في هذه السنة في صفر ملك الفرنج حصن الأثارب من أعمال حلب.
وسبب ذلك: أنهم كانوا قد أكثروا قصد حلب وأعمالها بالإغارة والتخريب والتحريق وكان بحلب حينئذ بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق وهو صاحبها ولم يكن له بالفرنج قوة وخافهم فهادنهم على أن يسلم الأثارب ويكفوا عن بلاده فأجابوه إلى ذلك وتسلموا الحصن وتمت الهدنة بنيهم واستقام أمر الرعية بأعمال حلب وجلبت إليهم الأقوات وغيرها ولم تزل الأثارب بأيدي الفرنج إلى أن ملكها أتابك زنكي بن آقسنقر على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك بلك حران وحلب
في هذه السنة في ربيع الأول ملك بلك بن بهرام مدينة حران وكان قد حصرها فلما ملكها سار منها إلى مدينة حلب.
وسبب مسيره إليها: أنه بلغه أن صاحبها بدر الدولة قد سلم قلعة الأثارب إلى الفرنج فعظم ذلك عليه وعلم عجزه عن حفظ بلاده فقوي طمعه في ملكها فسار إليها ونازلها في ربيع الأول وضايقها ومنع الميرة عنها وأحرق زروعها فسلم إليه ابن عمه البلد والقلعة بالأمان غرة جمادى الأولى من السنة وتزوج ابنة الملك رضوان وبقي مالكًا لها إلى أن قتل على ما نذكره.
ذكر الحرب بين الفرنج والمسلمين بإفريقية
قد ذكرنا أن الأمير علي بن يحيى صاحب إفريقية لما استوحش من رجار صاحب صقلية جدد الأسطول الذي له وكثر عَدده وعُدده وكاتب أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين بمراكش بالاجتماع معه على قصد جزيرة صقلية فلما علم رجار ذلك كف عن بعض ما كان يفعله.
فاتفق أن عليًا مات سنة خمس عشرة وولي ابنه الحسن وقد ذكرناه فلما دخلت سنة ست عشرة وخمسمائة سير أمير المسلمين أسطولًا ففتحوا نقوطرة بساحل بلاد قلورية فلم يشك رجار أن عليًا كان سبب ذلك فجد في تعمير الشواني والمراكب وحشد فأكثر ومنع من السفر إلى إفريقية وغيرها من بلاد الغرب فاجتمع له من ذلك ما لم يعهد مثله قيل: كان ثلاثمائة قطعة فلما انقطعت الطريق عن إفريقية توقع الأمير الحسن بن علي خروج العدو إلى المهدية فلما كان جمادى الآخرة سنة سبع عشرة سار الأسطول الفرنجي في ثلاثمائة قطعة فيها ألف فارس وفرس واحد إلا أنهم لما ساروا من مرسى علي فرقتهم الريح وغرق منهم مراكب كثيرة ونازل من سلم منهم جزيرة قوصرة ففتحوها وقتلوا من بها وسبوا وغنموا وساروا عنها فوصلوا إلى إفريقية ونازلوا الحصن المعروف بالديماس أواخر جمادى الأولى فقاتلهم طائفة من العرب كانوا هناك والديماس حصن منيع في وسطه حصن آخر وهو مشرف على البحر.
وسير الحسن من عنده من الجموع إلى الفرنج وأقام هو بالمهدية في جمع آخر يحفظها وأخذ الفرنج حصن الديماس وجنود المسلمين محيطة بهم فلما كان بعد ليال اشتد القتال على الحصن الداخل فلما كان الليل صاح المسلمون صيحة عظيمة ارتجت لها الأرض وكبروا فوقع الرعب في قلوب الفرنج فلم يشكوا أن المسلمين يهجمون عليهم فبادروا إلى شوانيهم وقتلوا بأيديهم كثيرًا من خيولهم وغنم المسلمون منها أربعمائة فرس ولم يسلم معهم غير فرس واحد وغنم المسلمون جميع ما تخلف عن الفرنج وقتلوا كل من عجز عن الطلوع إلى المراكب.
فلما صعد الفرنج إلى مراكبهم أقاموا بها ثمانية أيام لا يقدرون على النزول إلى الأرض فلما أيسوا من خلاص أصحابهم الذين في الديماس ساروا والمسلمون يكبرون عليهم ويصيحون بهم وأقامت عساكر المسلمين على حصن الديماس في أمير داذ لا يحصون كثرة فحصروه فلم يمكنهم فتحه لحصانته وقوته فلما عدم الماء على من به من الفرنج وضجروا من مواصلة القتال ليلًا ونهارًا فتحوا باب الحصن وخرجوا فقتلوا عن آخرهم وذلك يوم الأربعاء منتصف جمادى الآخرة من السنة وكانت مدة إقامتهم في الحصن ستة عشر يومًا.
ولما رجع الفرنج مقهورين أرسل الأمير الحسن البشري إلى سائر البلاد وقال الشعراء في هذه الحادثة فأكثروا تركنا ذلك خوف التطويل.
ذكر استيلاء الفرنج على خرتبرت وأخذها منهم
في هذه السنة في ربيع الأول استولى الفرنج على خرتبرت من بلاد ديار بكر.
وسبب ذلك: أن بلك بن بهرام بن أرتق كان صاحب خرتبرت فحضر قلعة كركر وهي تقارب خرتبرت فسمع الفرنج بالشام الخبر فسار بغدوين ملك الفرنج في جموعه إليه ليرحله عنها خوفًا أن يقوى بملكها فلما سمع بلك بقربه منه رحل إليه والتقيا في صفر واقتتلا فانهزم الفرنج وأسر ملكهم ومعه جماعة من أعيان فرسانهم وسجنهم بقلعة خرتبرت وكان بالقلعة أيضًا جوسلين صاحب الرها وغيره من مقدمي الفرنج كان قد أسرهم سنة خمس عشرة وسار بلك عن خرتبرت إلى حران في ربيع الأول فملكها فأعمل الفرنج الحيلة باستمالة بعض الجند فظهروا وملكوا القلعة.
فأما الملك بغدوين فإنه اتخذ الليل جملًا ومضى إلى بلاده واتصل الخبر ببلك صاحبها فعاد في عساكره إليها وحصرها وضيق على من بالقلعة واستعادها من الفرنج وجعل فيها من الجند من يحفظها وعاد عنها.
ذكر قتل وزير السلطان وعود ابن صدقة إلى وزارة الخلافة
في هذه السنة قبض السلطان محمود على وزيره شمس الملك عثمان بن نظام الملك وقتله.
وسبب ذلك: أنه لما أشار على السلطان بالعود عن حرب الكرج وخالفه وكانت الخيرة في مخالفته تغير عليه وذكره أعداؤه بالسوء ونبهوا على تهوره وقلة تحصيله ومعرفته بمصالح الدولة ففسد رأي السلطان فيه.
ثم إن الشهاب أبا المحاسن وزير السلطان سنجر كان قد توفي وهو ابن أخي نظام الملك ووزر بعده أبو طاهر القمي وهو عدو للبيت النظامي فسعى مع السلطان سنجر حتى أرسل إلى السلطان محمود يأمره بالقبض على وزيره شمس الملك فصادف وصول الرسول وهو متغير عليه فقبض عليه وسلمه إلى طغايرك فبعثه إلى بلده خلخال فحبسه فيها.
ثم إن أبا نصر المستوفي الملقب بالعزيز قال للسلطان محمود: لا نأمن أن يرسل السلطان سنجر يطلب الوزير ومتى اتصل به لا نأمن شرًا يحدث منه.
وكان بينهما عداوة فأمر السلطان بقتله فلما دخل عليه السياف ليقتله قال: أمهلني حتى أصلي ركعتين ففعل فلما صلى جعل يرتعد وقال للسياف: سيفي أجود من سيفك فاقتلني به ولا تعذبني فقتل ثاني جمادى الآخرة.
