المجلد التاسع - ذكر ابتداء أمر محمد بن تومرت وعبد المؤمن وملكهما

‏ في هذه السنة كان ابتداء أمر المهدي أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت العلوي الحسني وقبيلته من المصامدة تعرف بهرغة في جبل السوس من بلاد المغرب نزلوا به لما فتحه المسلمون مع موسى بن نصير ونذكر أمره وأمر عبد المؤمن هذه السنة إلى أن فرغ من ملك المغرب لنتبع بعض الحادثة بعضًا‏.‏

وكان ابن تومرت قد رحل في شبيبته إلى بلاد الشرق في طلب العلم وكان فقيهًا فاضلًا عالمًا بالشريعة حافظًا للحديث عارفًا بأصولي الدين والفقه متحققًا بعلم العربية وكان ورعًا ناسكًا ووصل في سفره إلى العراق واجتمع بالغزالي والكيا واجتمع بأبي بكر الطرطوشي بالإسكندرية وقيل إنه جرى له حديث مع الغزالي فيما فعله بالمغرب من التملك فقال له كذا قال بعض مؤرخي المغرب والصحيح أنه لم يجتمع به فحج من هناك وعاد إلى المغرب ولما ركب البحر من الإسكندرية مغربًا غير المنكر في المركب وألزم من به بإقامة الصلاة وقراءة القرآن حتى انتهى إلى المهدية وسلطانها حينئذ يحيى بن تميم سنة خمس وخمسمائة فنزل بمسجد قبلي مسجد السبت وليس له سوى ركوة وعصًا وتسامع به أهل البلد فقصدوه يقرأون عليه أنواع العلوم وكان إذا مر به منكر غيره وأزاله فلما كثر ذلك منه أحضره الأمير يحيى مع جماعة من الفقهاء فلما رأى سمته وسمع كلامه أكرمه واحترمه وسأله الدعاء‏.‏

ورحل عن المدينة وأقام بالمنستير مع جماعة من الصالحين مدة وسار إلى بجاية ففعل فيها مثل ذلك فأخرج منها إلى قرية بالقرب منها اسمها ملالة فلقيه بها عبد المؤمن بن علي فرأى فيه من النجابة والنهضة ما تفرس فيه التقدم والقيام بالأمر فسأله عن اسمه وقبيلته فأخبره أنه من قيس عيلان ثم من بني سليم فقال ابن تومرت‏:‏ هذا الذي بشر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قال‏:‏ ‏(‏إن الله ينصر هذا الدين في آخر الزمان برجل من قيس‏)‏ فقيل‏:‏ من أي قيس فقال‏:‏ ‏(‏من بني سليم‏)‏‏.‏

فاستبشر بعبد المؤمن وسر بلقائه وكان مولد عبد المؤمن في مدينة تاجرة من أعمال تلمسان وهو عائذ قبيل من كومرة نزلوا بذلك الإقليم سنة ثمانين ومائة‏.‏

ولم يزل المهدي ملازمًا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في طريقه إلى أن وصل إلى مراكش دار مملكة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين فرأى فيها من المنكرات أكثر مما عاينه في طريقه فزاد في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فكثر أتباعه وحسنت ظنون الناس فيه فبينما هو في بعض الأيام في طريقه إذ رأى أخت أمير المسلمين في موكبها ومعها من الجواري الحسان عدة كثيرة وهن مسفرات وكانت هذه عادة الملثمين يسفر نساؤهم عن وجوههن ويتلثم الرجال فحين رأى النساء كذلك أنكر عليهن وأمرهن بستر وجوههن وضرب هو وأصحابه دوابهن فسقطت أخت أمير المسلمين عن دابتها فرفع أمره إلى أمير المسلمين علي بن يوسف فأحضره وأحضر الفقهاء ليناظروه فأخذ يعظه ويخوفه فبكى أمير المسلمين وأمر أن يناظره الفقهاء فلم يكن فيهم من يقوم له لقوة أدلته في الذي فعله‏.‏

وكان عند أمير المسلمين بعض وزرائه يقال له مالك بن وهيب فقال‏:‏ يا أمير المسلمين إن هذا والله لا يريد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنما يريد إثارة فتنة والغلبة على بعض النواحي فاقتله وقلدني دمه‏.‏

فلم يفعل ذلك فقال‏:‏ إن لم تقتله فاحبسه وخلده في السجن وإلا أثار شرًا لا يمكن تلافيه‏.‏

فأراد حبسه فمنعه رجل من أكابر الملثمين يسمى بيان بن عثمان فأمر بإخراجه من مراكش فسار إلى أغمات ولحق بالجبل فسار فيه حتى التحق بالسوس الذي فيه قبيلة هرغة وغيرهم من المصامدة سنة أربع عشرة فأتوه واجتمعوا حوله‏.‏

وتسامع به أهل تلك النواحي فوفدوا عليه وحضر أعيانهم بين يديه وجعل يعظهم ويذكرهم بأيام الله ويذكر لهم شرائع الإسلام وما غير منها وما حدث من الظلم والفساد وأنه لا يجب طاعة دولة من هذه الدول لاتباعهم الباطل بل الواجب قتالهم ومنعهم عما هم فيه فأقام على ذلك نحو سنة وتابعته هرغة قبيلته وسمى أتباعه الموحدين وأعلمهم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشر بالمهدي الذي يملأ الأرض عدلًا وأن مكانه الذي يخرج منه المغرب الأقصى فقام إليه عشرة رجال أحدهم عبد المؤمن فقالوا لا يوجد هذا إلا فيك فأنت المهدي فبايعوه على ذلك‏.‏

فانتهى خبره إلى أمير المسلمين فجهز جيشًا من أصحابه وسيرهم إليه فلما قربوا من الجبل الذي هو فيه قال لأصحابه‏:‏ إن هؤلاء يريدونني وأخاف عليكم منهم فالرأي أن أخرج بنفسي إلى غير هذه البلاد لتسلموا أنتم‏.‏

فقال له ابن توفيان من مشايخ هرغة‏:‏ هل تخاف شيئًا من السماء فقال‏:‏ لا بل من السماء تنصرون فقال ابن توفيان‏:‏ فليأتنا كل من في الأرض‏.‏

ووافقه جميع قبيلته فقال المهدي‏:‏ أبشروا بالنصر بهذه الشرذمة وبعد قليل تستأصلون دولتهم وترثون أرضهم‏.‏

فنزلوا من الجبل ولقوا جيش أمير المسلمين فهزموهم وأخذوا أسلابهم وقوي ظنهم في صدق المهدي حيث ظفروا كما ذكر لهم‏.‏

وأقبلت إليه أفرواج القبائل من الحلل التي حوله شرقًا وغربًا وبايعوه وأطاعته قبيلة هنتانة وهي من أقوى القبائل فأقبل عليهم واطمأن إليهم وأتاه رسل أهل تين ملل بطاعتهم وطلبوه إليهم فتوجه إلى جبل تين ملل واستوطنه وألف لهم كتابًا في التوحيد وكتابًا في العقيدة ونهج لهم طريق الأدب بعضهم مع بعض والاقتصار على القصير من الثياب القليل الثمن وهو يحرضهم على قتال عدوهم وإخراج الأشرار من بين أظهرهم‏.‏

وأقام بتين ملل وبنى له مسجدًا خارج المدينة فكان يصلي فيه وجمع ممن معه عنده ويدخل البلد بعد العشاء الآخرة فلما رأى كثرة أهل الجبل وحصانة المدينة خاف أن يرجعوا عنه فأمرهم أن يحضروا بغير سلاح ففعلوا ذلك عدة أيام ثم أمر أصحابه أن يقتلوهم فخرجوا عليهم وهم غارون فقتلوهم في ذلك المسجد ثم دخل المدينة فقتل فيها وأكثر وسبى الحريم ونهب الأموال فكان عدة القتلى خمسة عشر ألفًا وقسم المساكن والأرض بين أصحابه وبنى على المدينة سورًا وقلعة على رأس جبل عال‏.‏

وفي جبل تين ملل أنهار جارية وأشجار وزروع والطريق إليه صعب فلا جبل أحصن منه وقيل‏:‏ إنه لما خاف أهل تين ملل نظر فرأى كثير من أولادهم شقرًا زرقًا والذي يغلب على الآباء السمرة وكان لأمير المسلمين عدة كثيرة من المماليك الفرنج والروم ويغلب على ألوانهم الشقرة وكانوا يصعدون الجبل في كل عام مرة ويأخذون ما لهم فيه من الأموال المقررة لهم من جهة السلطان فكانوا يسكنون بيوت أهله ويخرجون أصحابها منها فلما رأى المهدي أولادهم سألهم‏:‏ مالي أراكم سمر الألوان وأرى أولادكم شقرًا زرقًا فأخبروه خبرهم مع مماليك أمير المسلمين فقبح الصبر على هذا وأزرى عليهم وعظم الأمر عندهم فقالوا له‏:‏ فكيف الحيلة في الخلاص منهم وليس لنا بهم قوة فقال‏:‏ إذا حضروا عندكم في الوقت المعتاد وتفرقوا في مساكنهم فليقم كل رجل منكم إلى نزيله فيقتله واحفظوا جبلكم فإنه لا يرام ولا يقدر عليه‏.‏

