المجلد التاسع - ذكر قتل يوسف بن آبق

ثم دخلت سنة تسع وثمانين وأربعمائة

في هذه السنة في المحرم قتل يوسف بن آبق الذي ذكرنا أنه سيره تاج الدولة تتش إلى بغداد ونهب سوداها‏.‏

وكان سبب قتله أنه كان بحلب بعد قتل تاج الدولة وكان بحلب إنسان يقال له المجن وهو رئيس الأحداث بها وله أتباع كثيرون فحضر عند جناح الدولة حسين وقال له‏:‏ إن يوسف بن آبق يكاتب باغي سيان وهو على عزم الفساد واستأذنه في قتله فأذن له وطلب أن يعينه بجماعة من الأجناد ففعل ذلك فقصد المجن الدار التي بها يوسف فكبسها من الباب والسطح وأخذ يوسف فقتله ونهب كل ما كان في داره وبقي بحلب حاكمًا فحدثته نفسه بالتفرد بالحكم عن الملك رضوان فقال لجناح الدولة‏:‏ إن الملك رضوان أمرني بقتلك فخذ لنفسك فهرب جناح الدولة إلى حمص وكانت له فلما انفرد المجن بالحكم تغير عليه رضوان وأراد منه أن يفارق البلد فلم يفعل وركب في أصحابه فلو هم بالمحاربة لفعل ثم أمر أصحابه أن ينهبوا ماله وأثاثه ودوابه ففعلوا ذلك واختفى فطلب فوجد بعد ثلاثة أيام فأخذ وعوقب وعذب ثم قتل هو وأولاده وكان من السواد يشق الخشب ثم بلغ هذه الحالة‏.‏

ذكر وفاة منصور بن مروان

في هذه السنة في المحرم توفي منصور بن نظام الدين بن نصر الدولة بن مروان صاحب ديار بكر وهو الذي انقرض أمر بني مروان على يده حين حاربه فخر الدولة بن جهير وكان جكرمش قد قبض عليه بالجزيرة وتركه عند رجل يهودي فمات في داره وحملته زوجته إلى تربة آبائه فدفنته ثم حجت وعادت إلى بلد البشنوية فابتاعت ديرًا من بلد فنك بقرب جزيرة ابن عمر وأقامت فيه تعبد الله‏.‏

كوان منصور شجاعًا شديد البخل له في البخل حكايات عجيبة‏.‏

فتعسًا لطالب الدنيا المعرض عن الآخرة ألا ينظر إلى فعلها بأبنائها بينما منصور هذا ملك من بيت ملك آل أمره إلى أن مات في بيت يهودي نسأل الله تعالى أن يحسن أعمالنا ويصلح عاقبة أمرنا في الدنيا والآخرة بمنه وكرمه‏.‏

ذكر ملك تميم مدينة قابس أيضًا

في هذه السنة ملك تميم بن المعز مدينة قابس وأخرج منها أخاه عمرًا‏.‏

وسبب ذلك أنها كان بها إنسان يقال له قاضي بن إبراهيم بن بلمونة فمات فولى أهلها عليهم عمرو بن المعز فأساء السيرة وكان قاضي بن إبراهيم عاصيًا على تميم وتميم يعرض عنه فسلك عمرو طريقه في ذلك فأخرج تميم العساكر إلى أخيه عمرو ليأخذ المدينة منه فقال له بعض أصحابه‏:‏ يا مولانا لما كان فيها قاضي توانيت عنه وتركته فلما وليها أخوك جردت إليه العساكر فقال‏:‏ لما كان فيها غلام من عبيدنا كان زواله سهلًا علينا وأما اليوم وابن المعز بالمهدية وابن المعز بقابس فهذا ما لا يمكن السكوت عليه‏.‏

وفي فتحها يقول ابن خطيب سوسة القصيدة المشهورة التي أولها‏:‏ ضحك الزمان وكان يلقى عابسا لما فتحت بحد السيف قابسا الله يعلم ما حويت ثمارها إلا وكان أبوك قبل الغارسا من كان في زرق الأسنة خاطبًا كانت له قلل البلاد عرائسا فابشر تميم بن المعز بفتكة تركتك من أكناف قابس قابسا ولوا فكم تركوا هناك مصانعًا ومقاصرًا ومخالدًا ومجالسا فكأنها قلب وهن وساوس جاء اليقين فذاد عنه وساوسا