فلما سمع الخليفة المسترشد بالله ذلك عزل أخاه نظام الدين أحمد من وزارته وأعاد جلال الدين أبا علي بن صدقة إلى الوزارة وأقام نظام الدين بالمثمنة التي في المدرسة النظامية ببغداد.
وأما العزيز المستوفي فإنه لم تطل أيامه حتى قتل على ما نذكره جزاء لسعيه في قتل الوزير.
ذكر ظفر السلطان محمود بالكرج
في هذه السنة اشتدت نكاية الكرج في بلد الإسلام وعظم الأمر على الناس لا سيما أهل دربند شروان فسار منهم جماعة كثيرة من أعيانهم إلى السلطان وشكوا إليه ما يلقون منهم وأعلموه بما هم عليه من الضعف والعجز عن حفظ بلادهم فسار إليهم والكرج قد وصلوا إلى وأشار الوزير شمس الملك عثمان بن نظام الملك على السلطان بالعود من هناك فلما سمع أهل شروان بذلك قصدوا السلطان وقالوا له: نحن نقاتل ما دمت عندنا وإن تأخرت عنا ضعفت نفوس المسلمين وهلكوا فقبل قولهم وأقام بمكانه.
وبات العسكر على وجل عظيم وهم بنية المصاف فأتاهم الله بفرج من عنده وألقى بين الكرج وقفجاق اختلافًا وعداوة فاقتتلوا تلك الليلة ورحلوا شبه المنهزمين وكفى الله المؤمنين القتال وأقام السلطان بشروان مدة ثم عاد إلى همذان فوصلها في جمادى الآخرة.
ذكر الحرب بين المغاربة وعسكر مصر
في هذه السنة وصل جمع كثير من لواثة من الغرب إلى ديار مصر فأفسدوا فيها ونهبوها وعملوا أعمالًا شنيعة فجمع المأمون بن البطائحي الذي وزر بمصر بعد الأفضل عسكر مصر وسار إليهم فقاتلهم فهزمهم وأسر منهم وقتل خلقًا كثيرًا وقرر عليهم خرجًا معلومًا كل سنة يقومون به وعادوا إلى بلادهم وعاد المأمون إلى مصر مظفرًا منصورًا.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في صفر أمر المسترشد بالله بناء سور بغداد وأن يجبى ما يخرج عليه من البلد فشق ذلك على الناس وجمع من ذلك مال كثير فلما علم الخليفة كراهة الناس لذلك أمر بإعادة ما أخذ منهم فسروا بذلك وكثر الدعاء له.
وقيل: إن الوزير أحمد بن نظام الملك بذل من ماله خمسة عشر ألف دينار وقال: نقسط الباقي على أرباب الدولة.
وكان أهل بغداد يعملون بأنفسهم فيه وكانوا يتناوبون العمل: يعمل أهل كل محلة منفردين بالطبول والزمور وزينوا البلد وعملوا فيه القباب.
وفيها عزل نقيب العلويين وهدمت دار علي بن أفلح وكان الخليفة يكرمه فظهر أنهما عين لدبيس يطالعانه بالأخبار وجعل الخليفة نقابة العلويين إلى علي بن طراد نقيب العباسيين.
وفيها جمع الأمير بلك عساكره وسار إلى غزاة بالشام فلقيه الفرنج فاقتتلوا فانهزم الفرنج وقتل منهم وأسر بشر كثير من مقدميهم ورجالتهم.
وفيها كان أكثر في البلاد غلاء شديد وكان أكثره بالعراق فبلغ ثمن كارة الدقيق الخشكار ستة دنانير وعشرة قراريط وتبع ذلك موت كثير وأمراض زائدة هلك فيها كثير من الناس.
وفيها في صفر توفي قاسم بن أبي هاشم العلوي الحسني أمير مكة وولي بعده ابنه أبو فليته وكان أعدل منه وأحسن السيرة فأسقط المكوس وأحسن إلى الناس.
وفيها توفي عبد الله بن الحسن بن أحمد بن الحسين أبو نعيم بن أبي علي الحداد الأصبهاني ومولده سنة ثلاث وستين وأربعمائة وهو من أعيان المحدثين سافر الكثير في طلب الحديث.
وفيها سار طغتكين صاحب دمشق إلى حمص فهاجم المدينة ونهبها وأحرق كثيرًا منها وحصرها وصاحبها قرجان بالقلعة فاستمد صاحبها طغان أرسلان فسار إليه في جمع كثير فعاد طغتكين إلى دمشق.
وفيها لقي أسطول مصر أسطول البنادقة من الفرنج فاقتتلوا وكان الظفر للبنادقة وأخذ من أسطول مصر عدة قطع وعاد الباقي سالمًا.
وفيها سار الأمير محمود بن قراجة صاحب حماة إلى حصن أفامية فهجم على الربض بغتة فأصابه سهم من القلعة في يده فاشتد ألمه فعاد إلى حماة وقلع الزج من يده ثم عملت عليه فمات منه واستراح أهل عمله من ظلمه وجوره فلما سمع طغتكين صاحب دمشق الخبر سير إلى حماة عسكرًا فملكها وصارت في جملة بلاده ورتب فيها واليًا وعسكرًا لحمايتها.
ثم دخلت سنة ثماني عشرة وخمسمائة
ذكر قتل بلك بن بهرام بن أرتق
في هذه السنة في صفر قبض بلك بن بهرام بن أرتق صاحب حلب على الأمير حسان البعلبكي صاحب منبج وسار إليها فحصرها فملك المدينة وحصر القلعة فامتنعت عليه فسار الفرنج إليه ليرحلوه عنها لئلا يقوى بأخذها فلما قاربوه ترك على القلعة من يحصرها وسار في باقي عسكره إلى الفرنج فلقيهم وقاتلهم فكسرهم وقتل منهم خلقًا كثيرًا وعاد إلى منبج فحصرها فبينما هو يقاتل من بها أتاه سهم فقتله لا يدرى من رماه واضطرب عسكره وتفرقوا وخلص حسان من الحبس فكان حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق مع ابن عمه بلك فحمله مقتولًا إلى ظاهر حلب وتسلمها في العشرين من ربيع الأول من هذه السنة وزال الحصار عن قلعة منبج وعاد إليها صاحبها حسان واستقر تمرتاش بحلب واستولى عليها.
ثم إنه جعل فيها نائبًا له يثق به ورتب عنده ما يحتاج إليه من جند وغيرهم وعاد إلى ماردين لأنه رأى الشام كثيرة الحرب مع الفرنج وكان رجلًا يحب الدعة والرفاهية فلما عاد إلى ماردين أخذت حلب منه على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك الفرنج مدينة صور بالشام
كانت مدينة صور للخلفاء العلويين بمصر ولم تزل كذلك إلى سنة ست وخمسمائة فكان بها وال من جهة الأفضل أمير الجيوش وزير الآمر بأحكام الله العلوي يلقب عز الملك وكان الفرنج قد حصروها وضيقوا عليها ونهبوا بلدها غير مرة فلما كانت سنة ست تجهز ملك الفرنج وجمع عساكره ليسير إلى صور فخافهم أهل صور فأرسلوا إلى أتابك طغتكين صاحب دمشق يطلبون منه أن يرسل إليهم أميرًا من عنده يتولاهم ويحميهم ويكون البلد له وقالوا له: إن أرسلت إلينا واليًا وعسكرًا وإلا سلمنا البلد إلى الفرنج فسير إليهم عسكرًا وجعل عندهم واليًا اسمه مسعود وكان شهمًا شجاعًا عارفًا بالحرب ومكايدها وأمده بعسكر وسير إليهم ميرة ومالًا فرقه فيهم.