فصبروا حتى حضر أولئك العبيد فقتلوهم على ما قرر لهم المهدي فلما فعلوا ذلك خافوا على نفوسهم من أمير المسلمين فامتنعوا في الجبل وسدوا ما فيه من طريق يسلك إليهم فقويت نفس المهدي بذلك‏.‏

ثم إن أمير المسلمين أرسل إليهم جيشًا قويًا فحصروهم في الجبل وضيقوا عليهم ومنعوا عنهم الميرة فقلت عند أصحاب المهدي الأقوات حتى صار الخبز معدومًا عندهم وكان يطبخ لهم كل يوم من الحساء ما يكفيهم فكان قوت كل واحد منهم أن يغمس يده في ذلك الحساء ويخرجها فما علق عليها قنع به ذلك اليوم فاجتمع أعيان أهل تين مل وأرادوا إصلاح الحال مع أمير المسلمين فبلغ الخبر بذلك المهدي بن تومرت وكان معه إنسان يقال له أبو عبد الله الونشريشي يظهر البله وعدم المعرفة بشيء من القرآن والعلم وبزاقه يجري على صدره وهو كأنه معتوه ومع هذا فالمهدي يقربه ويكرمه ويقول‏:‏ إن لله سرًا في هذا الرجل سوف يظهر‏.‏

وكان الونشريشي يلزم الاشتغال بالقرآن والعلم في السر بحيث لا يعلم أحد ذلك منه فلما كان سنة تسع عشرة وخاف المهدي من أهل الجبل خرج يومًا لصلاة الصبح فرأى إلى جانب محرابه إنسانًا حسن الثياب طيب الريح فأظهر أنه لا يعرفه وقال‏:‏ من هذا فقال‏:‏ أنا أبو عبد الله الونشريشي‏!‏ فقال له المهدي‏:‏ إن أمرك لعجب‏!‏ ثم صلى فلما فرغ من صلاته نادى في الناس فحضروا فقال‏:‏ إن هذا الرجل يزعم أنه الونشريشي فانظروه وحققوا أمره‏.‏

فلما أضاء النهار عرفوه فقال له المهدي‏:‏ ما قصتك قال‏:‏ إنني أتاني الليلة ملك من السماء فغسل قلبي وعلمني الله القرآن والموطأ وغيره من العلوم والأحاديث‏.‏

فبكى المهدي بحضرة الناس ثم قال له‏:‏ نحن نمتحنك فقال‏:‏ افعل‏.‏

وابتدأ يقرأ القرآن قراءة حسنة من أي موضع سئل وكذلك الموطأ وغيره من كتب الفقه والأصول فعجب الناس من ذلك واستعظموه‏.‏

ثم قال لهم‏:‏ إن الله تعالى قد أعطاني نورًا أعرف به أهل الجنة من أهل النار وآمركم أن تقتلوا أهل النار وتتركوا أهل الجنة وقد أنزل الله تعالى ملائكة إلى البئر التي في المكان الفلاني فسار المهدي والناس معه وهم يبكون إلى تلك البئر وصلى المهدي عند رأسها وقال‏:‏ يا ملائكة الله إن أبا عبد الله الونشريشي قد زعم كيت وكيت فقال من بها‏:‏ صدق‏!‏ وكان قد وضع فيها رجالًا يشهدون بذلك فلما قيل ذلك من البئر قال المهدي‏:‏ إن هذه مطهرة مقدسة قد نزل إليها الملائكة والمصلحة أن تطم لئلا يقع فيها نجاسة أو ما لا يجوز فألقوا فيها من الحجارة والتراب ما طمها ثم نادى في أهل الجبل بالحضور إلى ذلك المكان فحضروا للتمييز فكان الونشريشي يعمد إلى الرجل الذي يخاف ناحيته فيقول‏:‏ هذا من أهل النار فيلقى من الجبل مقتولًا وإلى الشاب الغر ومن لا يخشى فيقول‏:‏ هذا من أهل الجنة فيترك على يمينه فكان عدة القتلى سبعين ألفًا‏.‏

فلما فرغ من ذلك أمن على نفسه وأصحابه واستقام أمره‏.‏

هكذا سمعت جماعة من فضلاء المغاربة يذكرون في التمييز وسمعت منهم من يقول‏:‏ إن ابن تومرت لما رأى كثرة أهل الشر والفساد في أهل الجبل أحضر شيوخ القبائل وقال لهم‏:‏ إنكم لا يصح لكم دين ولا يقوى إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإخراج المفسد من بينكم فابحثوا عن كل ما عندكم من أهل الشر والفساد فانهوهم عن ذلك فإن انتهوا وإلا فاكتبوا أسماءهم وارفعوها إلي لأنظر في أمرهم‏.‏

ففعلوا ذلك وكتبوا له أسماءهم من كل قبيلة ثم أمرهم بذلك مرة ثانية وثالثة ثم جمع المكتوبات فأخذه منها ما تكرر من الأسماء فأثبتها عنده ثم جمع الناس قاطبة ورفع الأسماء التي كتبها ودفعها إلى الونشريشي المعروف بالبشير وأمره أن يعرض القبائل ويجعل أولئك المفسدين في جهة الشمال ومن عداهم في جهة اليمين ففعل ذلك وأمر أن يكتف من على شمال الونشريشي فكتفوا وقال‏:‏ إن هؤلاء أشقياء قد وجب قتلهم وأمر كل قبيلة أن يقتلوا أشقياءهم فقتلوا عن آخرهم فكان يوم التمييز‏.‏

ولما فرغ ابن تومرت من التمييز رأى أصحابه الباقين على نيات صادقة وقلوب متفقة على طاعته فجهز منهم جيشًا وسيرهم إلى جبال أغمات وبها جمع من المرابطين فقاتلوهم فانهزم أصحاب ابن تومرت وكان أميرهم أبو عبد الله الونشريشي وقتل منهم كثير وجرح عمر الهنتاتي وهو من أكبر أصحابه وسكن حسه ونبضه فقالوا‏:‏ مات‏!‏ فقال الونشريشي‏:‏ أما إنه لم يمت ولا يموت حتى يملك البلاد‏.‏

فبعد ساعة فتح عينيه وعادت قوته إليه فافتتنوا به وعادوا منهزمين إلى ابن تومرت فوعظهم وشكرهم على صبرهم‏.‏

ثم لم يزل بعدها يرسل السرايا في أطراف بلاد المسلمين فإذا رأوا عسكرًا تعلقوا بالجبل فأمنوا‏.‏

وكان المهدي قد رتب أصحابه مراتب فالأولى يسمون أيت عشرة يعني أهل عشرة وأولهم عبد المؤمن ثم أبو حفص الهنتاتي وغيرهما وهم أشرف أصحابه وأهل الثقة عنده والسابقون إلى متابعته والثانية‏:‏ أيت خمسين يعني أهل خمسين وهم دون تلك الطبقة وهم جماعة من رؤساء القبائل والثالثة‏:‏ أيت سبعين يعني أهل سبعين وهم دون التي قبلها وسمي عامة أصحابه والداخلين في طاعته موحدين فإذا ذكر الموحدون في أخبارهم فإنما يعنى أصحابه وأصحاب عبد المؤمن بعده‏.‏

ولم يزل أمر ابن تومرت يعلو إلى سنة أربع وعشرين فجهز المهدي جيشًا كثيفًا يبلغون أربعين ألفًا أكثرهم رجالة وجعل عليهم الونشريشي وسير معهم عبد المؤمن فنزلوا وساروا إلى مراكش فحصروها وضيقوا عليها وبها أمير المسلمين علي بن يوسف فبقي الحصار عليها عشرين يومًا فأرسل أمير المسلمين إلى متولي سجلماسة يأمره أن يحضر ومعه الجيوش فجمع جيشًا كثيرًا وسار فلما قارب عسكر المهدي خرج أهل مراكش من غير الجهة التي أقبل منها فاقتتلوا واشتد القتال وكثر القتل في أصحاب المهدي فقتل الونشريشي أميرهم فاجتمعوا إلى عبد المؤمن وجعلوه أميرًا عليهم‏.‏

ولم يزل القتال بينهم عامة النهار وصلى عبد المؤمن صلاة الخوف الظهر والعصر والحرب قائمة ولم تصل بالمغرب قبل ذلك فلما رأى المصامدة كثرة المرابطين وقوتهم أسندوا ظهورهم إلى بستان كبير هناك والبستان يسمى عندهم البحيرة فلهذا قيل وقعة البحيرة وعام البحيرة وصاروا يقاتلون من جهة واحدة إلى أن أدركهم الليل وقد قتل من المصامدة أكثرهم وحين قتل الونشريشي دفنه عبد المؤمن فطلبه المصامدة فلم يروه في القتلى فقالوا‏:‏ رفعته الملائكة ولما جنهم الليل سار عبد المؤمن ومن سلم من القتلى إلى الجبل‏.‏

ذكر وفاة المهدي وولاية عبد المؤمن

لما سير الجيش إلى حصار مراكش مرض مرضًا شديدًا فلما بلغه خبر الهزيمة اشتد مرضه وسأل عن عبد المؤمن فقيل‏:‏ هو سالم فقال‏:‏ ما مات أحد الأمر قائم وهو الذي يفتح البلاد‏.‏

