المجلد الثامن - ذكر ولاية سعد الدولة كوهرائين شحنكية بغداد

ثم دخلت سنة أربع وستين وأربعمائة

في ربيع الأول من هذه السنة ورد إيتكين السليماني شحنة بغداد من عند السلطان إلى بغداد فقصد دار الخلافة وسأل العفو عنه وأقام أيامًا فلم يجب إلى ذلك‏.‏

وكان سبب غضب الخليفة عليه أنه كان قد استخلف ابنه عند مسيره إلى السلطان وجعله شحنة ببغداد فقتل أحد المماليك الدارية فأنفذ قميصه من الديوان إلى السلطان ووقع الخطاب في عزله‏.‏

وكان نظام الملك يعنى بالسليماني فأضاف إلى إقطاعه تكريت فكوتب واليها من ديوان الخلافة بالتوقف عن تسليمها‏.‏

فلما رأى نظام الملك والسلطان إصرار الخليفة على الاستقالة من ولايته شحنكية بغداد سير سعد الدولة كوهرائين إلى بغداد شحنة وعزل السليماني عنها اتباعًا لما أمر به الخليفة القائم بأمر الله ولما ورد سعد الدولة خرج الناس لتلقيه وجلس له الخليفة‏.‏

ذكر تزويج ولي العهد بابنة السلطان

في هذه السنة أرسل الإمام القائم بأمر الله عميد الدولة بن جهير ومعه الخلع للسلطان ولولده ملكشاه وكان السلطان قد أرسل يطلب من الخليفة أن يأذن في أن يجعل ولده ملكشاه ولي عهده فأذن وسيرت له الخلع مع عميد الدولة وأمر عميد الدولة أن يخطب ابنة السلطان ألب أرسلان من سفري خاتون لولي العهد المقتدي بأمر الله فلما حضر عند السلطان خطب ابنته فأجيب إلى ذلك‏.‏

وعقد النكاح بظاهر نيسابور وكان عميد الدولة الوكيل في قبول النكاح ونظام الملك الوكيل من جهة السلطان في العقد وكان النثار جواهر وعاد عميد الدولة من عند السلطان إلى ملكشاه وكان ببلاد فارس فلقيه بأصبهان فأفاض عليه الخلع فلبسها وسار إلى والده وعاد عميد الدولة إلى بغداد فدخلها في ذي الحجة‏.‏

في هذه السنة في رجب توفي القاضي أبو طالب بن عمار قاضي طرابلس وكان قد استولى عليها واستبد بالأمر فيها فلما توفي قام مكانه ابن أخيه جلال الملك أبو الحسن بن عمار فضبط البلد أحسن ضبط ولم يظهر لفقد عمه أثر لكفايته‏.‏

ذكر ملك السلطان ألب أرسلان قلعة فضلون بفارس

في هذه السنة سير السلطان ألب أرسلان وزيره نظام الملك في عسكر إلى بلاد فارس وكان بها حصن من أمنع الحصون والمعاقل وفيه صاحبه فضلون وهو لا يعطي الطاعة فنازله وحصره ودعاه إلى طاعة السلطان فامتنع فقاتله فلم يبلغ بقتاله غرضًا لعلو الحصن وارتفاعه فلم يطل مقامهم عليه حتى نادى أهل القلعة بطلب الأمان ليسلموا الحصن إليه فعجب الناس من ذلك‏.‏

وكان السبب فيه أن جميع الآبار التي بالقلعة غارت مياهها في ليلة واحدة فقادتهم ضرورة العطش إلى التسليم فلما طلبوا الأمان أمنهم نظام الملك وتسلم الحصن والتجأ فضلون إلى قلة القلعة وهي أعلى موضع فيها وفيه بناء مرتفع فاحتمى فيها فسير نظام الملك طائفة من العسكر إلى الموضع الذي فيه أهل فضلون وأقاربه ليحملوهم إليه وينهبوا مالهم فسمع فضلون

الخبر ففارق موضعه مستخفيًا فيمن عنده من الجند وسار ليمنع عن أهله فاستقبلته طلائع نظام الملك فخافهم فتفرق من معه واختفى في نبات الأرض فوقع فيه بعض العسكر فأخذه أسيرًا وحمله إلى نظام الملك فأخذه وسار به إلى السلطان فأمنه وأطلقه‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة توفي القاضي أبو الحسين محمد بن أحمد بن عبد الصمد نب المهتدي بالله الخطيب بجامع المنصور وكان قد أضر ومولده سنة أربع وثمانين وثلاثمائة وكان إليه قضاء واسط وخليفته عليها أبو محمد السمال‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وستين وأربعمائة

ذكر قتل السلطان ألب أرسلان

في أول هذه السنة قصد السلطان ألب أرسلان واسمه محمد وإنما غلب عليه ألب أرسلان ما وراء النهر وصاحبه شمس الملك تكين فعقد على جيحون جسرًا وعبر عليه في نيف وعشرين يومًا وعسكره يزيد على مائتي ألف فارس فأتاه أصحابه بمستحفظ قلعة يعرف بيوسف الخوارزمي في سادس شهر ربيع الأول وحمل إلى قرب سريره مع غلامين فتقدم أن تضرب له أربعة أوتاد وتشد أطرافه إليها فقال له يوسف‏:‏ يا مخنث‏!‏ مثلي يقتل هذه القتلة فغضب السلطان ألب أرسلان وأخذ القوس والنشاب وقال للغلامين‏:‏ خلياه‏!‏ ورماه الس بسهم فأخطأه ولم يكن يخطيء سهمه فوثب يوسف يريده والسلطان على سدة فلما رأى يوسف يقصده قام عن السدة ونزل عنها فعثر فوقع على وجهه فبرك عليه يوسف وضربه بسكين كانت معه في خاصرته وكان سعد الدولة واقفًا فجرحه يوسف أيضًا جراحات ونهض الس فدخل إلى خيمة أخرى وضرب بعض الفراشين يوسف بمرزبة على رأسه فقتله وقطعه الأتراك‏.‏

وكان أهل سمرقند لما بلغهم عبور السلطان النهر وما فعل عسكره بتلك البلاد لا سيما بخارى اجتمعوا وختموا ختمات وسألوا الله أن يكفيهم أمره فاستجاب لهم‏.‏

ولما جرح السلطان قال‏:‏ ما من وجه قصدته وعدو أردته إلا استعنت بالله عليه ولما كان أمس صعدت على تل فارتجت الأرض تحتي من عظم الجيش وكثرة العسكر فقلت في نفسي‏:‏ أنا أملك الدنيا وما يقدر أحد علي فعجزني الله تعالى بأضعف خلقه وأنا أستغفر الله تعالى وأستقيله من ذلك الخاطر‏.‏

فتوفي عاشر ربيع الأول من السنة فحمل إلى مرو ودفن عند أبيه‏.‏

ومولده سنة أربع وعشرين وأربعمائة وبلغ من العمر أربعين سنة وشهورًا وقيل كان مولده سنة عشرين وأربعمائة وكانت مدة ملكه منذ خطب له بالسلطنة إلى أن قتل تسع سنين وستة أشهر وأيامًا ولما وصل خبر موته إلى بغداد جلس الوزير فخر الدولة بن جهير للعزاء به في صحن السلام‏.‏

ذكر نسب ألب أرسلان وبعض سيرته

هو ألب أرسلان محمد بن داود بن جغري بك من ميكائيل بن سلجوق وكان كريمًا عادلًا عاقلًا لا يسمع السعايات واتسع ملكه جدًا ودان له العالم وبحق قيل له سلطان العالم‏.‏

وكان رحيم القلب رفيقًا بالفقراء كثير الدعاء بدوام ما أنعم الله به عليه‏.‏

اجتاز يومًا بمرو على فقراء الخرائين فبكى وسأل الله تعالى أن يغنيه من فضله‏.‏

وكان يكثر الصدقة فيتصدق في رمضان بخمسة عشر ألف دينار وكان في ديوانه أسماء خلق كثير من الفقراء في جميع ممالكه عليهم الإدرارات والصلات ولم يكن في جميع بلاده جناية ولا مصادرة قد قنع من الرعايا بالخراج الأصلي يؤخذ منهم كل سنة دفعتين رفقًا بهم‏.‏