وطابت نفوس أهل البلد ولم تغير الخطبة للآمر صاحب مصر ولا السكة وكتب إلى الأفضل بمصر يعرفه صورة الحال ويقول: متى وصل إليها من مصر من يتولاها ويذب عنها سلمتها إليه ويطلب أن الأسطول لا ينقطع عنها بالرجال والقوة.
فشكره الأفضل على ذلك وأثنى عليه وصوب رأيه فيما فعله وجهز أسطولًا وسيره إلى صور فاستقامت أحوال أهلها.
ولم يزل كذلك إلى سنة ست عشرة بعد قتل الأفضل فسير إليها أسطول على جاري العادة وأمروا المقدم على الأسطول أن يعمل الحيلة على الأمير مسعود الوالي بصور من قبل طغتكين ويقبض عليه ويتسلم البلد منه.
وكان السبب في ذلك: أن أهل صور أكثروا الشكوى منه إلى الآمر بأحكام الله صاحب مصر بما يعتمده من مخالفتهم والإضرار بهم ففعلوا ذلك وسار الأسطول فأرسي عند صور فخرج مسعود إليه للسلام على المقدم عليه فلما صعد إلى المركب الذي فيه المقدم اعتقله ونزل البلد واستولى عليه وعاد الأسطول إلى مصر وفيه الأمير مسعود فأكرم وأحسن إليه وأعيد إلى دمشق.
وأما الوالي من قبل المصريين فإنه طيب قلوب الناس وراسل طغتكين يخدمه بالدعاء والاعتضاد وأن سبب ما فعل هو شكوى أهل صور من مسعود فأحسن طغتكين الجواب وبذل من نفسه المساعدة.
ولما سمع الفرنج بانصراف مسعود عن صور قوي طمعهم فيها وحدثوا نفوسهم بملكها وشرعوا في الجمع والتأهب للنزول عليها وحصرها فسمع الوالي بها للمصريين الخبر فعلم أنه لا قوة له ولا طاقة على دفع الفرنج عنها لقلة من بها من الجند والميرة فأرسل إلى الآمر بذلك فرأى أن يرد ولاية صور إلى طغتكين صاحب دمشق فأرسل إليه بذلك فملك صور ورتب بها من الجند وغيرهم ما ظن فيه كفاية.
وسار الفرنج إليهم ونازلوهم في ربيع الأول من هذه السنة وضيقوا عليهم ولازموا القتال فقلت الأقوات وسئم من بها القتال وضعفت نفوسهم وسار طغتكين إلى بانياس ليقرب منهم ويذب عن البلد ولعل الفرنج إذا رأوا قربه منهم رحلوا فلم يتحركوا ولزموا الحصار فأرسل طغتكين إلى مصر يستنجدهم فلم ينجدوه وتمادت الأيام وأشرف أهلها على الهلاك فراسل حينئذ طغتكين صاحب دمشق وقرر الأمر على أن يسلم المدينة إليهم ويمكنوا من بها من الجند والرعية من الخروج منها بما يقدرون عليه من أموالهم ورحالهم وغيرها فاستقرت القاعدة على ذلك وفتحت أبواب البلد وملكه الفرنج وفارقه أهله وتفرقوا في البلاد وحملوا ما أطاقوا وتركوا ما عجزوا عنه ولم يعرض الفرنج لأحد منهم ولم يبق إلا الضعيف عجز عن الحركة.
وملك الفرنج البلد في الثالث والعشرين من جمادى الأولى من السنة وكان فتحه وهنًا عظيمًا على المسلمين فإنه من أحصن البلاد وأمنعها فالله يعيده إلى الإسلام ويقر أعين المسلمين بفتحه بمحمد وآله.
ذكر عزل البرسقي عن شحنكية العراق وولاية يرنقش الزكوي
وسبب ذلك: أن البرسقي نفر عنه المسترشد بالله فأرسل إلى السلطان محمود يلتمس منه أن يعزل البرسقي عن العراق ويعيده إلى الموصل فأجابه السلطان إلى ذلك وأرسل إلى البرسقي يأمره بالعود إلى الموصل والاشتغال بجهاد الفرنج فلما علم البرسقي الخبر شرع في جباية الأموال ووصل نائب يرنقش فسلم إليه البرسقي الأمر وأرسل السلطان ولدًا له صغيرًا مع أمه إلى البرسقي ليكون عنده فلما وصل الصغير إلى العراق خرجت العساكر والمواكب إلى لقائه وحملت له الإقامات وكان يوم دخوله يومًا مشهودًا وتسلمه البرسقي وسار إلى الموصل وهو ووالدته معه.
ولما سار البرسقي إلى الموصل كان عماد الدين زنكي بن آقسنقر بالبصرة قد سيره البرسقي إليها ليحميها فظهر من حمايته لها ما عجب منه الناس ولم يزل يقصد العرب ويقاتلهم في حللهم حتى أبعدوا إلى البر فأرسل إليه البرسقي يأمره باللحاق به فقال لأصحابه: قد ضجرنا مما نحن فيه: كل يوم للموصل أمير جديد ونريد نخدمه وقد رأيت أن أسير إلى السلطان فأكون معه فأشاروا عليه بذلك فسار إليه فقدم عليه بأصبهان فأكرمه وأقطعه البصرة وأعاده إليها.
في هذه السنة في ذي الحجة ملك آقسنقر البرسقي مدينة حلب وقلعتها.
وسبب ذلك: أن الفرنج لما ملكوا مدينة صور على ما ذكرناه طمعوا وقويت نفوسهم وتيقنوا الاستيلاء على بلاد الشام واستكثروا من الجموع ثم وصل إليهم دبيس بن صدقة صاحب الحلة فأطمعهم طمعًا ثانيًا لا سيما في حلب وقال لهم: إن أهلها شيعة وهم يميلون إلي لأجل المذهب فمتى رأوني سلموا البلد إلي.
وبذل لهم على مساعدته بذولًا كثيرة وقال: إنني أكون هاهنا نائبًا عنكم ومطيعًا لكم.
فساروا معه إليها وحصروها وقاتلوا قتالًا شديدًا ووطنوا نفوسهم على المقام الطويل وأنهم لا يفارقونها حتى يملكوها وبنوا البيوت لأجل البرد والحر.
فلما رأى أهلها ذلك ضعفت نفوسهم وخافوا الهلاك وظهر لهم من صاحبهم تمرتاش الوهن والعجز وقلت الأقوات عندهم فلما رأوا ما دفعوا إليه من هذه الأسباب أعملوا الرأي في طريق يتخلصون به فرأوا أنه ليس لهم غير البرسقي صاحب الموصل فأرسلوا إليه يستنجدونه ويسألونه المجيء إليهم ليسلموا البلد إليه.
فجمع عساكره وقصدهم وأرسل إلى من بالبلد وهو في الطريق يقول: إنني لا أقدر على الوصول إليكم والفرنج يقاتلونكم إلا إذا سلمتم القلعة إلى نوابي وصار أصحابي فيها فإنني لا أدري ما يقدره الله تعالى إذا أنا لقيت الفرنج فإن انهزمنا منهم وليست حلب بيد أصحابي حتى أحتمي أنا وعسكري بها لم يبق منا أحد وحينئذ تؤخذ حلب وغيرها.
فأجابوه إلى ذلك وسلموا القلعة إلى نوابه فلما استقروا فيها واستولوا عليها سار في العساكر التي معه فلما أشرف عليها رحل الفرنج عنها وهو يراهم فأراد من في مقدمة عسكره أن يحمل عليهم فمنعهم هو بنفسه وقال: قد كفينا شرهم وحفظنا بلدنا منهم والمصلحة تركهم حتى يتقرر أمر حلب ونصلح حالها ونكثر ذخائرها ثم حينئذ نقصدهم ونقاتلهم.
