في هذه السنة في ذي الحجة حصر السلطان محمد بغداد وسبب ذلك أن السلطان محمد بن محمود كان قد أرسل إلى الخليفة يطلب أن يخطب له ببغداد والعراق فامتنع الخليفة من إجابته إلى ذلك فسار من همذان في عساكر كثيرة نحو العراق ووعده أتابك قطب الدين صاحب
الموصل ونائبه زين الدين علي بإرسال العساكر إليه نجدة له على حصر بغداد فقدم العراق في ذي الحجة سنة إحدى وخمسين واضطرب الناس ببغداد وأرسل الخليفة يجمع العساكر فأقبل خطلبرس من واسط وعصى أرغش صاحب البصرة وأخذ واسط ورحل مهلهل إلى الحلة فأخذها واهتم الخليفة وعمن الدين بن هبيرة بأمر الحصار وجمع جميع السفن وقطع الجسر وجعل الجميع تحت التاج ونودي منتصف المحرم سنة اثنتين وخمسين أن لا يقيم أحد بالجانب الغربي فأجفل الناس وأهل السواد ونقلت الأموال إلى حريم دار الخلافة وخرب الخليفة قصر عيسى والمربعة والقرية والمستجدة والنجمي ونهب أصحابه ما وجدوا وخرب أصحاب محمد شاه نهر القلابين والتوثة وشارع ابن رزق الله وباب الميدان وقطفتا.
وأما أهل الكرخ وأهل باب البصرة فإنهم خرجوا إلى عسكر محمد وكسبوا معهم أموالًا كثيرة.
وعبر السلطان محمد فوق حربي إلى الجانب الغربي ونهبت أوانا واتصل به زين الدين هناك وساروا فنزل محمد شاه عند الرملة وفرق الخليفة السلاح على الجند والعامة ونصب المجانيق والعرادات.
فلما كان في العشرين من المحرم ركب عسكر محمد شاه وزين الدين علي ووقفوا عند الرقة ورموا بالنشاب إلى ناحية التاج فعبر إليهم عامة بغداد فقاتلوهم ورموهم بالنفط وغيره ثم وفي ثالث صفر عاودوا القتال واشتدت الحرب وعبر كثير من أهل بغداد سباحة وفي السفن فقتلوا وكان يومًا مشهودًا.
ولم تزل الحرب بينهم كل وقت وعمل الجسر على دجلة وعبر عليه أكثر العسكر إلى الجانب الشرقي وصار القتال في الجانبين وبقي زين الدين في الجانب الغربي وأمر الخليفة فنودي: كل من جرح فله خمسة دنانير فكان كلما جرح إنسان يحضر عند الوزير فيعطيه خمسة دنانير فاتفق أن بعض العامة جرح جرحًا ليس بكبير فحضر يطلب الدنانير فقال له الوزير ليس هذا الجرح بشيء فعاود القتال فضرب فانشق جوفه وخرج شيء من شحمه فحمل إلى الوزير فقال: يامولانا الوزير أيرضيك هذا فضحك منه وأضعف له ورتب له من يعالج جراحته إلى أن بريء.
وتعذرت الأقوات في العسكر إلا أن اللحم والفواكه والخضر كثيرة وكانت الغلات في بغداد كثيرة لأن الوزير كان يفرقها في الجند عوض الدنانير فيبيعونها فلم تزل الأسعار عندهم رخيصة إلا أن اللحم والخضر والفاكهة قليلة عندهم.
واشتد الحصار على أهل بغداد لانقطاع المواد عنهم وعدم المعيشة لأهلها وكان زين الدين وعسكر الموصل غير مجدين في القتال لأجل الخليفة والمسلمين وقيل لأن نور الدين محمود بن على قتال الخليفة ففتر وأقصر.
فلم تزل الحروب في أكثر الأيام وعمل السلطان محمد أربعمائة سلم ليصعد الرجال فيها إلى السور وزحفوا وقاتلوا ففتح أهل بغداد أبواب البلد وقالوا: أي حاجة بكم إلى السلاليم هذه الأبواب مفتحة فأدخلوا منها فلم يقدروا على أن يقربوها.
فبينما الأمر على ذلك إذ وصل الخبر إلى السلطان محمد أن أخاه ملكشاه وإيلدكز صاحب بلاد آران ومعه الملك أرسلان ابن الملك طغرل بن محمد وهو ابن امرأة إيلدكز قد دخلوا همذان واستولوا عليها وأخذوا أهل الأمراء الذين مع محمد شاه وأموالهم فلما سمع محمد شاه ذلك جد في القتال لعله يبلغ غرضًا فلم يقدر على شيء ورحل عنها نحو همذان في الرابع والعشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة.
وعاد زين الدين إلى الموصل وتفرق ذلك الجمع على عزم العود إذا فرغ محمد شاه من إصلاح بلاده فلم يعودوا يجتمعون وفي كثرة حروبهم لم يقتل منهم إلا نفر يسير وإنما الجراح كانت كثيرة ولما ساروا نهبوا بعقوبا وغيرها من طريق خراسان.
ولما رحل العسكر من بغداد أصاب أهلها أمراض شديدة حادة وموت كثير للشدة التي مرت بهم وأما ملكشاه وإيلدكز ومن معهما فإنهم ساروا من همذان إلى الري فخرج إليهم إينانج شحنتها وقاتلهم فهزموه فأنفذ السلطان محمد الأمير سقمس بن قيماز الحرامي في عسكر نجدة لإينانج فسار سقمس وكان إيلدكز وملكشاه ومن معهما قد عادوا من الري يريدون محاصرة الخليفة فلقيهم سقمس وقاتلهم فهزموه ونهبوا عسكره وأثقالهم فاحتاج السلطان محمد إلى الإسراع فسار فلما بلغ حلوان بلغه أن إيلدكز بالدينور وأتاه رسول من نائبه إينانج أنه دخل همذان وأعاد الخطبة له فيها فقويت نفسه وهرب شملة صاحب خوزستان إلى بلاده وتفرق أكثر جمع إيلدكز وملكشاه وبقيا في خمسة آلاف فارس فعاد إلى بلادهما شبه الهارب.
ولما رحل محمد شاه إلى همذان أراد التجهز لقصد بلاد إيلدكز فابتدأ به مرض السل وبقي به إلى أن مات.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في ربيع الأول أطلق أبو البدر ابن الوزير ابن هبيرة من حبس تكريت ولما قدم بغداد خرج أخوه والموكب يتلقونه وكان يومًا مشهودًا وكان مقامه في الحبس يزيد على ثلاث سنين.
وفيها احترقت بغداد في ربيع الآخر وكثر الحريق بها واحترق درب فراشا ودرب الدواب ودرب اللبان وخرابة ابن حربة والظفرية والخاتونية ودار الخلافة وباب الأزج وسوق السلطان وغير ذلك.
وفيها في شوال قصد الإسماعيلية طبس في خراسان فأوقعوا بها وقعة عظيمة وأسروا جماعة من أعيان دولة السلطان ونهبوا أموالهم ودوابهم وقتلوا فيهم.
وفيها في ذي القعدة توفي شيخ الإسلام أبو المعالي الحسن بن عبيد الله بن أحمد بن محمد المعروف بابن الرزاز بنيسابور وهو من أعيان الأفاضل.
و في هذه السنة توفي مريد الدين بن نيسان رئيس آمد والحاكم فيها على صاحبها وولي ما كان إليه بعده ابنه كمال الدين أبو القاسم.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن الحسين الغزنوي الواعظ المشهور ببغداد وكان قدم إليها سنة ستة عشرة وخمسمائة وكان له قبول عظيم عند السلاطين والعامة والخلفاء إلا أن المقتفي أعرض عنه بعد موت السلطان مسعود لإقبال السلطان عليه وكان موته في المحرم.
وتوفي أبو الحسن بن الخل الفقيه الشافعي شيخ الشافعية ببغداد وهو من أصحاب أبي بكر الشاشي وجمع بين العلم والعمل وكان يؤم بالخليفة في الصلاة.
وتوفي ابن الآمدي الشاعر وهو من أهل النيل من أعيان الشعراء في طبقة الغزي والأرجاني وفيها قتل مظفر بن حماد بن أبي الخير صاحب البطيحة قتله نفيس ابن فضل بن أبي الخير في الحمام وولي ابنه بعده.
وفيها توفي الوأواء الحلبي الشاعر المشهور.
وفيها في رمضان توفي الحكيم أبو جعفر محمد البخاري بأسفرايين وكان صاحب معرفة بعلوم الحكماء الأوائل.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة
ذكر الزلازل بالشام
في هذه السنة في رجب كان بالشام زلازل كثيرة قوية خربت كثيرًا من البلاد وهلك فيها ما لا يحصى كثرة فخرب منها بالمرة حماة وشيزر وكفر طاب والمعرة وأفاميا وحمص وحصن الأكراد وعرقة واللاذقية وطرابلس وأنطاكية.