ذكر ملك كربوقا الموصل


في هذه السنة في ذي القعدة ملك قوام الدولة أبو سعيد كربوقا مدينة الموصل وقد ذكرنا أن تاج الدولة تتش أسره لما قتل آقسنقر وبوزان فلما أسره أبقى عليه طمعًا في استصلاح حميه الأمير أنر ولم يكن له بلد يملكه إذا قتله كما فعل الأمير بوزان فإنه قتله واستولى على بلاده ولم يزل قوام الدولة محبوسًا بحلب إلى أن قتل تتش وملك ابنه الملك رضوان حلب فأرسل السلطان بركيارق رسولًا يأمره بإطلاقه وإطلاق أخيه التونتاش فلما أطلقا سارا واجتمع عليهما كثير من العساكر البطالين فأتيا حران فتسلماها وكاتبهما محمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش وهو بنصيبين ومعه ثروان بن وهيب وأبو الهيجاء الكردي يستنصرون بهما على الأمير علي بن شرف الدولة وكان بالموصل قد جعله بها تاج الدولة تتش بعد وقعة المضيع‏.‏

فسار كربوقا إليهم فلقيه محمد بن شرف الدولة على مرحلتين من نصيبين واستحلفهما لنفسه فقبض عليه كربوقا بعد اليمين وحمله معه وأتى نصيبين فامتنعت عليه فحصرها أربعين يومًا وتسلمها وسار إلى الموصل فحصرها فلم يظفر منها بشيء فسار عنها إلى بلد وقتل بها محمد بن شرف الدولة وغرقه وعاد إلى حصار الموصل ونزل على فرسخ منها بقرية باحلافا وترك التونتاش شرقي الموصل فاستنجد علي بن مسلم صاحبها بالأمير جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر فسار إليه نجدة له فلما علم التونتاش بذلك سار إلى طريقه فقاتله فانهزم جكرمش وعاد إلى الجزيرة منهزمًا وصار في طاعة كربوقا وأعانه على حصر الموصل وعدمت الأقوات بها وكل شيء حتى ما يوقدونه فأوقدوا القير وحب القطن‏.‏

فلما ضاق بصاحبها علي الأمر وفارقها وسار إلى الأمير صدقة بن مزيد بالحلة وتسلم كربوقا البلد بعد أن حصره تسعة أشهر وخافه أهله لأنه بلغهم أن التونتاش يريد نهبهم وأن كربوقا يمنعه من ذلك فاشتغل التونتاش بالقبض على أعيان البلد ومطالبتهم بودائع البلد واستطال على كربوقا فأمر بقتله فقتل في اليوم الثالث وأمن الناس شره وأحسن كربوقا السيرة فيهم وسار نحو الرحبة فمنع عنها فملكها ونهبها واستناب بها وعاد‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة اجتمع ستة كواكب في برج الحوت وهي الشمس والقمر والمشتري والزهرة والمريخ وعطارد فحكم المنجمون بطوفان يكون في الناس يقارب طوفان نوح فأحضر الخليفة المستظهر بالله ابن عيسون المنجم فسأله فقال‏:‏ إن طوفان نوحان اجتمعت الكواكب السبعة في برج الحوت والآن فقد اجتمع ستة منها وليس منها زحل فلو كان معها لكان مثل طوفان نوح ولكن أقول إن مدينة أو بقعة من الأرض يجتمع فيها عالم كثير من بلاد كثيرة فيغرقون فخافوا على بغداد لكثرة من يجتمع فيها من البلاد فأحكمت المسنيات والمواضع التي يخشى منها الانفجار والغرق‏.‏

فاتفق أن الحجاج نزلوا بوادي المياقت بعد نخلة فأتاهم سيل عظيم فأغرق أكثرهم ونجا من وفيها في صفر درس الشيخ أبو عبد الله الطبري الفقيه الشافعي بالمدرسة النظامية ببغداد رتبه فيها فخر الملك بن نظام الملك وزير بركيارق‏.‏

