المجلد الثامن - ذكر الحرب بين هزارسب وفولاذ

كان السلطان قد ضمن هزارسب بن بنكير بن عياض البصرة وأرجان وخوزستان وشيراز فتجرد رسولتكين ابن عم السلطان ومعه فولاذ لهزارسب وقصدا أرجان ونهباها‏.‏

وكان هزارسب مع طغرلبك بالموصل والجزيرة فلما فرغ السلطان من تلك الناحية رد هزارسب إلى بلاده وأمره بقتال رسولتكين وفولاذ فسار إلى البصرة وصادر بها تاج الدين بن سخطة العلوي وابن سمحا اليهودي بمائة ألف وعشرين ألف دينار وسار منها إلى قتال فولاذ ورسولتكين فلقيهما وقاتلهما قتالًا شديدًا فقتل فولاذ وأسر رسولتكين ابن عم السلطان فأبقى عليه هزارسب فسأل رسولتكين هزارسب ليرسله إلى دار الخلافة ليشفع فيه الخليفة ففعل ذلك‏.‏

ووصل بغداد مع أصحاب هزارسب فاجتاز بدار رئيس الرؤساء فهجم ودخلها واستدعى طعامًا إيجازًا للحرمة فأمر الخليفة بإحضار عميد الملك وإعلامه بحال رسولتكين ليخاطب السلطان في أمره فلما حضر عميد الملك وقيل له ذلك قال‏:‏ إن السلطان يقول إن هذا لا حرمة له يستحق بها المراعاة وقد قابل إحساني بالعصيان ويجب تسليمه ليتحقق الناس منزلتي وتتضاعف هيبتي فاستقر الأمر بعد مراجعة على أن يقيده وخرج توقيع الخليفة‏:‏ إن منزلة ركن الدين يعني طغرلبك عندنا اقتضت ما لم نفعله مع غيره لأنه لم تجر العادة بتقييد أحد في الدار العزيز ولا بد أن يكون الرضا في جواب ما فعل فراسله رئيس الرؤساء حتى رضي‏.‏

وقد كانت دار الخلافة أيام بني بويه ملجأ لكل خائف منهم من وزير وعميد وغير ذلك ففي الأيام السلجوقية سلك غير ذلك وكان أول شيء فعلوه هذا‏.‏

ذكر القبض على الوزير اليازوري بمصر

في هذه السنة في ذي الحجة قبض بمصر على الوزير أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن اليازوري وقرر عليه أموال عظيمة منه ومن أصحابه ووجد له مكاتبات إلى بغداد‏.‏

وكان في ابتداء أمره قد حج فلما قضى حجه أتى المدينة وزار مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقط على منكبيه قطعة من الخلوق الذي على حائط الحجرة فقال له أحد القوام‏:‏ أيها الشيخ‏!‏ إني أبشرك ولي الحباء والكرامة إذ بلغته أنك تلي ولاية عظيمة وهذا الخلوق دليل على ذلك‏.‏

فلم يحل عليه الحول حتى ولي الوزارة وأحسن إلى ذلك الرجل وراعاه‏.‏

وكان يتفقه على مذهب أبي حنيفة وكان قاضيًا بالرملة يكرم العلماء ويحسن إليهم ويجالسهم وكان ابتداء أمره كابتداء أمر رئيس الرؤساء‏:‏ الشهادة والقضاء وكانت سعادتهما متفقة ونهايتهما متقاربة‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة زاد الغلاء ببغداد والعراق حتى بيعت كارة الدقيق السميد بثلاثة عشر دينارًا والكارة من الشعير والذرة بثمانية دنانير وأكل الناس الميتة والكلاب وغيرها وكثر الوباء حتى عجز الناس عن دفن الموتى فكانوا يجعلون الجماعة في الحفيرة‏.‏

وفيها في ربيع الأول توفي أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري الأديب وله نحو ست وثمانين سنة وعلمه أشهر من أن يذكر إلا أن أكثر الناس يرمونه بالزندقة وفي شعره ما يدل على ذلك حكي أنه قال يومًا لأبي يوسف القزويني‏:‏ ما هجوت أحدًا فقال له القزويني‏:‏ هجوت الأنبياء فتغير وجهه وقال‏:‏ ما أخاف أحدًا سواك‏.‏

وحكى عنه القزويني أنه قال‏:‏ ما رأيت شعرًا في مرثية الحسين بن علي يساوي أن يحفظ فقال القزويني‏:‏ بلى قد قال بعض أهل سوادانا‏:‏ رأس ابن بنت محمد ووصيه للمسلمين على قناة يرفع والمسلمون بمنظر وبمسمع لا جازع منهم ولا متفجع أيقظت أجفانًا وكنت لها كرى وأنمت عينًا لم تكن بك تهجع كحلت بمصرعك العيون عماية وأصم نعيك كل أذن تسمع ما روضة إلا تمنت أنها لك مضجع ولخط قبرك موضع وفيها أصلح دبيس بن علي بن مزيد ومحمود بن الأخرم الخفاجي حالهما مع السلطان فعاد دبيس إلى بلاده فوجدها خرابًا لكثرة من مات بها من الوباء الجارف ليس بها أحد‏.‏

وفيها كثر الوباء ببخارى حتى قيل إنه مات في يوم واحد ثمانية عشر ألف إنسان من أعمال بخارى وهلك في هذه الولاية في مدة الوباء ألف ألف وستمائة ألف وخمسون ألفًا وكان بسمرقند مثل ذلك ووجد ميت وقد دخل تركي يأخذ لحافًا عليه فمات التركي وطرف اللحاف بيده وبقيت أموال الناس سائبة‏.‏

وفيها نهبت دار أبي جعفر الطوسي بالكرخ وهو فقيه الإمامية وأخذ ما فيها وكان قد فارقها إلى المشهد الغربي‏.‏

وفيها في صفر توفي أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني مقدم أصحاب الحديث بخراسان وكان فقيهًا خطيبًا إمامًا في عدة علوم‏.‏

وفيها في ربيع الأول توفي اياز بن ايماق أبو النجم غلام محمود بن سبكتكين وأخباره معه مشهورة‏.‏

وفيها مات أبو أحمد عدنان ابن الشريف الرضي نقيب العلويين‏.‏

وفيها توفي أبو الحسن عبد الوهاب بن أحمد بن هارون الغساني المعروف بابن الجندي‏.‏

ثم دخلت سنة خمسين وأربعمائة

ذكر مفارقة إبراهيم ينال الموصل واستيلاء البساسيري عليها وأخذها منه

في هذه السنة فارق إبراهيم ينال الموصل نحو بلاد الجبل فنسب السلطان طغرلبك رحيله إلى العصيان فأرسل إليه رسولًا يستدعيه وصحبته الفرجية التي خلعها عليه الخليفة وكتب الخليفة إليه أيضًا كتابًا في المعنى فرجع إبراهيم إلى السلطان وهو ببغداد فخرج الوزير الكندري لاستقباله وأرسل الخليفة إليه الخلع‏.‏

ولما فارق إبراهيم الموصل قصدها البساسيري وقريش بن بدران وحاصراها فملكا البلد ليومه وبقيت القلعة وبها الخازن وأردم وجماعة من العسكر فحاصراها أربعة أشهر حتى أكل من فيها دوابهم فخاطب ابن موسك صاحب إربل قريشًا حتى أمنهم فخرجوا فهدم البساسيري القلعة وعفى أثرها‏.‏

وكان السلطان قد فرق عسكره في النوروز وبقي جريدة في ألفي فارس حين بلغه الخبر فسار إلى الموصل فلم يجد بها أحدًا وكان قريش والبساسيري قد فارقاها فسار السلطان إلى نصيبين ليتتبع آثارهم ويخرجهم من البلاد ففارقه أخوه إبراهيم ينال وسار نحو همذان فوصلها في السادس والعشرين من رمضان سنة خمسين وكان قد قيل إن المصريين كاتبوه والبساسيري قد استماله وأطمعه في السلطنة والبلاد فلما عاد إلى همذان سار السلطان في أثره‏.‏

وما كان إلى قتل البساسيري لما عاد إبراهيم ينال إلى همذان سار طغرلبك خلفه ورد وزيره عميد الملك الكندري وزوجته إلى بغداد‏.‏

وكان مسيره من نصيبين في منتصف شهر رمضان ووصل إلى همذان وتحصن بالبلد وقاتل أهلها بين يديه وأرسل إلى الخاتون زوجته وعميد الملك الكندري يأمرهما باللحاق به فمنعهما الخليفة من ذلك تمسكًا بهما وفرق غلالًا كثيرة في الناس وسار من كان ببغداد من الأتراك إلى السلطان بهمذان وسار عميد الملك إلى دبيس بن مزيد فاحترمه وعظمه ثم سار من عنده إلى هزارسب وسارت خاتون إلى السلطان بهمذان فأرسل الخليفة إلى نور الدولة دبيس بن مزيد يأمره بالوصول إلى بغداد فورد إليها مائة فارس ونزل في النجمي ثم عبر إلى الأتانين‏.‏