وأما ما لم يكثر فيه الخراب ولكن خرب أكثره فجميع الشام وتهدمت أسوار البلاد والقلاع فقال نور الدين محمود في ذلك المقام المرضي وخاف على بلاد الإسلام من الفرنج حيث خربت الأسوار فجمع عساكره وأقام بأطراف بلاده يغير على بلاد الفرنج ويعمل في الأسوار في سائر وأما كثرة القتلى فيكفي فيه أن معلمًا كان بالمدينة وهي مدينة حماة ذكر أنه فارق المكتب لمهم عرض له فجاءت الزلزلة فخربت البلد وسقط المكتب على الصبيان جميعهم.
قال المعلم: فلم يأت أحد يسأل عن صبي كان له.
ذكر ملك نور الدين حصن شيزر
نبتدىء بذكر هذا الحصن ولمن كان قبل أن يملكه نور الدين محمود بن زنكي فنقول: هذا الحصن قريب من حماة بينهما نصف نهار وهو على جبل عال نميع لا يسلك إليه إلا من طريق واحدة.
وكان لآل منقذ الكنانيين يتوارثونه من أيام صالح بن مرداس إلى أن انتهى الأمر إلى أبي المرهف بنصر بن علي بن المقلد بعد أبيه أبي الحسن علي فبقي بيده إلى أن مات سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وكان شجاعاَ كريمًا فلما حضره الموت استخلف أخاه أبا سلامة مرشد بن علي فقال: والله لا وليته ولأخرجن من الدنيا كما دخلتها.
وكان عالمًا بالقرآن والأدب وهو والد مؤيد الدولة أسامة بن منقذ فولاها أخاه الأصغر سلطان بن علي واصطحبا أجمل صحبة مدة من الزمان فأولد مرشد عدة أولاد ذكور وكبروا وسادوا منهم: عز الدولة أبو الحسن علي ومؤيد الدولة أسامة وغيرهما ولم يولد لأخيه سلطان ولد ذكر إلى أن كبر فجاءه أولاد ذكور فحسد أخاه على ذلك وخاف أولاد أخيه على أولاده وسعى بينهم المفسدون فغيروا كلًا منهما على أخيه فكتب سلطان إلى أخيه مرشد شعر يعاتبه على أشياء بلغته عنه فأجابه بشعر في معناه رأيت إثبات ما تمس الحاجة إليه منه وهي هذه الأبيات: ظلوم أبت في الظلم إلا تماديا وفي الصد والهجان إلا تناهيا شكت هجرنا والذنب في ذاك ذنبها فيا عجبًا من ظالم جاء شاكيا وطاوعت الواشين في وطالما عصيت عذولًا في هواها وواشيا ومال بها تيه الجمال إلى القلى وهيهات أن أمسي لها الدهر قاليا ولا ناسيًا ما أودعت من عهودها وإن هي أبدت جفوة وتناسيا ولما أتاني من قريضك جوهر جمعت المعالي فيه والمعانيا وكنت هجرت الشعر حينًا لأنه تولى برغمي حين ولى شبابيا وأين من الستين لفظ مفوق إذا رمت منه أدنى القول عصانيا وقلت: أخي يرعى بني وأسرتي ويحفظ عهدي فيهم وذماميا ويجزيهم ما لم أكلفه فعله لنفسي فقد أعددته من تراثيا تنكرت حتى صار برك قسوة وقربك منهم جفوة وتنابيا وأصبحت صفر الكف مما رجوته أرى اليأس قد عفى سبيل رجائيا على أنني ما حلت عما عهدته ولا غيرت هذي السنون وداديا وانتظر فرصة تمكنه فلما خربت القلعة في هذه السنة بما ذكرناه من الزلزلة لم ينج من بني منقذ فلا غرو عند الحادثات فإنني أراك يميني والأنام شماليا تحل بها عذراء لو قرنت بها نجوم السماء لم تعد دراريا تحلت بدر من صفاتك زانها كما زان منظوم اللآلي الغوانيا وعش بانيًا للمجد ما كان واهيًا مشيدًا من الإحسان ما كان هاويا وكان الأمر بينهما فيه تماسك فلما توفي مرشد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة قاب أخوه لأولاده ظهر المجن وبادأهم بما يسوءهم وأخرجهم من شيزر فتفرقوا وقصد أكثرهم نور الدين وشكوا إليه ما لقوا من عمهم فغاظه ذلك ولم يمكنه قصده والأخذ بثأرهم وإعادتهم إلى وطنهم لاشتغاله بجهاد الفرنج ولخوفه أن يسلم شيزر إلى الفرنج.
ثم توفي سلطان وبقي بعده أولاده فبلغ نور الدين عنهم مراسلة الفرنج فاشتد حنقه عليهم وانتظر فرصة تمكنه فلما خربت القلعة في هذه السنة بما ذكرناه من الزلزلة لم ينج من بني منقذ الذين بها أحد.
وسبب هلاكهم أجمعين أن صاحبها منهم كان قد ختن ولدًا له وعمل دعوة للناس وأحضر جميع بني منقذ عنده في داره وكان له فرس يحبه ويكاد لا يفارقه وإذا كان في مجلس أقيم الفرس على بابهن وكان المهر في ذلك اليوم على باب الدار فجاءت الزلزلة فقام الناس ليخرجوا من الدار فلما وصلوا مجفلين إلى الباب ليخرجوا من الدار رمح الفرس رجلًا كان أولهم فقتله وامتنع الناس من الخروج فسقطت الدار عليهم كلهم وخربت القلعة وسقط سورها وكل بناء فيها ولم ينج منها إلا الشريد فبادر إليها بعض أمرائه وكان بالقرب منها فملكها وتسلمها نور الدين منه فملكها وعمر أسوارها ودورها وأعادها جديدة.
ذكر وفاة الدبيسي صاحب جزيرة ابن عمر
واستيلاء قطب الدين مودود على الجزيرة كانت الجزيرة لأتابك زنكي فلما قتل سنة إحدى وأربعين أقطعها أبنه سيف الدين غازي للأمير أبي بكر الدبيسي وكان من أكابر أمراء والدهن فبقيت بيده إلى الآن وتمكن منها وصار بحيث يتعذر على قطب الدين أخذها منه فمات في ذي الحجة سنة إحدى وخمسين ولم يخلف ولدًا فاستولى عليها مملوك له اسمه غلبك وأطاعه جندها فحصرهم مودود ثلاثة أشهر
ذكر وفاة السلطان سنجر
في هذه السنة في ربيع الأول توفي السلطان سنجر بن ملكشاه بن ألب أرسلان أبو الحرث أصابه قولنج ثم بعده إسهال فمات منه ومولده سنجار من ديار الجزيرة في رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة وسكن خراسان واستوطن مدينة مرو ودخل بغداد مع أخيه السلطان محمد واجتمع معه بالخليفة المستظهر بالله فعهد إلى محمد بالسلطنة وجعل سنجر ولي عهد.
فلما مات محمد خوطب سنجر بالسلطان واستقام أمره وأطاعه السلاطين وخطب له على أكثر منابرالإسلام بالسلطنة نحو أربعين سنة وكان قبلها يخاطب بالملك عشرين سنةئئن ولم يزل أمره عاليًا وجده متراقيًا إلى أن أسره الغز على ما ذكرناه ثم إنه خلص بعد مدة وجمع إليه أطرافه بمرو وكاد يعود إليه ملكه فأدركه أجله وكان مهيبًا رفيقًا بالرعية وكانت البلاد في زمانه آمنة.
ولما مات دفن في قبة بناها لنفسه سماها دار الآخرة ولما وصل خبر موته إلى بغداد قطعت خطبته ولم يجلس له في الديوان للعزاء.
ولما حضر السلطان سنجر الموت استخلف على خراسان الملك محمود بن محمد بن بغراجان وهو ابن أخت السلطان سنجر فأقام بها خائفًا من الغز فقصد جرجان يستظهر بها وعاد الغز إلى مرو وخراسان واجتمع طائفة من عساكر خراسان على أي أبه المؤيد فاستولى على طرف من خراسان وبقيت خراسان على هذا الاختلال إلى سنة أربع وخمسين.
وأرسل الغز إلى الملك محمود بن محمد وسألوه أن يحضر عندهم ليملكوه عليهم فلم يثق بهم وخافهم على نفسه فأرسل أبنه إليهم فأطاعوه مديدة ثم لحق بهم الملك محمود على ما نذكره سنة ثلاث وخمسين.
ذكر ملك المسلمين مدينة المرية وانقراض دولة الملثمين بالأندلس
في هذه السنة انقرضت دولة الملثمين بالأندلس وملك أصحاب عبد المؤمن المرية من الفرنج.
وسبب ذلك أن عبد المؤمن لما استعمل ابنه أبا سعيد علي على الجزيرة الخضراء ومالقة عبر أبو سعيد البحر إلى مالقة واتخذها دارًا وكاتبه ميمون بن بدر اللمتوني صاحب غرناطة أن يوحد ويسلم إليه غرناطة فقبل أبو سعيد ذلك منه وتسلم غرناطة فسار ميمون إلى مالقة بأهله وولده فتلقاه أبو سعيد وأكرمه ووجهه إلى مراكش فأقبل عليه عبد المؤمن وانقرضت دولة الملثمين ولم يبق لهم إلا جزيرة ميورقة مع حمو بن غانية.
