المجلد التاسع - ذكر خلافة المستنجد بالله

و في هذه السنة بويع المستنجد بالله أمير المؤمنين واسمه يوسف وأمه أم ولد تدعى طاووس بعد موت والده وكان للمقتفي حظية وهي أم ولده أبي علي فلما اشتد مرض المقتفي وأيست منه أرسلت إلى جماعة من الأمراء وبذلت لهم الإقطاعات الكثيرة والأموال الجزيلة ليساعدوها على أن يكون ولدها الأمير أبو علي خليفة‏.‏

قالوا‏:‏ كيف الحيلة مع ولي العهد

فقالت‏:‏ إذا دخل على والده قبضت عليه‏.‏

وكان يدخل على أبيه كل يوم‏.‏

فقالوا‏:‏ لا بد لنا من أحد من أرباب الدولة فوقع اختيارهم على ابي المعالي ابن الكيا الهراسي فدعوه إلى ذلك فأجابهم على أن يكون وزيرًا فبذلوا له ما طلب‏.‏

فلما استقرت القاعدة بينهم وعلمت أم أبي علي أحضرت عدة من الجواري وأعطتهن السكاكين وأمرتهن بقتل ولي العهد المستنجد بالله‏.‏

وكان له خصي صغير يرسله كل وقت يتعرف أخبار والده فرأى الجواري بأيديهن السكاكين ورأى بيد أبي علي وأمه سيفين فعاد إلى المستنجد فأخبره وأرسلت هي إلى المستنجد تقول له إن والده قد حضره الموت ليحضر ويشاهده فاستدعى أستاذ الدار عضد الدين وأخذه معه وجماعة من الفراشين ودخل الدار وقد لبس الدرع وأخذ بيده السيف فلما دخل ثارت به الجواري فضرب واحدة منهن فجرحها وكذلك أخرى فصاح ودخل أستاذ الدار ومعه الفراشون فهرب الجواري وأخذ أخاه أبا علي وأمه فسجنهما وأخذ الجواري فقتل منهن وغرق منهن ودفع الله عنه‏.‏

فلما توفي المقتفي لأمر الله جلس للبيعة فبايعه أهله وأقاربه وأولهم عمه أبو طالب ثم أخوه أبو جعفر بن المقتفي وكان أكبر من المستنجد ثم بايعه الوزير بن هبيرة وقاضي القضاة وأرباب الدولة والعلماء وخطب له يوم الجمعة ونثرت الدراهم والدنانير‏.‏

حكى عنه الوزير عون الدين بن هبيرة أنه قال‏:‏ رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المنام منذ خمس عشرة سنة وقال لي‏:‏ يبقى أبوك في الخلافة خمس عشرة سنة فكان كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

قال‏:‏ ثم رأيته قبل موت أبي المقتفي بأربعة أشهر فدخل بي في باب كبير ثم ارتقى إلى رأس جبل وصلى بي ركعتين ثم ألبسني قميصًا ثم قال لي‏:‏ قل اللهم اهدني فيمن هديت وذكر دعاء القنوت‏.‏

ولما ولي الخلافة أقر ابن هبيرة على وزارته وأصحاب الولايات على ولاياتهم وأزال المكوس والضرائب وقبض على القاضي ابن الرخم وقال‏:‏ وكان بئس الحاكم وأخذ منه مالًا كثيرًا وأخذت كتبه فأحرق منها في الرحبة ما كان من علوم الفلاسفة فكان منها كتاب الشفاء لابن سينا وكتاب أخوان الصفا وما شاكلهما وقدم عضد الدين بن رئيس الرؤساء وكان أستاذ الدار يمكنه وتقدم إلى الوزير أن يقوم له وعزل قاضي القضاة أبا الحسن علي بن أحمد الدامغاني ورتب مكانه أبا جعفر عبد الواحد الثقفي وخلع عليه‏.‏

