المجلد الثامن - ذكر ملك العرب مدينة سوسة وأخذها منهم

في هذه السنة نقض ابن علوي ما بينه وبين تميم بن المعز بن باديس أمير إفريقية من العهد وسار في جميع من عشيرته العرب فوصل إلى مدينة سوسة من بلاد إفريقية وأهلها غارون لم يعلموا به فدخلها عنوة وجرى بينه وبين من بها من العسكر والعامة قتال فقتل من الطائفتين جماعة وكثر القتل في أصحابه والأسر وعلم أنه لا يتم له مع تميم حال ففارقها وخرج منها إلى حلته من الصحراء‏.‏

وكان بإفريقية هذه السنة غلاء شديد وبقي كذلك إلى سنة أربع وثمانين وصلحت أحوال أهلها وأخصبت البلاد ورخصت الأسعار وأكثر أهلها الزرع‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة قطعت الحرامية الطريق على قفل كبير بولاية حلب فركب آقسنقر في جماعة من عسكره وتبعهم ولم يزل حتى أخذهم وقتلهم فأمنت الطرق بولايته‏.‏

وفيها ورد العميد الأغر أبو المحاسن عبد الجليل بن علي الدهستاني إلى بغداد عميدًا وعزل أخوه كمال الملك على ما ذكرناه‏.‏

وفيها درس الإمام أبو بكر الشاشي في المدرسة التي بناها تاج الملك مستوفي السلطان بباب إبرز من بغداد وهي المدرسة التاجية المشهورة‏.‏

وفيها عمرت منارة جامع حلب‏.‏

وفيها توفي الخطيب أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن عبد الواحد بن أبي الحديد السلمي خطيب دمشق في ذي الحجة‏.‏

وفيها توفي أحمد بن محمد بن صاعد بن محمد أبو نصر النيسابوري رئيسها ومولده سنة عشر وأربعمائة وكان من العلماء وعاصم بن الحسن بن محمد بن علي بن عاصم العاصمي البغدادي من أهل الكرخ كان ظريفًا كيسًا له شعر حسن فمنه‏:‏ ماذا على متلون الأخلاق لو زارني فأبثه أشواقي وأبوح بالشكوى إليه تذللًا وأفض ختم الدمع من آماقي أسر الفؤاد ولم يرق لموثق ما ضره لو جاد بالإطلاق إن كان قد لسبت عقارب صدغه قلبي فإن رضابه درياقي وقال أيضًا‏:‏ فديت من ذبت شوقًا من محبته وصرت من هجره فوق الفراش لقا سمعته يتغنى وهو مصطبح أفديه مصطبحًا منه ومغتبقا وأخلفتك ابنة البكري ما وعدت وأصبح الحبل منه واهيًا خلقا والصحيحأنه توفي سنة ثلاث وثمانين‏.‏

وفيها في جمادى الآخرة توفي الشريف أبو القاسم العلوي الدبوسي المدرس بالنظامية ببغداد وكان فاضلًا فصيحًا‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة

ذكر وفاة فخر الدولة ابن جهير

في هذه السنة في المحرم توفي فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير الذي كان وزير الخليفة بمدينة الموصل ومولده بها سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة وتزوج إلى أبي العقارب شيخها ونظر في إملاك جارية قرواش المعروفة بسرهنك ثم خدم بركة بن المقلد حتى قبض على أخيه قرواش وحبسه ومضى بهدايا إلى ملك الروم فاجتمع هو ورسول نصر الدولة بن مروان فتقدم فخر الدولة عليه فنازعه رسول ابن مروان فقال فخر الدولة لملك الروم‏:‏ أنا أستحق التقدم عليه لأن صاحبه يؤدي الخراج إلى صاحبي‏.‏

فلما عاد إلى قريش بن بدران أراد القبض عليه فاستجار بأبي الشداد وكانت عقيل تجير على أمرائها وسار إلى حلب فوزر لمعز الدولة أبي ثمال ابن صالح‏.‏

ثم مضى إلى ملطية ومنها إلى ابن مروان فقال له‏:‏ كيف أمنتني وقد فعلت برسولي ما فعلت عند ملك الروم فقال‏:‏ حملني على ذلك نصح صاحبي‏.‏

فاستوزره فعمر بلاده‏.‏

ووزر بعد نصر الدولة لولده ثم سار إلى بغداد وولي وزارة الخليفة على ما ذكرناه وتولى أخذ ديار بكر من بني مروان على ما ذكرناه أيضًا ثم أخذها منه السلطان فسار إلى الموصل فتوفي بها‏.‏

ذكر نهب العرب البصرة

و في هذه السنة في جمادى الأولى نهب العرب البصرة نهبًا قبيحًا‏.‏

وسبب ذلك أنه ورد إلى بغداد في بعض السنين رجل أشقر من سواد النيل يدعي الأدب والنجوم ويستجري الناس فلقبه أهل بغداد تليا وكان نازلًا في بعض الخانات فسرق ثيابًا من الديباج وغيره وأخفاها في خلفا وسار بهم فرآها الذين يحفظون الطريق فمنعوه من السفر اتهامًا له وحملوه إلى المقدم عليهم فأطلقه لحرمة العلم‏.‏

فسار إلى أمير من أمراء العرب من بني عامر وبلاده متاخمة الأحساء وقال له‏:‏ أنت تملك الأرض وقد فعل أجدادك بالحاج كذا وكذا وأفعالهم مشهورة مذكورة في التواريخ وحسن له نهب البصرة وأخذها فجمع من العرب ما يزيد على عشرة آلاف مقاتل وقصد البصرة وبها العميد عصمة وليس معه من الجند إلا اليسير لكون الدنيا آمنة من ذاعر ولأن الناس في جنة من هيبة السلطان فخرج إليهم في أصحابه وحاربهم ولم يمكنهم من دخول البلد فأتاه من أخبره أن أهل البلد يريدون أن يسلموه إلى العرب فخاف ففارقهم وقصد الجزيرة التي هي مكان القلعة بنهر معقل‏.‏

فلما عاد أهل البلد بذلك فارقوا ديارهم وانصرفوا ودخل العرب حينئذ البصرة وقد قويت نفوسهم ونهبوا ما فيها نهبًا شنيعًا فكانوا ينهبون نهارًا وأصحاب العميد عصمة ينهبون ليلًا وأحرقوا مواضع عدة وفي جملة ما أحرقوا داران للكتب إحداهما وقفت قبل أيام عضد الدولة ابن بويه فقال عضد الدولة‏:‏ هذه مكرمة سبقنا إليها وهي أول دار وقفت في الإسلام‏.‏

والأخرى وقفها الوزير أبو منصور بن شاه مردان وكان بها نفائس الكتب وأعيانها وأحرقوا أيضًا النحاسين وغيرها من الأماكن‏.‏

وخربت وقوف البصرة التي لم يكن لها نظير من جملتها‏:‏ وقوف على الحمال الدائرة على شاطيء دجلة وعلى الدواليب التي تحمل الماء وترقيه إلى قنى الرصاص الجارية إلى المصانع وهي على فراسخ من البلد وهي من عمل محمد بن سليمان الهاشمي وغيره‏.‏

وكان فعل العرب بالبصرة أول خرق جرى في أيام السلطان ملكشاه‏.‏

فلما فعلوا ذلك وبلغ الخبر إلى بغداد انحدر سعد الدولة كوهرائين وسيف الدولة صدقة بن مزيد إلى البصرة لإصلاح أمورها فوجدوا العرب قد فارقوها‏.‏

