المجلد التاسع - ذكر ملك شهاب الدين مدينة آجرة

‏ لما رجع شهاب الدين من خراسان إلى غزنة أقام بها حتى أراح واستراح هو وعساكره ثم سار إلى بلد الهند فحاصر مدينة آجرة وبها ملك من ملوك الهند فلم يظفر منه بطائل وكان للهندي زوجة غالبة على أمره فراسلها شهاب الدين أنه يتزوجها فأعادت الجواب أنها لا تصلح له وأن لها ابنة جميلة تزوجه إياها فأرسل إليها يجيبها إلى التزوج بابنتها فسقت زوجها سمًا فمات وسلمت البلد إليه‏.‏

فلما أخذ الصبية فأسلمت وتزوجها وحماها إلى غزنة وأجرى عليها الجرايات الوافرة ووكل بها من علمها القرآن وتشاغل عنها فتوفيت والدتها ثم توفيت هي بعد عشر سنين ولم يرها ثم عاد إلى بلد الهند فذل له صعابها وتيسر له فتح الكثير من بلادهم ودوخ ملوكهم وبلغ منه ما لم يبلغه أحد قبله من ملوك المسلمين‏.‏

ذكر ظفر الهند على المسلمين

لما اشتدت نكاية شهاب الدين في بلاد الهند وإثخانه في أهلها واستيلائه عليها اجتمع ملوكهو وتآمروا بينهم ووبخ بعضهم بعضًا فاتفق رأيهم على الاجتماع والتعاضد على حربه فجمعوا عساكرهم وحشدوا وأقبل إليهم الهنود من كل فج عميق على الصعب والذلول وجاؤوا بحدهم وحديدهم وكان الحاكم على جميع الملوك المجتمعين امرأة هي من أكبر ملوكهم‏.‏

فلما سمع باجتماعهم ومسيرهم إليه تقدم هو إليهم في عسكر عظيم من الغورية والخلج والخراسانية وغيرهم فالتقوا واقتتلوا فلم يكن بينهم كثير قتال حتى انهزم المسلمون وركبهم الهنود يقتلون ويأسرون وأثخنوا فيهم وأصاب شهاب الدين ضربة بطلت منها يده اليسرى وضربة أخرى على رأسه سقط منها على الأرض وحجز الليل بين الفريقين فأحس شهاب الدين جماعة من غلمانه الأتراك في ظلمة الليل وهم يطلبونه في القتلى ويبكون وقد رجع الهنود إلى ورائهم وكلمهم وهو على ما به من الجند فجاؤوا إليه مسرعين وحملوه على رؤوسهم وشاع خبر سلامته في الناس فجاؤوا إليه يهنئونه من أقطار البلاد فأول ما عمل أنه أخذ أمراؤهم وسألوه أن يكف عنهم ويتركهم في مراعيهم ويعطونه من كل بيت مائتي درهم فضة فلم يجبهم إلى ذلك وشدد عليهم في الأنتزاح عن بلده فعادوا عنه واجتمعوا وقاتلوه فانهزم قماج ونهبوا ماله ومال عسكره وأكثروا القتل في العسكر والرعايا واسترقوا النساء والأطفال وعملوا كل عظيمة وقتلوا الفقهاء وخربوا المدارس‏.‏

وانتهت الهزيمة بقماج إلى مرو وبها السلطان سنجر فأعلمه الحال فراسلهم سنجر يتهددهم فأمرهم بمفارقة بلاده فاعتذروا وبذلوا بذلًا كثيرًا ليكف عنهم ويتركهم في مراعيهم فلم يجبهم إلى ذلك وجمع عسلكره من أطراف البلاد واجتمع معه ما يزيد على مائة ألف فارس وقصدهم ووقع بينهم حرب شديدة فانهزمت عساكر سنجر وانهزم هو أيضًا وتبعهم الغز قتلًا وأسرًا فصار قتلى العسكر كالتلال وقتل علاء الدين قماج وأسر السلطان سنجر وأسر معه جماعة من الأمراء فأما الأمراء فضربوا أعناقهم وأما السلطان سنجر فإن أمراء الغز اجتمعوا وقبلوا الأرض بين يديه وقالوا‏:‏ نحن عبيدك لا نخرج عن طاعتك فقد علمنا أنك لا ترد قتالنا وإنما حملت عليه فأنت السلطان ونحن العبيد فمضى على ذلك شهران أو ثلاثة ودخلوا معه إلى مرو وهي كرسي ملك خراسان وطلبها منه بختيار إقطاعًا فقال السلطان‏:‏ هذه دار الملك ولا يجوز أن تكون إقطاعًا لأحد‏.‏

فضحكوا منه وحبق له بختيار بفمه فلما رأى ذلك نزل عن سرير الملك ودخل خانكاه مرو وتاب عن الملك‏.‏

واستولى الغز على البلاد وظهر منهم من الجور ما لم يسمع بمثله وولوا على نيسابور واليًا فقسط على الناس كثيرًا وعصفهم وضربهم وعلق في الأسواق ثلاث غرائر وقال‏:‏ أريد ملء هذه ذهبًا فثار عليه العامة وقتلوه ومن معه فركب الغز ودخلوا نيسابور ونهبوها نهبًا مجحفًا وجعلوها قاعًا صفصفًا وقتلوا الكبار والصغار وأحرقوها وقتلوا القضاة والعلماء في البلاد كلها فممن قتل الحسين بن محمد الأرسابندي والقاضي علي بن مسعود والشيخ محمد بن يحيى وأكثر الشعراء في مراثي محمد بن يحيى فممن قال فيه علي بن إبراهيم الكاتب‏:‏ مضى الذي كان يجنى الدر من فيه يسيل بالفضل والإفضال واديه مضى ابن يحيىالذي قد كان صوب حيًا لأبرشهر ومصباحًا لداجيه خلا خراسان من علم ومن ورع لما نعاه إلى الآفاق ناعيه لما أماتوه مات الدين واأسفًا من ذا الذي بعد محي الدين يحييه ويتعذر وصف ما جرى منهم على تلك البلاد جميعها ولم يسلم من خراسان شيء لم تنهبه الغز غير هراة ودهستان لأنها كانت حصينة فامتنعت‏.‏

وقد ذكر بعض مؤرخي خراسان من أخبارهم ما فيه زيادة وضوح فقال‏:‏ إن هؤلاء الغز قوم انتقلوا من ضواحي الثغر من أقاصي الترك إلى ما وراء النهر في أيام المهدي وأسلموا واستنصر بهم المقنع صاحب المخاريق والشعبذة حتى تم أمره فلما سارت العساكر إليه خذله الغز وأسلموه وهذه عادتهم في كل دولة كانوا فيها وفعلوا مثل ذلك مع الملوك الخاقانية إلا أن الأتراك القارغلية قمعوهم وطردوهم عن أوطانهم فجعاهم الأمير زنكي بن خليفة الشيباني المستولي على حدود طخارستان إليه وأنزلهم بلاده وكانت بينه وبين الأمير قماج عداوة أحكمتها الأيام للمجاورة التي بينهما وكل منهما يريد أن يعلو على الآخر ويحكم عليه فتقوى بهم زنكي وساروا معه إلى بلخ لمحاربة قماج فكاتبهم قماج فمالوا إليه وخذلوا زنكي عند الحرب فأخذ زنكي وابنه أسيرين فقتل قماج ابن زنكي وجعل يطعم أباه لحمه ثم قتل الأب أيضًا وأقطع قماج الغز مواضع وأباحهم مراعي بلاده‏.‏

فلما قام الحسين بن الحسين الغوري بغزنة وقصد بلخ خرج إليه قماج وعساكره ومعه الغز ففارقه الغز وانضموا إلى الغوري حتى ملك مدينة بلخ فسار السلطان سنجر إلى بلخ ففارقها الغوري بعد قتال وانهزم منه ثم دخل على السلطان سنجر لعجزه عن مقاومته فرده إلى غزنة‏.‏

وبقي الغز بنواحي طخارستان وفي نفس قماج منهم الغيظ العظيم لما فعلوه معهن فأراد صرفهم عن بلاده فتجمعوا وانضم إليهم طوائف من الترك وقدموا عليهم أرسلان بوقا التركي فجمع قماج عسكره ولقيهم فاقتتلوا يومًا كاملًا إلى الليل فانهزم قماج وعسكره وأسر هو وابنه بكر فقتلوهما واستولوا على نواحي بلخ وعاثوا فيها وافسدوا بالنهب والقتل والسلب‏.‏