وكتب إليه بعض السعاة سعاية في نظام الملك وزيره و ذكر ما له في ممالكه من الرسوم والأموال وتركت على مصلاه فأخذها فقرأها ثم سلمها إلى نظام الملك وقال له‏:‏ خذ هذا الكتاب فإن صدقوا في الذي كتبوه فهذب أخلاقك وأصلح أحوالك وإن كذبوا فاغفر لهم زلتهم واشغلهم بمهم يشتغلون به عن السعاية بالناس‏.‏

وهذه حالة لا يذكر عن أحد من الملوك أحسن منها‏.‏

وكان كثيرًا ما يقرأ عليه تواريخ الملوك وآدابهم وأحكام الشريعة ولما اشتهر بين الملوك حسن سيرته ومحافظته على عهوده أذعنوا له بالطاعة والموافقة بعد الامتناع وحضروا عنده من أقاصي ما وراء النهر إلى أقصى الشام‏.‏

وكان شديد العناية بكف الجند عن أموال الرعية بلغه أن بعض خواص مماليكه سلب من بعض الرستاقية إزارًا فأخذ المملوك وصلبه فارتدع الناس عن التعرض إلى مال غيرهم‏.‏

ومناقبه كثيرة لا يليق بهذا الكتاب أكثر من هذا القدر منها‏.‏

وخلف ألب أرسلان من الأولاد‏:‏ ملكشاه وهو صار السلطان بعده وإياز وتكش وبوري برش وتتش وأرسلان أرغو وسارة وعائشة وبنتًا أخرى‏.‏

ذكر ملك السلطان ملكشاه

لما جرح السلطان ألب أرسلان أوصى لابنه ملكشاه وكان معه وأمر أن يحلف له العسكر فحلفوا جميعهم وكان المتولي للأمر في ذلك نظام الملك وأرسل ملكشاه إلى بغداد يطلب الخطبة له فخطب له على منابرها وأوصى ألب أرسلان ابنه ملكشاه أيضًا أن يعطي أخاه قاروت بك بن داود أعمال فارس وكرمان وشيئًا عينه من المال وأن يزوج بزوجته وكان قاروت بك بكرمان وأوصى أن يعطى ابنه إياز بن ألب أرسلان ما كان لأبيه داود وهو خمسمائة ألف دينار وقال‏:‏ كل من لم يرض بما أوصيت له فقاتلوه واستعينوا بما جعلته له على حربه‏.‏

وعاد ملكشاه من بلاد ما وراء النهر فعبر العسكر الذي قطع النهر في نيف وعشرين يومًا في ثلاثة أيام وقام بوزارة ملكشاه نظام الملك وزاد الأجناد في معايشهم سبع مائة ألف دينار وعادوا إلى خراسان وقصدوا نيسابور وراسل ملكشاه جماعة الملوك أصحاب الأطراف يدعوهم إلى الخطبة له والانقياد إليه وأقام إياز أرسلان ببلخ وسار السلطان ملكشاه في عساكره من نيسابور إلى الري‏.‏

ذكر ملك صاحب سمرقند مدينة ترمذ

في هذه السنة في ربيع الآخر ملك التكين صاحب سمرقند مدينة ترمذ‏.‏

وسبب ذلك أنه لما بلغه وفاة ألب أرسلان وعود ابنه ملكشاه عن خراسان طمع في البلاد المجاورة له فقصد ترمذ أول ربيع الآخر وفتحها ونقل ما فيها من ذخائر وغيرها إلى سمرقند‏.‏

وكان إياز بن ألب أرسلان قد سار عن بلخ إلى الجوزجان فخاف أهل بلخ فأرسلوا إلى التكين يطلبون منه الأمان فأمنهم فخطبوا له فيها وورد إليها فنهب عسكره شيئًا من أموالل الناس وعاد إلى ترمذ فثار أوباش بلخ بجماعة من أصحابه فقتلوهم فعاد إليهم وأمر بإحراق المدينة فخرج إليه أعيان أهلها وسألوه الصفح واعتذروا فعفا عنهم لكنه أخذ أموال التجار فغنم شيئًا عظيمًا‏.‏

فلما وصل الخبر إلى إياز عاد من الجوزجان إلى بلخ فوصل غرة جمادى الأولى فأطاعه أهلها وسار عنها إلى ترمذ في عشرة آلاف فارس في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة فلقيهم عسكر التكين فانهزم إياز فغرق من عسكره في جيحون أكثرهم وقتل كثير منهم ولم ينج إلا القليل‏.‏

ذكر قصد صاحب غزنة سكلكند

و في هذه السنة أيضًا في جمادى الأولى وردت طائفة كثيرة من عسكر غزنة إلى سكلكند وبها عثمان عم السلطان ملكشاه ويلقب بأمير الأمراء فأخذوه أسيرًا وعادوا به إلى غزنة مع خزائنه وحشمه فسمع الأمير كمشتين بلكابك وهو من أكابر الأمراء فتبع آثارهم وكان معه أنوشتكين جد ملوك خوارزم في زماننا فنهبوا مدينة سكلكند‏.‏

ذكر الحرب بين السلطان ملكشاه وعمه قاورت بك

لما بلغ قاورت بك وهو بكرمان وفاة أخيه ألب أرسلان سار طالبًا للري يريد الاستيلاء على الممالك فسبقه إليها السلطان ملكشاه ونظام الملك وسارا منها إليه فالتقوا بالقرب من همذان في شعبان وكان العسكر يميلون إلى قاورت بك فحملت ميسرة قاورت على ميمنة ملكشاه فهزموها وحمل شرف الدولة مسلم بن قريش وبهاء الدولة منصور بن دبيس بن مزيد وهما مع ملكشاه ومن معهما من العرب والأكراد على ميمنة قاورت بك فهزموها وتمت الهزيمة على أصحاب قاورت بك ومضى المنهزمون من أصحاب السلطان ملكشاه إلى حلل شرف الدولة وبهاء الدولة فنهبوها غيظًا منهم حيث هزموا عسكر قاورت بك ونهبوا أيضًا ما كان لنقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي رسول الخليفة‏.‏

وجاء رجل سوادي إلى السلطان ملكشاه فأخبره أن عمه قاورت بك في بعض القرى فأرسل من أخذه وأحضره فأمر سعد الدولة كوهرائين فخنقه وأقرر كرمان بيد أولاده وسير إليهم الخلع وأقطع العرب والأكراد إقطاعات كثيرة لما فعلوه في الوقعة‏.‏

وكان السبب في حضور شرف الدولة وبهاء الدولة عند ملكشاه أن السلطان ألب أرسلان كان ساخطًا على شرف الدولة فأرسل الخليفة نقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي إلى شرف الدولة بالموصل فأخذه وسار به إلى ألب أرسلان ليشفع فيه عند الخليفة فلما بلغ الزاب وقف على ملطفات كتبها وزيره أبو جابر بن صقلاب فأخذه شرف الدولة فغرقه وسار مع طراد فبلغهما الخبر بوفاة ألب أرسلان ومسير ابنه ملكشاه فتمما إليه‏.‏

وأما بهاء الدولة فإنه كان قد سار بمال أرسله به أبوه إلى السلطان فحضر الحرب بهذا السبب‏.‏

ذكر تفويض الأمور إلى نظام الملك

ثم إن عسكر ملكشاه بسطوا ومدوا أيديهم في أموال الرعية وقالوا‏:‏ ما يمنع السلطان أن يعطينا الأموال إلا نظام الملك فنال الرعية أذى شديد فذكر ذلك نظام الملك للسلطان فبين له ما في هذا الفعل من الوهن وخراب البلاد وذهاب السياسة فقال له‏:‏ افعل في هذا ما تراه مصلحة‏!‏

