل فقتله واستولى على البلد وتزوج ابنة مسعود كرهًا‏.‏

وكان في الأعمال الهندية أمير يسمى خرخيز ومعه عسكر كثير فلما قتل طغرل عبد الرشيد واستولى على الأمر كتب إليه ودعاه إلى الموافقة والمساعدة على ارتجاع الأعمال من أيدي الغز ووعده على ذلك وبذل البذول الكثيرة فلم يرض فعله وأنكره وامتعض منه وأغلظ له في

الجواب وكتب إلى ابنة مسعود بن محمود زوجة طغرل ووجوه القواد ينكر ذلك عليهم ويوبخهم على إغضائهم وصبرهم على ما فعله طغرل من قتل ملكهم وابن ملكهم ويحثهم على الأخذ بثأره‏.‏

فلما وقفوا على كتبه عرفوا غلطتهم ودخل جماعة منهم على طغرل ووقفوا بين يديه فضربه أحدهم بسيفه وتبعه الباقون فقتله‏.‏

وورد خرخيز الحاجب بعد خمسة أيام وأظهر الحزن على عبد الرشيد وذم طغرل ومن تابعه على فعله وجمع وجوه القواد وأعيان أهل البلد وقال لهم‏:‏ قد عرفتم ما جرى مما خولفت به الديانة والأمانة وأنا تابع ولا بد للأمر من سائس فاذكروا ما عندكم من ذلك‏!‏ فأشاروا بولاية فرخ زاد بن مسعود بن محمود وكان محبوسًا في بعض القلاع فأحضر وأجلس بدار الإمارة وأقام خرخيز بين يديه يدبر الأمور وأخذ من أعان على قتل عبد الرشيد فقتله فلما سمع داود أخو طغرلبك صاحب خراسان بقتل عبد الرشيد جمع عساكره وسار إلى غزنة فخرج إليه خرخيز ومنعه وقاتله فانهزم داود وغنم ما كان معه‏.‏

ولما استقر ملك فرخ زاد وثبت قدمه جهز جيشًا جرارًا إلى خراسان فاستقبلهم الأمير كلسارغ وهو من أعظم الأمراء فقاتلهم وصبر لهم فظفروا به وانهزم أصحابه عنه وأخذ أسيرًا وأسر معه كثير من عسكر خراسان ووجوههم وأمرائهم‏.‏

فجمع ألب أرسلان عسكرًا كثيرًا وسير والده داود في ذلك العسكر إلى الجيش الذي أسر كلسارغ فقاتلهم وهزمهم وأسر جماعة من أعيان العسكر فأطلق فرخ زاد الأسرى وخلع على كلسارغ وأطلقه‏.‏

ذكر وصول الغز إلى فارس وانهزامهم عنها

في هذه السنة وصل أصحاب السلطان طغرلبك إلى فارس وبلغوا إلى شيراز ونزلوا بالبيضاء واجتمع معهم العادل أبو منصور الذي كان وزير الأمير أبي منصور الملك أبي كاليجار ودبر أمرهم فقبضوا عليه وأخذوا منه ثلاث قلاع وهي‏:‏ قلعة كبزة وقلعة جويم وقلعة بهندر فأقاموا بها وسار من الغز نحو مائتي رجل إلى الأمير أبي سعد أخي الملك الرحيم وصاروا معه وراسل أبو سعد الذي بالقلاع المذكورة فاستمالهم فأطاعوه وسلموه القلاع إليه وصاروا في خدمته‏.‏

واجتمع العسكر الشيرازي وعليهم الظهير أبو نصر وأوقعوا بالغز بباب شيراز فانهزم الغز وأسر تاج الدين نصر بن هبة الله بن أحمد وكان من المقدمين عند الغز فلما انهزم الغز سار العسكر الشرازي إلى فسا وكان قد تغلب عليها بعض السفل وقوي أمره لاشتغال العساكر

ذكر الحرب بين قريش وأخيه المقلد

في هذه السنة جرى خلف بين علم الدين قريش بن بدران وبين أخيه المقلد وكان قريش قد نقل عمه قرواشًا إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل وسجنه بها وارتحل يطلب العراق فجرى بينه وبين أخيه المقلد منازعة أدت إلى الاختلاف‏.‏

فسار المقلد إلى نور الدولة دبيس بن مزيد ملتجئًا إليه فحمل أخاه الغيظ منه على أن نهب حلته وعاد إلى الموصل واختلت أحواله واختلفت العرب إليه وأخرج نواب الملك الرحيم ببغداد إلى ما كان بيد قريش من العراق بالجانب الشرقي من عكبرا والعلث وغيرهما من قبض غلته وسلم الجانب الغربي من أوانا ونهر بيطر إلى أبي الهندي بلال بن غريب‏.‏