فلما رحل الفرنج خرج أهل حلب ولقوه وفرحوا به وأقام عندهم حتى أصلح الأمور وقررها.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة انقطعت الأمطار في العراق والموصل وديار الجزيرة والشام وديار بكر وكثير من البلاد فقلت الأقوات وغلت الأسعار في جميع البلاد ودام إلى سنة تسع عشرة.
وفيها وصل منصور بن صدقة أخو دبيس إلى بغداد تحت الاستظهار فمرض بها فأحضر الخليفة الأطباء وأمرهم بمعالجته وأحضره عنده وجعل في حجرة وأدخل أصحابه إليه.
وفيها سار دبيس من الشام بعد رحيله عن حلب وقصد الملك طغرل فأغراه بالخليفة وفيها مات الحسن بن الصباح مقدم الإسماعيلية صاحب ألموت وقد تقدم من أخباره ما يعلم به محله من الشجاعة والرأي والتجربة.
وفيها أيضًا توفي داود ملك الأبخاز وشمس الدولة بن نجم الدين إيلغازي.
وفيها ثار أهل آمد بمن فيها من الإسماعيلية وكانوا قد كثروا فقتلوا منهم نحو سبعمائة رجل فضعف أمرهم بها بعد هذه الوقعة.
وفيها في صفر توفي محمد بن مرزوق بن عبد الرزاق الزعفراني وهو من أصحاب الخطيب البغدادي.
وفيها توفي أحمد بن علي بن برهان أبو الفتح الفقيه المعروف بابن الحمامي لأن أباه كان حماميًا وكان حنبليًا تفقه على ابن عقيل ثم صار شافعيًا وتفقه على الغزالي والشاشي.
ثم دخلت سنة تسع عشرة وخمسمائة
ذكر وصول الملك طغرل إلى العراق
قد ذكرنا مسير دبيس بن صدقة إلى الملك طغرل من الشام فلما وصل إليه لقيه وأكرمه وأحسن إليه وجعله من أعيان خواصه وأمرائه فحسن له دبيس قصد العراق وهون أمره عليه وضمن له أنه يملكه فسار معه إلى العراق فوصلوا دقوقا في عساكر كثيرة.
فكتب مجاهد الدين بهروز من تكريت يخبر الخليفة خبرهما فتجهز للمسير ومنعهما وأمر يرنقش الزكوي شحنة العراق أن يكون مستعدًا للحرب وجمع العساكر والأمراء البكجية وغيرهم فبلغت عدة العساكر اثني عشر ألفًا سوى الرجالة وأهل بغداد وفرق السلاح.
وبرز خامس صفر وبين يديه أرباب الدولة رجالة وخرج من باب النصر وكان قد أمر بفتحه تلك الأيام وسماه باب النصر ونزل صحراء الشماسية ونزل يرنقش عند السبتي ثم سار فنزل الخالص تاسع صفر.
فلما سمع طغرل بخروج الخليفة عدل إلى طريق خراسان وتفرق أصحابه في النهب والفساد ونزل هو رباط جلولاء فسار إليه الوزير جلال الدين بن صدقة في عسكر كثير فنزل الدسكرة وتوجه طغرل ودبيس إلى الهارونية وسار الخليفة فنزل بالدسكرة هو والوزير واستقر الأمر بين دبيس وطغرل أن يسيرا حتى يعبرا ديالى وتامرا ويقطعا جسر النهروان ويقيم دبيس ليحفظ المعابر ويتقدم طغرل إلى بغداد فيملكها وينهبها فسارا على هذه القاعدة فعبرا تامرا ونزل طغرل بينه وبين ديالى.
وسار دبيس على أن يلحقه طغرل فقدر الله تعالى أن الملك طغرل لحقه حمى شديدة ونزل عليهم من المطر ما لم يشاهدوا مثله وزادت المياه وجاءت السيول والخليفة بالدسكرة وسار دبيس في مائتي فارس وقصد معرة النهروان وهو تعبان سهران وقد لقي أصحابه من المطر والبل ما آذاهم وليس معهم ما يأكلون ظنًا منهم أن طغرل وأصحابه يلحقونهم فتأخروا لما
ذكرناه فنزلوا جياعًا قد نالهم البرد وإذا قد طلع عليهم ثلاثون جملًا تحمل الثياب المخيطة والعمائم والأقبية والقلانس وغيرها من الملبوس وتحمل أيضًا أنواع الأطعمة المصنوعة قد حملت من بغداد إلى الخليفة فأخذ دبيس الجميع فلبسوا الثياب الجدد ونزعوا الثياب الندية وأكلوا الطعام وناموا في الشمس مما نالهم تلك الليلة.
وبلغ الخبر أهل بغداد فلبسوا السلاح وبقوا يحرسون الليل والنهار ووصل الخبر إلى الخليفة والعسكر الذين معه أن دبيسًا قد ملك بغداد فرحل من الدسكرة ووقعت الهزيمة على العسكر إلى النهروان وتركوا أثقالهم ملقاة بالطريق لا يلتفت إليها أحد ولولا أن الله تعالى لطف بهم بحمى الملك طغرل وتأخره لكان قد هلك العسكر والخليفة أيضًا وأخذوا وكانت السواقي مملوءة بالوحل والماء من السيل فتمزقوا ولو لحقهم مائة فارس لهلكوا.
ووصلت رايات الخليفة ودبيس وأصحابه نيام وتقدم الخليفة وأشرف على ديالى ودبيس نازل غرب النهروان والجسر ممدودة شرق النهروان فلما أبصر دبيس الخليفة قبل الأرض بين يدي الخليفة وقال: أنا العبد المطرود فليعف أمير المؤمنين عن عبده.
فرق الخليفة له وهم بصلحه حتى وصل الوزير ابن صدقة فثناه عن رأيه وركب دبيس ووقف بإزاء عسكر يرنقش الزكوي يحادثهم ويتماجن معهم ثم أمر الوزير الرجالة فعبروا ليمدوا الجسر آخر النهار فسار حينئذ دبيس عائدًا إلى الملك طغرل وسير الخليفة عسكرًا مع الوزير في أثره وعاد إلى بغداد فدخلها وكانت غيبته خمسة وعشرين يومًا.
ثم إن الملك طغرل ودبيسًا عادا وسارا إلى السلطان سنجر فاجتازا بهمذان فقسطا على أهلها مالًا كثيرًا وأخذاه وغابا في تلك الأعمال فبلغ خبرهم السلطان محمودًا فجد السير إليهم فانهزموا من بين يديه وتبعتهم العساكر فدخلوا خراسان إلى السلطان سنجر وشكوا إليه من الخليفة ويرنقش الزكوي.
ذكر فتح البرسقي كفر طاب وانهزامه من الفرنج
في هذه السنة جمع البرسقي عساكره وسار إلى الشام وقصد كفر طاب وحصرها فملكها من الفرنج وسار إلى قلعة عزاز وهي من أعمال حلب من جهة الشمال وصاحبها جوسلين فحصرها فاجتمعت الفرنج فارسها وراجلها وقصدوه ليرحلوه عنها فلقيهم وضرب معهم مصافًا واقتتلوا قتالًا شديدًا صبروا كلهم فيه فانهزم المسلمون وقتل منهم وأسر كثير.
وكان عدد القتلى أكثر من ألف قتيل من المسلمين وعاد منهزمًا إلى حلب فخلف بها ابنه مسعودًا وعبر الفرات إلى الموصل ليجمع العساكر ويعاود القتال وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر قتل المأمون بن البطائحي
في هذه السنة في رمضان قبض الآمر بأحكام الله العلوي صاحب مصر على وزيره أبي عبد الله بن البطائحي الملقب بالمأمون وصلبه وإخوته.