ووصى أصحابه باتباعه وتقديمه وتسليم الأمر إليه والانقياد له ولقبه أمير المؤمنين‏.‏

ثم مات المهدي وكان عمره إحدى وخمسين سنة وقيل‏:‏ خمسًا وخمسين سنة ومدة ولايته عشرين سنة وعاد عبد المؤمن إلى تين ملل وأقام بها يتألف القلوب ويحسن إلى الناس وكان جوادًا مقدامًا في الحروب ثابتًا في الهزاهز إلى أن دخلت سنة ثمان وعشرين وخمسمائة فتجهز وسار في جيش كثير وجعل يمشي مع الجبل إلى أن وصل إلى تادلة فمانعه أهلها وقاتلوه فقهرهم وفتحها وسائر البلاد التي تليها ومشى في الجبال يفتح ما امتنع عليه وأطاعته صنهاجة الجبل‏.‏

وكان أمير المسلمين قد جعل ولي عهده ابنه سير فمات فأحضر أمير المسلمين ابنه تاشفين من الأندلس وكان أميرًا عليها فلما حضر عنده جعله ولي عهده سنة إحدى وثلاثين وجعل معه جيشًا وصار يمشي في الصحراء قبالة عبد المؤمن في الجبال‏.‏

وفي سنة اثنتين وثلاثين كان عبد المؤمن في النواظر وهو جبل عال مشرف وتاشفين في الوطأة وكان يخرج من الطائفتين قوم يترامون ويتطاردون ولم يكن بينهما لقاء ويسمى عام النواظر‏.‏

وفي سنة ثلاث وثلاثين توجه عبد المؤمن مع الجبل في الشعراء حتى انتهى إلى جبل كرناطة فنزل في أرض صلبة بين شجر ونزل تاشفين قبالته في الوطأة في أرض لا نبات فيها وكان الفصل شاتيًا فتوالت الأمطار أيامًا كثيرة لا تقلع فصارت الأرض التي فيها تاشفين وأصحابه كثيرة الوحل تسوخ فيها قوائم الخيل إلى صدورها ويعجز الرجل عن المشي فيها وتقطعت الطرق عنهم فأوقدوا رماحهم وقرابيس سروجهم وهلكوا جوعًا وبردًا وسوء حال‏.‏

وكان عبد المؤمن وأصحابه في أرض خشنة صلبة في الجبل لا يبالون بشيء والميرة متصلة إليهم وفي ذلك الوقت سير عبد المؤمن جيشًا إلى وجرة من أعمال تلمسان ومقدمهم أبو عبد الله محمد بن رقو وهو من أيت خمسين فبلغ خبرهم إلى محمد بن يحيى بن فانوا متولي تلمسان فخرج في جيش من الملثمين فالتقوا بموضع يعرف بخندق الخمر فهزمهم جيش عبد المؤمن وقتل محمد بن يحيى وكثير من أصحابه وغنموا ما معهم ورجعوا فتوجه عبد المؤمن بجميع جيشه وما برح يمشي في الجبال وتاشفين يحاذيه في الصحاري فلم يزل عبد المؤمن كذلك إلى سنة خمس وثلاثين فتوفي أمير المسلمين علي بن يوسف بمراكش وملك بعده ابنه تاشفين فقوي طمع عبد المؤمن في البلاد إلا أنه لم ينزل الصحراء‏.‏

وفي سنة ثمان وثلاثين توجه عبد المؤمن إلى تلمسان فنازلها وضرب خيامه في جبل بأعلاها ونزل تاشفين على الجانب الآخر من البلد وكان بينهم مناوشة فبقوا كذلك إلى سنة تسع وثلاثين فرحل عبد المؤمن عنها إلى جبل تاجرة ووجه جيشًا مع عمر الهنتاتي إلى مدينة وهران فهاجمها بغتة وحصل هو وجيشه فيها فسمع بذلك تاشفين فسار إليها فخرج منها عمر ونزل تاشفين بظاهر وهران على البحر في شهر رمضان سنة تسع وثلاثين فجاءت ليلة سبع وعشرين منه وهي ليلة يعظمها أهل المغرب وبظاهر وهران ربوة مطلة على البحر وبأعلاها ثنية يجتمع فيها المتعبدون وهو موضع معظم عندهم فسار إليه تاشفين في نفر يسير من أصحابه متخفيًا لم يعلم به إلا النفر الذين معه وقصد التبرك بحضور ذلك الموضع مع أولئك الجماعة الصالحين فبلغ الخبر إلى عمر بن يحيى الهنتاتي فسار لوقته بجميع عسكره إلى ذلك المتعبد وأحاطوا به وملكوا الربوة فلما خاف تاشفين على نفسه أن يأخذوه ركب فرسه وحمل عليه إلى جهة البحر فسقط من جرف عال على الحجارة فهلك ورفعت جثته على وقيل إن تاشفين قصد حصنًا هناك على رابية وله فيه بستان كبير فيه من كل الثمار فاتفق أن عمر الهنتاتي مقدم عسكر عبد المؤمن سير سرية إلى ذلك الحصن يعلمهم بضعف من فيه ولم يعلموا أن تاشفين فيه فألقوا النار في بابه فاحترق فأراد تاشفين الهرب فركب فرسه فوثب الفرس من داخل الحصن إلى خارج السور فسقط في النار فأخذ تاشفين فاعترف فأرادوا حمله إلى عبد المؤمن فمات في الحال لأن رقبته كانت قد اندقت فصلب وقتل كل من معه وتفرق عسكره ولم يعد لهم جماعة‏.‏

وملك بعده أخوه إسحاق بن علي بن يوسف‏.‏

ولما قتل تاشفين أرسل عمر إلى عبد المؤمن بالخبر فجاء من تاجَرة في يومه بجميع عسكره وتفرق عسكر أمير المسلمين واحتمى بعضهم بمدينة وهران فلما وصل عبد المؤمن دخلها بالسيف وقتل فيها ما لا يحصى‏.‏

ثم سار إلى تلمسان وهما مدينتان بينهما شوط فرس إحداهما تاهرت وبها عسكر المسلمين والأخرى أقادير وهي بناء قديم فامتنعت أقادير وغلقت أبوابها وتأهب أهلها للقتال‏.‏

وأما تاهرت فكان فيها يحيى بن الصحراوية فهرب منها بعسكره إلى مدينة فاس وجاء عبد المؤمن إليها فدخلها لما فر منها العسكر ولقيه أهلها بالخضوع والاستكانة فلم يقبل منهم ذلك وقتل أكثرهم ودخلها عسكره ورتب أمرها ورحل عنها وجعل على أقادير جيشًا يحصرها وسار إلى مدينة فاس سنة أربعين فنزل على جبل مطل عليها وحصرها تسعة أشهر وفيها يحيى بن الصحراوية وعسكره الذين فروا من تلمسان فلما طال مقام عبد المؤمن عمد إلى نهر يدخل البلد فسكره بالأخشاب والتراب وغير ذلك فمنعه من دخول البلد وصار بحيرة تسير فيها السفن ثم هدم السكر فجاء الماء دفعة واحدة فخرب سور البلد وكل ما يجاور النهر من البلد وأراد عبد المؤمن أن يدخل البلد فقاتله أهله خارج السور فتعذر عليه ما قدره من دخوله‏.‏

وكان بفاس عبد الله بن خيار الجياني عاملًا عليها وعلى جميع أعمالها فاتفق هو وجماعة من أعيان البلد وكاتبوا عبد المؤمن في طلب الأمان لأهل فاس فأجابهم إليه ففتحوا له بابًا من أبوبها فدخلها عسكره وهرب يحيى بن الصحراوية وكان فتحها آخر سنة أربعين وخمسمائة وسار إلى طنجة ورتب عبد المؤمن أمر مدينة فاس وأمر فنودي في أهلها‏:‏ من ترك عنده سلاحًا وعدة قتال حل دمه فحمل كل من في البلد ما عندهم من سلاح إليه فأخذه منهم‏.‏

ثم رجع إلى مكناسة ففعل بأهلها مثل ذلك وقتل من بها من الفرسان والأجناد‏.‏

وأما العسكر الذي كان على تلمسان فإنهم قاتلوا أهلها ونصبوا المجانيق وأبراج الخشب وزحفوا بالدبابات وكان المقدم على أهلها الفقيه عثمان فدام الحصار نحو سنة فلما اشتد الأمر على أهل البلد اجتمع جماعة منهم وراسلوا الموحدين أصحاب عبد المؤمن بغير علم الفقيه عثمان وأدخلوهم البلد فلم يشعر أهله إلا والسيف يأخذهم فقتل أكثر أهله وسبيت الذرية والحريم ونهب من الأموال ما لا يحصى ومن الجوهر ما لا تحد قيمته ومن لم يقتل بيع بأوكس الأثمان وكان عدة القتلى مائة ألف قتيل وقيل‏:‏ إن عبد المؤمن هو الذي حصر تلمسان وسار منها إلى فاس والله أعلم‏.‏

وسير عبد المؤمن سرية إلى مكناسة فحصروها مدة ثم سلمها إليهم أهلها بالأمان فوفوا لهم‏.‏

وسار عبد المؤمن من فاس إلى مدينة سلا ففتحها وحضر عنده جماعة من أعيان سبتة فدخلوا في طاعته فأجابهم إلى بذل الأمان وكان ذلك سنة إحدى وأربعين‏.‏