فقال السلطان‏:‏ قد رددت الأمور كلها كبيرها وصغيرها إليك فأنت الوالد وحلف له وأقطعه إقطاعًا زائدًا على ما كان من جملته طوس مدينة نظام الملك وخلع عليه ولقبه ألقابًا من جملتها‏:‏ أتابك ومعناه الأمير الوالد فظهر من كفايته وشجاعته وحسن سيرته ما هو مشهور فمن ذلك أن امرأة ضعيفة استغاثت به فوقف يكلمها وتكلمه فدفعها بعض حجابه فأنكر ذلك عليه وقال‏:‏ إنما استخدمتك لأمثال هذه فإن الأمراء والأعيان لا حاجة بهم إليك ثم صرفه عن حجابته‏.‏

ذكر قتل ناصر الدولة بن حمدان

في هذه السنة قتل ناصر الدولة أبو علي الحسن بن حمدان وهو من أولاد ناصر الدولة بن حمدان بمصر وكان قد تقدم فيها تقدمًا عظيمًا‏.‏

ونذكر هاهنا الأسباب الموجبة لقتله فإنها تتبع بعضها بعضًا وفي حروب وتجارب وكان أول ذلك انحلال أمر الخلافة وفساد أحوال المستنصر بالله العلوي صاحبها وسببه أن والدته كانت غالبة على أمره وقد اصطنعت أبا سعيد إبراهيم التستري اليهودي وصار وزيرًا لها فأشار عليها بوزارة أبي نصر الفلاحي فولته الوزارة واتفقا مدة ثم صار الفلاحي ينفرد بالتدبير

فوقع بينهما وحشة فخافه الفلاحي أن يفسد أمره مع أم المستنصر فاصطنع الغلمان الأتراك واستمالهم وزاد في أرزاقهم فلما وثق بهم وضعهم على قتل اليهودي فقتلوه فعظم الأمر على أم المستنصر وأغرت به ولدها فقبض عليه وأرسلت من قتله تلك الليلة وكان بينهما في القتل تسعة أشهر‏.‏

ووزر بعده أبو البركات حسن بن محمد فوضعه على الغلمان الأتراك فأفسد أحوالهم وشرع يشتري العبيد للمستنصر واستكثر منهم فوضعته أم المستنصر ليغري العبيد المجردين بالأتراك فخاف عاقبة ذلك وعلم أنه يورث شرًا وفسادًا فلم يفعل فتنكرت له وعزلته عن الوزارة‏.‏

وولي بعده الوزارة أبو محمد اليازوري من قرية من قرى الرملة اسمها يازور فأمرته أيضًا بذلك فلم يفعل وأصلح الأمور إلى أن قتل‏.‏

ووزر بعده أبو عبد الله الحسين بن البابلي فأمرته بما أمرت به غيره من الوزراء من إغراء العبيد بالأتراك ففعل فتغيرت نياتهم‏.‏

ثم إن المستنصر ركب ليشيع الحجاج فأجرى بعض الأتراك فرسه فوصل به إلى جماعة العبيد المحدثين وكانوا يحيطون بالمستنصر فضربه أحدهم فجرحه فعظم ذلك على الأتراك ونشبت بينهم الحرب ثم اصطلحوا على تسليم الجارح إليهم واستحكمت العداوة فقال الوزير للعبيد‏:‏

وعرف الأتراك ذلك فاجتمعوا إلى مقدميهم وقصدوا ناصر الدولة بن حمدان وهو أكبر قائد بمصر وشكوا إليه واستمالوا المصامدة وكتامة وتعاهدوا وتعاقدوا فقوي الأتراك وضعف العبيد المحدثون فخرجوا من القاهرة إلى الصعيد ليجتمعوا هناك فانضاف إليهم خلق كثير يزيدون على خمسين ألف فارس وراجل فخاف الأتراك وشكوا إلى المستنصر فأعاد الجواب أنه لا علم له بما فعل العبيد وأنه لا حقيقة له فظنوا قوله حيلة عليهم‏.‏

ثم قوي الخبر بقرب العبيد منهم بكثرتهم فأجفل الأتراك وكتامة والمصامدة وكانت عدتهم ستة آلاف فالتقوا بموضع يعرف بكوم الريش واقتتلوا فانهزم الأتراك ومن معهم إلى القاهرة وكان بعضهم قد كمن في خمسمائة فارس فلما انهزم الأتراك خرج الكمين على ساقة العبيد ومن معهم وحملوا عليهم حملة منكرة وضربت البوقات فارتاع العبيد وظنوها مكيدة من المستنصر وأنه ركب في باقي العسكر فانهزموا وعاد عليهم الأتراك وحكموا فيهم السيوف فقتل منهم وغرق نحو أربعين ألفًا وكان يومًا مشهودًا‏.‏

وقويت نفوس الأتراك وعرفوا حسن رأي المستنصر فيهم وتجمعوا وحشدوا فتضاعفت عدتهم وزادت واجباتهم للإنفاق فيهم فخلت الخزائن واضطربت الأمور وتجمع باقي العسكر من الشام وغيره إلى الصعيد فاجتمعوا مع العبيد فصاروا خمسة عشر ألف فارس وراجل وساروا إلى الجيزة فخرج عليهم الأتراك ومن معهم واقتتلوا في الماء عدة أيام ثم عبر الأتراك النيل إليهم مع ناصر الدولة بن حمدان فاقتتلوا فانهزم العبيد إلى الصعيد وعاد ناصر الدولة والأتراك منصورين‏.‏

ثم إن العبيد اجتمعوا بالصعيد في خمسة عشر ألف فارس وراجل فقلق الأتراك لذلك فحضر مقدموهم دار المستنصر لشكوى حالهم فأمرت أم المستنصر من عندها من العبيد بالهجوم على المقدمين والفتك بهم ففعلوا ذلك وسمع ناصر الدولة الخبر فهرب إلى ظاهر البلد واجتمع الأتراك إليه ووقعت الحرب بينهم وبين العبيد ومن تبعهم من مصر والقاهرة وحلف الأمير ناصر الدولة بن حمدان أنه لا ينزل عن فرسه ولا يذوق طعامًا حتى ينفصل الحال بينهم فبقيت الحرب ثلاثة أيام ثم ظفر بهم ناصر الدولة وأكثر القتل فيهم ومن سلم هرب وزالت دولتهم من القاهرة‏.‏

وكان بالإسكندرية جماعة كثيرة من العبيد فلما كانت هذه الحادثة طلبوا الأمان فأمنوا وأخذت منهم الإسكندرية وبقي العبيد الذين بالصعيد‏.‏

فلما خلت الدولة من الأتراك طمعوا في المستنصر وقل ناموسه عندهم وطلبوا الأموال فخلت الخزائن فلم يبق فيها شيء البتة واختل ارتفاع الأعمال وهم يطالبون واعتذر المستنصر بعدم الأموال عنده فطلب ناصر الدولة العروض فأخرجت إليهم وقومت بالثمن البخس وصرفت إلى الجند قيل إن واجب الأتراك كان في الشهر عشرين ألف فصار الآن في الشهر أربعمائة ألف دينار‏.‏

وأما العبيد فإنهم أفسدوا وقطعوا الطريق وأخافوا السبيل فسار إليهم ناصر الدولة في عسكر كثير فمضى العبيد من بين يديه إلى الصعيد الأعلى فأدركهم فقاتلهم وقاتلوه فانهزم ناصر الدولة منهم وعاد إلى الجيزة بمصر واجتمع إليه من سلم من أصحابه وشغبوا على المستنصر واتهموه بتقوية العبيد والميل إليهم‏.‏

ثم جهزوا جيشًا وسيروه إلى طائفة من العبيد بالصعيد وقاتلوهم فقتلت تلك الطائفة من العبيد فوهن الباقون وزالت دولتهم‏.‏

وعظم أمر ناصر الدولة وقويت شوكته وتفرد بالأمر دون الأتراك فامتنعوا من ذلك وعظم عليهم وفسدت نياتهم له فشكوا ذلك إلى الوزير وقالوا‏:‏ كلما خرج من الخليفة مال أخذ أكثره له ولحاشيته ولا يصل إلينا منه إلا القليل‏.‏