ثم إن تليا أخذ بالبحرين وأرسل إلى السلطان فشهره ببغداد سنة أربع وثمانين على جمل وعلى رأسه طرطور وهو يصفع بالدرة والناس يشتمونه ويسبهم ثم أمر به فصلب‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة قدم الإمام أبو عبد الله الطبري بغداد في المحرم بمنشور من نظام الملك بتوليته تدريس المدرسة النظامية ثم ورد بعده في شهر ربيع الآخر من السنة أبو محمد عبد الوهاب الشيرازي وهو أيضًا معه منشور بالتدريس فاستقر أن يدرس يومًا والطبري يومًا‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وثمانين وأربعمائة

ذكر عزل الوزير أبي شجاع ووزارة عميد الدولة بن جهير

في هذه السنة في ربيع الأول عزل الوزير أبو شجاع من وزارة الخليفة‏.‏

وكان سبب عزله أن إنسانًا يهوديًا ببغداد يقال له أبو سعد بن سمحا كان وكيل السلطان ونظام الملك فلقيه إنسان يبيع الحصر فصفعه صفعة أزالت عمامته عن رأسه فأخذ الرجل وحمل إلى الديوان وسئل عن السبب في فعله فقال‏:‏ هو وضعني على نفسه فسار كوهرائين ومعه ابن سمحا اليهودي إلى العسكر يشكوان وكانا متفقين على الشكاية من الوزير أبي شجاع‏.‏

فلما سارا خرج توقيع الخليفة بإلزام أهل الذمة بالغيار ولبس ما شرط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهربوا كل مهرب أسلم بعضهم فممن أسلم أبو سعد العلاء بن الحسن بن وهب بن موصلايا الكاتب وابن أخيه أبو نصر هبة الله بن الحسن بن علي صاحب ونقل أيضًا عنه إلى السلطان ونظام الملك أنه يكسر أغراضهم ويقبح أفعالهم حتى إنه لما ورد الخبر بفتح السلطان سمرقند قال‏:‏ وما هذا مما يبشر به كأنه قد فتح بلاد الروم هل أتى إلا إلى قوم مسلمين موحدين فاستباح منهم ما لا يستباح من المشركين‏!‏ فلما وصل كوهرائين وابن سمحا إلى العسكر وشكوا من الوزير إلى السلطان ونظام الملك وأخبراهما بجميع ما يقول عنهما ويكسر من أغراضهما أرسلا إلى الخليفة في عزله فعزله وأمره بلزوم بيته وكان عزله يوم الخميس فلما أمر بذلك أنشد‏:‏ تولاها وليس له عدو وفارقها وليس له صديق فلما كان الغد يوم الجمعة خرج من داره إلى الجامع راجلًا واجتمع الخلق العظيم عليه فأمر أن لا يخرج من بيته ولما عزل استنيب في الوزراة أبو سعد بن موصلايا كاتب الإنشاء وأرسل الخليفة إلى السلطان ونظام الملك يستدعي عميد الدولة بن جهير ليستوزره فسير إليه فاستوزره في ذي الحجة من هذه السنة وركب إليه نظام الملك فهنأه بالوزارة في داره وأكثر الشعراء تهنئته بالعود إلى الوزارة‏.‏

ذكر ملك أمير المسلمين بلاد الأندلس التي للمسلمين

في هذه السنة في رجب ملك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين صاحب بلاد المغرب من بلاد الأندلس ما هو بيد المسلمين‏:‏ قرطبة وإشبيلية وقبض على المعتمد بن عباد صاحبها وملك غيرها من الأندلس‏.‏

ولقد جرى للرشيد بن المعتمد حادثة شبيهة بحادثة الأمين محمد بن هارون الرشيد‏.‏

قال أبو بكر عيسى بن اللبانة الداني من مدينة دانية‏:‏ كنت يومًا عند الرشيد بن المعتمد في مجلس أنسه سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة فجرى ذكر غرناطة وملك أمير المسلمين لها وقد ذكرنا أخذها في وقعة الزلاقة فلما ذكرناها تفجع وتلهف واسترجع و ذكر قصرها فدعونا لقصره بالدوام ولملكه بتراخي الأيام‏.‏

فأمر عند ذلك أبا بكر الإشبيلي بالغناء فغنى‏:‏ يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأبد فاستحالت مسرته وتجهمت أسرته‏.‏

ثم أمر بالغناء من ستارته فغني‏:‏ إن شئت أن لا ترى صبرًا لمصطبر فانظر إلى أي حال أصبح الطلل فتأكد تطيره واشتد اربداد وجهه وتغيره وأمر مغنية أخرى بالغناء فغنت‏:‏ يا لهف نفسي على مال أفرقه على المقلين من أهل المروءات إن اعتذاري إلى من جاء يسألني ما ليس عندي من إحدى المصيبات محل مكرمة لا هد مبناه وشمل مأثرة لا شته الله البيت كالبيت لكن زاد ذا شرفًا إن الرشيد مع المعتد ركناه ثاو على أنجم الجوزاء مقعده وراحل في سبيل الله مثواه حتم على الملك أن يقوى وقد وصلت بالشرق والغرب يمناه ويسراه بأس توقد فاحمرت لواحظه ونائل شب فاخضرت عذاراه فلعمري قد بسطت من نفسه وأعدت عليه بعض أنسه‏.‏

على أني وقعت فيما وقع فيه الكل بقولي البيت كالبيت‏.‏

وأمر إثر ذلك بالغناء فغني‏:‏ ولما قضينا من منى كل حاجة ولم يبق إلا أن تزم الركائب فأيقنا أن هذه الطير تعقب الغير‏.‏

فلما أراد أمير المسلمين ملك الأندلس سار من مراكش إلى سبتة وأقام بها وسير العساكر مع سير بن أبي بكر وغيره إلى الأندلس فعبروا الخليج فأتوا مدينة مرسية فملكوها وأعمالها وأخرجوا صاحبها أبا عبد الرحمن بن طاهر منها وساروا إلى مدينة شاطبة ومدينة دانية فملكوهما‏.‏

وكانت بلنسية قد ملكها الفرنج قديمًا بعد أن حصروها سبع سنين فلما سمعوا بوقعة الزلاقة فارقوها فملكها المسلمون أيضًا وعمروها وسكنوها فصارت الآن للمرابطين‏.‏

وكانوا قد ملكوا غرناطة نوبة الزلاقة فقصدوا مدينة إشبيلية وبها صاحبها المعتمد بن عباد فحصروه بها وضيقوا عليه فقاتل أهلها قتالًا شديدًا وظهر من شجاعة المعتمد وشدة بأسه وحسن دفاعه عن بلده ما لم يشاهد من غيره ما يقاربه فكان يلقي نفسه في المواقف التي لا يرجى خلاصه منها فيسلم بشجاعته وشدة نفسه ولكن إذا نفدت اامدة لم تغن العدة‏.‏

وكانت الفرنج قد سمعوا بقصد عساكر المرابطين بلاد الأندلس فخافوا أن يملكوها ثم يقصدوا بلادهم فجمعوا فأكثروا وساروا ليساعدوا المعتمد ويعينوه على المرابطين فسمع سير بن أبي بكر مقدم المرابطين بمسيرهم ففارق إشبيلية وتوجه إلى لقاء الفرنج فلقيهم وقاتلهم وهزمهم وعاد إلى إشبيلية فحصرها ولم يزل الحصار دائمًا والقتال مستمرًا إلى العشرين من رجب من هذه السنة فعظم الحرب ذلك اليوم واشتد الأمر على أهل البلد ودخله المرابطون من واديه ونهب جميع ما فيه ولم يبقوا على سبد ولا لبد وسلبوا الناس ثيابهم فخرجوا من مساكنهم يسترون عوراتهم بأيديهم وسبيت المخدرات وانتهكت الحرمات فأخذ المعتمد أسيرًا ومعه أولاده الذكور والإناث بعد أن استأصلوا جميع مالهم فلم يصحبهم من ملكهم بلغة زاد‏.‏