ذكر ملك عبد المؤمن مدينة مراكش


لما فرغ عبد المؤمن من فاس وتلك النواحي سار إلى مراكش وهي كرسي مملكة الملثمين وهي من أكبر المدن وأعظمها وكان صاحبها حينئذ إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين وهو صبي فنازلها وكان نزوله عليها سنة إحدى وأربعين فضرب خيامه في غربيها على جبل صغير وبنى عليه مدينة له ولعسكره وبنى بها جامعًا وبنى له بناء عاليًا يشرف منه على المدينة ويرى أحوال أهلها وأحوال المقاتلين من أصحابه وقاتلها قتالًا كثيرًا وأقام عليها أحد عشر شهرًا فكان من بها من المرابطين يخرجون يقاتلونهم بظاهر البلد واشتد الجوع على أهله وتعذرت الأقوات عندهم‏.‏

ثم زحف إليهم يومًا وجعل لهم كمينًا وقال لهم‏:‏ إذا سمعتم صوت الطبل فاخرجوا وجلس هو بأعلى المنظرة التي بناها يشاهد القتال وتقدم عسكره وقاتلوا وصبروا ثم إنهم انهزموا لأهل مراكش ليتبعوهم إلى الكمين الذي لهم فتبعهم الملثمون إلى أن وصلوا إلى مدينة عبد المؤمن فهدموا أكثر سورها وصاحت المصامدة بعبد المؤمن ليأمر بضرب الطبل ليخرج الكمين فقال لهم‏:‏ اصبروا حتى يخرج كل طامع في البلد فلما خرج أكثر أهله أمر بالطبل فضرب وخرج الكمين عليهم ورجع المصامدة المنهزمون إلى الملثمين فقتلوهم كيف شاءوا وعادت الهزيمة على الملثمين فمات في زحمة الأبواب ما لا يحصيه إلا الله سبحانه‏.‏

وكان شيوخ الملثمين يدبرون دولة إسحاق بن علي بن يوسف لصغر سنة فاتفق أن إنسانًا من جملتهم يقال له عبد الله بن أبي بكر خرج إلى عبد المؤمن مستأمنًا وأطلعه على عوراتهم وضعفهم فقوي الطمع فيهم واشتد عليهم البلاء ونصب عليهم المنجنيقات والأبراج وفنيت أقواتهم وأكلوا دوابهم ومات من العامة بالجوع ما يزيد على مائة ألف إنسان فأنتن البلد من

وكان بمراكش جيش من الفرنج كان المرابطون قد استنجدوا بهم فجاءوا إليهم نجدة فلما طال عليهم الأمر راسلوا عبد المؤمن يسألون الأمان فأجابهم إليه ففتحوا له بابًا من أبواب البلد يقال له باب أغمات فدخلت عساكره بالسيف وملكوا المدينة عنوة وقتلوا من وجدوا ووصلوا إلى دار أمير المسلمين فأخرجوا الأمير إسحاق وجميع من معه من أمراء المرابطين فقتلوا وجعل إسحاق يرتعد رغبة في البقاء ويدعو لعبد المؤمن ويبكي فقام إليه الأمير سير بن الحاج وكان إلى جانبه مكتوفًا فبزق في وجهه وقال‏:‏ تبكي على أبيك وأمك اصبر صبر الرجال فهذا رجل لا يخاف الله ولا يدين بدين‏.‏

فقام الموحدون إليه بالخشب فضربوه حتى قتلوه وكان من الشجعان المعروفين بالشجاعة وقدم إسحاق على صغر سنه فضربت عنقه سنة اثنتين وأربعين وآخر ملوك المرابطين وبه انقرضت دولتهم وكانت مدة ملكهم سبعين سنة وولي منهم أربعة‏:‏ يوسف وعلي وتاشفين وإسحاق‏.‏

ولما فتح عبد المؤمن مراكش أقام بها واستوطنها واستقر ملكه‏.‏

ولما قتل عبد المؤمن من أهل مراكش فأكثر فيهم القتل اختفى كثير من أهلها فلما كان بعد سبعة أيام أمر فنودي بأمان من بقي من أهلها فخرجوا فأراد أصحابه المصامدة قتلهم فمنعهم وقال‏:‏ هؤلاء صناع وأهل الأسواق من ننتفع به فتركوا وأمر بإخراج القتلى من البلد فأخرجوهم وبنى بالقصر جامعًا ولقد أساء يوسف بن تاشفين في فعله بالمعتمد بن عباد وارتكب بسجنه على الحالة المذكورة أقبح مركب فلا جرم سلط الله عليه في عقابه من أربى في الأخذ عليه وزاد فتبارك الحي الدائم الملك الذي لا يزول ملكه وهذه سنة الدنيا فأف لها ثم أف نسأل الله أن يختم أعمالنا بالحسنى ويجعل خير أيامنا يوم نلقاه بمحمد وآله‏.‏

ذكر ظفر عبد المؤمن بدكالة

في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة سار بعض المرابطين من الملثمين إلى دكالة فاجتمع إليه قبائلها وصاروا يغيرون على أعمال مراكش وعبد المؤمن لا يلتفت إليهم فلما كثر ذلك منهم سار إليهم سنة أربع وأربعين فلما سمعت دكالة بذلك انحشروا كلهم إلى ساحل البحر في مائتي ألف راجل وعشرين ألف فارس وكانوا موصوفين بالشجاعة‏.‏

وكان مع عبد المؤمن من الجيوش ما يخرج عن الحصر وكان الموضع الذي فيه دكالة كثير الحجر والحزونة فكمنوا فيه كمناء ليخرجوا على عبد المؤمن إذا سلكه فمن الاتفاق الحسن له أنه قصدهم من غير الجهة التي فيها الكمناء فانحل عليهم ما قدروه وفارقوا ذلك الموضع فأخذهم السيف فدخلوا البحر فقتل أكثرهم وغنمت إبلهم وأغنامهم وأموالهم وسبيت نساؤهم وذراريهم فبيعت الجارية الحسناء بدراهم يسيرة وعاد عبد المؤمن إلى مراكش مظفرًا منصورًا وثبت ملكه وخافه الناس في جميع المغرب وأذعنوا له بالطاعة‏.‏

ذكر حصر مدينة كتندة

في هذه السنة يعني سنة أربع عشرة وخمسمائة وخرج ملك من ملوك الفرنج بالأندلس يقال له ابن ردمير فسار حتى انتهى إلى كتندة وهي بالقرب من مرسية في شرق الأندلس فحصرها وضيق على أهلها وكان أمير المسلمين علي بن يوسف حينئذ بقرطبة ومعه جيش كثير من المسلمين والأجناد المتطوعة فسيرهم إلى ابن ردمير فالتقوا واقتتلوا أشد القتال وهزمهم ابن أردمير هزيمة منكرة وكثر القتل في المسلمين وكان فيمن قتل أبو عبد الله بن الفراء قاضي المرية وكان من العلماء العاملين والزهاد في الدنيا العادلين في القضاء‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة كسر بلك بن أرتق عفراس الرومي وقتل من الروم خمسة آلاف رجل على قلعة سرمان من بلد الدكان وأسر عفراس وكثير من عسكره‏.‏

وفيها أغار جوسلين الفرنجي صاحب الرها على جيوش العرب والتركمان وكانوا نازلين وفيها تسلم أتابك طغتكين صاحب دمشق مدينة تدمر والشقيف‏.‏

وفيها أمر السلطان محمود الأمير جيوش بك بالمسير إلى حرب أخيه طغرل فسار إليه فسمع طغرل وأتابكه كنتغدي ذلك فسارا إلى كنجة من بين يدي العسكر ولم يجر قتال‏.‏

وفيها في المحرم توفي خالصة الدولة أبو البركات أحمد بن عبد الوهاب بن السيبي صاحب المخزن ببغداد وولي مكانه الكمال أبو الفتوح حمزة بن طلحة المعروف بابن البقشلام والد علم الدين الكاتب المعروف‏.‏

وفي جمادى الأولى منها توفي أبو سعد عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوزان القشيري الإمام ابن الإمام وكان أخذ العلم من قرابته والطريقة أيضًا ثم استفاد أيضًا من إمام الحرمين أبي المعالي الجويني وسمع الحديث من جماعة ورواه وكان حسن الوعظ سريع الخاطر ولما توفي جلس الناس في البلاد البعيدة للعزاء به حتى في بغداد برباط شيخ الشيوخ‏.‏

ثم دخلت سنة خمس عشرة وخمسمائة

ذكر إقطاع البرسقي الموصل

في هذه السنة في صفر أقطع السلطان محمود مدينة الموصل وأعمالها وما ينضاف إليها

وسبب ذلك‏:‏ أنه كان في خدمة السلطان محمود ناصحًا له ملازمًا له في حروبه كلها وكان له الأثر الحسن في الحرب المذكورة بين السلطان محمود وأخيه الملك مسعود وهو الذي أحضر الملك مسعودًا عند أخيه السلطان محمود فعظم ذلك عند السلطان محمود ولما حضر جيوش بك عند السلطان محمود وبقيت الموصل بغير أمير ولي عليها البرسقي وتقدم إلى سائر الأمراء بطاعته وأمره بمجاهدة الفرنج وأخذ البلاد منهم فسار إليها في عسكر كثير وملكها وأقام بطاعته وأمره بمجاهدة الفرنج وأخذ البلاد منهم فسار إليها في عسكر كثير وملكها وأقام يدبر أمورها ويصلح أحوالها‏.‏

