المجلد التاسع - ذكر ملك أتابك بعض ديار بكر

‏ و في هذه السنة سار أتابك زنكي لى ديار بكر ففتح منها عدة حصون فمن ذلك‏:‏ مدينة

طنزة ومدينة اسعرد ومدينة حيزان وحصن الروق وحصن قطليس وحصن ناتاسا وحصن ذي القرنين وغير ذلك مما لم يبلغ شهرة هذه الأماكن وأخذ أيضًا من بلد ماردين مما هو بيد الفرنج حملين والموزر وتل موزن وغيرها من حصون جوسلين ورتب أمور الجميع وجعل فيها من الأجناد من يحفظها وقصد مدينة آمد وحاني فحصرهما وأقام بتلك الناحية مصلحًا لما فتحه ومحاصرًا لما لم يفتحه‏.‏

ذكر أمر العيارين ببغداد

و في هذه السنة زاد أمر العيارين وكثروا لأمنهم من الطلب بسبب ابن الوزير وابن قاروت أخي زوجة السلطان لأنهما كان لهما نصيب في الذي يأخذه العيارون‏.‏

وكان النائب في شحنكية بغداد يومئذ مملوك اسمه إيلدكز وكان صارمًا مقدامًا ظالمًا فحمله الإقدام إلى أن حضرعند السلطان فقال له السلطان‏:‏ إن السياسة قاصرة والناس قد هلكوا فقال‏:‏ يا سلطان العالم إذا كان عقيد العيارين ولد وزيرك وأخا امرأتك فأي قدرة لي على المفسدين وشرح له الحال فقال له‏:‏ الساعة تخرج وتكبس عليهما أين كانا وتصلبهما فإن فعلت وإلا صلبتك فأخذ خاتمه وخرج فكبس على ابن الوزير فلم يجده فأخذ من كان عنده وكبس على ابن قاروت فأخذه وصلبه فأصبح الناس وهرب ابن الوزير وشاع في الناس الأمر ورثي ابن قاروت مصلوبًا فهرب أكثر العيارين وقبض على من أقام وكفى الناس شرهم

ذكر حصر سنجر خوارزم وصلحه مع خوارزم شاه

قد ذكرنا سنة اثنتين وثلاثين مسير سنجر إلى خوارزم وملكه لها وعود أتسز خوارزم شاه إليها وأخذها وما كان منه بخراسان بعد ذلك فلما كان

في هذه السنة سار السلطان سنجر إلى خوارزم فجمع خوارزم شاه عساكره وتحصن بالمدينة ولم يخرج منها لقتال لعلمه أنه لا يقوى لسنجر‏.‏

وكان القتال يجري بين الفريقين من وراء السور فاتفق في يوم من بعض الأيام ان هجم أمير من أمراء سنجر اسمه سنقر على البلد من الجانب الشرقي ودخله ودخل أمير آخر اسمه مثقال التاجي من الجانب الغربي فلم يبق غير ملكه قهرًا وعنوة انصرف مثقال عن البلد حسدًا لسنقر فقوي عليه خوارزم شاه أتسز فأخرجه من البلد وبقي سنقر وحده واشتد في حفظه فلما رأى السلطان قوة البلد وامتناعه عزم على العود إلى مرو ولم يمكنه من غير قاعدة تستقر بينهما فاتفق أن خوارزم شاه أرسل رسلًا يبذل المال والطاعة والخدمة ويعود إلى ما كان عليه من الانقياد فأجابه إلى ذلك واصطلحا وعاد سنجر إلى مرو وأقام خوارزم شاه بخوارزم‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة سير أتابك زنكي عسكرًا إلى مدينة عانة من أعمال الفرات فملكوها‏.‏

وفيها في المحرم توفي أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد الأنباطي الحافظ ببغداد ومولده سنة اثنتين وستين وأربعمائة‏.‏

وفيها توفي أبو الفتوح محمد بن الفضل بن محمد الأسفراييني الوعظ من أهل اسفرايين من خراسان وأقام مدة ببغداد يعظ وسار إلى خراسان فمات ببسطام وكان إمامًا فاضلًا صالحًا وكان بينه وبين علي الغزنوي تحاسد فلما مات حضر الغزنوي عزاءه ببغداد وبكى وأكثر فقال بعض أصحاب أبي الفتوح للغزنوي كلا مًا أغلظ له فيه فلما قام الغزنوي لامه بعض تلامذته على حضور العزاء وكثرة البكاء وقال له‏:‏ كنت مهاجرًا لهذا الرجل فلما مات حضرت عزاءه وأكثرت البكاء وأظهرت الحزن قال‏:‏ كنت أبكي على نفسي كان يقال فلان وفلان فمن يعدم

ذهب المبرد وانقضت أيامه وسينقضي بعد المبرد ثعلب بيت من الآداب أصبح نصفه خربًا وباق نصفه فسيخرب فتزودوا من ثعلب فبمثل ما شرب المبرد عن قليل يشرب أوصيكم أن تكتبوا أنفاسه إن كانت الأنفاس مما يكتب وفيها توفي الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي في رمضان معزولًا ودفن بداره بباب الآزج ثم نقل إلى الحربية‏.‏

وفيها توفي أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري النحوي المفسر وزمخشر إحدى قرى خوارزم‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وخمسمائة

ذكر فتح الرها وغيرها من بلاد الجزيرة مما كان بيد الفرنج

في هذه السنة سادس جمادى الأخرة فتح أتابك عماد الدين زنكي بن آقسنقر مدينة الرها من الفرنج وفتح غيرها من حصونهم بالجزيرة أيضًا وكان ضررهم قد عم بلاد الجزيرة وشرهم قد استطار فيها ووصلت غاراتهم إلى أدانيها وأقاصيها وبلغت آمد ونصيبين ورأس عين والرقة‏.‏

وكانت مملكتهم بهذه الديار من قريب ماردين إلى الفرات مثل الرها وسروج والبيرة وسن ابن عطير وحملين والموزر والقرادي وغير ذلك‏.‏

وكانت هذه الأعمال مع غيرها مما هو غرب الفرات لجوسلين وكان صاحب رأي الفرنج والمقدم على عساكرهم لما هو عليه من الشجاعة والمكر‏.‏

وكان أتابك يعلم أنه متى قصد حصرها اجتمع فيها من الفرنج من يمنعها فيتعذر عليه ملكها لا هي عليه من الحصانة فاشتغل بديار بكر ليوهم الفرنج أنه غير متفرغ لقصد بلادهم‏.‏

فلما رأوا أنه غير قادر على ترك الملوك الأرتقية وغيرهم من ملوك ديار بكر حيث أنه محارب لهم اطمأنوا وفارق جوسلين الرها وعبر الفرات إلى بلاد الغربية فجاءت عيون أتابك إليه فأخبرته فنادى العسكر بالرحيل وأن لا يتخلف عن الرها أحد من غد يومه وجمع الأمراء عنده وقال‏:‏ قدموا الطعام وقال‏:‏ لا يأكل معي على مائدتي هذه إلا من يطعن غدًا معي على باب الرها فلم يتقدم إليه غير أمير واحد وصبي لا يعرف لما يعلمون من إقدامه وشجاعته وأن أحدًا لا يقدر على مجاراته في الحرب فقال الأمير لذلك الصبي‏:‏ ما أنت في هذا المقام فقال أتابك‏:‏ دعه فوالله إني أرى وجهًا لا يتخلف عني‏.‏

وسار والعساكر معه ووصل إلى الرها وكان هو أول من حمل على الفرنج ومعه ذلك الصبي وحمل فارس من خيالة الفرنج على أتابك عرضًا فاعترضه ذلك الأمير فطعنه فقتله وسلم الشهيد ونازل البلد وقاتله ثمانية وعشرين يومًا فزحف إليه عدة دفعات وقدم النقابين فنقبوا سور البلد ولج في قتاله خوفًا من اجتماع الفرنج والمسير أليه واستنقاذ البلد منه فسقطت البدنة التي نقبها النقابون وأخذ البلد عنوة وقهرًا وحصر قلعته فملكها أيضًا ونهب الناس الأموال وسبوا الذرية وقتلوا الرجال‏.‏

فلما رأى أتابك البلد أعجبه ورأى أن تخريب مثله لا يجوز في السياسة فأمر فنودي في العساكر برد من أخذوه من الرجال والنساء والأطفال إلى بيوتهم وإعادة ما غنموه من أثاثهم وأمتعتهم فردوا الجميع عن آخره لم يفقد منهم أحد إلا الشاذ النادر الذي أخذ وفارق من أخذه العسكر فعاد البلد إلى حاله الأول وجعل فيه عسكرًا يحفظه وتسلم مدينة سروج وسائر الأماكن التي كانت بيد الفرنج شرقي الفرات ما عدا البيرة فإنها حصينة منيعة وعلى شاطئ الفرات فسار إليها وحاصرها وكانوا قد اكثروا ميرتها ورجالها فبقي على حصارها إلى أن رحل عنها على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