وفيها أغارت خفاجة على بلد سيف الدولة صدقة بن مزيد فأرسل في أثرهم عسكرًا مقدمه ابن عمه قريش بن بدران بن دبيس بن مزيد فأسرته خفاجة وأطلقوه وقصدوا مشهد الحسين بن علي عليه السلام فتظاهروا فيه بالفساد والمنكر فوجه إليهم صدقة جيشًا فكبسوهم وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا في المشهد حتى عند الضريح وألقى رجل منهم نفسه وهو على فرسه من على السور فسلم هو والفرس‏.‏

و في هذه السنة في صفر توفي القاضي أبو مسلم وادع بن سليمان قاضي معرة النعمان والمستولي على أمورها وكان رجل زمانه همة وعلمًا‏.‏

وفيها في ربيع الأول توفي أبو بكر محمد بن عبد الباقي المعروف بابن الخاضبة المحدث وكان عالمًا‏.‏

وفيها في رمضان توفي أبو بكر عمر بن السمرقندي ومولده سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة‏.‏

وفيها في رمضان توفي أبو الفضل عبد الملك بن إبراهيم المقدسي المعروف بالهمذاني وكان عالمًا في عدة علوم وقد قارب ثمانين سنة‏.‏
ذكر قتل أرسلان أرغون

في هذه السنة في المحرم قتل أرسلان أرغون بن ألب أرسلان أخو السلطان ملكشاه بمرو وكان قد ملك خراسان‏.‏

وسبب قتله أنه كان شديدًا على غلمانه كثير الإهانة لهم والعقوبة وكانوا يخافونه خوفًا عظيمًا فاتفق أنه الآن طلب غلامًا له فدخل عليه وليس معه أحد فأنكر عليه تأخره عن الخدمة فاعتذر فلم يقبل عذره وضربه فأخرج الغلام سكينًا معه وقتله وأخذ الغلام فقيل له‏:‏ لم فعلت هذا فقال‏:‏ لأريح الناس من ظلمه‏.‏

وكان سبب ملكه خراسان أنه كان له أيام أخيه ملكشاه من الإقطاع ما مقداره سبعة آلاف دينار وكان معه ببغداد لما مات فسار إلى همذان في سبعة غلمان واتصل به جماعة فسار إلى نيسابور فلم يجد فيها مطمعًا فتمم إلى مرو وكان شحنة مرو أمير اسمه قودن من مماليك ملكشاه وهو الذي كان سبب تنكر السلطان ملكشاه على نظام الملك وقد تقدم ذلك في قتل نظام الملك فمال إلى أرسلان أرغون وسلم البلد إليه فأقبلت العساكر إليه وقصد بلخ وبها فخر الملك بن نظام الملك فسار عنها ووزر لتاج الدولة تتش على ما ذكرناه‏.‏

وملك أرسلان أرغون بلخ وترمذ ونيسابور وعامة خراسان وأرسل إلى السلطان بركيارق وإلى وزيره مؤيد الملك بن نظام الملك يطلب أن يقر عليه خراسان كما كانت لجده داود ما عدا نيسابور ويبذل الأموال ولا ينازع في السلطنة‏.‏

فسكت عنه بركيارق لاشتغاله بأخيه محمود وعمه تتش فلما عزل السلطان بركيارق مؤيد الملك عن وزارته ووليها أخوه فخر الملك واستولى على الأمور مجد الملك البلاساني قطع أرسلان أرغون مراسلة بركيارق وقال‏:‏ لا أرضى لنفسي مخاطبة البلاساني فندب بركيارق حينئذ عمه بوربرس بن ألب أرسلان وسيره في العساكر لقتاله‏.‏

وكان قد اتصل بأرسلان عماد الملك أبو القاسم بن نظام الملك ووزر له فلما وصلت العساكر إلى خراسان لقيهم أرسلان أرغون وقاتلهم وانهزم منهم وسار منهزمًا إلى بلخ وأقام بوربرس والعساكر التي معه بهراة‏.‏

ثم جمع أرغون عساكر جمة وسار إلى مرو فحصرها أيامًا وفتحها عنوة وقتل فيها وأكثر وقلع أبواب سورها وهدمه فسار إليه بوربرس من هراة فالتقيا وتصافا فانهزم بوربرس سنة ثمان وثمانين‏.‏

