المجلد التاسع - ذكر أخبار الفرنج بالشام

‏ كان الأفضل أمير الجيوش بمصر قد أنفذ ملوكًا لأبيه لقبه سعد الدولة ويعرف بالطواشي إلى الشام لحرب الفرنج فلقيهم بين الرملة ويافا ومقدم الفرنج يعرف ببغدوين لعنه الله تعالى وتصافوا واقتتلوا فحملت الفرنج حملة صادقة فانهزم المسلمون‏.‏

وكان المنجمون يقولون لسعد الدولة‏:‏ إنك تموت مترديًا فكان يحذر من ركوب الخيل حتى إنه ولي بيروت وأرضها مفروشة بالبلاط فقلعه خوفًا أن يزلق به فرسه أو يعثر فلم ينفعه الحذر عند نزول القدر فلما كانت هذه الوقعة انهزم فتردى به فرسه فسقط ميتًا وملك الفرنج خيمه وجميع ما للمسلمين‏.‏

فأرسل الأفضل بعده ابنه شرف المعالي في جمع كثير فالتقوا هم والفرنج بيازوز بقرب الرملة فانهزم الفرنج وقتل منهم مقتلة عظيمة وعاد من سلم منهم مغلولين فلما رأى بغدوين شدة الأمر وخاف القتل والأسر ألقى نفسه في الحشيش واختفى فيه فلما أبعد المسلمون خرج منه إلى الرملة‏.‏

وسار شرف المعالي بن الأفضل من المعركة ونزل على قصر بالرملة وبه سبعمائة من أعيان الفرنج وفيهم بغدوين فخرج متخفيًا إلى يافا وقاتل ابن الأفضل من بقي خمسة عشر يومًا ثم أخذهم فقتل منهم أربعمائة صبرًا وأسر ثلاثمائة إلى مصر‏.‏

ثم اختلف أصحابه في مقصدهم فقال يوم‏:‏ نقصد البيت المقدس ونتملكه وقال قوم‏:‏ نقصد يافا ونملكها‏.‏

فبينما هم في هذا الاختلاف إذ وصل إلى الفرنج خلق كثير في البحر قاصدين زيارة البيت المقدس فندبهم بغدوين للغزو معه فساروا إلى عسقلان وبها شرف المعالي فلم يكن يقوى بحربهم فلطف الله بالمسلمين فرأى الفرنج البحرية حصانة عسقلان وخافوا البيات فرحلوا إلى يافا وعاد ولد الأفضل إلى أبيه فسير رجلًا يقال له تاج العجم في البر وهو من أكبر مماليك أبيه وجهز معه أربعة آلاف فارس وسير في البحر رجلًا يقال له القاضي ابن قادوس في الأسطول على يافا ونزل تاج العجم على عسقلان فاستدعاه ابن قادوس إليه ليتفقا على حرب الفرنج فقال تاج العجم‏:‏ ما يمكنني أن أنزل إليك إلا بأمر الأفضل ولم يحضر عنده ولا أعانه فأرسل القادوسي إلى قاضي عسقلان وشهودها وأعيانها وأخذ خطوطهم بأنه أقام على يافا عشرين يومًا واستدعى تاج العجم فلم يأته ولا أرسل رجلًا فلما وقف الأفضل على الحال أرسل من قبض على تاج العجم وأرسل رجلًا لقبه جمال الملك فأسكنه عسقلان وجعله متقدم العساكر الشامية‏.‏

وخرجت هذه السنة وبيد الفرنج لعنهم الله البيت المقدس وفلسطين ما عدا عسقلان ولهم أيضًا يافا وأرسوف وقيسارية وحيفا وطبرية واللاذقية وأنطاكية ولهم بالجزيرة الرها وسروج‏.‏

وكان صنجيل يحاصر مدينة طرابلس الشام والمواد تأتيها وبها فخر الملك بن عمار وكان يرسل أصحابه في المراكب يغيرون على البلاد التي بيد الفرنج ويقتلون من وجدوا وقصد بذلك

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة سادس المحرم توفيت بنت أمير المؤمنين القائم بأمر الله التي كانت زوجة السلطان طغرلبك وكانت موصوفة بالدين وكثرة الصدقة وكان الخليفة المستظهر بالله قد ألزمها بيتها لأنه بلغ عنها أنها تسعى في إزالة دولته‏.‏

وفيها في شعبان أيضًا استوزر المستظهر بالله زعيم الرؤساء أبا القاسم بن جهير واستقدمه من الحلة من عند سيف الدولة صدقة وقد ذكرنا في السنة المتقدمة سبب مسيره إليها فلما قدم إلى بغداد وخرج كل أرباب الدولة فاستقبلوه وخلع عليه الخلع التامة وأجلس في الديوان ولقب قوام الدين‏.‏

وفيه أيضًا قتل أبو المظفر بن الخجندي بالري وكان يعظ الناس فقتله رجل علوي حين نزل من كرسيه وقتل العلوي ودفن الخجندي بالجامع وأصل بيت الخجندي من مدينة خجندة بما وراء النهر وينسبون إلى المهلب بن أبي صفرة وكان نظام الملك قد سمع أبا بكر محمد بن ثابت الخجندي يعظ بمرو فأعجبه كلامه وعرف محله من الفقه والعلم فحمله إلى أصبهان وصار مدرسًا بمدرسته بها فنال جاهًا عريضًا ودنيا واسعة وكان نظام الملك يتردد إليه ويزوره‏.‏

وفيها جمع ساغربك بما وراء النهر جموعًا كثيرة وهو من أولاد الخانية وقصد محمد خان الذي ملكه السلطان سنجر سمرقند ونازعه في ملكها فضعف محمد خان عنه فأرسل إلى السلطان سنجر يستنجده فسار إلى سمرقند فأبعد عنه ساغربك وخافه واحتمى منه وأرسل يطلب الأمان من سنجر والعفو فأجابه إلى ما طلب وحضر ساغربك عنده وقرر الصلح بينه وبين محمد خان وحلف كل واحد منهما لصاحبه وعاد إلى خراسان فوصل إلى مرو في ربيع الأول سنة سبع وتسعين وأربعمائة‏.‏

وفيها توفي أبو المعالي الصالح ساكن باب الطاق وكان مقلًا من الدنيا له كرامات ظاهرة‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وتسعين وأربعمائة

ذكر ملك بلك بن بهرام مدينة عانة

في هذه السنة في المحرم استولى بلك بن بهرام بن أرتق وهو ابن أخي إيلغازي بن أرتق على مدينة عانة والحديثة وكان له مدينة سروج فأخذها الفرنج منه فسار عنها إلى عانة وأخذها من بني يعيش بن عيسى بن خلاط فقصد بنو يعيش سيف الدولة صدقة بن مزيد ومعهم مشايخهم فسألوه الإصعاد إليها وأن يتسلمها منهم ففعل وأصعد معهم‏.‏

فرحل التركمان وبهرام عنها وأخذ صدقة رهائنهم وعاد إلى حلته فرجع بلك إليها ومعه ألفا رجل من التركمان فمانعه أصحابه قليلًا واستدل على المخاضة إليها فخاضها وعبر وملكهم ونهبهم وسبى جميع حرمهم وانحدر طالبًا هيت من الجانب الشامي فبلغ إلى قريب منها ثم رجع من يومه ولما سمع صدقة جهز العساكر ثم أعادهم عند عود بلك‏.‏

ذكر غارة الفرنج على الرقة وقلعة جعبر

في هذه السنة في صفر أغار الفرنج من الرها على مرج الرقة وقلعة جعبر وكانوا لما خرجوا من الرها افترقوا فرقتين وأبعدوا يومًا واحدًا تكون الغارة على البلدين فيه ففعلوا ما استقر بينهم وأغاروا واستاقوا المواشي وأسروا من وقع بأيديهم من المسلمين فكانت القلعة والرقة لسالم بن مالك بن بدران بن المقلد بن المسيب سلمها إليه السلطان ملكشاه سنة تسع وسبعين وقد ذكرناه فيها‏.‏

ذكر الصلح بين السلطان بركيارق ومحمد

في هذه السنة في ربيع الآخر وقع الصلح بين السلطانين بركيارق ومحمد ابني ملكشاه‏.‏

وكان سببه أن الحروب تطاولت بينهما وعم الفساد فصارت الأموال منهوبة والدماء مسفوكة والبلاد مخربة والقرى محرقة والسلطنة مطموعًا فيها محكومًا عليها وأصبح الملوك مقهورين بعد أن كانوا قاهرين وكان الأمراء الأكابر يؤثرون ذلك ويختارونه ليدوم تحكمهم وانبساطهم وإدلالهم‏.‏

وكان السلطان بركيارق حينئذ بالري والخطبة له بها وبالجبل وطبرستان وخوزستان وفارس وديار بكر والجزيرة وبالحرمين الشريفين‏.‏

وكان السلطان محمد بأذربيجان والخطبة له فيها وببلاد أرانية وأرمينية وأصبهان والعراق كلها ما عدا تكريت‏.‏