حكي أن بعض العلماء بالأنساب والتواريخ قال‏:‏ كان صاحب جزيرة صقلية قد أرسل سرية في البحر إلى طرابلس الغرب وتلك الأعمال فنهبوا وقتلوا وكان بصقلية إنسان من العلماء المسلمين وهو من أهل الصلاح وكان صاحب صقلية يكرمه ويحترمه ويرجع إلى قوله ويقدمه على من عنده من القسوس والرهبان وكان أهل ولايته يقولون إنه مسلم بهذا السبب‏.‏

ففي بعض الأيام كان جالسًا في منظرة له تشرف على البحر وإذ قد أقبل مركب لطيف وأخبره من فيه أن عسكر دخلوا بلاد الإسلام وغنموا وقتلوا وظفروا وكان المسلم إلى جانبه وقد أغفى فقال له الملك‏:‏ يأفلان‏!‏ أما تسمع ما يقولون قال‏:‏ لا‏:‏ إنهم يخبرون بكذا وكذا‏.‏

أين كان محمد عن تلك البلاد وأهلها فقال له‏:‏ كان قد غلب عنهم وشهد فتح أرها وقد فتحها المسلمون الآن فضحك منه من هناك من إفرنج فقال الملك‏:‏ لا تضحكوا فالله ما يقول إلا الحق فبعد أيام وصلت الأخبار من فزنج الشام بفتحها‏.‏

وحكى لي جماعة من أهل الدين والصلاح أن إنسانًا صالحًا رأى الشهيد في منامه فقال له‏:‏ ما فعل الله بك قال‏:‏ غفر لي بفتح ألرها‏.‏

ذكر قتل نصير الدين جقر وولاية زين الدين علي كوجك قلعة الموصل


في هذه السنة في ذي القعدة قتل نظير الدين جقر نائب أتابك زنكي بالموصل والأعمال جميعها التي شرق الفرات‏.‏

وسبب قتله أن الملك ألب أرسلان المعروف بالخفاجي ولد السلطان محمود كان عند أتابك الشهيد وكان يظهر للخلفاء والسلطان مسعود‏.‏

أصحاب الأطراف أن هذه البلاد لهذا الملك وأنا نائبه فيها وكان ينتظر وفاة السلطان مسعود ليخطب له بالسلطنة ويملك البلاد باسمه وكان هذا الملك بالموصل هذه السنة ونصير الدين يقصده كل يوم ليقوم بخدمة إن عرضت له فحسن له بعض المفسدين طلب الملك وقال له‏:‏ إن قتلت نصير الدين ملكت الموصل وغيرها من البلاد ولا يبقى مع أتابك زنكي فارس واحد‏.‏

فوقع هذا منه موقعًا حسنًا وظنه صدقًا فلما دخل نصير الدين إليه وثب عليه من عنده من أجناد أتابك ومماليكه فقتلوه وألقوا برأسه إلى أصحابه ظنًا منهم أن أصحابه يتفرقون ويخرج الملك ويملك البلد‏.‏

وكان الأمر خلاف ما ظنوه فإن أصحابه وأصحاب أتابك الذين في خدمته لما رأوا رأسه قاتلوا من بالدار مع الملك واجتمع معهم الخلق الكثير وكانت دولة أتابك مملوءة بالرجال والأجلاد ذوي الرأي والتجربة ثم دخل إليه القاضي تاج الدين يحيى الشهرزوري ولم يزل به يخدعه وكان فيما قال له حين رآه منزعجًا‏:‏ يامولانا لم تحرد من هذا الكلب هذا واستاذه مماليك والحمد لله الذي أراحنا منه ومن صاحبه على يدك وما الذي يقعدك في هذه الدار قم لتصعد القلعة وتأخذ الأموال والسلاح وتملك البلد وتجمع الجند وليس دون البلاد بعد فقام معه وركب القلعة فلما قاربها أراد من بها من النقيب والأجناد القتال فتقدم إليهم تاج الدين وقال لهم‏:‏ افتحوا الباب وتسلموه وافعلوا به ما أردتم ففتحوا الباب ودخل الملك والقاضي إليها ومعهما من أعان على قتل نصير الدين فسجنوا ونزل القاضي‏.‏

وبلغ الخبر أتابك زنكي وهو يحاصر قلعة البيرة وقد أشرف على ملكها فخاف أن تختلف البلاد الشرقية بعد قتل نصير الدين ففارق البيرة وأرسل زين الدين علي بن بكتكين إلى قلعة الموصل واليًا على ما كان نصير الدين يتولاه‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة قبض السلطان مسعود على وزيره البروجردي ووزر بعده المرزبان ابن عبيد الله بن نصر الأصفهاني وسلم إليه البروجردي فاستخرج أمواله ومات مقبوضًا‏.‏

وفيها كان أتابك عماد الدين زنكي يحاصر البيرة وهي للفرنج شرق الفرات بعد ملك الرها وهي من أمنع الحصون وضيق عليها وقارب أن يفتحها فجاءه خبر قتل نصير الدين نائبه بالموصل فرحل عنها وأرسل نائبًا إلى الموصل وأقام ينتظر الخبر فخاف من بالبيرة من الفرنج أن يعود إليهم وكانوا يخافونه خوفًا شديدًا فأرسلوا إلى نجم الدين صاحب ماردين وسلموها

وفيها خرج أسطول الفرنج من صقلية إلى ساحل إفريقية والغرب ففتحوا مدينة برشك وقتلوا أهلها وسبوا حريمهم وباعوه بصقلية على المسلمين‏.‏

وفيها توفي تاشفين بن علي بن يوسف صاحب الغرب وكانت ولايته تزيد على أربع سنين وولي بعده أخوه وضعف أمر الملثمين وقوي عبد المؤمن وقد ذكرنا ذلك سنة أربع عشرة وخمسمائة‏.‏

وفيها في شوال ظهر كوكب عظيم له ذنب من جانب المشرق وبقي إلى نصف ذي القعدة ثم غاب ثم طلع من جانب الغرب فقيل هو هو وقيل بل غيره‏.‏

وفيها كانت فتنة عظيمة بين الأمير هاشم بن فليتة بن القاسم العلوي الحسيني أمير مكة والأمير نظر الخادم أمير الحاج فنهب أصحاب هاشم الحجاج وهم في المسجد يطوفون ويصلون ولم يرقبوا فيهم إلًا ولا ذمة‏.‏

وفيها في ذي الحجة توفي عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن حمدويه أبو المعالي المروزي بمرو وسافر الكثير وسمع الحديث الكثير وبنى بمرو رباطًا ووقف فيه كتبًا كثيرة وكان كثير الصدقة والعبادة‏.‏

وتوفي محمد بن عبد الملك بن حسن بن إبراهيم بن خيرون أبو منصور المقري ومولده في رجب وفي ذي الحجة منها توفي أبو منصور سعيد بن محمد بن عمر المعروف بابن الرزاز مدرس النظامية ببغداد ومولده سنة اثنتين وأربعمائة وتفقه على الغزالي والشامي ودفن في تربة الشيخ أبي إسحق‏.‏

ثم دخلت سنة أربعين وخمسمائة

ذكر اتفاق بوزابة وعباس على منازعة السلطان

في هذه السنة سار بوزابة صاحب فارس وخوزستان وعساكره إلى قاشان ومعه الملك محمد ابن السلطان محمود ووصل إليهما الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد واجتمع بوزابة والأمير عباس صاحب الري واتفقا على الخروج عن طاعة السلطان مسعود وملكا كثيرًا من بلاده‏.‏

ووصل الخبر إليه وهو ببغداد ومعه الأمير عبد الرحمن طغايرك وهو أمير حاجب حاكم في الدولة وكان ميله إليهما فسار السلطان في رمضان عن بغداد ونزل بها الأمير مهلهل ونظر وجماعة من غلمان بهروز وسار السلطان وعبد الرحمن معه فتقارب العسكران ولم يبق إلا المصاف فلحق سليمان شاه بأخيه مسعود وشرع عبد الرحمن في تقرير الصلح على القاعدة التي أرادوها وأضيف إلى عبد الرحمن ولاية أذربيجان وأرانية إلى ما بيده وصار أبو الفتح بن دارست وزير السلطان مسعود وهو وزير بوزابة فصار السلطان معهم تحت الحجر وأبعدوا بك أرسلان بن بلنكري المعروف بخاص بك وهو ملازم السلطان وتربيته وصار في خدمة عبد الرحمن ليحقن دمه وصار الجماعة في خدمة السلطان صورة لا معنى تحتها والله أعلم‏.‏