فلما ملك أبو سعيد غرناطة جمع الجيوش وسار إلى مدينة المرية وهي بأيدي الفرنج أخذوها من المسلمين سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة فلما نازلها وافاه الأسطول من سبتة وفيه خلق كثير من المسلمين فحصروا المرية برًا وبحرًا وجاء الفرنج إلى حصنها فحصرهم فيها ونزل عسكره على الجبل المشرف عليها وبنى أبو سعيد سورًا على الجبل المذكور إلى البحر وعمل عليه خندقًا فصارت المدينة والحصن الذي فيه الفرنج محصورين بهذا السور والخندق ولا يمكن من ينجدهما أن يصل إليهما فجمع الأذفونش ملك الفرنج بالأندلس والمعروف بالسليطين وفي اثني عشر ألف فارس من الفرنج ومعه محمد بن سعد بن مردنيش في ستة آلاف فارس من المسلمين وراموا الوصول إلى مدينة المرية ودفع المسلمين عنها فلم يطيقوا ذلك فرجع السليطين وابن مردنيش خائبين فمات السليطين في عوده فبل أن يصل إلى طليطلة.
وتمادى الحصار على المرية ثلاثة أشهر فضاقت الميرة وقلت الأقوات على الفرنج فطلبوا الأمان ليسلموا الحصن فأجابهم أبو سعيد إليه وأمنهم وتسلم الحصن ورحل الفرنج في البحر عائدين إلى بلادهم فكان ملكهم المرية عشر سنين.
في هذه السنة جمع شاه مازندران رستم بن علي بن شهريار عسكره وسار ولم يعلم أحد جهة مقصده وسلك المضايق وجد السير إلى بلد الموت وهي للإسماعيلية فأغار عليها وأحرق القرى والسواد وقتل فأكثر وغنم أموالهم وسبى نسائهم واسترق أبنائهم فباعهم في السوق وعاد سالمًا غانمًا وانخذل الإسماعيلية ودخل عليهم من الوهن ما لم يصابوا بمثله وخرب من بلادهم ما لا يعمر في السنين الكثيرة.
ذكر أخذ حجاج خراسان
في هذه السنة في ربيع الأول سار حجاج خراسان فلما رحلوا عن بسطام أغار عليهم جمع من الجند الخراسانية قد قصدوا طبرستان فأخذوا من أمتعتهم وقتلوا نفرًا منهم وسلم الباقون وساروا من موضعهم.
فبينما هم سائرون إذ طلع عليهم الإسماعيلية فقاتلهم الحجاج قتالًا عظيمًا وصبروا صبرًا عظيمًا فقتل أميرهم فانخذلوا وألقوا بأيديهم واستسلموا وطلبوا الأمان وألقوا أسلحتهم مستأمنين فأخذهم الإسماعيلية وقتلوهم ولم يبقوا منهم إلا شرذمة يسيرة وقتل فيهم من الأئمة والعلماء والزهاد والصلحاء جمع كثير وكانت مصيبة عظيمة عمت بلاد الإسلام وخصت فلما كان الغد طاف شيخ في القتلى والجرحى ينادي: يا مسلمون يا حجاج ذهب الملاحدة وأنا رجل مسلم فمن أراد الماء سقيته فمن كلمه قتله وأجهز عليه فهلكوا جميعهم إلا من سلم وولى هاربًا وقليل ما هم.
ذكر الحرب بين المؤيد والأمير إيثاق
قد ذكرنا تقدم الأمير المؤيد أي أبه مملوك السلطان سنجر وتقدمه على عسكر خراسان فحسده جماعة من الأمراء السنجرية وانحرف عنه وكان تارة يقصد خوارزمشاه وتارة شاه مازندران وتارة يظهر الموافقة للمؤيد ويبطن المخالفة.
فلما كان الآن فارق مازندران ومعه عشرة آلاف فارس وقد اجتمع معه كل من يريد الغارة على البلاد وكل منحرف عن المؤيد وقصد خراسان وأقام بنواحي نسا وأبيورد لا يظهر المخالفة للمؤيد بل يراسله بالموافقة والمعاضدة له ويبطن ضدها.
وانتقل المؤيد من المكاتبة إلى المكافحة وسار إليه جريدة فأغار عليه وأوقع به فتفرق عنه جموعه ونجا بحشاشة نفسه وغنم المؤيد وعسكره كل ما لا يثاق ومضى منهزمًا إلى مازندران وكان ملكها رستم بينه وبين أخ له اسمه علي تنازع على الملك وقد قوي رستم فلما وصل إلى مازندران قتل عليًا وحمل رأسه إلى أخيه رستم فعظم ذلك على رستم واشتد واستشاط غضبًا وقال: أكل لحمي ولا أطعمه غيري.
ولم يزل إيثاق يتردد في خراسان بالنهب والغارة لا سيما مدينة اسفرايين فإنه أكثر من قصدها حتى خربت فراسله السلطان محمود بن محمد والمؤيد يدعوانه إلى الموافقة فامتنع فسارا إليه في العساكر فلما قارباه أتاهما كثير من عسكره فمضى من بين أيديهما إلى طبرستان في صفر سنة ثلاث وخمسين فتبعاه في عساكرهما فأرسل شاه مازندران يطلب الصلح فأجاباه واصطلحوا وحمل شاه مازندران أموالًا جليلة وهدايا نفيسة وسير إيثاق ابنه رهينة فعادا عنه.
ذكر الحرب بين المؤيد وسنقر العزيري
كان سنقر العزيري من أمراء السلطان سنجر وممن يناوئ أيضًا المؤيد أي أبه فلما اشتغل المؤيد بحرب إيثاق سار ستقر من عسكر السلطان محمود بن محمد إلى هراة ودخلها وبها جماعة من الأتراك وتحصن بها فأشير عليه بأن يعتضد بالملك الحسين ملك الغورية فلم يفعل واستبد بنفسه منفردًا لأنه رأى اختلاف الأمراء على السلطان محمود بن محمد فطمع وحدث نفسه بالقوة فقصده المؤيد إلى هراة فلما وصل إليها قاتل من بها شيئًا من قتال ثم عن الأتراك مالوا إلى المؤيد وأطاعوه وانقطع خبر سنقر العزيري من ذلك الوقت ولم يعلم ما كان منه فقيل: إنه سقط من فرسه فمات وقيل: بل اغتاله الأتراك فقتلوه.
وتقدم السلطان محمود إلى ولاية هراة في عساكره وجنوده والتحق جماعة من عسكر سنقر بالأمير إيثاق وأغاروا على طوس وقراها فبطلت الزروع والحرث واستولى الخراب على البلاد وعمت الفتن أطراف خراسان وأصابتهم العين فإنهم كانوا أيام السلطان سنجر في أرغد عيش وأمنه وهذا دأب الدنيا لا يصفوا نعيمها وخيرها من كدر وشوائب وآفات وقلما يخلص شرها من خير نسأل الله أن يحسن لنا العقبى بمحمد وآله.
ذكر ملك نور الدين بعلبك
في هذه السنة ملك نور الدين محمد بعلبك وقلعتها وكانت بيد إنسان يقال له ضحاك البقاعي منسوب إلى بقاع بعلبك وكان قد ولاه إياها صاحب دمشق فلما ملك نور الدين دمشق امتنع ضحاك بها فلم يمكن نور الدين محاصرته لقربه من الفرنج فتلطف الحال معه إلى الآن فملكها واستولى عليها.
في هذه السنة قلع الخليفة المقتفي لأمر الله باب الكعبة وعمل عوضه بابًا مصفحًا بالنقرة المذهبة وعمل لنفسه من الباب الأول تابوتًا يدفن فيه إذا مات.
وفيها توفي محمد بن عبد اللطيف بن محمد بن ثابت أبو بكر الخجندي رئيس أصحاب الشافعي بأصفهان وسمع الحديث بها من أبي علي الحداد وكان صدرًا مقدمًا عند السلاطين وكان ذا حشمة عظيمة وجاه عريض ووقعت لموته فتنة عظيمة بأصفهان وقتل فيها خلق كثير.
وفيها كان بخراسان غلاء شديد أكلت فيه سائر الدواب حتى الناس وكان بنيسابور طباخ فذبح إنسانًا علويًا وطبخه وباعه في الطبيخ ثم ظهر عليه انه فعل ذلك فقتل وأسفر الغلاء وصلحت أحوال الناس.
وفيها توفي القاضي أبو العباس أحمد بن بختيار بن علي المانداي الواسطي قاضيها وكان فقيهًا عالمًا.
وفيها في ربيع الآخر توفي القاضي برهان الدين أبو القاسم منصور ابن أبي سعد محمد بن أبي نصر أحمد الصاعدي قاضي نيسابور وكان من أئمة الفقهاء الحنفية.