وأما أعمال البطائح فيخطب ببعضها لبركيارق وببعضها لمحمد‏.‏

وأما البصرة فكان يخطب فيها لهما جميعًا‏.‏

وأما خراسان فإن السلطان سنجر كان يخطب له في جميعها وهي من حدود جرجان إلى ما وراء النهر ولأخيه السلطان محمد‏.‏

فلما رأى السلطان بركيارق المال عنده معدومًا والطمع من العسكر زائدًا أرسل القاضي أبا المظفر الجرجاني الحنفي وأبا الفرج أحمد بن عبد الغفار الهمذاني المعروف بصاحب قراتكين إلى أخيه محمد في تقرير قواعد الصلح فسارا إليه وهو بالقرب من مراغة فذكرا له ما أرسلا فيه ورغباه في الصلح وفضيلته وما شمل البلاد من الخراب وطمع عدو الإسلام في أطراف الأرض‏.‏

فأجاب إلى ذلك وأرسل فيه رسلًا واستقر الأمر وحلف كل واحد منهما لصاحبه وتقررت القاعدة‏:‏ أن السلطان بركيارق لا يعترض أخاه محمدًا في الطبل وأن لا يذكر معه على سائر البلاد التي صارت له وأن لا يكاتب أحدهما الآخر بل تكون المكاتبة من الوزيرين ولا يعارض أحد من العسكر في قصد أيهما شاء وأن يكون للسلطان محمد من النهر المعروف بإسبيذروذ إلى باب الأبواب وديار بكر والجزيرة والموصل والشام ويكون له من بلاد العراق بلاد سيف الدولة صدقة‏.‏

فأجاب بركيارق إلى هذا وزال الخلف والشغب وأرسل السلطان محمد إلى أصحابه بأصبهان يأمرهم بالانصراف عن البلد وتسليمه إلى أصحاب أخيه وسار السلطان بركيارق إلى أصبهان فلما سلمها إليه أصحاب أخيه دعاهم إلى أن يكونوا معه وفي خدمته فامتنعوا ورأوا لزوم خدمة صاحبهم فسماهم أهل العسكرين جميعًا‏:‏ أهل الوفاء وتوجهوا من أصبهان ومعهم حريم السلطان محمد إليه وأكرمهم بركيارق وحمل لأهل أخيه المال الكثير ومن الدواب ثلاثمائة جمل ومائة وعشرين بغلًا تحمل الثقل وسير معهم العساكر يخدمونهم‏.‏

ولما وصلت رسل السلطان بركيارق إلى الخليفة المستظهر بالله بالصلح وما استقرت القواعد عليه حضر إيلغازي بالديوان وسأل في إقامة الخطبة لبركيارق فأجيب إلى ذلك وخطب له بالديوان يوم الخميس تاسع عشر جمادى الأولى وخطب له من الغد بالجوامع وخطب له أيضًا بواسط‏.‏

ولما خطب إيلغازي ببغداد لبركيارق وصار في جملته أرسل الأمير صدقة إلى الخليفة يقول‏:‏ كان أمير المؤمنين ينسب إلي كل ما يتجدد من إيلغازي من إخلال بواجب الخدمة وشرط الطاعة ومن اطراح المراقبة والآن فقد أبدى صفحته للسلطان الذي استنابه وأنا غير صابر على ذلك بل أسير لإخراجه عن بغداد‏.‏

فلما سمع إيلغازي ذلك شرع في جمع التركمان وورد صدقة بغداد فنزل مقابل التاج وقبل الأرض ونزل في مخيمه بالجانب الغربي ففارق إيلغازي بغداد إلى يعقوبا وأرسل إلى صدقة يعتذر من طاعته لبركيارق بالصلح الواقع وأن إقطاعه حلوان وغيرها في جملة بلاده وأن بغداد التي هو شحنة فيها قد صارت له فذلك الذي أدخله في طاعته‏.‏

فرضي عنه صدقة وعاد إلى الحلة‏.‏

وفي ذي القعدة سيرت الخلع من الخليفة للسلطان بركيارق وللأمير إياز ولوزير بركيارق وهو الخطير والعهد بالسلطنة وحلفوا جميعهم للخليفة وعادوا‏.‏

في هذه السنة وصلت مراكب من بلاد الفرنج إلى مدينة اللاذقية فيها التجار والأجناد والحجاج وغير ذلك واستعان بهم صنجيل الفرنجي على حصار طرابلس فحصروها معه برًا وبحرًا وضايقوها وقاتلوها أيامًا فلم يروا فيها مطمعًا فرحلوا عنها إلى مدينة جبيل فحصروها وقاتلوا عليها قتالًا شديدًا‏.‏

فلما رأى أهلها عجزهم عن الفرنج أخذوا أمانًا وسلموا البلد إليهم فلم تف الفرنج لهم بالأمان وأخذوا أموالهم واستنقذوها بالعقوبات وأنواع العذاب‏.‏

فلما فرغوا من جبيل ساروا إلى مدينة عكا استنجدهم الملك بغدوين ملك الفرنج صاحب القدس على حصارها فنازلوها وحصروها في البر والبحر‏.‏

وكان الوالي بها اسمه بنا ويعرف بزهر الدولة الجيوشي نسبة إلى ملك الجيوش الأفضل فقاتلهم أشد قتال فزحفوا إليه غير مرة فعجز عن حفظ البلد فخرج منه وملك الفرنج البلد بالسيف قهرًا وفعلوا بأهله الأفعال الشنيعة وسار الوالي به إلى دمشق فأقام بها ثم عاد إلى مصر واعتذر إلى الأفضل فقبل عذره‏.‏

ذكر غزو سقمان وجكرمش الفرنج

لما استطال الفرنج خذلهم الله تعالى بما ملكوه من بلاد الإسلام واتفق لهم اشتغال عساكر الإسلام وملوكه بقتال بعضهم بعضًا تفرقت حينئذ بالمسلمين الآراء واختلفت الأهواء وتمزقت الأموال‏.‏

وكانت حران لمملوك من مماليك ملكشاه اسمه قراجه فاستخلف عليها إنسانًا يقال له محمد الأصبهاني وخرج في العام الماضي فعصى الأصبهاني على قراجه وأعانه أهل البلد لظلم قراجه‏.‏

وكان الأصبهاني جلدًا شهمًا فلم يترك بحران من أصحاب قراجه سوى غلام تركي يعرف بجاولي وجعله أصفهسلار العسكر وأنس به فجلس معه يومًا للشرب فاتفق جاولي مع خادم له على قتله فقتلاه وهو سكران‏.‏

فعند ذلك سار الفرنج إلى حران وحصروها‏.‏

فلما سمع معين الدولة سقمان وشمس الدولة جكرمش ذلك وكان بينهما حرب وسقمان يطالبه بقتل ابن أخيه وكل منهما يستعد للقاء صاحبه وأنا أذكر سبب قتل جكرمش له إن شاء الله تعالى أرسل كل منهما إلى صاحبه يدعوه إلى الاجتماع معه لتلافي أمر حران ويعلمه أنه قد بذل نفسه لله تعالى وثوابه فكل واحد منهما أجاب صاحبه إلى ما طلب منه وسارا فاجتمعا على الخابور وتحالفا وسارا إلى لقاء الفرنج‏.‏

وكان مع سقمان سبعة آلاف فارس من التركمان ومع جكرمش ثلاثة آلاف فارس من الترك والعرب والأكراد فالتقوا على نهر البليخ وكان المصاف بينهم هناك فاقتتلوا فأظهر المسلمون الانهزام فتبعهم الفرنج نحو فرسخين فعاد عليهم المسلمون فقتلوهم كيف شاؤوا وامتلأت أيدي التركمان من الغنائم ووصلوا إلى الأموال العظيمة لأن سواد الفرنج كان قريبًا وكان بيمند صاحب أنطاكية وطنكري صاحب الساحل قد انفردا وراء جبل ليأتيا المسلمين من وراء ظهورهم إذا اشتدت الحرب فلما خرجا رأيا الفرنج منهزمين وسوادهم منهوبًا فأقاما إلى الليل وهربا فتبعهما المسلمون وقتلوا من أصحابهما كثيرًا وأسروا كذلك وأفلتا في ستة فرسان‏.‏

وكان القمص بردويل صاحب الرها قد انهزم مع جماعة من قمامصتهم وخاضوا نهر البليخ فوجلت خيولهم فجاء تركماني من أصحاب سقمان فأخذهم وحمل بردويل إلى خيم صاحبه وقد سار فيمن معه لاتباع بيمند فرأى أصحاب جكرمش أن أصحاب سقمان قد استولوا على مال الفرنج ويرجعون هم من الغنيمة بغير طائل فقالوا لجكرمش‏:‏ أي منزلة تكون لنا عند الناس وعند التركمان إذا انصرفوا بالغنائم دوننا وحسنوا له أخذ القمص فأنفذ فأخذ القمص من خيم سقمان فلما عاد سقمان شق عليه الأمر وركب أصحابه للقتال فردهم وقال لهم‏:‏ لا يقوم فرح المسلمين في هذه الغزاة بغمهم باختلافنا ولا أؤثر شفاء غيظي بشماتة الأعداء بالمسلمين‏.‏

