المجلد التاسع - ذكر الحرب بين السلطانين بركيارق ومحمد

ثم دخلت سنة أربع وتسعين وأربعمائة

في هذه السنة ثالث جمادى الآخرة كان المصاف الثاني بين السلطان بركيارق والسلطان محمد وقد ذكرنا سنة ثلاث وتسعين انهزام السلطان بركيارق من أخيه السلطان محمد وتنقله في البلاد إلى أصبهان وأنه لم يدخلها وسار منها إلى خوزستان وأتى عسكر مكرم فأتاه الأميران زنكي والبكي ابنا برسق وصارا معه وأقام بها شهرين وسار منها إلى همذان فاتصل به الأمير إياز‏.‏

وكان سبب ذلك أن أمير آخر قد مات مذ قريب فاتهم إياز مؤيد الملك بأنه سقاه السم وقوى ذلك عنده أن وزير أمير آخر هرب عقيب موته فازداد ظن إياز باتهامه فظفر بالوزير فقتله‏.‏

وكان إياز قد اتخذ أمير آخر ولدًا واتصل به العسكر ووصى له بجميع ماله فحين استوحش لهذا السبب كاتب السلطان بركيارق واتصل به ومعه خمسة آلاف فارس وصار من جملة عسكره‏.‏

وسار السلطان محمد إلى لقاء أخيه فلما تقارب العسكران استأمن الأمير سرخاب بن كيخسرو صاحب آوة إلى السلطان بركيارق فأكرمه‏.‏

ووقع المصاف ثالث جمادى الآخرة وكان مع السلطان بركيارق خمسون ألفًا ومع أخيه السلطان محمد خمسة عشر ألفًا فالتقوا فاقتتلوا يومهم أجمع وكان النفر بعد النفر يستأمنون من عسكر محمد إلى بركيارق فيحسن إليهم‏.‏

ومن العجب الدال على الظفر أن رجالة بركيارق احتاجوا إلى تراس فوصل إليه يوم المصاف بكرة اثنا عشر حملًا سلاحًا من همذان منها ثمانية أحمال تراس ففرقت فيهم فلما وصلت نزل السلطان بركيارق وصلى ركعتين شكرًا لله تعالى‏.‏

ولم يزل القتال بينهم إلى آخر النهار فانهزم السلطان محمد وعسكره وأسر مؤيد الملك أسره غلام لمجد الملك البلاساني وأحضر عند السلطان بركيارق فسبه وأوقفه على ما اعتمده معه من سب والدته مرة ونسبته إلى مذهب الباطنية أخرى ومن حمل أخيه محمد على عصيانه والخروج عن طاعته إلى غير ذلك ومؤيد الملك ساكت لا يعيد كلمة فقتله بركيارق بيده وألقي على الأرض عدة أيام حتى سأل الأمير إياز في دفنه فأذن فيه فحمل إلى تربة أبيه بأصبهان فدفن معه‏.‏

وكان بخيلًا سيء السيرة مع الأمراء إلا أنه كان كثير المر والحيل في إصلاح أمر الملك وكان عمره لما قتل نحو خمسين سنة‏.‏

وكان السلطان بركيارق قد استوزر في صفر الأعز أبا المحاسن عبد الجليل ابن علي الدهستاني فلما قتل مؤيد الملك أرسل الوزير أبو المحاسن رسولًا إلى بغداد وهو أبو إبراهيم الأسداباذي لأخذ أموال مؤيد الملك فنزل ببغداد بدار مؤيد الملك وسلم إليه محمد الشرابي وهو ابن خالة مؤيد الملك فأخذت منه الأموال والجواهر بعد مكروه أصابه وعذاب ناله وأخذ له ذخائر من مواضع أخر ببلاد العجم منها‏:‏ قطعة بلخش وزنها واحد وأربعون مثقالًا‏.‏

ولما فرغ السلطان بركيارق من هذه الوقعة سار إلى الري‏.‏

فوصل إليه هناك قوام الدولة كربوقا صاحب الموصل ونور الدولة دبيس بن صدقة بن مزيد‏.‏

ذكر حال السلطان محمد بعد الهزيمة واجتماع بأخيه الملك سنجر

لما انهزم السلطان محمد سار طالبًا خراسان إلى أخيه سنجر وهما لأم واحدة فأقام بجرجان وراسل أخاه يطلب منه مالًا وكسوة وغير ذلك فسير إليه ما طلب وترددت الرسل بينهما حتى تحالفا واتفقا‏.‏

ولم يكن بقي مع السلطان محمد غير أميرين في نحو ثلاثمائة فارس فلما استقرت القواعد بينهما سار الملك سنجر من خراسان في عساكره نحو أخيه السلطان محمد فاجتمعا بجرجان وسارا منها إلى دامغان فخربها العسكر الخراساني ومضى أهلها هاربين إلى قلعة كردكوه وخرب العسكر ما قدروا عليه من البلاد وعم الغلاء تلك الأصقاع حتى أكل الناس الميتة والكلاب وأكل الناس بعضهم بعضًا وسارا إلى الري فلما وصلا إليها انضم إليهما النظامية وغيرهم فكثر جمعهما وعظمت شوكتهما وتمكنت من القلوب هيبتهما‏.‏

ذكر ما فعله السلطان بركيارق ودخوله بغداد

لما كان السلطان بركيارق بالري بعد انهزام أخيه محمد اجتمعت عليه العساكر الكثيرة فصار معه نحو مائة ألف فارس ثم إنهم ضاقت عليهم الميرة فتفرقت العساكر فعاد دبيس بن صدقة إلى أبيه وخرج الملك مودود بن إسماعيل بن ياقوتي بأذربيجان فسير إليه قوام الدولة كربوقا في عشرة آلاف فارس واستأذن الأمير إياز في أن يقصد داره بهمذان يصوم بها شهر رمضان ويعود بعد الفطر فأذن له وتفرقت العساكر لمثل ذلك وبقي في العدد القليل‏.‏

فلما بلغه أن أخويه قد جمعا الجموع وحشدا الجنود وأنهما لما بلغهما قلة من معه جدا في المسير إليه وطويا المنازل ليعاجلاه قبل أن يجمع جموعه وعساكره فلما قارباه سار من مكانه وقد طمع فيه من كان يهابه وأيس منه من كان يرجوه فقصد نحو همذان ليجتمع هو وإياز فبلغه أن إياز قد راسل السلطان محمدًا ليكون معه ومن جملة أعوانه خوفًا على ولايته وهي همذان وغيرها فلما سمع ذلك عاد عنها وقصد خوزستان فلما قرب من تستر كاتب الأمراء بني برسق يستدعيهم إليه فلم يحضروا لما علموا أن إياز لم يحضر وللخوف من السلطان محمد فسار نحو العراق فلما بلغ حلوان أتاه رسول الأمير إياز يسأل التوقف ليصل إليه‏.‏

وسبب ذلك أن إياز راسل السلطان محمد في الانضمام إليه والمصير في جملة عسكره فلم يقبله وسير العساكر إلى همذان ففارقها منهزمًا ولحق بالسلطان بركيارق فأقام السلطان بركيارق بحلوان ووصل إليه إياز وساروا جميعهم إلى بغداد‏.‏

وأخذ عسكر محمد ما تخلف للأمير إياز بهمذان من مال ودواب وبرك وغير ذلك فإنه أعجل عنه وكان من جملته خمسمائة حصان عربية قيل كان يساوي كل حصان منها ما بين ثلاثمائة دينار إلى خمسمائة دينار ونهبوا داره وصادروا جماعة من أصحابه وصودر رئيس همذان بمائة ألف دينار‏.‏

ولما وصل إياز إلى بركيارق تكاملت عدتهم خمسة آلاف فارس وقد ذهبت خيامهم وثقلهم ووصل بركيارق إلى بغداد سابع عشر ذي القعدة وأرسل الخليفة إلى طريقه يلتقيه أمين الدولة بن موصلايا في الموكب ولما كان عيد الأضحى نفذ الخليفة منبرًا إلى دار السلطان وخطب عليه وضاقت الأموال على بركيارق فلم يكن عنده ما يخرجه على نفسه وعلى عساكره فأرسل إلى الخليفة يشكو الضائقة وقلة المال ويطلب أن يعان بما يخرجه فتقرر الأمر بعد المراجعات على خمسين ألف دينار حملها الخليفة إليه ومد بركيارق وأصحابه أيديهم إلى أموال الناس فعم ضررهم وتمنى أهل البلاد زوالهم عنهم ودعتهم الضرورة إلى أن ارتكبوا خطة شنعاء وذلك أنه قدم عليهم أبو محمد عبيد الله بن منصور المعروف بابن صليحة قاضي جبلة من بلاد الشام وصاحبها منهزمًا من الفرنج على ما نذكره ومعه أموال جليلة المقدار فأخذوها منه‏.‏

ذكر خلاف صدقة بن مزيد على بركيارق

في هذه السنة خرج الأمير صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد صاحب الحلة عن طاعة السلطان بركيارق وقطع خطبته من بلاده وخطب فيه للسلطان محمد‏.‏