ثم إن قريشًا استمال العرب وأصلحهم فأذعنوا له بعد وفاة عمه قرواش فإنه توفي هذه الأيام وانحدر إلى العراق ليستعيد ما أخذ منه فوصل إلى الصالحية وسير بعض أصحابه إلى ناحية الحظيرة وما والاها فنهبوا ما هناك وعادوا فلقوا كامل بن محمد بن المسيب صاحب الحظيرة فأوقع بهم وقاتلهم فأرسلوا إلى قريش يعرفونه الحال فسر إليهم في عدة كثيرة من العرب والأكراد‏!‏ فانهزم كامل وتبعه قريش فلم يلحقه فقصد حلل بلال بن غريب وهي خالية من الرجال فنهبها وقاتله بلال وأبلى بلاء حسنًا فجرح ثم انهزم وراسل قريش نواب الملك الرحيم يبذل الطاعة ويطلب تقرير ما كان له عليه فأجابوه إلى ذلك على كره لقوته وضعفهم واشتغال الملك الرحيم بخوزستان عنهم فاستقر أمره وقوي شأنه‏.‏

ذكر وفاة قرواش

في هذه السنة مستهل رجب توفي معتمد الدولة أبو المنيع قرواش ابن المقلد العقيلي الذي كان صاحب الموصل محبوسًا بقلعة الجراحية من أعمال الموصل على ما ذكرناه قبل وحمل ميتًا إلى الموصل ودفن بتل توبة من مدينة نينوى شرقي الموصل‏.‏

وكان من رجال العرب وذوي العقل منهم وله شعر حسن فمن ذلك ما ذكره أبو الحسن علي بن الحسن الباخرزي في دمية القصر من شعره‏:‏ لله در النائبات فإنها صدأ النفوس وصيقل الأحرار ما كنت إلا زبرة فطبعني سيفًا وأطلق شفرتي وغراري وذكر له أيضًا‏:‏ من كان يحمد أو يذم مورثًا للمال من آبائه وجدوده لي أشقر سمح العنان مغاور يعطيك ما يرضيك من مجهوده ومهند عضب إذا جردته خلت البروق تموج في تجريده ومثقف لدن السنان كأنما أم المنايا ركبت في عوده وبذا حويت المال إلا أنني سلطت جود يدي على تبديده قيل إنه جمع بين أختين في نكاحه فقيل له‏:‏ إن الشريعة تحرم هذا فقال‏:‏ وأي شيء عندنا تجيزه الشريعة وقال مرة‏:‏ ما في رقبتي غير خمسة أو ستة من البادية قتلتهم وأما الحاضرة فلا يعبأ الله بهم‏.‏

ذكر استيلاء الملك الرحيم على البصرة


في هذه السنة في شعبان سير الملك الرحيم جيشًا مع الوزير والبساسيري إلى البصرة وبها أخوه أبو علي بن أبي كاليجار فحصروه بها فأخرج عسكره في السفن لقتالهم فاقتتلوا عدة أيام ثم انهزم البصريون في الماء إلى البصرة واستولى عسكر الرحيم على دجلة والأنهر جميعًا وسارت العساكر على البر من المنزلة بمطارا إلى البصرة فلما قاربوها لقيهم رسل مضر وربيعة يطلبون الأمان فأجابوهم إلى ذلك وكذلك بذلوا الأمان لسائر أهلها ودخلها الملك الرحيم فسر فلما دخل البصرة وردت إليه رسل الديلم بخوزستان يبذلون الطاعة ويذكرون أنهم ما زالوا عليها‏.‏

فشكرهم على ذلك وأقام بالبصرة ليصلح أمرها‏.‏

وأما أخوه أبو علي صاحب البصرة فإنه مضى إلى شط عثمان فتحصن به وحفر الخندق فمضى الملك الرحيم إليه وقاتلهم فملك الموضع ومضى أبو علي ووالدته إلى عبادان وركبوا البحر إلى مهروبان وخرجوا من البحر واكتروا دواب وساروا إلى أرجان عازمين على قصد السلطان طغرلبك وأخرج الملك الرحيم كل من بالبصرة من الديلم أجناد أخيه وأقام غيرهم‏.‏

ثم إن الأمير أبا علي وصل إلى السلطان طغرلبك وهو بأصبهان فأكرمه وأحسن إليه وحمل إليه مالًا وزوجه امرأة من أهله وأقطعه إقطاعًا من أعمال جرباذقان وسلم إليه قلعتين من تلك الأعمال أيضًا‏.‏