ورحل لوقته وأخذ سلاح الفرنج وراياتهم وألبس أصحابه لبسهم وأركبهم خيلهم وجعل يأتي حصون شيحان وبها الفرنج فيخرجون ظنًا منهم أن اصحابهم نصروا فيقتلهم ويأخذ الحصن منهم فعل ذلك بعدة حصون‏.‏

وأما جكرمش فإنه سار إلى حران فتسلمها واستخلف بها صاحبه‏.‏

وسار إلى الرها فحصرها خمسة عشر يومًا وعاد إلى الموصل ومعه القمص الذي أخذه من خيام سقمان ففاداه بخمسة وثلاثين دينارًا ومائة وستين أسيرًا من المسلمين وكان عدة القتلى من الفرنج يقارب اثني عشر ألف قتيل‏.‏

ذكر وفاة دقاق وملك ولده

في هذه السنة في شهر رمضان توفي الملك دقاق بن تتش بن ألب أرسلان صاحب دمشق وخطب أتابكه طغتكين لولد له صغير له سنة واحدة وجعل اسم المملكة فيه ثم قطع خطبته وخطب لبكتاش بن تتش عم هذا الطفل في ذي الحجة وله من العمر اثنتا عشرة سنة‏.‏

ثم إن طغتكين أشار عليه بقصد الرحبة فخرج إليها فملكها وعاد فمنعه طغتكين من دخول وقيل إن سبب استيحاش بكتاش من طغتكين أن والدته خوفته منه وقالت‏:‏ إنه زوج والدة دقاق وهي لا تتركه حتى يقتلك ويستقيم الملك لولدها فخاف ثم إنه حسن له من كان يحسد طغتكين مفارقة دمشق وقصد بعلبك وجمع الرجال والاستنجاد بالفرنج والعود إلى دمشق وأخذها من طغتكين فخرج من دمشق سرًا في صفر سنة ثمان وتسعين ولحقه الأمير أيتكين الحلبي وهو من جملة من قرر مع بكتاش ذلك وهو صاحب بصرى فعاثا في نواحي حوران ولحق بهما كل من يريد الفساد وراسلا بغدوين ملك الفرنج يستنجدانه فأجابهما إلى ذلك وسار إليهما فاجتمعا به وقررا القواعد معه وأقاما عنده مدة فلم يريا منه غير التحريض على الإفساد في أعمال دمشق وتخريبها فلما يئسا من نصره عادا من عنده وتوجها في البرية إلى الرحبة فملكها بكتاش وعاد عنها‏.‏

واستقام أمر طغتكين بدمشق واستبد بالأمر وأحسن إلى الناس وبث فيهم العدل فسروا به سرورًا كثيرًا‏.‏

ذكر استيلاء صدقة على واسط

في هذه السنة في شوال انحدر سيف الدولة صدقة بن مزيد من الحلة إلى واسط في عسكر كثير وأمر فنودي بها في الأتراك‏:‏ من أقام فقد برئت منه الذمة فسار جماعة منهم إلى بركيارق وجماعة إلى بغداد وصار مع صدقة جماعة منهم ثم إنه أحضر مهذب الدولة بن أبي الجبر صاحب البطيحة فضمنه البلد لمدة آخرها آخر السنة بخمسين ألف دينار وعاد إلى الحلة وأقام مهذب الدولة بواسط إلى سادس ذي القعدة وانحدر إلى بلده‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في ربيع الأول أطلق سديد الملك أبو المعالي من الاعتقال وهو الذي كان وزير الخليفة ولما أطلق هرب إلى الحلة السيفية ومنها إلى السلطان بركيارق فولاه الإشراف على ممالكه‏.‏

وفيها توفي أمين الدولة أبو سعد العلاء بن الحسن بن الموصلايا فجأة وكان قد أضر وكان بليغًا فصيحًا وكان ابتداء خدمته للقائم بأمر الله سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة خدم الخلفاء خمسًا وستين سنة كل يوم تزداد منزلته حتى تاب عن الوزارة وكان نصرانيًا فأسلم سنة أربع وثمانين وكان كثير الصدقة جميل المحضر صالح النية ووقف أملاكه على أبواب البر ومكاتباته مشهورة حسنة ولما مات خلع على ابن أخته أبي نصر ولقب نظام الحضرتين وقلد وفيها كانت ببغداد بين العامة فتن كثيرة وانتشر العيارون‏.‏

وفيها قتل أبو نعيم بن ساوة الطبيب الواسطي وكان من الحذاق في الطب وله فيه إصابات حسنة‏.‏

وفيها عزل السلطان سنجر وزيره المجير أبا الفتح الطغرائي وسبب ذلك أن الأمير بزغش وهو أصفهسلار العسكر السنجري ألقي إليه ملطف فيه‏:‏ لا يتم لك أمر مع هذا السلطان ووقع إلى سنجر لا يتم لك أمر مع الأمير بزغش مع كثرة جموعه فجمع بزغش أصحاب العمائم وعرض عليهم الملطفين فاتفقوا على كاتب الطغرائي وظهرت عليه فقتل وقبض سنجر على الطغرائي وأراد قتله فمنعه بزغش وقال له‏:‏ حق خدمة فأبعده إلى غزنة‏.‏

وفيها جمع بزغش كثيرًا من عساكر خراسان وأتاه كثير من المتطوعة وسار إلى قتال الإسماعيلية فقصد طبس وهي لهم فخربها وما جاورها من القلاع والقرى وأكثر فيهم القتل والنهب والسبي وفعل بهم الأفعال العظيمة ثم إن أصحاب سنجر أشاروا بأن يؤمنوا ويشرط عليهم أنهم لا يبنون حصنًا ولا يشترون سلاحًا ولا يدعون أحدًا إلى عقائدهم فسخط كثير من الناس هذا الأمان وهذا الصلح ونقموه على سنجر ثم إن بزغش بعد عوده من هذه الغزاة توفي وكانت خاتمة أمره الجهاد رحمه الله‏.‏

وفي رجب توفي القاضي أبو الحسين أحمد بن محمد الثقفي قاضي الكوفة ومولده في ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة وهو من ولد عروة بن مسعود ومن تلاميذ القاضي الدامغاني وولي القضاء بعده ابنه أبو البركات‏.‏

وفي ربيع الآخر توفي أبو عبد الله الحسين بن علي بن البسري البندار المحدث ومولده سنة أربع وأربعمائة‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وأربعمائة

ذكر وفاة السلطان بركيارق

في هذه السنة ثاني عشر ربيع الآخر توفي السلطان بركيارق بن ملكشاه وكان قد مرض بأصبهان بالسل والبواسير فسار منها في محفة طالبًا بغداد فلما وصل إلى بروجرد ضعف عن الحركة فأقام بها أربعين يومًا فاشتد مرضه فلما أيس من نفسه خلع على ولده ملكشاه وعمره حينئذ أربع سنين وثمانية أشهر وخلع على الأمير إياز وأحضر جماعة من الأمراء وأعلمهم أنه قد جعل ابنه ولي عهده في السلطنة وجعل الأمير إياز أتابكه وأمرهم بالطاعة لهما ومساعدتهما على حفظ السلطنة لولده والذب عنها فأجابوا كلهم بالسمع والطاعة وبذل النفوس والأموال في حفظ ولده وسلطنته عليه واستحلفهم على ذلك فحلفوا وأمرهم بالمسير إلى بغداد فساروا فلما كانوا على اثني عشر فرسخًا من بروجرد وصلهم خبر وفاته وكان بركيارق قد تخلف على عزم العود إلى أصبهان فعاجلته منيته‏.‏

فلما سمع الأمير إياز بموته أمر وزيره الخطير المبيذي وغيره بأن يسيروا مع تابوته إلى أصبهان فحمل إليها ودفن في تربة جددتها له سريته ثم ماتت بعد أيام فدفنت بإزائه وأحضر إياز السرادقات والخيام والجتر والشمسة وجميع ما يحتاج إليه السلطان فجعله برسم ولده ملكشاه‏.‏

ذكر عمره وشيء من سيرته

لما توفي بركيارق كان عمره خمسًا وعشرين سنة ومدة وقوع اسم السلطنة عليه اثنتي عشرة سنة وأربعة أشهر وقاسى من الحروب واختلاف الأمور عليه ما لم يقاسه أحد واختلفت به الأحوال بين رخاء وشدة وملك وزواله وأشرف في عدة نوب بعد إسلام النعمة على ذهاب المهجة‏.‏

ولما قوي أمره في هذا الوقت وأطاعه المخالفون وانقادوا له أدركته منيته ولم يهزم في حروبه غير مرة واحدة وكان أمراؤه قد طمعوا فيه للاختلاف الواقع حتى إنهم كانوا يطلبون نوابه ليقتلوهم فلا يمكنه الدفع عنهم وكان متى خطب به ببغداد وقع الغلاء ووقفت المعايش والمكاسب وكان أهلها مع ذلك يحبونه ويختارون سلطنه‏.‏