وكان ابتداء أمره أن أباه كان من جواسيس الأفضل بالعراق فمات ولم يخلف شيئًا فتزوجت أمه وتركته فقيرًا فاتصل بإنسان يتعلم البناء بمصر ثم صار يحمل الأمتعة بالسوق الكبير فدخل مع الحمالين إلى دار الأفضل أمير الجيوش مرة بعد أخرى فرآه الأفضل خفيفًا رشيقًا حسن الحركة حلو الكلام فأعجبه فسأل عنه فقيل هو ابن فلان فاستخدمه مع الفراشين ثم تقدم عنده وكبرت منزلته وعلت حالته حتى صار وزيرًا.
وكان كريمًا واسع الصدر قتالًا سفاكًا للدماء وكان شديد التحرز كثير التطلع إلى أحوال الناس من العامة والخاصة من سائر البلاد: مصر والشام والعراق وكثر الغمازون في أيامه.
وأما سبب قتله فإنه كان قد أرسل الأمير جعفرًا أخا الآمر ليقتل الآمر ويجعله خليفة وتقررت القاعدة بينهما على ذلك فسمع بذلك أبو الحسن بن أبي أسامة وكان خصيصًا بالآمر قريبًا منه وقد ناله من الوزير أذى واطراح فحضر عند الآمر وأعلمه الحال فقبض عليه وصلبه وهذا جزاء من قابل الإحسان بالإساءة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة توفي شمس الدولة سالم بن مالك صاحب قلعة جعبر وتعرف قديمًا بقلعة دوس.
وفيها قتل القاضي أبو سعد محمد بن نصر بن منصور الهروي بهمذان قتله الباطنية وكان قد مضى إلى خراسان في رسالة الخليفة إلى السلطان سنجر فعاد فقتل وكان ذا مروءة غزيرة وتقدم كثير في الدولة السلجوقية.
و في هذه السنة توفي هلال بن عبد الرحمن بن شريح بن عمر بن أحمد وهو من ولد بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنيته أبو سعد طاف البلاد وسمع وقرأ القرآن وكان موته بسمرقند.
ثم دخلت سنة عشرين وخمسمائة
ذكر حرب الفرنج والمسلمين بالأندلس
في هذه السنة عظم شأن ابن ردمير الفرنجي بالأندلس واستطال على المسلمين فخرج في عساكر كثيرة من الفرنج وجاس في بلاد الإسلام وخاضها حتى وصل إلى قريب قرطبة وأكثر النهب والسبي والقتل فاجتمع المسلمون في جيش عظيم زائد الحد في الكثرة وقصدوه فلم يكن له بهم طاقة فتحصن منهم في حصن منيع له اسمه أرنيسول فحصروه وكبسهم ليلًا فانهزم المسلمون وكثر القتل فيهم وعاد إلى بلاده.
ذكر قصد بلاد الإسماعيلية بخراسان
في هذه السنة أمر الوزير المختص أبو نصر أحمد بن الفضل وزير السلطان سنجر بغزو الباطنية وقتلهم أين كانوا وحيثما ظفر بهم ونهب أموالهم وسبي حريمهم وجهز جيشًا إلى طريثيت وهي لهم وجيشًا إلى بيهق من أعمال نيسابور وكان في هذه الأعمال قرية مخصوصة وسير إلى كل طرف من أعمالهم جمعًا من الجند ووصاهم أن يقتلوا من لقوه منهم فقصد كل طائفة إلى الجهة التي سيرت إليها.
فأما القرية التي بأعمال بيهق فقصدها العسكر فقتلوا كل من بها وهرب مقدمهم وصعد منارة المسجد وألقى نفسه منها فهلك وكذلك العسكر المنفذ إلى طريثيت قتلوا من أهلها فأكثروا وغنموا من أموالهم وعادوا.
ذكر ملك الإسماعيلية قلعة بانياس
في هذه السنة عظم أمر الإسماعيلية بالشام وقويت شوكتهم وملكوا بانياس في ذي القعدة منها.
وسبب ذلك أن بهرام ابن أخت الأسداباذي لما قتل خاله ببغداد كما ذكرناه هرب إلى الشام وصار داعي الإسماعيلية فيه وكان يتردد في البلاد ويدعو أوباش الناس وطغامهم إلى مذهبه فاستجاب له منهم من لا عقل له فكثر جمعه إلا أنه يخفي شخصه فلا يعرف وأقام بحلب مدة ونفر إلى إيلغازي صاحبها.
وأراد إيلغازي أن يعتضد به لاتقاء الناس شره وشر أصحابه لأنهم كانوا يقتلون كل من خالفهم وقصد من يتمسك بهم وأشار إيلغازي على طغتكين صاحب دمشق بأن يجعله عنده لهذا السبب.
فقبل رأيه وأخذه إليه فأظهر حينئذ شخصه وأعلن دعوته فكثر أتباعه من كل من يريد الشر والفساد وأعانه الوزير أبو طاهر بن سعد المرغيناني قصدًا للاعتضاد به على ما يريد فعظم شره واستفحل أمره وصار أتباعه أضعاف ما كانوا فلولا أن عامة دمشق يغلب عليهم مذاهب أهل السنة وأنهم يشددون عليه فيما ذهب إليه لملك البلد.
ثم إن بهرام رأى من أهل دمشق فظاظة وغلظة عليه فخاف عاديتهم فطلب من طغتكين حصنًا يأوي إليه هو ومن اتبعه فأشار الوزير بتسليم قلعة بانياس إليه فسلمت إليه فلما سار إليها اجتمع إليه أصحابه من كل ناحية فعظم حينئذ خطبه وجلت المحنة بظهوره واشتد الحال على الفقهاء والعلماء وأهل الدين لا سيما أهل السنة والستر والسلامة إلا أنهم لا يقدرون على أن ينطقوا بحرف واحد خوفًا من سلطانهم أولًا ومن شر الإسماعيلية ثانيًا فلم يقدم أحد على إنكار هذه الحال فانتظروا بهم الدوائر.
ذكر قتل البرسقي وملك ابنه عز الدين مسعود
في هذه السنة ثامن ذي القعدة قتل قسيم الدولة آقسنقر البرسقي صاحب الموصل بمدينة الموصل قتلته الباطنية يوم جمعة بالجامع وكان يصلي الجمعة مع العامة وكان قد رأى تلك الليلة في منامه أن عدة كلاب ثارت به فقتل بعضها ونال منه الباقي ما آذاه فقص رؤياه على أحصابه فأشاروا عليه بترك الخروج من داره عدة أيام فقال: لا أترك الجمع لشيء أبدًا فغلبوا على رأيه ومنعوه من قصد الجمعة فعزم على ذلك فأخذ المصحف يقرأ فيه فأول ما رأى: {وكان أمر الله قدرًا مقدورًا} [الأحزاب: 38]. فركب إلى الجامع على عادته وكان يصلي في الصف الأول فوثب عليه بضعة عشر نفسًا عدة الكلاب التي رآها فجرحوه بالسكاكين فجرح هو بيده منهم ثلاثة وقتل رحمه الله.
وكان مملوكًا تركيًا خيرًا يحب أهل العلم والصالحين ويرى العدل ويفعله وكان من خير الولاة يحافظ على الصلوات في أوقاتها ويصلي من الليل متهجدًا.
حكى لي والدي رحمه الله عن بعض من كان يخدمه قال: كنت فراشًا معه فكان يصلي كل ليلة كثيرًا وكان يتوضأ هو بنفسه ولا يستعين بأحد ولقد رأيته في بعض ليالي الشتاء بالموصل وقد قام من فراشه وعليه فرجية صغيرة وبر وبيده إبريق فمشى نحو دجلة ليأخذ ماء فمنعني البرد من القيام ثم إنني خفته فقمت إلى بين يديه لآخذ الإبريق منه فمنعني وقال: يا مسكين! ارجع إلى مكانك فإن برد فاجتهدت لآخذ الإبريق فلم يعطني وردني إلى مكاني ثم توضأ وقام يصلي.