ذكر استيلاء علي بن دبيس على الحلة

في هذه السنة سار علي بن دبيس هاربًا فملكها وكان سبب ذلك أن السلطان لما أراد الرحيل من بغداد أشار عليه المهلهل أن يحبس علي ابن دبيس بقلعة تكريت فعلم ذلك فهرب في جماعة يسيرة نحو خمسة عشر فمضى إلى الأزيز وجمع بني أسد وغيرهم وسار إلى الحلة وبها أخوه محمد بن دبيس فقاتله فانهزم محمد وملك علي الحلة‏.‏

واستهان السلطان أمره أولًا فاستفحل وضم إليه جمعًا من غلمانه وغلمان أبيه وأهل بيته وعساكرهم وكثر جمعهم فسار إليه مهلهل فيمن معه في بغداد من العسكر وضربوا معه مصافًا فكسرهم وعادوا منهزمين إلى بغداد‏.‏

وكان أهلها يتعصبون لعلي بن دبيس وكانوا يصيحون إذا ركب مهلهل وبعض أصحابه‏:‏ يا علي‏!‏ كله‏.‏

وكثر ذلك منهم بحيث امتنع مهلهل من الركوب‏.‏

ومد علي يده في أقطاع الأمراء بالحلة وتصرف فيها وصار شحنة بغداد ومن فيها على وجل منه وجمع الخليفة جماعة وجعلهم على السور لحفظه وراسل عليًا فأعاد الجواب بأنني العبد المطيع مهما رسم لي فعلت فسكن الناس ووصلت الأخبار بعد ذلك أن السلطان مسعودًا تفرق خصومه عنه فازداد سكون الناس

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة حج بالناس قايماز الأرجواني صاحب أمير الحاج نظر واحتج نظر بأن بركة نهب في كسرة الحلة وأن بينه وبين أمير مكة من الحروب ما لا يمكنه معه الحج‏.‏

وفيها اتصل بالخليفة عن أخيه أبي طالب ما كرهه فضيق عليه واحتاط على غيرهمن أقربه‏.‏

وفيها ملك الفرنج لعنهم الله مدينة شنترين وباجة وماردة وأشبونة وسائر المعاقل المجاورة لها من بلاد الأندلس وكانت للمسلمين فاختلفوا فطمع العدو وأخذ هذه المدن وقوي بها قوة تمكن معها وتيقن ملك سائر البلاد الإسلامية بالأندلس فخيب الله ظنه وكان ما نذكره‏.‏

وفيها سار أسطول الفرنج من صقلية ففتحوا جزيرة قرنة من إفريقية فقتلوا رجالها وسبوا حريمهم فأرسل الحسن صاحب إفريقية إلى رجار ملك صقلية يذكره العهود التي بينهم فاعتذر بأنهم غير مطيعين له‏.‏

و في هذه السنة توفي مجاهد الدين بهروز الغياثي وكان حاكمًا قي العراق نيفًا وثلاثين سنة ويرنقش الزكوي صاحب أصفهان وكان أيضًا شحنة بالعراق وهو خادم أرمني لبعض التجار‏.‏

وتوفي الأمير إيلدكز شحنة بغداد والشيخ أبو منصور موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي اللغوي ومولده في ذي الحجة سنة خمس وستين وأربعمائة وأخذ اللغة عن أبي زكرياء التبريزي وكان يؤم بالمقتفي أمير المؤمنين‏.‏

وتوفي أحمد بن محمد بن الحسن بن علي بن أحمد بن سليمان أبو سعيد ابن أبي الفضل الأصفهاني ومولده سنة ثلاث وستين وأربعمائة وروى الحديث الكثير وكان على سيرة السلف كثير الاتباع للسنة رحمة الله عليه‏.‏

ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وخمسمائة

في هذه السنة ملك الفرنج لعنهم الله طرابلس الغرب وسبب ذلك أن رجار ملك صقيلية جهز أسطولًا كثيرًا وسيره إلى طرابلس الغرب فأحاطوا بها برًا وبحرًا ثالث المحرم فخرج إليهم أهلها وأنشبوا القتال فدامت الحرب بينهم ثلاثة أيام‏.‏

فلما كان اليوم الثالث سمع الفرنج بالمدينة ضجة عظيمة وخلت الأسوار من المقاتلة وسبب ذلك أن أهل طرابلس كانوا قبل وصول الفرنج بأيام يسيرة قد اختلفوا فأخرج طائفة منهم بني مطروح وقدموا عليهم رجلًا ملثمًا قدم يريد الحج ومعه جماعة فولوه أمرهم فلما نازلهم الفرنج أعادت الطائفة الأخرى بني مطروح فوقعت الحرب بين الطائفتين وخلت الأسوار فانتهز الفرنج الفرصة ونصبوا السلالم وصعدوا على السور واشتد القتال فملكت الفرنج المدينة عنوة بالسيف فسفكوا دماء أهلها وسبوا نساءهم وهرب من قدر على الهرب والتجأ إلى البربر والعرب فنودي بالأمان في الناس كافة فرجع كل من فر منها‏.‏

وأقام الفرنج ستة أشهر حتى حصنوا أسوارها وحفروا خندقها ولما عادوا أخذوا رهائن أهلها ومعهم بنو مطروح والملثم ثم أعادوا رهائنهم وولوا عليها رجلًا من بني مطروح وتركوا رهائنه وحده واستقامت أمور المدينة وألزم أهل صقيلية والروم بالسفر إليها فانعمرت سريعًا وحسن حالها‏.‏

و في هذه السنة سار أتابك إلى حصن جعبر وهو مطل على الفرات وكان بيد سالمبن مالك العقيلي سلمه السلطان ملك شاه إلى أبيه لما أخذ منه حلب وقد ذكرناه فحصره وسير جيشًا إلى قلعة فنك وهي تجاور جزيرة ابن عمر بينها فرسخان فحصرها أيضًا وصاحبها حينئذ الأمير حسام الدين الكردي البشنوي‏.‏

وكان سبب ذلك أنه كان لا يريد أن يكون في وسط بلاده ما هو ملك غيره حزمًا واحتياطًا فنازل قلعة جعبر وحصرها وقاتله بها فلما طال عليه ذاك أرسل إلىصاحبها مع الأمير حسان المنبجي لمودة كانت بينهما في معنى تسليمها وقال له‏:‏ تضمن عني الأقطاع الكثير والمال الجزيل فإن أجاب إلى التسليم وإلا فقلله‏:‏ والله لأقيمن عليك إلى أن أملكها عنوة ثم لا أبقي عليك ومن الذي يمنعك مني فصعد إليه حسان وأدى إليه الرسالة ووعده وبذل له ما قيل له فامتنع من التسليم فقال له حسان‏:‏ فهو يقول لك من يمنعك مني فقال‏:‏ يمنعني منه الذي منعك من الأمير بللك‏.‏

فعاد حسان وأخبر الشهيد بامتناعه ولم يذكر لن هذا فقتل أتابك بعد أيام‏.‏

وكانت قصة حسان مع بللك ابن أخي إيلغازي أن حسان كان صاحب منبج فحصره بللك وضيق عليه فبينما هو في بعض الأيام يقاتله جاءه سهم لا يعرف من رماه فقتله وخلص

حسان من الحصر وقد تقدم ذكره وكان هذا القول من الاتفاق الحسن‏.‏

ولما قتل أتابك زنكي رحل العسكر الذين كانوا يحاصرون قلعة فنك عنها وهي بيد أعقاب صاحبها إلى الآن وسمعتهم يذكرون أن لهم بها نحو ثلاثمائة سنة ولهم مقصد وفيهم وفاء وعصبية يأخذون بيد كل من يلتجئ إليهم ويقصدهم ولا يسلمونه كائن من كان‏.‏

ذكر قتل أتابك زنكي وشيء من سيرته

في هذه السنة لخمس مضين من ربيع الأخر قتل أتابك عماد الدين زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل والشام وهو يحاصر قلعة جعبر على ما ذكرناه قتله جماعة من مماليكه غيلة وهربوا إلى قلعة جعبر فصاح من بها من أهلها إلى العسكر يعلمونهم بقتله وأظهروا الفرح فدخل أصحابه إليه فأدركوه وبه رمق‏.‏

حدثني والدب عن بعض خواصه قال‏:‏ دخلت إليه في الحال وهو حي فحين رآني ظن أني أريد قتله فأشار إلي بإصبعه السبابة يستعطفني فوقعت مني هيبته فقات يا مولاي من فعل بك هذا فلم يقدر على الكلام وفاضت نفسه لوقته رحمه الله‏.‏

قال‏:‏ وكان حسن الصورة أسمر اللون مليح العينين قد وخطه الشيب وكان قد زاد عمره وكان شديد الهيبة على عسكره ورعيته عظيم السياسة لا يقدر القوي على ظلم الضعيف وكانت البلاد قبل أن يملكها خرابًا من الظلم وتنقل الولاة ومجاورة الفرنج فعمرها وامتلأت أهلًا وسكانًا‏.‏