ذكر وفاة الأمير علي وولاية ابنه الحسن إفريقية

في هذه السنة توفي الأمير علي بن يحيى بن تميم صاحب إفريقية في العشر الأخير من ربيع الآخر وكان مولده بالمهدية وقد تقدم من حروبه وأعماله ما يستدل به على علو همته ولما توفي ولي الملك بعده ابنه الحسن بعهد أبيه وقام بأمر دولته صندل الخصي لأنه كان عمره حينئذ اثنتي عشرة سنة لا يستقل بتدبير الملك فقام صندل في الحفظ والاحتياط فلم تطل أيامه حتى توفي فوقع الاختلاف بين أصحابه وقواده كل منهم يقول‏:‏ أنا المقدم على الجميع وبيدي

الحل والشد فلم يزالوا كذلك إلى أن فوض أمور دولته إلى قائد من أصحاب أبيه يقال له أبو عزيز موفق فصلحت الأمور‏.‏

ذكر قتل أمير الجيوش

في هذه السنة في الثالث والعشرين من رمضان قتل أمير الجيوش الأفضل بن بدر الجمالي وهو صاحب الأمر والحكم بمصر وكان ركب إلى خزانة السلاح ليفرقه على الأجناد على جاري العادة في الأعياد فسار معه عالم كثير من الرجالة والخيالة فتأذى بالغبار فأمر بالبعد عنه وسار منفردًا معه رجلان فصادفه رجلان بسوق الصياقلة فضرباه بالسكاكين فجرحاه وجاء الثالث من ورائه فضربه بسكين في خاصرته فسقط عن دابته ورجع أصحابه فقتلوا الثلاثة وحملوه إلى دار الأفضل فدخل عليه الخليفة وتوجع له وسأله عن الأموال فقال‏:‏ أما الظاهر منها فأبو الحسن بن أسامة الكاتب يعرفه وكان من أهل حلب وتولى أبوه قضاء القاهرة وأما الباطن فابن البطائحي يعرفه فقالا‏:‏ صدق‏.‏

فلما توفي الأفضل نقل من أمواله ما لا يعلمه إلا الله تعالى وبقي الخليفة في داره نحو أربعين يومًا والكتاب بين يديه والدواب تحمل وتنقل ليلًا ونهارًا ووجد له من الأعلاق النفيسة والأشياء الغريبة القليلة الوجود ما لا يوجد مثله لغيره واعتقل أولاده وكان عمره سبعًا وخمسين سنة وكانت ولايته بعد أبيه ثمانيًا وعشرين سنة منها‏:‏ آخر أيام المستنصر وجميع أيام المستعلي إلى هذه السنة من أيام الآمر‏.‏

وكان الإسماعيلية يكرهونه لأسباب منها‏:‏ تضييقه على إمامهم وتركه ما يجب عندهم سلوكه معهم ومنها ترك معارضة أهل السنة في اعتقدهم والنهي عن معارضتهم وإذنه للناس في إظهار معتقداتهم والمناظرة عليها فكثر الغرباء ببلاد مصر‏.‏

وكان حسن السيرة عادلًا حكي أنه لما قتل وظهر الظلم بعده اجتمع جماعة واستغاثوا بالخليفة وكان من جملة قولهم‏:‏ إنهم لعنوا الأفضل فسألهم عن سبب لعنهم إياه فقالوا‏:‏ إنه عدل وأحسن السيرة ففارقنا بلادنا وأوطاننا وقصدنا بلده لعدله فقد أصابنا بعده هذا الظلم فهو كان سبب ظلمنا‏.‏

فأحسن الخليفة إليهم وأمر بالإحسان إلى الناس‏.‏

ومنها أن صاحبه الآمر بأحكام الله صاحب مصر وضع منه وسبب ذلك ما ذكرناه قبل ففسد الأمر بينهما فأراد الآمر أن يضع عليه من يقتله إذا دخل عليه قصره للسلام أو في أيام الأعياد فمنعه من ذلك ابن عمه أبو الميمون عبد المجيد وهو الذي ولي الأمر بعده بمصر وقال له‏:‏ في هذا الفعل شناعة وسوء سمعة لأنه قد خدم دولتنا هو وأبوه خمسين سنة ولم يعلم الناس منهما إلا النصح لنا والمحبة لدولتنا وقد سار ذلك في أقطار البلاد فلا يجوز أن يظهر منا هذه المكافأة الشنيعة ومع هذا فلا بد وأن نقيم غيره مكانه ونعتمد عليه في منصبه متمكن مثله وأو ما يقاربه فيخاف أن نفعل به مثل فعلنا بهذا فيحذر من الدخول إلينا خوفًا على نفسه وإن دخل علينا كان خائفًا مستعدًا للامتناع وفي هذا الفعل منهم ما يسقط المنزلة والرأي أن تراسل أبا عبد الله البطائحي فإنه الغالب على أمر الأفضل والمطلع على سره وتعده أن توليه منصبه وتطلب منه أن يدبر الأمر في قتله لمن يقاتله إذا ركب فإذا ظفرنا بمن قتله قتلناه وأظهرنا الطلب بدمه والحزن عليه فنبلغ غرضنا ويزول عنا قبح الأحدوثة‏.‏

ففعلوا ذلك فقتل كما ذكرناه‏.‏

ولما قتل ولي بعده أبو عبد الله بن البطائحي الأمر ولقب المأمون وتحكم في الدولة فبقي كذلك حاكمًا في البلاد إلى سنة تسع عشرة فصلب كما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر عصيان سليمان بن إيلغازي على أبيه

في هذه السنة عصى سليمان بن إيلغازي بن أرتق على أبيه بحلب وقد جاوز عمره عشرين سنة حمله على ذلك جماعة من عنده فسمع والده الخبر فسار مجدًا لوقته فلم يشعر به سليمان حتى هجم عليه فخرج إليه معتذرًا فأمسك عنه وقبض على من كان أشار عليه بذلك منهم‏:‏ أمير كان قد التقطه أرتق والد إيلغازي ورباه اسمه ناصر فقلع عينيه وقطع لسانه ومنهم‏:‏ إنسان من أهل حماة من بيت قرناص كان قد قدمه إيلغازي على أهل حلب وجعل إليه الرئاسة فجزاه بذلك وقطع يديه ورجليه وسمل عينيه فمات‏.‏

وأحضر ولده وهو سكران فأراد قتله فمنعه رقة الوالد فاستبقاه فهرب إلى دمشق فأرسل طغتكين يشفع فيه فلم يجبه إلى ذلك واستناب بحلب سليمان ابن أخيه عبد الجبار بن أرتق ولقبه بدر الدولة وعاد إلى ماردين‏.‏

ذكر إقطاع ميافارقين إيلغازي

في هذه السنة أقطع السلطان محمود مدينة ميافارقين للأمير إيلغازي‏.‏

وسبب ذلك أنه أرسل ولده حسام الدين تمرتاش وعمره سبع عشرة سنة إلى السلطان ليشفع في دبيس بن صدقة ويبذل عنه الطاعة وحمل الأموال والخيل وغيرها وأن يضمن الحلة كل يوم بألف دينار وفرس وكان المتحدث عنه القاضي بهاء الدين أبو الحسن علي بن القاسم بن الشهرزوري فتردد الخطاب في ذلك ولم ينفصل حال فلما أراد العود أقطع السلطان أباه مدينة

ميافارقين وكانت مع الأمير سكمان صاحب خلاط فتسلمها إيلغازي وبقيت في يده ويد أولاده إلى أن ملكها صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة ثمانين وخمسمائة وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر حصر بلك بن بهرام الرها وأسر صاحبها

في هذه السنة سار بلك بن بهرام ولد أخي إيلغازي إلى مدينة الرها فحصرها وبها الفرنج وبقي على حصرها مدة فلم يظفر بها فرحل عنها فجاءه إنسان تركماني وأعلمه أن جوسلين صاحب الرها وسروج قد جمع من عنده من الفرنج وهو عازم على كبسه وكان قد تفرق عن بلك أصحابه وبقي في أربعمائة فارس فوقف مستعدًا لقتالهم‏.‏

وأقبل الفرنج فمن لطف الله تعالى بالمسلمين أن الفرنج وصلوا إلى أرض قد نضب عنها الماء فصارت وحلًا غاصت خيولهم فيه فلم تتمكن مع ثقل السلاح والفرسان من الإسراع والجري فرماهم أصحاب بلك بالنشاب فلم يفلت منهم أحد وأسر جوسلين وجعل في جلد جمل وخيط عليه وطلب منه أن يسلم الرها فلم يفعل وبذل في فداء نفسه أموالًا جزيلة وأسرى كثيرة فلم يجبه إلى ذلك وحمله إلى قلعة خرتبرت فسجنه بها وأسر معه ابن خالته واسمه كليام وكان من شياطين الكفار وأسر أيضًا جماعة من فرسانه المشهورين فسجنهم معه‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة توفيت جدة السلطان محمود لأبيه والدة السلطان سنجر وكانت تركية تعرف بخاتون السفرية وكان موتها بمرو فجلس محمود ببغداد للعزاء بها وكان عزاء لم يشاهد مثله الناس‏.‏