وقوي الإرجاف بوصول البساسيري فلما تحقق الخليفة وصوله إلى هيت أمر الناس بالعبور من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي فأرسل دبيس بن مزيد إلى الخليفة وإلى رئيس الرؤساء يقول‏:‏ الرأي عندي خروجكما من البلد معي فإنني أجتمع أنا وهزارسب فإنه بواسط على دفع عدوكما‏.‏

فأجيب ابن مزيد بأن يقيم حتى يقع الفكر في ذلك فقال‏:‏ العرب لا تطيعني على المقام وأنا أتقدم إلى ديالى‏!‏ فإذا انحدرتم سرت في خدمتكم‏.‏

وسار وأقام بديالى ينتظرهما فلم ير لذلك أثرًا فسار إلى بلاده‏.‏

ثم إن البساسيري وصل إلى بغداد يوم الأحد ثامن ذي القعدة ومعه أربعمائة غلام على غاية الضر والفقر وكان معه أبو الحسن بن عبد الرحيم الوزير فنزل البساسيري بمشرعة الروايا ونزل قريش بن بدران وهو في مائتي فارس عند مشرعة باب البصرة وركب عميد العراق ومعه العسكر والعوام وأقاموا بإزاء عسكر البساسيري وعادوا وخطب البساسيري بجامع المنصور للمستنصر بالله العلوي صاحب مصر وأمر فأذن بحي على خير العمل وعقد الجسر وعبر عسكره إلى الزاهر وخيموا فيه وخطب في الجمعة من وصوله بجامع الرصافة للمصري وجرى بين الطائفتين حروب في أثناء الأسبوع‏.‏

وكان عميد العراق يشير على رئيس الرؤساء بالتوقف عن المناجزة ويرى المحاجزة ومطاولة الأيام انتظارًا لما يكون من السلطان ولما يراه من المصلحة بسبب ميل العامة إلى البساسيري أما الشيعة فللمذهب وأما السنة فلما فعل بهم الأتراك‏.‏

وكان رئيس الرؤساء لقلة معرفته بالحرب ولما عنده من البساسيري يرى المبادرة إلى الحرب فاتفق أن في بعض الأيام حضر القاضي الهمذاني عند رئيس الرؤساء واستأذنه في الحرب وضمن به قتل البساسيري فأذن له من غير علم عميد العراق فخرج ومعه الخدم والهاشميون والعجم والعوام إلى الحلبة وأبعدوا البساسيري يستجرهم فلما أبعدوا حمل عليهم فعادوا منهزمين وقتل منهم جماعة ومات في الزحمة جماعة من الأعيان ونهب باب الأزج وكان رئيس الرؤساء واقفًا دون الباب فدخل الدار وهرب كل من في الحريم‏.‏

ولما بلغ عميد العراق فعل رئيس الرؤساء لطم على وجهه كيف استبد برأيه ولا معرفة له بالحرب‏.‏

ورجع البساسيري إلى معسكره واستدعى الخليفة عميد العراق وأمره بالقتال على سور الحريم فلم يرعهم إلا الزعقات وقد نهب الحريم وقد دخلوا بباب النوبي فركب الخليفة لابسًا للسواد وعلى كتفه البردة وبيده السيف وعلى رأسه اللواء وحوله زمرة من العباسيين والخدم بالسيوف المسلولة فرأى النهب قد وصل إلى باب الفردوس من داره فرجع إلى ورائه ومضى نحو عميد العراق فوجده قد استأمن إلى قريش فعاد وصعد المنظرة صاح رئيس الرؤساء‏:‏ يا علم الدين‏!‏ يعني قريشًا أمير المؤمنين يستدنيك فدنا منه فقال له رئيس الرؤساء‏:‏ قد أنالك الله منزلة لم ينلها أمثالك وأمير المؤمنين يستذم منك على نفسه وأهله وأصحابه بذمام الله وذمام رسوله صلى الله عليه وسلم وذمام العربية‏.‏

فقال‏:‏ قد أذم الله تعالى له فقال‏:‏ ولي ولمن معه قال‏:‏ نعم وخلع قلنسوته فأعطاها الخليفة وأعطى مخصرته رئيس الرؤساء ذمامًا فنزل إليه الخليفة ورئيس الرؤساء من الباب المقابل لباب الحلبة وصارا معه‏.‏

فأرسل إليه البساسيري‏:‏ أتخالف ما استقر بيننا وتنقض ما تعاهدنا عليه فقال قريش‏:‏ لا وكانا قد تعاهدا على المشاركة في الذي يحصل لهما وأن لا يستبد أحدهما دون الآخر بشيء فاتفقا على أن يسلم قريش رئيس الرؤساء إلى البساسيري لأنه عدوه ويترك الخليفة عنده فأرسل قريش رئيس الرؤساء إلى البساسيري فلما رآه قال‏:‏ مرحبًا بمهلك الدول ومخرب البلاد‏!‏ فقال‏:‏ العفو عند المقدرة‏.‏

فقال البساسيري‏:‏ فقد قدرت فما عفوت وأنت صاحب طيلسان وركبت الأفعال الشنيعة مع حرمي وأطفالي فكيف أعفو أنا وأنا صاحب سيف وأما الخليفة فإنه حمله قريش راكبًا إلى معسكره وعليه السواد والبردة وبيده السيف وعلى رأسه اللواء وأنزله في خيمة وأخذ أرسلان خاتون زوجة الخليفة وهي ابنة أخي السلطان طغرلبك فسلمها إلى أبي عبد الله بن جردة ليقوم بخدمتها‏.‏

ونهبت دار الخلافة وحريمها أيامًا وسلم قريش الخليفة إلى ابن عمه مهارش بن المجلي وهو رجل فيه دين وله مروءة فحمله في هودج وسار به إلى حديثة عانة فتركه بها وسار من كان

فلما وصل الخليفة إلى الأنبار شكا البرد فأنفذ إلى مقدمها يطلب منه ما يلبسه فأرسل له جبة فيها قطن ولحافًا‏.‏

وأما البساسيري فإنه ركب يوم عيد النحر وعبر إلى المصلى بالجانب الشرقي وعلى رأسه الألوية المصرية فأحسن إلى الناس وأجرى الجرايات على المتفقهة ولم يتعصب لمذهب وأفرد لوالدة الخليفة القائم بأمر الله دارًا وكانت قد قاربت تسعين سنة وأعطاها جاريتين من جواريها للخدمة وأجرى لها الجراية وأخرج محمود بن الأخرم إلى الكوفة وسقى الفرات أميرًا‏.‏

وأما رئيس الرؤساء فأخرجه البساسيري آخر ذي الحجة من محبسه بالحريم الطاهري مقيدًا وعليه جبة صوف وطرطور من لبد أحمر وفي رقبته مخنقة جلود بعير وهو يقرأ‏:‏ ‏{‏قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏26‏]‏ ‏.‏

وبصق أهل الكرخ في وجهه عند اجتيازه بهم لأنه كان يتعصب عليهم وشهر إلى حد النجمي وأعيد إلى معسكر البساسيري وقد نصبت له خشبة وأنزل عن الجمل وألبس جلد ثور وجعلت قرونه على رأسه وجعل في فكيه كلابان من حديد وصلب فبقي يضطرب إلى آخر النهار ومات‏.‏

وكان مولده في شعبان سنة سبعين وثلاثمائة وكانت شهادته عند ابن ماكولا سنة أربع عشرة وأما عميد العراق فقتله البساسيري وكان فيه شجاعة وله فتوة وهو الذي بنى رباط شيخ الشيوخ ولما خطب البساسيري للمستنصر العلوي بالعراق أرسل إليه بمصر يعرفه ما فعل وكان الوزير هناك أبا الفرج ابن أخي أبي القاسم المغربي وهو ممن هرب من البساسيري وفي نفسه ما فيها فوقع فيه وبرد فعله وخوف عاقبته فتركت أجوبته مدة ثم عادت بغير الذي أمله ورجاه‏.‏

وسار البساسيري من بغداد إلى واسط والبصرة فملكهما وأراد قصد الأهواز فأنفذ صاحبها هزارسب بن بنكير إلى دبيس بن مزيد يطلب منه أن يصلح الأمر على مال يحمله إليه فلم يجب إلى ذلك وقال‏:‏ لا بد من الخطبة للمستنصر والسكة باسمه فلم يفعل هزارسب ذلك ورأى البساسيري أن طغرلبك يمد هزارسب بالعساكر فصالحه وأصعد إلى واسط في مستهل شعبان من سنة إحدى وخمسين وفارقه صدقة بن منصور بن الحسين الأسدي ولحق بهزارسب وكان قد ولي بعد أبيه على ما نذكره‏.‏