وبلغ السلطان سنجر الخبر فجمع عساكره وسار إليهم فراسلوه يعتذرون ويتنصلون فلم يقبل عذرهم ووصل إليهم مقدمة السلطان وفيها محمد بن أبي بكر بن قماج المقتول والمؤيد أي أبه في المحرم من سنة ثمان وأربعين وخمسمائة ووصل بعدهم السلطان سنجر فالتقاه الغز بعد أن أرسلوا يعتذرون ويبذلون الأموال والطاعة والانقياد إلى كل ما يؤمرون به فلم يقبل سنجر ذلك منهم وسار إليهم فلقوه وقاتلوه وصبروا له ودام قتالهم فانهزم عسكر سنجر وهو معهم فتوجهوا إلى بلخ على أقبح صورة وتبعهم الغز واقتتلوا ثانية فانهزم السلطان سنجر أيضًا ومضى منهزمًا إلى مرو في صفر من السنة فقصد الغز إليها فلما سمع أمراء الغورية الذين انهزموا عنه وأسلموه فملأ مخالي خيلهم شعيرًا وحاف لئن لم يأكلوه ليضربن أعناقهم فأكلوه ضرورة‏.‏

وبلغ الخبر إلى أخيه غياث الدين فكتب إليه يلومه على عجلته وإقدامه وانفذ إليه جيشًا عظيمًا‏.‏

لما سلم شهاب الدين وعاد إلى آجرة وأتاه المدد من أخيه غياث الدين عاد الهنود فجددوا سلاحهم ووفروا جمعهم وأقاموا عوض من قتل منهم وسارت ملكتهم وهم معها في عدد يضيق عنه الفضاء فراسلها شهاب الدين يخدعها بأنه يتزوجها فلم تجبه إلى ذلك وقالت‏:‏ إما الحرب وإما أن تسلم بلاد الهند وتعود إلى غزنة فأجابها إلى العود إلى غزنة وأنه يستأذن أخاه غياث الدين فعل ذلك مكرًا وخديعة‏.‏

وكان بين العسكرين نهر وقد حفظ الهنود المخاضات فلا يقدر أحد من المسلمين أن يجوزه وأقاموا ينتظرون ما يكون من جواب غياث الدين بزعمهم فبينما هم كذلك إذ وصل إنسان هندي إلى شهاب الدين وأعلمه بأنه يعرف مخاضًا قريبًا من عسكر الهنود وطلب أن يحضر جيشًا يعبرهم المخاض ويكسبون الهنود وهم غارون غافلون فخاف شهاب الدين أن تكون خديعة ومكرًا فأقام له ضمناء من أهل آجرة والمولتان فأرسل معه جيشًا كثيفًا وجعل عليهم الأمير الحسين بن خرميل الغوري وهو الذي صار بعد صاحب هراة وكان من الشجاعة والرأي بالمنزلة المشهورة‏.‏

فسار الجيش مع الهندي فعبروا النهر فلم يشعر الهنود إلا وقد خالطهم المسلمون ووضعوا السيف فيهم فاشتغل الموكلون بحفظ المخاضات فعبر شهاب الدين وباقي العساكر وأحاطوا بالهنود وأكثروا القتل فيهم ونادوا بشعار الإسلام فلم ينج من الهنود إلا من عجز المسلمون عن قتله وأسره وقتلت ملكتهم وتمكن شهاب الدين بعد هذه الوقعة من بلاد الهند وأمن معرة فسادهم والتزموا له بالأموال وسلموا الرهائن وصالحوه وأقطع مملوكه قطب الدين أيبك مدينة دهلي وهي كرسي الممالك التي فتحها من الهند فأرسل عسكرًا من الخلج مع محمد بن بختيار فملكوا من بلاد الهند مواضع ما وصل إليها مسلم قبله حتى قاربوا حدود الصين من جهة المشرق‏.‏

وقد حدثني صديق لي من التجار بوقعتين تشبهان هاتين الوقعتين المذكورتين وبينهما بعض الخلاف وقد ذكرناهما سنة ثمان وثمانين وخمسمائة‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة توفي يعقوب الكاتب ببغداد وكان يسكن بالمدرسة النظامية وحضر متولي المتروكات وختم على الغرفة التي كان يسكنها بالمدرسة فثار الفقهاء وضربوا المتولي وأخذوا التركة وهذه عادتهم فيمن يموت بها وليس له وارث فقبض حاجب الباب على رجلين من الفقهاء وعاقبهما وحبسهما فأغلق الفقهاء المدرسة وألقوا كرسي الوعاظ في الطريق وكان حينئذ مدرسهم الشيخ أبا النجيب فجاء وألقى نفسه تحت التاج يعتذر فعفي عنه‏.‏

وفيها توفي حام الدين تمرتاش صاحب ماردين وميافارقين وكانت ولايته نيفًا وثلاثين سنة وتولى بعده ابنه نجم الدين البي‏.‏

وفيها مات أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف الأرموي الشافعي المحدث ومولده سنة تسع وخمسين وأربعمائة‏.‏

وفيها توفي أبو الأسعد عبد الرحمن القشيري في شوال وهو شيخ شيوخ خراسان‏.‏

وفيها في المحرم باض ديك ببغداد بيضة‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وخمسمائة

ذكر انهزام سنجر من الغز ونهبهم خراسان وما كان منهم

في هذه السنة في المحرم انهزم السلطان سنجر من الأتراك الغز وهم طائفة من الترك مسلمون كانوا بما وراء النهر فلما ملك الخطا أخرجوهم منه كما ذكرنا فقصدوا خراسان وكانوا خلقًا كثيرًا فأقاموا بنواحي بلخ يرعون في مراعيها وكان لهم أمراء اسم أحدهم دينار والآخر بختيار والآخر طوطى والآخر جغر والآخر محمود فأراد الأمير قماج وهو مقطع بلخ إبعادهم فصانعوه بشيء بذلوه له فعاد عنهم فأقاموا على حالة حسنة لا يؤذون أحدًا ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة‏.‏

ثم إن قماج عاودهم وأمرهم بالانتقال عن بلده فامتنعوا وانضم بعضهم إلى بعض واجتمع معهم غيرهم من طوائف الترك فسار قماج إليهم في عشرة آلاف فارس فجاء إليه العسكر الخراساني بقربهم منهم أجفلوا من بين يديه هاربين لما دخل قلوبهم من خوفهم والرعب منهم فلما فارقها السلطان والعسكر دخلها الغز ونهبوها أفحش نهب وأقبحه وذلك في جمادى الأولى من السنة وقتل بها كثير من أهلها وأعيانها منهم قاضي القضاة الحسن بن محمد الأرسابندي والقاضي علي بن مسعود وغيرهما من الأئمة والعلماء‏.‏

ولما خرج سنجر من مرو قصد اندرابة وأخذه الغز أسيرًا وأجلسوه على تخت السلطنة على عادته وقاموا بين يديه وبذلوا له الطاعة ثم عاودوا الغارة على مرو في رجب من السنة فمنعهم أهلها وقاتلوهم قتالًا بذلوا فيه جهدهم وطاقتهم ثم إنهم عجزوا فاستسلموا إليهم فنهبوها أقبح من النهب الأول ولم يتركوا بها شيئًا‏.‏

وكان قد فارق سنجر جميع أمراء خراسان ووزيره طاهر بن فخر الملك ابن نظام الملك ولم يبق عنده غير نفر يسير من خواصه وخدمه فلما وصلوا إلى نيسابور أحضروا الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد فوصل إلى نيسابور تاسع عشر من جمادى الآخرة من السنة فاجتمعوا عليه وخطبوا له بالسلطنة وسار في هذا الشهر جماعة من العسكر السلطاني إلى طائفة كثيرة من الغز فأوقعوا بهم وقتلوا منهم كثيرًا وانهزم الباقون إلى أمرائهم الغزية فاجتمعوا معهم‏.‏

ولما اجتمعت العساكر على الملك سليمان شاه ساروا إلى مرو يطلبون الغز فبرز الغز إليهم فساعة رآهم العسكر الخراساني انهزموا وولوا على أدبارهم وقصدوا نيسابور وتبعهم الغز فمروا بطوس وهي معدن العلماء والزهاد فنهبوها وسبوا نسائها وقتلوا رجالها وخربوا مساجدها ومساكن أهلها ولم يسلم من جميع ولاية طوس إلا البلد الذي فيه مشهد علي بن موسى الرضي ومواضع أخر لها اسوار‏.‏

