المجلد التاسع - ذكر استيلاء مودود على الموصل

ثم دخلت سنة اثنتين وخمسمائة

في هذه السنة في صفر استولى مودود والعسكر الذي أرسله السلطان معه على مدينة الموصل وأخذوها من أصحاب جاولي سقاوو وقد ذكرنا سنة خمسمائة استيلاء جاولي عليها وما جرى بينه وبين جكرمش والملك قلج أرسلان وهلاكهما على يده وصار معه بعد ذلك العسكر الكثير والعدة التامة والأموال الكثيرة وكان السلطان محمد قد جعل إليه ولاية كل بلد يفتحه فاستولى على كثير من البلاد والأموال‏.‏

وكان سبب أخذ البلاد منه‏:‏ أنه لما استولى عليها وعلى الأموال الكثيرة منها لم يحمل إلى السلطان منها شيئًا فلما وصل السلطان إلى بغداد لقصد بلاد سيف الدولة صدقة أرسل إلى جاولي يستدعيه إليه بالعساكر وكرر الرسل إليه فلم يحضر وغالط في الانحدار إليه وأظهر أنه يخاف أن يجتمع به ولم يقنع بذلك حتى كاتب صدقة وأظهر له أنه معه ومساعده فلما فرغ السلطان من أمر صدقة وقتله كما كرناه تقدم إلى الأمراء بني برسق وسكمان القطبي ومودود نب التونتكين وآقسنقر البرسقي ونصر بن مهلهل بن أبي الشوك الكردي وأبي الهيجاء صاحب إربل بالمسير إلى الموصل وبلاد جاولي وأخذها منه فتوجهوا نحو الموصل فوجدوا جاولي عاصيًا قد شيد سور الموصل وأحكم ما بناه جكرمش وأعد الميرة والأقوات والآلات واستظهر على الأعيان بالموصل فحبسهم وأخرج من أحداثها ما يزيد على عشرين ألفًا ونادى‏:‏ متى اجتمع عاميان على الحديث في هذا الأمر قتلتهما وخرج عن البلد ونهب السواد‏.‏

وترك بالبلد زوجته ابنة برسق وأسكنها القلعة ومعها ألف وخمسمائة فارس من الأتراك سوى غيرهم وسوى الرجالة ونزل العسكر عليها في شهر رمضان سنة إحدى وخمسمائة وصادرت زوجته من بقي بالبلد وعسفت نساء الخارجين عنه وبالغت في الاحتراز عليهم فأوحشهم ذلك ودعاهم إلى الانحراف عنها وقوتل أهل البلد قتالًا متتابعًا فتمادى الحصار بأهلها من خارج والظلم من داخل إلى آخر المحرم والجند بها يمنعون عاميًا من القرب من السور‏.‏

فلما طال الأمر على الناس اتفق نفر من الجصاصين ومقدمهم جصاص يعرف بسعدي على تسليم البلد وتحالفوا على التساعد وأتوا وقت صلاة الجمعة والناس بالجامع وصعدوا برجًا وأغلقوا أبوابه وقتلوا من به من الجند وكانوا نيامًا فلم يشعروا بشيء حتى قتلوا وأخذوا سلاحهم وألقوهم إلى الأرض وملكوا برجًا آخر‏.‏

ووقعت الصيحة وقصدهم مائتا فارس من العسكر ورموهم بالنشاب وهم يقاتلون وينادون بشعار السلطان فزحف عسكر السلطان إليهم ودخلوا البلد من ناحيتهم وملكوه ودخله الأمير مودود ونودي بالسكون والأمن وأن يعود الناس إلى دورهم وأملاكهم وأقامت زوجة جاولي بالقلعة ثمانية أيام وراسلت الأمير مودود في أن يفرج لها عن طريقها وأن يحلف لها على الصيانة والحراسة فحلف وخرجت إلى أخيها برسق بن برسق ومعها أموالها وما استولت عليه وولي مودود الموصل وما ينضاف إليها‏.‏

ذكر حال جاولي مدة الحصار

وأما جاولي فإنه لما وصل عسكر السلطان إلى الموصل وحصرها سار عنها وأخذ معه القمص صاحب الرها الذي كان قد أسره سقمان وأخذه منه جكرمش وقد ذكرنا ذلك وسار إلى نصيبين وهي حينئذ للأمير إيلغازي بن أرتق وراسله وسأله الاجتماع به واستدعاه إلى معاضدته وأن يكونا يدًا واحدة وأعلمه أن خوفهما من السلطان ينبغي أن يجمعهما على الاحتماء منه‏.‏

فلم يجبه إيلغازي إلى ذلك ورحل عن نصيبين ورتب بها ولده وأمره بحفظهما من جاولي وأن يقاتله إن قصده وسار إلى ماردين‏.‏

فلما سمع جاولي ذلك عدل عن نصيبين وقصد دارا وأرسل إلى إيلغازي ثانيًا في المعاني وسار بعد الرسول فبينما رسوله عند إيلغازي بمادرين لم يشعر إلا وجاولي معه في القلعة وحده وقصد أن يتألفه ويستميله فلما رآه إيلغازي قام إليه وخدمه ولما رأى جاولي محسنًا للظن فيه غير مستشعر منه لم يجد إلى دفعه سبيلًا فنزل معه وعسكرا بظاهر نصيبين وسارا منها إلى سنجار وحاصراها مدة فلم يجبهما صاحبها إلى صلح فتركاه وسارا نحو الرحبة وإيلغازي يظهر لجاولي المساعدة ويبطن الخلاف وينتظر فرصة لينصرف عنه فلما وصلا إلى عرابان من الخابور هرب إيلغازي ليلًا وقصد نصيبين‏.‏

ذكر إطلاق جاولي للقمص الفرنجي

لما هرب إيلغازي من جاولي سار جاولي إلى الرحبة فلما وصل إلى ماكسين أطلق القمص الفرنجي الذي كان أسيرًا بالموصل وأخذه معه وسمه بردويل وكان صاحب الرها وسروج وغيرهما وبقي في الحبس إلى الآن وبذل الأموال الكثيرة فلم يطلق فلما كان الآن أطلقه جاولي وخلع عليه وكان مقامه في السجن ما يقارب خمس سنين وقرر عليه أن يفدي نفسه بمال وأن يطلق أسرى المسلمين الذين في سجنه وأن ينصره متى أراد ذلك منه بنفسه وعسكره وماله‏.‏

فلما اتفقا على ذلك سير القمص إلى قلعة جعبر وسلمه إلى صاحبها سالم بن مالك حتى ورد عليه ابن خالته جوسلين وهو من فرسان الفرنج وشجعانها وهو صاحب تل باشر وغيره وكان أسر مع القمص في تلك الوقعة ففدى نفسه بعشرين ألف دينار فلما وصل جوسلين إلى قلعة جعبر أقام رهينة عوض القمص وأطلق القمص وسار إلى أنطاكية وأخذ جاولي جوسلين من قلعة جعبر فأطلقه وأخذ عوضه أخا زوجته وأخا زوجة القمص وسيره إلى القمص ليقوى به وليحثه على إطلاق الأسرى وإنفاذ المال وما ضمنه فلما وصل جوسلين إلى منبج أغار عليها ونهبها وكان معه جماعة من أصحاب جاولي فأنكروا عليه ذلك ونسبوه إلى الغدر فقال‏:‏ إن هذه المدينة ليست لكم‏.‏

ذكر ما جرى بين هذا القمص وبين صاحب أنطاكية

لما أطلق القمص وسار إلى أنطاكية أعطاه طنكري صاحبها ثلاثين ألف دينار وخيلًا وسلاحًا وثيابًا وغيره ذلك وكان طنكري قد أخذ الرها من أصحاب القمص حين أسر فخاطبه الآن في ردها عليه فلم يفعل فخرج من عنده إلى تل باشر فلما قدم عليه جوسلين وقد أطلقه جاولي سره ذلك وفرح به‏.‏

وسار إليهما طنكري صاحب أنطاكية بعساكره ليحاربهما قبل أن يقوى أمرهما ويجمعا عسكرًا ويلتحق بهما جاولي وينجدهما فكانوا يقتتلون فإذا فرغوا من القتال اجتمعوا وأكل بعضهم مع بعض وتحادثوا‏.‏

وأطلق القمص من الأسرى المسلمين مائة وستين أسيرًا كلهم من سواد حلب وكساهم وسيرهم‏.‏