وأما أحوال السلطان طغرلبك وإبراهيم ينال فإن السلطان كان في قلة من العسكر كما ذكرناه وكان إبراهيم قد اجتمع معه كثير من الأتراك وحلف لهم أنه لا يصالح أخاه طغرلبك ولا يكلفهم المسير إلى العراق وكانوا يكرهونه لطول مقامهم وكثرة إخراجاتهم فلم يقو به طغرلبك وأتى إلى إبراهيم محمد وأحمد ابنا أخيه أرتاش في خلق كثير فازداد بهم قوة وازداد طغرلبك ضعفًا فانزاح من بين يديه إلى الري وكاتب ألب أرسلان وياقوتي وقاروت بك أولاد أخيه داود وكان داود قد مات على ما نذكره سنة إحدة وخمسين إن شاء الله تعالى وملك خراسان بعده ابنه ألب أرسلان إليهم طغرلبك يستدعيهم إليه فجاؤوا بالعساكر الكثيرة فلقي إبراهيم بالقرب من الري فانهزم إبراهيم ومن معه وأخذ أسيرًا هو ومحمد وأحمد ولدا أخيه فأمر به فخنق بوتر قوسه تاسع جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين وقتل ولدا أخيه معه‏.‏

وكان إبراهيم قد خرج على طغرلبك مرارًا فعفا عنه وإنما قتله في هذه الدفعة لأنه علم أن جميع ما جرى على الخليفة كان بسببه فلهذا لم يعف عنه ولما قتل إبراهيم أرسل طغرلبك إلى هزارسب بالأهواز يعرفه ذلك وعنده عميد الملك الكندري فسار إلى السلطان فجهزه هزارسب تجهيز مثله‏.‏

ذكر عود الخليفة إلى بغداد

لما فرغ السلطان من أمر أخيه إبراهيم ينال عاد يطلب العراق ليس له هم إلا إعادة القائم بأمر الله إلى داره فأرسل إلى البساسيري وقريش في إعادة الخليفة إلى داره على أن لا يدخل طغرلبك العراق ويقنع بالخطبة والسكة فلم يجب البساسيري إلى ذلك فرحل طغرلبك إلى العراق فوصلت مقدمته إلى قصر شيرين فوصل الخبر إلى بغداد فانحدر حرم البساسيري وأولاده ورحل أهل الكرخ بنسائهم وأولادهم في دجلة وعلى الظهر ونهب بنو شيبان الناس وقتلوا كثيرًا منهم وكان دخول البساسيري وأولاده بغداد سادس ذي القعدة سنة خمسين وخرجوا منها سادس ذي القعدة سنة إحدى وخمسين‏.‏

وثار أهل باب البصرة إلى الكرخ فنهبوه وأحرقوا درب الزعفران وهو من أحسن الدروب وأعمرها ووصل طغرلبك إلى بغداد وكان قد أرسل من الطريق الإمام أبا بكر أحمد بن محمد بن أيوب المعروف بابن فورك إلى قريش بن بدران يشكره على فعله بالخليفة وحفظه على صيانته ابنة أخيه امرأة الخليفة ويعرفه أنه قد أرسل أبا بكر بن فورك للقيام بخدمة الخليفة وإحضاره وإحضار أرسلان خاتون ابنة أخيه امرأة الخليفة‏.‏

ولما سمع قريش بقصد طغرلبك العراق أرسل إلى مهارش يقول له‏:‏ أودعنا الخليفة عندك ثقة بإمانتك لينكف بلاء الغز عنا والآن فقد عادوا وهم عازمون على قصدك فارحل أنت وأهلك إلى البرية فإنهم إذا علموا أن الخليفة عندنا في البرية لم يقصدوا العراق ونحكم عليهم بما نريد‏.‏

فقال مهارش‏:‏ كان بيني وبين البساسيري عهود ومواثيق نقضها وإن الخليفة قد استخلفني وسار مهارش ومعه الخليفة حادي عشر ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وأربعمائة إلى العراق وجعلا طريقهما على بلد بدر بن مهلهل ليأمنا من يقصدهما ووصل ابن فورك إلى حلة بدر بن مهلهل وطلب منه أن يوصله إلى مهارش فجاء إنسان سوادي إلى بدر وأخبره أنه رأى الخليفة ومهارشًا بتل عكبرا فسر بذلك بدر ورحل ومعه ابن فورك وخدماه وحمل له بدر شيئًا كثيرًا وأوصل إليه ابن فورك رسالة طغرلبك وهدايا كثيرة أرسلها معه‏.‏

ولما سمع طغرلبك بوصول الخليفة إلى بلد بدر أرسل وزيره الكندري والأمراء والحجاب وأصحبهم الخيام العظيمة والسرادقات والتحف من الخيل بالمراكب الذهب وغير ذلك فوصلوا إلى الخليفة وخدموه ورحلوا ووصل الخليفة إلى النهروان في الرابع والعشرين من ذي القعدة وخرج السلطان إلى خدمته فاجتمع به وقبل الأرض بين يديه وهنأه بالسلامة وأظهر الفرح بسلامته واعتذر من تأخره بعصيان إبراهيم وأنه قتله عقوبة لما جرى منه من الوهن على الدولة العباسية وبوفاة أخيه داود بخراسان وأنه اضطر إلى التريث حتى يرتب أولاده بعده في المملكة وقال‏:‏ أنا أمضي خلف هذا الكلب يعني البساسيري وأقصد الشام وأفعل في حق صاحب مصر ما أجازي به فعله‏!‏ وقلده الخليفة بيده سيفًا وقال‏:‏ لم يبق مع أمير المؤمنين من داره سواه وقد تبرك به أمير ولم يبق ببغداد من أعيانها من يستقبل الخليفة غير القاضي أبي عبد الله الدامغاني وثلاثة نفر من الشهود‏.‏

وتقدم السلطان في المسير فوصل إلى بغداد وجلس في باب النوبي مكان الحاجب ووصل الخليفة فقام طغرلبك وأخذ بلجام بغلته حتى صار على باب حجرته وكان وصوله يوم الاثنين لخمس بقين من ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وعبر السلطان إلى معسكره وكانت السنة مجدبة ولم ير الناس فيها مطرًا فجاء تلك الليلة وهنأ الشعراء الخليفة والسلطان بهذا الأمر ودام البرد بعد قدوم الخليفة نيفًا وثلاثين يومًا ومات بالجوع والعقوبة عدد لا يحصى وكان أبو علي بن شبل ممن هرب من طائفة الغز فوقع به غيرهم فأخذوا ماله فقال‏:‏ خرجنا من قضاء الله خوفًا فكان فرارنا منه إليه وأشقى الناس ذو عزم توالت مصائبه عليه من يديه تضيق عليه طرق العذر منها ويقسو قلب راحمه عليه

ذكر قتل البساسيري

أنفذ السلطان بعد استقرار الخليفة في داره جيشًا عليهم خمارتكين الطغراني في ألفي فارس نحو الكوفة فأضاف إليهم سرايا بن منيع الخفاجي وكان قد قال السلطان‏:‏ أرسل معي هذه وسار السلطان طغرلبك في أثرهم فلم يشعر دبيس بن مزيد والبساسيري إلا والسرية قد وصلت إليهم ثامن ذي الحجة من طريق الكوفة بعد أن نهبوها وأخذ نور الدولة دبيس بن مزيد رحله جميعه وأحدره إلى البطيحة وجعل أصحاب نور الدولة دبيس يرحلون بأهليهم فيتبعهم الأتراك فتقدم نور الدولة ليرد العرب إلى القتال فلم يرجعوا فمضى‏.‏

ووقف البساسيري في جماعته وحمل عليه الجيش فأسر من أصحابه أبو الفتح بن ورام وأسر منصور وبدران وحماد بنو نور الدولة دبيس وضرب فرس البساسيري بنشابة وأراد قطع تجفافه لتسهل عليه النجاة فلم ينقطع وسقط عن الفرس ووقع في وجهه ضربة ودل عليه بعض الجرحى فأخذه كمشتكين دواتي عميد الملك الكندري وقتله وحمل رأسه إلى السلطان ودخل الجند في الظعن فساقوه جميعه وأخذت أموال أهل بغداد وأموال البساسيري مع نسائه وأولاده وهلك من الناس الخلق العظيم وأمر السلطان بحمل رأس البساسيري إلى دار الخلافة فحمل إليها فوصل منتصف ذي الحجة سنة إحدى وخمسين فنظف وغسل وجعل على قناة وطيف به وصلب قبالة باب النوبي‏.‏

وكان في أسر البساسيري جماعة من النساء المتعلقات بدار الخلافة فأخذن وأكرمن وحملن إلى بغداد‏.‏

ومضى نور الدولة دبيس إلى البطيحة ومعه زعيم الملك أبو الحسن عبد الرحيم وكان من حق هذه الحوادث المتأخرة أن تذكر سنة إحدى وخمسين وإنما ذكرناها هاهنا لأنها كالحادثة الواحدة يتلو بعضها بعضًا‏.‏

وكان البساسيري مملوكًا تركيًا من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة تقلبت به الأمور حتى بلغ هذا المقام المشهور واسمه أرسلان وكنيته أبو الحارث وهو منسوب إلى بسا مدينة بفارس والعرب تجعل عوض الباء فاء فتقول فسا والنسبة فساوي ومنها أبو علي الفارسي النحوي وكان سيد هذا المملوك أولًا من بسا فقيل به البساسيري لذلك وجعل العرب الباء فاء فقيل فساسيري‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة أقر السلطان طغرلبك مملان بن هسوذان بن مملان على ولاية أبيه بأذربيجان‏.‏