وقيل‏:‏ إن المعتمد سلم البلد بأمان وكتب نسخة الأمان والعهد واستحلفهم به لنفسه وأهله وماله وعبيده وجميع ما يتعلق بأسبابه‏.‏

فلما سلم إليهم إشبيلية لم يفوا له وأخذوهم أسراء ومالهم غنيمة وسير المعتمد وأهله إلى مدينة أغماث فحبسوا فيها وفعل أمير المسلمين بهم أفعالًا لم يسلكها أحد ممن قبله ولا يفعلها أحد ممن يأتي بعده إلا من رضي لنفسه بهذه الرذيلة وذلك أنه سجنهم فلم يجر عليهم ما يقوم بهم حتى كانت بنات المعتمد يغزلن للناس بأجرة ينفقونها على أنفسهم وذكر ذلك المعتمد في أبيات ترد عند ذكر وفاته فأبان أميرر المسلمين بهذا الفعل عن صغر نفس ولؤم قدرة‏.‏

وأغمات هذه مدينة في سفح جبل بالقرب من مراكش وسيرد من ذكر المعتمد عند موته سنة ثمان وثمانين ما يعرف به محله‏.‏

قال أبو بكر بن اللبانة‏:‏ زرت المعتمد بعد أسره بأغمات وقلت أبياتًا عند دخولي إليه منها‏:‏ لم أقل في الثقاف كان ثقافًا كنت قلبًا به وكان شغافا يمكث الزهر في الكمام ولكن بعد مكث الكمام يدنو قطافا وإذا ما الهلال غاب بغيم لم يكن ذلك المغيب انكسافا إنما أنت درة للمعالي ركب الدهر فوقها أصدافا حجب البيت منك شخصًا كريمًا مثلما تحجب الدنان السلافا أنت للفضل كعبة ولو أني كنت أستطيع لالتزمت الطوافا قال‏:‏ وجرت بيني وبينه مخاطبات ألذ من غفلات الرقيب وأشهى من رشفات الحبيب وأدل على السماح من فجر على صباح‏.‏

ولما أخذ المعتمد وأهله قتل ولداه الفتح ويزيد بين يديه صبرًا فقال في ذلك‏:‏ يقولون صبرًا‏!‏ لا سبيل إلى الصبر سأبكي وأبكي ما تطاول من عمري أفتح لقد فتحت لي باب رحمة كما بيزيد الله قد زاد في أجري هوى بكما المقدار عني ولم أمت فأدعى وفيًا قد نكصت إلى الغدر ولو عدتما لاخترتما العود في الثرى إذا أنتما أبصرتماني في الأسر أبا خالد أورثتني البث خالدًا أبا نصر مذ ودعت ودعني نصري وكان المعتمد يكاتبه فضلاء البلاد وهو محبوس بالنثر والنظم يتوجعون له ويذمون الزمان وأهله حيث مثله منكوب فمن ذلك ما قاله عبد الجبار بن أبي بكر بن حمديس وكتبه إليه يذكر مسيرهم عن إشبيلية إلى أغمات‏:‏ جرى لك جد بالكرام عثور وجار زمان كنت منه تجير لقد أصبحت بيض الظبى في غمودها إناثًا لترك الضرب وهي ذكور ولما رحلتم بالندى في أكفكم وقلقل رضوى منكم وثبير وقال شاعره ابن اللبانة في حادثته أيضًا‏:‏ تبكي السماء بدمع رائح غادي على البهاليل من أبناء عباد على الجبال التي هدت قوعدها وكانت الأرض منها تحت أوتاد عريسة دخلتها النائبات على أساود منهم فيها وآساد وكعبة كانت الآمال تعمرها فاليوم لا عاكف فيها ولا باد ولما استقصى عسكر أمير المسلمين ملوك الأندلس وأخذ بلادهم جمع ملوكهم وسيرهم إلى بلاد الغرب وفرقهم فيها ‏{‏إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة‏}‏‏.‏

ولما فرغ سير من إشبيلية سار إلى المرية فنازلها وكان صاحبها محمد بن معن بن صمادح فقال لولده‏:‏ ما دام المعتمد بإشبيلية فلا نبالي بالمرابطين‏.‏

فلما سمع بملكهم لها وما جرى للمعتمد مات في تلك الأيام غمًا وكمدًا فلما مات سار ولده الحاجب وأهله في مراكب ومعهم كل مالهم وقصدوا بلاد بني حماد فأحسنوا إليهم‏.‏

وكان عمر بن الأفطس صاحب بطليوس ممن أعان سير على المعتمد فلما فتحت إشبيلية رجع ابن الأفطس إلى بلده فسار إليه سير وحاربه فغلبه وأخذ بلده منه وأخذه أسيرًا هو وولده الفضل فقتلهما فقال عمر حين أرادوا قتله‏:‏ قدموا ولدي قبلي للقتل ليكون في صحيفتي‏!‏

ولم يترك من ملوك الأندلس سوى بني هود فإنه لم يقصد بلادهم وهي شرق الأندلس وكان صاحبها حينئذ المستعين بالله بن هود وهو من الشجعان الذين يضرب المثل بهم وكان قد أعد كل ما يحتاج إليه في الحصار وترك عنده ما يكفيه عدة سنين بمدينة روطة وكانت قلعة حصينة وكانت رعيته تخافه ولم يزل يهادي أمير المسلمين قبل أن يقصد بلاد الأندلس ويملكها ويواصله ويكثر مراسلته فرعى له ذلك حتى إنه أوصى ابنه علي بن يوسف عند موته بترك التعرض لبلاد بني هود وقال‏:‏ اتركهم بينك وبين العدو فإنهم شجعان‏.‏

ذكر ملك الفرنج جزيرة صقلية

في هذه السنة استولى الفرنج لعنهم الله على جميع جزيرة صقلية أعادها الله تعالى إلى الإسلام والمسلمين‏.‏

وسبب ذلك أن صقلية كان الأمير عليها سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة أبا الفتوح يوسف بن عبد الله بن محمد بن أبي الحسين ولاه عليها العزيز العلوي صاحب مصر وإفريقية فأصابه هذه السنة فالج فتعطل جانبه الأيسر وضعف جانبه الأيمن فاستناب ابنه جعفرًا فبقي كذلك ضابطًا للبلاد حسن السيرة في أهلها إلى سنة خمس وأربعمائة فخالف عليه أخوه علي وأعانه جمع من البربر والعبيد فأخرج إليه أخوه جعفر جندًا من المدينة فاقتتلوا سابع شعبان وقتل من البربر والعبيد خلق كثير وهرب من بقي منهم وأخذ علي أسيرًا فقتله أخوه جعفر وعظم قتله على أبيه فكان بين خروجه وقتله ثمانية أيام‏.‏

وأمر جعفر حينئذ أن ينفى كل بربري بالجزيرة فنفوا إلى إفريقية وأمر بقتل العبيد فقتلوا عن آخرهم وجعل جنده كلهم من أهل صقلية‏.‏

فقل العسكر بالجزيرة وطمع أهل الجزيرة في الأمراء فلم يمض إلا يسير حتى ثار به أهل صقلية وأخرجوه وخلعوه وأرادوا قتله‏.‏

وسبب ذلك أنه ولى عليهم إنسانًا صادرهم وأخذ الأعشار من غلاتهم واستخف بقوادهم وشيوخ البلد وقهر جعفر إخوته واستطال عليهم فلم يشعر إلا وقد زحف إليه أهل البلد كبيرهم وصغيرهم فحصروه في قصره في المحرم سنة عشر وأربعمائة وأشرفوا على أخذه فخرج إليهم أبوه يوسف في محفة وكانوا له محبين فلطف بهم ورفق فبكوا رحمة له من مرضه وذكروا له ما أحدث ابنه عليهم وطلبوا أن يستعمل ابنه أحمد المعروف بالأكحل ففعل ذلك‏.‏