وسبب ذلك أن الوزير الأعز أبا المحاسن الدهستاني وزير السلطان بركيارق أرسل إلى صدقة يقول له‏:‏ قد تخلف عندك لخزانة السلطان ألف ألف دينار وكذا وكذا دينار لسنين كثيرة فإن أرسلتها وإلا سيرنا العساكر إلى بلادك وأخذناها منك‏.‏

فلنا سمع هذه الرسالة قطع الخطبة وخطب لمحمد‏.‏

فلما وصل السلطان بركيارق إلى بغداد على هذه الحال أرسل إليه مرة بعد مرة يدعوه إلى الحضور عنده فلم يجب إلى ذلك فأرسل إليه الأمير إياز يشير عليه بقصد خدمة السلطان ويضمن له كل ما يريده فقال‏:‏ لا أحضر ولا أطيع السلطان إلا إذا سلم وزيره أبا المحاسن إلي وإن لم يفعل فلا يتصور مني الحضور عنده أبدًا ويكون في ذلك ما يكون فإن سلمه إلي فأنا العبد المخلص في العبودية بالحسن والطاعة‏.‏

فلم يجب إلى ذلك فتم على مقاطعته وأرسل إلى الكوفة وطرد عنها النائب بها عن السلطان واستضافها إليه‏.‏

ذكر وصول السلطان محمد إلى بغداد ورحيل السلطان بركيارق عنها

في هذه السنة في السابع والعشرين من ذي الحجة وصل السلطان محمد وسنجر إلى بغداد وكان السلطان محمد لما استولى على همذان وغيرها سار إلى بغداد فلما وصل إلى حلوان سار إليه إيلغازي بن أرتق في عساكره وخدمه وأحسن في الخدمة وكان عسكر محمد يزيد على عشرة آلاف فارس سوى الأتباع‏.‏

فلما وصلت الأخبار بذلك كان بركيارق على شدة من المرض يرجف عليه خواصه بكرة وعشيًا فماج أصحابه وخافوا واضطربوا وحاروا وعبروا به في محفة إلى الجانب الغربي فنزلوا بالرملة ولم يبق في بركيارق غير روح يتردد وتيقن أصحابه موته وتشاوروا في كفنه وموضع دفنه‏.‏

فبينما هم كذلك إذ قال لهم‏:‏ إني أجد نفسي قد قويت وحركتي قد تزايدت فطابت نفوسهم وساروا وقد وصل العسكر الآخر فتراءى الجمعان بينهما دجلة وجرى بينهما مراماة وسباب وكان أكثر ما يسبهم عسكر يا باطنية يعيرونهم بذلك ونهبوا البلاد في طريقهم إلى أن وصلوا إلى واسط‏.‏

ووصل السلطان محمد إلى بغداد فنزل بدار المملكة فبرز إليه توقيع الخليفة المستظهر بالله يتضمن الامتعاض من سوء سيرة بركيارق ومن معه والاستبشار بقدومه وخطب به بالديوان ونزل الملك سنجر بدار كوهرائين وكان محمد قد استوزر بعد مؤيد الملك خطير الملك أبا منصور محمد بن الحسين وقدم إليه في المحرم سنة خمس وتسعين الأمير سيف الدولة صدقة وخرج الخلق كلهم إلى لقائه‏.‏

ذكر حال قاضي جبلة

هو أبو محمد عبيد الله بن منصور المعروف بابن صليحة وكان والده رئيسها أيام كان الروم مالكين لها على المسلمين يقضي بينهم فلما ضعف أمر الروم وملكها المسلمون وصارت تحت حكم جلال الملك أبي الحسن علي بن عمار صاحب طرابلس وكان منصور على عادته في الحكم فيها‏.‏

فلما توفي منصور قام ابنه أبو محمد مقامه وأحب الجندية واختار الجند فظهرت شهامته فأراد ابن عمار أن يقبض عليه فاستشعر منه وعصى عليه وأقام الخطبة العباسية فبذل ابن عمار لدقاق بن تتش مالًا ليقصده ويحصره ففعل وحصره فلم يظفر منه بشيء وأصيب صاحبه أتابك طغتكين بنشابة في ركبتيه وبقي أثرها‏.‏

وبقي أبو محمد بها مطاعًا إلى أن جاء الفرنج لعنهم الله فحصروها فأظهر أن السلطان بركيارق قد توجه إلى الشام وشاع هذا فرحل الفرنج فلما تحققوا اشتغال السلطان عنهم عاودوا حصاره فأظهر أن المصريين قد توجهوا لحربهم فرحلوا ثانيًا ثم عادوا فقرر مع النصارى الذين بها أن يراسلوا الفرنج ويواعدوهم إلى برج من أبراج البلد ليسلموه إليهم ويملكوا البلد فلما أتتهم الرسالة جهزوا نحو ثلاثمائة رجل من أعيانهم وشجعانهم فتقدموا إلى ذلك البرج فلم يزالوا يرقون في الحبال واحدًا بعد واحد وكلما صار عند ابن صليحة وهو على السور رجل منهم قتله إلى أن قتلهم أجمعين فلما أصبحوا رمى الرؤوس إليهم فرحلوا عنه‏.‏

وحصروه مرة أخرى ونصبوا على البلد برج خشب وهدموا برجًا من أبراجه وأصبحوا وقد بناه أبو محمد ثم نقب في السور نقوبًا وخرج من الباب وقاتلهم فانهزم منهم وتبعوه فخرج أصحابه من تلك النقوب فأتوا الفرنج من ظهورهم فولوا منهزمين وأسر مقدمهم المعروف بكند اصطبل فافتدى نفسه بمال جزيل‏.‏

ثم علم أنهم لا يقعدون عن طلبه وليس له من يمنعهم عنه فأرسل إلى طغتكين أتابك يلتمس منه إنفاذ من يثق به ليسلم إليه ثغر جبلة ويحميه ليصل هو إلى دمشق بماله وأهله فأجابه إلى ما التمس وسير إليه ولده تاج الملوك بوري فسلم إليه البلد ورحل إلى دمشق وسأله أن يسيره إلى بغداد ففعل وسيره ومعه من يحميه إلى أن وصل إلى الأنبار‏.‏

ولما صار بدمشق أرسل ابن عمار صاحب طرابلس إلى الملك دقاق وقال‏:‏ سلم إلي ابن صليحة عريانًا وخذ ماله أجمع وأنا أعطيك ثلاثمائة ألف دينار فلم يفعل‏.‏

فلما وصل إلى الأنبار أقام بها أيامًا ثم سار إلى بغداد وبها السلطان بركيارق فلما وصل أحضره الوزير الأعز أبو المحاسن عنده وقال له‏:‏ السلطان محتاج والعساكر يطالبونه بما ليس عنده ونريد منك ثلاثين ألف دينار وتكون له منة عظيمة تستحق بها المكافأة والشكر‏.‏

فقال‏:‏ السمع والطاعة ولم يطلب أن يحط شيئًا وقال‏:‏ إن رحلي ومالي في الأنبار بالدار التي نزلتها فأرسل الوزير إليها جماعة فوجدوا فيها مالًا كثيرًا وأعلاقًا نفيسة فمن جملة ذلك ألف ومائة قطعة مصاغ عجيب الصنعة ومن الملابس والعمائم التي لا يوجد مثلها شيء كثير‏.‏

كان ينبغي أن نذكر هذه الحوادث التي بعد انهزام السلطان محمد إلى ها هنا بعد قتل الباطنية فإنها كانت أواخر السنة وكان قتلهم في شعبان وإنما قدمناها لنتبع بعض الحادثة بعضًا لا يفصل بينها شيء‏.‏

وأما تاج الملوك بوري فإنه لما ملك جبلة وتمكن منها أساء السيرة هو وأصحابه مع أهلها وفعلوا بهم أفعالًا أنكروها فراسلوا القاضي فخر الملك أبا علي عمار بن محمد بن عمار صاحب طرابلس وشكوا إليه ما يفعل بهم وطلبوا منه أن يرسل إليهم بعض أصحابه ليسلموا إليه البلد ففعل ذلك وسير إليهم عسكرًا فدخلوا جبلة واجتمعوا بأهلها وقاتلوا تاج الملوك ومن معه فانهزم الأتراك وملك عسكر ابن عمار جبلة وأخذوا تاج الملوك أسيرًا وحملوه إلى طرابلس فأكرمه ابن عمار وأحسن إليه وسيره إلى أبيه بدمشق واعتذر إليه وعرفه صورة الحال وأنه خاف أن يملك الفرنج جبلة‏.‏

ذكر قتل الباطنية

في هذه السنة في شعبان أمر السلطان بركيارق بقتل الباطنية وهم الإسماعيلية وهم الذين كانوا قديمًا يسمون قرامطة ونحن نبتديء بأول أمرهم الآن ثم بسبب قتلهم‏.‏