ذكر الحرب بين سنقر وأرغش
في هذه السنة كانت حرب شديدة بين سنقر الهمذاني وأرغش المسترشدي وسببها أن سنقر الهمذاني كان قد نهب سواد بغداد بطريق خراسان وكثر جمعه فخرج الخليفة المقتفي لأمر الله جمادى الأولى بنفسه يطلبه فلما وصل إلى بلد اللحف قال له الأمير خطلبرس: أنا أكفيك هذا المهم وكان بينه وبين سنقر مودة فركب إليه وتلاقيا وجرى بينهما عتاب طويل لأجل خرجه عن طاعة الخليفة فأجاب سنقر إلى الطاعة وعاد خطلبرس وأصلح حاله مع الخليفة وأقطعه بلد اللحف له وللأمير أرغش المسترشدي.
فلما توجها إلى اللحف جرى بينهما منازعة فأراد سنقر قبض أرغش فرآه محترزًا فتحاربًا واقتتلا قتالًا شديدًا وغدر بأرغش أصحابه فعاد منهزمًا إلى بغداد وانفرد سنقر ببلد اللحف وخطب فيه للملك محمد فسير من بغداد عسكرًا لقتاله مقدمهم خطلبرس فجرت بينهما حرب شديدة انهزم في أخرها سنقر وقتلت رجاله ونهبت أمواله التي في العسكر وسار هو إلى قلعة الماهكي وأخذ ما كان بها واستخلف فيها بعض غلمانه وسار هو إلى همذان فلم يلتفت إليه الملك محمد شاه فعاد إلى قلعة الماهكي وأقام بها.
في هذه السنة أيضًا كان قتال بين شملة صاحب خوزستان ومعه ابن مكلية وبين قايماز السلطاني في ناحية بادرايا فجمعا عسكرهما وسارا إليه فأتاه البر بذلك وهو يشرب فلم يحفل بذلك وركب إليهم في نحو ثلاثمائة فارس وكان معجبًا بنفسه فحمل عليهم واختلط بهم فأحدقوا به وقاتل أشد قتال فانهزم أصحابه وأخذ هو أسيرًا فتسلمه إنسان تركماني كان له عليه دم لأنه قتل ابنًا للتركماني فقتله بابنه وأرسل برأسه إلى محمد شاه.
وأرسل الخليفة عسكرًا ليقاتل شملة ومن معه فانزاحوا من بين أيديهم ولحقوا بالملك ملكشاه بخوزستان فهلك كثير منهم بالبرد.
ذكر معاودة الغز الفتنة بخراسان
كان الأتراك الغزية قد أقاموا بمدينة بلخ واستوطنوها وتركوا النهب والقتل ببلاد خراسان واتفقت الكلمة بها على طاعة السلطان خاقان محمود بن أرسلان وكان المتولي لأمور دولته المؤيد أي أبه وعن رأيه يصدر محمود.
فلما كان هذه السنة في شعبان سار الغز من بلخ إلى مرو وكان السلطان محمود بسرخس في العساكر فسار المؤيد بطائفة من العسكر إليهم فأوقع بطائفة منهم وظفر بهم ولم يزل يتبعهم إلى أن دخلوا إلى مرو أوائل رمضان وغنم من أموالهم وقتل كثيرًا وعاد إلى سرخس فاتفق هو والسلطان محمود على قصد الغز وقتالهم فجمعا العساكر وحشدا وسارا إلى الغز فالتقوا سادس شوال من هذه السنة وجرت بينهم حرب طال مداها فبقوا يقتتلون من يوم الاثنين تاسع شوال إلى نصف الليل من ليلة الأربعاء الحادي عشر من الشهر تواقعوا عدة وقعات متتابعة ولم يكن بينهم راحة ولا نزول إلا لما لا بد منه انهزم الغز فيها ثلاث دفعات وعادوا إلى الحرب.
فلما أسفر الصبح يوم الأربعاء انكشف الحرب عن هزيمة عسكر خراسان وتفرقهم في البلاد وظفر الغز بهم وقتلوا فأكثروا فيهم وأما الأسرى والجرحى فأكثر من ذلك.
وعاد المؤيد ومن سلم معه إلى طوس فاستولى الغز على مرو وأحسنوا السيرة وأكرموا العلماء والأئمة مثل تاج الدين أبي سعيد السمعاني وشيخ الإسلام علي البلخي وغيرهما وأغاروا على سرخس وخربت القرى وجلا أهلها وقتل من أهل سرخس عشرة آلاف قتيل ونهبوا طوس أيضًا وقتلوا أهلها وعادوا إلى مرو.
وأما السلطان محمود بن محمد الخان والعساكر التي معه فلم يقدروا على المقام بخراسان من الغز فساروا إلى جرجان ينتظرون ما يكون من الغز فلما دخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة أرسل الغز ألى السلطان محمود يسألونه أن يحضر عندهم ليملكوه أمرهم فلم يثق بهم وخافهم
على نفسه فأرسلوا يطلبون منه أن يرسل أبنه جلال الدين محمدًا إليهم ليملكوه أمرهم ويصدروا عن أمره ونهيه في قليل الأمور وكثيرها وترددت الرسل واتاط السلطان محمود لولده بالعهد والمواثيق وتقرير القواعد ثم سيره من جرجان إلى خراسان فلما سمع الأمراء الغزية بقدومه ساروا من مرو إلى طريقه فالتقوه بنيسابور وأكرموه وعظموه وجخل نيسابور واتصلت به العساكر الغزية واجتمعوا عنده في الثالث والعشرين من ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وخمسمائة.
ثم إن السلطان محمودًا سار من جرجان إلى خراسان في الجيوش التي معه من الأمراء السنجرية وتخلف عه المؤيد أي أبه فوصل إلى حدود النسا وأبيورد وأقطع نسا لأمير اسمه عمر بن حمزة النسوي فقام في حفظها المقام المرضي ومنع عنها أيدي المفسدين وأقام السلطان محمود بظاهر نسا حتى انسلخ جمادى الآخرى من السنة.
ولما كان الغز بنيسابور هذه السنة أرسلوا إلى أهل طوس يدعونهم إلى الطاعة والموافقة فامتنع أهل رايكان من إجابتهم إلى ذلك واغتروا بسور بلدهم وبما عندهم من الشجاعة والقوة والعدة الوافرة والذخائر الكثيرة فقصدها طائفة من الغز وحصروهم وملكوا البلد وقتلوا فيهم ونهبوا وأكثروا ثم عادوا إلى نيسابور وساروا مع جلال الدين محمد ابن السلطان محمود الخان إلى بيهق وحصروا سابزوار سابع عشر جمادى الآخرى سنة أربع وخمسين وخمسمائة فامتنع أهلها عليهم وقام بأمرهم النقيب عماد الدين بن محمد بن يحيى العلوي الحسيني نقيب العلويين واجمعوا معه ورجعوا إلى أمره ونهيه ووقفوا عند إشارته فامتنعوا على الغز وحفظوا البلد منهم وصبروا على القتال.
فلما رأى الغز امتناعهم عليهم وقوتهم أرسلوا إليهم يطلبون الصلح فاصطلحوا ولم يقتل من أهل سابزوار في تلك الحروب غير رجل واحد ورحل الملك جلال الدين والغز عن سابزوار في السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وخمسمائة وساروا إلى نسا وأبيورد.
ذكر أسر المؤيد وخلاصه
قد ذكرنا أن المؤيد أي أبه تخلف عن السلطان ركن الدين محمود بن محمد بجرجان فلما كان الآن سار من جرجان إلى خراسان فنزل بقرية من قرى خبوشان اسمها زانك وبها حصن فسمع الغز بوصوله إلى زانك فساروا إليه وحصروه بها فخرج منه هاربًا فرآه واحد من الغز فأخذه فوعده بمال جزيل إن أطلقه فقال الغزي: وأين المال فقال: هو مودع في بعض هذه الجبال.
فسار هو والغزي فوصلا إلى جدار قرية فيها بساتين وعيون فقال للفارس: المال هاهنا وصعد الجدار ونزل من ظهره ومضى هاربًا فرأى الغز قد ملأوا الأرض فدخل قرية فعرفه طحان فيها فأعلم زعيم القرية به وطلب منه مركبًا فأتاه بما أراد وأعانه على الوصول إلى نيسابور فوصل إليها واجتمعت عليه العساكر وقوي أمره وعاد إلى حاله وأحسن إلى الطحان وبالغ في الإحسان إليه.
ذكر اجتماع السلطان محمود مع الغز وعودهم إلى نيسابور
لما عاد الغز ومعهم الملك محمد بن محمود الخان إلى نسا وأبيورد كما ذكرناه خرج والده السلطان محمود الجان وكان هناك فيمن معه من العساكر الخراسانية فاجتمع بهم واتفقت الكلمة على طاعته وأراد عمارة البلاد وحفظها فلم يقدر على ذلك فلما اجتمعوا ساروا إلى نيسابور وبها المؤيد أي أبه في شعبان فلما سمع بقربهم منه رحل عنها إلى خواف في السادس عشر منه ووصلوا إليها في الحادي والعشرين منه ونزلوا فيه وخافهم الناس خوفًا عظيمًا فلم يفعلوا بهم شيئًا وساروا عنها في السادس والعشرين منه إلى سرخس ومرو وكان بها الفقيه
المؤيد بن الحسين الموفقي رئيس الشافعية وله بيت قديم وهو من أحفاد الإمام أبي سهل الصعلوكي وله مصاهرة إلى بيت أبي المعالي الجويني وهو المقدم في البلد والمشار إليه وله من الأتباع ما لا يحصى.