وخاف يوسف على ابنه جعفر منهم فسيره في مركب إلى مصر وسار أبوه يوسف بعده ومعهما من الأموال ستمائة ألف دينار وسبعون ألفًا وكان ليوسف من الدواب ثلاثة عشر ألف حجرة سوى البغال وغيرها ومات بمصر وليس له إلا دابة واحدة‏.‏

ولما ولي الأكحل أخذ أمره بالحزم والاجتهاد وجمع المقاتلة وبث سراياه في بلاد الكفرة فكانوا يحرقون ويغنمون ويسبون ويخربون البلاد وأطاعه جميع قلاع صقلية التي للمسلمين‏.‏

وكان للأكحل ابن اسمه جعفر كان يستنيبه إذا سافر فخالف سيرة أبيه ثم إن الأكحل جمع أهل صقلية وقال‏:‏ أحب أن أشيلكم على الإفريقيين الذين قد شاركوكم في بلادكم والرأي إخراجهم فقالوا‏:‏ قد صاهرناهم وصرنا شيئًا واحدًا فصرفهم‏.‏

ثم أرسل إلى الإفريقيين فقال لهم مثل ذلك فأجابوه إلى ما أراد فجمعهم حوله فكان يحمي أملاكهم ويأخذ الخراج من أملاك أهل صقلية فسار من أهل صقلية جماعة إلى المعز ابن باديس وشكوا إليه ما حل بهم وقالوا‏:‏ نحب أن نكون في طاعتك وإلا سلمنا البلاد إلى الروم وذلك سنة سبع وعشرين وأربعمائة فسير معهم ولده عبد الله في عسكر فدخل المدينة وحصر الأكحل في الخلاصة‏.‏

ثم اختلف أهل صقلية وأراد بعضهم نصرة الأكحل فقتله الذين أحضروا عبد الله بن المعز‏.‏

ثم إن الصقليين رجع بعضهم على بعض وقالوا‏:‏ أدخلتم غيركم عليكم والله لا كانت عاقبة أمركم فيه إلى خير‏!‏ فعزموا على حرب عسكر المعز فاجتمعوا وزحفوا في المراكب إلى إفريقية وولى أهل الجزيرة عليهم حسنًا الصمصام أخا الأكحل فاضطربت أحوالهم واستولى الأراذل وانفرد كل إنسان ببلد وأخرجوا الصمصام فانفرد القائد عبد الله بن منكوت بمازر وطرابنش وغيرهما وانفرد القائد علي بن نعمة المعروف بابن الحواس بقصريانة وجرجنت وغيرهما وانفرد ابن الثمنة بمدينة سرقوسة وقطانية وتزوج بأخت ابن الحواس‏.‏

ثم إنه جرى بينها وبين زوجها كلام فأغلظ كل منهما لصاحبه وهو سكران فأمر ابن الثمنة بفصدها في عضديها وتركها لتموت فسمع ولده إبراهيم فحضر وأحضر الأطباء وعالجها إلى أن عادت قوتها ولما أصبح أبوه ندم واعتذر إليها بالسكر فأظهرت قبول عذره‏.‏

ثم إنها طلبت منه بعد مدة أن تزو أخاها فأذن لها وسير معها التحف والهدايا فلما وصلت ذكرت لأخيها ما فعل بها فحلف أنه لا يعيدها إليه فأرسل ابن الثمنة يطلبها فلم يردها إليه فجمع ابن الثمنة عسكره وكان قد استولى على أكثر الجزيرة وخطب له بالمدينة وسار وحصر ابن الحواس بقصريانة فخرج إليه فقاتله فانهزم ابن الثمنة وتبعه إلى قرب مدينتة قطانية وعاد عنه بعد أن قتل من أصحابه فأكثر‏.‏

فلما رأى ابن الثمنة أن عساكره قد تمزقت سولت له نفسه الانتصار بالكفار لما يريده الله تعالى فسار إلى مدينة مالطة وهي بيد الفرنج قد ملكوها لما خرج بردويل الفرنجي الذي تقدم ذكره سنة اثنتين وسبعين وثلاث مائة واستوطنها الفرنج إلى الآن وكان ملكها حينئذ رجار الفرنجي في جمع من الفرنج فوصل إليهم ابن الثمنة وقال‏:‏ أنا أملككم الجزيرة‏!‏ فقالوا‏:‏ إن فيها جندًا كثيرًا ولا طاقة لنا بهم فقال‏:‏ إنهم مختلفون وأكثرهم يسمع قولي ولا يخالفون أمري‏.‏

فساروا معه في رجب سنة أربع وأربعين وأربعمائة فلم يلقوا من يدافعهم فاستولوا على ما مروا به في طريقهم وقصد بهم إلى قصريانة فحصروها فخرج إليهم ابن الحواس فقاتلهم فهزمه الفرنج فرجع إلى الحصن فرحلوا عنه وساروا في الجزيرة واستولوا على مواضع كثيرة وفارقها كثير من أهلها من العلماء والصالحين وسار جماعة من أهل صقلية إلى المعز بن باديس و ذكروا له ما الناس فيه بالجزيرة من الخلف وغلبة الفرنج على كثير منها فعمر أسطولًا كبيرًا وشحنه بالرجال والعدد وكان الزمان شتاء فساروا إلى قوصرة فهاج عليهم البحر فغرق أكثرهم ولم ينج إلا القليل‏.‏

وكان ذهاب هذا الأسطول مما أضعف المعز وقوى عليه العرب حتى أخذوا البلاد منه‏.‏

فملك حينئذ الفرنج أكثر البلاد على مهل وتؤدة لا يمنعهم أحد واشتغل صاحب إفريقية بما دهمه من العرب ومات المعز سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة وولي ابنه تميم فبعث أيضًا أسطولًا وعسكرًا إلى الجزيرة وقدم عليه ولديه أيوب وعليًا فوصلوا لى صقلية فنزل أيوب والعسكر المدينة ونزل علي جرجنت ثم انتقل أيوب إلى جرجنت فأمر علي بن الحواسأن ينزل في قصره وأرسل هدية كثيرة‏.‏

فلما أقام أيوب فيها أحبه أهلها فحسده ابن الحواس فكتب إليهم ليخرجوه فلم يفعلوا فسار إليه في عسكره وقاتله فشد أهل جرجنت من أيوب وقاتلوا معه فبينما ابن الحواس يقاتل أتاه سهم غرب فقتله فملك العسكر عليهم أيوب‏.‏

ثم وقع بعد ذلك بين أهل المدينة وبين عبيد تميم فتنة أدت إلى القتال ثم زاد الشر بينهم فاجتمع أيوب وعلي أخوه ورجعا في الأسطول إلى إفريقية سنة إحدى وستين وصحبهم جماعة من أعيان صقلية والأسطولية ولم يبق للفرنج ممانع فاستولوا على الجزيرة ولم يثبت بين أيديهم غير قصريانة وجرجنت فحصرهما الفرنج وضيقوا على المسلمين بهما فضاق الأمر على أهلهما حتى أكلوا الميتة ولم يبق عندهم ما يأكلونه‏.‏

فأما جرجنت فسلموها إلى الفرنج وبقيت قصريانة بعدها ثلاث سنين فلما اشتد الأمر عليهم أذعنوا إلى التسليم فتسلمها الفرنج لعنهم الله سنة أربع وثمانين وأربعمائة وملك رجار جميع الجزيرة وأسكنها الروم والفرنج مع المسلمين ولم يترك لأحد من أهلها حمامًا ولا دكانًا ولا طاحونًا‏.‏