حكى لي والدي قال‏:‏ رأيت الموصل وأكثرها خراب بحيث يقف الإنسان قريب محلة الطبالين ويرى الجامع العتيق والعرصة ودار السلطان ليس بين ذلك عمارة وكان الإنسان لا يقدر على المشي إلى الجامع العتيق إلا ومعه من يحميه لبعده عن العمارة وهو الأن في وسط العمارة وليس في هذه البقاع المذكورة كلها أراض براح وحدثني أيضًا أنه وصل إلى الجزيرة في الشتاء فدخل الأمير عز الدين الدبيسي هو من أكابر أمرائه ومن جملة أقطاعه مدينة دقوقا ونزل في دار إنسان يهودي فاستغاث اليهودي إلى اتابك وأنهى حاله إليه فنظر إلى الدبيسي فتأخر ودخل البلد وأخرج بركه وخيامه‏.‏

قال‏:‏ فلقد رأيت غلمانه ينصبون خيامه في الوحل وقد جعلوا على الأرض تبنًا يقيهم الطين وخرج فنزلها وكانت سياسته إلى هذا الحد‏.‏

وكانت الموصل من أقل بلاد الله فاكهة فصارت في أيامه وما بعدها من أكثر البلاد فواكه ورياحين وغير ذلك‏.‏

وكان أيضًا شديد الغيرة ولا سيما على نساء الأجناد وكان يقول‏:‏ إن لم نحفظ نساء الأجناد بالهيبة وإلا فسدن لثرة غيبة أزواجهن في الأسفار‏.‏

وكان أشجع خلق الله أما قبل أن يملك فيكفيه أنه حضر مع الأمير مودود صاحب الموصل مدينة طبرية وهي للفرنج فوصلت طعنته باب البلد وأثر فيه وحما أيضًا على قلعة عقر الحميدية وهي على جبل عال فوصلت طعنته إلى سورها إلى أشياء أخر‏.‏

وأما بعد الملك فقد كان الأعداء محدقين ببلاده وكلهم يقصدها ويريد أخذها وهو لا يقنع بحفظها حتى أنه لا ينقضي عليه عام إلا ويفتح من بلادهم‏.‏

فقد كان الخليفة المسترشد بالله مجاوره في ناحية تكريت وقصد الموصل وحصرها ثم إلى جانبه من ناحية شهرزور ويلك الناحية السلطان مسعود ثم ابن سقمان صاحب خلاط ثم داود بن سقمان صاحب حصن كيفا ثم صاحب آمد وماردين ثم الفرنج من مجاورة ماردين إلى دمشق ثم أصحاب دمشق فهذه الولايات قد أحاطت بولايته من كل جهاتها فهو يقصد هذا مرة وهذا مرة ويأخذ من هذا ويصنع هذا إلى أن ملك من كل من يليه طرفًا من بلاده‏.‏

وقد أتينا على أخباره في كتاب الباهر في تاريخ دولته ودولة أولاده فيطلب من هناك‏.‏

لما قتل أتابك زنكي أخذ نور الدين محمود ولده خاتمه من يده وكان حاضرًا معه وسار إلى حلب فملكها‏.‏

وكان حينئذ يتولى ديوان زنكي ويحكم في دولته من أصحاب العمائم جمال الدين محمد بن علي وهو المنفرد بالحكم ومعه أمير حاجب صلاح الدين محمد الياغيسياني فاتفقا على حفظ الدولة وكان مع الشهيد أتابك الملك ألب أرسلان ابن السلطان محمود فركب ذلك اليوم وأجمعت العساكر عليه وحضر عنده جمال الدين وصلاح الدين وحسنا له الأشتغال بالشرب والمغنيات والجواري وأدخلاه الرقة فبقي فيها أيامًا لا يظهر ثم سار إلى ماكسين فدخلها وأقام بها أيامًا وجمال الدين يحلف الأمراء لسيف الدين غازي بن أتابك زنكي ويسيرهم إلى الموصل‏.‏

ثم سار من ماكسين إلى سنجار وكان سيف الدين قد وصل إلى الموصل فلما وصلوا إلى سنجار أرسل جمال الدين إلى الدزدار يقول له ليرسل إلى ولد السلطان يقول له‏:‏ إني مملوكك ولكني تبع الموصل فمتى ملكتها سلمت إليك سنجار‏.‏

فسار إلى الموصل فأخذه جمال الدين وقصد به مدينة بلد وقد بقي معه من العسكر القليل فأشار عليه بعبور دجلة فعبرها إلى الشرق في نفر يسير‏.‏

وكان سيف الدين غازي بمدينة شهرزور وهي إقطاعه فأرسل إليه زين الدين بن علي كوجك نائب أبيه بالموصل أرسل إليه يعرفه قلة من مع الملك فأرسل إليه بعض عسكره فقبضوا عليه وحبس في قلعة الموصل واستقر ملك سيف الدين البلاد وبقي أخوه نور الدين بحلب وهي له وسار إليه صلاح الدين الياغسياني يدبر أمره ويقوم بحفظ دولته وقد استقصينا شرح هذه الحادثة في التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية

ذكر عصيان الرها

لما قتل أتابك كان جوسلين الفرنجي الذي كان صاحب الرها في ولايته وهي تل باشر وما يجاورها فراسل أهل الرها وعامتهم من الأرمن وحملهم على العصيان والامتناع على المسلمين وتسليم البلد فأجابوه إلى ذلك وواعدهم يومًا يصل إليهم فيه وسار في عساكره إلى الرها وملك البلد وامتنعت القلعة عليه بمن فيها من المسلمين فقاتلهم فبلغ الخبر إلى نور الدين محمود بن زنكي وهو بحلب فسار مجدًا إليه في عسكره فلما قاربها خرج جوسلين هاربًا عائدًا إلى بلده ودخل نور الدين المدينة ونهبها حينئذ وسبى لأهلها‏.‏

وفي هذه الدفعة نهبت وخلت من أهلها ولم يبق بها منهم إلا القليل وكثير من الناس يظن أنها وبلغ الخبر إلى سيف الدين غازي بعصيان الرها فسير العساكر إليها فسمعوا بملك نور الدين البلد واستباحته وهم في الطريق فعادوا‏.‏

ومن أعجب ما يروى أن زين الدين عليًا الذي كان نائب الشهيد وأولاده بقلعة الموصل جاءه هدية أرسلها إليه نور الدين من هذا الفتح وفي الجملة جارية فلما دخل إليها وخرج من عندها وقد اغتسل قال لمن عنده‏:‏ تعلمون ما جرى لي في يومنا هذا قالوا لا‏!‏ قال‏:‏ لما فتحنا الرها مع الشهيد وقع في يدي من النهب جارية رائقة أعجبني حسنها ومال قلبي إليها فلم يكن بأسرع من أن أمر الشهيد فنودي برد السبي والمال المنهوب وكان مهيبًا مخوفًا فرددتها وقلبي متعلق بها فلما كان الأن جاءتني هدية نور الدين وفيها عدة جوار منهن تلك الجارية فوطئتها خوفًا أن يقع رد تلك الدفعة‏.‏

ذكر استيلاء عبد المؤمن على جزيرة الأندلس

في هذه السنة سير عبد المؤمن جيشًا إلى جزيرة الأندلس فملكوا ما فيها من بلاد الإسلام‏.‏

وسبب ذلك أن عبد المؤمن لما كان يحاصر مراكش جاء إليه جماعة من أعيان الأندلس منهم أبو جعفر أحمد بن محمد بن حمدين ومعهم مكتوب يتضمن بيعة أهل البلاد التي هم فيها لعبد المؤمن ودخولهم في زمرة أصحابه الموحدين وإقامتهم لأمره فقبل عبد المؤمن ذلك منهم وشكرهم عليه وطيب قلوبهم وطلبوا منه النصرة على الفرنج فجهز جيشًا كثيفًا وسيره معهم وعمر أسطولًا وسيره في البحر فسار الأسطول إلى الأندلس وقصدوا مدينة إشبيلية وصعدوا في نهرها وبها جيش من الملثمين فحصروها برًا وبحرًا وملكوها عنوة وقتل فيها جماعة وأمن الناس فسكنوا واستولت العساكر على البلاد وكان لعبد المؤمن من بها

ذكر قتل عبد الرحمن طغايرك وعباس صاحب الري

في هذه السنة قتل السلطان مسعود أمير حاجب عبد الرحمن طغايرك وهو صاحب خلخال وبعض أذربيجان والحاكم في دولة السلطان وليس للسلطان معه حكم‏.‏