وممن قتل من أعيان أهلها محمد المارشكي ونقيب العلويين بها علي الموسوي وخطيبها إسماعيل بن المحسن وشيخ شيوخها محمد بن محمد وأفنوا من بها من الشيوخ الصالحين وساروا منها إلى نيسابور فوصلوا إليها في شوال سنة تسع وأربعين ولم يجدوا دونها مانعًا ولا مدافعًا فنهبوها نهبًا ذريعًا وقتلوا أهلها فأكثروا حتى ظنوا انهم لم يبقوا بها أحدًا حتى إنه أحصي في محلتين خمسة عشر ألف قتيل من الرجال دون النساء والصبيان وسبوا نسائها وأطفالها وأخذوا أموالهم وبقي القتلى في الدروب كالتلال بعضهم فوق بعض واجتمع أكثر أهلها بالجامع المنيعي وتحصنوا به فحصرهم الغز فعجز أهل نيسابور عن منعهم فدخل الغز إليهم فقتلوهم عن آخرهم وكانوا يطلبون من الرجل المال فإذا أعطاهم الرجل ماله قتلوه وقتلوا كثيرًا من أئمة العلماء والصالحين منهم محمد بن يحيى الفقيه الشافعي الذي لم يكن في زمانه مثله كان رحلة الناس من أقصى الغرب والشرق إليه ورثاه جماعة من العلماء منهم أبو الحسن علي بن أبي القاسم البيهقي فقال‏:‏ ياسافكًا دم عالم متبحر قد طار أقصى في الممالك صيته بالله قل يا ظلوم ولا تخف من كان يحيي الدين كيف تميته ومنهم الزاهد عبد الرحمن بن عبد الصمد الأكاف وأحمد بن الحسين الكاتب سبط القشيري وأبو البركات الفراوي والإمام علي الصباغ المتكلم وأحمد بن محمد بن حامد وعبد الهاب الملقاباذي والقاضي صاعد بن عبد الملك بن صاعد والحسن بن عبد الحميد الرازي وخلق كثير من الأئمة والزهاد والصالحين واحرقوا ما بها من خزائن الكتب ولم يسلم إلا بعضها‏.‏

وحصروا شارستان وهي منيعة فأحاطوا بها وقاتلهم أهلها من فوق سورها وقصدوا جوين فنهبوها وقاتلهم أهل بحراباذ من أعمال جوين وبذلوا نفوسهم لله تعالى وحموا بيضتهم والباقي أتى النهب والقتل عليه ثم قصدوا أسفرايين فنهبوها وخربوها وقتلوا في أهلها فأكثروا‏.‏

وممن قتل عبد الرشيد الأشعثي وكان من أعيان دولة السلطان فتركها وأتى على الاشتغال بالعلم وطلب الآخرة وأبو الحسن الفندروجي وكان من ذوي الفضائل لا سيما في علم الأدب‏.‏

ولما فرغ الغز من جوين وأسفرايين عاودوا نيسابور فنهبوا ما بقي فيها بعد النهب الأول وكان قد لحق بشهرستان كثير من أهلها فحصرهم الغز واستولوا عليها ونهبوا ما كان فيها لأهلها ولأهل نيسابور ونهبوا الحرم والأطفال وفعلوا ما لم يفعله الكفار مع المسلمين وكان العيارون أيضًا ينهبون نيسابور أشد من نهب الغز ويفعلون أقبح من فعلهم‏.‏

ثم إن أمر الملك سليمان شاه ضعف وكان قبيح السيرة سيء التدبير وإن وزيره طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك توفي في شوال سنة ثمان وأربعين فضعف أمره واستوزر سليمان شاه بعده ابنه نظم الملك أبا علي الحسن بن طاهر وانحل أمر دولته بالكلية ففارق خراسان في صفر سنة تسع وأربعين وعاد إلى جرجان فاجتمع الأمراء وراسلوا الخان محمود بن محمد بن بغراخان وهو ابن أخت السلطان سنجر وخطبوا له على منابر خراسان واستدعوه إليهم فملكوه أمورهم وانقادوا له في شوال سنة تسع وأربعين وخمسمائة وساروا معه إلى الغز وهم يحاصرون هراة وجرت بينهم حروب كان الظفر في أكثرها للغز ورحلوا في جمادى الأولى من سنة خمسين وخمسمائة من على هراة إلى مرو وعاودوا المصادرة لأهلها‏.‏

وسار خاقان محمود بن محمد إلى نيسابور وقد غلب عليها المؤيد على ما نذكره وراسل الغز في الصلح فاصطلحوا في رجب من سنة خمسين وخمسمائة هدنة على دخن وسيرد باقي أخبارهم سنة اثنتين وخمسين‏.‏

ذكر ملك المؤيد نيسابور وغيرها

كان للسلطان سنجر مملوك اسمه أي أبه ولقبه المؤيد فلما كانت هذه الفتنة تقدم وعلا شأنه وأطاعه كثير من الأمراء واستولى على نييسابور وطوس ونسا وأبيورد وشهرستان والدامغان وأزاح الغز عن الجميع وقتل منهم خلقًا كثيرًا وأحسن السيرة وعدل في الرعية واستمال الناس ووفر الخراج على أهله وبالغ في مراعاة أرباب البيوت فاستقرت البلاد له ودانت له الرعية لحسن سيرته وعظم شأنه وكثرت جموعه فراسله خاقان محمود بن محمد في تسليم البلاد والحضور عنده فامتنع وترددت الرسل بينهم حتى استقر على المؤيد مال يحمله إلى الملك محمود فكف عنه محمود وأقام المؤيد بالبلاد

ذكر ملك إينانج الري

كان إينانج أحد مماليك السلطان سنجر فلما كان من فتنة الغز ما ذكرناه هرب من خراسان ووصل إلى الري فاستولى عليها وأقام بها فأرسل إلى السلطان محمد شاه بن محمود صاحب همذان وأصفهان وغيرهما خدمه وهداه هدايا فأرضاه بها وأظهر له الطاعة وبقي بها إلى أن مات الملك محمود فاستولى عليها وعلى عدة بلاد تجاور الري فملكها فعظم أمره وعلا شأنه وصارت عساكره عشرة آلاف فارس‏.‏

فلما ملك سليمان شاه همذان على ما نذكره حضر عنده وأطاعه لأنسه به‏.‏

كان أيام مقام سليمان شاه بخراسان فتقوى أمره بذلك‏.‏

ذكر قتل ابن السلار وزير الظافر ووزارة عباس

في هذه السنة وفي المحرم قتل العادل بن السلار وزير الظافر بالله قتله ربيبه عباس بن أبي الفتوح بن يحيى الصنهاجي وأشار عليه بذلك الأمير أسامة بن منقذ ووافق عليه الخليفة الظافر بالله فأمر ولده نصرًا فدخل على العادل وهو عند جدته أم عباس فقتله وولي الوزارة بعده

وكان عباس قد قدم من المغرب كما ذكرناه إلى مصر وتعلم الخياطة وكان خياطًا حسنًا فلما تزوج ابن السلار بأمه أحبه وأحسن تربيته فجازاه بأن قتله وولي بعده‏.‏

وكانت الوزارة في مصر لمن غلب والخلفاء من وراء الحجاب والوزراء كالمتملكين وقل أن وليها أحد بعد الأفضل إلا بحرب وقتل وشاكل ذلك فلذلك ذكرناهم في تراجم مفردة والله أعلم‏.‏

ذكر الحرب بين العرب وعساكر عبد المؤمن

في هذه السنة في صفر كانت الحرب بين عسكر عبد المؤمن والعرب عند مدينة سطيف‏.‏

وسبب ذلك أن العرب وهم بنو هلال والأبتح وعدي ورياح وزغب وغيرهم من العرب لما ملك عبد المؤمن بلاد حماد اجتمعوا من أرض طرابلس إلى أقصى المغرب وقالوا‏:‏ إن جاورنا عبد المؤمن أجلانا من المغرب وليس الرأي إلا إلقاء الجد معه وإخراجه من البلاد قبل أن يتمكن‏.‏

وتحالفوا على التعاون والتضافر وأن لا يخون بعضهم بعضًا وعزموا على لقائه بالرجال والأهل والمال ليقاتلوا قتال الحريم‏.‏

واتصل الخبر بالملك رجار الفرنجي صاحب صقلية فأرسل إلى أمراء العرب وهم محرز بن زياد وجبارة بن كامل وحسن بن ثعلب وعيسى ابن حسن وغيرهم يحثهم على لقاء عبد المؤمن ويعرض عليهم أن يرسل إليهم خمسة آلف فارس من الفرنج يقاتلون معهم على شرط أن يرسلوا إليه الرهائن فشكروه وقالوا‏:‏ ما بنا حاجة إلى نجدته ولا نستعين بغير المسلمين‏.‏