وفيها مات شهاب الدولة أبو الفوارس منصور بن الحسين الأسدي صاحب الجزيرة عند خوزستان واجتمعت عشيرته على ولده صدقة‏.‏

وفيها توفي الملك الرحيم آخر ملوك بني بويه بقلعة الري وكان طغرلبك سجنه أولًا بقلعة وفيها عصى أبو علي بن أبي الجبر بالبطائح وكان متقدم بعض نواحيها فأرسل إليه طغرلبك جيشًا مع عميد العراق أبي نصر فهزمهم أبو علي‏.‏

وفيها يوم النوروز أرسل السلطان مع وزيره عميد الملك إلى الخليفة عشرة آلاف دينار سوى ما أضيف إليها من الأعلاق النفيسة‏.‏

وفيها في صفر توفي أبو الفتح بن شيطا القاري الشاهد وكانت شهادته سنة خمس وأربعين وأربعمائة‏.‏

وفيها في شهر ربيع الأول توفي القاضي أبو الطيب الطبري الفقيه الشافعي وله مائة سنة وسنتان وكان صحيح السمع والبصر سليم الأعضاء يناظر ويفتي ويستدرك على الفقهاء وحضر عميد الملك جنازته ودفن عند قبر أحمد وله شعر حسن‏.‏

وفي سلخه توفي قاضي القضاة أبو الحسين علي بن محمد بن حبيب الماوردي الفقيه الشافعي وكان إمامًا وله تصانيف كثيرة منها‏:‏ الحاوي وغيره في علوم كثيرة وكان عمره ستًا وثمانين سنة‏.‏

وفي آخر هذه السنة توفي أبو عبد الله الحسين بن علي الرفا الضرير الفرضي وكان إمامًا فيها على مذهب الشافعي‏.‏

وفيها في شوال كانت زلزلة عظيمة بالعراق والموصل ووصلت إلى همذان ولبثت ساعة وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن علي بن عياض المعروف بابن أبي عقيل وكان قد سمع الكثير من الحديث رواه‏.‏

وتوفي أيضًا القاضي أبو الحسن علي بن هندي قاضي حمص وكان وافر العلم والأدب‏.‏

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وأربعمائة

ذكر وفاة فرخ زاد صاحب غزنة وملك أخيه إبراهيم

في هذه السنة في صفر توفي الملك فرخ زاد بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة وكان قد ثار به مماليكه سنة خمسين واتفقوا على قتله فقصدوه وهو في الحمام وكان معه سيف فأخذه وقاتلهم ومنعهم عن نفسه حتى أدركه أصحابه وخلصوه وقتلوا أولئك الغلمان‏.‏

وصار بعد أن نجا من هذه الحادثة يكثر ذكر الموت ويحتقر الدنيا ويزدريها وبقي كذلك إلى هذه السنة فأصابه قولنج فمات منه وملك بعده أخوه إبراهيم بن مسعود بن محمود فأحسن السيرة فاستعد لجهاد الهند ففتح حصونًا امتنعت على أبيه وجده وكان يصوم رجبًا وشعبان ورمضان‏.‏

في هذه السنة استقر الصلح بين الملك إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين وبين داود بن ميكائيل بن سلجوق صاحب خراسان على أن يكون كل واحد منهما على ما بيده ويترك منازعة الآخر في ملكه‏.‏

وكان سبب ذلك أن العقلاء من الجانبين نظروا فرأوا أن كل واحد من الملكين لا يقدر على أخذ ما بيد الآخر وليس يحصل غير إنفاق الأموال وإتعاب العساكر ونهب البلاد وقتل النفوس فسعوا في الصلح فوقع الاتفاق واليمين وكتبت النسخ بذلك فاستبشر الناس وسرهم لما أشرفوا عليه من العافية‏.‏

ذكر وفاة داود وملك ابنه ألب أرسلان

في هذه السنة في رجب توفي جغري بك داود بن ميكائيل بن سلجوق أخو السلطان طغرلبك وقيل كان موته في صفر سنة اثنتين وخمسين وعمره نحو سبعين سنة وكان صاحب خراسان وهو مقابل آل سبكتكين ومقاتلهم ومانعهم عن خراسان فلما توفي ملك بعده خراسان ابنه السلطان ألب أرسلان وخلف داود عدة أولاد ذكور منهم‏:‏ السلطان ألب أرسلان وياقوتي وسليمان وقاروت بك فتزوج أم سليمان السلطان طغرلبك بعد أخيه وكان خيرًا عادلًا حسن السيرة معترفًا بنعمة الله تعالى عليه شاكرًا عليها فمن ذلك أنه أرسل إلى أخيه طغرلبك مع عبد الصمد قاضي سرخس يقول له‏:‏ بلغني إخرابك البلاد التي فتحتها وملكتها وجلا أهلها عنها وهذا ما لا خفاء به في مخالفة أمر الله تعالى في عباده وبلاده وأنت تعلم ما فيه من سوء السمعة وإيحاش الرعية‏.‏

وقد علمت أننا لقينا أعداءنا ونحن ثلاثين رجلًا وهم ثلاثمائة فغلبناهم وكنا في ثلاثمائة وهم في ثلاثة آلاف فغلبناهم وكنا في ثلاثة آلاف وهم في ثلاثين ألفًا فدفعناهم وقاتلنا بالأمس شاه ملك وهو في أعداد كثيرة متوافرة فقهرناه وأخذنا مملكته بخوارزم وهرب من بين أيدينا إلى خمسمائة فرسخ من موضعه فظفرنا به وأسرناه وقتلناه واستولينا على ممالك خراسان وطبرستان وسجستان وصرنا ملوكًا متبوعين بعد أن كنا أصاغر تابعين وما تقتضي نعم الله علينا أن نقابلها هذه المقابلة‏.‏

فقال طغرلبك‏:‏ قل له في الجواب‏:‏ يا أخي أنت ملكت خراسان وهي بلاد عامرة فخربتها ووجب عليك مع استقرار قدمك عمارتها وأنا وردت بلادًا خربها من تقدمني واجتاحها من كان قبلي فما أتمكن من عمارتها والأعداء محيطة بها والضرورة تقود إلى طرقها بالعساكر ولا يمكن دفع مضرتها عنها‏.‏

ذكر حريق بغداد

في هذه السنة احترقت بغداد‏:‏ الكرخ وغيره وبين السورين واحترقت فيه خزانة الكتب التي وقفها أردشير الوزير ونهبت بعض كتبها وجاء عميد الملك الكندري فاختار من الكتب خيرها وكان بها عشرة آلاف مجلد وأربعمائة مجلد من أصناف العلوم منها‏:‏ مائة مصحف بخطوط بني مقلة وكان العامة قد نهبوا بعضها لما وقع الحريق فأزالهم عميد الملك وقعد يختارها فنسب ذلك إلى سوء سيرته وفساد اختياره وشتان بين فعله وفعل نظام الملك الذي عمر المدارس ودون العلم في بلاد الإسلام جميعها ووقف الكتب وغيرها‏.‏

ذكر انحدار السلطان إلى واسط وما فعل العسكر وإصلاح دبيس

في هذه السنة انحدر السلطان طغرلبك إلى واسط بعد فراغه من أمر بغداد فرآها قد نهبت وحضر عنده هزارسب بن بنكير وأصلح معه حال دبيس بن مزيد وأحضره معه إلى خدمة السلطان وأصعد في صحبته إلى بغداد وكذلك صدقة بن منصور بن الحسين وضمن واسطًا أبو علي بن فضلان بمائتي ألف دينار وضمن البصرة الأغر أبو سعد سابور بن المظفر وعبر السلطان إلى الجانب الشرقي من دجلة وسار إلى قرب البطائح فنهب العسكر ما بين واسط والبصرة والأهواز‏.‏

وأصعد السلطان إلى بغداد في صفر سنة اثنتين وخمسين ومعه أبو الفتح بن ورام وهزارسب بن بنكير بن عياض ودبيس بن مزيد وأبو علي ابن الملك أبي كاليجار وصدقة بن منصور بن الحسين وغيرهم واجتمع السلطان بالخليفة وأمر الخليفة بعمل طعام كثير حضره السلطان والأمراء وأصحابهم وعمل السلطان أيضًا سماطًا أحضر فيه الجماعة وخلع عليهم وسار إلى بلاد الجبل في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وجعل ببغداد شحنة الأمير برسق وضمنها أبو الفتح المظفر بن الحسين ثلاث سنين بأربع مائة ألف دينار‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة عزل أبو الحسين بن المهتدي من الخطابة بجامع المنصور لأنه خطب للعلوي ببغداد في الفتنة وأقيم مقامه بهاء الشرف أبو علي الحسن بن عبد الودود بن المهتدي بالله‏.‏

وفيها توفي علي بن محمود بن إبراهيم الزوزني أبو الحسن صحب أبا الحسن الجصري وروى عن أبي عبد الرحمن السلمي وهو الذي نسب إليه رباط الزوزني المقابل لجامع المنصور‏.‏

وفيها في جمادى الأولى توفي محمد بن علي بن الفتح بن محمد بن علي أبو طالب العشاري ومولده في المحرم سنة ست وستين وثلاثمائة وسمع الدارقطني وغيره‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة

ذكر عود ولي العهد إلى بغداد مع أبي الغنائم بن المحلبان

في جمادى الآخرة ورد عدة الدين أبو القاسم المقتدي بأمر الله ولي العهد ومعه جدته أم الخليفة وخرج الناس لاستقباله وجلس في الزبزب على رأسه أبو الغنائم بن المحلبان وقدم له بباب الغربة فرس فحمله ابن المحلبان على كتفه وأركبه وسلمه إلى مجلس الخليفة فشكره وخرج ابن المحلبان فركب في الزبزب وانحدر إلى دار أفردت له بباب المراتب ودخل إلى الخليفة واجتمع به‏.‏

وكان سبب مصير ولي العهد مع ابن المحلبان أنه دخل داره فوجد زوجة رئيس الرؤساء وأولاده بها وهم مطالبون من البساسيري فعرفوه أن رئيس الرؤساء أمرهم بقصده فأدخلهم إلى أهله وأقام لهم من حملهم إلى ميافارقين فساروا مع قرواش لما أصعد من بغداد ولم يعلم ثم لقيه أبو الفضل محمد بن عامر الوكيل وعرفه ما عليه ولي العهد ومن معه من إيثار الخروج من بغداد وما هم عليه من تناقض الحال فبعث ابن المحلبان زوجته فأتته بهم سرًا فتركهم عنده ثمانية أشهر وكان يحضر ابن البساسيري وأصحابه ويعمل لهم الدعوات وولي العهد ومن معه مستترون عنده يسمعون ما يقول أولئك فيهم‏.‏

ثم اكترى لهم وسار هو في صحبتهم إلى قريب سنجار ثم حملوا إلى حران وسار مع صاحبها أبي الزمام منيع بن وثاب النميري حين قصد الرحبة وفتح قرقيسيا وعقد لعدة الدين على بنت منيع وانحدروا إلى بغداد‏.‏

ذكر ملك محمود بن شبل الدولة حلب

في هذه السنة في جمادى الآخرة حضر محمود بن شبل الدولة بن صالح بن مرداس الكلابي مدينة حلب وضيق عليها واجتمع مع جمع كثير من العرب فأقام عليها فلم يتسهل له فتحها فرحل عنها ثم عاودها فحصرها فملك المدينة عنوة في جمادى الآخرة بعد أن حصرها وامتنعت القلعة عليه‏.‏

وأرسل من بها إلى المستنصر بالله صاحب مصر ودمشق يستنجدونه فأمر ناصر الدولة أبا محمد الحسين بن الحسن بن حمدان الأمير بدمشق أن يسير بمن عنده من العساكر إلى حلب يمنعها من محمود فسار إلى حلب فلما سمع محمود بقربه منه خرج من حلب ودخلها عسكر ناصر الدولة فنهبوها‏.‏

ثم إن الحرب وقعت بين محمود وناصر الدولة بظاهر حلب واشتد القتال بينهم فانهزم ناصر الدولة وعاد مقهورًا إلى مصر وملك محمود حلب وقتل عمه معز الدولة واستقام أمره بها وهذه الوقعة تعرف بوقعة الفنيدق وهي مشهورة‏.‏

ذكر عدة حوادث


في هذه السنة خلع السلطان طغرلبك على محمود بن الأخرم الخفاجي وردت إليه إمارة بني خفاجة وولاية الكوفة وسقي الفرات وضمن خواص السلطان هناك بأربعة آلاف دينار كل سنة وصرف عنها رجب بن منيع‏.‏

وفيها توفي أبو محمد النسوي صاحب الشرطة ببغداد وقد جاوز ثمانين سنة‏.‏

وفيها سد بنو ورام بثق النهروانات وشرع العميد أبو الفتح في عمارة بثوق الكرخ‏.‏

وفيها في ذي القعدة توفيت خاتون زوجة السلطان طغرلبك بزنجان فوجد عليها وجدًا وفيها ثالث جمادى الآخرة انقض كوكب عظيم القدر عند طلوع الفجر من ناحية المغرب إلى ناحية المشرق فطال لبثه‏.‏

وفيها جمع عطية بن صالح بن مرداس جمعًا وحصر الرحبة وضيق على أهلها فملكها في صفر من هذه السنة‏.‏

وفيها توفيت والدة الخليفة القائم بأمر الله واسمها قطر الندى وقيل بدر الدجى وقيل علم وهي جارية أرمينية‏.‏

وفيها توفي محمد بن الحسين بن محمد بن الحسن أبو علي المعروف بالجازري النهرواني وكان مكثرًا من الرواية الجازري بالجيم وبعد الألف زاي ثم راء‏.‏

وفيها توفي باي أبو منصور الفقيه الجيلي بالباء الموحدة وبعد الألف ياء تحتها نقطتان ومحمد بن عبيد بن أحمد بن محمد أبو عمرو بن أبي الفضل الفقيه المالكي‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة

ذكر وزارة ابن دارست للخليفة

لما عاد الخليفة إلى بغداد استخدم أبا تراب الأثيري في الإنهاء وحضور المواكب ولقبه حاجب الحجاب وكان قد خدمه بالحديث وقرب منه فخاطب الشيخ أبو منصور بن يوسف في وزارة أبي الفتح منصور بن أحمد بن دارست وقال إنه يخدم بغير إقطاع ويحمل مالًا فأجيب إلى ذلك فأحضر من الأهواز إلى بغداد وخلع عليه خلعة الوزارة منتصف ربيع الآخر وجلس في منصبه ومدح الشعراء فممن مدحه وهنأه أبو الحسن الخباز بقصيدة منها‏:‏ أمن الملك بالأمين أبي الفت - ح وصدت عن صفوة الأقذاء دولة أصبحت وأنت ولي الرأي فيها لدولة غراء وهي طويلة‏.‏

وكان ابن دارست في أول أمره تاجرًا للملك أبي كاليجار‏.‏

ذكر موت المعز بن باديس وولاية ابنه تميم

في هذه السنة توفي المعز بن باديس صاحب إفريقية من مرض أصابه وهو ضعف الكبد وكانت مدة ملكه سبعًا وأربعين سنة وكان عمره لما ملك إحدى عشرة سنة وقيل ثماني سنين وستة أشهر‏.‏

وكان رقيق القلب خاشعًا متجنبًا لسفك الدماء إلا في حد حليمًا يتجاوز عن الذنوب العظام حسن الصحبة مع عبيده وأصحابه مكرمًا لأهل العلم كثير العطاء لهم كريمًا وهب مرة ألف دينار للمستنصر الزناتي وكان عنده وقد جاء هذا المال فاستكثره فأمر به فأفرغ بين يديه ثم وهبه له فقيل له‏:‏ لم أمرت بإخراجه من أوعيته قال‏:‏ لئلا يقال لو رآه ام سمحت نفسه به وكان له شعر حسن‏.‏

ولما مات رثاه الشعراء فمنهم أبو الحسن بن رشيق فقال‏:‏ لكل حي وإن طال المدى هلك لا عز مملكة يبقى ولا ملك ولى المعز على أعقابه فرمى أو كاد ينهد من أركانه الفلك مضى فقيدًا وأبقى في خزائنه هام الملوك وما أدراك ما ملكوا ما كان إلا حسامًا سله قدر على الذين بغوا في الأرض وانهمكوا كأنه لم يخض للموت بحر وغىً خضر البحار إذا قيست به برك ولم يجد بقناطير مقنطرة قد أرخت باسمه إبريزها السكك روح المعز وروح الشمس قد قبضا فانظر بأي ضياء يصعد الفلك ولما توفي ملك بعده ابنه تميم وكان مولد تميم بالمنصورية التي هي مقره منتصف رجب سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة وولاه المهدية في صفر سنة خمس وأربعين وأقام بها إلى أن وافاه أبوه المعز لما انتزح عن القيروان من العرب وقام بخدمة أبيه وأظهر من طاعته وبره ما بان به كذب ما كان ينسب إليه‏.‏

ولما استبد بالملك بعد أبيه سلك طريقه في حسن السيرة ومحبة أهل العلم إلا أنه كان أصحاب البلاد قد طمعوا بسبب العرب وزالت الهيبة والطاعة عنهم في أيام المعز فلما مات ازداد طمعهم وأظهر كثير منهم الخلاف فممن أظهر الخلاف القائد حمو بن مليك صاحب سفاقس واستعان بالعرب وقصد المهدية ليحاصرها فخرج إليه تميم وصافه فاقتتلوا فانهزم حموا وأصحابه وكثر القتل فيهم ومضى حمو ونجا بنفسه وتفرقت خيله ورجاله وكان ذلك سنة خمس وخمسين‏.‏

ذكر وفاة قريش صاحب الموصل وإمارة ابنه شرفة الدولة

في هذه السنة توفي قريش بن بدران صاحب الموصل ونصيبين أصابه خروج الدم من فيه وأنفه وعينيه وأذنيه فحمله ابنه شرف الدولة إلى نصيبين حتى حفظ خزانته بها وتوفي هناك‏.‏