فاتفق أن بعض أصحابه قتل إنسانًا من الشافعية اسمه أبو الفتوح الفستقاني خطأ وأبو الفتوح هذا له تعلق بنقيب العلويين بنيسابور وهو ذخر الين أبو القاسم زيد بن الحسن الحسيني وكان هذا النقيب هو الحاكم هذه المدة في نيسابور فغضب من ذلك وأرسل إلى الفقيه المؤيد يطلب منه القاتل ليقتص منه ويتهدده إن لم يفعل فامتنع المؤيد من تسليمه وقال: لا مدخل لك مع أصحابنا إنما حكمك على الطائفة العلويين فجمع النقيب أصحابه ومن يتبعه وقصد الشافعية فاجتمعوا له وقاتلوه فقتل منهم جماعة ثم أن النقيب أحرق سوق العطارين وأحرقوا سكة معاذ أيضًا وسكة باغ ظاهر ودار إمام الحرمين أبي المعالي الجويني وكان الفقيه المؤيد الشافعي بها للصهر الذي بينهم.
وعظمت المصيبة على الناس كافة وجمع بعد ذلك المؤيد الفقيه جموعًا من طوس واسفرايين وجوين وغيرهم وقتلوا واحدًا من اتباع النقيب زيد يعرف بابن الحاجي الأشناني فأهم العلوية ومن معهم فاقتتلوا ثامن عشر شوال من سنة أربع وخمسين وقامت الحرب على ساق وأحرقت المدارس والأسواق والمساجد وكثر القتل في الشافعية فالتجأ المؤيد إلى قلعة فرخك وقصر باع الشافعية عن القتال ثم انتقل المؤيد إلى قرية من قرى طوس وبطلت دروس الشافعية بنيسابور وخرب البلد وكثر القتل فيه.
ذكر حصر صاحب ختلان ترمذ وعوده وموته
في هذه السنة في رجب سار الملك أبو شجاع فرخشاه وهو يزعم أنه من أولاد بهرام جور وقد تقدم ذكره أيام كسرى أبرويز إلى ترمذ وحصرها.
وكان سبب ذلك أنه في طاعة السلطان سنجر.
فلما خرج عليه الغز طلبه ليحضر معه حربه لهم فجمع عسكره وأظهر أنه واصل فيمن عنده من العساكر إليه وأقام ينتظر ما يكون منه فلما ظفر حضر وقال له: سبقتني بالحرب وإن كان الظفر للغز قال: إنما تأخرت محبة وإرادة أن تملكوا! فلما انهزم سنجر وكان ما ذكرناه بقي إلى الآن فسار إلى ترمذ ليحصرها فجمع صاحبها فيروز شاه أحمد بن أبي بكر بن قماج عسكره ولقيه ليمنعه فاقتتلوا فانهزم فيروزشاه ومضى منهزمًا لا يلوي على شيء فأصابه في الطريق قولنج فمات منه. وتخريب ما بقي مها
في هذه السنة عاد المؤيد أي أبه إلى نيسابور في عساكره ومعه الإمام المؤيد الموفقي الشافعي الذي تقدم ذكر الفتنة بينه وبين ذخر الدين نقيب العلويين وخروجه من نيسابور فلما خرج منها صار مع المؤيد وحضر معه حصار نيسابور وتحصن النقيب العلوي بشارستان واشتد الخطب وطالت الحرب وسفكت الدماء وهتكت الأستار وخربوا ما بقي من نيسابور من الدور وغيرها وبالغ الشافعية ومن معهم بالانتقام فخربوا المدرسة الصندلية لأصحاب أبي حنيفة وخربوا غيرها وحصروا قهندز وهذه الفتنة استأصلت نيسابور ثم رحل المؤيد أي أبه عنها إلى بيهق في شوال من سنة أربع وخمسين وخمسمائة كان ينبغي أن تكون هذه الحوادث الغزية الواقعة سنة أربع وخمسين مذكورة في سنتها وإنما قدمناها هاهنا ليتلو بعضها بعضًا فيكون أحسن لسياقتها.
ذكر ملك ملكشاه خوزستان
في هذه السنة ملك ملكشاه ابن السلطان محمود بلد خوزستان وأخذه من شملة التركماني وسبب ذلك أن الملك محمدًا بن السلطان محمود لما عاد من حصار بغداد كما ذكرناه مرض وبقي مريضًا في همذان ومضى أخوه ملكشاه إلى قم وقاشان وما والاها فنهبها جميعها وصادر أهلها وجمع أموالًا كثيرة فراسله أخوه محمد شاه يأمرم بالكف عن ذلك ليجعله ولي عهده في الملك فلم يفعل ومضى إلى أصفهان فلما قاربها أرسل رسولًا إلى ابن الخجندي وأعيان البلد في تسليم البلد إليه فامتنعوا من ذلك وقالوا لأخيك في رقابنا يمين ولا نغدر به فحينئذ شرع ملكشاه في الفساد والمصادرة لأهل القرى.
فلما سمع محمد شاه الخبر سار عن همذان وعلى مقدمته كرد بازوه الخادم فتفرقت جموع ملكشاه فانهزم إلى بغداد فلم يتبعه محمد شاه لمرضه فنزل ملكشاه عند قرمسين فلحق به قويدان وكان قد فارق المقتفي لأمر الله واتفق مع سنقر الهمذاني فلحق كلاهما به وحسنا له قصد بغداد فسار عن بلد خزستان إلى واسط ونزل بالجانب الشرقي وهم على غاية الضر من الجوع ومن البرد فنهبوا القرى نهبًا فاحشًا ففتح بثق بتلك الناحية فغرق منهم كثير ونجا ملكشاه ومن سلم معه وساروا إلى خوزستان فمنعه شملة من العبور فراسله ليمكنه من العبورإلى أخيه الملك محمد شاه فلم يجبه إلى ذلك وكاتب حينئذ الأكراد الكر الذين هناك واستدعاهم إليه ففرحوا به ونزل إليه من تلك الجبال خلق كثير فأطاعوه فرحل ونزل على كرخايا وطلب من شملة الحرب فألان له شملة القول وقال: أنا أخطب لك وأكون معك فلم يقبل منه فاضطر شملة إلى الحرب فجمع عسكره وقصده فلقيه ملكشاه ومعه سنقر الهمذاني وقويدان وغيرهما من الأمراء فاقتتلوا فانهزم شملة وقتل كثير من أصحابه وصعد إلى قلعة دندرزين وملك ملك شاه البلاد وجبى الأموال الكثيرة وأظهر العدل وتوجه إلى أرض فارس.
ذكر الحرب بين التركمان والإسماعيلية بخراسان
كان بنواحي قهستان طائفة من التركمان فنزل إليهم جمع من الإسماعيلية من قلاعهم وهم ألف وسبعمائة فأوقعوا بالتركمان فلم يجدوا الرجال وكانوا قد فارقوا بيوتهم فنهبوا الأموال وأخذوا النساء والأطفال وأحرقوا ما لم يقدروا على حمله.
وعاد التركمان ورأوا ما فعل بهم فتبعوا أثر الإسماعيلية فأدركوهم وهم يقتسمون الغنيمة فكبروا وحملوا عليهم ووضعوا فيهم السيف فقتلوهم كيف شاؤوا فانهزم الإسماعيلية وتبعهم التركمان حتى أفنوهم قتلًا وأسرًا ولم ينج إلا تسعة رجال.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة كثر فساد التركمان أصحاب برجم الإيوائي بالجبل فسير إليهم من بغداد عسكر مقدمهم منكبرس المسترشدي فلما قاربهم اجتمع التركمان فالتقوا واقتتلوا هم ومنكبرس وفيها حج الناس فلما وصلوا إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم الخبر أن العرب قد اجتمعت لتأخذهم فتركوا الطريق وسلكوا طريق خيبر فوجدوا مشقة شديدة ونجوا من العرب.وفيها توفي الشيخ نصر بن منصور بن الحسين العطار أبو القاسم الحراني ومولده بحران سنة أربع وثمانين وأربعمائة وأقام ببغداد وكثر ماله وصدقاته أيضًا وكان يقرأ القرآن وهو والد ظهير الدين الذي حكم في دولة المستضيء بالله على ما نذكره إنشاء الله.
وفيها توفي أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي ببغداد وهو سجزي الأصل هروي المنشأ وكان قدم إلى بغداد سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة يريد الحج فسمع الناس به عليه صحيح البخاري وكان عالي الأسناد فتأخر لذلك عن الحج فلما كان هذه السنة عزم على الحج فمات.