فأول ما عرف من أحوالهم أعني هذه الدعوة الأخيرة التي اشتهرت بالباطنية والإسماعيلية في أيام السلطان ملكشاه فإنه اجتمع منهم ثمانية عشر رجلًا فصلوا صلاة العيد في ساوة ففطن بهم الشحنة فأخذهم وحبسهم ثم سئل فيهم فأطلقهم فهذا أول اجتماع كان لهم‏.‏

ثم إنهم دعوا مؤذنًا من أهل ساوة كان مقيمًا بأصبهان فلم يجبهم إلى دعوتهم فخافوه أن ينم عليهم فقتلوه فهو أول قتيل لهم وأول دم أراقوه فبلغ خبره إلى نظام الملك فأمر بأخذ من يتهم بقتله فوقعت التهمة على نجار اسمه طاهر فقتل ومثل به وجروا برجله في الأسواق فهو أول قتيل منهم وكان والده واعظًا وقدم إلى بغداد مع السلطان بركيارق سنة ست وثمانين فحظي منه ثم قصد البصرة فولي القضاء بها ثم توجه في رسالة إلى كرمان فقتله العامة في الفتنة التي جرت وذكروا أنه باطني‏.‏

ثم إن الباطنية قتلوا نظام الملك وهي أول فتكة مشهورة كانت لهم وقالوا‏:‏ قتل نجارًا فقتلناه به‏.‏

وأول موضع غلبوا عليه وتحصنوا به بلد عند قاين كان متقدمه على مذهبهم فاجتمعوا عنده

وقووا به فاجتازت بهم قافلة عظيمة من كرمان إلى قاين فخرج عليهم ومعه أصحابه والباطنية فقتل أهل القفل أجمعين ولم ينج منهم غير رجل تركماني فوصل إلى قاين فأخبر بالقصة فتسارع أهلها مع القاضي الكرماني إلى جهادهم فلم يقدروا عليهم‏.‏

ثم قتل نظام الملك ومات السلطان ملكشاه فعظم أمرهم واشتدت شوكتهم وقويت أطماعهم‏.‏

وكان سبب قوتهم بأصبهان أن السلطان بركيارق لما حصر أصبهان وبها أخوه محمود وأمه خاتون الجلالية وعاد عنهم ظهرت مقالة الباطنية بها وانتشرت وكانوا متفرقين في المحال فاجتمعوا وصاروا يسرقون من قدروا عليه من مخالفيهم ويقتلونهم فعلوا هذا بخلق كثير وزاد الأمر حتى إن الإنسان كان إذا تأخر عن بيته عن الوقت المعتاد تيقنوا قتله وقعدوا للعزاء به فحذر الناس وصاروا لا ينفرد أحد وأخذوا في بعض الأيام مؤذنًا أخذه جار له باطني فقام أهله للنياحة عليه فأصعده الباطنية إلى سطح داره وأروه أهله كيف يلطمون ويبكون وهو لا يقدر أن يتكلم خوفًا منهم‏.‏

ذكر ما فعل بهم العامة بأصبهان

لما عمت هذه المصيبة الناس بأصبهان أذن الله تعالى في هتك أستارهم والانتقام منهم فاتفق أن رجلًا دخل دار صديق له فرأى فيها ثيابًا ومداسات وملابس لم يعهدها فخرج من عنده وتحدث بما كان فكشف الناس عنها فعلموا أنها من المقتولين‏.‏

وثار الناس كافة يبحثون عمن قتل منهم ويستكشفون فظهروا على الدروب التي هم فيها وإنهم كانوا إذا اجتاز بهم إنسان أخذوه إلى دار منها وقتلوه وألقوه في بئر في الدار قد صنعت لذلك‏.‏

وكان على باب درب منها رجل ضرير فإذا اجتاز به إنسان يسأله أن يقوده خطوات إلى باب الدرب فيفعل ذلك فإذا دخل الدرب أخذ وقتل فتجرد للانتقام منهم أبو القاسم مسعود بن محمد الخجندي الفقيه الشافعي وجمع الجم الغفير بالأسلحة وأمر بحفر أخاديد وأوقد فيها النيران وجعل العامة يأتون بالباطنية أفواجًا ومنفردين فيلقون في النار وجعلوا إنسانًا على أخاديد النيران وسموه مالكًا فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا‏.‏

ذكر قلاعهم التي استولوا عليها ببلاد العجم

واستولوا على عدة حصون منها قلعة أصبهان وهذه القلعة لم تكن قديمًا وإنما بناها السلطان وسبب بنائها أنه كان أتاه رجل من مقدمي الروم فأسلم وصار معه فاتفق أنه سار يومًا إلى الصيد فهرب منه كلب حسن الصيد وصعد هذا الجبل فتبع السلطان والرومي معه فوجده موضع القلعة فقال له الرومي‏:‏ لو أن عندنا مثل هذا الجبل لجعلنا عليه حصنًا ننتفع به فأمر ببناء القلعة ومنع منها نظام الملك فلم يقبل قوله فلما فرغت جعل فيها دزدارًا‏.‏

فلما انقضت أيام السلطان ملكشاه وصارت أصبهان بيد خاتون أزالت الدزدار وجعلت غيره فيها وهو إنسان ديلمي اسمه زيار فمات وصار بالقلعة إنسان خوزي فاتصل به أحمد بن عطاش وكان الباطنية قد ألبسوه تاجًا وجمعوًا له أموالًا وقدموه عليهم مع جهله وإنما كان أبوه مقدمًا فيهم فلما اتصل بالدزدار بقي معه ووثق به وقلده الأمور فلما توفي الدزدار استولى أحمد بن عطاش عليها ونال المسلمين منها ضرر عظيم من أخذ الأموال وقتل النفوس وقطع الطريق والخوف الدائم فكانوا يقولون‏:‏ إن قلعة يدل عليها كلب ويشير بها كافر لا بد وأن يكون خاتمة أمرها الشر‏.‏

ومنها ألموت وهي من نواحي قزوين قيل إن ملكًا من ملوك الديلم كان كثير التصيد فأرسل يومًا عقابًا وتبعه فرآه سقط على موضع هذه القلعة فوجده موضعًا حصينًا فأمر ببناء قلعة عليه فسماها أله موت ومعناه بلسان الديلم‏:‏ تعليم العقاب ويقال لذلك الموضع وما يجاوره وفيها قلاع حصينة أشهرها ألموت وكانت هذه النواحي في ضمان شرفشاه الجعفري وقد استناب فيها رجلًا علويًا فيه بله وسلامة صدر‏.‏

وكان الحسن بن الصباح رجلًا شهمًا كافيًا عالمًا بالهندسة والحساب والنجوم والسحر وغير ذلك وكان رئيس الري إنسان يقال له أبو مسلم وهو صهر نظام الملك فاتهم الحسن بن الصباح بدخول جماعة من دعاة المصريين عليه فخافه ابن الصباح وكان نظام الملك يكرمه وقال له يومًا من طريق الفراسة‏:‏ عن قريب يضل هذا الرجل ضعفاء العوام فلما هرب الحسن من أبي مسلم طلبه فلم يدركه‏.‏

وكان الحسن من جملة تلامذة ابن عطاش الطبيب الذي ملك قلعة أصبهان ومضى ابن الصباح فطاف البلاد ووصل إلى مصر ودخل على المستنصر صاحبها فأكرمه وأعطاه مالًا وأمره أن يدعو الناس إلى إمامته فقال له الحسن‏:‏ فمن الإمام بعدك فأشار إلى ابنه نزار وعاد من مصر إلى الشام والجزيرة وديار بكر والروم ورجع إلى خراسان ودخل كاشغر وما وراء النهر يطوف على قوم يضلهم فلما رأى قلعة ألموت واختبر أهل تلك النواحي أقام عندهم وطمع في إغوائهم ودعاهم في السر وأظهر الزهد ولبس المسح فتبعه أكثرهم والعلوي صاحب القلعة حسن الظن فيه يجلس إليه يتبرك به فلما أحكم الحسن أمره دخل يومًا على العلوي بالقلعة فقال له ابن الصباح‏:‏ اخرج من هذه القلعة فتبسم العلوي وظنه يمزح فأمر ابن الصباح بعض أصحابه بإخراج العلوي فأخرجوه إلى دامغان وأعطاه ماله وملك القلعة‏.‏

ولما بلغ الخبر إلى نظام الملك بعث عسكرًا إلى قلعة ألموت فحصروه فيها وأخذوا عليه الطرق فضاق ذرعه بالحصر فأرسل من قتل نظام الملك فلما قتل رجع العسكر عنها‏.‏

ثم إن السلطان محمد بن ملكشاه جهز نحوها العساكر فحصرها وسيرد ذكر ذلك إن شاء الله تعالى‏.‏