وفيها توفي الخطير محمد بن الحسين الميبذي ببلاد فارس وهو في وزارة الملك سلجوق ابن السلطان محمد وكان قديمًا وزر للسلطانين بركيارق ومحمد وكان جوادًا حليمًا سمع أن الأبيوردي هجاه فلما سمع الهجو مضه فعض على إبهامه وصفح عنه وخلع عليه ووصله‏.‏

وفيها توفي الشهاب أبو المحاسن عبد الرزاق بن عبد الله وزير السلطان سنجر وهو ابن أخي نظام الملك وكان يتفقه قديمًا على إمام الحرمين الجويني فكان يفتي ويوقع ووزر بعده أبو طاهر سعد بن علي بن عيسى القمي وتوفي بعد شهور فوزر بعده عثمان القمي‏.‏

وفيها في جمادى الأولى أوقع أتابك طغتكين بطائفة من الفرنج فقتل منهم وأسر وأرسل وفيها تضعضع الركن اليماني من البيت الحرام زاده الله شرفًا من زلزلة وانهدم بعضه وتشعث بعض حرم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتشعث غيرها من البلاد وكان بالموصل كثير منها‏.‏

وفيها احترقت دار السلطان كان قد بناها مجاهد الدين بهروز للسلطان محمد ففرغت قبل وفاته بيسير فلما كان الآن احترقت‏.‏

وسبب الحريق أن جارية كانت تختضب ليلًا فأسندت شمعة إلى الخيش فاحترق وعلقت النار منه في الدار واحترق فيها من زوجة السلطان محمود بنت السلطان سنجر ما لا حد له من الجواهر والحلى والفرش والثياب وأقيم الغسالون يخلصون الذهب وما أمكن تخليصه وكان الجوهر جميعه قد هلك إلا الياقوت الأحمر‏.‏

وترك السلطان الدار لم تجدد عمارتها وتطير منها لأن أباه لم يتمتع بها ثم احترق فيها من أموالهم الشيء العظيم واحترق قبلها بأسبوع جامع أصبهان وهو من أعظم الجوامع وأحسنها وأحرقه قوم من الباطنية ليلًا وكان السلطان قد عزم على أخذ حق البيع وتجديد المكوس بالعراق بإشارة الوزير السميرمي عليه بذلك فتجدد من هذين الحريقين ما هاله واتعظ فأعرض عنه‏.‏

وفيها في ربيع الآخر انقض كوكب عشاء وصار له نور عظيم وتفرق منه أعمدة عند انقضاضه وسمع عند ذلك صوت هدة عظيمة كالزلزلة‏.‏

وفيها ظهر بمكة إنسان علوي وأمر بالمعروف فكثر جمعه ونازع أمير مكة ابن أبي هاشم وقوي أمره وعزم على أن يخطب لنفسه فعاد بان أبي هاشم وظفر به ونفاه عن الحجاز إلى البحرين وكان هذا العلوي من فقهاء النظامية ببغداد‏.‏

وفيها ألزم السلطان أهل الذمة ببغداد بالغيار فجرى فيه مراجعات انتهت إلى أن قرر عليهم للسلطان عشرون ألف دينار وللخليفة أربعة آلاف دينار‏.‏

وفيها حضر السلطان محمود وأخوه الملك مسعود عند الخليفة فخلع عليهما وعلى جماعة من أصحاب السلطان منهم‏:‏ وزيره أبو طالب السميرمي وشمس الملك عثمان بن نظام الملك والوزير أبو نصر أحمد بن محمد بن حامد المستوفي وعلى غيرهم من الأمراء‏.‏

وفيها في ذي القعدة وهو الحادي والعشرون من كانون الثاني سقط بالعراق جميعه من البصرة إلى تكريت ثلج كبير وبقي على الأرض خمسة عشر يومًا وسمكه ذراع وهلكت أشجار النارنج والأترج والليمون فقال فيه بعض الشعراء‏:‏ يا صدور الزمان ليس بوفر ما رأيناه في نواحي العراق وفيها هبت بمصر ريح سوداء ثلاثة أيام فأهلكت كثيرًا من الناس وغيرهم من الحيوانات‏.‏

وفيها توفي أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري صاحب المقامات المشهورة وهزارسب بن عوض الهروي وكان قد سمع الحديث كثيرًا‏.‏

ثم دخلت سنة ست عشرة وخمسمائة

ذكر طاعة الملك طغرل لأخيه محمود

وفي المحرم من هذه السنة أطاع الملك طغرل أخاه السلطان محمودًا وكان قد خرج عن طاعته كما ذكرناه وقصد أذربيجان في السنة الخالية ليتغلب عليها وكان أتابكه كنتغدي يحسن له ذلك ويقويه عليه فاتفق أنه مرض وتوفي في شوال سنة خمس عشرة‏.‏

وكان الأمير آقسنقر الأحمديلي صاحب مراغة عند السلطان محمود ببغداد فاستأذنه في المضي إلى إقطاعه فأذن له فلما سار عن السلطان ظن أنه يقوم مقام كنتغدي من الملك طغرل فسار إليه واجتمع به وأشار عليه بالمكاشفة لأخيه السلطان محمود وقال له‏:‏ إذا وصلت إلى مراغة اتصل كب عشرة آلاف فارس وراجل‏.‏

فسار معه فلما وصلوا إلى أردبيل أغلقت أبوابها دونهم فساروا عنها إلى قريب تبريز فأتاهم الخبر أن السلطان محمودًا سير الأمير جيوش بك إلى فلما تيقنوا ذلك عدلوا إلى خونج وانتفض عليهم ما كانوا فيه وراسلوا الأمير شيركير الذي كان أتابك طغرل أيام أبيه يدعونه إلى إنجادهم وقد كان كنتغدي قبض عليه بعد موت السلطان محمد على ما ذكرناه ثم أطلقه السلطان سنجر فعاد إلى إقطاعه أبهر وزنجان وكاتبوه فأجابهم واتصل بهم وسار معهم إلى أبهر فلم يتم لهم ما أرادوا فراسلوا السلطان بالطاعة فأجابهم إلى ذلك فاستقرت القاعدة أول هذه السنة وتمت‏.‏

ذكر حال دبيس بن صدقة وما كان منه

قد ذكرنا سنة أربع عشرة حال دبيس بن صدقة وصلحه على يد يرنقش الزكوي ومقامه بالحلة وعود يرنقش إلى السلطان ومعه منصور بن صدقة أخو دبيس وولده رهينة فلما علم الخليفة بذلك لم يرض به وراسل السلطان محمودًا في إبعاد دبيس عن العراق إلى بعض النواحي‏.‏

وتردد الخطاب في ذلك وعزم السلطان على المسير إلى همذان فأعاد الخليفة الشكوى من دبيس و ذكر أنه يطالب الناس بحقوده منها قتل أبيه وأشار أن يحضر السلطان آقسنقر البرسقي من الموصل ويوليه شحنكية بغداد والعراق ويجعله في وجه دبيس ففعل السلطان ذلك وأحضر البرسقي فلما وصل إليه زوجه والدة الملك مسعود وجعله شحنة بغداد وأمره وسار السلطان عن بغداد في صفر من هذه السنة وكان مقامه ببغداد سنة وسبعة أشهر وخمسة عشر يومًا فلما فارق بغداد والعراق تظاهر دبيس بأمور تأثر بها المسترشد بالله وتقدم إلى البرسقي بالمسير إليه وإزعاجه عن الحلة فأرسل البرسقي إلى الموصل وأحضر عساكره وسار إلى الحلة وأقبل دبيس نحوه فالتقوا عند نهر بشير شرقي الفرات واقتتلوا فانهزم عسكر البرسقي‏.‏

وكان سبب الهزيمة أنه رأى في مسيرته خللًا وبها الأمراء البكجية فأمر بإلقاء خيمته وأن تنصب عند الميسرة ليقوي قلوب من بها فلما رأوا الخيمة وقد سقطت ظنوها عن هزيمة فانهزموا وتبعهم الناس والبرسقي‏.‏

وقيل‏:‏ بل أعطي رقعة فيها‏:‏ إن جماعة من الأمراء منهم إسماعيل البكجي يريدون الفتك به فانهزم وتبعه العسكر ودخل بغداد ثاني ربيع الآخر وكان في جملة العسكر نصر بن النفيس بن مهذب الدولة أحمد بن أبي الجبر وكان ناظرًا بالبطيحة لريحان محكويه خادم السلطان لأنها كانت من جملة إقطاعه وحضر أيضًا المظفر بن حماد بن أبي الجبر وبينهما عداوة شديدة فالتقيا عند الانهزام بساباط نهر ملك فقتله المظفر ومضى إلى واسط وسار منها إلى البطيحة وتغلب عليها وكاتب دبيسًا وأطاعه‏.‏

وأما دبيس فإنه لم يعرض لنهر ملك ولا غيره وأرسل إلى الخليفة أنه على الطاعة ولولا ذلك لأخذ البرسقي وجميع من معه وسأل أن يخرج الناظر إلى القرى التي لخاص الخليفة لقبض دخلها‏.‏