ومات رجار بعد ذلك قبل التسعين والأربعمائة وملك بعده ولده رجار فسلك طريق ملوك المسلمين من الجنائب والحجاب والسلاحية والجاندارية وغير ذلك وخالف عادة الفرنج فإنهم لا يعرفون شيئًا منه وجعل له ديوان المظالم ترفع إليه شكوى المظلومين فينصفهم ولو من ولده وأكرم المسلمين وقربهم ومنع عنهم الفرنج فأحبوه وعمر أسطولًا كبيرًا وملك الجزائر التي بين المهدية وصقلية مثل مالطة وقوصرة وجربة وقرقنة وتطاول إلى سواحل إفريقية فكان منه ما نذكره إن شاء الله‏.‏

ذكر وصول السلطان إلى بغداد

في هذه السنة في شهر رمضان وصل السلطان إلى بغداد وهي المرة الثانية ونزل بدار المملكة ونزل أصحابه متفرقين ووصل إليه أخوه تاج الدولة تتش وقسيم الدولة آقسنقر صاحب حلب وغيرهما من زعماء الأطراف وعمل الميلاد ببغداد وتأنقوا في عمله فذكر الناس أنهم لم يروا ببغداد مثله أبدًا وأكثر الشعراء وصف تلك الليلة فممن قال المطرز‏:‏ وكل نار على العشاق مضرمة من نار قلبي أو من ليلة السذق نار تجلت بها الظلماء واشتبهت بسدفة الليل فيه غرة الفلق وزارت الشمس فيها البدر واصطلحا على الكواكب بعد الغيظ والحنق مدت على الأرض بسطًا من جواهرها ما بين مجتمع مار ومفترق مثل المصابيح إلا أنها نزلت من السماء بلا رجم ولا حرق في مجلس ضحكت روض الجنان له لما جلا ثغره عن واضح يقق وللشموع عيون كلما نظرت تظلمت من يديها أنجم الغسق من كل مرهفة الأعطاف كالغصن المياد لكنه عار من الورق إني لأعجب منها وهي وادعة تبكي وعيشتها من ضربة العنق وفي هذه المرة أمر بعمارة جامع السلطان فابتديء في عمارته في المحرم سنة خمس وثمانين وأربعمائة وعمل قبلته بهرام منجمه وجماعة من أصحاب الرصد وابتدأ بعده نظام الملك وتاج الملوك والأمراء الكبار بعمل دور لهم يسكنونها إذا قدموا بغداد فلم تطل مدتهم بعدها وتفرق شملهم بالموت والقتل وغير ذلك في باقي سنتهم ولم تغن عنهم عساكرهم وما جمعوا شيئًا فسبحان الدائم الذي لا يزول أمره‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة وصل ابن أبي هاشم من مكة مستغيثًا من التركمان‏.‏

وفي آخرها مرض نظام الملك ببغداد فعالج نفسه بالصدقة فكان يجتمع بمدرسته من الفقراء والمساكين من لا يحصى وتصدق عنه الأعيان والأمراء من عسكر السلطان فعوفي وأرسل له وفيها في تاسع شعبان كان بالشام وكثير من البلاد زلازل كثيرة وكان أكثرها بالشام ففارق الناس مساكنهم وانهدم بأنطاكية كثير من المساكن وهلك تحتها عالم كثير وخرب من سورها تسعون برجًا فأمر السلطان ملكشاه بعمارتها‏.‏

وفيها في شوال توفي أبو طاهر عبد الرحمن بن محمد بن علك الفقيه الشافعي وهو من رؤساء الفقهاء الشافعية وهو الذي تقدم ذكره في فتح سمرقند ومشى أرباب الدولة السلطانية كلهم في جنازته إلا نظام الملك فإنه اعتذر بعلو السن وأكثر البكاء عليه ودفن عند الشيخ أبي إسحاق بباب ابرز وزار السلطان قبره‏.‏

وتفوي محمد بن عبد الله بن الحسين أبو بكر الناصح الحنفي قاضي الري وكان من أعيان الفقهاء الحنفية يميل إلى الاعتزال وكان موته في رجب‏.‏وفيها في شعبان توفي أبو الحسن علي بن الحسين بن طاووس المقري بمدينة صور‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وثمانين وأربعمائة

ذكر الحرب بين المسلمين والفرنج بجيان

في هذه السنة جمع أذفونش عساكره وجموعه وغزا بلاد جيان من الأندلس فلقيه المسلمون وقاتلوه واشتدت الحرب فكانت الهزيمة أولًا على المسلمين إن الله تعالى رد لهم الكرة على الفرنج فهزموهم وأكثروا القتل فيهم ولم ينج إلا الأذفونش في نفر يسير وكانت هذه الوقعة من أشهر الوقائع بعد الزلاقة وأكثر الشعراء ذكرها في أشعارهم‏.‏

ذكر استيلاء تتش على حمص وغيرها من ساحل الشام

لما كان السلطان ببغداد قدم إليه أخوه تاج الدولة تتش من دمشق وقسيم الدولة آقسنقر من حلب وبوزان من الرها فلما أذن لهم السلطان في العود إلى بلادهم أمر قسيم الدولة وبوزان أن يسيرا مع عساكرهما في خدمة أخيه تاج الدولة حتى يستولي على ما للخليفة المستنصر العلوي بساحل الشام من البلاد ويسير وهم معه إلى مصر ليملكها‏.‏

فساروا أجمعون إلى الشام ونزل على حمص وبها ابن ملاعب صاحبها وكان الضرر به وبأولاده عظيمًا على المسلمين فحصروا البلد وضيقوا على من به فملكه تاج الدولة وأخذ ابن ملاعب وولديه وسار إلى قلعة عرقة فملكها عنوة وسار إلى قلعة أفامية فملكها أيضًا وكان بها خادم للمصري فنزل بالأمان فأمنه ثم سار إلى طرابلس فنازلها فرأى صاحبها جلال الملك ابن عمار جيشًا لا يدفع إلا بحيلة فأرسل إلى الأمراء الذين مع تاج الدولة وأطمعهم وكان مع قسيم الدولة آقسنقر وزير له اسمه زرين كمر فراسله ابن عمار فرأى عنده لينًا فأتحفه وأعطاه فسعى مع صاحبها قسيم الدولة في إصلاح حاله ليدفع عنه وحمل له ثلاثين ألف دينار وتحفًا بمثلها وعرض عليه المناشير التي بيده من السلطان بالبلد والتقدم إلى النواب بتلك البلاد بمساعدته والشد بيده فأغلظ له تاج الدولة وقال‏:‏ هل أنت تابع لي فقال آقسنقر‏:‏ أنا أتابعك إلا في معصية السلطان ورحل من الغد عن موضعه فاضطر تاج الدولة إلى الرحيل فرحل غضبان وعاد بوزان أيضًا إلى بلاده فانتقض هذا الأمر‏.‏

ذكر ملك السلطان اليمن

وكان ممن حضر أيضًا عند السلطان ببغداد جبق أمير التركمان وهو صاحب قرميسين وغيرها فأمره السلطان أن يسير هو ومعه جماعة من أمراء السلطان ذكرهم إلى الحجاز واليمن ويكون أمرهم إلى سعد الدولة كوهرائين ليفتحوا البلاد هناك فاستعمل عليهم سعد الدولة أميرًا اسمه ترشك فساروا حتى وردوا اليمن فاستولوا عليها وأساءوا السيرة في أهلها ولم يتركوا فاحشة ولا سيئة إلا ارتكبوها وملكوا عدن وظهر على ترشك الجدري فتوفي في سابع يوم من وصوله إليها وكان عمره سبعين سنة فعاد أصحابه إلى بغداد وحملوه فدفنوه عند قبر