وسبب هزيمته أنه كان معه من جملة العساكر التي سيرها معه بركيارق أمير آخر ملكشاه وهو من أكابر الأمراء والأمير مسعود بن تاجر وكان أبوه مقدم عسكر داود جد ملكشاه ولمسعود منزلة كبيرة ومحل عظيم عند الناس كافة وكان بين أمير آخر وبين أرسلان مودة قديمة فأرسل إليه أرسلان أرغون يستميله ويدعوه إلى طاعته فأجابه إلى ذلك‏.‏

ثم إن مسعود بن تاجر قصد أمير آخر زائرًا له ومعه ولده فأخذهما وقتلهما فضعف أمر بوربرس وانهزم من أرسلان أرغون وتفرق عسكره وأسر وحمل إلى أرسلان أرغون وهو أخوه فحبسه بترمذ ثم أمر به فخنق بعد سنة من حبسه وقتل أكابر عسكر خراسان ممن كان يخافه ويخشى تحكمه عليه وصادر وزيره عماد الملك بثلاثمائة ألف دينار وقتله وخرب أسوار مدن خراسان منها‏:‏ سور سبزوار وسور مرو الشاهجان وقلعة سرخس وقهندز نيسابور وسور شهرستان وغير ذلك خربه جميعه سنة تسع وثمانين ثم إنه قتل هذه السنة كما ذكرنا‏.‏

ذكر استيلاء عسكر مصر على مدينة صور

في هذه السنة في ربيع الأول وصل عسكر كثير من مصر إلى ثغر صور بساحل الشام فحصرها وملكها‏.‏

وسبب ذلك أن الوالي بها ويعرف بكتيلة أظهر العصيان على المستعلي صاحب مصر والخروج عن طاعته فسير إليه جيشًا فحصروه بها وضيقوا عليه وعلى من معه من جندي وعامي ثم افتتحها عنوة بالسيف وقتل بها خلق كثير ونهب منها المال الجزيل وأخذ الوالي أسيرًا بغير أمان وحمل إلى مصر فقتل بها‏.‏

ذكر ملك بركيارق خراسان وتسليمها إلى أخيه سنجر

كان بركيارق قد جهز العساكر مع أخيه الملك سنجر وسيرها إلى خراسان لقتال عمه أرسلان أرغون وجعل الأمير قماج أتابك سنجر ورتب في وزارته أبا الفتح علي بن الحسين الطغرائي فلما وصلوا إلى الدامغان بلغهم خبر قتله فأقاموا حتى لحقهم السلطان بركيارق وساروا إلى نيسابور فوصل إليها خامس جمادى الأولى من السنة وملكها بغير قتال وكذلك سائر البلاد الخراسانية وساروا إلى بلخ‏.‏

وكان عسكر أرسلان أرغون قد ملكوا بعد قتله ابنًا له صغيرًا عمره سبع سنين فلما سمعوا بوصول السلطان أبعدوا إلى جبال طخارستان وأرسلوا يطلبون الأمان فأجابهم إلى ذلك فعادوا ومعهم ابن أرسلان أرغون فأحسن السلطان لقاءه وأعطاه ما كان لأبيه من الإقطاع أيام ملكشاه وكان وصوله إلى السلطان في خمسة عشر ألف فارس فما انقضى يومهم حتى فارقوه واتصلت كل طائفة منهم بأمير تخدمه وبقي وحده مع خادم لأبيه فأخذته والدة السلطان بركيارق إليها وأقامت له من يتولى خدمته وتربيته‏.‏

وسار بركيارق إلى ترمذ فسلمت إليه وأقام عند بلخ سبعة أشهر وأرسل إلى ما وراء النهر فأقيمت له الخطبة بسمرقند وغيرها ودانت له البلاد‏.‏