ومنها طبس وبعض قهستان وكان سبب ملكهم لها أن قهستان كان قد بقي فيها بقايا من بني سيمجور أمراء خراسان أيام السامانية وكان قد بقي من نسلهم رجل يقال له المنور وكان رئيسًا مطاعًا عند الخاصة والعامة فلما ولي كلسارغ قهستان ظلم الناس وعسفهم وأراد أختًا للمنور بغير حل فحمل ذلك المنور على أن التجأ إلى الإسماعيلية وصار معهم فعظم حالهم في قهستان واستولوا عليها ومن جملتها خور وخوسف وزوزن وقاين وتون وتلك الأطراف المجاورة لها‏.‏

ومنها قلعة وسنمكوه ملكوها وهي بقرب أبهر سنة أربع وثمانين وتأذى بهم الناس لاسيما أهل أبهر فاستغاثوا بالسلطان بركيارق فجعل عليها من يحاصرها فحوصرت ثمانية أشهر ومنها قلعة خالنجان على خمسة فراسخ من أصبهان كانت لمؤيد الملك بن نظام الملك وانتقلت إلى جاولي سقاوو فجعل بها إنسانًا تركيًا فصادقه نجار باطني وأهدى له هدية جميلة ولزمه حتى وثق به وسلم إليه مفاتيح القلعة فعمل دعوة للتركي وأصحابه فسقاهم الخمر فأسكرهم واستدعى ابن عطاش فجاء في جماعة من أصحابه فسلم إليهم القلعة فقتلوا من بها سوى التركي فإنه هرب وقوي ابن عطاش بها وصار له على أهل أصبهان القطائع الكثيرة‏.‏

ومن قلاعهم المذكورة أستوناوند وهي بين الري وآمل ملكوها بعد ملكشاه نزل منها صاحبها فقتل وأخذت منه‏.‏

ومنها أردهن وملكها أبو الفتوح ابن أخت الحسن بن الصباح‏.‏

ومنها كردكوة وهي مشهورة‏.‏

ومنها قلعة الناظر بخوزستان وقلعة الطنبور وبينها وبين أرجان فرسخان أخذها أبو حمزة الإسكاف وهو من أهل أرجان سافر إلى مصر وعاد داعية لهم‏.‏

وقلعة خلادخان وهي بين فارس وخوزستان وأقام بها المفسدون نحو مائتي سنة يقطعون الطريق حتى فتحها عضد الدولة بن بويه وقتل من بها‏.‏

فلما صارت الدولة لملكشاه أقطعها الأمير أنر فجعل بها دزدارًا فأنفذ إليه الباطنية الذين بأرجان يطلبون مه بيعها فأبى فقالوا له‏:‏ نحن نرسل إليك من يناظرك حتى يظهر لك الحق فأجابهم إلى ذلك فأرسلوا إليه إنسانًا ديلميًا يناظره وكان للدزدار مملوك قد رباه وسلم إليه مفاتيح القلعة فاستماله الباطني فأجابه إلى القبض على صاحبه وتسليم القلعة إليهم فقبض عليه وسلم القلعة إليهم ثم أطلقه واستولوا بعد ذلك على عدة قلاع هذه أشهرها‏.‏

ذكر ما فعله جاولي سقاووا بالباطنية

في هذه السنة قتل جاولي سقاوو خلقًا كثيرًا منهم‏.‏

وسبب ذلك أن هذا الأمير كانت ولايته البلاد التي بين رامهرمز وأرجان‏.‏

فلما ملك الباطنية القلاع المذكورة بخوزستان وفارس وعظم شرهم وقطعوا الطريق بتلك البلاد واقف جماعة من أصحابه حتى أظهروا الشغب عليه وفارقوه وقصدوا الباطنية وأظهروا أنهم معهم وعلى رأيهم فأقاموا عندهم حتى وثقوا بهم‏.‏

ثم أظهر جاولي أن الأمراء بني برسق يريدون قصده وأخذ بلاده وأنه عازم على مفارقتها لعجزه عنهم والمسير إلى همذان فلما ظهر ذلك وسار قال من عند الباطنية من أصحابه ممن لهم الرأي‏:‏ إننا نخرج إليه طريقه ونأخذه وما معه من الأموال فساروا إليه في ثلاثمائة من أعيانهم وصناديدهم فلما التقوا صار من معهم من أصحاب جاولي عليهم ووضعوا السيف فيهم فلم يفلت منهم سوى ثلاثة نفر صعدوا إلى الجبل وهربوا وغنم جاولي ما معهم من دواب وسلاح وغير ذلك‏.‏

ذكر قتل صاحب كرمان الباطني وملك غيره

كان تيرانشاه بن تورانشاه بن قاورت بك هو الذي قتل الأتراك الإسماعيلية وليسوا منسوبين إلى هذه الطائفية الباطنية إنما نسبوا إلى أمير اسمه إسماعيل وكانوا من أهل السنة قتل منهم ألفي رجل صبرًا وقطع أيدي ألفين ووفد عليه إنسان يقال له‏:‏ أبو زرعة كان كاتبًا بخوزستان فحسن له مذهب الباطنية فأجاب إليه‏.‏

وكان عنده فقيه حنفي يقال له‏:‏ أحمد بن الحسين البلخي كان مطاعًا في الناس فأحضره عنده ليلًا وأطال الجلوس معه فلما خرج من عنده أتبعه بمن قتله فلما أصبح الناس دخلوا عليه وفيهم صاحب جيشه فقال لتيرانشاه‏:‏ أيها الملك من قتل هذا الفقيه فقال‏:‏ أنت شحنة البلد تسألني من قتله فقال‏:‏ أنا أعرف قاتله‏!‏ ونهض من عنده ففارقه في ثلاثمائة فارس وسار إلى أصبهان فأرسل في أثره ألفي فارس ليردوه فقاتلهم وهزمهم وسار إلى أصبهان وبها السلطان محمد ومؤيد الملك فأكرمه السلطان وقال‏:‏ أنت والد الملوك‏.‏

وامتعض عسكر كرمان بعد مسيره واجتمعوا وقاتلوا تيرانشاه وأخرجوه عن مدينة بردسير التي هي مدينة كرمان فلما فارقها اتفق القاضي والجند وأقاموا أرسلانشاه بن كرمانشاه بن قاورت بك وسار تيرانشاه إلى مدينة بم من كرمان فحاربه أهلها ومنعوه منها وأخذوا ما معه من أموال وجواهر وقصد قلعة سميرم وتحصن بها وفيها أمير يعرف بمحمد بهستون فأرسل أرسلانشاه جيشًا حصروا القلعة فقال محمد بهستون لتيرانشاه‏:‏ انصرف عني فلست أرى الغدر بك وأنا رجل مسلم ومقامك عندي يؤذيني وأتهم بك في ديني‏.‏

فلما عزم على الخروج أرسل محمد بهستون إلى مقدم الجيش الذي يحاصرونهم يعلمه بمسير تيرانشاه فجرد عسكرًا إلى طريقه فخرجوا عليه وأخذوه وما معه وأخذوا أيضًا أبا زرعة فأرسل أرسلانشاه فقتلهما وتسلم جميع بلاد كرمان‏.‏

ذكر السبب في قتل بركيارق الباطنية

لما اشتد أمر الباطنية وقويت شوكتهم وكثر عددهم صار بينهم وبين أعدائهم ذحول وإحن فلما قتلوا جماعة من الأمراء الأكابر وكان أكثر من قتلوا من هو في طاعة محمد مخالف للسلطان بركيارق مثل شحنة أصبهان سرمز وأرغش وكمش النظاميين وصهره وغيرهم نسب أعداء بركيارق ذلك إليه واتهموه بالميل إليهم‏.‏

فلما ظفر السلطان بركيارق وهزم أخاه السلطان محمدًا وقتل مؤيد الملك وزيره انبسط جماعة منهم في العسكر واستغووا كثيرًا منهم وأدخلوهم في مذهبهم وكادوا يظهرون بالكثرة والقوة وحصل بالعسكر منهم طائفة من وجوههم وزاد أمرهم فصاروا يتهددون من لا يوافقهم بالقتل فصار يخافهم من يخالفهم حتى إنهم لم يتجاسر أحد منهم لا أمير ولا متقدم على الخروج من منزله حاسرًا بل يلبس تحت ثيابه درعًا حتى إن الوزير الأعز أبا المحاسن كان يلبس زردية تحت ثيابه واستأذن السلطان بركيارق خواصه في الدخول عليه بسلاحهم وعرفوه خوفهم ممن يقاتلهم فأذن لهم في ذلك‏.‏

وأشاروا على السلطان أن يفتك بهم قبل أن يعجز عن تلافي أمرهم وأعلموه ما يتهمه الناس به من الميل إلى مذهبهم حتى إن عسكر أخيه السلطان محمد يشنعون بذلك وكانوا في المصاف يكبرون عليهم ويقولون يا باطنية‏.‏

فاجتمعت هذه البواعث كلها فأذن السلطان في قتلهم والفتك بهم وركب هو والعسكر معه وطلبوهم وأخذوا جماعة من خيامهم ولم يفلت منهم إلا من لم يعرف‏.‏