وفيها توفي يحيى بن سلامة بن الحسن بن محمد أبو الفضل الحصكفي الأديب بميافارقين وله شعر حسن ورسائل جيدة مشهورة وكان يتشيع ومولده بطنزة فمن شعره.
وخليع بت اعذله ويرى عذلي من العبث قلت: إن الخمر مخبثة قال: حاشاها من الخبث قلت: منها القيء قال: أجل شرفت عن مخرج الحدث وسأسلوها فقلت: متى قال: عند الكون في الجدث
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة
ذكر ملك عبد المؤمن مدينة المهدية من الفرنج وملكه جميع إفريقية
قد ذكرنا سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ملك الفرنج مدينة المهدية من صاحبها الحسن بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي وقد ذكرنا أيضًا سنة إحدى وخمسين ما فعله الفرنج بالمسلمين في زويلة المدينة المجاورة للمهدية من القتل والنهب فلما قتلهم الفرنج ونهبوا أموالهم هرب منهم جماعة وقصدوا عبد المؤمن صاحب المغرب وهو بمراكش يستجيرونه فلما وصلوا إليه ودخلوا عليه أكرمهم وأبروه بما جرى على المسلمين وأنه ليس من ملوك الإسلام من يقصد سواه ولا يكشف هذا الكرب غيره فدمعت عيناه وأطرق ثم رفع رأسه وقال: أبشروا لأنصرنكم ولو بعد حين.
وأمر بإنزالهم وأطلق لهم ألفي دينار ثم أمر بعمل الروايا والقرب والحياض وما يحتاج إليه العسكر في السفر وكتب إلى جميع نوابه في المغرب وكان قد ملك إلى قريب تونس يأمرهم بحفظ ما يتحصل من الغلات وأن يترك في سنبله ويخزن في مواضعه وأن يحفروا الأبار في الطرق ففعلوا جميع ما أمرهم به وجمعوا الغلات ثلاث سنين ونقلوها إلى المنازل وطينوا عليها فصارت كأنها تلال.
فلما كان في صفر من هذه السنة سار عن مراكش وكان أكثر أسفاره في صفر فسار يطلب إفريقية واجتمع من العساكر مائة ألف مقاتل ومن الأتباع والسوقة أمثالهم وبلغ من حفظه لعساكره أنهم كانوا يمشون بين الزروع فلا تتأذى منهم سنبلة وإذا نزلوا صلوا جميعهم مع إمام واحدد بتكبيرة واحدة لا يتخلف منهم أحد كائن من كان.
وقدم بين يديه الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي الذي كان صاحب المهدية وإفريقية وقد ذكرنا سبب مصيره عند عبد المؤمن فلم يزل يسير إلى أن وصل إلى مدينة تونس في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة من السنة وبها صاحبها أحمد بن خراسان وأقبل أسطوله في البحر في سبعين شينيًا وطريدة وشلندى فلما نازلها أرسل إلى أهلها يدعوهم إلى طاعته فامتنعوا فقاتلهم من الغد أشد قتال فلم يبق إلا أخذها ودخول الأسطول إليها فجاءت ريح عاصف منعت الموحدين من دخول البلد فرجعوا ليباكروا القتال ويملكوه.
فلما جن الليل نزل سبعة عشر رجلًا من أعيان أهلها إلى عبد المؤمن يسألونه الأمان لأهل بلدهم فأجابهم إلى الأمان لهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم لمبادرتهم إلى الطاعة وأما ما عداهم من أهل البلد فيؤمنهم في أنفسهم وأهاليهم ويقاسمهم على أموالهم وأملاكهم نصفين وأن يخرج صاحب البلد هو وأهله فاستقر ذلك وتسلم البلد وأرسل إليه من يمنع العسكر من الدخول وأرسل أمناءه ليقاسموا الناس على أموالهم وأقام عليها ثلاثة أيام وعرض الإسلام على من بها من اليهود والنصارى فمن أسلم سلم ومن امتنع قتل وأقام أهل تونس بها بأجرة تؤخذ عن نصف مساكنهم.
وسار عبد المؤمن منها إلى المهدية والأسطول يحاذيه في البحر فوصل إليها ثامن عشر رجب وكان حينئذ بالمهدية أولاد ملوك الفرنج وأبطال الفرسان وقد أخلوا زويلة وبينها وبين المهدية غلوة سهم فدخل عبد المؤمن زويلة وامتلأت بالعساكر والسوقة فصارت مدينة معمورة في ساعة ومن لم يكن له موضع من العسكر نزل بظاهرها وانضاف إليه من صنهاجة والعرب وأهل البلاد ما يخرج عن الإحصاء وأقبلوا يقاتلون المهدية مع الأيام فلا يؤثر فيها لحصانتها وقوة سورها وضيق موقع القتال عليها لأن البحر دائر بأكثرها فكأنها كف في البحر وزندها متصل بالبر.
وكانت الفرنج تخرج شجعانهم إلى أطراف العسكر فتنال منه وتعود سريعًا فأمر عبد المؤمن أن يبنى سور من غرب المدينة يمنعهم من الخروج وأحاط الأسطول بها في البحر وركب عبد المؤمن في شيني ومعه الحسن ابن علي الذي كان صاحبها وطاف بها في البحر فهاله ما رأى من حصانتها وعلم أنها لا تفتح بقتال برًا ولا بحرًا وليس لها إلا المطاولة وقال للحسن: كيف نزلت عن مثل هذا الحصن فقال: لقلة ما يوثق به وعدم القوت وحكم القدر.
فقال: صدقت! وعاد من البحر وأمر بجمع الغلات والأقوات وترك القتال فلم يمض غير قليل حتى صار في العسكر كالجبلين من الحنطة والشعير فكان من يصل إلى العسكر من بعيد يقولون: متى حدثت هذه الجبال هاهنا فيقال لهم: هي حنطة وشعير فيعجبون من ذلك.
وتمادى الحصار وفي مدته أطاع سفاقس عبد المؤمن وكذلك مدينة طرابلس وجبال نفوسة وقصور إفريقية وما والاها وفتح مدينة قابس بالسيف وسير ابنه أبا محمد عبد الله في جيش ففتح بلادًا ثم أن أهل مدينة قفصة لما رأوا تمكن عبد المؤمن أجمعوا على المبادرة إلى طاعته وتسليم المدينة إليه فتوجه صاحبها يحيى بن تميم بن المعز ومعه جماعة من أعيانها وقصدوا عبد المؤمن فلما أعلمه حاجبه بهم قال له عبد المؤمن: قد اشتبه عليك ليس هؤلاء أهل قفصة فقال له: لم يشتبه علي قال له عبد المؤمن: كيف يكون ذلك والمهدي يقول إن أصحابنا يقطعون أشجارها ويهدمون أسوارها ومع هذا فنقبل منهم ونكف عنهم ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
فأرسل إليهم طائفة من أصحابه ومدحه شاعر بقصيدة أولها: ما هز عطفيه بين البيض والأسل مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي فوصله بألف دينار ولما كان في الثاني والعشرين من شعبان من السنة جاء اسطول صاحب صقلية في مائة وخمسين شينيًا غير الطرائد وكان قدومه من جزيرة يابسة من بلاد الأندلس وقد سبى أهلها وأسرهم وحملهم معه فأرسل إليهم ملك الفرنج يأمرهم بالمجيء إلى المهدية فقدموا في التاريخ فلما قاربوا المهدية حطوا شراعهم ليدخلوا الميناء فخرج إليهم أسطول عبد المؤمن وركب العسكر جميعه ووقفوا على جانب البحر فاستعظم الفرنج ما رأوه من كثرة العساكر ودخل الرعب قلوبهم وبقي عبد المؤمن يمرغ وجهه على الأرض ويبكي ويدعوا للمسلمين بالنصر واقتتلوا في البحر فانهزمت شواني الفرنج وأعادوا القلوع وتبعهم المسلمون فأخذوا منهم سبع شوان ولو كان معهم قلوع لأخذوا أكثرها وكان أمرًا عجيبًا وفتحًا قريبًا.
وعاد أسطول المسلمين مظفرًا منصورًا وفرق فيهم عبد المؤمن الأموال ويئس أهل المهدية حينئذ من النجدة وصبروا على الحصار ستة أشهر إلى آخر شهر ذي الحجة من السنة فنزل حينئذ من فرسان الفرنج إلى عبد المؤمن عشرة وسألوا الأمان لمن فيها من الفرنج على أنفسهم وأموالهم ليخرجوا منها ويعودوا إلى بلادهم وكان قوتهم قد فني حتى أكلوا الخيل فعرض عليهم الإسلام ودعاهم إليه فلم يجيبوا ولم يزالوا يترددون إليه أيامًا واستعطفوه بالكلام اللين فأجابهم إلى ذلك وأمنهم وأعطاهم سفنًا فركبوا فيها وساروا وكان الزمان شتاء فغرق أكثرهم ولم يصل منهم إلى صقلية غلا النفر اليسير.
وكان صاحب صقلية قد قال: إن قتل عبد المؤمن أصحابنا في المهدية قتلنا المسلمين الذين هم بجزيرة صقلية وأخذنا حرمهم وأموالهم فأهلك الله الفرنج غرقًا وكانت مدة ملكهم المهدية اثنتي عشرة سنة.