ذكر خروج أمير أميران بخراسان مخالفًا

في هذه السنة لما كان السلطان بركيارق بخراسان خالف عليه أمير اسمه محمد بن سليمان ويعرف بأمير أميران وهو ابن عم ملكشاه وتوجه إلى بلخ واستمد من صاحب غزنة فأمده بجيش كثير وفيلة وشرط عليه أن يخطب له في جميع ما يفتحه من خراسان فقويت شوكته ومد يده في البلاد فسار إليه الملك سنجر بن ملكشاه جريدة ولا يعلم به أمير أميران فكبسه فجرى بينهما قتال ساعة ثم أسر وحمل إلى بين يدي سنجر فأمر به فكحل‏.‏

ذكر عصيان الأمير قودن ويارقطاش على السلطان

واستعمال حبشي على في هذه السنة عصى يارقطاش وقدون على السلطان بركيارق‏.‏

وسبب ذلك أن الأمير قودن كان قد صار في جملة الأمير قماج فتوفي والسلطان بمرو فاستوحش قودن وأظهر المرض وتأخر بمرو بعد مسير السلطان إلى العراق وكان من جملة أمراء السلطان أمير اسمه اكنجي وقد ولاه السلطان خوارزم ولقبه خوارزمشاه فجمع عساكره وسار في عشرة آلاف فارس ليلحق السلطان فسبق العسكر إلى مرو في ثلاثمائة فارس وتشاغل بالشرب فاتفق قودن وأمير آخر اسمه يارقطاش على قتله فجمعا خمسمائة فارس وكبسوه وقتلوه وساروا إلى خوارزم وأظهروا أن السلطان قد استعملهما عليها فتسلماها‏.‏

وبلغ الخبر إلى السلطان فتم المسير إلى العراق لما بلغه من خروج الأمير أنر ومؤيد الملك عن طاعته وأعاد أمير داذ حبشي بن التونتاق في جيش إلى خراسان لقتالهما فسار إلى هراة وأقام ينتظر اجتماع العساكر معه فعاجلاه في خمسة عشر ألفًا فعلم أمير داذ أنه لا طاقة له بهما فعبر جيحون فسارا إليه وتقدم يارقطاش ليلحقه قودن فعاجله يارقطاش وحده وقاتله فانهزم يارقطاش وأخذ أسيرًا‏.‏

وبلغ الخبر إلى قودن فثار به عسكره ونهبوا خزائنه وما معه فبقي في سبعة نفر فهرب إلى بخارى فقبض عليه صاحبها ثم أحسن إليه وبقي عنده وسار من هناك إلى الملك سنجر ببلخ فقبله أحسن قبول وبذل له قودن أن يكفيه أموره ويقوم بجمع العساكر على طاعته فقدر أنه مات عن قريب وأما يارقطاش فبقي أسيرًا إلى أن قتل أمير داذ وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر ابتداء دولة محمد بن خوارزمشاه

في هذه السنة أمر بركيارق الأمير حبشي بن التونتاق على خراسان كما ذكرنا فلما صفت له وقتل قودن كما ذكرنا قبل ولي خوارزم الأمير محمد بن أنوشتكين وكان أبوه أنوشتكين مملوك أمير من السلجوقية اسمه بلكباك قد اشتراه من رجل من غرشستان فقيل له أنوشتكين غرشحه فكبر وعلا أمره وكان حسن الطريقة كامل الأوصاف وكان مقدمًا مرجوعًا إليه وولد له ولد سماه محمدًا وهو هذا وعلمه وخرجه وأحسن تأديبه وتقدم بنفسه وبالعناية الأزلية‏.‏

فلما ولي أمير داذ حبشي خراسان كان خوارزمشاه اكنجي قد قتل وقد تقدم ذكره ونظر الأمير حبشي فيمن يوليه خوارزم فوقع اختياره على محمد بن أنوشتكين فولاه خوارزم ولقبه خوارزمشاه فقصر أوقاته على معدلة ينشرها ومكرمة يفعلها وقرب أهل العلم والدين ولما ملك السلطان سنجر خراسان أقر محمدًا خوارزمشاه على خوارزم وأعمالها فظهرت كفايته وشهامته فعظم سنجر محله وقدره‏.‏