ولما قتل كان ابنه عز الدين مسعود بحلب يحفظها من الفرنج فأرسل إليه أصحاب أبيه بالخبر فسار إلى الموصل ودخلها أول ذي الحجة وأحسن إلى أصحاب أبيه بها وأقر وزيره المؤيد أبا غالب بن عبد الخالق بن عبد الرزاق على وزارته وأطاعه الأمراء والأجناد وانحدر إلى خدمة السلطان محمود فأحسن إليه وأعاده ولم يختلف عليه أحد من أهل بلاد أبيه.
ووقع البحث عن حال الباطنية والاستقصاء عن أخبارهم فقيل إنهم كانوا يجلسون إلى إسكاف بدرب إيليا فأحضر ووعد الإحسان إن أقر فلم يقر فهدد بالقتل فقال: إنهم وردوا من سنين لقتله فلم يتمكنوا منه إلى الآن فقطعت يداه ورجلاه وذكره ورجم بالحجارة فمات.
ومن العجب أن صاحب أنطاكية أرسل إلى عز الدين بن البرسقي يخبره بقتل والده قبل أن يصل إليه الخبر وكان قد سمعه الفرنج قبله لشدة عنايتهم بمعرفة الأحوال الإسلامية.
ولما استقر عز الدين في الولاية قبض على الأمير بابكر بن ميكائيل وهو من أكابر الأمراء وطلب منه أن يسلم ابن أخيه قلعة إربل إلى الأمير فضل وأبي علي ابني أبي الهيجاء وكان ابن أخيه قد أخذها منه سنة سبع عشرة فراسل ابن أخيه فسلم إربل إلى المذكورين.
ذكر الاختلاف الواقع بين المسترشد بالله والسلطان محمود
كان قد جرى بين يرنقش الزكوي شحنة بغدادن وبين نواب الخليفة المسترشد بالله نفرة تهدده الخليفة فيها فخافه على نفسه فسار عن بغداد إلى السلطان محمود في رجب من هذه السنة وشكا إليه وحذره جانب الخليفة وأعلمه أنه قد قاد العساكر ولقي الحروب وقويت نفسه ومتى مل تعاجله بقصد العراق ودخول بغداد ازداد قوة وجمعًا ومنعه عنه وحينئذ يتعذر عليه ما هو الآن بيده.
فتوجه السلطان نحو العراق فأرسل إليه الخليفة يعرفه ما هي البلاد وأهلها عليه من الضعف والوهن بسبب دبيس وإفساد عسكره فيها وأن الغلاء قد اشتد بالناس لعدم الغلات والأقوات لهرب الأكرة عن بلادهم ويطلب منه أن يتأخر هذه الدفعة إلى أن ينصلح حال البلاد ثم يعود إليها فلا مانع له عنها وبذل له على ذلك مالًا كثيرًا.
فلما سمع السلطان هذه الرسالة قوي عنده ما قرره الزكوي وأبى أن يجيب إلى التأخر وصمم العزم وسار إليها مجدًا.
فلما بلغ الخليفة الخبر عبر هو وأهله وحرمه ومن عنده من أولاد الخلفاء إلى الجانب الغربي في ذي القعدة مظهرًا للغضب والانتزاح عن بغداد إن قصدها السلطان فلما خرج من داره بكى الناس جميعهم بكاء عظيمًا لم يشاهد مثله.
فلما علم السلطان ذلك اشتد عليه وبلغ منه كل مبلغ فأرسل يستعطف الخليفة ويسأله العود إلى داره فأعاد الجواب أنه لا بد من عودك هذه الدفعة فإن الناس هلكى بشدة الغلاء وخراب البلاد وأنه لا يرى في دينه أن يزداد ما بهم وهو يشاهدهم فإن عاد السلطان وإلا رحل هو عن العراق لئلا يشاهد ما يلقى الناس بمجيء العساكر.
فغضب السلطان لقوله ورحل نحو بغداد وأقام الخليفة بالجانب الغربي فلما حضر عيد الأضحى خطب الناس وصلى بهم فبكى الناس لخطبته وأرسل عفيفًا الخادم وهو من خواصه في عسكر إلى واسط ليمنع عنها نواب السلطان فأرسل السلطان إليه عماد الدين زنكي بن آقسنقر وكان له حينئذ البصرة وقد فارق البرسقي واتصل بالسلطان فأقطعه البصرة.
فلما وصل عفيف إلى واسط سار إليه عماد الدين فنزل بالجانب الشرقي وكان عفيف بالجانب الغربي فأرسل إليه عماد الدين يحذره القتال ويأمره بالانتزاح عنها فأبى ولم يفعل فعبر إليه عماد الدين واقتتلوا فانهزم عسكر عفيف وقتل منهم مقتلة عظيمة وأسر مثلهم وتغافل عن عفيف حتى نجا لمودة كانت بينهما.
ثم إن الخليفة جمع السفن جميعها إليه ويسد أبواب دار الخلافة سوى باب التوبي وأمر حاجب الباب ابن الصاحب بالمقام فيه لحفظ الدار ولم يبق من حواشي الخليفة بالجانب الشرقي سواه.
ووصل السلطان إلى بغداد في العشرين من ذي الحجة ونزل بباب الشماسية ودخل بعض عسكره إلى بغداد ونزلوا في دور الناس فشكا الناس ذلك إلى السلطان فأمر بإخراجهم وبقي فيها من له دار وبقي السلطان يراسل الخليفة بالعود ويطلب الصلح وهو يمتنع.
وكان يجري بين العسكرين مناوشة والعامة من الجانب الغربي يسبون السلطان أفحش سب.
ثم إن جماعة من عسكر السلطان دخلوا دار الخلافة ونهبوا التاج وحجر الخليفة أول المحرم سنة إحدى وعشرين وضج أهل بغداد من ذلك فاجتمعوا ونادوا الغزاة فأقبلوا من كل ناحية ولما رآهم الخليفة خرج من السرادق والشمسة على رأسه والوزير بين يديه وأمر بضرب الكوسات والبوقات ونادى بأعلى صوته: يا آل هاشم! وأمر بتقديم السفن ونصب الجسر وعبر الناس دفعة واحدة وكان له في الدار ألف رجل مختفين في السراديب فظهروا وعسكر السلطان مشتغلون بالنهب فأسر منهم جماعة من الأمراء ونهب العامة دار وزير السلطان ودور جماعة من الأمراء ودار عزيز الدين المستوفي ودار الحكيم أوحد الزمان الطبيب وقتل منهم خلق كثير في الدروب.
ثم عبر الخليفة إلى الجانب الشرقي ومعه ثلاثون ألف مقاتل من أهل بغداد والسواد وأمر بحفر الخنادق فحفرت بالليل وحفظوا بغداد من عسكر السلطان ووقع الغلاء عند العسكر واشتد الأمر عليهم وكان القتال كل يوم عليهم عند أبواب البلد وعلى شاطيء دجلة وعزم عسكر الخليفة على أن يكبسوا عسكر السلطان فغدر بهم الأمير أبو الهيجاء الكردي صاحب إربل وخرج كأنه يريد القتال فالتحق هو وعسكره بالسلطان.
وكان السلطان قد أرسل إلى عماد الدين بواسط يأمره أن يحضر هو بنفسه ومعه المقاتلة في السفن وعلى الدواب في البر فجمع كل سفينة في البصرة إلى بغداد وشحنها بالرجال المقاتلة وأكثر من السلاح وأصعد فلما قارب بغداد أمر كل من معه في السفن وفي البر بلبس السلاح وإظهار ما عندهم من الجلد والنهضة فسارت السفن في الماء والعسكر في البر على شاطيء دجلة قد انتشروا وملأوا الأرض برًا وبحرًا فرأى الناس منظرًا عجيبًا كبر في أعينهم وملأ صدورهم وركب السلطان والعسكر إلى لقائهم فنظروا إلى ما لم يروا مثله وعظم عماد الدين في أعينهم وعزم السلطان على قتال بغداد حينئذ والجد في ذلك في البر والماء.