فقال الوزير‏:‏ إنما وصل إلى هذا وغيره بكم فلو فارقتموه لم يتم له أمر‏.‏

فاتفق رأيهم على مفارقة ناصر الدولة وإخراجه من مصر فاجتمعوا وشكوا إلى المستنصر وسألوه أن يخرج عنهم ناصر الدولة فأرسل إليه يأمره بالخروج ويتهدده إن لم يفعل فخرج من القاهرة إلى الجيزة ونهبت داره ودور حواشيه وأصحابه‏.‏

فلما كان الليل دخل ناصر الدولة مستخفيًا إلى القائد المعروف بتاج الملوك شاذي فقبل رجله وقال‏:‏ اصطنعني‏!‏ فقال‏:‏ أفعل فحالفه على قتل مقدم من الأتراك اسمه الدكز والوزير الخطير وال ناصر الدولة لشاذي‏:‏ تركب في أصحابك وتسير بين القصرين فإذا أمكنتك الفرصة فيهما فاقتلهما‏.‏

وعاد ناصر الدولة إلى موضعه إلى الجيزة‏.‏

وفعل شاذي ما أمره فركب الدكز إلى القصر فرأى شاذي في جمعه فأنكره وأسرع فدخل القصر ففاته ثم أقبل الوزير في موكبه فقتله شاذي وأرسل إلى ناصر الدولة يأمره بالركوب فركب إلى باب القاهرة فقال الدكز للمستنصر‏:‏ إن لم تركب وإلا هلكت أنت ونحن‏.‏

فركب ولبس سلاحه وتبعه خلق عظيم من العامة والجند واصطفوا للقتال فحمل الأتراك على ناصر الدولة فانهزم وقتل من أصحابه خلق كثير ومضى منهزمًا على وجهه لا يلوي على شيء وتبعه فل أصحابه فوصل إلى بني سنبس فأقام عندهم وصاهرهم فقوي بهم‏.‏

وتجهزت العساكر إليه ليبعدوه فساروا حتى قربوا منه وكانوا ثلاث طوائف فأراد أحد المقدمين أن يفوز بالظفر وحده دون أصحابه فعبر فيمن معه إلى ناصر الدولة وحمل عليه فقاتله فظفر به ناصر الدولة فأخذه أسيرًا وأكثر القتل في أصحابه وعبر العسكر الثاني ولم يشعروا بما جرى على أصحابهم فحمل ناصر الدولة عليهم ورفع رؤوس القتلى على الرماح فوقع الرعب في قلوبهم فانهزموا وقتل أكثرهم وقويت نفس ناصر الدولة‏.‏

وعبر العسكر الثالث فهزمه وأكثر القتل فيهم وأسر مقدمهم وعظم أمره ونهب الريف فأقطعه وقطع الميرة عن مصر برًا وبحرًا فغلت الأسعار بها وكثر الموت بالجوع وامتدت أيدي الجند بالقاهرة إلى النهب والقتل وعظم الوباء حتى إن أهل البيت الواحد كانوا يموتون كلهم في ليلة واحدة‏.‏

واشتد الغلاء حتى حكي أن امرأة أكلت رغيفًا بألف دينار فاستبعد ذلك فقيل‏:‏ إنها باعت عروضًا قيمتها ألف دينار بثلاثمائة دينار واشترت بها حنطة وحملها الحمال على ظهره فنهبت الحنطة في الطريق فنهبت هي مع الناس فكان الذي حصل لها ما عملته رغيفًا واحدًا‏.‏

وقطع ناصر الدولة الطريق برًا وبحرًا فهلك العالم ومات أكثر أصحاب المستنصر وتفرق كثير منهم فراسل الأتراك من القاهرة ناصر الدولة في الصلح فاصطلحوا على أن يكون تاج الملوك شاذي نائبًا عن ناصر الدولة بالقاهرة يحمل المال إليه ولا يبقى معه لأحد حكم‏.‏

فلما دخل تاج الملوك إلى القاهرة تغير عن القاعدة واستبد بالأموال دون ناصر الدولة ولم يرسل إليه منها شيئًا فسار ناصر الدولة إلى الجيزة واستدعى إليه شاذي وغيره من مقدمي الأتراك فخرجوا إليه إلا أقلهم فقبض عليهم كلهم ونهب ناحيتي مصر وأحرق كثيرًا منهما فسير إليه المستنصر عسكرًا فكبسوه فانهزم منهم ومضى هاربًا فجمع جمعًا وعاد إليهم فقاتلهم فهزمهم وقطع خطبة المستنصر بالإسكندرية ودمياط وكانا معه وكذلك جميع الريف وأرسل إلى الخليفة ببغداد يطلب خلعًا ليخطب له بمصر‏.‏

واضمحل أمر المستنصر وبطل ذكره وتفرق الناس من القاهرة وأرسل ناصر الدولة إليه أيضًا يطلب المال فرآه الرسول جالسًا على حصير وليس حوله غير ثلاثة خدم ولم ير الرسول شيئًا من آثار المملكة فلما أدى الرسالة قال‏:‏ أما يكفي ناصر الدولة أن أجلس في مثل هذا البيت على مثل هذا الحصير فبكى الرسول وعاد إلى ناصر الدولة فأخبره الخبر فأجرى له كل يوم مائة دينار وعاد إلى القاهرة وحكم فيها وأذل السلطان وأصحابه‏.‏

وكان الذي حمله على ذلك أنه كان يظهر التسنن من بين أهله ويعيب المستنصر وكان المغاربة كذلك فأعانوه على ما أراد وقبض على أم المستنصر وصادرها بخمسين ألف دينار وتفرق عن المستنصر أولاده وكثير من أهله إلى الغرب وغيره من البلاد فمات كثير منهم جوعًا‏.‏

وانقضت سنة أربع وستين وما قبلها بالفتن‏.‏

وانحط السعر سنة خمس وستين ورخصت الأسعار وبالغ ناصر الدولة في إهانة المستنصر وفرق عنه عامة أصحابه وكان يقول لأحدهم‏:‏ إنني أريد أن أوليك عمل كذا فيسير إليه فلا يمكنه من العمل ويمنعه من العود وكان غرضه بذلك أن يخطب للخليفة القائم بأمر الله ولا يمكنه مع وجودهم ففطن لفعله قائد كبير من الأتراك اسمه الدكز وعلم أنه متى ما تم ما أراد تمكن منه ومن أصحابه فأطلع على ذلك غيره من قواد الأتراك فاتفقوا على قتل ناصر الدولة وكان قد أمن لقوته وعدم عدوه فتواعدوا ليلة على ذلك فلما كان سحر الليلة التي تواعدوا فيها على قتله جاؤوا إلى باب داره وهي التي تعرف بمنازل العز وهي على النيل فدخلوا من غير استئذان إلى صحن داره فخرج إليهم ناصر الدولة في رداء لأنه كان آمنًا منهم فلما دنا منهم ضربوه بالسيوف فسبهم وهرب منهم يريد الحرم فلحقوه فضربوه حتى قتلوه وأخذوا رأسه‏.‏

ومضى رجل منهم يعرف بكوكب الدولة إلى فخر العرب أخي ناصر الدولة وكان فخر العرب كثير الإحسان إليه فقال للحاجب‏:‏ استأذن لي على فخر العرب وقل صنيعتك فلان على الباب فاستأذن له فأذن له وقال‏:‏ لعله قد دهمه أمر‏.‏

فلما دخل عليه أسرع نحوه كأنه يريد السلام عليه وضربه بالسيف على كتفه فسقط على الأرض فقطع رأسه وأخذ سيفه وكان ذا قيمة وافرة وأخذ جارية له أردفها خلفه وتوجه إلى القاهرة وقتل أخوهما تاج فلما كان سنة ست وستين وأربعمائة ولي بمصر بدر الجمالي أمير الجيوش وقتل الدكز والوزير ابن كدينة وجماعة من المسلحية وتمكن من الدولة إلى أن مات وولي بعده ابنه الأفضل وسيرد ذكرهم إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة أقيمت الدعوة العباسية بالبيت المقدس‏.‏