ثم إن بعض ملوك الأتراك جمع جموعًا وقصد خوارزم ومحمد غائب عنها وكان طغرلتكين بن اكنجي الذي كان أبوه خوارزمشاه قبل عند السلطان سنجر فهرب منه والتحق بالأتراك على خوارزم فلما سمع خوارزمشاه محمد الخبر بادر إلى خوارزم وأرسل إلى سنجر يستمده وكان بنيسابور فسار في العساكر إليه فلم ينتظره محمد فلما قارب خوارزم هرب الأتراك إلى منقشلاغ وطغرلتكين أيضًا رحل إلى حندخان وكفي خوارزمشاه شرهم‏.‏

ولما توفي خوارزمشاه ولي بعده ابنه إتسز فمد ظلال الأمن وأفاض العدل وكان قد قاد الجيوش أيام أبيه وقصد بلاد الأعداء وباشر الحروب فملك مدينة منقشلاغ‏.‏

ولما ولي بعد أبيه قربه السلطان سنجر وعظمه واعتضد به واستصحبه معه في أسفاره وحروبه فظهرت منه الكفاية والشهامة فزاده تقدمًا وعلوًا وهو ابتداء ملك بيت خوارزمشاه تكش وابنه محمد الذي ظهرت التتر عليه على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر الحرب بين رضوان وأخيه دقاق

في هذه السنة سار الملك رضوان إلى دمشق وبها أخوه دقاق عازمًا على أخذها منه فلما قاربها ورأى حصانتها وامتناعها علم عجزه عنها فرحل إلى نابلس وسار إلى القدس ليأخذه فلم يمكنه وانقطعت العساكر عنه فعاد ومعه باغي سيان صاحب أنطاكية وجناح الدولة‏.‏

ثم إن باغي سيان فارق رضوان وقصد دقاق وحسن له محاصرة أخيه بحلب جزاء لما فعله فجمع عساكر كثيرة وسار ومعه باغي سيان فأرسل رضوان رسولًا إلى سقمان بن أرتق وهو بسروج يستنجده فأتاه في خلق كثير من التركمان فسار نحو أخيه فالتقيا بقنسرين فاقتتلا فانهزم دقاق وعسكره ونهبت خيامهم وجميع مالهم وعاد رضوان إلى حلب ثم اتفقا على أن يخطب لرضوان بدمشق قبل دقاق وبأنطاكية وقيل كانت هذه الحادثة سنة تسع وثمانين‏.‏

ذكر الخطبة للعلوي المصري بولاية رضوان

في هذه السنة خطب الملك رضوان في كثير من ولايته للمستعلي بأمر الله العلوي صاحب مصر‏.‏

وسبب ذلك أنه كان عنده الأمير جناح الدولة وهو زوج أمه فرأى من رضوان تغيرًا فسار إلى حمص وهي له فلما رأى باغي سيان بعده عن رضوان صالحه وقدم إليه بحلب ونزل بظاهرها‏.‏

وكان لرضوان منجم يقال له الحكيم أسعد وكان يميل إليه فقدمه بعد مسير جناح الدولة فحسن له مذاهب العلويين المصريين وأتته رسل المصريين يدعونه إلى طاعتهم ويبذلون له المال وإنفاذ العساكر إليه ليملك دمشق فخطب لهم بشيزر وجميع الأعمال سوى أنطاكية وحلب والمعرة أربع جمع ثم حضر عنده سقمان بن أرتق وباغي سيان صاحب أنطاكية فأنكرا ذلك واسعظماه فأعاد الخطبة العباسية في هذه السنة وأرسل إلى بغداد يعتذر مما كان منه‏.‏

وسار باغي سيان إلى أنطاكية فلم يقم بها غير ثلاثة أيام حتى وصل الفرنج إليها وحصروها وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة كانت فتنة عظيمة بخراسان بين أهل سبزوار وأهل خسروجرد وقتال عظيم فقتل بينهم جماعة كثيرة وانهزم أهل خسروجرد‏.‏

وفيها قتل عثمان وكيل دار نظام الملك وكان سبب قتله أنه كان كاتب صاحب غزنة بالأخبار من قبل السلطان فأخذ وحبس بترمذ مدة ثم اطلع عليه وهو في الحبس أنه كان يكاتبه أيضًا فقتل‏.‏

وفي صفر منها قتل عبد الرحمن السميرمي وزير أم السلطان بركيارق قتله باطني غيلة وقتل الباطني بعده‏.‏