وقد ذكرنا من تغلب الأحوال به ما وقفت عليه ومن أعجبها دخوله أصبهان هاربًا من عمه تتش فمكنه عسكر أخيه محمود صاحبها من دخولها ليقبضوا عليه فاتفق أن أخاه محمودًا مات فاضطروا إلى أن يملكوه وهذا من أحسن الفرج بعد الشدة‏.‏

وكان حليمًا كريمًا صبورًا عاقلًا كثير المداراة حسن القدرة لا يبالغ في العقوبة وكان عفوه أكثر من عقوبته‏.‏

ذكر الخطبة لملكشاه بن بركيارق

في هذه السنة خطب لملكشاه بن بركيارق بالديوان يوم الخميس سلخ ربيع الآخر وخطب له بجوار بغداد من الغد يوم الجمعة‏.‏

وكان سبب ذلك أن إيلغازي شحنة بغداد سار في المحرم إلى السلطان بركيارق وهو بأصبهان يحثه على الوصول إلى بغداد ورحل مع بركيارق فلما مات بركيارق سار مع ولده ملكشاه والأمير إياز إلى بغداد فوصلوها سابع عشر ربيع الآخر ولقوا في طريقهم بردًا شديدًا لم يشاهدوا مثله بحيث أنهم لم يقدروا على الماء لجموده‏.‏

وخرج الوزير أبو القاسم علي بن جهير فلقيهم من ديالى وكانوا خمسة آلاف فارس وحضر إيلغازي والأمير طغايرك بالديوان وخاطبوا في إقامة الخطبة لملكشاه بن بركيارق فأجيب إليها وخطب له ولقب بألقاب جده ملكشاه وهي جلال الدولة وغيره من الألقاب ونثرت الدنانير عند الخطبة له‏.‏

ذكر حصر السلطان محمد جكرمش بالموصل

لما اصطلح السلطان بركيارق والسلطان محمد كما ذكرناه في السنة الخالية وسلم محمد مدينة أصبهان إلى بركيارق وسار إليها أقام محمد بتبريز من أذربيجان إلى أن وصل أصحابه الذين بأصبهان فلما وصلوا استوزر سعد الملك أبا المحاسن لحسن أثره كان في حفظ أصبهان وأقام إلى صفر من هذه السنة وسار إلى مراغة ثم إلى إربل يريد قصد جكرمش صاحب الموصل ليأخذ بلاده‏.‏

فلما سمع جكرمش بمسيره إليه جدد سور الموصل ورم ما احتاج إلى إصلاح وأمر أهل وحصر محمد المدينة وأرسل إلى جكرمش يذكر له الصلح بينه وبين أخيه وأن في جملة ما استقر أن تكون الموصل وبلاد الجزيرة له وعرض عليه الكتب من بركيارق إليه بذلك والأيمان على تسليمها إليه وقال له‏:‏ إن أطعت فأنا لا آخذها منك بل أقرها بيدك وتكون الخطبة لي بها‏.‏

فقال جكرمش‏:‏ إن كتب السلطان وردت إلي بعد الصلح تأمرني أن لا أسلم البلد إلى غيره‏.‏

فلما رأى محمد امتناعه باكره القتال وزحف إليه بالنقابين والدبابات وقاتل أهل البلد أشد قتال وقتلوا خلقًا كثيرًا لمحبتهم لجكرمش لحسن سيرته فيهم فأمر جكرمش ففتح في السور أبواب لطاف يخرج منها الرجالة يقاتلون فكانوا يكثرون القتل في العسكر ثم زحف محمد مرة فنقب في السور أصحابه وأدركهم الليل فأصبحوا وقد عمره أهل البلد وشحنوه بالمقاتلة وكانت الأسعار عندهم رخيصة في الحصار‏:‏ كانت الحنطة تساوي كل ثلاثين مكوكًا بدينار والشعير خمسين مكوكًا بدينار‏.‏

وكان بعض عسكر جكرمش قد اجتمعوا بتل يعفر فكانوا يغيرون على أطراف العسكر ويمنعون الميرة عنهم فدام القتال عليهم إلى عاشر جمادى الأولى فوصل الخبر إلى جكرمش بوفاة السلطان بركيارق فأحضر أهل البلد واستشارهم فيما يفعله بعد موت السلطان فقالوا‏:‏ أموالنا وأرواحنا بين يديك وأنت أعرف بشأنك فاستشر الجند فهم أعرف بذلك‏.‏

فاستشار أمراءه فقالوا‏:‏ لما كان السلطان حيًا قد كنا على الامتناع ولم يتمكن أحد من طروق بلدنا وحيث توفي فليس للناس اليوم سلطان غير هذا والدخول تحت طاعته أولى‏.‏

فأرسل إلى محمد يبذل الطاعة ويطلب وزيره سعد الملك ليدخل إليه فحضر الوزير عنده وأخذ بيده وقال‏:‏ المصلحة أن تحضر الساعة عند السلطان فإنه لا يخالفك في جميع ما تلتمسه وأخذ بيده وقام فسار معه جكرمش فلما رآه أهل الموصل قد توجه إلى السلطان جعلوا يبكون ويضجون ويحثون التراب على رؤسهم فلما دخل على السلطان محمد أقبل عليه وأكرمه وعانقه ولم يمكنه من الجلوس وقال‏:‏ ارجع إلى رعيتك فإن قلوبهم إليك وهم متطلعون إلى عودك فقبل الأرض وعاد ومعه جماعة من خواص السلطان وسأل السلطان من الغد أن يدخل البلد ليزين له فامتنع من ذلك فعمل سماطًا بظاهر الموصل عظيمًا وحمل إلى السلطان من الهدايا والتحف ولوزيره أشياء جليلة المقدار‏.‏

ذكر وصول السلطان إلى بغداد وصلحه مع ابن أخيه والأمير إياز

لما وصل خبر وفاة السلطان بركيارق إلى أخيه السلطان محمد وهو يحاصر الموصل جلس للعزاء وأصلح جكرمش صاحب الموصل كما ذكرناه وسار إلى بغداد ومعه سكمان القطبي وهو ينسب إلى قطب الدولة إسماعيل بن ياقوتي بن داود وإسماعيل ابن عم ملكشاه وسار معه جكرمش وغيرهما من الأمراء‏.‏

وكان سيف الدولة صدقة صاحب الحلة قد جمع خلقًا كثيرًا من العساكر فبلغت عدتهم خمسة عشر ألف فارس وعشرة آلاف راجل وأرسل ولديه بدران ودبيسًا إلى السلطان محمد يستحثه على المجيء إلى بغداد فاستصحبهما معه إلى بغداد‏.‏

فلما سمع الأمير إياز بمسيره إليه خرج هو والعسكر الذي معه من الدور ونصبوا الخيام بالزاهر خارج بغداد وجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعله فبذلوا له الطاعة واليمين على قتاله وحربه ومنعه عن السلطنة والاتفاق معه على طاعة ملكشاه بن بركيارق‏.‏

وكان أشدهم في ذلك ينال وصباوة فإنهما بالغا في الإطماع في السلطان محمد والمنع له عن السلطنة فلما تفرقوا قال له وزيره الصفي أبو المحاسن‏:‏ يا مولانا إن حياتي مقرونة بثبات نعمتك ودولتك وأنا أكثر التزامًا بك من هؤلاء وليس الرأي ما أشاروا به فإن كلامهم يقصد أن يسلك طريقًا وأن يقيم سوقًا لنفسه بك وأكثرهم يناوئك في المنزلة وإنما يقعد بهم عن منازعتك قلة العدد والمال والصواب مصالحة السلطان محمد وطاعته وهو يقرك على فتردد الأمير إياز بين الصلح والمباينة إلا أن حركته في المباينة ظاهرة وجمع السفن التي ببغداد عنده وضبط المشارع من متطرق إلى عسكره وإلى البلد‏.‏

ووصل السلطان محمد إلى بغداد يوم الجمعة لثمان بقين من جمادى الأولى ونزل عند الجانب الغربي بأعلى بغداد وخطب له بالجانب الغربي ولملكشاه بن بركيارق بالجانب الشرقي وأما جامع المنصور فإن الخطيب قال فيه‏:‏ اللهم أصلح سلطان العالم‏!‏ وسكت‏.‏

وخاف الناس من امتداد الشر والنهب فركب إياز في عسكره وهم عازمون على الحرب وسار إلى أشرف على عسكر السلطان محمد وعاد إلى مخيمه فدعا الأمراء إلى اليمين مرة ثانية على المخالصة لملكشاه فأجاب البعض وتوقف البعض وقالوا‏:‏ قد حلفنا مرة ولا فائدة في إعادة اليمين لأننا إن وفينا بالأولى وفينا بالثانية وإن لم نف بالأولى فلا نفي بالثانية‏.‏