وفيها توفي الأمير ليث بن منصور صدقة بن الحسين بالدامغان والشريف أبو الغنائم عبد الصمد بن علي بن محمد بن المأمون ببغداد وكان موته في شوال ومولده سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وكان عالي الإسناد في الحديث‏.‏

وفيها في ذي الحجة توفي الشريف أبو الحسين محمد بن علي بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله المعروف بابن الغريق وكان يسمى راهب بني العباس وهو آخر من حدث عن الدارقطني وابن شاهين وغيرهما وكان موته ببغداد‏.‏

وفيها قتل ناصر الدولة أبو علي الحسين بن حمدان بمصر قتله الدكز التركي وقد تقدم شرحه مستوفى‏.‏

وفيها توفي الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري النيسابوري مصنف الرسالة وغيرها وكان إمامًا فقيهًا أصوليًا مفسرًا كاتبًا ذا فضائل جمة وكان له فرس قد أهدي إليه فركبه نحو عشرين سنة فلما مات الشيخ لم يأكل الفرس شيئًا فعاش أسبوعًا ومات‏.‏

وفيها أيضًا توفي علي بن الحسن بن علي بن الفضل أبو منصور الكاتب المعروف بابن صر بعر وكان نظام الملك قال له أنت ابن صر در لا صر بعر فبقي ذلك عليه وهو من الشعراء المجيدين وهجاه ابن البياضي فقال‏:‏ لئن نبز الناس قدمًا أباك فسموه من شعره صر بعرا فإنك تنظم ما صره عقوقًا له وتسميه شعرا وهذا ظلم من ابن البياضي إنه كان شاعرًا محسنًا ومن شعر ابن صر در قوله‏:‏ تزاورن عن أذرعات يمينا نواشز ليس يطقن البرينا كلفن بنجد كأن الرياض أخذن لنجد عليها يمينا وأقسمن يحملن إلا نحيلا إليه ويبلغن إلا حزينا فلما استمعن زفير المشوق ونوح الحمام تركن الحنينا إذا جئتما بانة الواديين فأرخو النسوع وحلوا الوضينا

وقد أنبأتهم مياه الجفون بأن بقلبك داء دفينا

ثم دخلت سنة ست وستين وأربعمائة

ذكر تقليد السلطان ملكشاه السلطنة والخلع عليه

في هذه السنة في صفر ورد كوهرائين إلى بغداد من عسكر السلطان وجلس له الخليفة القائم بأمر الله ووقف على رأسه ولي العهد المقتدي بأمر الله وسلم الخليفة إلى كوهرائين عهد السلطان ملكشاه بالسلطنة وقرأ الوزير أوله وسلم إليه أيضًا لواء عقده الخليفة بيده ولم يمنع يومئذ أحد من الدخول إلى دار الخلافة فامتلأ صحن السلام بالعامة حتى كان الإنسان تهمه نفسه ليتخلص وهنأ الناس بعضهم بعضًا بالسلامة‏.‏

ذكر غرق بغداد

في هذه السنة غرق الجانب الشرقي وبعض الغربي من بغداد‏.‏

وسببه أن دجلة زادت زيادة عظيمة وانفتح القورج عند المسناة المعزية وجاء في الليل سيل عظيم وطفح الماء من البرية مع ريح شديدة وجاء الماء إلى المنازل من فوق ونبع من البلاليع والآبار بالجانب الشرقي وهلك خلق كثير تحت الهدم وشدت الزواريق تحت التاج خوف الغرق‏.‏

وقام الخليفة يتضرع ويصلي وعليه البردة وبيده القضيب وأتى ايتكين السليماني من عكبرا فقال للوزير‏:‏ إن الملاحين يؤذون الناس في المعابر فأحضرهم وتهددهم بالقتل وأمر بأخذ ما جرت به العادة‏.‏

وجكع الناس وأقيمت الخطبة للجمعة في الطيار مرتين وغرق من الجانب الغربي مقبرة أحمد ومشهد باب التبن وتهدم سوره فأطلق شرف الدولة ألف دينار تصرف في عمارته ودخل الماء من شبابيك البيمارستان العضدي‏.‏

ومن عجيب ما يحكى في هذا الغرق أن الناس في العام الماضي كانوا قد أنكروا كثرة المغنيات والخمور فقطع بعضهم أوتار عود مغنية كانت عند جندي فثار به الجندي الذي كانت عنده فضربه فاجتمعت العامة ومعهم كثير من الأئمة منهم أبو إسحاق الشيرازي واستغاثوا بالخليفة وطلبوا هدم المواخير والحانات وتبطيلها فوعدهم أن يكاتب السلطان في ذلك فسكنوا وتفرقوا‏.‏

ولازم كثير من الصالحين الدعاء بكشفه فاتفق أن غرقت بغداد ونال الخليفة والجند من ذلك أمر عظيم وعمت مصيبته الناس كافة فرأى الشريف أبو جعفر بن أبي موسى بعض الحجاب الذين يقولون‏:‏ نحن نكاتب السلطان ونسعى في تفريق الناس ويقول‏:‏ اسكنوا إلى أن يرد الجواب‏.‏

فقال له أبو جعفر‏:‏ قد كتبنا وكتبتم فجاء جوابنا قبل جوابكم يعني أنهم شكوا ما حل بهم إلى الله تعالى وقد أجابهم بالغرق قبل ورود جواب السلطان‏.‏

ذكر ملك السلطان ملكشاه ترمذ والهدنة بينه وبين صاحب سمرقند

قد ذكرنا أن خاقان التكين صاحب سمرقند ملك ترمذ بعد قتل السلطان ألب أرسلان فلما استقامت الأمور للسلطان ملكشاه سار إلى ترمذ وحصرها وطم العسكر خندقها ورماها بالمجانيق فخاف من بها فطلبوا الأمان فأمنهم وخرجوا منها وسلموها‏.‏

وكان بها أخ لخاقان التكين فأكرمه السلطان وخلع عليه وأحسن إليه وأطلقه وسلم قلعة ترمذ إلى الأمير ساوتكين وأمره بعمارتها وتحصينها وعمارة سورها بالحجر المحكم وحفر خندقها وتعميقه ففعل ذلك‏.‏

وسار السلطان ملكشاه يريد سمرقند ففارقها صاحبها وأنفذ يطلب المصالحة ويضرع إلى نظام الملك في إجابته إلى ذلك ويعتذر من تعرضه إلى ترمذ فأجيب إلى ذلك واصطلحوا وعاد ملكشاه عنه إلى خراسان ثم منها إلى الري وأقطع بلخ وطخارستان لأخيه شهاب الدين تكش‏.‏

ذكر عدة حوادث

فيها توفي زعيم الدولة أبو الحسن بن عبد الرحيم بالنيل فجأة وله سبعون سنة وقد تقدم من أخباره ما فيه كفاية‏.‏

وفيها توفي إياز أخو السلطان ملكشاه وكفي شره كما كفي شر عمه قاورت بك‏.‏

وفيها في ربيع الأول توفي القاضي أبو الحسين بن أبي جعفر السمناني حمو قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني وولي ابنه أبو الحسن ما كان إليه من القضاء بالعراق والموصل وكان مولده سنة أربع وثمانين وثلاثمائة بسمنان وكان هو وأبوه من المغالين في مذهب الأشعري ولأبيه فيه تصانيف كثيرة وهذا مما يستطرف أن يكون حنفي أشعريًا‏.‏

وفيها في جمادى الآخرة توفي عبد العزيز بن أحمد بن محمد بن علي أبو محمد الكتاني

ثم دخلت سنة سبع وستين وأربعمائة

ذكر وفاة القائم بأمر الله

وذكر بعض سيرته في هذه السنة ليلة الخميس ثالث شعبان توفي القائم بأمر الله أمير المؤمنين رضي الله عنه واسمه عبد الله أبو جعفر بن القادر بالله أبي العباس أحمد ابن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد‏.‏