وفيها في شعبان ظهر كوكب كبير له ذؤابة وأقام يطلع عشرين يومًا ثم غاب ولم يظهر‏.‏

وفيها توفي النقيب الطاهر أبو الغنائم محمد بن عبد الله وكان دينًا سخيًا كريمًا متعصبًا حنفي المذهب وولي النقابة بعده ولده أبو الفتوح حيذرة‏.‏

وفيها توفي أبو القاسم يحيى بن أحمد السيبي وهو ابن مائة سنة وسنتين وهو صحيح الحواس وكان مقرئًا محدثًا حاضر القلب‏.‏

وفيها قتل أرغش النظامي مملوك نظام الملك بالري وكان قد بلغ مبلغًا عظيمًا بحيث أنه تزوج ابنة ياقوتي عم السلطان بركيارق قتله باطني وقتل قاتله‏.‏

وقتل برسق في شهر رمضان وهو من أكابر الأمراء قتله باطني وكان برسق من أصحاب السلطان طغرلبك وهو أول شحنة كان ببغداد‏.‏

ذكر ملك الفرنج مدينة أنطاكية

كان ابتداء ظهور دولة الفرنج واشتداد أمرهم وخروجهم إلى بلاد الإسلام واستيلائهم على بعضها سنة ثمان وسبعين وأربعمائة فملكوا مدينة طليطلة وغيرها من بلاد الأندلس وقد تقدم ذكر ذلك‏.‏

ثم قصدوا سنة أربع وثمانين وأربعمائة جزيرة صقلية وملكوها وقد ذكرته أيضًا وتطرقوا إلى أطراف إفريقية فملكوا منها شيئًا وأخذ منهم ثم ملكوا غيره على ما تراه‏.‏

فلما كان سنة تسعين وأربعمائة خرجوا إلى بلاد الشام وكان سبب خروجهم أن ملكهم بردويل جمع جمعًا كثيرًا من الفرنج وكان نسيب رجار الفرنجي الذي ملك صقلية فأرسل إلى رجار يقول له‏:‏ قد جمعت جمعًا كثيرًا وأنا واصل إليك وسائر من عندك إلى إفريقية أفتحها وأكون مجاورًا لك‏.‏

فجمع رجار أصحابه واستشارهم في ذلك وقالوا‏:‏ وحق الإنجيل هذا جيد لنا ولهم وتصبح البلاد بلاد النصرانية‏.‏

فرفع رجله وحبق حبقة عظيمة وقال‏:‏ وحق ديني هذه خير من كلامكم‏!‏ قالوا‏:‏ وكيف ذلك قال‏:‏ إذا وصلوا إلي أحتاج إلى كفلة كثيرة ومراكب تحملهم إلى إفريقية وعساكر من عندي أيضًا فإن فتحوا البلاد كانت لهم وصارت المؤونة لهم من صقلية وينقطع عني ما يصل من المال من ثمن الغلات كل سنة وإن لم يفلحوا رجعوا إلى بلادي وتأذيت بهم ويقول تميم غدرت بي ونقضت عهدي وتنقطع الوصلة والأسفار بيننا وبلاد إفريقية باقية لنا متى وجدنا قوة أخذناها‏.‏

وأحضر رسوله وقال له‏:‏ إذا عزمتم على جهاد المسلمين فأفضل ذلك فتح بيت المقدس تخلصونه من أيديهم ويكون لكم الفخر وأما إفريقية فبيني وبين أهلها أيمان وعهود‏.‏

فتجهزوا وخرجوا إلى الشام وقيل‏:‏ إن أصحاب مصر من العلويين لما رأوا قوة الدولة السلجوقية وتمكنها واستيلاءها على بلاد الشام إلى غزة ولم يبق بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم ودخول أقسيس إلى مصر وحصرها خافوا وأرسلوا إلى الفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام ليملكوه ويكونوا بينهم وبين المسلمين والله أعلم‏.‏