وعاد طنكري إلى أنطاكية من غير فصل حال في معنى الرها فسار القمص وجوسلين وأغارا على حصون طنكري صاحب أنطاكية والتجأ إلى ولاية كواسيل وهو رجل أرمني ومعه خلق كثير من المرتدين وغيرهم وهو صاحب رعبان وكيسوم وغيرهما من القلاع شمالي حلب فأنجد القمص بألف فارس من المرتدين وألفي راجل فقصدهم طنكري فتنازعوا في أمر الرها فتوسط بينهم البطرك الذي لهم وهو عندهم كالإمام الي للمسلمين لا يخالف أمره وشهد جماعة من المطارنة والقسيسين‏:‏ أن بيمند خال طنكري قال له لما أراد ركوب البحر والعود إلى بلاده ليعيد الرها إلى القمص إذا خلص من الأسر فأعادها عليه طنكري تاسع صفر وعبر القمص الفرات ليسلم إلى أصحاب جاولي المال والأسرى فأطلق في طريقه خلقًا كثيرًا من الأسرى من حران وغيرها‏.‏

وكان بسروج ثلاثمائة مسلم ضعفى فعمر أصحاب جاولي مساجدهم وكان رئيس سروج مسلمًا قد ارتد فسمعه أصحاب جاولي يقول في الإسلام قولًا شنيعًا فضربوه وجرى بينهم وبين الفرنج بسببه نزاع فذكر ذلك للقمص فقال‏:‏ هذا لا يصلح لنا ولا للمسلمين فقتله‏.‏

ذكر حال جاولي بعد إطلاق القمص

لما أطلق جاولي القمص بماكسين سار إلى الرحبة فأتاه أبو النجم بدران وأبو كامل منصور ابنا سيف الدولة صدقة وكانا بعد قتل أبيهما بقلعة جعبر عند سالم بن مالك فتعاهدوا على امساعدة والمعاضدة ووعدهما أنه يسير معهما إلى الحلة وعزموا أن يقدموا عليهم بكتاش بن تكش بن ألب أرسلان‏.‏

فوصل إليهم وهم على هذا العزم أصبهبذ صباوة وكان قد قصد السلطان فأقطعه الرحبة وقد ذكرناه فاجتمع بجاولي وأشار عليه أن يقصد الشام فإن بلاده خالية من الأجناد والفرنج قد استولوا على كثير منها وعرفه أنه متى قصد العراق والسلطان بها أو قريبًا منها لم يأمن شرًا يصل إليه‏.‏

فقبل قوله وأصعد عن الرحبة فوصل إليه رسل سالم بن مالك صاحب قلعة جعبر يستغيث به من بني نمير وكانت الرقة بيد ولده علي بن سالم فوقب جوشن النميري ومعه جماعة من بني نمير فقتل عليًا وملك الرقة‏.‏

فبلغ ذلك الملك رضوان فسار من حلب إلى صفين فصادف تسعين رجلًا من الفرنج معهم مال من فدية القمص صاحب الرها قد سيره إلى جاولي فأخذه وأسر عددًا منهم وأتى الرقة فصالحه بنو نمير على مال فرحل عنهم إلى حلب فاستنجد سالم بن مالك جاولي وسأله أن يرحل إلى الرقة ويأخذها ووعده بما يحتاج إليه‏.‏

فقصد الرقة وحصرها سبعين يومًا فضمن له بنو نمير مالًا وخيلًا فأرسل إلى سالم‏:‏ إنني في أمر أهم من هذا وأنا بإزاء عدو ويجب التشاغل به دون غيره وأنا عازم على الانحدار إلى العراق فإن تم أمري فالرقة وغيرها لك ولا أشتغل عن هذا المهم بحصار خمسة نفر من بني نمير‏.‏

ووصل إلى جاولي الأمير حسين بن أتابك قتلغ تكين وكان أبوه أتابك السلطان محمد فقتله وتقدم ولده هذا عند السلطان واختص به فسيره السلطان مع فخر الملك بن عمار ليصلح الحال مع جاولي ويأمر العساكر بالمسير مع ابن عمار إلى جهاد الكفار فحضر عند جاولي وأمر بتسليم البلاد وطيب قلبه عن السلطان وضمن الجميل إذا سلم البلاد وأظهر الطاعة والعبودية فقال جاولي‏:‏ أنا مملوك السلطان وفي طاعته وحمل إليه مالًا وثيابًا لها مقدار جليل وقال له‏:‏ سر إلى الموصل ورحّل العسكر عنها فإني أرسل معك من يسلم ولدي إليك رهينة وينفذ السلطان إليها من يتولى أمرها وجباية أموالها ففعل حسين ذلك وسار ومعه صاحب جاولي فلما وصلا إلى العسكر الذي على الموصل وكانوا لم يفتحوها بعد أمرهم حسين بالرحيل فكلهم أجاب إلا الأمير مودود فإنه قال‏:‏ لا أرحل إلا بأمر السلطان وقبض على صاحب جاولي وأقام على الموصل حتى فتحها كما ذكرناه‏.‏

وعاد حسين بن قتلغ تكين إلى السلطان فأحسن النيابة عن جاولي عنده وسار جاولي إلى مدينة بالس فوصلها ثالث عشر صفر فاحتمى أهلها منه وهرب من بها من أصحاب الملك رضوان صاحب حلب فحصرها خمسة أيام وملكها بعد أن نقب برجًا من أبراجها فوقع على النقابين فقتل منهم جماعة وملك البلد وصلب جماعة من أعيانه عند النقب وأحضر القاضي محمد بن بد العزيز بن إلياس فقتله وكان فقيهًا صالحًا ونهب البلد وأخذ منه مالًا كثيرًا‏.‏

ذكر الحرب بين جاولي والفرنج

و في هذه السنة في صفر كان المصاف بين جاولي سقاوو وبين طنكري الفرنجي صاحب أنطاكية‏.‏

وسبب ذلك أن الملك رضوان كتب إلى طنكري صاحب أنطاكية يعرفه ما هو جاولي عليه من الغدر والمكر والخداع ويحذره منه ويعلمه أنه على قصد حلب وأنه إن ملكها لا يبقي للفرنج معه بالشام مقام وطلب منه النصرة والاتفاق على منعه‏.‏

فأجابه طنكري إلى منعه وبرز من أنطاكية فأرسل إليه رضوان ستمائة فارس فلما سمع جاولي الخبر أرسل إلى القمص صاحب الرها يستدعيه إلى مساعدته وأطلق له ما بقي عليه من مال المفاداة فسار إلى جاولي فلحق به وهو على منبج فوصل الخبر إليه وعلى هذه الحال بأن الموصل قد استولى عليها عسكر السلطان وملكوا خزائنه وأمواله فاشتد ذلك عليه وفارقه كثير من أصحابه منهم أتابك زنكي بن آقسنقر وبكتاش النهاوندي وبقي جاولي في ألف فارس وانضم إليه خلق من المطوعة فنزل بتل باشر‏.‏

وقاربهم طنكري وهو في ألف وخمسمائة فارس من الفرنج وستمائة من أصحاب الملك رضوان سوى الرجالة فجعل جاولي في ميمنته الأمير أقسيان والأمير التونتاش الابري وغيرهما وفي الميسرة الأمير بدران بن صدقة وأصبهبذ صباوة وسنقر دراز وفي القلب القمص صاحب الرها واشتد القتال فأزاح طنكري القلب عن موضعه وحملت ميسرة جاولي على رجالة صاحب أنطاكية فقتلت منهم خلقًا كثيرًا ولم يبق غير هزيمة صاحب أنطاكية فحينئذ عمد أصحاب جاولي إلى جنائب القمص وجوسلين وغيرهما من الفرنج فركبوها وانهزموا فمضى جاولي وراءهم ليردهم فلم يرجعوا وكانت طاعته قد زالت عنهم حين أخذت الموصل منه فلما رأى أنهم لا يعودون معه أهمته نفسه وخاف من المقام فانهزم وانهزم باقي عسكره‏.‏

فأما أصبهبذ صباوة فسار نحو الشام وأما بدران بن صدقة فسار إلى قلعة جعبر وأما ابن جكرمش فقصد جزيرة ابن عمر وأما جاولي فقصد الرحبة وقتل من المسلمين خلق كثير ونهب صاحب أنطاكية أموالهم وأثقالهم وعظم البلاء عليهم من الفرنج وهرب القمص وجوسلين إلى تل باشر والتجأ إليهما خلق كثير من المسلمين ففعلا معهم الجميل وداويا الجرحى وكسوا العراة وسيراهم إلى بلادهم‏.‏

ذكر عود جاولي إلى السلطان

لما انهزم جاولي سقاوو قصد الرحبة فلما قاربها بات دونها في عدة فوارس فاتفق أن طائفة من عسكر الأمير مودود الذين أخذوا الموصل منه أغاروا على قوم من العرب يجاورون الرحبة فقاربوا جاولي ولا يشعرون به ولو علموا لأخذوه‏.‏

فلما رأى الحال كذلك علم أنه لا يقدر أن يقيم بالجزيرة ولا بالشام ولا يقدر على شيء يحفظ به نفسه ويرجع إليه ويداوي به مرضه غير قصد باب السلطان محمد عن رغبة واختيار وكان واثقًا بالأمير حسين بن قتلغتكين فرحل من مكانه وهو خائف حذر قد أخفى شخصه وكتم أمره وسار إلى عسكر السلطان وكان بالقرب من أصبهان فوصل إليه في سبعة عشر يومًا من مكانه لجده في السير فلما وصل المعسكر قصد الأمير حسينًا فحمله إلى السلطان فدخل إليه وكفنه تحت يده فأمنه وأتاه الأمراء يهنونه بذلك وطلب منه السلطان الملك بكتاش بن تكش فسلمه إليه فاعتقله بأصبهان‏.‏