وكانت الوقعة في حزيران وحمى البلد فأحمد الخليفة فعله وترددت الرسل بينهما فاستقرت القاعدة أن يقبض المسترشد بالله على وزيره جلال الدين أبي علي بن صدقة ليعود إلى الطاعة فقبض على الوزير ونهبت داره ودور أصحابه والمنتمين إليه وهرب ابن أخيه جلال الدين أبو الرضا إلى الموصل‏.‏

ولما سمع السلطان خبر الوقعة قبض على منصور بن صدقة أخي دبيس وولده ورفعهما إلى قلعة برحين وهي تجاور كرج‏.‏

ثم إن دبيسًا أمر جماعة من أصحابه بالمسير إلى أقطاعهم بواسط فساروا إليها فمنعهم أتراك واسط فجهز دبيس إليهم عسكرًا مقدمهم مهلهل ابن أبي العسكر وأرسل إلى المظفر بن أبي الجبر بالبطيحة ليتفق مع مهلهل ويساعده على قتال الواسطيين فاتفقا على أن تكون الوقعة تاسع رجب وأرسل الواسطيون إلى البرسقي يطلبون منه المدد فأمدهم بجيش من عنده وعجل مهلهل في عسكره دبيس ولم ينتظر المظفر ظنًا منه أنه بمفرده ينال منهم ما أراد وينفرد بالفتح فالتقى هو والواسطيون ثامن رجب فانهزم مهلهل وعسكره وظفر الواسطيون وأخذ مهلهل أسيرًا وجماعة من أعيان العسكر وقتل ما يزيد على ألف قتيل ولم يقتل من الواسطيين غير رجل واحد‏.‏

وأما المظفر بن أبي الجبر فإنه أصعد من البطيحة ونهب وأفسد وجرى من أصحابه القبيح فلما قارب واسطًا سمع بالهزيمة فعاد منحدرًا‏.‏

وكان في جملة ما أخذ العسكر الواسطي من مهلهل تذكرة بخط دبيس يأمره فيها بقبض المظفر بن أبي الجبر ومطالبته بأموال كثيرة أخذها من البطيحة فأرسلوا الخط إلى المظفر وقالوا‏:‏ هذا خط الذي تختاره وقد أسخطت الله تعالى والخلق كلهم لأجله فمال إليهم وصار معهم فلما جرى على أصحاب دبيس من الواسطيين ما ذكرناه شمر عن ساعده في الشر وبلغه أن السلطان كحل أخاه فجز شعره ولبس السواد ونهب البلاد وأخذ كل ما للخليفة بنهر الملك فأجلى الناس إلى بغداد‏.‏

وسار عسكر واسط إلى النعمانية فأجلوا عنها عسكر دبيس واستولوا عليها وجرى بينهم هناك وقعة كان الظفر فيها للواسطيين وتقدم الخليفة إلى البرسقي بالتبريز إلى حرب دبيس فبرز في رمضان وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

و في هذه السنة قتل الوزير الكمال أبو طالب السميرمي وزير السلطان محمود سلخ صفر وكان قد برز مع السلطان ليسير إلى همذان فدخل إلى الحمام وخرج بين يديه الرجالة والخيالة وهو في موكب عظيم فاجتاز بسوق المدرسة التي بناها خمارتكين التتشي واجتاز في منفذ ضيق فيه حظائر الشوك فتقدم أصحابه لضيق الموضع فوثب عليه باطني وضربه بسكين فوقعت في البغلة وهرب إلى دجلة وتبعه الغلمان فخلا الموضع فظهر رجل آخر فضربه بسكين في خاصرته وجذبه عن البغلة إلى الأرض وضربه عدة ضربات‏.‏

وعاد أصحاب الوزير فحمل عليهم رجلان باطنيان فانهزموا منهما ثم عادوا وقد ذبح الوزير مثل الشاة فحمل قتيلًا وبه نيف وثلاثون جراحة وقتل قاتلوه‏.‏

ولما كان في الحمام كان المنجمون يأخذون له الطالع ليخرج فقالوا‏:‏ هذا وقت جيد وإن تأخرت يفت طالع السعد فأسرج وركب وأراد أن يأكل طعامًا فمنعوه لأجل الطالع فقتل ولم ينفعه قولهم‏.‏

وكانت وزارته ثلاث سنين وعشرة أشهر وانتهب ماله وأخذ السلطان خزانته ووزر بعده شمس الملك بن نظام الملك وكانت زوجة السميرمي قد خرجت هذا اليوم في موكب كبير معها نحو مائة جارية وجمع من الخدم والجميع بمراكب الذهب فلما سمعن بقتله عدن حافيات وكان السميرمي ظالمًا كثير المصادرة للناس سيء السيرة فلما قتل أطلق السلطان ما كان جدده من المكوس وما وضعه على التجار والباعة‏.‏

ذكر القبض على ابن صدقة وزير الخليفة ونيابة علي بن طراد

في جمادى الأولى قبض الخليفة على وزيره جلال الدين بن صدقة وقد تقدم ذكره قبل وأقيم نقيب النقباء شرف الدين علي بن طراد الزينبي في نيابة الوزارة فأرسل السلطان إلى المسترشد بالله في معنى وزارة نظام الملك أبي نصر أحمد بن نظام الملك وكان أخو شمس الملك عثمان بن نظام الملك وزير السلطان محمود فأجيب إلى ذلك واستوزر في شعبان‏.‏

وكان قد وزر للسلطان محمد سنة خمسمائة ثم عزل ولزم دارًا استجدها ببغداد إلى الآن‏.‏

فلما خلع على نظام الملك وجلس في الديوان طلب أن يخرج ابن صدقة عن بغداد فلما علم ابن صدقة ذلك طلب من الخليفة أن يسير إلى حديثة عانة ليكون عند الأمير سليمان بن مهارش فأجيب إلى ما طلب‏.‏

وسار إلى الحديثة فخرج عليه في الطريق إنسان من مفسدي التركمان يقال له يونس الحرامي فأسره ونهب أصحابه فخاف الوزير أن يعلم دبيس فأرسل إلى يونس وبذل له مالًا يأخذه منه للعداوة التي بينهما فقرر أمره مع يونس على ألف دينار يعجل منها ثلاثمائة ويؤخر الباقي إلى أن يرسله من الحديثة‏.‏

وراسل عامل بلد الفرات في تخليصه وإنفاذ من يضمن الباقي الذي عليه فأعمل العامل الحيلة في ذلك فأحضر إنسانًا فلاحًا وألبسه ثيابًا فاخرة وطيلسانًا وأركبه وسير معه غلمانًا وأمره أن يمضي إلى يونس ويدعي أنه قاضي بلد الفرات ويضمن الوزير منه ما بقي من المال فسار السوادي إلى يونس فلما حضر عند الوزير ويونس احترماه وضمن السوادي الوزير منه وقال له‏:‏ أقيم عندك إلى أن يصل المال مع صاحب لك تنفذه مع الوزير فاعتقد يونس صدق ذلك وأطلق الوزير ومعه جماعة من أصحابه فلما وصل الحديثة قبض على من معه منهم فأطلق يونس ذلك السوادي والمال الذي أخذه حتى أطلق الوزير أصحابه وعلم الحيلة التي تمت عليه‏.‏

ولما سار الوزير من عند يونس لقي إنسانًا أنكره فأخذه فرأى معه كتابًا من دبيس إلى يونس يبذل ستة آلاف دينار ليسلم الوزير إليه وكان خلاصه من أعجب الأشياء‏.‏

في هذه السنة قتل الأمير جيوش بك الذي كان صاحب الموصل وقد ذكرنا خروجه على السلطان محمود وعوده إلى خدمته فلما رضي عنه أقطعه أذربيجان وجعله مقدم عسكره فجرى بينه وبين جماعة من الأمراء منافرة ومنازعات فأغروا به السلطان فقتله في رمضان على باب تبريز‏.‏

وكان تركيًا من مماليك السلطان محمد عادلًا حسن السيرة ولما ولي الموصل والجزيرة كان الأكراد بتلك الأعمال قد انتشروا وكثر فسادهم وكثرت قلاعهم والناس معهم في ضيق والطريق خائفة فقصدهم وحصر قلاعهم وفتح كثيرًا منها ببلد الهكارية وبلد الزوزان وبلد البشنوية وخافه الأكراد وتولى قصدهم بنفسه فهربوا منه في الجبال والشعاب والمضايق وأمنت الطرق وانتشر الناس واطمأنوا وبقي الأكراد لا يجسرون أن يحملوا السلاح لهيبته‏.‏

ذكر وفاة إيلغازي وأحوال حلب بعده

في هذه السنة في شهر رمضان توفي إيلغازي بن أرتق بميافارقين وملك ابنه حسام الدين تمرتاش قلعة ماردين وملك ابنه سليمان ميافارقين وكان بحلب ابن أخيه بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق فبقي بها إلى أن أخذها ابن عمه‏.‏

في هذه السنة أقطع السلطان محمود الأمير آقسنقر البرسقي مدينة واسط وأعمالها مضافًا إلى ولاية الموصل وغيرها مما بيده وشحنكية العراق فلما أقطعها البرسقي سير إليها عماد الدين زنكي بن آقسنقر الذي كان والده صاحب حلب وأمره بحمايتها فسار إليها في شعبان ووليها وقد