فأمر إياز حينئذ وزيره الصفي أبا المحاسن بالعبور إلى السلطان محمد في الصلح وتسليم السلطنة إليه وترك منازعته فيها فعبر يوم السبت لسبع بقين من الشهر إلى عسكر محمد واجتمع بوزيره سعد الملك أبي المحاسن سعد بن محمد فعرفه ما جاء فيه فحضرا عند السلطان محمد وأدى الصفي رسالة صاحبه إياز واعتذاره عما كان منه أيام بركيارق فأجابه محمد جوابًا لطيفًا سكن به قلبه وطيب نفسه وأجاب إلى ما التمس منه من اليمين‏.‏

فلما كان الغد حضر قاضي القضاة والنقيبان والصفي وزير إياز عند السلطان محمد فقال له وزيره سعد الملك‏:‏ إن إياز يخاف لما تقدم منه وهو يطلب العهد لملكشاه ابن أخيك ولنفسه وللأمراء الذين معه‏.‏

فقال السلطان‏:‏ أما ملكشاه فإنه ولدي ولا فرق بيني وبين أخي وأما إياز والأمراء فأحلف لهم إلا ينال الحسامي وصباوة فاستحلفه الكيا الهراس مدرس النظامية على ذلك وحضر الجماعة اليمين‏.‏

فلما كان من الغد حضر الأمير إياز عند السلطان محمد فلقيه وزير السلطان والناس كافة ووصل سيف الدولة صدقة ذلك الوقت ودخلا جميعًا إلى السلطان فأكرمهما وأحسن إليهما وقيل بل ركب السلطان ولقيهما ووقف أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره وأقام السلطان ببغداد إلى شعبان وسار إلى أصبهان وفعل فيها ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر قتل الأمير إياز

في هذه السنة ثالث عشر جمادى الآخرة قتل الأمير إياز وقتله السلطان محمد‏.‏

وسبب ذلك أن إياز لما سلم السلطنة إلى السلطان محمد صار في جملته واستحلفه لنفسه فلما كان ثامن جمادى الآخرة عمل دعوة عظيمة في داره وهي دار كوهرائين ودعا السلطان إليها وقدم له شيئًا كثيرًا من جملته الحبل البلخش الذي أخذ من تركة مؤيد الملك بن نظام الملك وقد تقدم ذكر ذلك وحضر مع السلطان سيف الدولة صدقة بن مزيد‏.‏

وكان من الاتفاق الرديء أن إياز تقدم إلى غلمانه ليلبسوا السلاح من خزانته ليعرضهم على السلطان فدخل عليهم رجل من أبهر يتطايب معهم ويضحكون منه مع كونه يتصوف فقالوا له‏:‏ لا بد من أن نلبسك درعًا ونعرضك فألبسوه الدرع تحت قميصه وتناولوه بأيديهم وهو يسألهم أن يكفوا عنه فلم يفعلوا فلشدة ما فعلوا هرب منهم ودخل بين خواص السلطان معتصمًا بهم فرآه السلطان مذعورًا وعليه لباس عظيم فاستراب به فقال لغلام له بالتركية ليلمسه من غير أن يعلم أحد ففعل فرأى الدرع تحت قميصه فأعلم السلطان بذلك فاستشعر وقال‏:‏ إذا كان أصحاب العمائم قد لبسوا السلاح فكيف الأجناد‏!‏ وقوي استشعاره لكونه في داره وفي قبضته فنهض وفارق الدار وعاد إلى داره‏.‏

فلما كان ثالث عشر الشهر استدعى السلطان الأمير صدقة وإياز وجكرمش وغيرهم من الأمراء فلما حضروا أرسل إليهم‏:‏ إنه بلغنا أن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش قصد ديار بكر ليتملكها وسير منها إلى الجزيرة وينبغي أن تجتمع أراؤهم على من يسير إليه ليمنعه ويقاتله‏.‏

فقال الجماعة‏:‏ ليس لهذا غير الأمير إياز فقال إياز‏:‏ ينبغي أن نجتمع أنا وسيف الدولة صدقة بن مزيد على هذا الأمر والدفع لهذا القاصد فقيل ذلك للسلطان فأعاد الجواب يستدعي إياز وصدقة والوزير سعد الملك ليحرر الأمر في حضرته فنهضوا ليدخلوا إليه‏.‏

وكان قد أعد جماعة من خواصه ليقتلوا إياز إذا دخل إليه فلما دخلوا ضرب أحدهم رأسه فأبانه‏.‏

فأما صدقة فغطى وجهه بكمه وأما الوزير فإنه غشي عليه ولف إياز في مسح وألقي على الطريق عند دار المملكة وركب عسكر إياز فنهبوا ما قدروا عليه من داره فأرسل السلطان من حماها من النهب وتفرق أصحابه من يومهم وكان زوال تلك النعمة العظيمة والدولة الكبيرة في لحظة بسبب هزل ومزاح فلما كان من الغد كفنه قوم من المتطوعة ودفنوه في المقابر المجاورة لقبر أبي حنيفة رحمه الله‏.‏

وكان عمره قد جاوز أربعين سنة وهو من جملة مماليك السلطان ملكشاه ثم صار بعد موته في جملة أمير آخر فاتخذه ولدًا وكان غزير المروة شجاعًا حسن الرأي في الحرب‏.‏

وأما وزيره الصفي فإنه اختفى ثم أخذ وحمل إلى دار الوزير سعد الملك ثم قتل في رمضان وعمره ست وثلاثون سنة وكان من بيت رئاسة بهمذان‏.‏

ذكر وفاة سقمان بن أرتق

كان فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس قد كاتب سقمان يستدعيه إلى نصرته على الفرنج ويبذل له المعونة بالمال والرجال فبينما هو يتجهز للمسير أتاه كتاب طغتكين صاحب دمشق يخبره أنه مريض قد أشفى من الموت وأنه يخاف إن مات وليس بدمشق من يحميها أن يملكها الفرنج ويستدعيه ليوصي إليه وبما يعتمده في حفظ البلد‏.‏

فلما رأى ذلك أسرع في السير عازمًا على أخذ دمشق وقصد الفرنج في طرابلس وإبعادهم عنها فوصل إلى القريتين‏.‏

واتصل خبره بطغتكين فخاف عاقبة ما صنع ولقوة فكره زاد مرضه‏.‏

ولامه أصحابه على ما فرط في تدبيره وخوفوه عاقبة ما فعل وقالوا له‏:‏ قد رأيت سيدك تاج الدولة لما استدعاه إلى دمشق ليمنعه كيف قتله حين وقعت عينه عليه‏.‏

فبينما هم يديرون الرأي بأي حيلة يردونه أتاهم الخبر بأنه وصل القريتين ومات وحمله أصحابه وعادوا به فأتاهم فرج لم يحسبوه وكان مرضه الذي مات به الخوانيق يعتريه دائمًا فأشار عليه صاحباه بالعود إلى حصن كيفا فامتنع وقال‏:‏ بل أسير فإن عوفيت تممت ما عزمت عليه ولا يراني الله تثاقلت عن قتال الكفار خوفًا من الموت وإن أدركني أجلي كنت شهيدًا سائرًا في جهاد‏.‏

فساروا فاعتقل لسانه يومين ومات في صفر وبقي ابنه إبراهيم في أصحابه وجعل في تابوت وحمل إلى الحصن وكان حازمًا داهيًا ذا رأي كثير الخير وقد ذكرنا سبب أخذه وأما ملكه ماردين فإن كربوقا خرج من الموصل قفصد آمد وحارب صاحبها فاستنجد صاحبها وهو تركماني بسقمان فحضر عنده وصاف كربوقا‏.‏

وكان عماد الدين زنكي بن آقسنقر حينئذ صبيًا قد حضر مع كربوقا ومعه جماعة كثيرة من أصحاب أبيه فلما اشتد القتال ظهر سقمان فألقى أصحاب آقسنقر زنكي ولد صاحبهم بين أرجل الخيل وقالوا‏:‏ قاتلوا عن ابن صاحبكم‏!‏ فقاتلوا حينئذ قتالًا شديدًا فانهزم سقمان وأسروا ابن أخيه ياقوتي بن أرتق فسجنه كربوقا بقلعة ماردين وكان صاحبها إنسانًا مغنيًا للسلطان بركيارق فطلب منه ماردين وأعمالها فأقطعه إياها فبقي ياقوتي في حبسه مدة فمضت زوجة أرتق إلى كربوقا وسألته إطلاقه فأطلقه فنزل عند ماردين وكانت قد أعجبته فأقام ليعمل في تملكها والاستيلاء عليها‏.‏

وكان من عند ماردين من الأكراد قد طمعوا في صاحبها المغني وأغاروا على أعمال ماردين عدة دفعات فراسله ياقوتي يقول‏:‏ قد صار بيننا مودة وصداقة وأريد أن أعمر بلدك بأن أمنع عنه الأكراد وأغير على الأماكن وآخذ الأموال أنفقها في بلدك وأقيم في الربض فأذن له في ذلك فجعل يغير من باب خلاط إلى بغداد فصار ينزل معه بعض أجناد القلعة طلبًا للكسب وهو يكرمهم ولا يعترضهم فأمنوا إليه‏.‏