وكان سبب قتله لما ضيق عليه عبد الرحمن بقي معه شبه الأسير ليس له في البلاد حكم حتى إن عبد الرحمن قصد غلامًا كان للسلطان وهو بك أرسلان المعروف بخاص بك بن بلنكري وقد رباه السلطان وقربه فأبعده عنه وصار لا يراه وكان في خاص بك عقل وتدبير وجودة قريحة وتوصل لما يريد أن يفعله فجمع عبد الرحمن العساكر وخاص بك فيهم وقد استقر بينه وبين السلطان مسعود أن يقتل عبد الرحمن إلا رجلًا اسمه زنكي وكان جاندارًا فإنه بذل من نفسه أن يبدأه بالقتل ووافق خاص بك على القيام في الأمر جماعة من الأمراء فبينما عبد الرحمن في موكبه ضربه زنكي الجاندار بمقرعة حديد كانت في يده على رأسه فسقط إلى الأرض فأجهز عليه خاص بك وأعانه على حماية زنكي والقائمين معه من كان واطأه على ذلك من الأمراء وكان قتله بظاهر جنزة‏.‏

وبلغ الخبر إلى السلطان مسعود وهو ببغداد ومعه الأمير عباس صاحب الري وعسكره أكثر من عسكر السلطان فأنكر ذلك وامتعض منه فداراه السلطان ولطف به واستدعى الأمير البقش كونخر من اللحف وتتر الذي كان حاجبًا فلما قوي بهما أحضر عباسًا إليه في داره فلما دخل إليه منع أصحابه من الدخول معه وعدلوا به إلى حجرة وقالوا له‏:‏ اخلع الرزية فقال‏:‏ إن لي مع السلطان أيمانًا وعهودًا فلكموه وخرج له غلمان أعدوا لذلك فحينئذ تشاهد وخلع الرزية وألقاها وضربوه بالسيوف واحتزوا رأسه وألقوه إلى أصحابه ثم ألقوا جسده ونهب رحله وخيمه وانزعج البلد لذلك‏.‏

وكان عباس من غلمان السلطان محمود حسن السيرة عادلًا في رعيته كثير الجهاد للباطنية قتل منهم خلقًا كثيرًا وبنى من رؤوسهم منارة بالري وحصر قلعة ألموت ودخل إلى قرية من قراهم فألقى فيها النار فأحرق كل من فيها من رجل وامرأة وصبي وغير ذلك فلما قتل دفن بالجانب الغربي ثم أرسلت ابته فحملته إلى الري فدفنته هناك وكان مقتله في ذي القعدة‏.‏

ومن الاتفاق العجيب أن العبادي كان يعظ يومًا فحضره عباس فأسمع بعض من في المجلس ورمى بنفسه نحو الأمير عباس فضربه أصحابه ومنعوه خوفًا عليه لأنه كان شديد احتراس من الباطنية لا يزال لابسًا الزردية لا تفارقه الغلمان الأجلاد فقال له العبادي‏:‏ يا أمير إلام هذا الاحتراز والله لئن قضي عليك بأمر لتحلن أنت بيدك أزرار الزردية فينفذ القضاء فيك‏.‏

وكان كما قال وقد كان السلطان استوزر ابن دارست وزير بوزابة كارهًا على ما تقدم ذكره فعزله الآن لأنه اختار العزل والعود إلى صاحبه بوزابة فلما عزله قرر معه أن يصلح له بوزابة ويزيل ما عنده من الاستشعار بسبب قتل عبد الرحمن وعباس فسار الوزير وهو لا يعتقد النجاة فوصل إلى بوزابة وكان ما نذكره‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة حبس السلطان مسعود أخاه سليمان شاه بقلعة تكريت‏.‏

وفيها توفي الأمير جاولي الطغرلي صاحب آرانية وبعض أذربيجان وكان قد تحرك للعصيان وتوفي شيخ الشيوخ صدر الدين إسماعيل بن أبي سعد الصوفي مات ببغداد ودفن بظاهر رباط الزوزني بباب البصرة ومولده سنة أربع وستين وأربعمائة وقام في منصبه ولده صدر الدين شيخ الشيوخ عبد الرحيم‏.‏

وفيها توفي نقيب النقباء محمد بن طراد الزينبي أخو شرف الدين الوزير‏.‏

وفيها ولي مسعود بن بلال شحنكية بغداد وسار السلطان عنها‏.‏

وفيها كان بالعراق جراد كثير أحل أكثر البلاد‏.‏

وفيها ورد العبادي الواعظ رسولًا من السلطان سنجر إلى الخليفة ووعظ ببغداد وكان له قبول بها وحضر مجلسه السلطان مسعود فمن دونه وأما العامة فإنهم كانوا يتركون أشغالهم لحضور مجلسه والمسابقة إليه‏.‏

وفيها بعد قتل الشهيد زنكي بن آقسنقر قصد صاحب دمشق حصن بعلبك وحصره وكان به نجم الدين أيوب بن شاذي مستحفظًا لها فخاف أن أولاد زنكي لا يمكنهم إنجاده بالعاجل فصالحه وسلم القلعة إليه وأخذ منه إقطاعًا ومالًا وملكه عدة قرى من بلد دمشق وانتقل أيوب إلى دمشق فسكنها وأقام فيها‏.‏

و في هذه السنة في ربيع الآخر توفي عبد الله بن علي بن أحمد أبو محمد المقري ابن بنت الشيخ أبي منصور ومولده في شعبان سنة أربع وستين وأربعمائة وكان مقرئًا نحويًا محدثًا وله تصانيف في القراءات‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة

ذكر قتل بوزابة

لما اتصل بالأمير بوزابة قتل عباس جمع عساكره من فارس وخوزستان وسار إلى أصفهان فحصرها وسير عسكرًا آخر إلى همذان وعسكرًا ثالثًا إلى قلعة الماهكي من بلد اللحف فأما عسكره الذي بالماهكي فإنه سار إليهم الأمير البقش كون خر فدفعهم عن أعماله وكانت أقطاعة ثم إن بوزابة سار عن أصفهان يطلب السلطان مسعودًا فراسله السلطان في الصلح فلم يجب إليه وسار مجدًا فالتقيا بمرج قراتكين وتصافا فاقتتل العسكران فانهزمت ميمنة السلطان مسعود وميسرته واقتتل القلبان أشد قتال وأعظمه صبر فيه الفريقان ودامت الحرب بينهما فسقط بوزابة عن فرسه بسهم أصابه وقيل بل عثر به الفرس فأخذ أسيرًا وحمل إلى السلطان وقتل بين يديه وانهزم أصحابه لما أخذ هو أسيرًا‏.‏

وبلغت هزيمة العسكر السلطاني من الميمنة والميسرة إلى همذان وقتل بين الفريقين خلق كثير

ذكر طاعة أهل قابس للفرنج وغلبة المسلمين عليها

كان صاحب مدينة قابس قبل هذه السنة إنسانًا اسمه رشيد توفي وخلف أولادًا فعمد مولى له اسمه يوسف إلى ولده الصغير واسمه محمد فولاه الأمر وأخرج ولده الكبير واسمه معمر واستولى يوسف على البلد وحكم على محمد لصغر سنه‏.‏

وجرى منه أشياء من التعرض إلى حرم سيده والعهدة على ناقله وكان من جملتهم امرأة من بني قرة فأرسلت إلى أخوتها تشكو إليهم ما هي فيه فجاء أخوتها لأخذهم فمنعهم وقال‏:‏ هذه حرمة مولاي ولم يسلمها فسار بنو قرة ومعمر بن رشيد إلى الحسن صاحب إفريقية وشكوا إليه ما يفعل يوسف فكاتبه الحسن في ذلك فلم يجب إليه وقال‏:‏ ائن لم يكف الحسن عني وإلا سلمت قابس إلى صاحب صقيلية فجهز الحسن العسكر إليه فلما سمع يوسف بذلك أرسل إلى رجار الفرنجي صاحب صقيلية وبذل له الطاعة وقال له‏:‏ أريد منك خلعة وعهدًا بولاية قابس لأكون نائبًا عنك كما فعلت مع بني مطروح في طرابلس فسير إليه رجار الخلعة فجد حينئذ الحسن في تجهيز العسكر إلى قابس فساروا إليها ونازلوها وحصروها فثار أهل البلد بيوسف لما اعتمده من طاعة الفرنج وسلموا البلد إلى عسكر الحسن وتحصن يوسف في القصر فقاتلوه حتى فتحوه وأخذ يوسف أسيرًا فتولى عذابه معمر بن رشيد وبنو قرة فقطعوا ذكره وجعلوه في فمه وعذب بأنواع العذاب‏.‏

وولي معمر قابس مكان أخيه محمد وأخذ بنو قرة أختهم وهرب عيسى أخو يوسف وولد يوسف وقصدوا رجار صاحب صقيلية فاستجاروا به وشكوا إليه ما لقوا من الحسن فغضب لذلك وكان ما نذكره سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة من فتح المهدية إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر حادثة ينبغي أن يحتاط العاقل من مثلها