ذكر مقتل نظام الملك

في هذه السنة عاشر رمضان قتل نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الوزير بالقرب من نهاوند وكان هو والسلطان في أصبهان وقد عاد إلى بغداد فلما كان بهذا المكان بعد أن فرغ من إفطاره وخرج في محفته إلى خيمة حرمه أتاه صبي ديلمي من الباطنية في صورة مستميح أو مستغيث فضربه بسكين كانت معه فقضى عليه وهرب فعثر بطنب خيمة فأدركوه فقتلوه وركب السلطان إلى خيمه فسكن عسكره وأصحابه‏.‏

وبقي وزير السلطان ثلاثين سنة سوى ما وزر للسلطان ألب أرسلان صاحب خراسان أيام عمه طغرلبك قبل أن يتولى السلطنة وكان علت سنه فإنه كان مولده سنة ثمان وأربعمائة‏.‏

وكان سبب قتله أن عثمان بن جمال الملك بن نظام الملك كان قد ولاه جده نظام الملك رئاسة مرو وأرسل السلطان إليها شحنة يقال له قودن وهو من أكبر مماليكه ومن أعظم الأمراء في دولته فجرى بينه وبين عثمان منازعة في شيء فحملت عثمان حداثة سنه وتمكنه وطمعه بجده على أن قبض عليه وأخرق به ثم أطلقه فقصد السلطان مستغيثًا شاكيًا فأرسل السلطان إلى نظام الملك رسالة مع تاج الدولة ومجد الملك البلاساني وغيرهما من أرباب دولته

يقول له‏:‏ إن كنت شريكي في الملك ويدك مع يدي في السلطنة فلذلك حكم وإن كنت نائبي وبحكمي فيجب أن تلزم حد التبعية والنيابة وهؤلاء أولادك قد استولى كل واحد منهم على كورة عظيمة وولي ولاية كبيرة ولم يقنعهم ذلك حتى تجاوزوا أمر السياسة وطمعوا إلى أن فعلوا كذا وكذا وأطال القول وأرسل معهم الأمير يلبرد وكان من خواصه وثقاته وقال له‏:‏ تعرفني ما يقول فربما كتم هؤلاء شيئًا‏.‏

فحضروا عند نظام الملك وأوردوا عليه الرسالة فقال لهم‏:‏ قولوا للسلطان إن كنت ما علمت أني شريكك في الملك فاعلم فإنك ما نلت هذا الأمر إلا بتدبيري ورأيي أما يذكر حين قتل أبوه فقمت بتدبير أمره وقمعت الخوارج عليه من أهله وغيرهم منهم‏:‏ فلان وفلان وذكر جماعة من خرج عليه وهو ذلك الوقت يتمسك بي ويلزمني ولا يخالفني فلما قدت الأمور إليه وجمعت الكلمة عليه وفتحت له الأمصار القريبة والبعيدة وأطاعه القاصي والداني أقبل يتجنى لي الذنوب ويسمع في السعايات قولوا له عني‏:‏ إن ثبات تلك القلنسوة معذوق بهذه الدواة وإن اتفاقهما رباط كل رغيبة وسبب كل غنيمة ومتى أطبقت هذه زالت تلك فإن عزم على تغيير فليتزود للاحتياط قبل وقوعه وليأخذ الحذر من الحادث أمام طروقه وأطال فيما هذا سبيله ثم قال لهم‏:‏ قولوا للسلطان عني مهما أردتم فقد أهمني ما لحقني من توبيخه فلما خرجوا من عنده اتفقوا على كتمان ما جرى عن السلطان وأن يقولوا له ما مضمونه العبودية والتنصل ومضوا إلى منازلهم وكان الليل قد انتصف ومضى يلبرد إلى السلطان فأعلمه ما جرى وبكر الجماعة إلى السلطان وهو ينتظرهم فقالوا له من الاعتذار والعبودية ما كانوا اتفقوا عليه فقال لهم السلطان‏:‏ إنه لم يقل هذا وإنما قال كيت وكيت فأشاروا حينئذ بكتمان ذلك رعاية لحق نظام الملك وسابقته فوقع التدبير عليه حتى تم عليه من القتل ما تم‏.‏

ومات السلطان بعده بخمسة وثلاثين يومًا وانحلت الدولة ووقع السيف وكان قول نظام الملك شبه الكرامة له وأكثر الشعراء مراثيه فمن جيد ما قيل فيه قول شبل الدولة مقاتل بن عطية‏:‏ كان الوزير نظام الملك لؤلؤة يتيمة صاغها الرحمن من شرف عزت فلم تعرف الأيام قيمتها فردها غيرة منه إلى الصدف ورأى بعضهم نظام الملك بعد قتله في المنام فسأله عن حاله فقال‏:‏ كان يعرض علي جميع عملي لولا الحديدة التي أصبت بها يعني القتل‏.‏

ذكر ابتداء حاله وشيء من أخباره

أما ابتداء حاله فكان من أبناء الدهاقين بطوس فزال ما كان لأبيه من مال وملك وتوفيت أمه وهو رضيع فكان أبوه يطوف به على المرضعات فيرضعنه حسبة حتى شب وتعلم العربية وسر الله فيه يدعوه إلى علو الهمة والاشتغال بالعلم فتفقه وصار فاضلًا وسمع الحديث الكثير ثم اشتغل بالأعمال السلطانية ولم يزل الدهر يعلو به ويخفض حضرًا وسفرًا‏.‏

وكان يطوف بلاد خراسان ووصل إلى غزنة في صحبة بعض المتصرفين ثم لزم أبا علي بن شاذان متولي الأمور ببلخ لداود والد السلطان ألب أرسلان فحسنت حاله معه وظهرت كفايته وأمانته وصار معروفًا عندهم بذلك فلما حضرت أبا علي بن شاذان الوفاة أوصى الملك ألب أرسلان به وعرفه حاله فولاه شغله ثم صار وزيرًا له إلى أن ولي السلطنة بعد عمه طغرلبك واستمر على الوزارة لأنه ظهرت منه كفاية عظيمة وآراء سديدة قادت السلطنة إلى ألب أرسلان فلما توفي ألب أرسلان قام بأمر ابنه ملكشاه وقد تقدم ذكر هذه الجمل مستوفى مشروحًا‏.‏

وقيل إن ابتداء أمره أنه كان يكتب للأمير تاجر صاحب بلخ وكان الأمير يصادره في رأس كل سنة ويأخذ ما معه ويقول له‏:‏ قد سمنت يا حسن‏!‏ ويدفع إليه فرسًا ومقرعة ويقول‏:‏ هذا يكفيك فلما طال ذلك عليه أخفى ولديه فخر الملك ومؤيد الملك وهرب إلى جغري بك داود والد ألب أرسلان فوقف فرسه في الطريق فقال‏:‏ اللهم إني أسألك فرسًا تخلصني عليه‏!‏ فسار غير بعيد فلقيه تركماني وتحته فرس جواد فقال لنظام الملك‏:‏ انزل عن فرسك فنزل عنه فأخذه التركماني وأعطاه فرسه فركبه وقال له‏:‏ لا تنسني يا حسن‏.‏

قال نظام الملك‏:‏ فقويت نفسي بذلك وعملت أنه ابتداء سعادة‏.‏

فسار نظام الملك إلى مرو ودخل على داود فلما رآه أخذ بيده وسلمه إلى والده ألب أرسلان وقال له‏:‏ هذا حسن الطوسي فتسلمه واتخذه والدًا ولا تخالفه‏.‏

وكان الأمير تاجر لما سمع بهرب نظام الملك سار في أثره إلى مرو فقال لداود‏:‏ هذا كاتبي ونائبي قد أخذ أموالي فقال له داود‏:‏ حديثك مع محمد يعني ألب أرسلان فكان اسمه محمد فلم يتجاسر تاجر على خطابه فتركه وعاد‏.‏