وساروا في عدد لا يحصى وكان عبد المؤمن قد رحل من بجاية إلى بلاد المغرب فلما بلغه خبرهم جهز جيشًا من الموحدين يزيد على ثلاثين ألف فارس واستعمل عليهم عبد الله بن عمر الهنتاني وسعد الله بن يحيى وكان العرب أضعافهم فاستجرهم الموحدون وتبعهم العرب إلى أن وصلوا إلى أرض سطيف بين جبال فحمل عليهم جيش عبد المؤمن فجاءه والعرب على غير أهبة والتقى الجمعان واقتتلوا أشد قتال وأعظمه فانجلت المعركة عن انهزام العرب ونصرة الموحدين‏.‏

وترك العرب جميع ما لهم من أهل ومال وأثاث ونعم فأخذ الموحدون جميع ذلك وعاد الجيش إلى عبد المؤمن بجميعه فقسم جميع الأموال على عسكره وترك النساء والأولاد تحت الاحتياط وكل بهم من الخدم الخصيان من يخدمهم ويقوم بحوائجهم وأمر بصيانتهم فلما وصلوا معه إلى مراكش أنزلهم في المساكن الفسيحة وأجرى لهم النفقات الواسعة وأمر عبد المؤمن ابنه محمدًا أن يكاتب أمراء العرب ويعلمهم أن نسائهم تحت الحفظ والصيانة وأمرهم أن يحضروا ليسلم إليهم أبوه ذلك جميعه وأنه قد بذل لهم الأمان والكرامة‏.‏

فلما وصل كتاب محمد إلى العرب سارعوا إلى المسير إلى مراكش فلما وصلوا إليها أعطاهم عبد المؤمن نسائهم وأولادهم وأحسن إليهم وأعطاهم أموالًا جزيلة فاسترق قلوبهم بذلك وأقاموا عنده وكان بهم حفيًا واستعان بهم على ولاية أبنه محمد للعهد على ما نذكره سنة إحدى وخمسين‏.‏

ذكر ملك الفرنج مدينة بونة وموت رجار وملك ابنه غليالم

في هذه السنة سار أسطول رجار ملك الفرنج بصقلية إلى مدينة بونة وكان المقدم عليهم فتاه فيلب المهدوي فحصرها واستعان بالعرب عليها فأخذها في رجب وسبى أهلها وملك ما فيها غير أنه أغضى عن جماعة من العلماء والصالحين حتى خرجوا بأهليهم وأموالهم إلى القرى فأقام بها عشرة أيام وعاد إلى المهدية وبعض الأسرى معه وعاد إلى صقلية فقبض رجار عليه لما اعتمده من الرفق بالمسلمين في بونة‏.‏

وكان فيلب يقال أنه وجميع فتيانه مسلمون يكتمونه ذلك وشهدوا عليه أنه لا يصوم مع الملك وأنه مسلم فجمع رجار الأساقفة والقسوس والفرسان فحكموا بأن يحرق فأحرق في رمضان وهذا أول وهن دخل على المسلمين بصقلية‏.‏

ولم يمهل الله رجار بعده إلا يسيرًا حتى مات في العشر الأول من ذي الحجة من السنة وكان مرضه الخوانيق وكان عمره قريب ثمانين سنة وكان ملكه نحو ستين سنة ولما مات ملك بعده ابنه غليالم وكان فاسد التدبير سيء التصوير فاستوزر مايو البرصاني فأساء التدبير فاختلفت عليه حصون من جزيرة صقلية وبلاد فلورية وتعدى الأمر إلى إفريقية على ما نذكره‏.‏

ذكر وفاة بهرام شاه صاحب غزنة

في هذه السنة في رجب توفي السلطان بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم أبن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة بها وقام بل ملك بعده ولد نظام الدين خسرو شاه وكانت ولاية بهرام شاه ستا وثلاثين سنة وكان عادلًا حسن السيرة جميل الطريقة محبًا للعلماء مكرمًا لهم باذلًا لهم الأموال الكثيرة جامعًا للكتب تقرأ بين يديه ويفهم مضمونها ولما مات ملك ولده خسروشاه‏.‏

ذكر ملك الفرنج مدينة عسقلان

في هذه السنة ملك الفرنج بالشام مدينة عسقلان وكانت من جملة مملكة الظافر بالله العلوي المصري وكان الفرنج كل سنة يقصدونها ويحصرونها فلا يجدون إلى ملكها سبيلًا وكان الوزراء بمصر لهم الحكم في البلاد والخلفاء معهم اسم لا معنى تحته وكان الوزراء كل سنة يرسلون إليها الذخائر والأسلحة والأموال والرجال من يقوم بحفظها فلما كان

في هذه السنة قتل ابن السلار الوزير على ما ذكرناه واختلفت الأهواء في مصر وولي عباس الوزارة إلى أن استقرت قاعدة اغتنم الفرنج اشتغالهم عن عسقلان فاجتمعوا وحصروها فصبر أهلها وقاتلوهم قتالًا شديدًا حتى إنهم بعض الأيام قاتلوا خارج السور وردوا الفرنج إلى خيامهم مقهورين وتبعهم أهل البلد إليها فأيس حينئذ الفرنج من ملكه‏.‏

فبينما هم على عزم الرحيل إذ أتاهم الخبر ان الخلف قد وقع بين أهله وقتل بينهم قتلى فصبروا وكان سبب هذا الاختلاف أنهم لما عادوا عن قتال الفرنج قاهرين منصورين أدعت كل طائفة منهم أن النصرة من جهتهم كانت وأنهم هم الذين ردوا الفرنج خاسرين فعظم الخصام بينهم إلى أن قتل من إحدى الطائفتين قتيل واشتد الخطب حينئذ وتفاقم الشر ووقعت الحرب بينهم فقتل بينهم قتلى فطمع الفرنج وزحفوا إليه وقاتلوهم عليه فلم يجدوا من يمنعهم فملكوه‏.‏

في هذه السنة سير الخليفة المقتفي لأمر الله عسكرًا إلى تكريت ليحصروها وأرسل معهم مقدمًا عليهم أبا البدر ابن الوزير عون الدين بن هبيرة وترشك وهو من خواص الخليفة وغيرهما فجرى بين أبي البدر وترشك منافرة أوجبت أن كتب ابن الوزير يشكو من ترشك فأمر الخليفة بالقبض على ترشك فعرف ذلك فأرسل إلى مسعود بلال صاحب تكريت وصالحه وقبض على ابن الوزير ومن معه من المتقدمين وسلمهم إلى مسعود بلال فانهزم العسكر وغرق منه كثير وسار مسعود بلال وترشك من تكريت إلى طريق خراسان فنهبا وأفسدا فسار المقتفي عن بغداد لدفعهما فهربا من بين يديه فقصد تكريت فحصرها أيامًا وجرى له مع أهلها حروب من وراء السور فقتل من العسكر جماعة بالنشاب فعاد الخليفة عنها ولم يملكها‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة وصلت مراكب من صقلية فيها جمع من الفرنج فنهبوا مدينة تنيس بالديار المصرية‏.‏

وفيها كان بين الكرج بأرمينية وبين صليق صاحب أرزن الروم مصاف وحرب شديدة وفيها توفي أبو العباس أحمد بن أبي غالب الوراق المعروف بابن الطلاية الزاهد البغدادي بها وكان من الصاحين وله حديث ورواية‏.‏

وتوفي عبد الملك بن عبد الله بن أبي سهل أبو الفتح بن أبي القاسم الكروخي الهروي راوي جامع الترمذي ومولده سنة اثنتين وستين وأربعمائة وتفي ببغداد في ذي الحجة‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وأربعين وخمسمائة

ذكر قتل الظافر وخلافة ابنه الفائز

في هذه السنة في المحرم قتل الظاهر بالله أبو إسماعيل بن الحافظ لدين الله عبد المجيد العلوي صاحب مصر‏.‏

وكان سبب قتله أن وزيره عباسًا كان له ولد اسمه نصر فأحبه الظافر وجعله من ندمائه واحبابه الذين لا يقدر على فراقهم ساعة واحدة فاتفق أن قدم من الشام مؤيد الدولة الأمير أسامة بن منقذ الكناني في وزارة ابن السلار واتصل بعباس فحسن له قتل العادل بن السلار زوج أمه فقتله وولاه الظافر الوزارة فاستبد بالأمر وتم له ذلك‏.‏

وعلم الأمراء والأجناد أن ذلك من فعل أبن منقذ فعزموا على قتله فخلا بعباس وقال له‏:‏ كيف تصبر على ما أسمع من قبيح القول قال‏:‏ وما ذلك قال‏:‏ الناس يزعمون أن الظافر يفعل بابنك نصر وكان نصر خصيصًا بالظافر وكان ملازمًا له ليله ونهاره وكان من أجمل الناس صورة وكان الظافر يتهم به فانزعج لذلك وعظم عليه وقال‏:‏ كيف الحيلة قال‏:‏ تقتله فيذهب عنك العار فذكر الحال لولده نصر فاتفقا على قتله‏.‏