ذكر الحرب بين طغتكين والفرنج والهدنة بعدها‏‏

في هذه السنة كانت حرب شديدة بين طغتكين أتابك والفرنج وسببها أن طغتكين سار إلى طبرية وقد وصل إليها ابن أخت بغدوين الفرنجي ملك القدس فتحاربا واقتتلا وكان طغتكين فلما اشتد القتال انهزم المسلمون فترجل طغتكين ونادى بالمسلمين وشجعهم فعادوا الحرب وكسروا الفرنج وأسروا ابن أخت الملك وحمل إلى طغتكين فعرض طغتكين عليه الإسلام فامتنع منه وبذل في فداء نفسه ثلاثين ألف دينار وإطلاق خمسمائة أسير فلم يقنع طغتكين منه بغير الإسلام فلما لم يجب قتله بيده وأرسل إلى الخليفة والسلطان الأسرى ثم اصطلح طغتكين وبغدوين ملك الفرنج على وضع الحرب أربع سنين وكان ذلك من لطف الله تعالى بالمسلمين ولولا هذه الهدنة لكان الفرنج بلغوا من المسلمين بعد الهزيمة الآتي ذكرها أمرًا عظيمًا‏.‏

ذكر انهزام طغتكين من الفرنج

في هذه السنة في شعبان انهزم أتابك طغتكين من الفرنج‏.‏

وسبب ذلك أن حصن عرقة وهو من أعمال طرابلس كان بيد غلام للقاضي فخر الملك أبي علي بن علي بن عمار صاحب طرابلس وهو من الحصون المنيعة فعصى على مولاه فضاق به القوت وانقطعت عنه الميرة لطول مكث الفرنج في نواحيه فأرسل إلى أتابك طغتكين صاحب دمشق وقال له‏:‏ أرسل من يتسلم هذا الحصن مني قد عجزت عن حفظه ولأن يأخذه المسلمون خير لي دنيا وآخرة من أن يأخذه الفرنج‏.‏

فبعث إليه طغتكين صاحبًا له اسمه إسرائيل في ثلاثمائة رجل فتسلم الحصن فلما نزل غلام ابن عمار منه رماه إسرائيل في الأخلاط بسهم فقتله وكان قصده بذلك أن لا يطلع أتابك طغتكين على ما خلفه بالقلعة من المال‏.‏

وأراد طغتكين قصد الحصن للاطلاع عليه وتقويته بالعساكر والأقوات وآلات الحرب فنزل الغيث والثلج مدة شهرين ليلًا ونهارًا فمنعه فلما زال ذلك سار في أربعة آلاف فارس ففتح حصونًا للفرنج منها حصن الأكمة‏.‏

فلما سمع السرداني الفرنجي بمجيء طغتكين وهو على حصار طرابلس توجه في ثلاثمائة فارس فلما أشرف أوائل أصحابه على عسكر طغتكين انهزموا وخلوا ثقلهم ورحلهم ودوابهم للفرنج فغنموا وقووا به وزاد في تجملهم‏.‏

ووصل المسلمون إلى حمص على أقبح حال من التقطع ولم يقتل منهم أحد لأنه لم تجر حرب وقصد السرداني إلى عرقة فلما نازلها طلب من كان بها الأمان فأمنهم على نفوسهم وتسلم الحصن فلما خرج من فيه قبض على إسرائيل وقال‏:‏ لا أطلقه إلا بإطلاق فلان وهو أسير كان بدمشق من الفرنج منذ سبع سنين ففودي به وأطلقا معًا‏.‏

ولما وصل طغتكين إلى دمشق بعد الهزيمة أرسل إليه ملك القدس يقول له‏:‏ لا تظن أنني أنقص الهدنة للذي تم عليك من الهزيمة فالملوك ينالهم أكثر مما نالك ثم تعود أمورهم إلى الانتظام

ذكر صلح السنة والشيعة ببغداد

في هذه السنة في شعبان اصطلح عامة بغداد السنة والشيعة وكان الشر منهم على طول الزمان وقد اجتهد الخلفاء والسلاطين والشحن في إصلاح الحال فتعذر عليهم ذلك إلى أن أذن الله تعالى فيه وكان بغير واسطة‏.‏

وكان السبب ذي ذلك أن السلطان محمدًا لما قتل ملك العرب صدقة كما ذكرناه خاف الشيعة ببغداد أهل الكرخ وغيرهم لأن صدقة كان يتشيع هو وأهل بيته فشنع أهل السنة عليهم بأنهم نالهم غم وهم لقتله فخاف الشيعة وأغضوا على سماع هذا ولم يزالوا خائفين إلى شعبان فلما دخل شعبان تجهز السنة لزيارة قبر مصعب بن الزبير وكانوا قد تركوا ذلك سنين كثيرة ومنعوا منه لتقطع الفتن الحادثة بسببه‏.‏

فلما تجهزوا للمسير اتفقوا على أن يجعلوا طريقهم في الكرخ فأظهروا ذلك فاتفق رأي أهل الكرخ على ترك معارضتهم وأنهم لا يمنعونهم فصارت السنة تسير أهل كل محلة منفردين ومعهم من الزينة والسلاح شيء كثير وجاء أهل باب المراتب ومعهم فيل قد عمل من خشب وعليه الرجال بالسلاح وقصدوا جميعهم الكرخ ليعبروا فيه فاستقبلهم أهله بالبخور والطيب

وخرج الشيعة ليلة النصف منه إلى مشهد موسى بن جعفر وغيره فلم يعترضهم أحد من السنة فعجب الناس لذلك ولما عادوا من زيارة مصعب لقيهم أهل الكرخ بالفرح والسرور فاتفق أن أهل باب المراتب انكسر فيلهم عند قنطرة باب حرب فقرأ لهم قوم‏:‏ ‏{‏ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل‏}‏ ‏[‏الفيل‏:‏1‏]‏‏.‏ إلى آخر السورة‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة عاد منصور بن صدقة بن مزيد إلى باب السلطان فتقبله وأكرمه وكان قد هرب بعد قتل والده إلى الآن والتحق أخوه بدران بن صدقة بالأمير مودود الذي أقطعه السلطان الموصل فأكرمه وأحسن صحبته‏.‏

وفيها في نيسان زادت دجلة زيادة عظيمة وتقطعت الطرق وغرقت الغلات الشتوية والصيفية وحدث غلاء عظيم بالعراق بلغت كارة الدقيق الخشكار عشرة دنانير إمامية وعدم الخبز رأسًا وأكل الناس التمر والباقلاء الخضراء وأما أهل السواد فإنهم لم يأكلوا جميع شهر رمضان ونصف شوال سوى الحشيش والتوت‏.‏

وفيها في رجب عزل وزير الخليفة أبو المعالي هبة الله بن المطلب ووزر أبو القاسم علي بن وفيها في شعبان تزوج الخليفة المستظهر بالله ابنة السلطان ملكشاه وهي أخت السلطان محمد وكان الذي خطب خطبة النكاح القاضي أبو العلاء صاعد بن محمد النيسابوري الحنفي وكان المتولي لقبول العقد نظام الملك أحمد بن نظام الملك وزير السلطان بوكالة من الخليفة وكان الصداق مائة ألف دينار ونثرت الجواهر والدنانير وكان العقد بأصبهان‏.‏

وفيها توفي مجاهد الدين بهروز شحنكية بغداد وكان سبب ذلك أن السلطان محمدًا كان قبض على أبي القاسم الحسين بن عبد الواحد صاحب المخزن وعلى أبي الفرج بن رئيس الرؤساء واعتقلهما عنده ثم أطلقهما الآن وقرر عليهما مالًا يحملانه إليه فأرسل مجاهد الدين بهروز لقبض المال وأمره السلطان بعمارة دار المملكة ففعل ذلك وعمر الدار وأحسن إلى الناس فلما قدم السلطان إلى بغداد ولاه شحنكية العراق جميعه وخلع على سعيد بن حميد العمري صاحب جيش صدقة وولاه الحلة السيفية وكان صارمًا حازمًا ذا رأي وجلد‏.‏

وفيها في شوال ملك الأمير سكمان القطبي صاحب خلاط مدينة ميافارقين بالأمان بعد أن حصرها وضيق على أهلها عدة شهور فعدمت الأقوات بها واشتد الجوع بأهلها فسلموها‏.‏