وسمع فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير حاله فسارا من دارا إلى نصيبين وجمع بني عقيل على أن يؤمروا ابنه أبا المكارم مسلم بن قريش عليهم وكان القائم بأمره جابر بن ناشب فزوجه فخر الدولة بأخت مسلم وزوج مسلمًا بابنة نصر بن منصور‏.‏

ذكر وفاة نصر الدولة بن مروان

في هذه السنة توفي نصر الدولة أحمد بن مروان الكردي صاحب ديار بكر ولقبه القادر بالله نصر الدولة وكان عمره نيفًا وثمانين سنة وإمارته اثنتين وخمسين سنة واستولى على الأمور ببلاده استيلاء تامًا وعمر الثغور وضبطها وتنعم تنعمًا لم يسمع بمثله عن أحد من أهل زمانه‏.‏

وملك من الجواري المغنيات ما اشترى بعضهن بخمسة آلاف دينار وأكثر من ذلك وملك خمسمائة سرية سوى توابعهن وخمسمائة خادم‏.‏

وكان في مجلسه من الآلات ما تزيد قيمته على مائتي ألف دينار وتزوج من بنات الملوك جملة وأرسل طباخين إلى الديار المصرية وغرم على إرسالهم جملة وافرة حتى تعلموا الطبخ من هناك‏.‏

وأرسل إلى السلطان طغرلبك هدايا عظيمة من جملتها الجبل الياقوت الذي كان لبني بويه اشتراه من المكل العزيز أبي منصور بن جلال الدولة وأرسل معه مائة ألف دينار سوى ذلك‏.‏

ووزر له أبو القاسم بن المغربي وفخر الدولة بن جهير ورخصت الأسعار في أيامه وتظاهر الناس بالأموال ووفد إليه الشعراء وأقام عنده العلماء والزهاد‏.‏

وبلغه أن الطيور في الشتاء تخرج من الجبال إلى القرى فتصاد فأمر أن يطرح لها الحب من الأهراء التي له فكانت في ضيافته طول عمره‏.‏

ولما مات اتفق وزيره فخر الدولة بن جهير وابنه نصر فرتب نصرًا في الملك بعد أبيه وجرى بينه وبين أخيه سعيد حروب شديدة كان الظفر في آخرها لنصر فاستقر في الإمارة بميافارقين وغيرها وملك أخوه سعيد آمد‏.‏

ذكر عدة حوادث

في رجب خلع على الكامل أبي الفوارس طراد بن محمد الزينبي وقلد نقابة النقباء ولقب الكامل ذا الشرفين‏.‏

وفيها تولي شمس الدين أسامة بن أبي عبد الله بن علي نقابة العلويين ببغداد ولقب المرتضى‏.‏

وفيها في جمادى الأولى انكسفت الشمس جميعها فظهرت الكواكب وأظلمت الدنيا وسقطت الطيور الطائرة‏.‏

قوض خيامك عن أرض تضام بها وجانب الذل إن الذل مجتنب وارحل إذا كان في الأوطان منقصة فالمندل الرطب في أوطانه حطب وفيها توفي أبو القاسم علي بن محمد بن يحيى الشمشاطي بدمشق وكان عالمًا بالهندسة والرياضيات من علوم الفلاسفة وإليه ينسب الرباط الذي عند جامع دمشق‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وخمسين وأربعمائة

ذكر نكاح السلطان طغرلبك ابنة الخليفة

في هذه السنة عقد للسلطان طغرلبك على ابنة الخليفة القائم بأمر الله وكانت الخطبة تقدمت سنة ثلاث وخمسين مع أبي سعد قاضي الري فانزعج الخليفة من ذلك وأرسل في الجواب أبا محمد التميمي وأمره أن يستعفي فإن أعفي وإلا تمم الأمر على أن يحمل السلطان ثلاثمائة ألف دينار ويسلم واسطًا وأعمالها‏.‏

فلما وصل إلى السلطان ذكر لعميد الملك الوزير ما ورد فيه من الاستعفاء

فقال‏:‏ لا يحسن أن يرد الس وقد سأل وتضرع ولا يجوز مقابلته أيضًا بطلب الأموال والبلاد فهو يفعل أضعاف ما طلب منه‏.‏

فقاتل التميمي‏:‏ الأمر لك ومهما فعلته فهو الصواب فبنى الوزير الأمر على الإجابة وطالع به الس فسر به وجمع الناس وعرفهم أن همته سمت به إلى الاتصال بهذه الجهة النبوية وبلغ من ذلك ما لم يبلغه سواه من الملوك‏.‏

وتقدم إلى عميد الملك الوزير أن يسير ومعه أرسلان خاتون زوجة الخليفة وأن يصحبها مائة ألف دينار برسم الحمل وما شاكلها من الجواهر وغيرها ووجه معه فرامرز بن كاكويه وغيره من وجوه الأمراء وأعيان الري‏.‏

فلما وصل إلى الإمام القائم بأمر الله وأوصل خاتون زوجة الخليفة إلى دارها وأنهى حضوره وحضور من معه ذكر حال الوصلة فامتنع الخليفة من الإجابة إليها وقال‏:‏ إن أعفينا وإلا خرجنا من بغداد‏.‏

فقال عميد الملك‏:‏ كان الواجب الامتناع من غير اقتراح وعند الإجابة إلى ما طلب فالامتناع سعي على دمي وأخرج خيامه إلى النهروان فاستوقفه قاضي القضاة والشيخ أبو منصور بن يوسف وأنهيا إلى الخليفة عاقبة انصرافه على هذا الوجه وصنع له ابن دارست وزير الخليفة دعوة فحضر عنده فرأى على مسجد مكتوبًا‏:‏ معاوية خال علي فأمر بحكه‏.‏

وكتب من الديوان إلى خمارتكين الطغرائي كتابًا يتضمن الشكوى من عميد الملك فورد الجواب عليه بالرفق وكتب الخليفة إلى عميد الملك‏:‏ نحن نرد الأمر إلى رأيك ونعول على أمانتك

فحضر يومًا عند الخليفة ومعه جماعة من الأمراء والحجاب والقضاة والشهود فأخذ المجلس لنفسه ولم يتكلم سواه وقال للخليفة‏:‏ أسأل مولانا أمير المؤمنين التطول بذكر ما شرف به العبد المخلص شاهنشاه ركن الدين فيما رغب فيه ليعرفه الجماعة‏.‏

فغالطه وقال‏:‏ قد سطر في المعنى ما فيه كفاية‏.‏

فانصرف عميد الملك مغظًا ورحل في السادس والعشرين من جمادى الآخرة وأخذ المال معه إلى همذان وعرف السلطان أن السبب في اتفاق الحال من خمارتكين الطغرائي‏.‏

فتغير السلطان عليه فهرب في ستة غلمان‏.‏

وكتب السلطان إلى قاضي القضاة والشيخ أبي منصور بن يوسف يعتب ويقول‏:‏ هذا جزاء من الخليفة الذي قتلت أخي في خدمته وأنفقت أموالي في نصرته وأهلكت خواصي في محبته‏.‏

وأطال العتاب وعاد الجواب إليه بالاعتذار‏.‏

وأما الطغرائي فإنه أدرك ببروجرد فقال أولاد إبراهيم ينال للسلطان‏:‏ إن هذا قتل أبانا ونسأل أن نمكن من قتله وأعانهم عميد الملك فأذن لهم في قتله فساروا إلى طريقه وقتلوه وجعل مكانه ساوتكين وبسط الكندري لسانه‏.‏

وطلب طغرلبك ابنة أخيه زوجة الخليفة لتعاد إليه وجرى ما كاد يفضي إلى الفساد الكلي‏.‏

فلما رأى الخليفة شده الأمر أذن في ذلك وكتب الوكالة باسم عميد الملك وسيرت الكتب مع أبي الغنائم بن المحلبان وكان العقد في شعبان سنة أربع وخمسين بظاهر تبريز وهذا ما لم يجر للخلفاء مثله فإن بني بويه مع تحكمهم ومخالفتهم لعقائد الخلفاء لم يطمعوا في مثل هذا ولا ساموهم فعله‏.‏

وحمل السلطان أموالًا كثيرة وجواهر نفيسة للخليفة ولولي العهد وولجهة المطلوبة ولوالدتها وغيرهم وجعل بعقوبا وما كان بالعراق للخاتون زوجة السلطان التي توفيت للسيدة ابنة الخليفة

ذكر عزل ابن دارست ووزارة ابن جهير

في هذه السنة عزل أبو الفتح محمد بن منصور بن دارست من وزراة الخليفة‏.‏

وسببه أنه وصل معه إنسان يهودي يقال له ابن علان فضمن أعمال الوكلاء التي لخاص الخليفة بستة آلاف كر غلة ومائة ألف دينار فصح منها ألفا كر وثلاون ألف دينار وانكسر الباقي فظهر عجز ابن دارست ووهنه فعزل وعاد إلى الأهواز فتوفي بها سنة سبع وستين‏.‏

وكان فخر الدولة أبو نصر بن جهير وزير نصر الدولة بن مروان قد أرسل يخطب الوزارة وبذل فيها بذولًا كثيرة فأجيب إليها وأرسل كامل طراد الزينبي إلى ميافارقين كأنه رسول فلما عاد سار معه ابن جهير كالمودع له فتمم السير معه‏.‏