كان يوسف هذا صاحب قابس قد أرسل رسولًا إلى رجار بصقيلية فاجتمع هو ورسول الحسن صاحب المهدية عنده فجرى بين الرسولين مناظرة فذكر رسول يوسف الحسن وما نال منه وذمه ثم إنهما عادا في وقت واحد وركبا البحر كل واحد منهما في مركبه فأرسل رسول الحسن رقعة إلى صاحبه على جناح طائر يخبره بما كان من رسول يوسف فسير الحسن جماعة من أصحابه في البحر فأخذوا رسول يوسف وأحضروه عند الحسن فسبه وقال‏:‏ ملكت الفرنج بلاد المسلمين وطولت لسانك بذمي‏!‏ ثم أركبه جملًا وعلى رأسه طرطور بجلاجل وطيف به في البلد ونودي عليه‏:‏ هذا جزاء من سعى أن يملك بلاد المسلمين فلما توسط المهدية ثار به العامة فقتلوه بالحجارة

ذكر ملك الفرنج المرية وغيرها من بلاد الأندلس

في هذه السنة في جمادى الأولى حصر الفرنج مدينة المرية من الأندلس وضيقوا عليها برًا وبحرًا فملكوها عنوة وأكثروا القتل بها والنهب وملكوا أيضًا مدينة بياسة وولاية جيان وكلها بالأندلس ثم استعادها المسلمون بعد ذلك منهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر ملك نور الدين محمود بن زنكي عدة مواضع من بلد الفرنج

في هذه السنة دخل محمود بن زنكي صاحب حلب بلد الفرنج ففتح منه مدينة ارتاح باسيف ونهبها وحصن مابولة وبصرفون وكفر لاثا‏.‏

وكان الفرنج بعد قتل والده زنكي قد طمعوا وظنوا أنهم بعده يستردون ما أخذه فلما رأوا من نور الدين هذا الجد في أول أمره

ذكر أخذ الحلة من علي بن دبيس وعوده إليها

في هذه السنة كثر فساد علي بن دبيس بالحاة وما جاورها وكثرت الشكاوى منه فأقطع السلطان مسعود الحلة للأمير سلار كرد فسار إليها من همذان ومعه عسكر وانضاف إليهم جماعة من عسكر بغداد وقصدوا الحلة واحتاط على أهل علي ورجعت العساكر وأقام هو بالحلة في مماليكه وأصحابه وسار عليبن دبيس فلحق بالبقش كون خر وكان بإقطاعه في اللحف متجنيًا على السلطان فاستنجده فسار معه إلى واسط واتفق هو والطرنطاي وقصدوا الحلة فاستنقذوها من سلار كرد في ذي الحجة وفارقها سلار كرد وعاد إلى بغداد‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في جمادى الأولى خطب للمستنجد بالله يوسف بن المقتفي لأمر الله بولاية العهد‏.‏

وفيها ولي عون الدين يحيى بن هبيرة كتابة ديوان الزمام ببغداد وولي زعيم الدين يحيى بن جعفر المخزن‏.‏

وفيها في ربيع الأول مات أبو القاسم طاهر بن سعيد بن أبي سعيد بن أبي الخير الميهني شيخ رباط البسطامي ببغداد وفي ربيع الآخر توفيت فاطمة خاتون بنت السلطان محمد زوجة المقتفي لأمر الله‏.‏

وفي رجب منها مات أبو الحسن محمد بن المظفر علي بن المسلمة ابن رئيس الرؤساء ومولده سنة أربع وثمانين وكان قد تصوف وجعل داره التي في القصر رباطًا للصوفية‏.‏

وفيها سار سيف الدين غازي بن زنكي إلى قلعة دارا فملكها وغيرها من بلد ماردين ثم سار إلى ماردين وحصرها وخرب بلدها ونهبه‏.‏

وكان سبب ذلك أن أتابك زنكي لما قتل تطاول صاحب ماردين وصاحب الحصن إلى ما كان قد فتحه من بلادهما فأخذاه فلما ملك سيف الدين وتمكن سار إلى ماردين وحصرها وفعل ببلدها الأفاعيل العظيمة فلما رأى صاحبها وهو حينئذ حسام الدين تمرتاش ما يفعل في بلده قال‏:‏ كنا نشكو من أتابك الشهيد وأين أيامه لقد كانت أعيادًا‏.‏

قد حصرنا غير مرة فلم يأخذ هو ولا أحد من عسكره مخلاة تبن بغير ثمن ولا تعد هو وعسكره حاصل السلطان وأرى هذا ينهب البلاد ويخربها‏.‏

ثم راسله وصالحه وزوجه ابنته ورحل سيف الدين عنه وعاد إلى الموصل وجهزت ابنة حسام الدين وسيرت إليه فوصلت وهو مريض قد أشفى على الموت فلم يدخل بها وبقيت عنده إلى أن توفي وملك قطب الدين مودود فتزوجها على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وفيها أشتد الغلاء بإفريقية ودامت أيامه فإن أوله كان سنة سبع وثلاثين وخمسمائة وعظم الأمر على أهل البلاد حتى أكل بعضهم بعضًا وقصد أهل البوادي المدن من الجوع فأغلقها أهلها دونهم وتبعه وباء وموت كثير حتى خلت البلاد وكان أهل البيت لا يبقى منهم أحد وسار كثير منهم إلى صقيلية في طلب القوت ولقوا أمرًا عظيمًا‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة

ذكر ملك الفرنج مدينة المهدية بإفريقية

قد ذكرنا سنة إحدى وأربعين وخمسمائة مسير أهل يوسف صاحب قابس إلى رجار ملك صقلية واستغاثتهم به فغضب لذلك وكان بينه وبين الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي صاحب إفريقية صلح وعهود إلى مدة سنتين وعلم أنه فاته فتح لبلاد في هذه الشدة التي أصابتهم وكانت الشدة دوام الغلاء في جميع المغرب من سنة سبع وثلاثين إلى هذه السنة وكان أشد ذلك سنة اثنتين وأربعين فأن الناس فارقوا البلاد والقرى ودخل أكثرهم إلى مدينة صقيلية وأكل الناس بعضهم بعضًا وكثر الموت في الناس فاغتنم رجار هذه الشدة فعمر الأسطول وأكثر منه فبلغ نحو مائتين وخمسين شينيًا مملوءة رجالًا وسلاحًا وقوتًا‏.‏

وسار الأسطول عن صقلية إلى جزيرة قوصرة وهي بين المهدية وصقلية فصادفوا بها مركبًا وصل من المهدية فأخذ أهله وأحضروا بين يدي جرجي مقدم الأسطول فسألهم عن حال إفريقية ووجد في المركب قفص حمام فسألهم هل أرسلوا منها فحلفوا أنهم لم يرسلوا منها شيئًا فأمر الرجل الذي كان الحمام صحبته أن يكتب بخطه‏:‏ إننا لما وصلنا جزيرة قوصرة وجدنا بها مراكب من صقلية فسألناهم عن الأسطول المخذول فذكروا أنه أقلع إلى جزائر القسطنطينية‏.‏

وأطلق الحمام فوصل إلى المهدية فسر الأمير الحسن والناس وأراد جرجي بذلك أن يصل بغتة ثم سار وقدر وصولهم إلى المهدية وقت السحر ليحيط بها قبل أن يخرج أهلها فلو تم له ذلك لم يسام منهم أحد فقدر الله تعالى أن أرسل عليهم ريحًا هائلة عكستهم فلم يقدروا على المسير إلا بالمقاذيف فطلع النهار ثاني صفر في هذه السنة قبل وصولهم فرآهم الناس فلما وصلوا رأى جرجي ذلك وأن الخديعة فاتته أرسل إلى الأمير الحسن يقول‏:‏ إنما جئت بهذا الأسطول طالبًا بثأر محمد بن رشيد صاحب قابس ورده إليها وأما أنت فبيننا وبينك عهود فجمع الحسن الناس من الفقهاء والأعيان وشاورهم فقالوا‏:‏ نقاتل عدونا فإن بلدنا حصين‏.‏

فقال‏:‏ أخاف أن ينزل إلى البر ويحصرنا برًا وبحرًا ويحول بيننا وبين الميرة وليس عندنا ما يقوتنا شهرًا فنؤخذ قهرًا‏.‏

وأنا أرى سلامة المسلمين من الأسر والقتل خيرًا من الملك وقد طلب مني عسكرًا إلى قابس فإذا فعلت فما يحل لي معونة الكفار على المسلمين وإذا امتنعت يقول انتقض ما بيننا من الصلح وليس يريد إلا أن يثبطنا حتى يحول بيننا وبين البر وليس لنا بقتاله طاقة والرأي أن نخرج بالأهل والولد ونترك البلد فمن أراد أن يفعل كفعلنا فليبادر معنا‏.‏