ذكر الحرب بين عسكر خوارزم والأتراك البرزية

في هذه السنة في ربيع الأول سار طائفة من عسكر خوارزم إلى أجحه وهجموا على يغمر خان بن أودك ومن معه من الأتراك البرزية فأوقعوا بهم وأكثروا القتل فانهزم يغمرخان وقصد السلطان محمد بن محمد الخان والأتراك الغزية الذين معه وتوسل إليهم بالقرابة وظن يغمرخان أن أختيار الدين إيثاق هو الذي هيج الخوارزمية عليه فطلب من الغز إنجاده‏.‏

ذكر أحوال المؤيد بخراسان هذه السنة

قد ذكرنا سنة ثلاث وخمسين عود المؤيد أي أبه إلى نيسابور وتمكنه منها وأن ذلك كان سنة أربع وخمسين فلما دخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائة ورأى المؤيد تحكمه في نيسابور وتمكنه في دولته وكثرة جنده وعسكره أحسن السيرة في الرعية ولا سيما أهل نيسابور فإنه جبرهم وبالغ في الإحسان إليهم وشرع في إصلاح أعمالها وولاياتها فسير طائفة من عسكره إى ناحية اسقيل وكان بها جمع قد تمردوا أكثروا العيث والفساد في البلاد وطال تماديهم في طغيانهم فأرسل إليهم المؤيد يدعوهم إلى ترك الشر والفساد ومعاودة الطاعة والصلاح فلم يقبلوا ولم يرجعوا عما هم عليه فسير إليهم سرية كثيرة فقاتلهم وأذاقهم عاقبة ما صنعوا فأكثروا القتل فيهم وخربوا حصنهم‏.‏

وسار المؤيد من نيسابور إلى بيهق فوصلها رابع عشر ربيع الأخر من السنة وقصد منها حصن خسروجرد وهو حصن منيع بناه كيخسرو الملك قبل فراغه من قتل افراسياب وفيه رجال شجعان فامتنعوا على المؤيد فحصرهم ونصب عليهم الجانيق وجد في القتال فصبر أهل الحصن حتى نفذ صبرهم ثم ملك المؤيد القلعة وأخرج كل من فيها ورتب فيها من يحفظها وعاد منها إلى نيسابور في الخامس والعشرين من جمادى الأولى من السنة‏.‏

ثم سار إلى هراة فلم يبلغ منها غرضًا فعاد إلى نيسابور وقصد مدينة كندر وهي من أعمال طريثيث وقد تغلب عليها رجل اسمه أحمد كان خربندة واجتمع معه جماعة من الرنود وقطاع الطريق والمفسدين فخربوا الكثير من البلاد وقتلوا كثيرًا من الخلق وغنموا من الأموال ما لا يحصى‏.‏

وعظمت المصيبة بهم على خراسان وزاد البلاء فقصدهم المؤيد فتحصنوا بالحصن الذي لهم فقوتلوا أشد قتال ونصب عليهم العرادات والمنجنيقات فأذعن هذا الخربندة أحمد إلى طاعة المؤيد والانخراط في سلك أصحابه وأشياعه فقبله أحسن قبول وأحسن إليه وأنعم عليه‏.‏

ثم إنه عصى المؤيد وتحصن بحصنه فأخذه منه المؤيد قهرًا وعنوة وقيده واحتاط عليه ثم قتله وأراح المسلمين منه ومن شره وفساده وقصد المؤيد في شهر رمضان ناحية بيهق عازمًا على قتالهم لخروجهم عن طاعته فلما قاربها أتاه زاهد من أهلها ودعاه إلى العفو عنهم والحلم عن ذنوبهم ووعظه وذكره فأجابه إلى ذلك ورحل عنهم فأرسل السلطان ركن الدين محمود بن محمد الخان إلى المؤيد بتقرير نيسابور وطوس وأعمالها عليه ورد الحكم فيها إليه فعاد إلى نيسابور رابع ذي القعدة من السنة ففرح الناس بما تقرر بينه وبين الملك محمود وبين الغز من إبقاء نيسابور عليه ليزول الخلف والفتن عن الناس‏.‏