وقيل أن الظافر أقطع نصر بن عباس قرية قليوب وهي من أعظم قرى مصر فدخل إليه مؤيد الدولة بن منقذ وهو عند أبيه عباس‏.‏

قال له نصر‏:‏ قد أقطعني مولانا قرية قليوب‏.‏

فقال له مؤيد الدولة‏:‏ ما هي في مهرك بكثير فعظم عليه وعلى أبيه وأنف من هذه الحال وشرع في قتل الظافر بأمر أبيه فحضر نصر عند الظافر وقال له‏:‏ أشتهي أن تجيء إلى داري لدعوة صنعتها ولا تكثر من الجمع فمشى معه في نفر يسير من الخدم ليلًا فلما دخل الدار قتله وقتل من معه وأفلت خادم صغير اختبأ فلم يروه ودفن القتلى في داره‏.‏

وأخبر أخاه عباسًا الخبر فبكر إلى القصر وطلب إلى الخدم الخصيصين بخدمة الظافر أن يطلبوا له إذنًا في الدخول عليه لأمر يريد أن يأخذ رأيه فيه‏.‏

فقالوا‏:‏ إنه ليس في القصر‏.‏

فقال‏:‏ لا بد منه‏.‏

وكان غرضه أن يفني التهمة عنه بقتله وأن يقتل من بالقصر ممن يخاف أن ينازعه فيمن يقيمه في الخلافة فلما ألح عليهم عجزوا عن إحضاره‏.‏

فبينما هم يطلبونه حائرين دهشين لا يدرون ما الخبر إذ وصل إليهم الخادم الصغير الذي شاهد قتله وقد هرب من دار عباس عند غفلتهم عنه وأخبرهم بقتل الظافر فخرجوا إلى عباس وقالوا له‏:‏ سل ولدك عنه فإنه يعرف أين هو لأنهما خرجا جميعًا‏.‏

فلما سمع ذلك منهم قال‏:‏ أريد أن أعتبر القصر لئلا يكون قد اغتاله أحد من أهله فاستعرض القصر فقتل أخوين للظافر وهما يوسف وجبريل وأجلس الفائز بنصر الله أبا القاسم عيسى ابن الظافر بأمر إسماعيل ثاني يوم قتل أبوه وله من العمر خمس سنين فحمله عباس على كتفه وأجلسه على سرير الملك وبايع له الناس وأخذ عباس من القصر من الأموال والجواهر والأعلاق النفيسة ما أراد ولم يترك فيه إلا ما لا خير فيه‏.‏

ذكر وزارة الصالح طلائع بن رزيك

كان السبب في وزارة الصالح طلائع بن رزيك أن عباسًا لما قتل الظافر وأقام الفائز ظن أن الأمر لم يتم له على ما يريده فكان الحال خلاف ما أعتقده فإن الكلمة اختلفت عليه وثار به الجند والسودان وصار إذا أمر بالأمر لا يلتفت إليه ولا يسمع قوله فأرسل من بالقصر من النساء والخدم إلى الصالح طلائع بن رزيك يستغيثون به وأرسلوا شعورهم طي الكتب وكان في منية بني خصيب واليًا عليها وعلى أعمالها وليست من الأعمال الجليلة وإنما كانت أقرب الأعمال إليهم وكان فيه شهامة فجمع ليقصد عباسًا وسار إليه فلما سمع عباس ذلك خرج من مصر نحو الشام بما معه من الأموال التي لا تحصى كثرة والتحف والأشياء التي لا توجد إلا هناك مما كان أخذه من القصر‏.‏

فلما سار وقع به الفرنج فقتلوه وأخذوا جميع ما معه فتقووا به‏.‏

وسار الصالح فدخل القاهرة بأعلام سود وثياب سود حزنًا على الظافر والشعور التي أرسلت إليه من القصر على رؤوس الرماح وكان هذا من الفأل العجيب فإن الأعلام السود العباسية دخلتها وأزالت الأعلام العلوية بعد خمس عشر سنة‏.‏

ولما دخل الصالح القاهرة خلع عليه خلع الوزارة واستقر في الأمر وأحضر الخادم الذي شاهد قتل الظافر فأراه موضع دفنه فأخرجه ونقله إلى مقابرهم في القصر‏.‏

ولما قتل الفرنج عباسًا أسروا ابنه فأرسل الصالح إلى الفرنج وبذل لهم مالًا وأخذه منهم فسار من الشام مع أصحاب الصالح فلم يكلم أحدًا منهم كلمة إلى أن رأى القاهرة فأنشد‏:‏ بلى نحن كنا أهلها فأبادنا صروف الليالي والجدود العواثر وادخل القصر فكان أخر العهد به فإنه قتل وصلب على باب زويلة واستقصى الصالح بيوت الكبار والأعيان بالديار المصرية فأهلك أهلها وأبعدهم عن ديارهم وأخذ أموالهم فمنهم من هلك ومنهم من تفرق في بلاد الحجاز واليمن وغيرهما فعل ذلك خوفًا من أن يثوروا عليه وينازعوه في الوزارة وكان ابن منقذ قد هرب مع عباس فلما قتل هرب إلى الشام‏.‏

ذكر حصر تكريت ووقعة بكمزا

في هذه السنة أرسل الخليفة المقتفي لأمر الله رسولًا إلى والي تكريت بسبب من عندهم من المأسورين وهم ابن الوزير وغيره فقبضوا على الرسول فسير الخليفة عسكرًا إليهم فخرج أهل تكريت فقاتلوا العسكر ومنعوه من الدخول إلى البلد فسار الخليفة بنفسه مستهل صفر فنزل على البلد فهرب أهله فدخل العسكر فشعثوا ونهبوا بعضه ونصب على القلعة ثلاث عشر منجنيقًا فسقط من أسوارها برج وبقي الحصر كذلك إلى الخامس والعشرين من ربيع الأول‏.‏

وأمر الخليفة بالقتال والزحف فاشتد القتال وكثر القتلى ولم يبلغ منها غرضًا فرحل عائدًا إلى بغداد فدخلها أخر الشهر ثم أمر الوزير عون الدين بن هبيرة بالعود إلى محاصرتها والاستعداد والاستكثار من الآلات للحصار فسار إليها سادس ربيع الآخر ونازلها وضيق عليها فوصل الخبر بأن مسعود بلال وصل إلى شهربان ومعه البقش كون خر وترشك في عسكر كثير ونهبوا البلاد فعاد الوزير إلى بغداد‏.‏

وكان سبب وصول هذا العسكر أنهم حثوا الملك محمدًا ابن السلطان محمود على قصد العراق فلم يتهيأ له ذلك فسير هذا العسكر وانضاف إليهم خلق كثير من التركمان فخرج الخليفة إليهم فأرسل مسعود بلال إلى تكريت وأخرج منها الملك أرسلان بن السلطان طغرل بن محمد وكان محبوسًا بتكريت وقال‏:‏ هذا السلطان نقاتل بين يديه إزاء الخليفة‏.‏

والتقى العسكران عند بكمزا بالقرب من بعقوبا ودام بينهم المناوشة والمحاربة ثمانية عشر يومًان ثم إنهم التقوا أخر رجب فاقتتلوا فانهزمت ميمنة عسكر الخليفة وبعض القلب حتى بلغت الهزيمة بغداد ونهبت خزائنه وقتل خازنه فحمل الخليفة بنفسه هو وولي عهده وصاح‏:‏ يا آل هاشم‏!‏ كذب الشيطان وقرأ‏:‏ ‏{‏ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 52 ‏]‏‏.‏ وحمل باقي العسكر معه فانهزم مسعود والبقش وجميع من معهم وتمت الهزيمة وظفر الخليفة بهم وغنم عسكره جميع مال التركمان من دواب وغنم وغير ذلك فبيع كل كبش بدانق وكانوا قد حضروا بنسائهم وأولادهم وخركاتهم وجميع ما لهم فأخذ جميعه ونودي‏:‏ من أخذ من مال التركمان شيئًا فليرده فردوه فأخذ البقش كون خر الملك أرسلان وانهزم إلى البلد اللحف وقلعة الماهكي‏.‏

وفي هذه الحرب غدر بنو عوف من عسكر الخليفة ولحقوا بالعجم ومضى هندي الكردي

أيضًا معهم‏.‏

وكان الملك محمد قد أرسل عسكرًا مع خاص بك بن آقسنقر نجدة لكون خر فلما وصلوا إلى الراذان بلغهم خبر الهزيمة فعادوا ورجع الخليفة إلى بغداد فدخلها أوائل شعبان فوصله الخبر أن مسعود بلال وترشك قصدا مدينة واسط فنهبا وخربا فسير الخليفة الوزير بن هبيرة في عسكر خامس عشر شعبان فانهزم العجم فلقيهم عسكر الخليفة ونب نهم شيئًا كثيرًا وعادوا إلى بغداد فلقب الوزير سلطان العراق ملك الجيوش‏.‏