ذكرنا أخبار زنكي في كتاب الباهر في ذكر ملكه وملك أولاده الذين هم ملوكنا الآن فينظر منه‏.‏

وفيها ظهر معدن نحاس بديار بكر قريبًا من قلعة ذي القرنين‏.‏

وفيها زاد الفرات زيادة عظيمة لم يعهد مثلها فدخل الماء إلى ربض قلعة جعبر وكان الفرات حينئذ بالقرب منها فغرق أكثر دوره ومساكنه وحمل فرسًا من الربض وألقاه من فوق السور إلى الفرات‏.‏

وفيها بنيت مدرسة بحلب لأصحاب الشافعي‏.‏

وفيها توفيت ابنة السلطان سنجر زوج السلطان محمود‏.‏

وفيها في شعبان قدم إلى بغداد البرهان أبو الحسن علي بن الحسين الغزنوي وعقد مجلس الوعظ في جميع المواضع وورد بعده أبو القاسم علي بن يعلى العلوي ونزل رباط شيخ الشيوخ فوعظ في جامع القصر والتاجية ورباط سعادة وصار له قبول عند الحنابلة وحصل له مال وورد بعده أبو الفتوح الأسفراييني ونزل برباط شيخ الشيوخ أيضًا ووعظ في هذه المواضع وفي النظامية وأظهر مذهب الأشعري فصار له قبول كثير عند الشافعية وحضر مجلسه الخليفة المسترشد بالله وسلم إليه رباط الأرجونية والدة المقتدي بالله بدرب زاخي‏.‏

وفيها توفي عبد الله بن أحمد بن عمر أبو محمد السمرقندي أخو أبي القاسم بن السمرقندي ومولده بدمشق سنة أربع وأربعين وأربعمائة ونشأ ببغداد وسمع الصريفني وابن النقور وغيرهما وسافر الكثير وكان حافظًا للحديث عالمًا به‏.‏

وفي ذي الحجة توفي عبد القادر بن محمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف أبو طالب ومولده سنة ست وثلاثين وأربعمائة وسمع البرمكي والجوهري والعشاري وكان ثقة حافظًا للحديث‏.‏

ثم دخلت سنة سبع عشرة وخمسمائة

ذكر مسير المسترشد بالله لحرب دبيس

في هذه السنة كانت الحرب بين الخليفة المسترشد بالله وبين دبيس بن صدقة‏.‏

وكان سبب ذلك‏:‏ أن دبيسًا أطلق عفيفًا خادم الخليفة وكان مأسورًا عنده وحمله رسالة

فيها تهديد للخليفة بإرسال البرسقي إلى قتاله وتقويته بالمال وأن السلطان كحل أخاه وبالغ في الوعيد ولبس السواد وجز شعره وحلف لينهبن بغداد ويخربها فاغتاظ الخليفة لهذه الرسالة وغضب وتقدم إلى البرسقي بالتبريز إلى حرب دبيس فبرز في رمضان سنة ست عشرة‏.‏

وتجهز الخليفة وبرز من بغداد واستدعى العساكر فأتاه سليمان بن مهارش صاحب الحديثة في عقيل وأتاه قرواش بن مسلم وغيرهما وأرسل دبيس إلى نهر ملك فنهب وعمل أصحابه كل عظيم من الفساد فوصل أهله إلى بغداد فأمر الخليفة فنودي ببغداد لا يتخلف من الأجناد أحد ومن أحب الجندية من العامة فليحضر فجاء خلق كثير ففرق فيهم الأموال والسلاح‏.‏

فلما علم دبيس الحال كتب إلى الخليفة يستعطفه ويسأله الرضاء عنه فلم يجب إلى ذلك وأخرجت خيام الخليفة في العشرين من ذي الحجة من سنة ست عشرة فنادى أهل بغداد‏:‏ النفير النفير الغزاة الغزاة‏!‏ وكثر الضجيج من الناس وخرج منهم عالم كثير لا يحصون كثرة وبرز الخليفة رابع عشر ذي الحجة وعبر دجلة وعليه قباء أسود وعمامة سوداء وطرحة وعلى كتفه البردة وفي يده القضيب وفي وسطه منطقة حديد صيني ونزل الخيام ومعه وزير نظام الدين أحمد بن نظام الملك ونقيب الطالبيين ونقيب النقباء علي بن طراد وشيخ الشيوخ صدر الدين إسماعيل وغيرهم من الأعيان‏.‏

وكان البرسقي قد نزل بقرية جهار طاق ومعه عسكره فلما بلغهم خروج الخليفة عن بغداد عادوا إلى خدمته فلما رأوا الشمسة ترجلوا بأجمعهم وقبلوا الأرض بالبعد منه‏.‏

ودخلت هذه السنة فنزل الخليفة مستهل المحرم بالحديثة بنهر الملك واستدعى البرسقي والأمراء واستحلفهم على المناصحة في الحرب ثم ساروا إلى النيل ونزلوا بالمباركة وعبأ البرسقي أصحابه ووقف الخليفة من وراء الجميع في خاصته وجعل دبيس أصحابه صفًا واحدًا ميمنة وميسرة وقلبًا وجعل الرجالة بين أيدي الخيالة بالسلاح وكان قد وعد أصحابه بنهب بغداد وسبي النساء فلما تراءت الفئتان بادر أصحاب دبيس وبين أيديهم الإماء يضربن بالدفوف والمخانيث بالملاهي ولم ير في عسكر الخليفة غير قاريء ومسبح وداع فقامت الحرب على ساق‏.‏

وكان مع أعلام الخليفة الأمير كرباوي بن خراسان وفي الساقة سليمان ابن مهارش وفي ميمنة عسكر البرسقي الأمير أبو بكر بن إلياس مع الأمراء البكجية فحمل عنتر بن أبي العسكر في طائفة من عسكر دبيس على ميمنة البرسقي فتراجعت على أعقابها وقتل ابن أخ للأمير أبي

بكر البكجي وعاد عنتر وحمل حملة ثانية على هذه الميمنة فكان حالها في الرجوع على أعقابها كحالها الأول فلما رأى عسكر واسط ذلك ومقدمهم الشهيد عماد الدين زنكي بن آقسنقر حلم وهم معه على عنتر ومن معه وأتوهم من ظهورهم فبقي عنتر في الوسط وعماد الدين وعسكر واسط من ورائه والأمراء البكجية بين يديه فأسر عنتر وأسر معه بريك بن زائدة وجميع من معهما ولم يفلت أحد‏.‏

وكان البرسقي واقفًا على نشز من الأرض وكان الأمير آق بوري في الكمين في خمسمائة فارس فلما اختلط الناس خرج الكمين على عسكر دبيس فانهزموا جميعهم وألقوا نفوسهم في الماء فغرق كثير منهم وقتل كثير‏.‏

ولما رأى الخليفة اشتداد الحرب جرد سيفه وكبر وتقدم إلى الحرب فلما انهزم عسكر دبيس وحملت الأسرى إلى بين يديه أمر الخليفة أن تضرب أعناقهم صبرًا‏.‏

وكان عسكر دبيس عشرة آلاف فارس واثني عشر ألف راجل وعسكر البرسقي ثمانية آلاف فارس وخمسة آلاف راجل ولم يقتل من أصحاب الخليفة غير عشرين فارسًا وحصل نساء دبيس وسراريه تحت الأسر سوى بنت إيلغازي وبنت عميد الدولة بن جهير فإنه كان تركهما في المشهد‏.‏

وعاد الخليفة إلى بغداد فدخلها يوم عاشوراء من هذه السنة‏.‏

ولما عاد الخليفة إلى بغداد ثار العامة بها ونهبوا مشهد باب التبن وقلعوا أبوابه فأنكر الخليفة ذلك وأمر نظر أمير الحاج بالركوب إلى المشهد وتأديب من فعل ذلك وأخذ ما نهب وفعل وأعاد البعض وخفي الباقي عليه‏.‏

وأما دبيس بن صدقة فإنه لما انهزم نجا بفرسه وسلاحه وأدركته الخيل ففاتها وعبر الفرات فرأته امرأة عجوز وقد عبر فقالت له‏:‏ دبير جئت فقال‏:‏ دبير من لم يجئ‏.‏

واختفى خبره بعد ذلك وأرجف عليه بالقتل ثم ظهر أمره أنه قصد غزية من عرب نجد فطلب منهم أن يحالفوه فامتنعوا عليه وقالوا‏:‏ إنا نسخط الخليفة والسلطان فرحل إلى المنتفق واتفق معهم على قصد البصرة وأخذها فساروا إليها ودخلوها ونهبوا أهلها وقتل الأمير سخت كمان مقدم عسكرها وأجلي أهلها‏.‏

فأرسل الخليفة إلى البرسقي يعاتبه على إهماله أمر دبيس حتى تم له من أمر البصرة ما أخربها فتجهز البرسقي للانحدار إليه فسمع دبيس ذلك ففارق البصرة وسار على البر إلى قلعة جعبر والتحق بالفرنج وحضر معهم حصار حلب وأطمعهم في أخذها فلم يظفروا بها فعادوا عنها ثم فارقهم والتحق بالملك طغرل ابن السلطان محمد وأقام معه وحسن له قصد   ‏ ‏ ‏ ‏ ‏  ‏