وكان سبب موته أنه كان قد أصابه شرى فافتصد ونام منفردًا فانفجر فصاده وخرج منه دم كثير ولم يشعر فاستيقظ وقد ضعف وسقطت قوته فأيقن بالموت فأحضر ولي العهد ووصاه بوصايا وأحضر النقيبين وقاضي القضاة وغيرهم مع الوزير ان جهير وأشهدهم على نفسه أنه جعل ابن ابنه أبا القاسم عبد الله بن محمد بن القائم بأمر الله ولي عهده‏.‏

ولما توفي غسله الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي وصلى عليه المقتدي بأمر الله‏.‏

وكان عمره ستًا وسبعين سنة وثلاثة أشهر وخمسة أيام وخلافته أربعًا وأربعين سنة وثمانية أشهر وأيامًا وقيل كان مولده ثامن عشر ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وعلى هذا وأمه أم ولد تسمى قطر الندى أرمينية وقيل رومية أدركت خلافته وقيل اسمها علم وماتت في رجب سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة‏.‏

وكان القائم جميلًا مليح الوجه أبيض مشربًا حمرة حسن الجسم ورعًا دينًا زاهدًا عالمًا قوي اليقين بالله تعالى كثير الصبر وكان للقائم عناية بالأدب ومعرفة حسنة بالكتابة ولم يكن يرتضي أكثر ما يكتب من الديوان فكان يصلح فيه أشياء وكان مؤثرًا للعدل والإنصاف يريد قضاء حوائج الناس لا يرى المنع من شيء يطلب منه‏.‏

قال محمد بن علي بن عامر الوكيل‏:‏ دخلت يومًا إلى المخزن فلن يبق أحد إلا أعطاني قصة فامتلأت أكمامي منها فقلت في نفسي‏:‏ لو كان الخليفة أخي لأعرض عن هذه كلها فألقيتها في بركة والقائم ينظر ولا أشعر فلما دخلت إليه أمر الخدم بإخراج الرقاع من البركة فأخرجت ووقف عليها ووقع فيها بأغراض أصحابها ثم قال لي‏:‏ يا عامي‏!‏ ما حملك على هذا فقلت‏:‏ خوف الضجر منها فقال‏:‏ لا تعد إلى مثلها‏!‏ فإنا ما أعطيناهم من أموالنا شيئًا إنما نحن وكلاء‏.‏

ووزر للقائم أبو طالب محمد بن أيوب وأبو الفتح بن دارست ورئيس الرؤساء وأبو نصر بن جهير وكان قاضيه ابن ماكولا وأبو عبد الله الدامغاني‏.‏

لما توفي القائم بأمر الله بويع المقتدي بأمر الله عبد الله بن محمد بن القائم بالخلافة وحضر مؤيد الملك بن نظام الملك والوزير فخر الدولة بن جهير وابنه عميد الدولة والشيخ أبو إسحاق وأبو نصر بن الصباغ ونقيب النقباء طراد والنقيب الطاهر المعمر بن محمد وقاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني وغيرهم من الأعيان والأماثل فبايعوه‏.‏

وقيل‏:‏ كان أول من بايعه الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي فإنه لما فرغ من غسل القائم بايعه وأنشده‏:‏ إذا سيد منا مضى قام سيد ثم ارتج عليه فقال المقتدي‏:‏ قؤول بما قال الكرام فعول فلما فرغوا من البيعة صلى بهم العصر‏.‏

ولم يكن للقائم من أعقابه ذكر سواه فإن الذخيرة أبا العباس محمد بن القائم توفي أيام أبيه ولم يكن له غيره فأيقن الناس بانقراض نسله وانتقال الخلافة من البيت القادري إلى غيره ولم يشكوا في اختلال الأحوال بعد القائم لأن من عدا البيت القادري كانوا يخالطون العامة في البلد ويجرون مجرى السوقة فلو اضطر الناس إلى خلافة أحدهم لم يكن له ذلك القبول ولا تلك

الهيبة فقدر الله تعالى أن الذخيرة أبا العباس كان له جارية اسمها أرجوان وكان يلم بها فلما توفي ورأت ما نال القائم من المصيبة واستعظمه من انقراض عقبه ذكرت أنها حامل فتعلقت النفوس بذلك فولدت بعد موت سيدها بستة أشهر المقتدي فاشتد فرح القائم وعظم سروره وبالغ في الإشفاق عليه والمحبة له‏.‏

فلما كانت حادثة البساسيري كان للمقتدي قريب أربع سنين فأخفاه أهله وحمله أبو الغنائم بن المحلبان إلى حران كما ذكرنا ولما عاد القائم إلى بغداد أعيد المقتدي إليه‏.‏

فلما بلغ الحلم جعله ولي عهد ولما ولي الخلافة أقر فخر الدولة بن جهير على وزارته بوصية من القائم بذلك وسير عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير إلى السلطان ملكشاه لأخذ البيعة وكان مسيره في شهر رمضان وأرسل معه من أنواع الهدايا ما يجل عن الوصف‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في شوال وقعت نار ببغداد في دكان خباز بنهر المعلى فاحترقت من السوق مائة وثمانون دكانًا سوى الدور ثم وقعت نار في المأمونية ثم في الظفرية ثم في درب المطبخ ثم في دار الخليفة ثم في حمام السمرقندي ثم في باب الأزج وذرب خراسان ثم في الجانب

وفيها أرسل المستنصر بالله العلوي صاحب مصر إلى صاحب مكة ابن أبي هاشم رسالة وهدية جليلة وطلب منه أن يعيد له الخطبة مكة حرسها الله تعالى وقال‏:‏ إن أيمانك وعهودك كانت للقائم وللسلطان ألب أرسلان وقد ماتا فخطب به بمكة وقطع خطبة المقتدي وكانت مدة الخطبة العباسية بمكة أربع سنين وخمسة أشهر ثم أعيدت في ذي الحجة سنة ثمان وستين‏.‏

وفيها كانت حرب شديدة بين بني رياح وزغبة ببلاد إفريقية فقويت بنو رياح على زغبة فهزموهم وأخرجوهم عن البلاد‏.‏

وفيها جمع نظام الملك والسلطان ملكشاه جماعة من أعيان المنجمين وجعلوا النيروز أول نقطة من الحمل وكان النيروز قبل ذلك عند حلول الشمس نصف الحوت‏.‏

وصار ما فعله السلطان مبدأ التقاويم‏.‏

وفيها أيضًا عمل الرصد للسلطان ملكشاه واجتمع من أعيان المنجمين في عمله منهم‏:‏ عمر بن إبراهيم الخيامي وأبو المظفر الإسفزاري وميمون ابن النجيب الواسطي وغيرهم وخرج عليه من الأموال شيء عظيم وبقي الرصد دائرًا إلى أن مات السلطان سنة خمس وثمانين وأربعمائة فبطل بعد موته‏.‏ ‏   ‏  

ذكر ملك أقسيس دمشق

قد ذكرنا سنة ثلاث وستين ملك أقسيس الرملة والبيت المقدس وحصره مدينة دمشق فلما عاد عنها جعل يقصد أعمالها كل سنة عند إدراك الغلات فيأخذها فيقوى هو وعسكره ويضعف أهل دمشق وجندها فلما كان رمضان سنة سبع وستين سار إلى دمشق فحصرها وأميرها المعلى بن حيدرة من قبل الخليفة المستنصر فلم يقدر عليها فانصرف عنها في شوال فهرب أميرها المعلى في ذي الحجة‏.‏

وكان سبب هربه أنه أساء السيرة مع الجند والرعية وظلمهم فكثر الدعاء عليه وثار به العسكر وأعانهم العامة فهرب منها إلى بانياس ثم منها إلى صور ثم أخذ إلى مصر فحبس بها فمات محبوسًا‏.‏