فاتفق أن في بعض الأوقات نزل معه أكثرهم فلما عادوا من الغارة أمر بقبضهم وتقييدهم وسبقهم إلى القلعة ونادى من بها من أهليهم‏:‏ إن فتحتم الباب وإلا ضربت أعناقهم فامتنعوا فقتل إنسانًا منهم فسلم القلعة من بها إليه وبقي بها‏.‏

ثم إنه جمع جمعًا وسار إلى نصيبين وأغار على بلد جزير ابن عمر وهي لجكرمش فلما عاد أصحابه بالغنيمة أتاهم جكرمش وكان ياقوتي قد أصابه مرض عجز معه عن لبس السلاح وركوب الخيل فحمل إلى فرسه فركبه وأصابه سهم فسقط منه فأتاه جكرمش وهو يجود بنفسه فبكى عليه وقال له‏:‏ ما حملك على ما صنعت يا ياقوتي فلم يجبه فمات ومضت زوجة أرتق إلى ابنها سقمان وجمعت التركمان وطلبت بثأر ابن ابنها وحصر سقمان نصيبين وهي لجكرمش فسير جكرمش إلى سقمان مالًا كثيرًا سرًا فأخذه ورضي وقال‏:‏ إنه قتل في الحرب ولا يعرف قاتله‏.‏

وملك ماردين بعد ياقوتي أخوه علي وصار في طاعة جكرمش واستخلف بها أميرًا اسمه علي أيضًا فأرسل علي الوالي بماردين إلى سقمان يقول له‏:‏ ابن أخيك يريد أن يسلم ماردين إلى جكرمش فسار سقمان بنفسه وتسلمها فجاء إليه علي ابن أخيه وطلب إعادة القلعة إليه فقال‏:‏ إنما أخذتها لئلا يخرب البيت فأقطعه جبل جور ونقله إليه‏.‏

وكان جكرمش يعطي عليًا كل سنة عشرين ألف دينار فلما أخذ عمه سقمان ماردين منه أرسل علي إلى جكرمش يطلب منه المال فقال‏:‏ إنما كنت أعطيتك احترامًا لماردين وخوفًا من مجاورتك والآن فاصنع ما أنت صانع فلا قدرة لك علي‏.‏

ذكر حال الباطنية هذه السنة بخراسان

في هذه السنة سار جمع كثير من الإسماعيلية من طريثيت عن بعض أعمال بيهق وشاعت الغارة في تلك النواحي وأكثروا القتل في أهلها والنهب لأموالهم والسبي لنسائهم ولم يقفوا على الهدنة المتقدمة‏.‏

وفي هذه السنة اشتد أمرهم وقويت شوكتهم ولم يكفوا أيديهم عمن يريدون قتله لاشتغال السلاطين عنهم‏.‏

فمن جملة فعلهم‏:‏ أن قفل الحاج تجمع هذه السنة مما وراء النهر وخراسان والهند وغيرها من البلاد فوصلوا إلى جوار الري فأتاهم الباطنية وقت السحر فوضعوا فيهم السيف وقتلوهم كيف شاؤوا وغنموا أموالهم ودوابهم ولم يتركوا شيئًا‏.‏

وقتلوا هذه السنة أبا جعفر بن المشاط وهو من شيوخ الشافعية أخذ الفقه عن الخجندي وكان يدرس بالري ويعظ الناس فلما نزل من كرسيه أتاه باطني فقتله‏.‏

في هذه السنة في شعبان كانت وقعة بين طنكري الفرنجي صاحب أنطاكية وبين الملك رضوان صاحب حلب انهزم فيها رضوان‏.‏

وسببها أن طنكري حصر حصن أرتاح وبه نائب الملك رضوان فضيق الفرنج على المسلمين فأرسل النائب بالحصن إلى رضوان يعرفه ما هو فيه من الحصر الذي أضعف نفسه ويطلب النجدة فسار رضوان في عسكر كثير من الخيالة وسبعة آلاف من الرجالة منهم ثلاثة آلاف من المتطوعة فساروا حتى وصلوا إلى قنسرين وبينهم وبين الفرنج قليل فلما رأى طنكري كثرة المسلمين أرسل إلى رضوان يطلب الصلح فأراد أن يجيب فمنعه أصبهبذ صباوة وكان قد قصده وصار معه بعد قتل إياز فامتنع من الصلح واصطفوا للحرب فانهزمت الفرنج من غير قتال ثم قالوا‏:‏ نعود ونحمل عليهم حملة واحدة فإن كانت لنا وإلا انهزمنا فحملوا على المسلمين فلم يثبتوا وانهزموا وقتل منهم وأسر كثير‏.‏

وأما الرجالة فإنهم كانوا قد دخلوا معسكر الفرنج لما انهزموا فاشتغلوا بالنهب فقتلهم الفرنج ولم ينج إلا الشريد فأخذ أسيرًا وهرب من في أرتاح إلى حلب وملكه الفرنج لعنهم الله تعالى وهرب أصبهبذ صباوة إلى طغتكين أتابك بدمشق فصار معه ومن أصحابه‏.‏

في ذي الحجة من هذه السنة كانت وقعة بين الفرنج والمسلمين كانوا فيها على السواء‏.‏

وسببها أن الأفضل وزير صاحب مصر كان قد سير ولده شرف المعالي في السنة الخالية إلى الفرنج فقهرهم وأخذ الرملة منهم ثم اختلف المصريون والعرب وادعى كل واحد منهما أن الفتح له فأتاهم سرية الفرنج فتقاعد كل فريق منهما بالآخر حتى كاد الفرنج يظهرون عليهم فرحل عند ذلك شرف المعالي إلى أبيه بمصر فنفذ ولده الآخر وهو سناء الملك حسين في جماعة من الأمراء منهم جمال الملك والنائب بعسقلان للمصريين وأرسلوا إلى طغتكين أتابك بدمشق يطلبون منه عسكرًا فأرسل إليهم أصبهبذ صباوة ومعه ألف وثلاثمائة فارس‏.‏

وكان المصريون في خمسة آلاف وقصدهم بغدوين الفرنجي صاحب القدس وعكة ويافا في ألف وثلاثمائة فارس وثمانية آلاف راجل فوقع المصاف بينهم بين عسقلان ويافا فلم تظهر إحدى الطائفتين على الأخرى فقتل من المسلمين ألف ومائتان ومن الفرنج مثلهم وقتل جمال الملك أمير عسقلان‏.‏

فلما رأى المسلمون أنهم قد تكافأوا في النكاية قطعوا الحرب وعادوا إلى عسقلان وعاد صباوة إلى دمشق وكان مع الفرنج جماعة من المسلمين منهم بكتاش بن تتش وكان طغتكين قد عدل في الملك إلى ولد أخيه دقاق وهو طفل وقد ذكرناه فدعاه ذلك إلى قصد الفرنج والكون معهم‏.‏

في هذه السنة عظم فساد التركمان بطريق خراسان من أعمال العراق قد كانوا قبل ذلك ينهبون الأموال ويقطعون الطريق إلا أنهم عندهم مراقبة‏.‏

فلما كانت هذه السنة اطرحوا المراقبة وعملوا الأعمال الشنيعة فاستعمل إيلغازي بن أرتق وهو شحنة العراق على ذلك البلد ابن أخيه بلك بن بهرام بن أرتق وأمره بحفظه وحياطته ومنع الفساد عنه فقام في ذلك القيام المرضي وحمى البلاد وكف الأيدي المتطاولة وسار بلك إلى حصن خانيجار وهو من أعمال سرخاب بن بدر فحصره وملكه‏.‏

وفيها في شعبان جعل السلطان محمد قسيم الدولة سنقر البرسقي شحنة بالعراق وكان موصوفًا بالخير والدين وحسن العهد لم يفارق محمدًا في حروبه كلها‏.‏

وفيها أقطع السلطان محمد الكوفة للأمير قايماز وأوصى صدقة أن يحمي أصحابه من خفاجة فأجاب إلى ذلك‏.‏

وفيها في شهر رمضان وصل السلطان محمد إلى أصبهان فأمن أهلها ووثقوا بزوال ما كان يشملهم من الخبط والعسف والمصادرة وشتان بين خروجه منها هاربًا متخفيًان وعوده إليها سلطانًا متمكنًا وعدل في أهلها وأزال عنهم ما يكرهون وكف الأيدي المتطرقة إليهم من الجند وغيرهم فصارت كلمة العامي أقوى من كلمة الجندي ويد الجندي قاصرة عن العامي من هيبة وفيها كثر الجدري في كثير من البلدان لا سيما العراق فإنه كان به كله ومات به من الصبيان ما لا يحصى وتبعه وباء كثير وموت عظيم‏.‏