ودخل عبد المؤمن المهدية بكرة عاشوراء من المحرم سنة خمس وخمسين وخمسمائة وسماها عبد المؤمن سنة الأخماس وأقام بالمهدية عشرين يومًا فرتب أحوالها وأصلح ما انثلم من سورها ونقل إليها الذخائر من القوات والرجال والعدد واستعمل عليها بعض أصحابه وجعل معه الحسن بن علي الذي كان صاحبها وأمره أن يقتدي برأيه في أفعاله وأقطع الحسن بها أقطاعًا وأعطاه دورًا نفيسة يسكنها وكذلك فعل بأولاده ورحل من المهدية أول صفر من السنة إلى بلاد الغرب.
لما فرغ عبد المؤمن من أمر المهدية وأراد العود إلى الغرب جمع أمراء العرب من بني رياح الذين كانوا بإفريقية وقال لهم: قد وجبت علينا نصرة الإسلام فإن المشركين قد استفحل أمرهم بالأندلس واستولوا على كثير من البلاد التي كانت بأيدي المسلمين وما يقاتلهم أحد مثلكم فبكم فتحت البلاد أول الإسلام وبكم يدفع عنها العدو الآن ونريد منكم عشرة ألاف فارس من أهل النجدة والشجاعة يجاهدون في سبيل الله.
فأجابوا بالسمع والطاعة فحلفهم على ذلك بالله تعالى وبالمصحف فحلفوا ومشوا معه إلى مضيق جبل زغوان.
وكان منهم إنسان يقال له يوسف بن مالكن وهو من أمرائهم ورؤوس القبائل فيها فجاء إلى عبد المؤمن بالليل وقال له سرًا: إن العرب قد كرهت المسير إلى الأندلس وقالوا ما غرضه إلا إخراجنا من بلادنا وإنهم لا يفون بما حلفوا عليه فقال: يأخذ الله عز وجل الغادر.
فلما كانت الليلة الثانية هربوا إلى عشائرهم ودخلوا البر ولم يبق منهم إلا يوسف بن مالك فسماه عبد المؤمن يوسف الصادق.
ولم يحدث عبد المؤمن في أمرهم شيء وسار مغريًا يحث السير حتى قرب القسنطينة فنزل في موضع خصب يقال له.
وادي النساء والفصل ربيع والكلأ مستحسن فأقام به وضبط الطرق فلا يسير من العسكر أحد البتة ودام ذلك عشرين يومًا فبقي الناس في جميع البلاد لا يعرفون لهذا العسكر خبرًا مع كثرته وعظمه ويقولون: ما أزعجه إلا خبر وصله من الأندلس فحث لأجله السير فعادت العرب الذين جفلوا منه من البرية إلى البلاد لما أمنوا جانبه وسكنوا البلاد التي ألفوها واستقروا في البلاد.
فلما علم عبد المؤمن برجوعهم جهز إليهم ولديه أبا محمد وأبا عبد الله في ثلاثين ألف مقاتل من أعيان الموحدين وشجعانهم فجدوا السير وقطعوا المفاوز فما شعر العرب إلا والجيش قد أقبل بغتة من ورائهم من جهة الصحراء ليمنعوهم الدخول إليها إن راموا ذلك.
وكانوا قد نزلوا جنوبًا من القيروان عند جبل يقال له جبل القرن وهم زهاء ثمانين ألف بيت والمشاهير من مقدميهم: أبو محفوظ محرز بن زياد ومسعود بن زمام وجبارة بن كامل وغيرهم فلما أطلت عليهم عساكر عبد المؤمن أضطربوا واختلفت كلمتهم ففر مسعود وجبارة بن كامل ومن معهما من عشائرهما وثبت محرز بن زياد وأمرهم بالثبات والقتال فلم يلتفتوا إليه فثبت هو ومن معه من جمهور العرب فناجزهم الموحدون القتال في العشر الأوسط من ربيع الآخر من السنة وثبت الجمعان واشتد العراك بينهما وكثر القتل فاتفق أن محرز بن زياد قتل ورفع رأسه على رمح فانهزمت جموع العرب عند ذلك وأسلموا البيوت والحريم والأولاد والأموال وحمل جميع ذلك إلى عبد المؤمن وهو بذلك المنزل فأمر بحفظ النساء العربيات الصرائح وحملهن معه تحت الحفظ والبر والصيانة إلى بلاد الغرب وفعل معهم مثل ما فعل في حريم الأبثج.
ثم أقبلت إليه وفود رياح مهاجرين في طلب حريمهم كما فعل الأبثج فأجمل الصنيع لهم ورد الحريم إليهم فلم يبق منهم أحد إلا وصار عنده وتحت حكمه وهو يخفض لهم الجناح ويبذل فيهم الإحسان ثم إنه جهزهم إلى ثغور الأندلس على الشرط الأول وجمعت عظام العرب المقتولين في هذه المعركة عند جبل القرن فبقيت دهرًا طويلًا كالتل العظيم يلوح للناظرين من مكان بعيد وبقيت إفريقية مع نواب عبد المؤمن آمنة ساكنة لم يبق فيها من أمراء العرب خارجًا عن طاعته إلا مسعود بن زمام وطائفته في أطراف البلاد.
ذكر غرق بغداد
في هذه السنة ثامن ربيع الآخر كثرت الزيادة في دجلة وخرق القورج فوق بغداد وأقبل الد إلى البلد فامتلأت الصحاري وخندق البلد وأفسد الماء السور وأحدث فيه فتحة يوم السبت تاسع عشر الشهر فوقع بعض السور عليها فسدها ثم فتح الماء فتحة أخرى وأهملوها ظنًا أنها تنفث عن السور لئلا يقع فغلب الماء وتعذر سده فغرق قراح ظفر والأجمة والمختارة والمقتدية ودرب القبار وخرابة ابن جردة والريان وقراح القاضي وبعض القطيعة وبعض باب الأزج وبعض المأمونية وقراح أبي الشحم وبعض قراح ابن رزين وبعض الظفرية.
ودب الماء تحت الأرض إلى أماكن فوقعت وأخذ الناس يعبرون إلى الجانب الغربي فبلغت المعبرة عدة دنانير ولم يكن يقدر عليها ثم نقص الماء وتهدم السور وبقي الماء الذي داخل السور يدب في المحال التي لم يركبها الماء فكثر الخراب وبقيت المحال لا تعرف إنما هي تلول فأخذ الناس حدود دورهم بالتخمين.
وأما الجانب الغربي فغرقت فيه مقبرة أحمد بن حنبل وغيرها من المقابر وانخسفت القبور المبنية وخرج الموتى على رأس الماء وكذلك المشهد والحربية وكان أمرًا عظيمًا.
ذكر عود سنقر الهمذاني إلى اللحف وانهزامه
في هذه السنة عاد سنقر الهمذاني إلى إقطاعه وهو قلعة الماهكي وبلد اللحف وكان الخليفة قد أقطعه للأمير قايماز العميدي ومعه أربعمائة فارس فأرسل إليه يقول له: ارحل عن بلدي فامتنع فسار إليه وجرى بينهم قتال شديد انهزم فيه العميدي ورجع إلى بغداد بأسوء حال.
فبرز الخليفة وسار في عساكره إلى سنقر فوصل إلى العمانية وسير العساكر مع ترشك ورجع
إلى بغداد ومضى ترشك نحو سنقر الهمذاني فتوغل سنقر في الجبال هاربًا ونهب ترشك ما وجد له ولعسكره من مال وسلاح وغير ذلك وأسر وزيره وقتل من رأى من أصحابه ونزل على الماهكي وحصرها أيامًا ثم عاد إلى البندنيجين وأرسل إلى بغداد بالبشارة.
وأما سنقر فإنه لحق بملكشاه فاستنجده فسير معه خمس مائة فارس فعاد ونزل على قلعة هناك وأفسد أصحابه في البلاد وأرسل ترشك إلى بغداد يطلب نجدة فجاءته فأراد سنقر أن يكبس ترشكن فعرف ذلك فاحترز فعدل سنقر إلى المخادعة فأرسل رسولًا إلى ترشك يطلب منه أن يصلح حاله مع الخليفة فاحتبس ترشك الرسول عنده وركب فيمن خف من أصحابه فكبس سنقر ليلًا فانهزم هو وأصحابه وكثر القتل فيهم وغنم ترشك أموالهم ودوابهم وكل ما لهم ونجا سنقر جريحا.
ذكر الفتنة بين عامة استراباذ
في هذه السنة وقع في استراباذ فتنة عظيمة بين العلويين ومن يتبعهم من الشيعة وبين الشافعية ومن معهم.
وكان سببها أن الإمام محمدًا الهروي وصل إلى استراباذ فعقد مجلس الوعظ وكان قاضيها أبو نصر سعد بن محمد بن إسماعيل النعيمي شافعي المذهب أيضًا فثار العلويين ومن يتبعهم من الشيعة بالشافعية ومن يتبعهم باستراباذ ووقعت بين الطائفتين فتنة عظيمة انتصر فيها العلويون فقتل من الشافعية جماعة وضرب القاضي ونهبت داره ودور من معه وجرى عليهم من الأمور الشنيعة ما لا حد عليه.