فلما هرب من دمشق اجتمعت المصادمة وولوا عليهم انتصار بن يحيى المصمودي المعروف برزين الدولة وغلت الأسعار بها حتى أكل الناس بعضهم بعضًا‏.‏

ووقع الخلف بين المصامدة وأحداث البلد وعرف أقسيس ذلك فعاد إلى دمشق فنزل عليها في شعبان من هذه السنة فحصرها فعدمت الأقوات فبيعت الغرارة إذا وجدت بأكثر من عشرين دينارًا فسلموها إليه بأمان وعوض انتصار عنها بقلعة بانياس ومدينة يافا من الساحل ودخلها هو وعسكره في ذي القعدة وخطب بها يوم الجمعة لخمس بقين من ذي القعدة للمقتدي بأمر الله الخليفة العباسي وكان آخر ما خطب فيها للعلويين المصريين وتغلب على أكثر الشام ومنع الأذان بحي على خير العمل ففرح أهلها فرحًا عظيمًا وظلم أهلها وأساء السيرة فيهم‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة ملك نصر بن محمود بن مرداس مدينة منبج وأخذها من الروم‏.‏

وفيها قدم سعد الدولة كوهرائين شحنة إلى بغداد من عسكر السلطان ومعه العميد أبو نصر ناظرًا في أعمال بغداد‏.‏

وفيها وثب الجند بالبطيحة على أميرها أبي نصر بن الهيثم وخالفوا عليه فهرب منهم وخرج من ملكه والذخائر والأموال التي جمعها في المدة الطويلة ولم يصحبه من ذلك جميعه شيء وصار نزيلًا على كوهرائين شحنة العراق‏.‏

وفيها انفجر البثوق بالفلوجة وانقطع الماء من النيل وغيره من تلك الأعمال من بلاد دبيس بن مزيد فجلا أهل البلاد ووقع الوباء فيهم ولم يزل كذلك إلى أن سده عميد الدولة بن جهير سنة اثنتين وسبعين‏.‏

و في هذه السنة توفي أبو علي الحسن بن القاسم بن محمد المقري المعروف بغلام الهراس الواسطي بها وكان محدثًا علامة في كثير من العلوم‏.‏

ويف شعبان توفي القاضي أبو الحسين محمد بن محمد البيضاوي الفقيه الشافعي وكان يدرس الفقه بدرب السلولي بالكرخ وهو زوج ابنة القاضي أبي الطيب الطبري وعبد الرحمن بن محمد بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود أبو الحسن بن أبي طلحة الداودي راوي صحيح البخاري ولد سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وسمع الحديث وتفقه للشافعي على أبي بكر القفال وأبي حامد الأسفراييني وصحب أبا علي الدقاق وأبا عبد الرحمن السلمي وكان عابدًا خيرًا قصده نظام الملك فجلس بين يديه فوعظه وكان في قوله‏:‏ إن الله تعالى سلطك على عباده فانظر كيف تجيبه إذا سألك عنهم فبكى وكان موته ببوشنج‏.‏

وفيها توفي أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن متويه الواحدي المفسر مصنف الوسيط والبسيط والوجيز في التفسير وهو نيسابوري إمام مشهور وأبو الفتح منصور بن أحمد بن دارست وزير القائم توفي بالأهواز ومحمد بن القاسم بن حبيب بن عبدوس أبو بكر الصفار النيسابوري الفقيه الشافعي تفقه على أبي محمد الجويني وسمع من الحاكم أبي عبد الله وأبي عبد الرحمن السلمي وغيرهما‏.‏

وفيها توفي مسعود بن عبد العزيز بن المحسن بن الحسن بن عبد الرزاق أبو جعفر البياضي الشاعر له شعر مطبوع فمنه قوله‏:‏ يا من لبست لبعده ثوب الضنى حتى خفيت به عن العواد وأنست بالسهر الطويل فأنسيت أجفان عيني كيف كان رقادي إن كان يوسف بالجمال مقطع ال - أيدي فأنت مفتت الأكباد

ثم دخلت سنة تسع وستين وأربعمائة

ذكر حصر أقسيس مصر وعوده عنها

في هذه السنة سار أقسيس من دمشق إلى مصر وحصرها وضيق على أهلها ولم يبق غير أن يملكها فاجتمع أهلها مع ابن الجوهري الواعظ في الجامع وبكوا وتضرعوا ودعوا فقبل الله دعاءهم فانهزم أقسيس من غير قتال وعاد على أقبح صورة بغير سبب فوصل إلى دمشق وقد تفرق أصحابه فرأى أهلها قد صانوا مخلفيه وأمواله فشكرهم ورفع عنهم الخراج تلك

وأتى البيت المقدس فرأى أهله قد قبحوا على أصحابه ومخلفيه وحصروهم في محراب داود عليه السلام فلما قارب البلد تحصن أهله منه وسبوه فقاتلهم ففتح البلد عنوة ونهبه وقتل من أهله فأكثر حتى قتل من التجأ إلى المسجد الأقصى وكف عمن كان عند الصخرة وحدها‏.‏

هكذا يذكر الشاميون هذا الاسم أقسيس والصحيح أنه أتسز وهو اسم تركي وقد ذكر بعض مؤرخي الشام أن أتسز لما وصل إلى مصر جمع أمير الجيوش بدر العساكر واستمد العرب وغيرهم من أهل البلاد فاجتمع معه خلق كثير واقتتلوا فانهزم أتسز وقتل أكثر أصحابه وقتل أخ له وقطعت يد أخ آخر وعاد منهزمًا إلى الشام في نفر قليل من عسكره فوصل إلى الرملة ثم سار منها إلى دمشق‏.‏

وحكى لي من أثق به جماعة من فضلاء مصر‏:‏ أن أتسز لما وصل إلى مصر ونزل بظاهر القاهرة أساء أصحابه السيرة في الناس وظلموهم وأخذوا أموالهم وفعلوا الأفاعيل القبيحة فأرسل رؤساء القرى ومقدموها إلى الخليفة المستنصر بالله العلوي يشكون إليه ما نزل بهم فأعاد الجواب بأنه عاجز عن دفع هذا العدو فقالوا له‏:‏ نحن نرسل إليك من عندنا من الرجال المقاتلة يكونون معك ومن ليس له سلاح تعطيه من عندك سلاحًا وعسكر هذا العدو قد أمنوا وتفرقوا في البلاد فنثور بهم في ليلة واحدة ونقتلهم وتخرج أنت إليه فيمن اجتمع عندك من الرجال فلا وأرسلوا إليه الرجال وثاروا كلهم في ليلة واحدة بمن عندهم فأوقعوا بهم وقتلوهم عن آخرهم ولم يسلم منهم إلا من كان عنده في عسكره وخرج إليه العسكر الذي عند المستنصر بالقاهرة فلم يقدر على الثبات لهم فولى منهزمًا وعاد إلى الشام وكفي أهل مصر شره وظلمه‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة ورد بغداد أبو نصر ابن الأستاذ أبي القاسم القشيري حاجًا وجلس في المدرسة النظامية يعظ الناس وفي رباط شيخ الشيوخ وجرى له مع الحنابلة فتن لأنه تكلم على مذهب الأشعري ونصره وكثر أتباعه والمتعصبون له وقصد خصومه من الحنابلة ومن تبعهم سوق المدرسة النظامية وقتلوا جماعة‏.‏

وكان من المتعصبين للقشيري الشيخ أبو إسحاق وشيخ الشيوخ وغيرهما من الأعيان وجرت بين الطائفتين أمور عظيمة‏.‏

وفيها تزوج الأمير علي بن أبي منصور بن فرامرز بن علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه أرسلان خاتون بنت داود عمة السلطان ملكشاه التي كانت زوجة القائم بأمر الله‏.‏

وفيها كان بالجزيرة والعراق والشام وباء عظيم وموت كثير حتى بقي كثير من الغلات ليس لها من يعملها لكثرة الموت في الناس‏.‏