ذكر الحرب بين شاه مازندران ويغمرخان

لما قصد يغمرخان الغز وتوسل إليهم لينصروه على إيثاق لظنه انه هو الذي حسن للخوارزمية قصده أجابوه إلى ذلك وساروا معه على طريق نسا وأبيورد ووصلوا إلى الأمير إيثاق فلم يجد لنفسه بهم قوة فاستنجد شاه مازندران فجاءه ومعه من الأكراد والديلم والأتراك والتركمان الذين يسكنون نواحي ابسكون جمع كثير فاقتتلوا ودامت الحرب بينهم وانهزم الأتراك الغزية والبرزية من شاه مازندران خمس مرات ويعودون‏.‏

وكان على ميمنة الأمير مازندران الأمير إيثاق فحملت الأتراك الغزية عليه لما أيسوا من الظفر بقلب شاه مازندران فانهزم إيثاق وتبعه باقي العسكر ووصل شاه مازندران إلى سارية وقتل من عسكره أكثرهم‏.‏

وأما إيثاق فإنه قصد في هربه خوارزم وأقام بها وسار الغز من المعركة إلى دهستان وكان الحرب قريبًا منها فنقبوا سورها وأوقعوا بأهلها ونهبوهم أوائل سنة ست وخمسين وخمسمائة بعد أن خربوا جرجان وفرقوا أهلها وعادوا إلى خراسان‏.‏

ذكر وفاة خسرشاه صاحب غزنة وملك ابنه بعده

في هذه السنة في رجب توفي السلطان خسروشاه بن بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن مسعود بن محمود سبكتكين صاحب غزنة وكان عادلًا حسن السيرة في رعيته محبًا للخير وأهله مقربًا للعلماء محسنًا إليهم راجعًا إلى قولهم وكان ملكه تسع سنين‏.‏

وملك بعده ابنه ملكشاه فلما ملك نزل علاء الدين الحسين ملك الغور إلى غزنة فحصرها وكان الشتاء شديدًا والثلج كثيرًا قلم يمكنه المقام عليها فعاد إلى بلاده في صفر سنة ست وخمسين‏.‏

ذكر الحرب بين إيثاق وبغراتكين

في هذه السنة منتصف شعبان كان بين الأمير إيثاق والأمير بغراتكين برغش الجركاني حرب وكان إيثاق قد سار إلى بغراتكين في آخر أعمال جوين فنهبه واخذ أمواله وكل ما له وكان ذا نعمة عظيمة وأموال جسيمة فانهزم بغراتكين عنها وخلاها فافتتحها إيثاق واستغنى بها وقويت نفسه بسببها وكثرت جموعه وقصده الناس‏.‏

وأما بغراتكين فإنه راسل المؤيد صاحب نيسابور وصار في جملته ومعدودًا من أصحابه فتلقاه المؤيد بالقبول‏.‏

ذكر وفاة ملكشاه بن محمود

في هذه السنة توفي ملكشاه ابن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بأصفهان مسمومًا وكان سبب ذلك انه لما كثر جمعه بأصفهان أرسل إلى بغداد وطلب أن يقطعوا خطبة عمه سليمان شاه ويخطبوا له ويعيدوا القواعد بالعراق إلى ما كانت عليه أولًا وإلا قصدهم فوضع الوزير عون الدين بن هبيرة خصيًا كان خصيصًا به يقال له أغلبك الكوهراييني فمضى إلى بلاد العجم واشترى جارية من قاضي همذان بألف دينار وباعها من ملكشاه وكان قد وضعها على سمه ووعدها أمورًا عظيمة ففعلت ذلك وسمته في لحم مشوي فأصبح ميتًا وجاء الطبيب إلى دكلا وشملة فعرفهما انه مسموم فعرفوا أن ذلك من فعل الجارية فأخذت وضربت وأقرت وهرب أغلبك ووصل إلى بغداد ووفى له الوزير بجميع ما استقر الحال عليه‏.‏

ولما مات أخرج أهل أصفهان أصحابه من عندهم وخطبوا لسليمان شاه واستقر ملكه بتلك

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة حج أسد الدين شيركوه بن شاذي مقدم جيوش نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام وشيركوه هذا هو الذي ملك الديار المصرية وسير ذكره إن شاء اله تعالى‏.‏