وخرج ابن مروان في أثره فلم يدركه فلما وصل إلى بغداد خرج الناس إلى استقباله وخلع عليه خلع الوزارة يوم عرفة ولقب فخر الدولة واستقر في الوزارة ومدحه وهنأه ابن الفضل وغيره من الشعراء‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة عم الرخص جميع الأصقاع فبيع بالبصرة ألف رطل من التمر بثمانية قراريط‏.‏

وفيها توفي القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي بمصر‏.‏

وفيها سار السلطان طغرلبك إلى قلعة الطرم من بلاد الديلم وقرر على مسافر ملكها مائة ألف دينار وألف ثوب‏.‏

وفيها مات أبو علوان ثمالل بن صالح بن مرداس الملقب معز الدولة بحلب وقام أخوه عطية مقامه‏.‏

وتوفي الحسن بن علي بن محمد أبو محمد الجوهري ومولده سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وكان من الأئمة المكثرين من سماع الحديث وروايته وهو آخر من حدث عن أبي بكر القطيعي والأبهري وابن شاذان وغيرهم‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وخمسين وأربعمائة

ذكر ورود السلطان بغداد ودخوله بابنة الخليفة

في هذه السنة في المحرم توجه السلطان طغرلبك من أرمينية إلى بغداد وأراد الخليفة أن يستقبله فاستعفاه من ذلك وخرج الوزير ابن جهير فاستقبله‏.‏

وكان مع السلطان من الأمراء‏:‏ أبو علي ابن الملك أبي كاليجار وسرخاب بن بدر وهزارسب وأبو منصور فرامرز بن كاكويه فنزل عسكره في الجانب الغربي فزاد بهم أذى‏.‏

ووصل عميد الملك إلى الخليفة وطالب بالجهة وبات بالدار فقيل له‏:‏ خطك موجود بالشرط وإن المقصود بهذه الوصلة الشرف لا الإجتماع وإنه إن كانت مشاهدة فتكون في دار الخلافة فقال السلطان‏:‏ نفعل هذا ولكن نفرد له من الدور والمساكن ما يكفيه ومعه خواصه وحجابه ومماليكه فإنه لا يمكنه مفارقتهم‏.‏

فحينئذ نقلت إلى دار المملكة في منتصف صفر فجلست على سرير ملبس بالذهب ودخل السلطان إليها وقبل الأرض وخدمها ولم تكشف الخمار عن وجهها ولا قامت هي له وحمل لها شيئاً كثيراً من الجواهر وغيرها وبقي كذلك يحضر كل يوم يخدم وينصرف‏.‏

وخلع على عميد الملك وعمل السماط عدة أيام وخلع على جميع الأمراء وظهر عليه سرور عظيم وعقد ضمان بغداد على أبي سعيد القايني بمائة وخمسين ألف دينار فأعاد ما كان أطلقه رئيس العراقين من المواريث والمكوس وقبض على الأعرابي سعد ضامن البصرة وعقد ضمان واسط على أبي جعفر بن صقالب بمائتي ألف دينار‏.‏

ذكر وفاة السلطان طغرلبك

في هذه السنة سار السلطان من بغداد في ربيع الأول إلى بلد الجبل فوصل إلى الري واستصحب معه أرسلان خاتون ابنة أخيه زوجة الخليفة لأنها شكت اطراح الخليفة لها فأخذها معه فمرض وتوفي يوم الجمعة ثامن شهر رمضان وكان عمره سبعين سنة تقريباً وكان عقيماً لم يلد ولداً‏.‏

وكان وزيره الكندري على سبعين فرسخاً فأتاه الخبر فسار ووصل إليه في يومين وهو بعد لم حكى عنه الكندري أنه قال‏:‏ رأيت وأنا بخراسان في المنام كأنني رفعت إلى السماء وأنا في ضباب لا أبصر معه شيئاً غير أني أشم رائحة طيبة وأنني أنادى‏:‏ إنك قريب من الباري جلت قدرته فاسأل حاجتك لتقضى فقلت في نفسي‏:‏ أسأل طول العمر فقيل‏:‏ لك سبعون سنة فقلت‏:‏ يا رب ما يكفيني فقيل‏:‏ لك سبعون سنة فقلت‏:‏ يا رب لا يكفيني فقيل‏:‏ لك سبعون سنة‏.‏

فلما مات حسب عميد الملك عمره على التقريب فكان سبعين سنة‏.‏

وكانت مملكته بحضرة الخلافة سبع سنين وأحد عشر شهراً واثني عشر يوماً‏.‏

وأما الأحوال بالعراق بعد وفاته فإنه كتب من ديوان الخلافة إلى شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل وإلى نور الدولة دبيس بن مزيد وإلى هزارسب وإلى بني ورام وإلى بدر بن المهلهل بالاستدعاء إلى بغداد وأرسل لشرف الدولة تشريف وعمل أبو سعد القايني ضامن بغداد سوراً على قصر عيسى وجمع الغلات‏.‏

فانحدر إبراهيم بن شرف الدولة إلى أوانا وتسلم أصحابه الأنبار وانتشرت البادية في البلاد وقطعوا الطرقات‏.‏

وقدم إلى بغداد دبيس بن مزيد وخرج الوزير ابن جهير لاستقباله وقدم أيضاً ورام وتوفي ببغداد أبو الفتح بن ورام مقدم الأكراد الجاوانية فحمل إلى جرجرايا وفارق شرف الدولة مسلم بغداد ونهب النواحي فسار نور الدولة والأكراد وبنو خفاجة إلى قتاله‏.‏

ثم أرسل إليه من ديوان الخلافة رسول معه خلعة له وكوتب بالرضاء عنه وانحدر إليه نور الدولة دبيس فعمل له شرف الدولة سماطاً كثيراً وكان في الجماعة الأشرف أبو الحسين بن فخر الملك أبي غالب بن خلف كان قصد شرف الدولة مستجدياً فمضغ لقمة فمات من ساعته‏.‏

وحكى عنه بعض من صحبه أنه سمعه ذلك اليوم يقول‏:‏ اللهم اقبضني فقد ضجرت من الإضافة‏!‏ فلما توفي ورفع من السماط خاف شرف الدولة أن يظن من حضر أنه تناول طعاماً مسموماً قصد به غيره فقال‏:‏ يا معشر العرب لا برح منكم أحد ونهض وجلس مكان ابن فخر الملك المتوفي وجعل يأكل من الطعام الذي بين يديه فاستحسن الجماعة فعله وعادوا عنه وخلع على دبيس وولده منصور وعاد إلى حلته‏.‏

ولما رأى الناس ببغداد انتشار الأعراب في البلاد ونهبها حملوا السلاح لقتالهم وكان ذلك سبباً لكثرة العيارين وانتشار المفسدين‏.‏

ذكر شيء من سيرته

كان عاقلاً حليماً من أشد الناس احتمالاً وأكثرهم كتماناً لسره ظفر بملطفات كتبها بعض خواصه إلى الملك أبي كاليجار فلم يطلعه على ذلك ولا تغير عليه حتى أظهر بعد مدة طويلة وحكى عنه أقضى القضاة الماوردي قال‏:‏ لما أرسلني القائم بأمر الله إليه سنة ثلاث وثلاثين كتبت كتاباً إلى بغداد أذكر فيها سيرته وخراب بلاده وأطعن عليه بكل وجه فوقع الكتاب من غلامي فحمل إليه فوقف عليه وكتمه ولم يحدثني فيه بشيء ولا تغير عما كان عليه من إكرامي‏.‏

وكان رحمه الله يحافظ على الصلوات ويصوم الاثنين والخميس وكان لبسه الثياب البياض وكان ظلوماً غشوماً قاسياً وكان عسكره يغصبون الناس أموالهم وأيديهم مطلقة في ذلك نهاراً وليلاً‏.‏

وكان كريماً فمن كرمه أن أخاه إبراهيم ينال أسر من الروم لما غزاهم بعض ملوكهم فبذل في نفسه أربعمائة ألف دينار فلم يقبل إبراهيم منه وحمله إلى طغرلبك فأرسل ملك الروم إلى نصر الدولة بن مروان حتى خاطب طغرلبك في فكاكه فلما سمع طغرلبك رسالته أرسل الرومي إلى ابن مروان بغير فداء وسير معه رجلاً علوياً فأنفذ ملك الروم إلى طغرلبك ما لم يحمل في الزمان المتقدم وهو ألف ثوب ديباج وخمسمائة ثوب أصناف وخمسمائة رأس من الكراع إلى غير ذلك وأنفذ مائتي ألف دينار ومائة لبنة فضة وثلاثمائة شهري وثلاثمائة حمار مصرية وألف عنز بيض الشعور سود العيون والقرون وأنفذ إلى ابن مروان عشرة أمناء مسكاً وعمر ملك الروم الجامع الذي بناه مسلمة بن عبد الملك بالقسطنطينية وعمر منارته وعلق فيه القناديل وجعل في محرابه قوساً ونشابة وأشاع المهادنة‏.‏