و في هذه السنة في صفر قتل قاضي أصبهان عبيد الله بن علي الخطيبي بهمذان وكان قد تجرد في أمر الباطنية تجردًا عظيمًا وصار يلبس درعًا حذرًا منهم ويحتاط ويحترز فقصده إنسان أعجمي يوم جمعة ودخل بينه وبين أصحابه فقتله وقتل صاعد بن محمد بن عبد الرحمن أبو العلاء قاضي نيسابور يوم عيد الفطر قتله باطني وقتل الباطني ومولده سنة ثمان وأربعين وأربعمائة وسمع الحديث وكان حنفي المذهب‏.‏

و في هذه السنة سار قفل عظيم من دمشق إلى مصر فأتى الخبر إلى ملك الفرنج فسار إليه وعارضه في البر وأخذ كل من فيه ولم يسلم منهم إلا القليل ومن سلم أخذه العرب‏.‏

وفيها في فصح النصارى ثار جماعة من الباطنية في حصن شيزر على حين غفلة من أهله في مائة رجل فملكوه وأخرجوا من كان فيه وأغلقوا بابه وصعدوا إلى القلعة فملكوها وكان أصحابها بنو منقذ قد نزلوا منها لمشاهدة عيد النصارى وكانوا قد أحسنوا إلى هؤلاء الذين أفسدوا كل الإحسان فبادر أهل المدينة الباشورة فأصعدهم النساء في الحبال من الطاقات وصاروا معهم وأدركهم الأمراء بنو منقذ أصحاب الحصن فصعدوا إليهم فكبروا عليهم وقاتلوهم فانخذل الباطنية وأخذهم السيف من كل جانب فلم يفلت منهم أحد وقتل من كان على مثل رأيهم في البلد‏.‏

وفيها وصل إلى المهدية ثلاثة نفر غرباء فكتبوا إلى أميرها يحيى بن تميم يقولون‏:‏ إنهم يعملون الكيمياء فأحضرهم عنده وأمرهم أن يعملوا شيئًا يراه من صناعتهم فقالوا‏:‏ نعمل النقرة فأحضر لهم ما طلبوا من آلة وغيرها وقعد معهم هو والشريف أبو الحسن وقائد جيشه واسمه إبراهيم وكانا يختصان به فلما رأى الكيماوية المكان خاليًا من جمع ثاروا بهم فضرب أحدهم يحيى بن تميم على رأسه فوقعت السكين في عمامته فلم تصنع شيئًا ورفسه يحيى فألقاه على ظهره ودخل يحيى بابًا وأغلقه على نفسه فضرب الثاني الشريف فقتله وأخذ القائد إبراهيم السيف فقاتل الكيماوية ووقع الصوت فدخل أصحاب الأمير يحيى فقتلوا الكيماوية وكان زيهم زي أهل الأندلس فقتل جماعة من أهل البلد على مثل زيهم وقيل للأمير يحيى‏:‏ إن هؤلاء رآهم بعض الناس عند المقدم بن خليفة واتفق أن الأمير أبا الفتوح بن تميم أخا يحيى وصل تلك الساعة إلى القصر في أصحابه وقد لبسوا السلاح فمنع من الدخول فثبت عند الأمير يحيى أن ذلك بوضع منهما فأحضر المقدم بن خليفة وأمر أولاد أخيه فقتلوه قصاصًا لأنه قتل أباهم وأخرج الأمير أبا الفتوح وزوجته بلارة بنت القاسم بن تميم وهي ابنة عمه ووكل بهما في قصر زيادة بين المهدية وسفاقس فبقي هناك إلى أن مات يحيى وملك بعده ابنه علي سنة تسع وخمسمائة فسير أبا الفتوح وزوجته بلارة إلى ديار مصر في البحر فوصلا إلى إسكندرية على ما نذكره إن شاء الله‏.‏

وفيها في المحرم قتل عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد أبو المحاسن الروياني الطبري الفقيه الشافعي ومولده سنة خمس عشرة وأربعمائة وكان حافظًا للمذهب ويقول‏:‏ لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من قلبي‏.‏

وفيها في جمادى الآخرة توفي الخطيب أبو زكرياء يحيى بن علي التبريزي الشيباني اللغوي صاحب التصانيف المشهورة وله شعر ليس بالجيد‏.‏

وفيها في رجب توفي السيد أبو هاشم زيد الحسني العلوي رئيس همذان وكان نافذ الحكم ماضي الأمر وكانت مدة رئاسته لها سبعًا وأربعين سنة وجده لأمه الصاحب أبو القاسم بن عباد وكان عظيم المال جدًا فمن ذلك أنه أخذ منه السلطان محمد في دفعة واحدة سبع مائة ألف دينار لم يبع لأجلها ملكًا ولا استدان دينارًا وأقام بعد ذلك بالسلطان محمد عدة شهور في جميع ما يريده وكان قليل المعروف‏.‏

وفيها في ذي الحجة توفي أبو الفوارس الحسن بن علي الخازن الكاتب المشهور بجودة الخط وله شعر منه‏:‏ من المديد عنت الدنيا لطالبها واستراح الزاهد الفطن عرف الدنيا فلم يرها وسواه حظًا الفتن يقتني مالًا ويتركه في كلا الحالين مفتتن أملي كوني على ثقة من لقاء الله مرتهن أكره الدنيا وكيف بها والذي تسخو به وسن لم تدم قبلي على أحد فلماذا الهم والحزن وقيل توفي سنة تسع وتسعين وأربعمائة وقد ذكر هناك‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسمائة

ذكر ملك الفرنج طرابلس وبيروت من الشام

في هذه السنة حادي عشر ذي الحجة ملك الفرنج طرابلس‏.‏

وسبب ذلك أن طرابلس كانت قد صارت في حكم صاحب مصر ونائبه فيها والمدد يأتي إليها منه وقد ذكرنا ذلك سنة إحدى وخمسمائة‏.‏

فلما كانت هذه السنة أول شعبان وصل أسطول كبير من بلد الفرنج في البحر ومقدمهم قمص كبير اسمه ريمند بن صنجيل ومراكبه مشحونة بالرجال والسلاح والميرة فنزل على طرابلس وكان نازلًا عليها قبله السرداني ابن أخت صنجيل وليس بابن أخت ريمند هذا بل هو قمص آخر فجرى بينهما فتنة أدت إلى الشر والقتال فوصل طنكري صاحب أنطاكية إليها معونة للسرداني ووصل الملك بغدوين صاحب القدس في عسكره فأصلح بينهم ونزل الفرنج جميعهم على طرابلس وشرعوا في قتالها ومضايقة أهلها من أول شعبان وألصقوا أبراجهم بسورها فلما رأى الجند وأهل البلد ذلك سقط في أيديهم وذلت نفوسهم وزادهم ضعفًا تأخر الأسطول المصري عنهم بالميرة والنجدة‏.‏

وكان سبب تاخره‏:‏ أنه فرغ منه والحث عليه واختلفوا فيه أكثر من سنة وسار فردته الريح فتعذر عليهم الوصول إلى طرابلس ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا‏.‏

ومد الفرنج القتال عليها من الأبراج والزحف فهجموا على البلد وملكوه عنوة وقهرًا يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من السنة ونهبوا ما فيها وأسروا الرجال وسبوا النساء والأطفال ونهبوا الأموال وغنموا من أهلها من الأموال والأمتعة وكتب دور العلم الموقوفة ما لا يحد ولا يحصى فإن أهلها كانوا من أكثر أهل البلاد أموالًا وتجارة وسلم الوالي الذي كان بها وجماعة من جندها كانوا التمسوا الأمان قبل فتحها فوصلوا إلى دمشق وعاقب الفرنج أهلها بأنواع العقوبات وأخذت دفائنهم وذخائرهم في مكامنهم‏.‏

لما فرغ الفرنج من طرابلس سار طنكري صاحب أنطاكية إلى بانياس وحصرها وافتتحها وأمن أهلها ونزل مدينة جبيل وفيها فخر الملك بن عمار الذي كان صاحب طرابلس وكان القوت فيها قليلًا فقاتلها إلى أن ملكها في الثاني والعشرين من ذي الحجة من السنة بالأمان وخرج فخر الملك بن عمار سالمًا‏.‏

ووصل عقيب ملك طرابلس الأسطول المصري بالرجال والمال والغلال وغيرها ما يكفيهم سنة فوصل إلى صور بعد أخذها بثمانية أيام للقضاء النازل بأهلها وفرقت الغلال التي فيه والذخائر في الجهات المنفذة إليها صور وصيدا وبيروت‏.‏

وأما فخر الملك بن عمار فإنه قصد شيزر فأكرمه صاحبها الأمير سلطان بن علي بن منقذ الكناني واحترمه وسأله أن يقيم عنده فلم يفعل وسار إلى دمشق فأنزله طغتكين صاحبها وأجزل له في الحمل والعطية وأقطعه أعمال الزبداني وهو عمل كبير من أعمال دمشق وكان ذلك في المحرم سنة اثنتين وخمسمائة‏.‏