وكان ممن اتهم بأنه مقدمهم الأمير محمد بن دشمنزيار بن علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه صاحب يزد فهرب وسار يومه وليلته فلما كان اليوم الثاني وجد في العسكر قد ضل الطريق ولا يشعر فقتل وهذا موضع المثل‏:‏ ‏(‏أتتك بحائن رجلاه‏)‏‏.‏ ونهبت خيامه فوجد عنده السلاح المعد وأخرج الجماعة المتهمون إلى الميدان فقتلوا وقتل منهم جماعة براء لم يكونوا منهم سعى بهم أعداؤهم وفيمن قتل ولد كيقباذ مستحفظ تكريت فلم يغير والده خطبة بركيارق ولكن شرع في تحصين القلعة وعمارتها ونقض جامع البلد وكان يقاربها لئلا يؤتى منه وجعل بيعة في البلد جامعًا وصلى الناس فيه‏.‏

وكتب إلى بغداد بالقبض على أبي إبراهيم الأسداباذي الذي كان قد وصل إليها رسولًا من بركيارق ليأخذ مال مؤيد الملك وكان من أعيانهم ورؤوسهم فأخذ وحبس فلما أرادوا قتله قال‏:‏ هبوا أنكم قتلتموني أتقدرون على قتل من بالقلاع والمدن فقتل ولم يصل عليه أحد وألقي خارج السور وكان له ولد كبير قتل بالعسكر معهم‏.‏

وقد كان أهل عانة نسبوا إلى هذا المذهب قديمًا فأنهي حالهم إلى الوزير أبي شجاع أيام المقتدي بأمر الله فأحضرهم إلى بغداد فسأل مشايخهم على الذي يقال فيهم فأنكروا وجحدوا فأطلقهم‏.‏

واتهم أيضًا الكيا الهراس المدرس بالنظامية بأنه باطني ونقل ذلك عنه إلى السلطان محمد فأمر بالقبض عليه فأرسل المستظهر بالله من استخلصه وشهد له بصحة الاعتقاد وعلو الدرجة في العلم فأطلق‏.‏

ذكر حصر الأمير بزغش قهستان وطبس

في هذه السنة جمع الأمير بزغش وهو أكبر أمير مع السلطان سنجر جموعًا كثيرة وقواهم بالمال والسلاح وسار إلى بلد الإسماعيلية فنهبه وخربه وقتل فيهم فأكثر وحصر طبس وضيق عليها ورماها بالمنجنيق فخرب كثيرًا من سورها وضعف من بها ولم يبق إلا أخذها فأرسلوا إليها الرشا الكثيرة واستنزلوه عما كان يريده منهم فرحل عنهم وتركهم فعاودوا عمارة ما انهدم من سورها وملأوها ذخائر من سلاح وأقوات وغير ذلك ثم عاودهم بزغش سنة سبع وتسعين فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر ما ملك الفرنج من الشام

فيها سار كندفري ملك الفرنج بالشام وهو صاحب البيت المقدس إلى مدينة عكة بشاحل الشام فحصرها فأصابه سهم فقتله وكان قد عمر مدينة يافا وسلمها إلى قمص من الفرنج اسمه‏:‏ طنكري فلما قتل كندفري سار أخوه بغدوين إلى البيت المقدس في خمسمائة فارس وراجل فبلغ الملك دقاق صاحب دمشق خبره فنهض إليه في عسكره ومعه الأمير جناح الدولة في جموعه فقاتله فنصر على الفرنج‏.‏

وفيها ملك الفرنج مدينة سروج من بلاد الجزيرة وسبب ذلك أن الفرنج كانوا قد ملكوا مدينة الرها بمكاتبة من أهلها لأن أكثرهم أرمن وليس بها من المسلمين إلا القليل فلما كان الآن جمع سقمان بسروج جمعًا كثيرًا من التركمان وزحف إليهم فلقوه وقاتلوه فهزموه في ربيع الأول‏.‏

فلما تمت الهزيمة على المسلمين سار الفرنج إلى سروج فحصروها وتسلموها وقتلوا كثيرًا من أهلها وسبوا حريمهم ونهبوا أموالهم ولم يسلم إلا من مضى منهزمًا‏.‏

ومنها ملك الفرنج مدينة حيفا وهي بالقرب من عكة على ساحل البحر ملكوها عنوة وملكوا أرسوف بالأمان وأخرجوا أهلها منها‏.‏

وفيها في رجب ملكوا مدينة قيسارية بالسيف وقتلوا أهلها ونهبوا ما فيها‏.‏

في هذه السنة في شهر رمضان تقدم الخليفة المستظهر بالله بفتح جامع القصر وأن يصلى فيه صلاة التراويح ولم تكن جرت بذلك عادة وأمر بالجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وهذا أيضًا لم تجر به عادة وإنما ترك الجهر بالبسملة في جوامع بغداد لأن العلويين أصحاب مصر كانوا يجهرون بها فترك ذلك مخالفة لهم لا اتباعًا لمذهب أحمد الإمام وأمر أيضًا بالقنوت على مذهب الشافعي فلما كانت الليلة التاسعة والعشرون ختم في جامع القصر وازدحم الناس عنده وكان زعيم الرؤساء أبو القاسم علي بن فخر الدولة بن جهير أخو عميد الدولة قد أطلق من الاعتقال فاختلط الناس وخرج إلى ظاهر بغداد من ثلمة في السور وسار إلى سيف الدولة صدقة بن مزيد فاستقبله وأنزله وأكرمه‏.‏

وفيها في المحرم توفي جمال الدولة أبو نصر بن رئيس الرؤساء بن المسلمة وهو أستاذ دار الخليفة‏.‏

وفيه توفي القاضي أحمد بن محمد بن عبد الواحد أبو منصور بن الصباغ الفقيه الشافعي وأخذ الفقه عن ابن عمه الشيخ أبي نصر بن الصباغ وكان يصوم الدهر وروى الحديث عن القاضي أبي الطيب الطبري وغيره‏.‏

وفيه توفي شرف الملك أبو سعد محمد بن منصور المستوفي الخوارزمي بأصبهان وكان مستوفيًا في ديوان السلطان ملكشاه فبذل مائة ألف دينار حتى ترك الاستيفاء وبنى مشهدًا على قبر أبي حنيفة رحمة الله عليه ومدرسة بباب الطاق ومدرسة بمرو جميعها للحنفيين‏.‏

وفيها في صفر توفي القاضي أبو المعالي عزيزي وكان شافعيًا أشعريًا وهو من جيلان وله مصنفات كثيرة حسنة وكان ورعًا وله مع أهل باب الأزج أخبار ظريفة وكان قاضيًا عليهم وكانوا يبغضونه ويبغضهم‏.‏

وتوفي أسعد بن مسعود بن علي بن محمد أبو إبراهيم العتبي من ولد عتبة بن غزوان نيسابوري ولد سنة أربع وأربعمائة وروى عن أبي بكر الحيري وغيره‏.‏

وتوفي في صفر محمد بن أحمد بن عبد الباقي بن الحسن بن محمد بن طوق أبو الفضائل الربعي الموصلي الفقيه الشافعي تفقه على أبي إسحاق الشيرازي وسمع الحديث من أبي الطيب الطبري وغيره وكان ثقًا صالحًا‏.‏

وتوفي في ربيع الأول منها محمد بن علي بن عبيد الله بن أحمد بن صالح بن سليمان بن ودعان أبو نصر القاضي الموصلي وهو صاحب الأربعين الودعانية وقد تكملوا فيها فقيل إنه سرقها وكانت تصنيف زيد بن رفاعة الهاشمي والغالب عال حديثه المناكير‏.‏

وتوفي فيها في ربيع الأول نصر بن أحمد بن عبد الله بن البطر القاري أبو الخطاب ومولده سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة سمع ابن رزقويه وغيره وصارت إليه الرحلة لعلو إسناده وكان سماعه صحيحًا‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وتسعين وأربعمائة

ذكر وفاة المستعلي بالله وولاية الآمر بأحكام الله

في هذه السنة توفي المستعلي بالله أبو القاسم أحمد بن معد المستنصر بالله العلوي الخليفة المصري لسبع عشرة خلت من صفر وكان مولده في العشرين من شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة وكانت خلافته سبع سنين وقريب شهرين وكان المدبر لدولته الأفضل‏.‏

ولما توفي ولي بعده ابنه أبو علي المنصور ومولده ثالث عشر المحرم سنة تسعين وأربعمائة وبويع له بالخلافة في اليوم الذي مات فيه أبوه وله خمس سنين وشهر وأربعة أيام ولقب الآمر بأحكام الله ولم يكن من تسمى بالخلافة قط أصغر منه ومن المستنصر وكان المستنصر أكبر من هذا ولم يقدر يركب وحده على الفرس لصغر سنه وقام بتدبير دولته الأفضل ابن أمير الجيوش أحسن قيام ولم يزل كذلك يدبر الأمر إلى أن قتل سنة خمس عشرة وخمسمائة‏.‏