ذكر ملك السلطان ألب أرسلان

لما مات السلطان طغرلبك أجلس عميد الملك الكندري في السلطنة سليمان بن داود جغري بك أخي السلطان طغرلبك وكان طغرلبك قد عهد إليه بالملك وكانت والدة سليمان عند طغرلبك فلما خطب له بالسلطنة اختلف الأمراء فمضى باغي سيان وأردم إلى قزوين وخطبا لعضد الدولة ألب أرسلان محمد بن داود جغري بك وهو حينئذ صاحب خراسان ومعه نظام الملك وزيره والناس مائلون إليه‏.‏

فلما رأى عميد الملك الكندري انعكاس الحال عليه أمر بالخطبة بالري للسلطان ألب أرسلان وبعده لأخيه سليمان‏.‏

ذكر خروج حمو عن طاعة تميم بن المعز بإفريقية

في هذه السنة خالف حمو بن مليك صاحب مدينة سفاقس بإفريقية على الأمير تميم بن المعز بن باديس فجمع أصحابه واستعان بالعرب وسار إلى المهدية فسمع تميم الخبر فسار إليه بعساكر ومعه أيضاً طائفة من العرب من زغبة ورياح ووصل حمو إلى سلقطة والتقى الفريقان بها وكانت بينهما حرب شديدة فانهزم حمو ومن معه وأخذتهم السيوف فقتل أكثر حماته وأصحابه ونجا بنفسه تفرقت رجاله وعاد تميم مظفراً منصوراً‏.‏

ثم قصد بعد هذه الحادثة مدينة سوسة وكان أهلها قد خالفوا عليه فملكها وعفا عنهم وحقن دماءهم‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في المحرم قبض بمصر على الوزير أبي الفرج بن المغربي‏.‏

وفيها دخل الصليحي صاحب اليمن إلى مكة مالكاً لها فأحسن السيرة فيها وجلب إليها الأقوات ورفع جور من تقدم وظهرت منه أفعال جميلة‏.‏

وفيها في ربيع الآخر انقض كوكب عظيم له ضوء كثير‏.‏

وفيها في شعبان كان بالشام زلزلة عظيمة خرب منها كثير من البلاد وانهدم سور طرابلس‏.‏

وفيها ملك أمير الجيوش بدر دمشق للمستنصر صاحب مصر فوصل إليها في الثالث والعشرين من ربيع الآخر وأقام بها واختلف هو والجند فثاروا به ووافقهم العامة فضعف وفيها توفي سعيد بن نصر الدولة بن مروان صاحب آمد من ديار بكر وزهير بن الحسين بن علي أبو نصر الجذامي الفقيه الشافعي تفقه على أبي حامد الأسفراييني وسمع الحديث الكثير ورواه وكان موته بسرخس‏.‏

ثم دخلت سنة ست وخمسين وأربعمائة

ذكر القبض على عميد الملك وقتله

في هذه السنة قبض السلطان ألب أرسلان على الوزير عميد الملك أبي نصر منصور بن محمد الكندري وزير طغرلبك‏.‏

وسبب ذلك أن عميد الملك قصد خدمة نظام الملك وزير ألب أرسلان وقدم بين يديه خمسمائة دينار واعتذر وانصرف من عنده فسار أكثر الناس معه فخوف السلطان من غائلة ذلك فقبض عليه وأنفذه إلى مرو الروذ وأتت عليه سنة في الاعتقال ثم نفذ إليه غلامين فدخلا عليه وهو محموم فقالا له‏:‏ تب مما أنت عليه ففعل ودخل فودع أهله وخرج إلى مسجد هناك فصلى ركعتين وأراد الغلامان خنقه فقال‏:‏ لست بلص‏!‏ وخرق خرقة من طرف كمه وعصب عينيه فضربوه بالسيف وكان قتله في ذي الحجة ولف في قميص دبيقي من ملابس الخليفة وخرقة كانت البردة التي عند الخلفاء فيها وحملت جثته إلى كندر فدفن عند أبيه وكان عمره يوم قتل نيفاً وأربعين سنة‏.‏

وكان سبب اتصاله بالسلطان طغرلبك أن السلطان لما ورد نيسابور طلب رجلاً يكتب له ويكون فصيحاً بالعربية فدل عليه الموفق والد أبي سهل وأعطته السعادة وكان فصيحاً فاضلاً وانتشر من شعره ما قاله في غلام تركي صغير السن كان واقفاً على رأسه يقطع بالسكين قصبة فقال عميد الملك فيه‏:‏ أنا مشغول بحبه وهو مشغول بلعبه لو أراد الله خيراً وصلاحاً لمحبه نقلت رقة خديه إلى قسوة قلبه صانه الله فما أك - ثر إعجابي بعجبه ومن شعره‏:‏ إن كان بالناس ضيق عن مناقشتي فالموت قد وسع الدنيا على الناس مضيت والشامت المغبون يتبعني كل لكأس المنايا شارب حاسي وقال أبو الحسن الباخرزي يخاطب ألب أرسلان عند قتل الكندري‏:‏

قضى كل مولى منكما حق عبده فخوله الدنيا وخولته العقبى وكان عميد الملك خصياً قد خصاه طغرلبك لأنه أرسله يخطب عليه امرأة ليتزوجها فتزوجها هو وعصى عليه فظفر به وخصاه وأقره على خدمته‏.‏

وقيل بل أعداؤه أشاعوا عنه أنه تزوجها فخصى نفسه ليخلص من سياسة السلطنة فقال فيه علي بن الحسن الباخرزي‏:‏ قالوا‏:‏ محا السلطان عنه بعزة سمة الفحول وكان قرماً صائلا قلت‏:‏ اسكتوا فالآن زاد فحولة لما اغتدى عن أنثييه عاطلا فالفحل يأنف أن يسمى بعضه أنثى لذلك جذه مستأصلا يعني بالأنثى واحدة الأنثيين‏.‏

وكان شديد التعصب على الشافعية كثير الوقعة في الشافعي رضي الله عنه بلغ تعصبه أنه خاطب السلطان في لعن الرافضة على منابر خراسان فأذن في ذلك فأمر بلعنهم وأضاف إليهم الأشعرية فأنف من ذلك أئمة خراسان منهم‏:‏ الإمام أبو القاسم القشيري والإمام أبو المعالي الجويني وغيرهما ففارقوا خراسان وأقام إمام الحرمين بمكة أربع سنين إلى أن انقضت دولته يدرس ويفتي فلهذا لقب إمام الحرمين فلما جاءت الدولة النطامية أحضر من انتزح منهم وأكرمهم وأحسن إليهم وقيل إنه تاب من الوقيعة في الشافعي فإن صح فقد أفلح وإلا فعلى نفسها براقش تجني‏.‏

ومن العجب أن ذكره دفن بخوارزم لما خصي ودمه مسفوح بمرو وجسده مدفون بكندر ورأسه ما عدا قحفه مدفون بنيسابور ونقل قحفه إلى كرمان لأن نظام الملك كان هناك فاعتبروا يا أولي الأبصار‏.‏

ولما قرب للقتل قال للقاصد إليه‏:‏ قل لنظام الملك‏:‏ بئس ما عودت الأتراك قتل الوزراء وأصحاب الديوان ومن حفر قليباً وقع فيه‏.‏

ولم يخلف عميد الملك غير بنت‏.‏

ذكر ملك ألب أرسلان ختلان وهراة وصغانيان

لما توفي طغرلبك وملك ألب أرسلان عصى عليه أمير ختلان بقلعته ومنع الخراج فقصده السلطان فرأى الحصن منيعاً على شاهق فأقام عليه وقاتله فلم يصل منه إلى مراده‏.‏

ففي بعض الأيام باشر ألب أرسلان القتال بنفسه وترجل وصعد في الجبل فتبعه الخلق وتقدموا عليه في الموقف وألحوا في الزحف والقتال وكان صاحب القلعة على شرفة من سورها يحرض الناس على القتال فأتته نشابة من العسكر فقتلته وتسلم ألب أرسلان القلعة وكان عمه فخر الملك بيغو بن ميكائيل في هراة فعصى أيضاً عليه وطمع في الملك لنفسه فسار إليه ألب أرسلان في العساكر العظيمة فحصره وضيق عليه وأدام القتال ليلاً ونهاراً فتسلم المدينة وخرج عمه إليه فأبقى عليه وأكرمه وأحسن صحبته‏.‏

وسار من هناك إلى صغانيان وأميرها اسمه موسى وكان قد عصى عليه فلما قاربه ألب أرسلان صعد موسى إلى قلعة على رأس جبل شاهق ومعه من الرجال الكماة جماعة كثيرة فوصل السلطان إليه وباشر الحرب لوقته فلم ينتصف النهار حتى صعد العسكر الجبل وملكوا القلعة قهراً وأخذ موسى أسيراً فأمر بقتله فبذل في نفسه أموالاً كثيرة فقال السلطان‏:‏ ليس هذا أوان تجارة واستولى على تلك الولاية بأسرها وعاد إلى مرو ثم منها إلى نيسابور‏.‏ ‏ ‏   ‏