فلما رأى الإمام المسترشد بالله الأمر على هذه الصورة وخروج الأمير أبي الهيجاء من عنده أجاب إلى الصلح وترددت الرسل بينهما فاصطلحا واعتذر السلطان مما جرى وكان حليمًا يسمع سبه بأذنه فلا يعاقب عليه وعف عن أهل بغداد جميعهم.
وكان أعداء الخليفة يشيرون على السلطان بإحراق بغداد فلم يفعل وقال: لا تساوي الدنيا فعل مثل هذا.
وأقام ببغداد إلى رابع شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وحمل الخليفة من المال إليه كما استقرت القاعدة عليه وأهدى له سلاحًا وخيلًا وغير ذلك فمرض السلطان ببغداد فأشار عليه الأطباء بمفارقتها فرحل إلى همذان فلما وصلها عوفي.
ذكر مصاف بين طغتكين أتابك والفرنج بالشام
في هذه السنة اجتمعت الفرنج وملوكها وقمامصتها وكنودها وساروا إلى نواحي دمشق فنزلوا بمرج الصفر عند قرية يقال لها سقحبا بالقرب من دمشق فعظم الأمر على المسلمين واشتد خوفهم وكاتب طغتكين أتابك صاحبها أمراء التركمان من ديار بكر وغيرها وجميعهم وكان هو قد سار عن دمشق إلى جهة الفرنج واستخلف بها ابنه تاج الملوك بوري فكان بها كما جاءت طائفة أحسن ضيافتهم وسيرهم إلى أبيه فلما اجتمعوا سار بهم طغتكين إلى الفرنج فالتقوا أواخر ذي الحجة واقتتلوا واشتد القتال فسقط طغتكين على فرسه فظن أصحابه أنه قتل فانهزموا وركب طغتكين فرسه ولحقهم وتبعهم الفرنج وبقي التركمان لم يقدروا أن يلحقوا بالمسلمين في الهزيمة فتخلفوا فلما رأوا فرسان الفرنج قد تبعوا المنهزمين وأن معسكرهم وراجلهم ليس له منع ولا حام حملوا على الرجالة فقتلوهم ولم يسلم منهم إلا الشريد ونهبوا معسكر الفرنج وخيامهم وأموالهم وجميع ما معهم وفي جملته كنيسة وفيها من الذهب والجواهر ما لا يقوم كثرة فنهبوا ذلك جميعه وعادوا إلى دمشق سالمين لم يعدم منهم أحد.
ولما رجع الفرنج من أثر المنهزمين ورأوا رجالتهم قتلى وأموالهم منهوبة تموا منهزمين لا يلوي الأخ على أخيه وكان هذا من الغريب أن طائفتين تنهزمان كل واحدة منهما من صاحبتها.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة حصر الفرنج رفنية من أرض الشام وهي بيد المسلمين وضيقوا عليها فملكوها.
وفيها توفي أبو الفتح أحمد بن محمد بن محمد الغزالي الواعظ وهو أخو الإمام أبي حامد محمد وقد ذمه أبو الفرج بن الجوزي بأشياء كثيرة منها: روايته في وعظه الأحاديث التي ليست له بصحيحة والعجب أنه يقدح فيه بهذا وتصانيفه هو ووعظه محشو به مملوء منه نسأل الله أن يعيذنا من الوقيعة في الناس ثم يا ليت شعري أما كان للغزالي حسنة تذكر مع ما ذكر من المساوئ التي نسبها إليه لئلا ينسب إلى الهوى والغرض
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وخمسمائة
في هذه السنة في ربيع الآخر أسند السلطان محمود شحنكية العراق إلى عماد الدين زنكي بن آقسنقر.
وكان سبب ذلك: أن عماد الدين لما أصعد من واسط في التجمل والجمع الذي ذكرناه وقام في حفظ واسط والبصرة وتلك النواحي القيام الذي عجز غيره عنه عظم في صدر السلطان وصدور أمرائه فلما عزم السلطان على المسير عن بغداد نظر فيمن يصلح أن يلي شحنكية العراق ويأمن معه من الخليفة فاعتبر أمراءه وأعيان دولته فلم ير فيهم من يقوم في هذا الأمر مقام عماد الدين فاستشار في ذلك فكل أشار به وقالوا: لا نقدر على رفع هذا الخرق وإعادة ناموس هذه الولاية ولا تقوى نفس أحد على ركوب هذا الخطر غير عماد الدين زنكي.فوافق ما عنده فأسند إليه الولاية وفوضها إليه مضافة إلى ما له من الأقطاع وسار عن بغداد وقد اطمأن قلبه من جهة العراق فكان الأمر كما ظن.
ذكر عود السلطان عن بغداد وزارة أنوشروان بن خالد
في هذه السنة في عاشر ربيع الآخر سار السلطان محمود عن بغداد بعد تقرير القواعد بها ولما عزم على المسير حمل إليه الخليفة الخلع والداوب الكثيرة فقبل ذلك جميعه وسار.
ولما أبعد عن بغداد قبض على وزيره أبي القاسم علي بن القاسم الأنساباذي في رجب لأنه اتهمه بممالأة المسترشد بالله لقيامه في أمره وإتمام الصلح مقامًا ظهر أثره فسعى به أعداؤه فلما قبض عليه أرسل السلطان إلى بغداد فأحضر شرف الدين أنوشروان بن خالد وكان مقيمًا بها فلما علم بذلك جاءته الهدايا من كلا أحد حتى من الخليفة وسار عن بغداد خامس شعبان فوصل إلى السلطان وهو بأصبهان فخلع عليه خلع الوزارة وبقي فيها نحو عشرة أشهر ثم استعفى منها وعزل نفسه وعاد إلى بغداد في شعبان سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة.
وأما الوزير أبو القاسم فإنه بقي مقبوضًا إلى أن خرج السلطان سنجر إلى الري سنة اثنتين وعشرين فأخرجه من الحبس في ذي الحجة وأعاده إلى وزارة السلطان محمود وهي الوزارة الثانية.
ذكر وفاة عز الدين بن البرسقي وولاية عماد الدين زنكي الموصل وأعمالها
في هذه السنة توفي عز الدين مسعود بن البرسقي وهو صاحب الموصل وكان موته بمدينة الرحبة وسبب مسيره إليها: أنه لما استقامت أموره في ولايته وراسل السلطان محمودًا وخطب له ولاية ما كان أبوه يتولاه من الموصل وغيرها أجاب السلطان إلى ما طلب فرتب الأمور وقررها.
فكثر جنده وكان شجاعًا شهمًا فطمع في التغلب على بلاد الشام فجمع عساكره وسار إلى الشام يريد قصد دمشق فابتدأ بالرحبة فوصل إليها ونازلها وقام يحاصرها فأخذه مرض حاد وهو محاصر لها فتسلم القلعة ومات بعد ساعة فندم من بها على تسليمها إليه.
ولما مات بقي مطروحًا على بساط لم يدفن وتفرق عنه عسكره ونهب بعضهم بعضًا فشغلوا عنه ثم دفن بعد ذلك وقام بعده أخ له صغير واستولى على البلاد مملوك للبرسقي يعرف بالجاولي ودبر أمر الصبي وأرسل إلى السلطان يطلب أن يقرر البلاد على ولد البرسقي وبذل الأموال الكثيرة على ذلك.