وسير الخليفة عسكرأ إلى بلد اللحف فأخذه وصار في جملته وأما الملك ألب أرسلان بن طغرل فإن البقش أخذه معه إلى بلده فأرسل إليه الملك محمد يقول له ليحضر عنده وأرسلان معه فمات البقش كون خر في رمضان

في هذه السنة وبقي أرسلان مع ابن البقش وحسن الجاندار فحملاه إلى الجبل فخاف الملك محمد أن يصل أرسلان إلى زوج أمه فصار معه وهو أخو البهلوان بن إيلدكز لأمه وطغرل الذي قتله خوارزمشاه ولد أرسلان هذا وكان طغرل آخر السلجوقية‏.‏

ذكر ملك نور الدين محمود مدينة دمشق

في هذه السنة في صفر نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر مدينة دمشق وأخذها من وكان سبب جده في ملكها أن الفرنج لما ملكوا في العام الماضي مدينة عسقلان لم يكن انور الدين طريق إلى أزعاجهم عنها لاعتراض دمشق بينه وبين عسقلان فلما ملك الفرنج عسقلان طمعوا في دمشق حتى أنهم استعرضوا كل من بها من مملوك وجارية من النصارى فمن أراد المقام بها تركوه ومن أراد العود إلى وطنه أخذوه قهرًا شاء صاحبه أم أبى‏.‏

وكان لهم على أهلها كل سنة قطيعة يأخذونها منهم فكان رسلهم يدخلون البلد ويأخذونها منهم فلما رأى نور الدين ذلك خاف أن يملكها الفرنج فلا يبقى حينئذ بالشام مقام فأعمل الحيلة في أخذها حيث علم أنها لا تملك قوة لأن صاحبها متى رأى غلبه راسل الفرنج واستعان بهم فأعانوه لئلا يملكها من يقوى على قتالهم فراسل مجير الدين صاحبها واستماله وواصله بالهدايا وأظهر له المودة حتى وثق به فكان نور الدين يقول له في بعض الأوقات‏:‏ إن فلانًا قد كاتبني في تسليم دمشق يعني بعض أمراء مجير الدين فكان يبعد الذي قيل عنه ويأخذ أقطاعه فلما لم يبق عنده من الأمراء أحد قدم أميرًا يقال له عطا بن حفاظ السلمي الخادم وكان شهمًا شجاعًا وفوض إليه أمر دولته فكان نور الدين لا يتمكن معه من أخذ دمشق فقبض عليه مجير الدين وقتله فسار نور الدين حينئذ إلى دمشق وكان قد كاتب من بها من الأحداث واستمالهم فوعدوه بالتسليم إليه فلما حصر نور الدين البلد أرسل مجير الدين إلى الفرنج يبذل لهم الأموال وتسليم قلعة بعلبك إليهم لينجدوه وليرحلوا نور الدين عنه فشرعوا في جمع فارسهم وراجلهم ليرحلوا نور الدين عن البلد فإلى أن اجتمع لهم ما يريدون تسلم نور الدين البلد فعادوا بخفي حنين‏.‏

وأما كيفية تسليم دمشق فإنه لما حصرها ثار الأحداث الذين راسلهم فسلموا إليه البلد من الباب الشرقي وملكه وحصر مجير الدين في القلعة وراسله في تسليمها وبذل له أقطاعًا من جملته مدينة حمص فسلمها إليه وسار إلى حمص ثم إنه راسل أهل دمشق ليسلموا إليه فعلم نور الدين ذلك فخافه فأخذ منه حمص وأعطاه عوضًا عنها بالس فلم يرضها وسار منها إلى العراق وأقام ببغداد وابتنى بها دارًا بالقرب من النظامية وتوفي بها‏.‏

ذكر قصد الإسماعيلية خراسان والظفر بهم

في هذه السنة في ربيع الأخر اجتمع جمع كثير من الإسماعيلية من قهستان بلغت عدتهم سبعة آلاف رجل ما بين فارس وراجل وساروا يريدون خراسان لاشتغال عساكرها بالغز وقصدوا أعمال خواف وما يجاورها فلقيهم الأمير فرخشاه بن محمود الكاساني في جماعة من حشمه وأصحابه فعلم أنه لا طاقة له بهم فتركهم وسار عنهم وأرسل إلى الأمير محمد بن أنر وهو من أكابر أمراء خراسان وأشجعهم يعرفه الحال وطلب منه المسير إليهم بعسكره ومن قدر عليه من الأمراء ليجتمعوا عليه ويقاتلوهم‏.‏

فسار محمد بن أنر في جماعة من الأمراء وكثير من العسكر واجتمعوا هم وفرخشاه وواقعوا الإسماعلية وقاتلوهم وطالت الحرب بينهم ثم نصر الله المسلمين وانهزم الإسماعيلية وكثر القتل فيهم وأخذهم بالسيف من كل مكان وهلك أعيانهم وسادتهم‏:‏ بعضهم قتل وبعضهم أسر ولم يسلم منهم إلا القليل الشريد وخلت قلاعهم وحصونهم من حام ومانع فلولا أشتغال العساكر بالغز لكانوا ملكوها بلا تعب ولا مشقة وأراحوا المسلمين منهم ولكن لله أمر هو بالغه‏.‏

ذكر ملك نور الدين تل باشر

في هذه السنة أو التي بعدها ملك نور الدين محمود بن زنكي قلعة تل باشر وهي شمالي حلب من أمنع القلاع‏.‏

وسبب ملكها أن الفرنج لما رأوا ملك نور الدين دمشق خافوه وعلموا أنه يقوى عليهم ولا يقدرون على الانتصاف منه لما كانوا يرون منه قبل ملكها فراسله من بهذه القلعة من الفرنج وبذلوا له تسليمها فسير إليهم الأمير حسان المنبجي وهو من أكابر أمراءه وكان أقطاعه ذلك الوقت مدينة منبج وهي تقارب تل باشر وأمره أن يسير إليها ويتسلمها فسار إليهم وتسلمها منهم وحصنها ورفع إليها من الذخائر ما يكفيها سنين كثيرة‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة مات أستاذ الدار أبو الفتوح عبد اله بن المظفر ابن رئيس الرؤساء وكان له صدقات ومعروف كثير ومجالسة للفقراء‏.‏

ولما مات ولى الخليفة ابنه الأكبر عضد الدين أبا الفرج محمد بن عبد الله ما كان إلى أبيه‏.‏

وتوفي عبد الرحمن بن عبد الصمد بن أحمد بن علي أبو القاسم الأكاف النيسابوري‏.‏

كان زاهدًا عابدًا فقيهًا مناظرًا وكان السلطان سنجر يزوره ويتبرك بدعائه وكان ربما حجبه فلا يمكنه من الدخول إليه‏.‏

وفيها توفي ثقة الدولة أبو الحسن علي بن محمد الدويني وكان يخدم أبا نصر أحمد بن الفرج الأبري فرباه حتى قيل ابن الأبري وزوجه ابنته شهدة الكاتبة فقربه المقتفي لأمر الله ووكله فبنى مدرسة بباب الأزج‏.‏

ثم دخلت سنة خمسين وخمسمائة

في هذه السنة سار الخليفة المقتفي لأمر الله إلى دقوتا فحصرها وقاتل من بها ثم رحل عنها لأنه بلغه أن عسكر الموصل قد تجهزوا للمسير لمنعه عنها فرحل ولم يبلغ غرضًا‏.‏

وفيها استولى شملة التركماني على خوزستان وكان قد جمع جمعًا كثيرًا من التركمان وسار يريد خوزستان وصاحبه حينئذ ملكشاه بن محمد فسير الخليفة إليه عسكرًا فلقيهم شملة في رجب وقاتلهم فانهزم عسكر الخليفة وأسر وجوههم ثم أحسن إليهم وأطلقهم وأرسل يعتذر فقبل عذره وسار إلى خوزستان فملكها وأزاح عنها ملكشاه ابن السلطان محمود‏.‏

وفيها سار الغز إلى نيسابور فملكوها بالسيف فدخلوها وقتلوا محمد ابن يحيى الفقيه الشافعي ونحوًا من ثلاثين ألفًا وكان السلطان سنجر له اسم السلطنة وهو معتقل لا يلتفت إليه حتى إنه أراد كثيرًا من الأيام أن يركب فلم يكن له من يحمل سلاحه فشده على وسطه وركب‏.‏