وسلم الملك الرحيم البصرة إلى البساسيري ومضى إلى الأهواز وترددت الرسل بينه وبين منصور بن الحسين وهزارسب حتى اصطلحوا وصارت أرجان وتستر للملك الرحيم‏.‏

ذكر ورود سعدي العراق

وفيها في ذي القعدة ورد سعدي بن أبي الشوك في جيش من عند السلطان طغرلبك إلى نواحي العراق فنزل مايدشت وسار منها جريدة فيمن معه من الغز إلى أبي دلف الجاواني فنذر به أبو دلف وانصرف من بين يديه ولحقه سعدي فنهبه وأخذ ماله وأفلت أبو دلف بحشاشة نفسه ونهب أصحاب سعدي البلاد حتى بلغوا النعمانية فأسرفوا في النهب والغارة وفتكوا في البلاد وافتضوا الأبكار فأخذوا الأموال والأثاث فلم يتركوا شيئًا وقصد البندنيجين‏.‏

وبلغ خبره إلى خاله خالد بن عمر وهو نازل على الزرير ومطر ابني علي بن مقن العقيليين فأرسل إليه ولده مع أولاد الزرير ومطر يشكون إليه ما عاملهم به عمه مهلهل وقريش بن بدران فلحقوه بحلوان وشكوا إليه حالهم فوعدهم المسير إليهم والأخذ لهم ممن قصدهم‏.‏

فعادوا من عنده فلقيهم نفر من أصحاب مهلهل فواقعوهم فظفر بهم العقيليون وأسروهم‏.‏

وبلغ الخبر مهلهلًا فسار إلى حلل الزرير ومطر في نحو خمسمائة فارس فأوقع بهم على تل عكبرا ونهبهم وانهزم الرجال فلقي خالد ومطر والزرير سعدي بن أبي الشوك على تامرا فأعلموا الحال وحملوه‏.‏

على قتال عمه فتقدم إلى طريقه والتقى القوم وكان سعدي في جمع كثير فظفر بعمه وأسره وانهزم أصحابه في كل جهة وأسر أيضًا مالك ابن عمه مهلهل وأعاد الغنائم التي كانت معهم على أصحابها وعاد إلى حلوان‏.‏

ووصل الخبر إلى بغداد فارتج الناس بها وخافوا وبرز عسكر الملك الرحيم ليقصدوا حلوان لمحاربة سعدي ووصل إليهم أبو الأغر دبيس بن مزيد الأسدي ولم يصنعوا شيئًا‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة قبض عيسى بن خميس بن مقن على أخيه أبي غشام صاحب تكريت بها وسجنه في سرداب بالقلعة واستولى على تكريت‏.‏

وفيها زلزت خوزستان واجان وإيذج وغيرها من البلاد زلازل كثيرة وكان معظمها بأرجان فخرب كثير من بلادها وديارها وانفرج جبل كبير قريب من أرجان وانصدع فظهر في وسطه درجة مبنية بالآجر والجص قد خفيت في الجبل فتعجب الناس من ذلك‏.‏

وكان بخراسان أيضًا زلزلة عظيمة خربت كثيرًا وهلك بسببها كثير وكان أشدها بمدينة بيهق فأتى الخراب عليها وخرب سورها ومساجدها ولم يزل سورها خرابًا إلى سنة أربع وستين وأربعمائة فأمر نظام الملك ببنائه فبني ثم خربه أرسلان أرغو بعد موت السلطان ملكشاه وقد ذكرناه ثم عمره مجد الملك البلاساني‏.‏

وفيها عمل محضر ببغداد يتضمن القدح في نسب العلويين أصحاب مصر وأنهم كاذبون في إدعائهم النسب إلى علي عليه السلام وعزوهم فيه إلى الديصانية من المجوس والقداحية من اليهود وكتب فيه العلويين والعباسيون والفقهاء والقضاة والشهود وعمل به عدة نسخ وسير في البلاد وشيع بين الحاضر والبادي‏.‏

وفيها شهد الشيخ أبو نصر عبد السيد بن محمد بم عبد الواحد بن الصباغ مصنف الشامل عند قاضي القضاة أبي عبد الله الحسين علي بن ماكولا‏.‏

وفيها حدثت فتنة بين السنة والشيعة ببغداد وامتنع الضبط وانتشر العيارون وتسلطوا وجبوا الأسواق وأخذوا ما كان يأخذه أرباب الأعمال وكان مقدمهم الطقطقي والزيبق وأعاد الشيعة الأذان بحي على خير العمل وكتبوا على مساجدهم‏:‏ محمد وعلي خير البشر وجرى القتال بينهم وعظم الشر‏.‏