وتوفي في هذه السنة في شوال أحمد بن محمد بن أحمد أبو علي البرداني الحافظ ومولده سنة ست وعشرين وأربعمائة سمع ابن غيلان والبرمكي والعشاري وغيرهم‏.‏

وتوفي أبو المعالي ثابت بن بندار بن إبراهيم البقال ومولده سنة ست عشرة وأربعمائة سمع أبا بكر البرقاني وأبا علي بن شاذان وكانت وفاته في جمادى الآخرة من هذه السنة‏.‏

وفي رابع جمادى الأولى توفي أبو الحسن محمد بن علي بن الحسن بن أبي الصقر الفقيه الشافعي ومولده سنة تسع وأربعمائة وكان أديبًا شاعرًا فمن قوله‏:‏ من قال لي جاه ولي حشمة ولي قبول عند مولانا ولم يعد ذاك بنفع على صديقه لا كان من كانا وفيها أيضًا توفي أبو نصر ابن أخت ابن الموصلايا وكان كاتبًا للخليفة جيد الكتابة وكان عمره سبعين سنة ولم يخلف وارثًا لأنه أسلم وأهله نصارى فلم يرثوه وكان يبخل إلا أنه كان كثير الصدقة وأبو المؤيد عيسى بن عبد الله بن القاسم الغزنوي كان واعظًا شاعرًا كاتبًا قدم بغداد ووعظ بها ونصر مذهب الأشعري وكان له قبول عظيم وخرج منها فمات

ثم دخلت سنة تسع وتسعين وأربعمائة

ذكر خروج منكبرس على السلطان محمد

في هذه السنة في المحرم أظهر منكبرس ابن الملك بوربرس بن ألب أرسلان وهو ابن عماد الملك السلطان محمد العصيان للسلطان محمد والخلاف عليه‏.‏

وسبب ذلك‏:‏ أنه كان مقيمًا بأصبهان فلحقته ضائقة شديدة وانقطعت المواد عنه فخرج منها وسار إلى نهاوند فاجتمع عليه بها جماعة من العسكر وظاهره على أمره جماعة من الأمراء وتغلب على نهاوند وخطب لنفسه بها وكاتب الأمراء بني برسق يدعوهم إلى طاعته ونصرته‏.‏

وكان السلطان محمد قد قبض على زنكي بن برسق فكاتب زنكي إخوته وحذرهم من طاعة منكبرس وما فيها من الأذى والخطر وأمرهم بتدبير الأمر في القبض عليه‏.‏

فلما أتاهم كتاب أخيهم بذلك أرسلوا إلى منكبرس يبذلون له الطاعة والموافقة فسار إليهم وساروا إليه فاجتمعوا به وقبضوا عليه بالقرب من أعمالهم وبلد خوزستان وتفرق أصحابه وأخذوا منكبرس إلى أصبهان فاعتقله السلطان مع بني عمه تكش وأخرج زنكي بن برسق وأعاده إلى مرتبته واستنزله وإخوته عن أقطاعهم وهي ليشتر وسابور خواست وغيرهما ما بين الأهواز وهمذان وأقطعهم عوضها الدينور وغيرها‏.‏

واتفق أن ظهر بنهاوند أيضًا في هذه السنة رجل من السواد ادعى النبوة فأطاعه خلق كثير من السوادية واتبعوه وباعوا أملاكهم ودفعوا إليه أثمانها فكان يخرج ذلك جميعه وسمى أربعة من أصحابه‏:‏ أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا وقتل بنهاوند فكان أهلها يقولون‏:‏ ظهر عندنا في مدة شهرين اثنان ادعى أحدهما النبوة والآخر المملكة فلم يتم لواحد منهما أمره‏.‏

ذكر الحرب بين طغتكين والفرنج

في هذه السنة في صفر كانت وقعة بين طغتكين أتابك صاحب دمشق وبين قمص كبير من قمامصة الفرنج‏.‏

وسبب ذلك‏:‏ أنه تكررت الحروب والمغاورات بين عسكر دمشق وبغدوين فتارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء ففي آخر الأمر بنى بغدوين حصنًا بينه وبين دمشق نحو يومين فخاف طغتكين من عاقبة ذلك وما يحدث به من الضرر فجمع عسكره وخرج إلى مقاتلتهم فسار بغدوين ملك القدس وعكا وغيرهما إلى هذا القمص ليعاضده ويساعده إلى المسلمين فعرفه القمص غناه

وتقدم طغتكين إلى الفرنج واقتتلوا واشتد القتال فانهزم أميران من عسكر دمشق فتبعهما طغتكين وقتلهما وانهزم الفرنج إلى حصنهم فاحتموا به فقال طغتكين‏:‏ من أحسن قتالهم وطلب مني أمرًا فعلته معه ومن أتاني بحجر من حجارة الحصن أعطيته خمسة دنانير‏.‏

فبذل الرجالة نفوسهم وصعدوا إلى الحصن وخربوه وحملوا حجارته إلى طغتكين فوفى لهم بما وعدهم وأمر بإلقاء الحجارة في الوادي وأسروا من بالحصن فأمر بهم فقتلوا كلهم واستبقى الفرسان أسراء وكانوا مائتي فارس ولم ينج ممن كان في الحصن إلا القليل‏.‏

وعاد طغتكين إلى دمشق منصورًا فزين البلد أربعة أيام وخرج منها إلى رفنية وهو من حصون الشام وقد تغلب عليه الفرنج وصاحبه ابن أخت صنجيل المقيم على حصار طرابلس فحصره طغتكين وملكه وقتل به خمسمائة رجل من الفرنج‏.‏

ذكر الحرب بين عبادة وخفاجة

في هذه السنة كانت حرب شديدة بين عبادة وخفاجة‏.‏

وسببها‏:‏ أن رجلًا من عبادة أخذ منه جماعة خفاجة جملين فجاء إليهم وطالبهم بهما فلم يعطوه شيئًا فأخذ منهم غارة أحد عشر بعيرا فلحقته خفاجة وقتلوا من أصحابه رجلًا وقطعوا يد آخر وكان ذلك بالموقف من الحلة السيفية ففرق بينهم أهلها‏.‏

فسمعت عبادة الخبر فتواعدت وانحدرت إلى العراق للأخذ بثأرها وساروا مع جماعة من أمرائهم فبلغت عدتهم سبعمائة فارس وكانت خفاجة دون هذه العدة فراسلتهم خفاجة يبذلون الدية ويصطلحون فلم تجبهم إلى ذلك عبادة وأشار به سيف الدولة صدقة فلم تقبل عبادة فالتقوا بالقرب من الكوفة ومع عبادة الإبل والغنم بين البيوت فكمنت لهم خفاجة ثلاثمائة فارس وقاتلوهم مطاردة من غير جد في القتال فداموا كذلك ثلاثة أيام ثم إنهم اشتد بينهم القتال واختلطوا حتى تركوا الرماح وتضاربوا بالسيوف‏.‏

فبينما هم كذلك وقد أعيا الفريقان من القتال إذ طلع كمين خفاجة وهم مستريحون فانهزمت عبادة وانتصرت عليهم خفاجة وقتل من وجوه عبادة اثنا عشر رجلًا ومن خفاجة جماعة وغنمت خفاجة الأموال من الخيل والإبل والغنم والعبيد والإماء‏.‏

وكان الأمير صدقة بن مزيد قد أعان خفاجة سرًا فلما وصل المنهزمون إليه هنأهم صدقة بالسلامة فقال له بعضهم‏:‏ ما زلت أقاتل وأضارب وأنا طامع في الظفر بهم حتى رأيت فرسك الشقراء تحت أحدهم فعلمت أنهم أجلبوا علينا بخيلك ورجلك وأننا لا طاقة لنا بهم فنصروا علينا بمعونتك وفلونا بحدك‏.‏ فلم يجبه صدقة‏.‏

في هذه السنة في جمادى الأولى انحدر سيف الدولة من الحلة إلى البصرة فملكها‏.‏

وقد ذكرنا فيما تقدم تمكن إسماعيل بن أرسلانجق من البصرة ونواحيها وأقام بها عشر سنين نافذ الأمر وازداد قوة وتمكنًا بالاختلاف الواقع بين السلاطين وأخذ الأموال السلطانية وكان قد راسل صدقة وأظهر له أنه في طاعته وموافقته‏.‏

فلما استقر الأمر للسلطان محمد أراد أن يرسل إلى البصرة مقطعًا يأخذها من إسماعيل فخاطب صدقة في معناه حتى أقرت البصرة عليه فأنفذ السلطان عميدًا إليها ليتولى ما يتعلق بالسلطان هناك فمنعه إسماعيل ولم يمكنه من عمله وفعل ما خرج به عن حد المجاملة فأمر السلطان صدقة بقصده وأخذ البصرة منه فتحرك لذلك‏.‏