وأمر في الحال بالرحيل وأخذ معه من حضره وما خف حمله وخرج الناس على وجوههم بأهليهم وأولادهم وما خف من أموالهم وأثاثهم ومن الناس من اختفى عند النصارى وفي الكنائس وبقي الأسطول في البحر تمنعه الريح من الوصول إلى المهدية إلى ثلثي النهار فلم يبق في البلد ممن عزم على الخروج أحد فوصل الفرنج ودخلوا البلدبغير مانع ولا دافع ودخل جرجي القصر فوجده على حاله لم يأخذ الحسن منه إلا ما خف من ذخائر الملوك وفيه جماعة من حظاياه ورأى الخزائنمملوءة من الذخائر النفيسة وكل شيىء غريب يقل وجود مثله فختم عليه وجمع سراري الحسن في قصره‏.‏

وكان عدة من ملك منهم من زيري بن مناد إلى الحسن تسعة ملوك ومدة ولايتهم مائتا سنة وثماني سنوات من سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة إلى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة وكان بعض القواد قد أرسله الحسن إلى رجار برسالة فأخذ لنفسه وأهله منه أمانًا فلم يخرج معهم ولما ملك المدينة نهبت مقدار ساعتين ونودي بالأمان فخرج من كان مستخفيًا وأصبح جرجي من الغد لفأرسل إلى من قرب من العرب فدخلوا إليه فأحسن إليهم وأعطاهم أموالًا جزيلة وأرسل من جند المهدية الذين تخافوا بها جماعة ومعهم أمان لأهل المهدية الذين خرجوا منها ودواب يحملون عليها الأطفال والنساء وكانوا قد أشرفوا على الهلاك من الجوع ولهم بالمهدية خبايا وودائع فلما وصل إليهم الأمان رجعوا فلم تمض جمعة حتى رجع أكثر أهل البلد‏.‏

وأما الحسن فإنه سار بأهله وأولاده وكانوا اثني عشر ولدًا ذكرًا غير الإناث وخواص خدمه قاصدًا إلى محرز بن زياد وهو بالمعلقة فلقيه في طريقه أمير من العرب يسمى حسن بن ثعلب فطلب منه مالًا انكسر له في ديوانه فلم يمكن الحسن إخراج مال لئلا يؤخذ فسلم إليه ولده يحي رهينة وسار فوصل في اليوم الثاني إلى محرز وكان الحسن قد فضله على جميع العرب وأحسن إليه ووصله بكثير من المال فلقيه محرز لقاء جميلًا وتوجع لما حل به فأقام عنده شهورًا والحسن كاره للإقامة فأراد المسير فأراد المسير إلى ديار مصر إلى الخليفة الحافظ العلوي واشترى مركبًا لسفره فسمع جرجي الفرنجي فجهز شواني ليأخذه فعاد الحسن عن ذلك وعزم على المسير إلى عبد المؤمن بالمغرب فأرسل كبار أولاده يحيى وتميمًا وعليًا إلى يحيا بن عبد العزيز وهو من بني حماد وهما أولاد عم يستأذنه في الوصول إليه وتجديد العهد به والمسير من عنده إلى عبد المؤمن فأذن له يحيى فسار إليه فلما وصل لم يجتمع به يحيى وسيره إلى جزيرة بني مزغناي هو وأولاده ووكل به من يمنعهم من التصرف فبقوا كذلك إلى أن ملك عبد المؤمن بجاية سنة سبع وأربعين فحضر عنده وقد ذكرنا حاله هناك‏.‏

ولما استقر جرجي بالمهدية سير اسطولًا بعد أسبوع إلى مدينة سفاقس وسير أسطولًا آخر إلى مدينة سوسة فأما سوسة فإن أهلها لما سمعوا خبر المهدية وكان واليها علي بن الحسن الأمير فخرج إلى أبيه وخرج الناس لخروجه فدخلها الفرنج بلا قتال ثاني عشر صفر وأما سفاقس فإن أهلها أتاهم كثير من العرب فامتنعوا بهم فقاتلهم الفرنج فخرج إليهم أهل البلد فأظهر الفرنج الهزيمة وتبعهم الناس حتى أبعدوا عن البلد ثم عطفوا عليهم فانهزم قوم إلى البلد وقوم إلى البرية وقتل منهم جماعة ودخل الفرنج البلد فملكوه بعد قتال شديد وقتلى كثيرة وأسر من بقي من الرجال وسبي الحريم وذلك في الثالث والعشرين من صفر ثم نودي بالأمان فعاد أهلها إليها وافتكوا حرمهم وأولادهم ورفق بهم وبأهل سوسة والمهدية وبعد ذلك وصلت كتب من رجار لجميع أهل إفريقية بالأمان والمواعيد الحسنة‏.‏

ولما استقرت أحوال البلاد سار جرجي في أسطول إلى قلعة إقليبية وهي قلعة حصينة فلما وصل إليها سمعته العرب فاجتمعوا إليها ونزل إليهم الفرنج فاقتتلوا فانهزم الفرنج وقتل منهم خلق كثير فرجعوا خاسرين إلى المهدية وصار للفرنج من طرابلس الغرب إلى قريب تونس ومن المغرب إلى دون القيروان والله أعلم‏.‏

ذكر حصر الفرنج دمشق وما فعل سيف الدين غازي بن زنكي

في هذه السنة سار ملك الألمان من بلاده في خلق كثير وجمع عظيم من الفرنج عازمًا على قصد بلاد الإسلام وهو لا يشك في ملكها بأيسر قتال لكثرة جموعه وتوفر أمواله وعدده فلما وصل إلى الشام قصده من به من الفرنج وخدموه وامتثلوا أمره ونهيه فأمرهم بالمسير معهم إلى دمشق ليحصرها ويملكها بزعمه فساروا معه ونازلوها وحصروها وكان صاحبها مجير الدين أبق بن نوري بن طغدكين وليس له من الأمر شيء وإنما الحكم في البلدلمعين الدين أنر مملوك جده طغدكين وهو الذي أقام مجير الدين وكان معين الدين عاقلًا عادلًا خيرًا حسن السيرة فجمع العساكر وحفظ البلد‏.‏

وأقام الفرنج يحاصرونهم ثم إنهم زحفوا سادس ربيع الأول بفارسهم وراجلهم فخرج إليهم أهل البلد والعسكر فقاتلوهم وصبروا لهم وفيمن خرج للقتال الفقيه حجة الدين يوسف بن دي ناس الفندلاوي المغربي وكان شيخًا كبيرًا فقيهًا عالمًا فلما رآه معين الدين وهو راجل قصده وسلم عليه وقال له‏:‏ ياشيخ أنت معذور لكبر سنك ونحن نقوم بالذب عن المسلمين سأله أن يعود فلم يفعل وقال له‏:‏ قد بعت واشترى مني فوالله لا أقلته ولا استقلته فعنى قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏‏.‏ وتقدم فقاتل الفرنج حتى قتل عند النيرب نحو نصف فرسخ عن دمشق وقوي الفرنج وضعف السلمين فتقدم ملك الألمان حتى نزل بالميدان الأخضر فأيقن الناس بأنه يملك البلد‏.‏

وكان معين الدين قد أرسل إلى سيف الدين غازي بن أتابك يدعوه إلى نصرة المسلمين وكف العدو عنهم فجمع عساكره وسار إلى الشام واستصحب معه أخاه نور الدين محمود من حلب فنزلوا بمدينة حمص وأرسل إلى معين الدين يقول له‏:‏ قد حضرت ومعي كل من يحمل السلاح من بلادي فأريد أن يكون نوابي بمدينة دمشق لأحضر وألقى الفرنج فإن انهزمت دخلت أنا وعسكري البلد واحتمينا به وإن ظفرت فالبلد لكم لا أنازعكم فيه‏.‏

فأرسل إلى الفرنج يتهددهم إن لم يرحلوا عن البلد فكف الفرنج عن القتال خوفًا من كثرة الجراح وربما اضطروا إلى قتال سيف الدين فأبقوا على نفوسهم فقوي أهل البلد على حفظه واستراحوا من لزوم الحرب وأرسل معين الدين إلى الفرنج الغرباء‏:‏ إن ملك المشرق قد حضر فإن رحلتم وإلا سلمت البلد إليه وحينئذ تندمون وأرسل إلى فرنج الشام يقوللهم‏:‏ بأي عقل تساعدون هؤلاء علينا وأنتم تعلمون أنهم إن ملكوا دمشق أخذوا ما بأيديكم من البلاد الساحلية وأما أنا فإن رأيت الضعف عن حفظ البلد سلمته إلى سيف الدين وأنتم تعلمون أنه إن ملك دمشق لا يبقى لكم معه مقام في الشام فأجابوه إلى التخلي عن ملك الألمان وبذل لهم تسليم حصن بانياس إليهم‏.‏