في هذه السنة في صفر كان المصاف الثالث بين السلطانين بركيارق ومحمد‏.‏

قد ذكرنا سنة أربع وتسعين قدوم السلطان محمد إلى بغداد ورحيل السلطان بركيارق عنها إلى واسط مريضًا فأقام السلطان محمد ببغداد إلى سابع عشر المحرم من هذه السنة وسار عنها هو وأخوه السلطان سنجر عائدين إلى بلادهما وسنجر يقصد خراسان والسلطان محمد يقصد همذان‏.‏

فلما سار محمد عن بغداد وصلت الأخبار أن بركيارق قد اعترض خاص الخليفة بواسط وسمع منه في حق الخليفة ما يقبح نقله فأرسله الخليفة وأعاد السلطان محمدًا إلى بغداد وذكر له ما نقل إليه وعزم على الحركة مع محمد إلى قتال بركيارق فقال السلطان محمد‏:‏ لا حاجة إلى حركة أمير المؤمنين فإني أقوم في هذا القيام المرضي‏.‏

وسار عائدًا ورتب ببغداد أبا المعالي المفضل ابن عبد الرزاق في جباية الأموال وإيلغازي شحنة‏.‏

وكان لما دخل بغداد قد خلف عسكره بطريق خراسان فنهبوا البلاد وخربوها فأخذهم السلطان محمد معه وجد السير إلى روذراور‏.‏

وأما السلطان بركيارق فقد تقدم سنة أربع وتسعين أنه سار من بغداد عند وصول محمد إليها قاصدًا إلى واسط فلما سمع عسكر واسط بقربه منهم خافوا منه وأخذوا نساءهم وأولادهم وأموالهم وجمعوا السفن جميعها وانحدروا إلى الزبيدية فأقاموا هناك‏.‏

ووصل السلطان وهو شديد المرض يحمل في محفة وقد هلك من دواب عسكره ومتاعهم الكثير فإنهم كانوا يجدون السرير خوفًا أن يتبعهم السلطان محمد أو الأمير صدقة صاحب الحلة فكانوا كلما جازوا قنطرة هدموها ليمتنع من يجتاز بها من اتباعهم‏.‏

ولما وصلوا إلى واسط عوفي بركيارق ولم يكن له ولأصحابه همة غير العبور من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي فلم يجد هناك سفينة وكان الزمان شاتيًا شديد البرد والماء زائدًا وكان أهل البلد قد خافوهم فلزموا الجامع وبيوتهم فخلت الطرق والأسواق من مجتاز فيها فخرج القاضي أبو علي الفارقي إلى العسكر واجتمع بالأمير إياز والوزير واستعطفهما للخلق وطلب إنفاذ شحنة لتطمئن القلوب فأجابوه إلى ملتمسه وقالوا له‏:‏ نريد أن تجمع لنا من يعبر دوابنا في الماء ونسبح معها فجمع لهم من شباب واسط وأعطاهم الأجرة الوافرة فعبروا دوابهم من الخيل والبغال والجمال وكان الأمير إياز بنفسه يسوق الدواب ويفعل ما يفعله الغلمان ولم يكن معهم غير سفينة واحدة انحدرت مع السلطان من بغداد فعبروا أموالهم ورحالهم فيها‏.‏

فلما صاروا في الجانب الشرقي اطمأنوا ونهب العسكر البلد فرجع القاضي وجدد الخطاب في الكف عنهم فأجيب إلى ذلك فأرسل معه من يمنع من النهب‏.‏

ثم إن عسكر واسط أرسلوا إلى السلطان بركيارق يطلبون الأمان ليحضروا الخدمة فأمنهم فحضر أكثرهم عنده وساروا معه إلى بلاد بني برسق فحضروا أيضًا عنده وخدموه واجتمعت العساكر عليه‏.‏

وبلغه مسير أخيه محمد عن بغداد فسار يتبعه على نهاوند فأدركه بروذراور وكان العسكران متقاربين في العدة كل واحد منهما أربعة آلاف فارس من الأتراك فتصافوا أول يوم جميع النهار ولم يجر بينهم قتال لشدة البرد وعادوا في اليوم الثاني ثم تواقفوا كذلك ثم كان الرجل يخرج من أحد الصفين فيخرج إليه من يقاتله فإذا تقاربا اعتنق كل واحد منهما صاحبه وسلم عليه ويعود عنه‏.‏

ثم خرج الأمير بلدجي وغيره من عسكر محمد إلى الأمير إياز والوزير الأعز فاجتمعوا واتفقوا على الصلح لما قد عم الناس من الضرر والملل والوهن فاستقرت القاعدة أن يكون بركيارق السلطان ومحمد الملك ويضرب له ثلاث نوب ويكون له من البلاد جنزة وأعمالها وأذربيجان وديار بكر والجزيرة والموصل وأن يمده السلطان بركيارق بالعساكر حتى يفتح ما يمتنع عليه منها وحلف كل واحد منهما لصاحبه وانصرف الفريقان من المصاف رابع ربيع الأول وسار بركيارق إلى مرج قراتكين قاصدًا ساوة والسلطان محمد إلى أسداباذ وتفرق العسكران وقصد الملك أمير أقطاعه‏.‏

في هذه السنة في جمادى الأولى كان المصاف الرابع بين السلطان بركيارق وأخيه محمد‏.‏

وكان سببه أن السلطان محمدًا سار من روذراور من الوقعة المذكورة إلى أسداباذ ومنها إلى قزوين ونسب الأمراء الذين سعوا في الصلح إلى المخامرة عليه والتقاعد به فوضع رئيس قزوين أن يتوسل إليه بأولئك الأمراء ليحضر دعوته فاستشفع الرئيس بهم إلى السلطان فحضر دعوته بعد أن امتنع ووصى خواصه بحمل السلاح تحت أقبيتهم وحضر الدعوة ومعه الأمير أيتكين وبسمل فقتل الأمير بسمل وهو من أكابر الأمراء وكحل الأمير أيتكين‏.‏

وكان الأمير ينال بن أنوشتكين الحسامي قد فارق بركيارق وأقام مجاهدًا للباطنية الذين في القلاع والجبال فقصد الآن السلطان محمدًا وسار معه إلى الري يضرب النوب الخمس واجتمعت إليه العساكر وأقام ثمانية أيام ووافاه أخوه السلطان بركيارق في اليوم التاسع ووقع بينهما المصاف عند الري وكانت عدة العسكريين متقاربة كل عسكر منهما عشرة آلاف فارس فلما اصطفوا حمل الأمير سرخاب بن كيخسرو الديلمي صاحب أبة على الأمير ينال فهزمه وتبعه في الهزيمة جميع عسكر محمد وتفرقوا ومضى معظمهم نحو طبرستان ولم يقتل في هذا المصاف غير رجل واحد قتل صبرًا‏.‏

ومضى قطعة من المنهزمين نحو قزوين ونهبت خزائن محمد ومضى في نفر يسير إلى أصبهان وحمل هو علمه بيده ليتبعه أصحابه وسار في طلبه الأمير البكي بن برسق والأمير إياز إلى قم وتتبع السلطان بركيارق أصحاب أخيه محمد وأخذ أموالهم‏.‏

ذكر حصار السلطان محمد بأصبهان

لما انهزم السلطان محمد من الوقعة التي ذكرناها بالري مضى إلى أصبهان في سبعين فارسًا والبلد في حكمه وفيه نائبه ومعه من الأمراء ينال وغيره من الأمراء ودخل المدينة في ربيع الأول وأمر بتجديد ما تشعث من السور وهذا السور هو الذي بناه علاء الدولة بن كاكويه سنة تسع وعشرين وأربعمائة عند خوفه من طغرلبك وأمر محمد بتعميق الخندق حتى صعد الماء فيه وسلم إلى كل أمير بابًا وكان معه في البلد ألف ومائة فارس وخمس مائة راجل ونصب المجانيق‏.‏

ولما علم السلطان بركيارق بمسير أخيه محمد إلى أصبهان سار يتبعه فوصلها في جمادى الأولى وعساكره كثيرة تزيد على خمسة عشر ألف فارس ومعها مائة ألف من الحواشي وأقام يحاصر البلد وضيق عليه‏.‏

وكان السلطان محمد يدور كل ليلة على سور البلد ثلاث دفعات فلما زاد الأمر في الحصار أخرج الضعفاء والفقراء من البلد حتى خلت المحال وعدمت الأقوات وأكل الناس الخيل والجمال وغير ذلك وقلت الأموال فاضطر السلطان محمد إلى أن يستقرض من أعيان البلد فأخذ مالًا عظيمًا ثم عاود الجند الطلب فقسط على أهل البلد شيئًا آخر وأخذه منهم بالشدة والعنف فلم تزل الأسعار تغلو حتى بلغ عشرة أمنان من الحنطة بدينار وأربعة أرطال لحمًا بدينار وكل مائة رطل تبنًا بأربعة دنانير ورخصت الأمتعة وهانت لعدم الطالب‏.‏