فاتفق ظهور منكبرس وخلافه على السلطان وأنه على قصد واسط فسر إسماعيل بذلك وزاد انبساطه وأرسل صدقة حاجبًا له وكان قبله قد خدم أباه وجده إلى إسماعيل يأمره بتسليم الشرطة وأعمالها إلى مهذب الدولة بن أبي الجبر لأنها كانت في ضمانه فوصل إلى الشرطة وأخذ منها أربعمائة دينار فأحضره إسماعيل وحبسه وأخذ الدنانير منه فلما رأى صدقة مكاشفته سار من حلته وأظهر أنه يريد قصد الرحبة ثم جد السير إلى البصرة فلم يشعر إسماعيل إلا بقربه منه ففرق أصحابه في القلاع التي استجدها بمطارا ونهر معقل وغيرهما واعتقل وجوه العباسيين والعلويين وقاضي البصرة ومدرسها وأعيان أهلها‏.‏

ونازلهم صدقة فجرى قتال بين طائفة من عسكره وطائفة من البصريين قتل فيه أبو النجم بن أبي القاسم الورامي وهو ابن خال سيف الدولة صدقة فلما مدح به سيف الدولة ورثي به أبو النجم بن أبي القاسم قول بعضهم‏:‏ تهن يا خير من يحمي حريم حمىً فتحًا أغثت به الدنيا مع الدين ركبت للبصرة الغراء في نخبٍ غرٍ كجيش علي يوم صفين هوى أبو النجم كالنجم المنير بها لكنه كان رجمًا للشياطين وأقام صدقة محاصرًا لإسماعيل بالبصرة فأشار على سيف الدولة صدقة بعض أصحابه بالعود عنها وأعلموه أنهم لا يظفرون بطائل فأشار عليهم بالمقام وقالوا‏:‏ إن رحلنا كانت كسرة وكان رأي سيف الدولة المقام وقال‏:‏ إن تعذر علي فتح البصرة لم يطعني أحد واستعجزني الناس‏.‏

ثم إن إسماعيل خرج من البلد وقاتل صدقة فسار بعض أصحاب صدقة إلى مكان آخر من البلد ودخلوه وقتلوا من السوادية الذين جمعهم إسماعيل خلقًا كثيرًا وانهزم إسماعيل إلى قلعته بالجزيرة فأدركه بعض أصحاب سيف الدولة وأراد قتله ففداه أحد غلمانه بنفسه فوقعت الضربة فيه فأثخنته فنهبت البصرة وغنم من معه من عرب البر وغيرهم ما فيها ولم يسلم منهم إلا المحلة المجاورة لقبر طلحة والمربد فإن العباسيين دخلوا المدرسة النظامية وامتنعوا بها وحموا المربد وعمت المصيبة لأهل البلد سوى من ذكرنا وامتنع إسماعيل بقلعته‏.‏

فاتفق أن المهذب بن أبي الجبر انحدر في سفن كثيرة وأخذ القلعة التي لإسماعيل بمطارا وقتل بها خلقًا من أصحاب إسماعيل وحمل إلى صدقة كثيرًا فأطلقهم‏.‏

فلما علم إسماعيل بذلك أرسل إلى صدقة يطلب الأمان على نفسه وأهله وأمواله فأجابه إلى ذلك وأجله سبعة أيام فأخذ كل ما يمكنه حمله مما يعز عليه وما لم يقدر على حمله أهلكه بالماء وغيره ونزل إلى سيف الدولة وأمن سيف الدولة أهل البصرة من كل أذى ورتب عندهم شحنة وعاد إلى الحلة ثالث جمادى الآخرة وكان مقامه بالبصرة ستة عشر يومًا‏.‏

وأما إسماعيل فإنه لما سار صدقة إلى الحلة قصد هو الباسيان إلى أن وصله ماله في المراكب وسار نحو فارس وصار يتعنت أصحابه وزوجته وقبض على جماعة من خواصه وقال لهم‏:‏ أنتم سقيتم ولدي أفراسياب السم حتى مات‏!‏ وكان قد مات في صفر من هذه السنة ففارقه كثير منهم حتى زوجته فارقته وسارت إلى بغداد‏.‏

وأخذته الحمى وقويت عليه فلما بلغ رامهرمز انفرد في خيمته ولم يظهر لأصحابه يومًا وليلة فظهر لهم موته فنهبوا ماله وتفرقوا فأرسل الأمير برامهرمز فردهم وأخذ ما معهم من أمواله ودفن بالقرب من إيذج وكان عمره قد جاوز خمسين سنة وكانت سيرته قد حسنت في أهل البصرة أخيرًا‏.‏

ذكر حصر رضوان نصيبين وعوده عنها

في هذه السنة في شهر رمضان حصر الملك رضوان بن تتش نصيبين‏.‏

وسبب ذلك‏:‏ أنه عزم على حرب الفرنج واجتمع معه من الأمراء‏:‏ إيلغازي بن أرتق الذي كان شحنة بغداد وأصبهبذ صباوة وألبى أرسلان تاش صاحب سنجار وهو صهر جكرمش صاحب الموصل فقال إيلغازي‏:‏ الرأي أننا نقصد بلاد جكرمش وما والاها فنملكها ونتكثر بعسكرها والأموال‏.‏

ووافقه ألبى فسار إلى نصيبين في عشرة آلاف فارس مستهل رمضان وكان قد جعل فيها أميرين من أصحابه في عسكر فتحصنوا بالبلد وقاتلوا من وراء السور فرمي ألي أرسلان بنشابة فجرح جرحًا شديدًا فعاد إلى سنجار‏.‏

وأما جكرمش فإنه بلغه الخبر بنزولهم على نصيبين وهو بالجامة التي بالقرب من طنزة يتداوى بمائها من مرضه فرحل إلى الموصل وقد أجفل إليها أهل السواد فخيم على باب البلد عازمًا على حرب رضوان واستعمل المخادعة فكاتب أعيان عسكر رضوان ورغبهم حتى أفسد

نياتهم وتقدم إلى أصحابه بنصيبين بخدمة الملك رضوان وبإخراج الإقامات إليه مع الاحتراز منه وأرسل إلى رضوان يبذل له خدمته والدخول في طاعته ويقول له‏:‏ إن السلطان محمدًا قد حصرني ولم يبلغ مني غرضًا فترحل عن صلح وإن قبضت على إيلغازي الذي قد عرفت أنت وغيرك فساده وشره فأنا معك ومعينك بالرجال والأموال والسلاح‏.‏

فاتفق هذا ورضوان قد تغيرت نيته مع إيلغازي فازداد تغيرًا وعزم على قبضه فاستدعاه يومًا وقال له‏:‏ هذه بلاد ممتنعة وربما استولى الفرنج على حلب والمصلحة مصالحة جكرمش واستصحابه معنا فإنه يسير بعساكر كثيرة ظاهرة التجمل ونعود إلى قتال الفرنج فإن ذلك مما يعود باجتماع شمل المسلمين‏.‏

فقال له إيلغازي‏:‏ إنك جئت بحكمك وأنت الآن بحكمي لا أمكنك من المسير بدون أخذ هذه البلاد فإن أقمت وإلا بدأت بقتالك‏.‏

وكان إيلغازي قد قويت نفسه بكثرة من اجتمع عنده من التركمان وكان الملك رضوان قد واعد قومًا من أصحابه ليقبضوا عليه فلما جرى ما ذكرناه أمرهم رضوان فقبضوا عليه وقيدوه فلما سمع التركمان الحال أظهروا الخلاف والامتعاض ففارقوا رضوان والتجأوا إلى سور المدينة وأصعد إيلغازي إلى قلعتها وخرج من بنصيبين من العسكر فأعانوه فلما رأى التركمان ذلك تفرقوا ونهبوا ما قدروا عليه من المواشي وغيرها ورحل رضوان من وقته وسار إلى وكان جكرمش قد رحل من الموصل قاصدًا لحرب القوم فلما بلغ تل يعفر أتاه المبشرون بانصراف رضوان على اختلاف وافتراق فرحل عند ذلك إلى سنجار ووصلت إليه رسل رضوان تستدعي منه النجدة ويعتد عليه ما فعل بإيلغازي فأجابه مغالطة ولم يف له بما وعده ونازل سنجار ليشفي غيظه من ظهره ألبي بن أرسلان تاش بما اعتمده من معاداته ومظاهرة أعدائه وكان ألبي على شدة من المرض بالسهم الذي أصابه على نصيبين فلما نزل جكرمش عليها أمر ألبي أصحابه أن يحملوه إليه فحملوه في محفة فحضر عنده وأخذ يعتذر مما كان منه وقال‏:‏ جئت مذنبًا فافعل بي ما تراه‏.‏

فرق له وأعاده إلى بلده فلما عاد قضى نحبه فلما مات عصى على جكرمش من كان بسنجار وتمسكوا بالبلد فقاتلهم بقية رمضان وشوالًا ولم يظفر منهم بشيء فجاء تميرك أخو أرسلان تاش عم ألبي فأصلح حاله مع جكرمش وبذل له الخدمة فعاد إلى الموصل‏.‏ ‏ ‏  ‏