وكان إذا قدم له طعام يدخر منه ما يأكله وقتًا آخر خوفًا من انقطاعه عنه لتقصيرهم في واجبه ولأنهم ليس هذا مما يعرفونه‏.‏

وفيها وثب قسوس الأرمن بمدينة آني فاخذوها من الأمير شداد وسلموها إلى أخيه فضلون‏.‏

وفيها في ذي الحجة قتل الأتراك القارغلية طمغاج خان بن محمد بما وراء النهر وألقوه في وفيها كان في العراق وما جاوره من البلاد زلزلة كبيرة في ذي الحجة‏.‏

وفيها توفي يحيى الغساني النحوي الموصلي وكان فاصلًا خيرًا وتاج الدين أبو طاهر يحيى بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري قاضي جزيرة ابن عمر‏.‏

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وخمسمائة

عصيان الجزائر وإفريقية على ملك الفرنج

ذكر عصيان الجزائر وإفريقية على ملك الفرنج بصقلية

وما كان منهم قد ذكرنا سنة ثمان وأربعين وخمسمائة موت رجار ملك صقلية وملك ولده غليالم وأنه كان فاسد التدبير فخرج من حكمه عدة من حصون صقلية‏.‏

فلما كان هذه السنة قوي طمع الناس فيه فخرج عن طاعته جزيرة جربة وجزيرة قرقنة وأظهروا الخلاف عليه وخالف عليه أهل إفريقية فأول من أظهر الخلاف عليه وخالف عليه أهل إفريقية فأول من أظهر الخلاف عليه عمر بن أبي الحسين الفرياني بمدينة سفاقس وكان رجار قد استعمل عليها لما فتحها أباه أبا الحسن وكان من العلماء الصالحين فأظهر العجز والضعف وقال‏:‏ استعمل ولدي فاستعمله وأخذ أباه رهينة إلى صقلية‏.‏

فلما أراد المسير إليها قال لولده عمر‏:‏ إنني كبير السن وقد قارب أجلي فمتى أمكنتك الفرصة في الخلاف على العدو فافعل ولا تراقبهم ولا تنظر في أنني أقتل واحسب أني قد مت فلما وجد هذه الفرصة دعا أهل المدينة إلى الخلاف وقال‏:‏ يطلع جماعة منكم إلى السور وجماعة يقصدون مساكن الفرنج والنصارى جميعهم ويقتلونهم كلهم‏.‏

فقالوا له‏:‏ إن سيدنا الشيخ والدك نخاف عليه‏.‏

قال‏:‏ هو أمرني بهذا وإذا قتل بالشيخ ألوف من الأعداء فما مات فلم تطلع الشمس حتى قتلوا الفرنج عن آخرهم وكان ذلك أول سنة إحدى وخمسين وخمسمائة‏.‏

ثم أتبعه أبو محمد بن مطروح بطرابلس وبعدهما محمد بن رشيد بقابس وسار عسكر عبد المؤمن إلى بونة فملكها وخرج جميع إفريقية عن حكم الفرنج ما عدا المهدية وسوسة‏.‏

وأرسل عمر بن إبي الحسين إلى زويلة وهي مدينة بينها وبين المهدية نحو ميدان يحرضهم على الوثوب على من معهم فيها من النصارى ففعلوا ذلك وقدم عرب البلاد إلى زويلة فأعانوا أهلها على من بالمهدية من الفرنج وقطعوا الميرة عن المهدية‏.‏

فلما اتصل الخبر بغليالم ملك صقلية أحضر أبا الحسين وعرفه ما فعل ابنه فأمر أن يكتب إليه ينهاه عن ذلك ويأمره بالعود إلى طاعته ويخوفه عاقبة فعله فقال‏:‏ من قدم على هذا لم يرجع بكتاب فأرسل ملك صقلية إليه رسولًا يتهدده ويأمره بترك ما ارتكبه فلم يمكنه عمر من دخول البلد يومه ذلك فلما كان الغد خرج أهل البلد جميعهم ومعهم جنازة والرسول يشاهدهم فدفنوها وعادوا وأرسل عمر إلى الرسول يقول له‏:‏ هذا أبي قد دفنته وقد جلست للعزاء به فاصنعوا به ما أردتم‏.‏

فعاد الرسول إلى غليالم فأخبره بما صنع عمر بن أبي الحسين فأخذ أباه وصلبه فلم يزل يذكر الله تعالى حتى مات‏.‏

وأما أهل زويلة فإنهم كثر جمعهم بالعرب وأهل سفاقس وغيرهم فحصروا المهدية وضيقوا عليها وكانت الأقوات بالمهدية قليلة فسير إليهم صاحب صقلية عشرين شينيًا فيها الرجال والطعام والسلاح فدخلوا البلد وأرسلوا إلى العرب وبذلوا لهم مالًا لينهزموا وخرجوا من الغد فاقتتلوا هم وأهل زويلة فانهزمت العرب وبقي أهل زويلة وأهل سفاقس يقاتلون الفرنج بظاهر البلد وأحاط بهم الفرنج فانهزم أهل سفاقس وركبوا في البحر فنجوا وبقي أهل زويلة فحمل عليهم الفرنج فانهزموا إلى زويلة فوجدوا أبوابها مغلقة فقاتلوا تحت السور وصبروا حتى قتل أكثرهم ولم ينج إلا القليل فتفرقوا ومضى بعضهم إلى عبد المؤمن‏.‏

فلما قتلوا هرب من بها من الحرم والصبيان والشيوخ في البر ولم يعرجوا على شيء من أموالهم ودخل الفرنج زويلة وقتلوا من وجدوا فيها من النساء والأطفال ونهبوا الأموال واستقر الفرنج بالمهدية إلى أن أخذها عبد المؤمن منهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

في هذه السنة قبض زين الدين علي كوجك نائب قطب الدين مودود ابن زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل على الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملكشاه عند عمه السلطان سنجر قديمًا وقد جعله ولي عهده وخطب له في منابر خراسان فلما جرى لسنجر مع الغز ما ذكرناه وتقد م على عسكر خراسان وضعفوا عن الغز مضى إلى خوارزمشاه فزؤجه ابنة أخيه أقسيس ثم بلغه عنه ما كرهه فأبعده فجاء إلى أصفهان فمنعه شحنتها من الدخول فضى إلى قاشان فسير إليه محمد شاه ابن أخيه محمود بن محمد عسكرًا أبعدوه عنها فسار إلى خوزستان فمنعه ملكشاه عنها فقصد اللحف ونزل البندنيجين وأرسل رسولًا إلى المقتفي يعلمه بوصوله وترددت الرسل بينهما إلى أن أستقر الأمر على أن يرسل زوجته تكون رهينة فأرسلها إلى بغداد ومعها كثير من الجواري والأتباع وقال‏:‏ قد أرسلت هؤلاء رهائن فإن أذن أمير المؤمنين في دخول بغداد فعلت وإلا رجعت‏.‏

فأكرم الخليفة زوجته ومن معها وأذن له في القدوم إليه فقدم ومعه عسكر خفيف يبلغون ثلاثمائة رجل فخرج ولد الوزير ابن هبيرة يلتقيه ومعه قاضي القضاة والنقيبان ولم يترجل له ابن الوزير ودخل بغداد وعلى رأسه الشمسة وخلع عليه الخليفة وأقام ببغداد إلى أن دخل المحرم من سنة إحدى وخمسين وخمسمائة فأحضر فيه سليمان شاه إلى دار الخلافة وأحضر قاضي القضاة والشهود وأعيان العباسيين وحلف للخليفة على النصح والموافقة ولزوم الطاعة وأنه لا يتعرض إلى العراق بحال‏.‏

فلما حاف خطب له ببغداد ولقب ألقاب أبيه غياث الدنيا والدين وباقي ألقابه وخلع عليه خلع السلطنة وسير معه من عسكر بغداد ثلاثة آلاف فارس وجعل الأمير قويدان صاحب الحلة أمير حاجب معه وسار نحو بلاد الجبل في ربيع الأول وسار الخليفة إلى حلوان وأرسل إلى ملكشاه ابن السلطان محمود اخي السلطان محمد صاحب همذانوغيرها يدعوه إلى موافقته فقدم في ألفي فارس فحلف كل منهما لصاحبه وجعل ملكشاه ولي عهد سليمان شاه وقواهما الخليفة بالمال والأسلحة وغيرها فساروا واجتمعوا هم وإيلدكز فصاروا في جمع كبير‏.‏