ذكر الحرب بين محمد خان وساغربك

في هذه السنة عاد ساغربك وجمع العساكر الكثيرة من الأتراك وغيرهم وقصد أعمال محمد خان بسمرقند وغيرها فأرسل محمد إلى سنجر يستنجده فسير إليه الجنود واجتمع معه أيضًا كثير من العساكر وسار إلى ساغربك فالتقوا بنواحي الخشب واقتتلوا فانهزم ساغربك وعساكره وأخذت السيوف منهم مأخذها وكثر الأسر فيهم والنهب فلما فرغوا من حربهم وأمن محمد خان من شر ساغربك عاد العسكر السنجري إلى خراسان فعبروا النهر إلى بلخ‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في المحرم سير السلطان وزيره نظام الملك أحمد بن نظام الملك إلى قلعة ألموت لقتال الحسن بن الصباح ومن معه من الإسماعيلية فحصروهم وهجم الشتاء عليهم فعادوا ولم يبلغوا منه غرضًا‏.‏

وفيها في ربيع الآخر قدم السلطان إلى بغداد وعاد عنها في شوال من السنة أيضًا‏.‏

وفيها في شعبان توجه الوزير نظام الملك إلى الجامع فوثب به الباطنية فضربوه بالسكاكين وجرح في رقبته فبقي مريضًا مدة ثم برأ وأخذ الباطني الذي جرحه فسقي الخمر حتى سكر ثم سئل عن أصحابه فأقر على جماعة بمسجد المأمونية فأخذوا وقتلوا‏.‏

وفيها عزل وزير الخليفة وهو أبو المعالي بن المطلب ووزر بعده الزعيم أبو القاسم بن جهير وفيها جهز يحيى بن تميم صاحب إفريقية خمسة عشر شينيًا وسيرها إلى بلاد الروم فلقيها أسطول الروم وهو كبير فقاتلوهم وأخذوا ست قطع من شواني المسلمين ولم ينهزم بعد ذلك ليحيى جيش في البحر والبر‏.‏

وسير ابنه أبا الفتوح إلى مدينة سفاقس واليًا عليها فثار به أهلها فنهبوا قصره وهموا بقتله فلم يزل يحيى يعمل الحيلة عليهم حتى فرق كلمتهم وبدد شملهم وملك رقابهم فسجنهم وعفا عن دمائهم وذنوبهم‏.‏

وفيها توفي الأمير إبراهيم ينال صاحب آمد وكان قبيح السيرة مشهورًا بالظلام فجلا كثير من أهلها لجوره وملك بعده ولده وكان أصلح حالًا منه‏.‏

وفيها في ثامن ذي القعدة ظهر في السماء كوكب من الشرق له ذؤابة ممتدة إلى القبلة وبقي يطلع إلى آخر ذي الحجة ثم غاب‏.‏

ثم دخلت سنة أربع وخمسمائة

ذكر ملك الفرنج مدينة صيدا

في هذه السنة في ربيع الآخر ملك الفرنج مدينة صيدا من ساحل الشام‏.‏

وسبب ذلك‏:‏ أنه وصل في البحر إلى الشام ستون مركبًا للفرنج مشحونة بالرجال والذخائر مع بعض ملوكهم ليحج البيت المقدس وليغزو بزعمه المسلمين فاجتمع بهم بغدوين ملك القدس وتقررت القاعدة بينهم أن يقصدوا بلاد الإسلام فرحلوا من القدس ونزلوا مدينة صيدا ثالث ربيع الآخر من هذه السنة وضايقوها برًا وبحرًا‏.‏

وكان الأسطول المصري مقيمًا على صور فلم يقدر على إنجاد صيدا فعمل الفرنج برجًا من الخشب وأحكموه وجعلوا عليه ما يمنع النار عنه والحجارة وزحفوا به فلما عاين أهل صيدا ذلك ضعفت نفوسهم وأشفقوا أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل بيروت فأرسلوا قاضيها ومعه جماعة من شيوخها إلى الفرنج وطلبوا من ملكهم الأمان فأمنهم على أنفسهم وأموالهم والعسكر الذي عندهم ومن أراد المقام بها عندهم أمنوه ومن أراد المسير عنهم لم يمنعوه وحلف لهم على ذلك فخرج الوالي وجماعة كثيرة من أعيان أهل البلد في العشرين من جمادى الأولى إلى دمشق وأقام بالبلد خلق كثير تحت الأمان وكانت مدة الحصار سبعة وأربعين يومًا‏.‏

ورحل بغدوين عنها إلى القدس ثم عاد إلى صيدا بعد مدة يسيرة فقرر على المسلمين الذين أقاموا بها عشرين ألف دينار فأفقرهم واستغرق أموالهم‏.‏

كانت عسقلان للعلويين المصريين ثم إن الخليفة الآمر بأحكام الله استعمل عليها إنسانًا يعرف بشمس الخلافة فراسل بغدوين ملك الفرنج بالشام وهادنه وأدى إليه مالًا وعروضًا فامتنع به من أحكام المصريين عليه إلا فيما يريد من غير مجاهدة بذلك‏.‏

فوصلت الأخبار بذلك إلى الآمر بأحكام الله صاحب مصر وإلى وزيره الأفضل أمير الجيوش فعظم الأمر عليهما وجهزا عسكرًا وسيراه إلى عسقلان مع قائد كبير من قواده وأظهرا أنه يريد الغزاة ونفذا إلى القائد سرًا أن يقبض على شمس الخلافة إذا حضر عندهم ويقيم هو عوضه بعسقلان أميرًا‏.‏

فسار العسكر فعرف شمس الخلافة الحال فامتنع من الحضور عند العسكر المصري وجاهر بالعصيان وأخرج من كان عنده من عسكر مصر خوفًا منهم‏.‏

فلما عرف الأفضل ذلك خاف أن يسلم عسقلان إلى الفرنج فأرسل إليه وطيب قلبه وسكنه وأقره على عمله وأعاد عليه إقطاعه بمصر‏.‏

ثم إن شمس الخلافة خاف أهل عسقلان فأحضر جماعة من الأرمن واتخذهم جندًا ولم يزل على هذه الحال إلى آخر سنة أربع وخمسمائة فأنكر الأمر أهل البلد فوثب به قوم من أعيانه وهو راكب فجرجروه فانهزم منهم إلى داره فتبعوه وقتلوه ونهبوا داره وجميع ما فيها ونهبوا بعض دور غيره من أرباب الأموال بهذه الحجة وأرسلوا إلى مصر بجلية الحال إلى الآمر والأفضل فسرا بذلك وأحسنا إلى الواصلين بالبشارة وأرسلا إليه واليًا يقيم به ويستعمل مع أهل البلد الإحسان وحسن السيرة فتم ذلك وزال ما كانوا يخافونه‏.‏

ذكر ملك الفرنج حصن الأثارب

في هذه السنة جمع صاحب أنطاكية عساكره من الفرنج وحشد الفارس والراجل وسار نحو حصن الأثارب وهو بالقرب من مدينة حلب بينهما ثلاثة فراسخ وحصره ومنع عنه الميرة فضاق الأمر على من به من المسلمين فنقبوا من القلعة نقبًا قصدوا أن يخرجوا منه إلى خيمة صاحب أنطاكية فيقتلوه فلما فعلوا ذلك وقربوا من خيمته استأمن إليه صبي أرمني فعرفه الحال فاحتاط واحترز منهم وجد في قتالهم حتى ملك الحصن قهرًا وعنوة وقتل من أهله ألفي رجل وسبى وأسر الباقين‏.‏

ثم سار إلى حصن زردنا فحصره ففتحه وفعل بأهله مثل الأثارب فلما سمع أهل منبج بذلك فارقوها خوفًا من الفرنج وكذلك أهل بالس وقصد الفرنج البلدين فرأوهما وليس بهما أنيس فعادوا عنهما‏.‏

وسار عسكر من الفرنج إلى مدينة صيدا فطلب أهلها منهم الأمان فأمنوهم وتسلموا البلد فعظم خوف المسلمين منهم وبلغت القلوب الحناجر وأيقنوا باستيلاء الفرنج على سائر الشام لعدم الحامي له والمانع عنه فشرع أصحاب البلاد الإسلامية بالشام في الهدنة معهم فامتنع الفرنج من الإجابة إلا على قطيعة يأخذونها إلى مدة يسيرة فصالحهم الملك رضوان صاحب حلب على اثنين وثلاثين ألف دينار وغيرها من الخيول والثياب وصالحهم صاحب صور على سبعة آلاف دينار وصالحهم ابن منقذ صاحب شيزر على أربعة آلاف دينار وصالحهم علي الكردي صاحب حماة على ألفي دينار وكانت مدة الهدنة إلى وقت إدراك الغلة وحصادها‏.‏

ثم إن مراكب أقلعت من ديار مصر فيها التجار ومعهم الأمتعة الكثيرة فوقع عليها مراكب الفرنج فأخذوها وغنموا ما مع التجار وأسروهم فسار جماعة من أهل حلب إلى بغداد مستنفرين على الفرنج‏.‏