وأما أخباره فإنه كان عالمًا دينًا جوادًا عادلًا حليمًا كثير الصفح عن المذنبين طويل الصمت كان مجلسه عامرًا بالقراء والفقهاء وأئمة المسلمين وأهل الخير والصلاح أمر ببناء المدارس في سائر الأمصار والبلاد وأجرى لها الجرايات العظيمة وأملى الحديث بالبلاد‏:‏ ببغداد وخراسان وغيرهما وكان يقول‏:‏ إني لست من أهل هذا الشأن لما تولاه ولكني أحب أن أجعل نفسي على قطار نقلة حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏.‏

وكان إذا سمع المؤذن أمسك عن كل ما هو فيه وتجنبه فإذا فرغ لا يبدأ بشيء قبل الصلاة وكان إذا غفل المؤذن ودخل الوقت يأمره بالأذان وهذا غاية حال المنقطعين إلى العبادة في حفظ الأوقات ولزوم الصلوات‏.‏

وأسقط المكوس والضرائب وأزال لعن الأشعرية من المنابر وكان الوزير عميد الملك الكندري قد حسن للسلطان طغرلبك التقدم بلعن الرافضة فأمره بذلك فأضاف إليهم الأشعرية ولعن الجميع فلهذا فارق كثير من الأئمة بلادهم مثل إمام الحرمين وأبي القاسم القشيري وغيرهما فلما ولي ألب أرسلان السلطنة أسقط نظام الملك ذلك جميعه وأعاد العلماء إلى أوطانهم‏.‏

وكان نظام الملك إذا دخل عليه الإمام أبو القاسم القشيري والإمام أبو المعالي الجويني يقوم لهما ويجلس في مسنده كما هو وإذا دخل أبو علي الفارمذي يقوم إليه ويجلسه في مكانه ويجلس هو بين يديه فقيل له في ذلك فقال‏:‏ إن هذين وأمثالهما إذ دخلوا علي يقولون لي‏:‏ أنت كذا وكذا يثنون علي بما ليس في فيزيدني كلامهم عجبًا وتيهًا وهذا الشيخ يذكر لي عيوب نفسي وما أنا فيه من الظلم فتنكسر نفسي لذلك وأرجع عن كثير مما أنا فيه‏.‏

وقال نظام الملك‏:‏ كنت أتمنى أن يكون لي قرية خالصة ومسجد أتفرد فيه لعبادة ربي ثم بعد ذلك تمنيت أن يكون لي قطعة أرض أتقوت بريعها ومسجد أعبد الله فيه وأما الآن فأنا أتمنى أن يكون لي رغيف كل يوم ومسجد أعبد الله فيه‏.‏

وقيل‏:‏ كان ليلة يأكل الطعام وبجانبه أخوه أبو القاسم وبالجانب الآخر عميد خراسان وإلى جانب العميد إنسان فقير مقطوع اليد فنظر نظام الملك فرأى العميد يتجنب الأكل مع المقطوع فأمره بالانتقال إلى الجانب الآخر وقرب المقطوع إليه فأكل معه‏.‏

وكانت عادته أن يحضر الفقراء طعامه ويقربهم إليه ويدنيهم‏.‏

وأخباره مشهورة كثيرة قد جمعت لها المجاميع السائرة في البلاد‏.‏

ذكر وفاة السلطان

وذكر بعض سيرته سار السلطان ملكشاه بعد قتل نظام الملك إلى بغداد ودخلها في الرابع والعشرين من شهر رمضان ولقيه وزير الخليفة عميد الدولة بن جهير وظهرت من تاج الملك كفاية عظيمة وكان السلطان قد أمر أن تفصل خلع الوزارة لتاج الملك وكان هو الذي سعى بنظام الملك فلما فرغ من الخلع ولم يبق غير لبسها والجلوس في الدست اتفق أن السلطان خرج إلى الصيد وعاد ثالث شوال مريضًا وأنشب الموت أظفاره فيه ولم يمنع عنه سعة ملكه وكثرة عساكره‏.‏

وكان سبب مرضه أنه أكل لحم صيد فحم وافتصد ولم يستوف إخراج الدم فثقل مرضه وكانت حمى محرقة فتوفي ليلة الجمعة النصف من شوال‏.‏

ولما ثقل نقل أرباب دولته أموالهم إلى حريم دار الخلافة ولما توفي سترت زوجته تركان خاتون المعروفة بخاتون الجلالية موته وكتمته وأعادت جعفر ابن الخليفة من ابنة السلطان إلى أبيه المقتدي بأمر الله وسارت من بغداد والسلطان معها محمولًا وبذلت الأموال للأمراء سرًا واستحلفتهم لابنها محمود وكان تاج الملك يتولى ذلك لها وأرسلت قوام الدولة كربوقا الذي صار صاحب الموصل إلى أصبهان بخاتم السلطان فاستنزل مستحفظ القلعة وتسلمها وأظهر أن السلطان أمره بذلك ولم يسمع بسلطان مثله لم يصل عليه أحد ولم يلطم عليه وجه‏.‏

وكان مولده سنة سبع وأربعين وأربعمائة وكان من أحسن الناس صورة ومعنى وخطب له من حدود الصين إلى آخر الشام ومن أقاصي بلاد الإسلام في الشمال إلى آخر بلاد اليمن وحمل إليه ملوك الروم الجزية ولم يفته مطلب وانقضت أيامه على أمن عام وسكون شامل وعدل مطرد‏.‏

ومن أفعاله أنه لما خرج عليه أخوه تكش بخراسان اجتاز بمشهد علي بن موسى الرضا بطوس فزاره فلما خرج قال لنظام الملك‏:‏ بأي شيء دعوت قال‏:‏ دعوت الله أن ينصرك فقال‏:‏ أما أنا فلم أدع بهذا بل قلت‏:‏ اللهم انصر أصلحنا للمسلمين وأنفعنا للرعية‏.‏

وحكي عنه أن سواديًا لقيه وهو يبكي فاستغاث به وقال‏:‏ كنت ابتعت بطيخًا بدريهمات لا أملك سواها فغلبني عليه ثلاثة نفر من الأتراك فأخذوه مني‏.‏

فقال السلطان له‏:‏ اقعد‏!‏ ثم أحضر فراشًا وقال‏:‏ قد اشتهيت بطيخًا وكان ذلك عند أول استوائه وأمره بطلبه من العسكر فغاب ثم عاد ومعه البطيخ فأمره بإحضار من وجده عنده فأحضره فسأله السلطان من أين له ذلك البطيخ فقال غلماني جاؤوني به فأمر أن يجيء بهم إليه فمضى وأمرهم بالهرب وعاد فقال‏:‏ لم أجدهم فقال للسوادي‏:‏ خذ مملوكي هذا فقد وهبته لك عوضًا عن بطيخك ويحضر الذين أخذوه والله لئن أطلقته لأضربن عنقك‏.‏

فأخذه السوادي فاشترى الغلام نفسه منه بثلاثمائة دينار فعاد السوادي إلى الس وقال‏:‏ قد بعته نفسه بثلاثمائة دينار فقال‏:‏ أرضيت بذلك قال‏:‏ نعم‏!‏ قال‏:‏ امض مصاحبًا‏.‏

وقال عبد السميع بن داود العباسي‏:‏ شاهدت ملكشاه وقد أتاه رجلان من أرض العراق السفلى من قرية الحدادية يعرفان بابني غزال فلقياه فوقف لهما فقالا‏:‏ إن مقطعنا الأمير خماراتكين قد صادرنا بألف وستمائة دينار وقد كسر ثنيتي أحدنا وأراهما الس وقد قصدناك لتقتص لنا منه فإن أخذت بحقنا كما أوجب الله عليك وإلا فالله يحكم بيننا‏.‏