وكان الرسول في هذا الأمر القاضي بهاء الدين أبو الحسن علي بن القاسم الشهرزوري وصلاح الدين محمد أمير حاجب البرسقي فحضرا دركاه السلطان ليخاطبا في ذلك وكانا يخافان جاولي ولا يرضيان بطاعته والتصرف بما يحكم به فاجتمع صلاح الدين ونصير الدين جقر الذي صار نائبًا عن أتابك عماد الدين بالموصل وكان بينهما مصاهرة وذكر له صلاح الدين ما ورد فيه وأفشى إليه سره فخوفه نصير الدين من جاولي وقبح عنده طاعته وقرر في نفسه وتحدث معه في المخاطبة في ولاية عماد الدين زنكي وضمن له الولايات والأقطاع الكثيرة وكذلك للقاضي بهاء الدين الشهرزوري فأجابه إلى ذلك وأحضره معه عند القاضي بهاء الدين وخاطباه في هذا الأمر وضمنا له كل ما أراده فوافقهما على ما طلبا وركب هو وصلاح الدين إلى دار الوزير وهو حينئذ شرف الدين أنوشروان بن خالد وقالا له: قد علمت أنت والسلطان أن ديار الجزيرة والشام قد تمكن الفرنج منها وقويت شوكتهم بها فاستولوا على أكثرها وقد أصبحت ولايتهم من حدود ماردين إلى عريش مصر ما عدا البلاد الباقية بيد المسلمين وقد كان البرسقي مع شجاعته وتجريبه وانقياد العساكر إليه يكف بعض عاديتهم وشرهم فمذ قتل ازداد طمعهم وهذا ولده طفل صغير ولا بد للبلاد من رجل شهم شجاع ذي رأي وتجربة يذب عنها ويحفظها ويحمي حوزتها وقد أنهينا الحال لئلا يجري خلل أو وهن على الإسلام والمسلمين فيختص اللوم بنا ويقال: ألا أنهيتم إلينا جلية الحال.
فرفع الوزير قولهما إلى السلطان فاستحسنه وشكرهما عليه وأحضرهما واستشارهما فيمن يصلح للولاية فذكرا جماعة منهم عماد الدين زنكي وبذلا عنه تقربًا إلى خزانة السلطان مالًا جليلًا فأجاب السلطان إلى توليته لما يعلمه من كفايته لما يليه فأحضره وولاه البلاد كلها وكتب منشورة بها.
وسار فبدأ بالبوازيج ليملكها ويتقوى بها ويجعلها ظهره لأنه خاف من جاولي أنه ربما صده عن البلاد فلما دخل البوازيج سار عنها إلى الموصل.
فلما سمع جاولي بقربه من البلد خرج إلى تلقيه ومعه جميع العسكر فلما رآه جاولي نزل عن فرسه وقبل الأرض بين يديه وعاد في خدمته إلى الموصل فدخلها في رمضان وأقطع جاولي الرحبة وسيره إليها وأقام بالموصل يصلح أمورها ويقرر قواعدها فولى نصير الدين دزدارية القلعة بالموصل وجعل إليه سائر دزدارية القلاع وجعل صلاح الدين محمدًا أمير حاجب وبهاء الدين قاضي قضاة بلاده جميعها وزاده أملاكًا وأقطاعًا واحترامًا وكان لا يصدر إلا عن رأيه.
فلما فرغ من أمر الموصل سار عنها إلى جزيرة ابن عمر وبها مماليك البرسقي فامتنعوا عليه فحصرهم وراسلهم وبذل لهم البذول الكثيرة إن سلموا فلم يجيبوه إلى ذلك فجد في قتالهم وبينه وبين البلد دجلة فأمر الناس فألقوا أنفسهم في الماء ليعبروه إلى البلد ففعلوا وعبر بعضهم سباحًا وبعضهم في السفن وبعضهم في الأكلاك وتكاثروا على أهل الجزيرة وكانوا قد خرجوا عن البلد إلى أرض بين الجزيرة ودجلة تعرف بالزلاقة ليمنعوا من يريد عبور دجلة فلما عبر العسكر إليهم قاتلوهم ومانعوهم فتكاثر عسكر عماد الدين عليهم فانهزم أهل البلد ودخلوه وتحصنوا بأسواره واستولى عماد الدين على الزلاقة فلما رأى من بالبلد ذلك ضعفوا ووهنوا وأيقنوا أن البلد يملك سلمًا أو عنوة فأرسلوا يطلبون الأمان فأجابهم إلى ذلك وكان هو أيضًا مع عسكره بالزلاقة فسلموا البلد إليه فدخله هو وعسكره.
ثم إن دجلة زادت تلك الليلة زيادة عظيمة لحقت سور البلد وصارت الزلاقة ماء فلو أقام ذلك اليوم لغرق هو وعسكره ولم ينج منهم أحد فلما رأى الناس ذلك أيقنوا بسعادته وأيقنوا أن أمرًا هذا بدايته لعظيم.
ثم سار عن الجزيرة إلى نصيبين وكانت لحسام الدين تمرتاش صاحب ماردين فلما نازلها سار حسام الدين إلى ابن عمه ركن الدولة داود بن سقمان بن أرتق وهو صاحب حصن كيفا وغيرها فاستنجده على أتابك زنكي.
فوعده النجدة بنفسه وجمع عسكره وعاد تمرتاش إلى ماردين وأرسل رقاعًا على أجنحة الطيور إلى نصيبين يعرف من بها من العسكر أنه وابن عمه سائران في العسكر الكثير إليهم وإزاحة عماد الدين عنهم ويأمرهم بحفظ البلد خمسة أيام.
فبينما أتابك في خيمته إذ سقط طائر على خيمة تقابله فأمر به فصيد فرأى فيه رقعة فقرأها وعرف ما فيها فأمر أن يكتب غيرها يقول فيها: من حسام الدين إنني قصدت ابن عمي ركن الدولة وقد وعدني النصرة وجمع العساكر وما يتأخر عن الوصول أكثر من عشرين يومًا ويأمرهم بحفظ البلد هذه المدة إلى أن يصلوا وجعلها في الطائر وأرسله فدخل نصيبين فلما وقف من بها على الرقعة سقط في أيديهم وعلموا أنهم لا يقدرون أن يحفظوا البلد هذه المدة فأرسلوا إلى الشهيد وصالحوه وسلموا البلد إليه فبطل على تمرتاش وداود ما كانا عزما عليه وهذا من غريب ما يسمع.
فلما ملك نصيبين سار عنها إلى سنجار فامتنع من بها عليه ثم صالحوه وسلموا البلد إليه وسير منها الشحن إلى الخابور فملكه جميعه.
ثم سار إلى حران وهي للمسلمين وكانت الرها وسروج والبيرة وتلك النواحي جميعها للفرنج وأهل حران معهم في ضر عظيم وضيق شديد لخلو البلد من حام يذب عنها وسلطان يمنعها فلما قارب حران خرج أهل البلد وأطاعوه وسلموا إليه فلما ملكها أرسل إلى جوسلين صاحب الرها وتلك البلاد وراسله وهادنه مدة يسيرة وكان غرضه أن يتفرغ لإصلاح البلد وتجنيد الأجناد وكان أهم الأمور إليه أن يعبر الفرات إلى الشام ويملك مدينة حلب وغيرها من البلاد الشامية فاستقر الصلح بينهم وأمن الناس ونحن نذكر ملك حلب إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة قتل معين الملك أبو نصر أحمد بن الفضل وزير السلطان سنجر قتلته الباطنية وفيها ولى السلطان شحنكية بغداد مجاهد الدين بهروز لما سار أتابك زنكي إلى الموصل.
وفيها رتب الحسن بن سليمان في تدريس النظامية ببغداد.
وفيها أوقع السلطان سنجر بالباطنية في ألموت فقتل منهم خلقًا كثيرًا قيل كانوا يزيدون على عشرة آلاف نفس.
وتو في هذه السنة علي بن المبرك أبو الحسن المقري المعروف بابن الفاعوس الحنبلي ببغداد في شوال وكان صالحًا.
وفي شوال توفي محمد بن عبد الملك بن إبراهيم بن أحمد أبو الحسن بن أبي الفضل الهمذاني الفرضي صاحب التاريخ.