فسمع شاه مازندران الخبر فاستعظمه وأنكر على العلويين فعلهم وبالغ في الإنكار مع أنه شديد التشيع وقطع عنهم جرايات كانت لهم ووضع الجبايات والمصادرات على العامة فتفرق كثير منهم وعاد القاضي إلى منصبه وسكنت الفتنة.
ذكر وفاة الملك محمد بن محمود بن ملكشاه
في هذه السنة في ذي الحجة توفي السلطان محمد بن محمود بن محمد وهو الذي حاصر بغداد طالبًا السلطنة وعاد عنها فأصابه سل وطال بهن فمات بباب همذان وكان مولده في ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة.
فلما حضره الموت أمر العساكر فركبت وأحضر أمواله وجواهره وحظاياه ومماليكه فنظر إلى الجميع من طيارة تشرف على ما تحتها فلما رآه بكى وقال: هذه العساكر والأموال والمماليك والسراري ما أرى يدفعون عني مقدار ذرة ولا يزيدون في أجلي لحظة.
وأمر بالجميع فرفع بعد وكان حليمًا كريمًا عاقلًا كثير التأني في أموره وكان له ولد صغير فسلمه إلى آقسنقر الأحمديلي وقال له: أنا أعلم أن العساكر لا تطيع مثل هذا الطفل وهو وديعة عندك فارحل به إلى بلادك.
فرحل إلى مراغة فلما مات اختلفت الأمراء فطائفة طلبوا ملكشاه أخاه وطائفة طلبوا سليمان شاه وهم الأكثر وطائفة طلبوا أرسلان الذي مع إيلدكز فإما ملكشاه فإنه سار من خوزستان ومعه دكلا صاحب فارسن وشملة التركماني وغيرهما فوصل إلى أصفهان فسلمها إليه ابن الخجندي وجمع له مالًا أنفقه عليه وأرسل إلى العساكر بهمذان يدعوهم إلى طاعته فلم يجيبوه لعدم الاتفاق بينهم ولأن أكثرهم كان يريد سليمان شاه.
ذكر أخذ حران من نور الدين وعوده إليها
في هذه السنة مرض نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب مرضًا شديدًا وأرجف بموته وكان بقلعة حلب ومعه أخوه الأصغر أمير أميران فجمع الناس وحصر القلعة وكان شيركوه وهو أكبر أمرائه بحمص فبلغه خبر موته فسار إلى دمشق ليتغلب عليها وبها أخوه نجم الدين أيوب فأنكر عليه أيوب ذلك وقال: أهلكتنا! والمصلحة أن تعود إلى حلب فإن كان نور الدين حيًا خدمته في هذا الوقت وإن كان قد مات فإنا في دمشق نفعل ما نريد من ملكها فعاد إلى حلب مجدًا وصعد القلعة وأجلس نور الدين في مكان يراه فيه الناس وكلمهم فلما رأوه حيًا تفرقوا عن أخيه أمير أميران فسار إلى حران فملكها.
فلما عوفي نور الدين قصد حران ليخلصها فهرب أخوه منه وترك أولاده بحران في القلعة فملكها نور الدين وسلمها إلى زين الدين علي نائب أخيه قطب الدين صاحب الموصل ثم سار نور الدين بعد أخذ حران إلى الرقة وبها أولاد أميرك الجاندار وهو من أعيان الأمراء وقد توفي وبقي أولاده فنازلها فشفع جماعة من الأمراء فيهم فغضب من ذلك وقال: هلا شفعتم في أولاد أخي لما أخذت منهم حران وكانت الشفاعة فيهم من أحب الأشياء إلي! فلم يشفعهم وأخذها منهم.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة مرض الخليفة المقتفي لأمر الله واشتد مرضه وعوفي فضربت البشائر ببغداد وفرقت الصدقات من الخليفة ومن أرباب الدولة وغلق البلد أسبوعًا.
وفيها عاد ترشك إلى بغداد ولم يشعر به أحد إلا وقد ألقى نفسه تحت التاج ومعه سيف وكفن وكان قد عصى الخليفة والتحق بالعجم فعاد الآن فرضي عنه وأذن له في دخول دار الخلافة وأعطي مالًا.
وفيها في جمادى الأولى أرسل محمد بن أنز صاحب قهستان عسكرًا إلى بلد الإسماعيلية ليأخذ نهم الخراج الذي عليهم فنزل عليهم الإسماعيلية من الجبال فقتلوا كثيرًا من العسكر وأسروا الأمير الذي كان مقدمًا عليهم اسمه قتيبة وهو صهر ابن أنز فبقي أسيرًا عندهم عدة شهور حتى زوج ابنته من رئيس الإسماعيلية علي بن الحسن وخلص من الأسر.
وفيها توفي شرف الدين علي بن أبي القاسم منصور بن أبي سعيد الصاعدي قاضي نيسابور في شهر رمضان وكان موته بالري ودفن في مقبرة محمد ابن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة رضي الله عنهما وكان القاضي حنفيًا أيضًا.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائة
ذكر مسير سليمان شاه إلى همذان
في هذه السنة سار سليمان شاه من الموصل إلى همذان ليتولى السلطنة وقد تقدم سبب قبضه وأخذه إلى الموصل.
وسبب مسيره إليها أن الملك محمدا ًابن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه لما مات أرسل أكابر الأمراء من همذان إلى أتابك قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل يطلبون منه إرسال الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملك شاه إليهم ليولوه السلطنة فاستقرت القاعدة بينهم أن يكون سليمان شاه سلطانًا وقطب الدين أتابكه وجمال الدين وزير قطب الدين وزيرًا للملك سليمان شاه وزين الدين علي أمير العساكر الموصلية مقدم جيش سليمان شاه وتحالفوا على هذا وجهز سليمان شاه بالأموال الكثيرة والبرك والدواب والآلات وغير ذلك مما يصلح للسلاطين وسار ومعه زين الدين علي في عسكر الموصل إلى همذان.
فلما قاربوا بلاد الجبل أقبلت العساكر إليهم إرسالًا كل يوم يلقاه طائفة وأمير فاجتمع مع سليمان شاه عسكر عظيم فخافهم زين الدين على نفسه لأنه رأى من تسلطهم على السلطان واطراحهم للأدب معه ما أوجب الخوف منه فعاد إلى الموصل فحين عاد عنه لم ينتظم أمره ولم يتم له ما أراده وقبض العسكر عليه بهمذان في شوال سنة ست وخمسين وخطبوا لأرسلان شاه ابن الملك طغرل وهو الذي تزوج إيلدكز بأمه وسيذكر مشروحًا إن شاء الله تعالى.
في هذه السنة في صفر توفي الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى بن إسماعيل الظافر صاحب مصر وكانت خلافته ست سنين ونحو شهرين وكان له لما ولي خمس سنين كما ذكرناه.
ولما مات دخل الصالح بن رزيك القصر واستدعى خادمًا كبيرًا وقال له: من هاهنا يصلح للخلافة فقال: هاهنا جماعة وذكر أسمائهم وذكر له منهم إنسان كبير السن فأمر بإحضاره فقال له بعض أصحابه سرًا: لا يكون عباس أحزم منك حيث اختار الصغير وترك الكبار واستبد بالأمر فأعاد الصالح الرجل إلى موضعه وأمر حينئذ بإحضار العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ ولم يكن أبوه خليفة وكان العاضد في ذلك الوقت مراهقًا قارب البلوغ فبايع له بالخلافة وزوجه الصالح ابنته ونقل معها من الجهاز ما لا يسمع بمثله وعاشت بعد موت العاضد وخروج الأمر من العلويين إلى الأتراك وتزوجت
ذكر موت الخليفة المقتفي لأمر الله وشيء من سيرته
في هذه السنة ثاني ربيع الأول توفي أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله أبو عبد الله محمد بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله رضي الله عنه بعلة التراقي وكان مولده ثاني عشر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين وأربعمائة وأمه أم ولد تدعى ياعي وكانت خلافته أربعًا وعشرين سنة وثلاثة أشهر وستة عشر يومًا ووافق أباه المستظهر بالله في علة التراقي وماتا جميعًا في ربيع الأول.
وكان حليمًا كريمًا عادلًا حسن السيرة من الرجال ذوي الرأي والعقل الكثير.
وهو أول من استبد بالعراق منفردًا عن سلطان يكون معه من أول أيام الدليم إلى الآن وأول خليفة تمكن من الخلافة وحكم على عسكره وأصحابه من حين تحكم المماليك على الخلفاء من عهد المستنصر إلى الآن إلا أن يكون المعتضد وكان شجاعًا مقدامًا مباشرًا للحروب بنفسه وكان يبذل الأموال العظيمة لأصحاب الأخبار في جميع البلاد حتى كان لا يفوته شيءمنها.