وفيها زوج نور الدولة دبيس بن مزيد ابنه بهاء الدولة منصورًا بابنة أبي البركات بن البساسيري‏.‏

وفيها في ربيع الأول توفي القاضي أبو جعفر السمناني بالموصل وكان إمامًا في الفقه على مذهب أبي حنيفة والأصول على مذهب الأشعري وروى الحديث عن الدارقطني وغيره‏.‏

وفي هذا الشهر توفي أيضًا أبو علي الحسن بن علي بن المذهب الواعظ وهو راوي مسند

ثم دخلت سنة خمس وأربعين وأربعمائة

ذكر الفتنة بين السنة والشيعة ببغداد

في هذه السنة في المحرم زادت الفتنة بين أهل الكرخ وغيرهم من السنة وكان ابتداؤها أواخر سنة أربع وأربعين‏.‏

فلما كان الآن عظم الشر واطرحت المراقبة للسلطان واختلط بالفريقين طوائف من الأتراك فلما اشتد الأمر اجتمع القواد واتفقوا على الركوب إلى المحال وإقامة السياسة بأهل الشر والفساد وأخذوا من الكرخ إنسانًا علويًا وقتلوه فثار نساؤه ونشرن شعورهن واستغثن فتبعهن العامة من أهل الكرخ وجرى بينهم وبين القواد ومن معهم من العامة قتال شديد وطرح الأتراك النار في أسواق الكرخ فاحترق كثير منها وألحقتها بالأرض وانتقل كثير من الكرخ إلى غيرها من المحال‏.‏

وندم القواد على ما فعلوه وأنكر الإمام القائم بأمر الله ذلك وصلح الحال وعاد الناس إلى الكرخ بعد أن استقرت القاعدة بالديوان بكف الأتراك أيديهم عنهم‏.‏

ذكر استيلاء الملك الرحيم على أرجان

في هذه السنة في جمادى الأولى استولى الملك الرحيم على مدينة أرجان وأطاعه من كان بها من الجند وكان المقدم عليهم فولاذ بن خسرو الديلمي‏.‏

وكان قد تغلب على جاورها من البلاد إنسان متغلب يسمى خشنام فأنفذ إليه فولاذ جيشًا فأوقعوا به وأجلوه عن تلك النواحي واستضافوا إلى طاعة الرحيم‏.‏

وخاف هزارسب بن بنكير من ذلك لأنه كان مباينًا للملك الرحيم على ما ذكرناه فأرسل يتضرع ويتقرب ويسأل التقدم إلى فولاذ بإحسان مجاورته فأجيب إلى ذلك‏.‏

ذكر مرض السلطان طغرلبك

في هذه السنة وصل السلطان طغرلبك إلى أصبهان مريضًا وقوي الإرجاف عليه بالموت ثم عوفي ووصل إليه الأمير أبو علي بن الملك أبي كاليجار الذي كان صاحب البصرة ووصل إليه أيضًا هزارسب بن بنكير بن عياض صاحب إيذج فإنه كان قد خاف الملك الرحيم لما استولى على البصرة وأرجان‏.‏

فأكرمهما طغرلبك وأحسن ضيافتهما ووعدهما النصرة والمعونة‏.‏

ذكر عود سعدي بن أبي الشوك إلى طاعة الرحيم

قد ذكرنا سنة أربع وأربعين وصول سعدي إلى العراق وأرسه عمه فلما أسره سار ولده بدر بن المهلهل إلى السلطان طغرلبك وتحدث معه في مراسلة سعدي ليطلق أباه فسلم إليه طغرلبك ولدًا كان لسعدي عنده رهينة وأرسل معه رسولًا يقول فيه‏:‏ إن أردت فدية عن أسرك فهذا ولدك قد رددته عليك وإن أبيت إلا المخالفة ومفارقة الجماعة قابلناك على فعلك‏.‏

فلما وصل بدر والرسول إلى همذان تخلف بدر وسار الرسول إليه فامتعض من قوله وخالف طغرلبك وسار إلى حلوان وأراد أخذها فلم يمكنه وتردد بين روشنقباذ والبردان وكاتب الملك الرحيم وصار في طاعته فسار إليه إبراهيم بن إسحاق وسخت كمان وهما من أعيان عسكر طغرلبك في عسكر مع بدر بن المهلهل فأوقعوا به فانهزم هو وأصحابه وعاد الغز عنهم إلى حلوان وسار بدر إلى شهرزور في طائفة من الغز ومضى سعدي إلى قلعة روشنقباذ‏.‏   ‏