وكانت الأسعار في عسكر بركيارق رخيصة‏.‏

فبقي الحصار على البلد إلى عاشر ذي الحجة فلما رأى السلطان محمد أنه لا قدرة له على الدفع عن البلد وكلما جاء أمره يضعف قوي عزمه على مفارقته وقصد جهة أخرى يجمع فيها العساكر ويعود يدفع الخصم عن الحصار فسار عن البلد في مائة وخمسين فارسًا ومعه الأمير ينال واستخلف بالبلد جماعة من الأمراء الكبار في باقي العسكر فلما فارق العسكر والبلد لم يكن في دوابهم ما يدوم على السير لقلة العلف في الحصار فنزل على ستة فراسخ‏.‏

فلما سمع بركيارق بمسيره سير وراءه الأمير إياز في عسكر كثير وأمره بالجد في السير في طلبه فقيل‏:‏ إن محمدًا سبقهم فلم يدركوه فرجعوا وقيل‏:‏ بل أدركوه فأرسل إلى الأمير إياز يقول‏:‏ أنت تعلم أنني لي في رقبتك عهود وأيمان ما نقضت ولم يكن مني إليك ما تبالغ في أذاي‏.‏

فعاد عنه وأرسل له خيلًا وأخذ علمه والجتر وثلاثة أحمال دنانير وعاد إلى بركيارق فدخل عليه وأعلام أخيه السلطان محمد منكوسة فأنكر بركيارق ذلك وقال‏:‏ إن كان قد أساء فلا ينبغي أن يعتمد معه هذا فأخبره الخبر فاستحسن ذلك منه‏.‏

فلما فارق محمد أصبهان اجتمع من المفسدين والسوادية ومن يريد النهب ما يزيد على مائة ألف نفس وزحفوا إلى البلد بالسلاليم والدبابات وطموا الخندق بالتبن والتصقوا بالسور وصعد الناس في السلاليم فقاتلهم أهل البلد قتال من يريد أن يحمي حريمه وماله فعادوا خائبين فحينئذ أشار الأمراء على بركيارق بالرحيل فرحل ثامن عشر ذي الحجة من السنة واستخلف على البلد القديم الذي يقال له شهرستان ترشك الصوابي في ألف فارس مع ابنه ملكشاه وسار إلى همذان وكان هذا من أعجب ما سطر أن سلطانًا محصورًا قد تقطعت مواده وهو يخطب له في أكثر البلاد ثم يخلص من الحصر الشديد وينجو من العساكر الكثيرة التي كلها قد شرع إليه رمحه وفوّق إليه سهمه‏.‏

ذكر قتل الوزير الأعز ووزارة الخطير أبي منصور

في هذه السنة ثاني عشر صفر قتل الوزير الأعز أبو المحاسن عبد الجليل ابن محمد الدهستاني وزير السلطان بركيارق على أصبهان وكان مع بركيارق محاصرًا لها فركب هذا اليوم من خيمته إلى خدمة السلطان فجاء شاب أشقر قيل‏:‏ إنه كان من غلمان أبي سعيد الحداد وكان الوزير قتله في العام الماضي فانتهز الفرصة فيه وقيل‏:‏ كان باطنيًا فجرحه عدة جراحات فتفرق أصحابه عنه ثم عادوا إليه فجرح أقربهم منه جراحات أثخنته وعاد إلى الوزير فتركه بآخر رمق‏.‏

وكان كريمًا واسع الصدر حسن الخلق كثير العمارة ونفر الناس منه لأنه دخل في الوزارة وقد تغيرت القوانين ولم يبق دخل ولا مال ففعل للضرورة ما خافه الناس بسببه‏.‏

وكان حسن المعاملة مع التجار فاستغنى به خلق كثير فكانوا يسألونه ليعاملهم فلما قتل ضاع منهم مال كثير‏.‏

حكي أن بعض التجار باعه متاعًا بألف دينار فقال له‏:‏ خذ بها حنطة من الراذان خمسين كرًا كل كر بعشرين دينارًا فامتنع التاجر من أخذها وقال‏:‏ لا أريد غير الدنانير‏.‏

فلما كان من الغد دخل إليه التاجر فقال له‏:‏ يهنئك يا فلان‏!‏ فقال‏:‏ وما هو قال‏:‏ خبر حنطتك فقال‏:‏ ما لي حنطة ولا أريدها قال‏:‏ بلى وقد بيعت كل كر بخمسين دينارًا فقال‏:‏ أنا لم أتقبل بها‏!‏ فقال الوزير‏:‏ ما كنت لأفسخ عقدًا عقدته‏.‏

قال‏:‏ فخرجت وأخذت ثمن الحنطة ألفين وخمسمائة دينار وأضفت إليها مثلها وعاملته فقتل فضاع الجميع‏.‏

وكان قد نفق عليه عمل الكيمياء واختص به إنسان كيميائي فكان يعده الشهر بعد الشهر والحول بعد الحول وقال له بعض أصحابه وقد أحاله عليه بكر حنطة فاستزاده‏:‏ لو كان صادقًا في عمله لما كان يستزيد من القدر القليل وقتل ولم يصح له منه شيء‏.‏

ولما قتل الأعز أبو المحاسن وزر بعده الوزير الخطير أبو منصور الميبذي الذي كان وزير السلطان محمد‏.‏

وكان سبب فراقه لوزارة محمد أنه كان معه بأصبهان وبركيارق يحاصره وقد سلم إليه محمد بابًا من أبوابها ليحفظها فقال له الأمير ينال بن أنوشتكين‏:‏ كنت قد كلفتنا ونحن بالري لنقصد همذان وقلت‏:‏ أنا أقيم بالعسكر من مالي وأحصل لهم ما يقوم بهم ولا بد من ذلك‏.‏

فقال الخطير‏:‏ أنا أفعل ذلك‏.‏

فلما كان الليل فارق البلد وخرج من الباب الذي كان مسلمًا إليه وقصد بلده ميبذ وأقام بقلعتها متحصنًا فأرسل إليه السلطان بركيارق وحصره فنزل منها مستأمنًا فحمل على بغل بإكاف إلى العسكر فوصله في طريقه قتل الوزير الأعز وكتاب السلطان له بالأمان وطيب قلبه فلما وصل إلى العسكر خلع عليه واستوزره‏.‏

في سنة ثلاث وتسعين بيع رحل بني جهير ودورهم بباب العامة ووصل ثمن ذلك إلى مؤيد الملك ثم قتل في سنة أربع وتسعين مؤيد الملك وبيع ماله وبركة وأخذ الجميع وحمل إلى الوزير الأعز وقتل الوزير الأعز هذه السنة وبيع رحله واقتسمت أمواله وأخذ السلطان ومن ولي بعده أكثرها وتفرقت أيدي سبا وهذا عاقبة خدمة الملوك‏.‏

ذكر الفتنة بين إيلغازي وعامة بغداد

في هذه السنة في رجب كانت فتنة شديدة بين عسكر الأمير إيلغازي ابن أرتق شحنة بغداد وبين عامتها‏.‏

وسببها أن إيلغازي كان بطريق خراسان فعاد إلى بغداد‏.‏

فلما وصل أتى جماعة من أصحابه إلى دجلة فنادوا ملاحًا ليعبر بهم فتأخر فرماه أحدهم بنشابة فوقعت في مشعره فمات فأخذ العامة القاتل وقصدوا باب النوبي فلقيهم ولد إيلغازي مع جماعة فاستنقذوه ورجمهم العامة بسوق الثلاثاء فمضى إلى أبيه مستغيثًا فأخذ حاجب الباب من له في هذه الحادثة عمل فلم يقنع إيلغازي ذلك فعبر بأصحابه إلى محلة الملاحين المعروفة بمربعة القطانين ويتبعهم خلق كثير فنهبوا ما وجدوا وقدروا عليه فعطف عليهم العيارون فقتلوا أكثرهم‏.‏

ونزل من سلم في السفن ليعبروا دجلة فلما توسطوها ألقى الملاحون أنفسهم في الماء وتركوهم فغرقوا فكان الغريق أكثر من القتيل وجمع إيلغازي التركمان وأراد نهب الجانب الغربي فأرسل الخليفة قاضي القضاة والكيا الهراس المدرس بالنظامية فمنعاه من ذلك فامتنع‏.‏

ذكر قصد صاحب البصرة مدينة واسط وعوده عنها

في هذه السنة في العشرين من شوال قصد الأمير إسماعيل صاحب البصرة مدينة واسط للاستيلاء عليها‏.‏

ونحن نبتديء بذكر إسماعيل وتنقل الأحوال به إلى أن ملك البصرة وهو إسماعيل بن سلانجق وكان إليه في أيام ملكشاه شحنكية الري ولما وليها كان أهل الري والرستاقية قد أعيوا من وليهم وعجز الولاة عنهم فسلك معهم طريقًا أصلحهم بها وقتل منهم مقتلة عظيمة فتهذبوا بها وأرسل من شعورهم إلى السلطان ما عمل منه مقاود وشكلًا للدواب ثم عزل عنها‏.‏