واجتمع الساحلية بملك الألمان وخوفوه من سيف الدين وكثرة عساكره وتتابع الأمداد إليه وأنه ربما أخذ دمشق وتضعف عن مقاومته ولم يزالوا به حتى رحل عن البلد وتسلموا قلعة بانياس وعاد الفرنج الألمانية إلى بلادهم وهي من وراء القسطنطينية وكفى الله المؤمنين شرهم‏.‏

وقد ذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخ دمشق‏:‏ أن بعض العلماء حكى له أنه رأى الفندلاوي في المنام فقال له‏:‏ ما فعل الله بك وأين أنت فقال غفر لي وأنا في جنات عدن

ذكر ملك نور الدين محمود حصن العريمة


لما سار الفرنج عن دمشق رحل نور الدين إلى حصن العريمة وهو للفرنج فملكه‏.‏

وسبب ذلك أن ملك الألمان لما خرج إلى الشام كان معه ولد الفنش وهو من أولاد ملوك الفرنج وكان جده هو الذي أخذ طرابلس الشام من المسلمين فأخذ حصن العريمة وتملكه وأظهر أته يريد أخذ طرابلس من القمص فأرسل القمص إلى نور الدين محمود وقد اجتمع هو ومعين الدين أنر ببعلبك يقول له ولمعين الدين ليقصدا حصن العريمة ويملكاه من ولد الفنش فسارا إليه مجدين في عساكرهما وأرسلا إلى سيف الدين وهو بحمص يستنجدانه فأمدهما بعسكر كثير مع الأمير عز الدين أبي بكر الدبيسي صاحب جزيرة ابن عمر وغيرها فنازلوا الحصن وحصروه وبه ابن الفنش فحماه وامتنع به فزحف المسلمون إليه غير مرة وتقدم إليه النقابون فنقبوا السور فستسلم حينئذ من به من الفرنج فملكه المسلمون وأخذوا كل من به من فارس وراجل وصبي وامرأة وفيهم ابن الفنش كما قيل‏:‏ خرجت النعامة تطلب قرنين فعادت بلا أذنين

ذكر الخلف بين السلطان مسعود وجماعة من الأمراء

في هذه السنة فارق السلطان مسعودًا جماعة من أكابر الأمراء وهم من أذربيجان‏:‏ إيلدكرالمسعودي صاحب كنجة وأرانية وقيصر ومن الجبل‏:‏ البقش كون خر وتتر الحاجب وهو من مماليك مسعود أيضًا وطرنطاي المحمودي شحنة واسط والدكز وقرقوب وابن طغايرك‏.‏

وكان سبب ذلك ميل السلطان إلى خاص بك واطراحه لهم فخافوا أن يفعل بهم مثل فعله بعبد الرحمن وعباس وبوزابة ففارقوه وساروا نحو العراق وغلت الأسعار وتقدم الإمام المقتفي لأمر الله بإصلاح السور وترميمه وأرسل الخليفة إليهم بالعبادي الواعظ فلم يرجعوا إلى قوله ووصلوا إلى بغداد في ربيع الأخر والملك محمد ابن السلطان محمود معه من ونزلوا بالجانب الشرقي وفارق مسعود بلال شحنة بغداد البلد خوفًا من الخليفة وسار إلى تكريت وكانت له فعظم الأمر على أهل بغداد ووصل إليهم علي بن دبيس صاحب الحلة فنزل بالجانب الغربي فجند الخليفة أجنادًا يحتمي بهم‏.‏

ووقع القتال بين الأمراء وبين عامة بغداد ومن بها من العسكر واقتتلوا عدة دفعات ففي بعض الأيام انهزم الأمراء الأعاجم من عامة بغداد مكرًا وخديعة وتبعهم العامة فلما أبعدوا عادوا عليهم وصار بعض العسكر من ورائهم ووضعوا السيف فقتل من العامة خلق كثير ولم يبقوا على صغير ولا كبير وفتكوا فيهم فأصيب أهل بغداد بما لم يصابوا بمثله وكثر القتلى والجرحى وأسر منهم خلق كثير فقتل البعض وشهر البعض ودفن الناس من عرفوا ومن لم يعرف ترك طريحًا بالصحراء وتفرق العسكر في المحال الغربية فأخذوا من أهلها الأموال الكثيرة ونهبوا بلد دجيل وغيره وأخذوا النساء والولدان‏.‏

ثم إن الأمراء اجتمعوا ونزلوا مقابل التاج وقبلوا الأرض واعتذروا وترددت الرسل بينهم وبين الخليفة إلى آخر النهار وعادوا إلى خيامهم ورحلوا إلى النهروان فنهبوا البلاد وافسدوا فيها وعاد مسعود بلال شحنة بغداد من تكريت إلى بغداد‏.‏

ثم إن هؤلاء الأمراء تفرقوا وفارقوا العراق وتوفي الأمير قيصر بأذربيجان هذا كله والسلطان مسعود مقيم ببلد الجبل والرسل بينه وبين عمه السلطان سنجر متصلة وكان السلطان سنجر قد أرسل إليه يلومه على تقديم خاص بك ويأمره بإبعاده ويتهدده بأنه إن لم يفعل فسيقصده ويزيله عن السلطنة وهو يغالط ولا يفعل فسار السلطان سنجر إلى الري فلما علم السلطان مسعود بوصوله سار إليه وترضاه واستنزله عما في نفسه فسكن‏.‏

وكان اجتماعهما سنة أربع وأربعين على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر انهزام الفرنج بيغرى

في هذه السنة هزم نور الدين محمود بن زنكي الفرنج بمكان اسمه يغرى من أرض الشام وكانوا قد تجمعوا ليقصدوا أعمال حلب ليغيروا عليها فعلم بهم فسار إليهم في عسكره فالتقوا بيغرى واقتتلوا قتالًا شديدًا وأجلت المعركة عن انهزام الفرنج وقتل كثير منهم وأسر جماعة من مقدميهم ولم ينج من ذلك الجمع إلا القليل وأرسل من الغنيمة والأسارى إلى أخيه سيف الدين وإلى الخليفة ببغداد وإلى السلطان مسعود وغيرهم‏.‏

وفي هذه الوقعة يقول ابن القيسراني في قصيدته التي أولها‏:‏ ياليت أن الصد مصدود أولا فليت النوم مردود ومنها في ذكر نور الدين‏:‏ وكيف لا نثني على عيشنا ال - - محمود والسلطان محمود وصارم الإسلام لا ينثني إلا وشلو الكفر مقدود مكارم لم تك موجودة إلا ونور الدين موجود وكم له من وقعة يومها عند الملوك الكفر مشهود في هذه السنة قصد سوري بن الحسين ملك الغور مدينة غزنة فملكها‏.‏

وسبب ذلك أن أخاه ملك الغورية قبله محمد بن الحسين كان قد صاهر بهرام شاه مسعود بن إبراهيم صاحب غزنة وهو من بيت سبكتكين فعظم شأنه بالمصاهرة وعلت همته فجمع جموعًا كثيرة وسار إلى غزنة ليملكها وقيل‏:‏ إنما سار إليها مظهرًا الخدمة والزيارة وهو يريد المكر والغدر فعلم به بهرام شاه فأخذه وسجنه ثم قتله فعظم قتله على الغورية ولم يمكنهم الأخذ بثأره‏.‏

ولما قتل ملك بعده أخاه سام بن الحسين فمات بالجدري وملك بعده أخوه الملك سوري بن الحسين بلاد الغور وقوي أمره وتمكن في ملكه فجمع عسكره من الفارس ومن الراجل وسار إلى غزنة طالبًا بثأر أخيه المقتول وقاصدًا ملك غزنة فلما وصل إليها ملكها في جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة‏.‏

وفارقها بهرام شاه إلى بلاد الهند وجمع جموعًا كثيرة وعاد إلى غزنة وعلى مقدمته السلار الحسن بن إبراهيم العلوي أمير هندوستان‏.‏

وكان عسكر غزنة الذين أقاموا مع سوري بن الحسين الغوري وخدموه قلوبهم مع بهرام شاه وإنما هم بظواهرهم مع سوري فلما التقى سوري وبهررام شاه رجع عسكر غزنة إلى بهرام شاه وصاروا معه وسلموا إلى سوري ملك الغورية وملك بهرام شاه غزنة في المحرم سنة أربع وأربعين وصلب الملك سوري مع السيد وكان سوري أحد الأجواد له الكرم الغزير والمروءة العظيمة حتى أنه كان يرمي الدراهم في المقاليع إلى الفقراء لتقع بيد من يتفق له‏.‏

ثم عاود الغورية وملكوها وخربوها وقد ذكرناه سنة سبع وأربعين وذكرنا هناك ابتداء دولة الغورية لأنهم في ذلك الوقت عظم محلهم وفارقوا الجبال وقصدوا خراسان وعلا شأنهم وفي بعض الخلف كما ذكرناه والله أعلم‏.‏    ‏   ‏ ‏ ‏ ‏ ‏  ‏