قال فرأيت السلطان وقد نزل عن دابته وقال‏:‏ ليمسك كل واحد منكما بطرف كمي واسحباني إلى خواجه حسن يعني نظام الملك فامتنعا من ذلك واعتذرا وأقسم عليهما إلا فعلا فأخذ كل واحد منهما بكم من كميه ومشى معهما إلى نظام الملك فبلغه الخبر فخرج مسرعًا فلقيه وقبل الأرض وقال‏:‏ يا سلطان العالم‏!‏ ما حملك على هذا فقال‏:‏ كيف يكون حالي غدًا عند الله إذا طولبت بحقوق المسلمين وقد قلدتك هذا الأمر لتكفيني مثل هذا الموقف فإن نال الرعية أذى فأنت المطالب فانظر لي ولنفسك‏.‏

فقبل الأرض ومشى في خدمته وعاد من وقته وكتب بعزل الأمير خمارتكين عن إقطاعه ورد المال عليهما وأعطاهما مائة دينار من عنده وأمرهما بإثبات البينة أنه قلع ثنيتيه ليقلع ثنيتيه عوضهما فرضيا وانصرفا‏.‏

وقيل إنه ورد بغداد ثلاث دفعات فخافه الناس من غلاء الأسعار وتعدي الجند فكانت الأسعار أرخص منها قبل قدومه وكان الناس يخترقون عساكره ليلًا ونهارًا فلا يخافون أحدًا ولم يتعد عليهم أحد وأسقط المكوس والمؤن من جميع البلاد وعمر الطرق والقناطر والربط التي في المفاوز وحفر الأنهار الخراب وعمر الجامع ببغداد وعمل المصانع بطريق مكة وبنى البلد بأصبهان وبنى منارة القرون بالسبيعي بطريق مكة وبنى مثلها بما وراء النهر واصطاد مرة صيدًا كثيرًا فأمره بعده فكان عشرة آلاف رأس فأمر بصدقة عشرة آلاف دينار وقال‏:‏ إنني خائف من الله تعالى كيف أزهقت أرواح هذه الحيوانات بغير ضرورة ولا مأكلة وفرق من الثياب والأموال بين أصحابه ما لا يحصى وصار بعد ذلك كلما صاد شيئًا تصدق بعدده دنانير وهذا فعل من يحاسب نفسه على حركاته وسكناته وقد أكثر الشعراء مراثيه أيضًا‏.‏

وقيل إن بعض أمراء السلطان كان نازلًا بهراة مع بعض العلماء اسمه عبد الرحمن في داره فقال يومًا ذلك الأمير للسلطان وهو سكران‏:‏ إن عبد الرحمن يشرب الخمر ويعبد الأصنام من دون الله تعالى ويحلل الحرام فلم يجبه ملكشاه فلما كان الغد صحا ذلك الأمير فأخذ السلطان السيف وقال له‏:‏ اصدقني عن فلان وإلا قتلتك‏!‏ فطلب منه الأمان فأمنه فقال‏:‏ إن عبد الرحمن له دار حسناء وزوجة جميلة فأردت أن تقتله فأفوز بداره وزوجته فأبعده السلطان وشكر الله تعالى على التوقف عن قبول سعايته وتصدق بأموال جليلة المقدار‏.‏


ذكر ملك ابنه الملك محمود وما كان من حال ابنه الأكبر بركيارق إلى أن ملك لما مات السلطان ملكشاه كتمت زوجته تركان خاتون موته كما ذكرناه وأرسلت إلى الأمراء سرًا فأرضتهم واستحلفتهم لولدها محمود وعمره أربع سنين وشهور وأرسلت إلى الخليفة المقتدي في الخطبة لولدها أيضًا فأجابها وشرط أن يكون اسم السلطنة لولدها والخطبة له ويكون المدبر لزعامة الجيوش ورعاية البلد هو الأمير أنر ويصدر عن رأي تاج الملك ويكون ترتيب العمال وجباية الأموال إلى تاج الملك أيضًا وكان تاج الملك هو الذي يدبر الأمر بين يدي خاتون‏‏

فلما جاءت رسالة الخليفة إلى خاتون بذلك امتنعت من قبوله فقيل لها‏:‏ إن ولدك صغير ولا يجيز الشرع ولايته وكان المخاطب لها في ذلك الغزالي فأذعنت له وأجابت إليه فخطب لولدها ولقب ناصر الدنيا والدين وكانت الخطبة يوم الجمعة الثاني والعشرين من شوال من السنة وخطب له بالحرمين الشريفين‏.‏

ولما مات السلطان ملكشاه أرسلت تركان خاتون إلى أصبهان في القبض على بركيارق ابن السلطان وهو أكبر أولاده خافته أن ينازع ولدها في السلطنة فقبض عليه فلما ظهر موت ملكشاه وثب المماليك النظامية على سلاح كان لنظام الملك بأصبهان فأخذوه وثاروا في البلد وأخرجوا بركيارق من الحبس وخطبوا له بأصبهان وملكوه وكانت والدة بركيارق زبيدة ابنة ياقوتي بن داود وهي ابنة عم ملكشاه خائفة على ولدها من خاتون أم محمود فأتاها الفرج بالمماليك النظامية‏.‏

وسارت تركان خاتون من بغداد إلى أصبهان فطالب العسكر تاج الملك بالأموال فوعدهم فلما وصلوا إلى قلعة برجين صعد إليها لينزل الأموال منها فلما استقر فيها عصى على خاتون ولم ينزل خوفًا من العسكر فساروا عنه ونهبوا خزائنه فلم يجدوا بها شيئًا فإنه كان قد علم ما جرى فاستظهر وأخفاه‏.‏

ولما وصلت تركان خاتون إلى أصبهان لحقها تاج الملك واعتذر بأن مستحفظ القلعة حبسه وأنه هرب منه إليها فقبلت عذره‏.‏

وأما بركيارق فإنه لما قاربت خاتون وابنها محمود أصبهان خرج منها هو ومن معه من النظامية وساروا نحو الري فلقيهم أرغش النظامي في عساكره ومعه جماعة من الأمراء وصاروا يدًا واحدة وإنما حمل النظامية على الميل إلى بركيارق كراهتهم لتاج الملك لأنه عدو نظام الملك والمتهم بقتله فلما اجتمعوا حصروا قلعة طبرك وأخذوها عنوة فسيرت خاتون العساكر إلى قتال بركيارق فالتقى العسكران بالقرب من بروجرد فانحاز جماعة من الأمراء الذين في عسكر خاتون إلى بركيارق منهم‏:‏ الأمير يلبرد وكمشتكين الجاندار وغيرهما فقوي بهم وجرت الحرب بينهم أواخر ذي الحجة واشتد القتال فانهزم عسكر خاتون وعادوا إلى أصبهان وسار بركيارق في أثرهم فحصرهم بأصبهان‏.‏

كان تاج الملك مع عسكر خاتون وشهد الوقعة فهرب إلى نواحي بروجرد فأخذ وحمل إلى عسكر بركيارق وهو يحاصر أصبهان وكان يعرف كفايته فأراد أن يستوزره فشرع تاج الملك في إصلاح كبار النظامية وفرق فيهم مائتي ألف دينار سوى العروض فزال ما في قلوبهم‏.‏

فلما بلغ عثمان نائب نظام الملك الخبر ساءه فوضع الغلمان الأصاغر على الاستغاثة وأن لا يقنعوا إلا بقتل قاتل صاحبهم ففعلوا فانفسخ ما دبره تاج الملك وهجم النظامية عليه فقتلوه وفصلوا أجزاء وكان قتله في المحرم سنة ست وثمانين وحملت إلى بغداد إحدى أصابعه‏.‏

وكان كثير الفضائل جم المناقب وإنما غطى محاسنه ممالأته على قتل نظام الملك وهو الذي بنى تربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وعمل المدرسة التي إلى جانبها ورتب بها الشيخ أبا بكر الشاسي وكان عمره حين قتل سبعًا وأربعين سنة‏.