ثم إن السلطان بركيارق أقطع البصرة للأمير قماج فأرسل إليها هذا الأمير إسماعيل نائبًا عنه فلما فارق قماج بركيارق وانتقل إلى خراسان حدثته نفسه بالتغلب على البصرة والاستبداد فانحدر مهذب الدولة بن أبي الجبر من البطيحة إليه ليحاربه ومعه معقل بن صدقة بن منصور بن الحسين الأسدي صاحب الجزيرة الدبيسية فأقبلا في جمع كثير من السفن والخيل ووصلوا إلى مطارا‏.‏

فبينما معقل يقاتل قريبًا من القلعة التي بناها ينال بمطارا وجددها إسماعيل وأحكمها أتاه سهم غرب فقتله فعاد ابن أبي الجبر إلى البطيحة وأخذ إسماعيل سفنه وذلك سنة إحدى وتسعين فاستمد ابن أبي الجبر كوهرائين فأمده بأبي الحسن الهروي وعباس بن أبي الجبر فلقياه فكسرهما وأسرهما وأطلق عباسًا على مال أرسله أبوه واصطلحا‏.‏

وأما الهروي فبقي في حبسه مدة ثم أطلقه على خمسة آلاف دينار فلم يصح له منها شيء‏.‏

وقوي حال إسماعيل فبنى قلعة بالأبلة وقلعة بالشاطيء مقابل مطارا وصار مخوف الجانب وأمن البصريون به وأسقط شيئًا من المكوس واتسعت إمارته باشتغال السلاطين وملك المشان واستضافها إلى ما بيده‏.‏

فلما كان هذه السنة كاتبه بعض عسكر واسط بالتسليم إليه فقوي طمعه في واسط فأصعد في السفن إلى نهرابان وراسلهم في التسليم فامتنعوا من ذلك وقالوا‏:‏ راسلناك وقد رأينا غير ذلك الرأي‏.‏

فأصعد إلى الجانب الشرقي فخيم تحت النخيل وسفنه بين يديه وخيم جند واسط حذاءه وراسلهم ووعدهم وهم لا يجيبونه‏.‏

واتفقت العامة مع الجند وشتموه أقبح شتم فلما أيس منهم عاد إلى البصرة وساروا بإزائه من الجانب الآخر فوصل إلى العمر وعبر طائفة من أصحابه فوق البلد وهو يظن أن البلد خال وأن الناس قد خرجوا منه لما رأى كثرة من بإزائه فيوقع الحريق في البلد فإذا رجع الأتراك عاد هو من ورائهم فكان ظنه خائبًا لأن العامة كانوا على دجلة أولهم في البلد وآخرهم مع الأتراك بإزائه‏.‏

فلما عبر أصحابه عاد الأتراك عليهم ومعهم العامة فقتلوا منهم ثلاثين رجلًا وأسروا خلقًا كثيرًا وألقى الباقون أنفسهم في الماء فأتاه من ذلك مصيبة لم يظنها وصار أعيان أصحابه مأسورين وعاد إلى البصرة وكان عوده من سعادته فإنه كان قد قصد الأمير أبو سعد محمد بن مضر بن محمود البصرة ذلك الوقت وله أعمال واسعة منها‏:‏ نصف عمان وجنابة وسيراف وجزيرة بني نفيس‏.‏

وكان سبب قصده إياها أنه كان قد صار مع إسماعيل إنسان يعرف بجعفرك وآخر اسمه زنجويه والثالث بأبي الفضل الأبلي فأطمعوه في أن يعمل مراكب يرسل فيها مقاتلة في البحر إلى أبي سعد هذا وغيره فعمل نيفًا وعشرين قطعة فلما علم أبو سعد الحال أرسل جماعة كثيرة من أصحابه في نحو خمسين قطعة فأتوا إلى دجلة البصرة وذلك في السنة الخالية فأقاموا بها

محاربين وظفروا بطائفة من أصحاب إسماعيل وقتلوا صاحب قلعة الأبلة وكاتبوا بني برسق بخوزستان يطلبون أن يرسلوا عسكرًا ليساعدوهم على أخذ البصرة فتمادى الجواب وركن الطائفتان إلى الصلح على أن يسلم إليهم إسماعيل جعفرك ورفيقه ويقطعهم مواضع ذكروها من أعمال البصرة‏.‏

فلما رجعوا لم يفعل شيئًا من ذلك وأخذ مركبين لقوم من أصحاب أبي سعد فحمله ذلك على أن سار بنفسه في قطع كثيرة تزيد على مائة قطعة بين كبيرة وصغيرة ووصل إلى فوهة نهر الأبلة‏.‏

وخرج عسكر إسماعيل في عدة مراكب ووقع القتال بينهم وكان البحريون في نحو عشرة آلاف وإسماعيل في سبعمائة وأصعد البحريون في دجلة فأحرقوا عدة مواضع وتفرق عسكر إسماعيل فبعضه بالأبلة وبعضه بنهر الدير وبعضه في مواضع أخر‏.‏

فلما ضعف إسماعيل عن مقاومة أبي سعد طلب من وكيل الخليفة على ما يتعلق بديوانه من البلاد أن يسعى في الصلح فأرسل إليه في ذلك فأعاد الجواب يذكر قبح ما عامله به إسماعيل مرة بعد أخرى وتكررت الرسائل بينهم فأجاب إلى الصلح فاصطلحا واجتمعا وعاد أبو سعد إلى بلاده وحمل كل واحد منهما لصاحبه هدية جميلة‏.‏

ذكر وفاة كربوقا وملك موسى التركماني الموصل وجكرمش بعده

وملك سقمان الحصن في هذه السنة في ذي القعدة توفي قوام الدولة كربوقا عند مدينة خوي وكان السلطان بركيارق قد أرسله في العام الماضي إلى أذربيجان كما ذكرناه فاستولى على أكثرها وأتى إلى خوي فمرض بها ثلاثة عشر يومًا وكان معه أصبهبذ صباوة بن خمارتكين وسنقرجه فوصى إلى سنقرجه وأمر الأتراك بطاعته وأخذ له على عسكره العهد ومات على أربعة فراسخ من خوي ولف في زلية لعدم ما يكفن فيه ودفن بخوي‏.‏

وسار سنقرجه وأكثر العسكر إلى الموصل فتسلمها فأقام بها ثلاثة أيام وكان أعيان الموصل قد كاتبوا موسى التركماني وهو بحض كيفا ينوب عن كربوقا فيها وسألوه أن يبادر إليهم ليسلموا إليه البلد فسار مجدًا فسمع سنقرجه بوصوله فظن أنه جاء إليه خدمة له فخرج ليستقبله في أهل البلد فلما تقاربا نزل كل واحد منهما لصاحبه عن فرسه واعتنقا وبكيا على قوام الدولة فتسايرا‏.‏

فقال سنقرجه لموسى في جملة حديثه‏:‏ أنا مقصودي من جميع ما كان لصاحبنا المخدة والمنصب والأموال والولايات لكم وبحكمكم‏.‏

فقال موسى‏:‏ من نحن حتى يكون لنا مناصب ودسوت الأمر في هذا إلى السلطان يرتب فيه من يريد ويولي من يختار‏.‏

وجرى بينهما محاورات فجذب سنقرجه سيفه وضربه صفحًا على رأسه فجرحه فألقى موسى نفسه إلى الأرض وجذب سنقرجه فألقاه إلى الأرض وكان مع موسى ولد منصور بن مروان الذي كان أبوه صاحب ديار بكر فجذب سكينًا وضرب بها رأس سنقرجه فأبانه ودخل موسى البلد وخلع على أصحاب سنقرجه وطيب نفوسهم فصارت الولاية له‏.‏

ولما سمع شمس الدولة جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر الخبر قصد نصيبين وتسلمها وسار موسى قاصدًا إلى الجزيرة فلما قارب جكرمش غدر بموسى عسكره وصاروا مع جكرمش فعاد موسى إلى الموصل وقصده جكرمش وحصره مدة طويلة فاستعان موسى بالأمير سقمان بن أرتق وهو يومئذ بديار بكر وأعطاه حصن كيفا وعشرة آلاف دينار فسار سقمان إليه فرحل جكرمش عنه‏.‏

وخرج موسى لاستقبال سقمان فلما كان موسى عند قرية تسمى كراثا وثب عليه عدة من الغلمان القوامية فقتلوه‏:‏ رماه أحدهم بنشابة فقتله فعاد أصحابه منهزمين ودفن على تل هناك يعرف الآن بتل موسى ورجع الأمير سقمان إلى الحصن فملكها وهي بيد أولاده إلى يومنا هذا

وقصد جكرمش الموصل وحصرها أيامًا ثم تسلمها صلحًا وأحسن السيرة فيها وأخذ القوامية الذين قتلوا موسى فقتلهم واستولى بعد ذلك على الخابور وملك العرب والأكراد فأطاعوه‏.‏  ‏