وفيها مات محمود بن مرداس صاحب حلب وملك بعده ابنه نصر فمدحه ابن حيوس بقصيدة يقول فيها‏:‏ ثمانية لم تفترق مذ جمعتها فلا افترقت ما ذب عن ناظر شعر ضميرك والتقوى وجودك والغنى ولفظك والمعنى وعزمك والنصر وكان لمحمود بن نصر سجية وغالب ظني أن سيخلفها نصر فقال‏:‏ والله لو قال سيضعفها نصر لأضعفتها له‏.‏

وأمر له بما كان يعطيه أبوه وهو ألف دينار في طبق فضة‏.‏

وكان على بابه جماعة من الشعراء فقال بعضهم‏:‏ على بابك المعمور منا عصابة مفاليس فانظر في أمور المفاليس وقد قنعت منك العصابة كلها بعشر الي أعطيته لابن حيوس وما بيننا هذا التقارب كله ولكن سعيد لا يقاس بمنحوس فقال لو قال‏:‏ بمثل الذي أعطيته لأعطيتهم ذلك وأمر لهم بمثل نصفه‏.‏

وفيها توفي اسبهدوست بن محمد بن الحسن أبو منصور الديلمي الشاعر وكان قد لقي ابن الحجاج وابن نباتة وغيرهما وكان يتشيع وتركه وقال في ذلك‏:‏ وإذا سئلت عن اعتقادي قلت‏:‏ ما كانت عليه مذاهب الأبرار وأقول‏:‏ خير الناس بعد محمد صديقه وأنيسه في الغار وفيها توفي رئيس العراقين أبو أحمد النهاوندي الذي كان عميد بغداد والشريف أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي الحنبلي ورزق الله بن محمد بن أحمد بن علي أبو سعد الأنباري الخطيب الفقيه الحنفي سمع الحديث الكثير وكان ثقة حافظًا وطاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي المصري توفي في رجب سقط من سطح جامع عمرو بن العاص بمصر فمات لوقته وعبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمر بن أحمد المعروف بابن هزارمرد الصريفيني راوية أحاديث علي بن الجعد وهو آخر من رواها وكان ثقة صالحًا ومن طريقه سمعناها‏.‏

ثم دخلت سنة سبعين وأربعمائة

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة ورد مؤيد الملك بن نظام الملك إلى بغداد من العسكر‏.‏

وفيها اصطلح تميم بن المعز بن باديس صاحب إفريقية مع الناصر بن علناس وهو من بني حماد عم جده وزوجه تميم ابنته بلارة وسيرها إليه من المهدية في عسكر وأصحبها من الحلي والجهاز ما لا يحد وحمل الناصر ثلاثين ألف دينار فأخذ منها تميم دينارًا واحدًا ورد الباقي‏.‏

وفيها استعمل تميم ابنه مقلدًا على مدينة طرابلس الغرب‏.‏

وكان ببغداد في هذه السنة فتنة بين أهل سوق المدرسة وسوق الثلاثاء بسبب الاعتقاد فنهب بعضهم بعضًا وكان مؤيد الملك بن نظام الملك ببغداد بالدار التي عند المدرسة فأرسل إلى العميد والشحنة فحضرا ومعهما الجند فضربوا الناس فقتل بينهم جماعة وانفصلوا‏.‏

و في هذه السنة في ربيع الأول توفي القاضي أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن البيضاوي الفقيه الشافعي وكان القاضي أبو الطيب الطبري جده لأمه‏.‏

وفيها توفي أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن النقور أبو الحسين البزاز في رجب وكان مكثرًا من الحديث ثقة في الرواية وأحمد بن عبد الملك بن علي أبو صالح المؤذن النيسابوري كان يعظ ويؤذن وكان كثير الرواية حافظًا ومولده سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة وعبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة الأصبهاني أبو القاسم بن أبي عبد الله الحافظ له تصانيف كثيرة منها‏:‏ تاريخ أصبهان وله طائفة ينتمون إليه في الاعتقاد من أهل أصبهان يقال لهم العبد رحمانية‏.‏

وفي شوال منها توفيت ابنة نظام الملك زوجة عميد الدولة بن جهير نفساء بولد مات من يومه ودفنا بدار الخلافة ولم تجر بذلك عادة لأحد فعل ذلك إكرامًا لأبيها وجلس الوزير فخر الدولة بن جهير وابنه عميد الدولة زوجها للعزاء في دار بباب العامة ثلاثة أيام‏.‏

ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وأربعمائة

ذكر عزل ابن جهير من وزارة الخليفة

في هذه السنة عزل فخر الدولة أبو نصر بن جهير من وزارة الخليفة المقتدي بأمر الله ووزر بعده أبو شجاع محمد بن الحسين‏.‏

وكان السبب في ذلك أن أبا نصر بن القشيري ورد إلى بغداد على ما تقدم ذكره وجرى له الفتن مع الحنابلة لما ذكر مذهب الأشعرية ونصره وعاب من سواهم وفعلت الحنابلة ومن معهم ما ذكرناه نسب أصحاب نظام الملك ما جرى إلى الوزير فخر الدولة وإلى الخدم وكتب أبو الحسن محمد بن علي بن أبي الصقر الواسطي الفقيه الشافعي إلى نظام الملك‏:‏

وبها أودى له قتلى غلام وغلام والذي منهم تبقى سالمًا فيه سهام يا قوام الدين لم يبق رواش ببغداد مقام عظم الخطب وللحرب اتصال ودوام فمتى لم تحسم الدا ء أياديك الحسام ويكف القوم في بغداد قتل وانتقام فعلى مدرسة فيها ومن فيها السلام واعتصام بحريم لك من بعد حرام فلما سمع نظام الملك ما جرى من الفتن وقصد مدرسته والقتل بجوارها مع أن ابنه مؤيد الملك فيها عظم عليه فأعاد كوهرائين إلى شحنكية العراق وحمله رسالة إلى الخليفة المقتدي بأمر الله تتضمن الشكوى من بني جهير وسأل عزل فخر الدولة من الوزارة وأمر كوهرائين بأخذ أصحاب بني جهير وإيصال بني جهير وإيصال المكروه إليهم وإلى حواشيهم‏.‏

فسمع بنو جهير الخبر فسار عميد الدولة إلى المعسكر يريد نظام الملك ليستعطفه وتجنب الطريق وسلك الجبال خوفًا أن يلقاه كوهرائين ويناله فيها أذى فلما وصل كوهرائين إلى بغداد اجتمع بالخليفة وأبلغه رسالة نظام الملك فأمر فخر الدولة بلزوم منزله‏.‏

ووصل عميد الدولة إلى المعسكر السلطاني ولم يزل يستصلح نظام الملك حتى عاد إلى ما ألفه منه وزوجه بابنة بنت له وعاد إلى بغداد في العشرين من جمادى الأولى فلم يرد الخليفة أباه إلى وزارته وأمرهما بملازمة منازلهما واستوزر أبا شجاع محمد بن الحسين‏.‏

ثم إن نظام الملك الملك راسل الخليفة في إعادة بني جهير إلى الوزارة وشفع في ذلك فأعيد عميد الدولة إلى الوزارة وأذن لأبيه فخر الدولة في فتح بابه وكان ذلك في صفر سنة اثنتين وسبعين‏.‏

ذكر استيلاء تتش على دمشق

في هذه السنة ملك تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان دمشق‏.‏

وسبب ذلك أن أخاه السلطان ملكشاه أقطعه الشام وما يفتحه في تلك النواحي سنة سبعين وأربعمائة فأتى حلب وحصرها ولحق أهلها مجاعة شديدة وكان معه جمع كثير من التركمان فأنفذ إليه أقسيس صاحب دمشق يستنجده ويعرفه أن عساكر مصر قد حصرته بدمشق‏.‏

وفي رجب توفي أبو علي بن البنا المقري الحنبلي وله مصنفات كثيرة وسليم الجوري بناحية جور من دجيل وكان زاهدًا يعمل ويأكل من كسبه ولم يكلف أحدًا حاجًا وأقام بطنزة من ديار بكر وهي كثيرة الفواكه فلم يأكل بها فاكهة البتة‏.‏