فلما سمع السلطان محمد خبرهم أرسل إلى قطب الدين مودود صاحب الموصل ونائبه زين الدين يطلب منهما المساعدة والمعاضدة ويبذل لهما البذول الكثيرة إن ظفر فأجاباه إلى ذلك ووافقا فقويت نفسه وسار إلى لقاء سليمان شاه ومن اجتمع معه من عساكره ووقعت الحرب بينهم في جمادى الأولى واشتد القتال بين الفريقين فانهزم سليمان شاه ومن معه وتشتت العسكر ووصل من عسكر الخليفة وكانوا ثلاثة آلاف رجل نحو من خمسين رجلًا ولم يقتل منهم أحد وإنما أخذت خيولهم وأموالهم وتشتتوا وجاؤوا متفرقين‏.‏

وفارق سليمان شاه إيلدكز وسار نحو بغداد على شهرزور فخرج إليه زين الدين علي في جماعة من عسكر الموصل وكان بشهرزور الأمير بزان مقطعًا لها من جهة زين الدين فخرج زين الدين وسار فوقفا على طريق سليمان شاه فأخذاه أسيرًا وحمله زين الدين إلى قلعة الموصل وحبسه بها مكرمًا محترمًا إلى أن كان من أمره ما نذكره سنة خمس وخمسين أن شاء الله فلما قبض سليمان شاه أرسل زين الدين إلى السلطان محمود يعرفه ذلك ووعده المعاضدة على كل ما يريده منه‏.‏

ذكر حصر نور الدين قلعة حارم

في هذه السنة سار نور الدين محمود بن زنكي إلى قلعة حارم وهي للفرنج ثن لبيمند صاحب أنطاكية وهي تقارب أنطاكية من شرقيها وحصرها وضيق على أهلها وهي قلعة منيعة في نحور المسلمين فاجتمعت الفرنج بالقرب منها ومن بعد وساروا نحوه ليرحلوه عنها‏.‏

وكان بالحصن شيطان من شياطينهم يعرفون عقله ويرجعون إلى رأيه فأرسل إليهم يقول‏:‏ إننا نقدر على حفظ القلعة وليس بنا ضعف فلا تخاطروا أنتم باللقاء فإنه إن هزمكم أخذها وغيرها والرأي مطاولته فأرسلوا إليه وصالحوه على أن يعطوه نصف أعمال حارم ألبست دين محمد يا نوره عزًا له فوق السها آساد ما زلت تشمله بمياد القنا حتى تثقف عوده المياد لم يبق مذ أرهفت عزمك دونه عدد يراع به ولا استعداد إن المنابر لو تطيق تكلمًا حمدتك عن خطبائها الأعواد ملق بأطراف القريحة كلكلًا طرفاه ضرب صادق وجلاد حاموا فلما عاينوا خطب الردى حاموا فرائس كيدهم أو كادوا ورأى البرنس وقد تبرنس ذلة حزمًا لحارم والمصاد مصاد من منكر أن ينسف السيل الربى وأبوه ذلك العارض المداد أو أن يعيد الشمس كاسفة السنا نار لها ذاك الشهاب زناد لا ينفع الآباء ما سمكوا من ال - علياء حتى يرفع الأولاد وهي طويلة‏.‏

ذكر وفاة خوارزم شاه أتسز وغيره من الملوك

في هذه السنة تاسع جمادى الآخرة توفي خوارزمشاه أتسز بن محمد أبن أنوشتكين وكان قد أصابه فالج فتعالج منه فلم يبرأ فاستعمل أدوية شديدة الحرارة بغير أمر الأطباء فاستد مرضه وضعفت قوته فتوفي وكان يقول عند الموت‏:‏ ‏{‏ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وكانت ولادته في رجب سنة تسعين وأربعمائة‏.‏

ولما توفي ملك بعده ابنه أرسلان فقتل نفرًا من أعمامه وسمل أخًا له فمات بعد ثلاثة أيام وقيل بل قتل نفسه‏.‏

وأرسل إلى السلطان سنجر وكان قد هرب من أسر الغز على ما نذكره ببذل الطاعة والأنقياد فكتب له منشورًا بولاية خوارزم وسير له الخلع في رمضان فبقي في ولايته ساكنًا أمنًا‏.‏

وكان أتسز حسن السيرة كافأ عن أموال رعيته منصفًا لهم محبوبًا إليهم مؤثرًا للإحسان والخير إليهم وكان الرعية معه بين أمن غامر وعدل شامل‏.‏

وفي سابع عشر الشهر الذكور توفي أبو الفوارس بن محمد بن أرسلان شاه ملك كرمان وملك بعده ابنه سلجوقشاه‏.‏

وفيها توفي الملك مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش صاحب قونية وما يجاورها من بلاد الروم وملك بعده ابنه قلج أرسلان‏.‏

في هذه السنة في رمضان هرب السلطان سنجر بن ملكشاه من أسر الغز هو وجماعة من الأمراء الذين معه وسار إلى ترمذ واستظهر بها على الغز وكان خوارزمشاه أتسز بن محمد بن أنوشتكين والخاقان محمود بن محمد يقصدان الغز فيقاتلانهم فيمن معهما فكانت الحرب بينهم سجالًا وغلب كل واحد من الغز والخراسانيين على ناحية من خراسان فهو يأكل دخلها لا رأس لهم يجمعهم‏.‏

وسار السلطان سنجر من ترمذ إلى جيحون يريد العبور إلى خراسان فاتفق أن مقدم الأتراك القارغلية اسمه علي بك توفي وكان أشد شيء على السلطان سنجر وعلى غيره من سائر الأمم من أقاصي البلاد وأدانيها وعاد إلى دار ملكه في رمضان فكانت مدة أسره مع الغز من سادس جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين إلى رمضان سنة إحدى وخمسين وخمسمائة‏.‏

ذكر البيعة لمحمد بن عبد المؤمن بولاية عهد أبيه

في هذه السنة أمر عبد المؤمن بالبيعة لولده محمد بولاية عهده وكان الشرط والقاعدة بين عبد المؤمن وبين عمر هنتاني أن يلي عمر الأمر بعد عبد المؤمن فلما تمكن عبد المؤمن من الملك وكثر أولاده أحب أن ينقل الملك إليهم فأحضر أمراء العرب من هلال ورعبة وعبدي وغيرهم إليه ووصلهم وأحسن إليهم ووضع عليهم من يقول لهم ليطلبوا من عبد المؤمن ويقولوا له‏:‏ نريد أن نجعل لنا ولي عهد من ولدك يرجع الناس إليه بعدك ففعلوا ذلك فلم يجبهم إكرامًا لعمر هنتاني لعلو منزلته في الموحدين وقال لهم‏:‏ إن الأمر لأبي حفص عمر فلما علم عمر ذلك خاف على نفسه فحضر عند عبد المؤمن وأجاب إلى خلع نفسه فحينئذ بويع لمحمد بولاية العهد وكتب إلى جميع بلاده بذلك وخطب له فيها جميعها فأخرج عبد المؤمن من الأموال في ذلك اليوم شيئًا كثيرًا‏.‏

ذكر استعمال عبد المؤمن أولاده على البلاد

في هذه السنة استعمل عبد المؤمن أولاده على البلاد فاستعمل ولده أبا محمد عبد الله على بجاية وأعمالها واستعمل ابنه ابا الحسن عليًا على فاس وأعمالها واستعمل ابنه ابا حفص عمر على مدينة تلمسان وأعمالها وولى ابنه ابا سعيد سبتة والجزيرة الخضراء ومالقة وكذلك غيرهم‏.‏

ولقد سلك في استعمالهم طريقًا عجيبًا وذلك أنه كان قد استعمل على اللاد شيوخ الموحدين المشهورين من أصحاب المهدي محمد بن تومرت وكان يتعذر عليه أن يعزلهم فأخذ أولادهم وتركهم عنده يشتغلون ي العلوم فلما مهروا فيها وصاروا يقتدى بهم قال لآبائهم‏:‏ إني أريد أن تكونوا عندي أستعين بكم على ما أنا بصدده ويكون ألوادكم في الأعمال لأنهم علماء فقهاء فأجابوا إلى ذلك وهم فرحون مسرورون فولى أولادهم ثم وضع عليهم بعضهم ممن يعتمد عليه فقال لهم‏:‏ إني أرى أمرًا عظيمًا قد فعلتموه فارقتم فيه الحزم والأدب‏.‏

فقالوا وما هو فقال‏:‏ أولادكم في الأعمال وأولاد أمير المؤمنين ليس لهم منها شيء مع ما فيهم من العلم وحسن السياسة وأني أخاف أن ينظر في هذا فتسقط منزلتكم عنده فعلموا صدق القائل فحضروا عند عبد المؤمن وقالوا‏:‏ نحب أن تستعمل على البلاد السادة أولادك‏.‏

فقال لا أفعل فلم يزالوا به حتى فعل ذلك بسؤالهم‏.‏      ‏   ‏ ‏ ‏ ‏ ‏  ‏