فلما عزم الفرنج على قصد بلاد الشام ساروا إلى القسططينية ليعبروا المجاز إلى بلاد المسلمين ويسيروا في البر فيكون أسهل عليهم فلما وصلوا إليها منعهم ملك الروم من الاجتياز ببلاده وقال‏:‏ لا أمكنكم من العبور إلى بلاد الإسلام حتى تحلفوا لي أنكم تسلمون إلي أنطاكية وكان قصده أن يحثهم على الخروج إلى بلاد الإسلام ظنًا منه أنهم أتراك لا يبقون منهم أحدًا لما رأى

فأجابوه إلى ذلك وعبروا الخليج عند القسطنطينية سنة تسعين ووصلوا إلى بلاد قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش وهو قونية وغيرها فلما وصلوا إليها لقيهم قلج أرسلان في جموعه ومنعهم فقاتلوه فهزموه في رجب سنة تسعين واجتازوا في بلاده إلى بلاد ابن الأرمني فسلكوها وخرجوا إلى أنطاكية فحصروها‏.‏

ولما سمع صاحبها باغي سيان بتوجههم إليها خاف من النصارى الذي بها فأخرج المسلمين من أهلها ليس معهم غيرهم وأمرهم بحفر الخندق ثم أخرج من الغد النصارى لعمل الخندق أيضًا ليس معهم مسلم فعملوا فيه إلى العصر فلما أرادوا دخول البلد منعهم وقال لهم‏:‏ أنطاكية لكم تهبونها لي حتى أنظر ما يكون منا ومن الفرنج فقالوا له‏:‏ من يحفظ أبناءنا ونساءنا فقال‏:‏ أنا أخلفكم فيهم فأمسكوا وأقاموا في عسكر الفرنج فحصروها تسعة أشهر وظهر من شجاعة باغي سيان وجودة رأيه وحزمه واحتياطه ما لم يشاهد من غيره فهلك أكثر الفرنج موتًا ولو بقوا على كثرتهم التي خرجوا فيها لطبقوا بلاد الإسلام وحفظ باغي سيان أهل نصارى أنطاكية الذين أخرجهم وكف الأيدي المتطرقة إليهم‏.‏

فلما طال مقام الفرنج على أنطاكية راسلوا أحد المستحفظين للأبراج وهو زراد يعرف بروزبه وبذلوا له مالًا وأقطاعًا وكان يتولى حفظ برج يلي الوادي وهو مبني على شباك في الوادي فلما تقرر الأمر بينهم وبين هذا الملعون الزراد جاؤوا إلى الشباك ففتحوه ودخلوا منه وصعد جماعة كثيرة بالحبال فلما زادت عدتهم على خمسمائة ضربوا البوق وذلك عند السحر وقد تعب الناس من كثرة السهر والحراسة فاستيقظ باغي سيان فسأل عن الحال فقيل‏:‏ إن هذا البوق من القلعة ولا شك أنها قد ملكت ولم يكن من القلعة وإنما كان من ذلك البرج فدخله الرعب وفتح باب البلد وخرج هاربًا في ثلاثين غلامًا على وجهه فجاء نائبه في حفظ البلد فسأل عنه فقيل إنه هرب فخرج من باب آخر هاربًا وكان ذلك معونة للفرنج ولو ثبت ساعة لهلكوا‏.‏

ثم إن الفرنج دخلوا البلد من الباب ونهبوه وقتلوا من فيه من المسلمين وذلك في جمادى الأولى‏.‏

وأما باغي سيان فإنه لما طلع عليه النهار رجع إليه عقله وكان كالولهان فرأى نفسه وقد قطع عدة فراسخ فقال لمن معه‏:‏ أين أنا فقيل‏:‏ على أربعة فراسخ من أنطاكية فندم كيف خلص سالمًا ولم يقاتل حتى يزيلهم عن البلد أو يقتل وجعل يتلهف ويسترجع على ترك أهله وأولاده والمسلمين فلشدة ما لحقه سقط عن فرسه مغشيًا عليه فلما سقط إلى الأرض أراد أصحابه أن يركبوه فلم يكن فيه مسكة قد قارب الموت فتركوه وساروا عنه واجتاز به إنسان أرمني كان وكان الفرنج قد كاتبوا صاحب حلب ودمشق بأننا لا نقصد غير البلاد التي كانت بيد الروم لا نطلب سواها مكرًا منهم وخديعة حتى لا يساعدوا صاحب أنطاكية‏.‏