فلما وردوا بغداد اجتمع معهم خلق كثير من الفقهاء وغيرهم فقصدوا جامع السلطان واستغاثوا ومنعوا من الصلاة وكسروا المنبر فوعدهم السلطان بإنفاذ العساكر للجهاد وسير من دار الخلافة منبرًا إلى جامع السلطان‏.‏

فلما كان الجمعة الثانية قصدوا جامع القصر بدار الخلافة ومعهم أهل بغداد فمنعهم حاجب الباب من الدخول فغلبوه على ذلك ودخلوا الجامع وكسروا شباك المقصورة وهجموا إلى المنبر فكسروه وبطلت الجمعة أيضًا

فأرسل الخليفة إلى السلطان في المعنى يأمره بالاهتمام بهذا الفتق ورتقه فتقدم حينئذ إلى من معه من الأمراء بالمسير إلى بلادهم والتجهز للجهاد وسير ولده الملك مسعودًا مع الأمير مودود صاحب الموصل وتقدموا إلى الموصل ليلحق بهم الأمراء ويسيروا إلى قتال الفرنج وانقضت السنة وساروا في سنة خمس وخمسمائة وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة عزل نظام الملك أحمد من وزارة السلطان ووزر بعده الخطير محمد بن الحسين الميبذي‏.‏

وفيها ورد رسول ملك الروم إلى السلطان يستنفره على الفرنج ويحثه على قتالهم ودفعهم عن البلاد وكان وصول أهل حلب وكان أهل حلب يقولون للسلطان‏:‏ أما تتقي الله تعالى أن يكون ملك الروم أكثر حمية منك للإسلام حتى قد أرسل إليك في جهادهم‏.‏

وفيها في رمضان زفت ابنة السلطان ملكشاه إلى الخليفة وزينت بغداد وغلقت وكان بها فرحة عظيمة لم يشاهد الناس مثلها‏.‏

وفيها هبت بمصر ريح سوداء أظلمت بها الدنيا وأخذت بأنفاس الناس ولم يقدر أحد أن يفتح عينيه ومن فتحهما لا يبصر يده ونزل على الناس رمل ويئس الناس من الحياة وأيقنوا بالهلاك ثم تجلى قليلًا وعاد إلى الصفوة وكان ذلك من أول وقت العصر إلى بعد المغرب‏.‏

وفيها في المحرم توفي الكيا الهراس الطبري واسمه أبو الحسن علي بن محمد بن علي وكان من أعيان الفقهاء الشافعية أخذ الفقه عن إمام الحرمين الجويني ودرس بعده في النظامية ببغداد وتوفي بها ودفن عند تربة الشيخ أبي إسحاق ودرس بعده في النظامية الإمام أبو بكر الشاشي‏.‏

وفيها توفي أبو الحسين إدريس بن حمزة بن علي الرملي الفقيه الشافعي من أهل الرملة بفلسطين تفقه على أبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي وعلى الشيخ أبي إسحاق الشيرازي ودخل خراسان وولي التدريس بسمرقند فتوفي بها‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وخمسمائة

ذكر مسير العساكر إلى قتال الفرنج

في هذه السنة اجتمعت العساكر التي أمرها السلطان بالمسير إلى قتال الفرنج فكانوا‏:‏ الأمير مودود صاحب الموصل والأمير سكمان القطبي صاحب تبريز وبعض ديار بكر والأميرين إيلبكي وزنكي ابني برسق ولهما همذان وما جاورها والأمير أحمديل وله مراغة وكوتب الأمير أبو الهيجاء صاحب إربل والأمير إيلغازي صاحب ماردين والأمراء البكجية باللحاق بالملك مسعود ومودود فاجتمعوا ما عدا الأمير إيلغازي فإنه سير ولده إياز وأقام هو فلما اجتمعوا ساروا إلى بلدة سنجار ففتحوا عدة حصون للفرنج وقتل من بها منهم وحصروا مدينة الرها مدة ثم رحلوا عنها من غير أن يملكوها‏.‏

وكان سبب رحيلهم عنها أن الفرنج اجتمعت جميعها فارسها وراجلها وساروا إلى الفرات ليعبروه ليمنعوا الرها من المسلمين فلما وصلوا إلى الفرات بلغهم كثرة المسلمين فلم يقدموا عليه وأقاموا على الفرات فلما رأى المسلمون ذلك رحلوا عن الرها إلى حران ليطمع الفرنج ويعبروا الفرات إليهم ويقاتلوهم‏.‏

فلما رحلوا عنها جاء الفرنج ومعهم الميرة والذخائر إلى الرها فجعلوا فيها كل من فيه عجز وضعف وفقر وعادوا إلى الفرات فعبروه إلى الجانب الشامي وطرقوا أعمال حلب فأفسدوا ما فيها ونهبوها وقتلوا فيها وأسروا وسبوا خلقًا كثيرًا‏.‏

وكان سبب ذلك أن الفرنج لما عبروا إلى الجزيرة خرج الملك رضوان صاحب حلب إلى ما أخذه الفرنج من أعمالها فاستعاد بعضه ونهب منهم وقتل فلما عادوا وعبروا الفرات فعلوا بأعماله ما فعلوا‏.‏

وأما العسكر السلطاني فلما سمعوا بعود الفرنج وعبورهم الفرات رحلوا إلى الرها وحصروها فرأوا أمرًا محكمًا قد قويت نفوس أهلها بالذخائر التي تركت عندهم وبكثرة المقاتلين عنهم ولم يجدوا فيهم مطمعًا فرحلوا عنها وعبروا الفرات فحصروا قلعة تل باشر خمسة وأربعين يومًا ورحلوا عنها ولم يبلغوا غرضًا‏.‏

ووصلوا إلى حلب فأغلق الملك رضوان أبواب البلد ولم يجتمع بهم ثم مرض هناك الأمير سكمان القطبي فعاد مريضًا فتوفي في بالس فجعله أصحابه في تابوت وحملوه عائدين إلى بلاده فقصدهم إيلغازي ليأخذهم ويغنم ما معهم فجعلوا تابوته في القلب وقاتلوا بين يديه فانهزم إيلغازي وغنموا ما معه وساروا إلى بلادهم‏.‏

ولما أغلق الملك رضوان أبواب حلب ولم يجتمع بالعساكر السلطانية رحلوا إلى معرة النعمان واجتمع بهم طغتكين صاحب دمشق ونزل على الأمير مودود فاطلع من الأمراء على نيات فاسدة في حقه فخاف أن تؤخذ منه دمشق فشرع في مهادنة الفرنج سرًا وكانوا قد نكلوا عن قتال المسلمين فلم يتم ذلك وتفرقت العساكر‏.‏

وكان سبب تفرقهم أن الأمير برسق بن برسق الذي هو أكبر الأمراء كان به نقرس فهو يحمل في محفة ومات سكمان القطبي كما ذكرنا وأراد الأمير أحمديل صاحب مراغة العود ليطلب من السلطان أن يقطعه ما كان لسكمان من البلاد وأتابك طغتكين صاحب دمشق خاف الأمراء على نفسه فلم ينصحهم إلا أنه حصل بنيه وبين مودود صاحب الموصل مودة وصداقة فتفرقوا لهذه الأسباب وبقي مودود وطغتكين بالمعرة فساروا منها ونزلوا على نهر العاصي‏.‏

ولما سمع الفرنج بتفرق عساكر الإسلام طمعوا وكانوا قد اجتمعوا كلهم بعد الاختلاف والتباين وساروا إلى أفامية فسمع بهم سلطان بن منقذ صاحب شيزر فسار إلى مودود وطغتكين وهون عليهما أمر الفرنج وحرضهما على الجهاد فرحلوا إلى شيزر ونزلوا عليها ونزل الفرنج بالقرب منهم فضيق عليهم عسكر المسلمين الميرة ولزوهم بالقتال والفرنج يحفظون نفوسهم ولا يعطون مصافًا فلما رأوا قوة المسلمين عادوا إلى أفامية وتبعهم المسلمون فتخطفوا من أدركوه في ساقتهم وعادوا إلى شيزر في ربيع الأول‏.‏

ذكر حصر الفرنج مدينة صور

لما تفرقت العساكر اجتمعت الفرنج على قصد مدينة صور وحصرها فساروا إليها مع الملك بغدوين صاحب القدس وحشدوا وجمعوا ونازلوها وحصروها في الخامس والعشرين من جمادى الأولى وعملوا عليها ثلاثة أبراج خشب علو البرج سبعون ذراعًا وفي كل برج ألف رجل ونصبوا عليها المجانيق وألصقوا أحدها إلى سور البلد وأخلوه من الرجال‏.‏

وكانت صور للآمر بأحكام الله العلوي ونائبه بها عز الملك الأعز فأحضر أهل البلد واستشارهم في حيلة يدفعون بها شر الأبراج عنهم فقام شيخ من أهل طرابلس وضمن على نفسه إحراقها وأخذ معه ألف رجل بالسلاح التام ومع كل رجل منهم حزمة حطب فقاتلوا الفرنج إلى أن وصلوا إلى البرج الملتصق بالمدينة فألقى الحطب من جهاته وألقى فيه النار ثم خاف أن يشتغل الفرنج الذين في البرج بإطفاء النار ويتخلصوا فرماهم بجرب كان قد أعدها مملوءة من العذرة فلما سقطت عليهم اشتغلوا بها وبما نالهم من سوء الرائحة والتلويث فتمكنت النار منه فهلك كل من به إلا القليل وأخذ منه المسلمون ما قدروا عليه بالكلاليب ثم أخذ سلال العنب الكبار وترك فيها الحطب الذي قد سقاه بالنفط والزفث والكتان والكبريت ورماهم بسبعين سلة وأحرق البرجين الآخرين‏.‏

ثم إن أهل صور حفروا سراديب تحت الأرض ليسقط فيها الفرنج إذا زحفوا إليهم ولينخسف برج إن عملوه وسيروه إليهم فاستأمن نفر من المسلمين إلى الفرنج وأعلموهم بما عملوه فحذروا منها‏.‏

وأرسل أهل البلد إلى أتابك طغتكين صاحب دمشق يستنجدونه ويطلبونه ليسلموا البلد إليه فسار في عساكره إلى نواحي بانياس وسير إليهم نجدة مائتي فارس فدخلوا البلد فامتنع من في بهم واشتد قتال الفرنج خوفًا من اتصال النجدات ففني نشاب الأتراك فقاتلوا بالخشب وفني النفط فظفروا بسرب تحت الأرض فيه نفط لا يعلم من خزنه‏.‏

ثم إن عز الملك صاحب صور أرسل الأموال إلى طغتكين ليكثر من الرجال ويقصدهم ليملك البلد فأرسل طغتكين طائرًا فيه رقعة ليعلمه وصول المال ويأمره أن يقيم مركبًا بمكان ذكره لتجيء الرجال إليه فسقط الطائر على مركب الفرنج فأخذه رجلان‏:‏ مسلم وفرنجي فقال الفرنجي‏:‏ نطلقه لعل فيه فرجًا لهم فلم يمكنه المسلم وحمله إلى الملك بغدوين فلما وقف عليه سير مركبًا إلى المكان الذي ذكره طغتكين وفيه جماعة من المسلمين الذين استأمنوا إليه من صور فوصل إليهم العسكر فكلموهم بالعربية فلم ينكرونهم وركبوا معهم فأخذوهم أسرى وحملوهم إلى الفرنج فقتلوهم وطمعوا في أهل صور فكان طغتكين يغير على أعمال الفرنج من جميع جهاتها وقصد حصن الحبيس في السواد من أعمال دمشق وهو للفرنج فحصره وملكه بالسيف وقتل كل من فيه وعاد إلى الفرنج الذين على صور‏.‏

وكان يقطع الميرة عنهم في البر فأحضروها في البحر وخندقوا عليهم ولم يخرجوا إليه فسار إلى صيدا وأغار على ظاهرها فقتل جماعة من البحرية وأحرق نحو عشرين مركبًا على الساحل وهو مع ذلك يواصل أهل صور بالكتب يأمرهم بالصبر والفرنج يلازمون قتالهم وقاتل أهل صور قتال من أيس من الحياة فدام القتال إلى أوان إدراك الغلات فخاف الفرنج أن طغتكين يستولي على غلات بلادهم فساروا عن البلد عاشر شوال إلى عكة وعاد عسكر طغتكين إليه وأعطاهم أهل صور الأموال وغيرها ثم أصلحوا ما تشعث من سورها وخندقها وكان الفرنج قد طموه‏.‏

ذكر انهزام الفرنج بالأندلس

في هذه السنة خرج أذفونش الفرنجي صاحب طليطلة بالأندلس إلى بلاد الإسلام بها يطلب ملكها والاستيلاء عليها وجمع وحشد فأكثر وكان قد قوي طمعه فيها بسبب موت أمير المسلمين يوسف بن تاشفين فسمع أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين الخبر فسار إليه في عساكره وجموعه فلقيه فاقتتلوا واشتد القتال وكان الظفر للمسلمين وانهزم الفرنج وقتلوا قتلًا ذريعًا وأسر منهم بشر كثير وسبى منهم وغنم من أموالهم ما يخرج من الأحصاء فخرج الفرنج بعد ذلك وامتنعوا من قصد بلاده وذل أذفونش حينئذ وعلم أن في البلاد حاميًا لها و في هذه السنة في جمادى الآخرة توفي الإمام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الإمام المشهور‏.‏

ثم دخلت سنة ست وخمسمائة

في هذه السنة في المحرم سار مودود صاحب الموصل إلى الرها فنزل عليها ورعى عسكره زروعها ورحل عنها إلى سروج وفعل بها كذلك وأهمل الفرنج ولم يحترز منهم فلم يشعر إلا وجوسلين صاحب تل باشر قد كبسهم وكانت دواب العسكر منتشرة في المرعى فأخذ الفرنج كثيرًا منها وقتلوا كثيرًا من العسكر فلما تأهب المسلمون للقائه عاد عنهم إلى سروج‏.‏

وفيها رحل السلطان محمد من بغداد وكان مقامه هذه المرة خمسة أشهر فلما وصل إلى أصبهان قبض على زي الملك أبي سعد القمي وسلمه إلى الأمير كاميار لعداوة بينهما فلما وصل إلى الري أركبه كاميار على ردابة بمركب ذهب وأظهر أن السلطان خلع عليه على مال قرره عليه فحصل بذلك مالًا كثيرًا من أهل القمي ثم صلبه وكان سبب قبضه أنه كان يكثر الطعن على الخليفة والسلطان‏.‏

وفيها كان ببغداد رجل مغربي يعمل الكيمياء بزعمه اسمه أبو علي فحمل إلى دار الخلافة وكان آخر العهد به‏.‏

وفيها ورد إلى بغداد يوسف بن أيوب الهمذاني الواعظ وكان من الزهاد العابدين فوعظ الناس بها فقام إليه رجل متفقه يقال له ابن السقاء فآذاه في مسألة وعاوده فقال له‏:‏ اجلس فإني أجد من كلامك رائحة الكفر ولعلك تموت على غير دين الإسلام فاتفق بعد مديدة أن ابن السقاء خرج إلى بلاد الروم وتنصر‏.‏

وفيها في ذي القعدة سمع ببغداد صوت هدة عظيمة ولم يكن بالسماء غيم حتى يظن أنه صوت رعد ولم يعلم أحد أي صوت كان‏.‏

وفيها توفي بسيل الأرمني صاحب الدروب ببلاد ابن لاون فسار طنكري صاحب أنطاكية أول جمادى الآخرة إلى بلاده طمعًا في أن يملكها فمرض في طريقه فعاد إلى أنطاكية فمات ثامن جمادى الآخرة وملكها بعده ابن أخته سرخالة واستقام الأمر فيها بعد أن جرى بين الفرنج خلف بسببه فأصلح بينهم القسوس والرهبان‏.‏

وفيها توفي قراجة صاحب حمص وكان ظالمًا وقام ولده قرجان مكانه وكان مثله في قبح السيرة‏.‏

و في هذه السنة توفي المعمر بن علي أبو سعد بن أبي عمامة الواعظ البغدادي ومولده سنة تسع وعشرين وأربعمائة وكان له خاطر حاد ومجون حسن وكان الغالب على وعظه أخبار الصالحين‏.‏

وتوفي أحمد بن الفرج بن عمر الدينوري والد شهدة وكان يروي عن أبي يعلى بن الفراء وابن المأمون وابن المهتدي وابن النقور وغيرهم وكان حسن السيرة متزهدًا‏.‏

وتوفي أبو العلاء صاعد بن منصور بن إسماعيل بن صاعد الخطيب النيسابوري وكان من أعيان الفقهاء وولي قضاء خوارزم وكان يروي الحديث‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وخمسمائة

ذكر قتال الفرنج وانهزامهم وقتل مودود

في هذه السنة في المحرم اجتمع المسلمون وفيهم الأمير مودود بن التونتكين صاحب الموصل وتميرك صاحب سنجار والأمير إياز بن إيلغازي وطغتكين صاحب دمشق‏.‏

وكان سبب اجتماع المسلمين أن ملك الفرنج بغدوين تابع الغارات على بلد دمشق ونهبه وخربه أواخر سنة ست وخمسمائة وانقطعت المواد عن دمشق فغلت الأسعار فيها وقلت الأقوات فأرسل طغتكين صاحبها إلى الأمير مودود يشرح له الحال ويستنجده ويحثه على سرعة الوصول إليه فجمع عسكرًا وسار فعبر الفرات آخر ذي القعدة سنة ست وخمسمائة فخافه الفرنج‏.‏

وسمع طغتكين خبره فسار إليه ولقيه بسلمية واتفق رأيهم على قصد بغدوين ملك القدس فساروا إلى الأردن فنزل المسلمون عند الأقحوانة ونزل الفرنج مع ملكهم بغدوين وجوسلين صاحب جيشهم وغيرهما من المقدمين والفرسان المشهورين ودخلوا بلاد الفرنج مع مودود وجمع الفرنج فالتقوا عند طبرية ثالث عشر المحرم واشتد القتال وصبر الفريقان ثم إن الفرنج انهزموا وكثر القتل فيهم والأسر وممن أسر ملكهم بغدوين فلم يعرف فأخذ سلاحه وأطلق فنجا وغرق منهم في بحيرة طبرية ونهر الأردن كثير وغنم المسلمون أموالهم وسلاحهم ووصل الفرنج إلى مضيق دون طبرية فلقيهم عسكر طرابلس وأنطاكية فقويت نفوسهم بهم وعاودوا الحرب فأحاط بهم المسلمون من كل ناحية وصعد الفرنج إلى جبل غرب طبرية فأقاموا به ستة وعشرين يومًا والمسلمون بإزائهم يرمونهم بالنشاب فيصيبون من يقرب منهم ومنعوا الميرة عنهم لعلهم يخرجون إلى قتالهم فلم يخرج منهم أحد فسار المسلمون إلى بيسان ونهبوا بلاد الفرنج بين عكا إلى القدس وخربوها وقتلوا من ظفروا به من النصارى وانقطعت المادة عنهم لبعدهم وأذن الأمير مودود للعساكر في العود والاستراحة ثم الاجتماع في الربيع لمعاودة الغزاة وبقي في خواصه ودخل دمشق في الحادي والعشرين من ربيع الأول ليقيم عند طغتكين إلى الربيع‏.‏

فدخل الجامع يوم الجمعة في ربيع الأول ليصلي فيه وطغتكين فلما فرغوا من الصلاة وخرج إلى صحن الجامع ويده في يد طغتكين وثب عليه باطني فضربه فجرحه أربح جراحات وقتل الباطني وأخذ رأسه فلم يعرفه أحد فأحرق‏.‏

وكان صائمًا فحمل إلى دار طغتكين واجتهد به ليفطر فلم يفعل وقال‏:‏ لا لقيت الله إلا صائمًا فمات من يومه رحمه الله فقيل إن الباطنية بالشام خافوه وقتلوه وقيل بل خافه طغتكين فوضع عليه من قتله‏.‏

وكان خيرًا عادلًا كثير الخير حدثني والدي قال‏:‏ كتب ملك الفرنج إلى طغتكين بعد قتل مودود كتابًا من فصوله‏:‏ أن أمّة قتلت عميدها‏.‏

يوم عيدها‏.‏ في بيت معبودها‏.‏

لحقيق على الله أن يبيدها‏.‏

ولما قتل تسلم تميرك صاحب سنجار ما معه من الخزائن والسلاح وحملها إلى السلطان ودفن مودود بدمشق في تربة دقاق صاحبها وحمل بعد ذلك إلى بغداد فدفن في جوار أبي حنيفة ثم حمل إلى أصبهان‏.‏

في هذه السنة كثر الحديث عند سنجر‏:‏ أن محمد خان بن سليمان بن داود قد مد يده إلى أموال الرعايا وظلمهم ظلما كثيرًا وأنه خرب البلاد بظلمه وشره وأنه قد صار يستخف بأوامر سنجر ولا يلتفت إلى شيء منها فتجهز سنجر وجمع عساكره وسار يريد قصده بما وراء النهر فخاف محمد خان فأرسل إلى الأمير قماج وهو أكبر أمير مع سنجر يسأله أن يصلح الحال بينه وبين سنجر وأرسل أيضًا إلى خوارزمشاه بمثل ذلك وسألهما في إرضاء السلطان عنه واعترف بأنه أخطأ فأجاب سنجر إلى صلحه على شرط أن يحضر عنده ويطأ بساطه فأرسل محمد خان يذكر خوفه لسء صنيعه ولكنه يحضر الخدمة ويخدم السلطان وبينهما نهر جيحون ثم يعاود بعد ذلك الحضور عنده والدخول إليه فحسنوا الإجابة إلى ذلك والاشتغال بغيره فامتنع ثم أجاب‏.‏

وكان سنجر على شاطئ جيحون من الجانب الغربي وجاء محمد خان إلى الجانب الشرقي فترجل وقبل الأرض وسنجر راكب وعاد كل واحد منهما إلى خيامه ورجعوا إلى بلادهم وسكنت الفتنة بينهما‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة سار قفل عظيم من دمشق إلى مصر فأتى الخبر إلى بغدوين ملك الفرنج فسار إليه وعارضه في البر فأخذهم أجمعين ولم ينج منهم إلا القليل ومن سلم أخذه العرب‏.‏

وفي هذه السنة توفي الوزير أبو القاسم علي بن محمد بن جهير وزير الخليفة المستظهر بالله ووزر بعده الربيب أبو منصور ابن الوزير أبي شجاع محمد بن الحسين وزير السلطان‏.‏

وفيها توفي الملك رضوان بن تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان صاحب حلب وقام بعده بحلب ابنه ألب أرسلان الأخرس وعمره ست عشرة سنة وكانت أمور رضوان غير محمودة‏:‏ قتل أخويه أبا طالب وبهرام وكان يستعين بالباطنية في كثير من أموره لقلة دينه ولما ملك الأخرس استولى على الأمور لؤلؤ الخادم ولم يكن للأخرس معه إلا اسم السلطنة ومعناه للؤلؤ ولم يكن ألب أرسلان أخرس وإنما في لسانه حبسة وتمتمة وأمه بنت باغي سيان الذي كان صاحب أنطاكية وقتل الأخرس أخوين له أحدهما اسمه ملكشاه وهو من أبيه وأمه واسم الآخر مباركشاه وهو من أبيه وكان أبوه فعل مثله فلما توفي قتل ولداه مكافأة لما اعتمده مع أخويه‏.‏

وكان الباطنية قد كثروا بحلب في أيامه حتى خافهم ابن بديع رئيسها وأعيان أهلها فلما توفي قال ابن بديع لألب أرسلان في قتلهم والإيقاع بهم فأمره بذلك فقبض على مقدمهم أبي طاهر الصائغ وعلى جميع أصحابه فقتل أبا طاهر وجماعة من أعيانهم وأخذ أموال الباقين وأطلقهم فمنهم من قصد الفرنج وتفرقوا في البلاد‏.‏

وفي هذه السنة توفي ببغداد أبو بكر أحمد بن علي بن بدران الحلواني الزاهد منتصف جمادى الأولى روى الحديث عن القاضي أبي الطيب الطبري وأبي محمد الجوهري وأبي طالب العشاري وغيرهم وروى عنه خلق كثير ومن آخرهم أبو الفضل عبد الله بن الطوسي خطيب الموصل‏.‏

وإسماعيل بن أحمد بن الحسين بن علي أبو علي بن أبي بكر البيهقي الإمام ابن الإمام ومولده سنة ثمان وعشرين وأربعمائة وتوفي بمدينة بيهق ولوالده تصانيف كثيرة مشهورة‏.‏

وشجاع بن أبي شجاع فارس بن الحسين بن فارس أبو غالب الذهلي الحافظ ومولده سنة ثلاثين وأربعمائة وروى عن أبيه وأبي القاسم وابن المهتدي والجوهري وغيرهم‏.‏

والأديب أبو المظفر محمد بن أحمد بن محمد الأبيوردي الشاعر المشهور وله ديوان حسن ومن شعره‏:‏ تنكر لي دهري ولم يدر أنني أعز وأحداث الزمان تهون وظل يريني الخطب كيف اعتداؤه وبت أريه الصبر كيف يكون ركبت طرفي فأذرى دمعه أسفًا عند انصرافي منهم مضمر الياس وقال‏:‏ حتام تؤذيني فإن سنحت حوائج لك فاركبني إلى الناس وكانت وفاته بأصبهان وهو ولد عنبسة بن أبي سفيان بن حرب الأموي‏.‏

وتوفي أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر الشاشي الإمام الفقيه الشافعي في شوال مولده سنة سبع وعشرين وأربعمائة سمع أبا بكر الخطيب وأبا يعلى بن الفراء وغيرهما وتفقه على أبي عبد الله محمد بن الكازروني بديار بكر وعلى أبي إسحاق الشيرازي ببغداد وعلى أبي نصر بن الصباغ‏.‏

وفيها توفي أبو نصر المؤتمن بن أحمد بن الحسن الساجي الحافظ المقدسي ومولده سنة خمس وأربعين وأربعمائة وكان مكثرًا من الحديث وتفقه على أبي سحاق وكان ثقة‏.‏ ‏ ‏ ‏ ‏  ‏