وفيها أرسل زين الدين علي نائب قطب الدين صاحب الموصل رسولًا إلى المستنجد يعتذر مما جناه من مساعدة محمد شاه في حصار بغداد ويطلب أن يؤذن له في الحج فأرسل إليه يوسف الدمشقي مدرس النظامية وسليمان بن قتلمش يطيبان قلبه عن الخليفة ويعرفانه الإذن في الحج فحج ودخل إلى الخليفة فأكرمه وخلع عليه‏.‏

وفيها توفي قايماز الأرجواني أمير الحاج سقط عن الفرس وهو يلعب بالأكرة فسال مخه من منخريه وأذنيه فمات‏.‏

وفيها في ربيع الأول توفي محمد بن يحيى بن علي بن مسلم أبو عبد الله الزبيدي من أهل زبيد وهي مدينة مشهورة باليمن وقدم بغداد سنة تسع وخمسمائة وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وكان نحويًا واعظًا وصحبه الوزير ابن هبيرة مدة وكان موته ببغداد‏.‏

ثم دخلت سنة ست وخمسين وخمسمائة

في هذه السنة في ربيع الأول خرج الوزير ابن هبيرة من داره إلى الديوان والغلمان يطرقون له وأرادوا أن يردوا باب المدرسة الكمالية بدار الخليفة فمنعهم الفقهاء وضربوهم بالآجر فشهر أصحاب الوزير السيوف وأرادوا ضربهم فمنعهم الوزير ومضى إلى الديوان فكتب الفقهاء مطالعة يشكون أصحاب الوزير فأمر الخليفة بضرب الفقهاء وتأديبهم ونفيهم من الدار فمضى أستاذ الدار وعاقبهم هناك واختفى مدرسهم الشيخ أبو طالب ثم إن الوزير أعطى كل فقير دينارًا واستحل منهم وأعادهم إلى المدرسة وظهر مدرسهم‏.‏

ذكر قتل ترشك في هذه الأيام

قصد جمع من التركمان إلى البندنيجين فأمر الخليفة بتجهيز عسكر إليهم وأن يكون مقدمهم الأمير ترشك وكان في أقطاعه بلد اللحف فأرسل إلى الخليفة يستدعيه فامتنع من المجيء إلى بغداد وقال‏:‏ يحضر العسكر فأنا أقاتل بهم وكان عازمًا على الغدر فجهز العسكر وساروا إليه وفيهم جماعة من الأمراء فلما اجتمعوا بترشك قتلوه وأرسلوا رأسه إلى بغداد وكان قتل مملوكًا للخليفة فدعا أولياء القتيل وقيل لهم‏:‏ إن أمير المؤمنين قد اقتص لأبيكم ممن قتله‏.‏

في هذه السنة في ربيع الآخر قتل السلطان سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملكشاه وسبب ذلك أنه كان فيه تهور وخرق وبلغ به شرب الخمر حتى أنه شربها في رمضان نهارًا وكان يجمع المساخر ولا يلتفت إلى الأمراء فأهمل العسكر أمره وصاروا لا يحضرون بابه وكان قد رد جميع الأمور إلى شرف الدين كردبازو الخادم وهو من مشايخ الخدم السلجوقية يرجع إلى دين وعقل وحسن تدبير فكان الأمراء يشكون إليه وهو يسكنهم‏.‏

فاتفق أنه شرب يومًا بظاهر همذان في الكشك الأخضر فحضر عنده كردبازو فلامه على فعله فأمر سليمان شاه من عنده من المساخر فعبثوا بكردبازو حتى أن بعضهم كشف له عن سوءته فخرج مغضبًا فلما صحا سليمان أرسل له يعتذر فقبل عذره إلا أنه تجنب الحضور عنده فكتب سليمان إلى إينانج صاحب الري يطلب منه أن ينجده على كردبازو فوصل الرسول وإينانج مريض فأعاد الجواب يقول‏:‏ إذا أفقت من مرضي حضرت إليك بعسكري فبلغ الخبر كردبازو فازداد استيحاشًا فأرسل إليه سليمان يومًا يطلبه فقال‏:‏ إذا جاء إينانج حضرت وأحضر الأمراء واستحلفهم على طاعته وكانوا كارهين لسليمان فحلفوا له فأول ما عمل أن قتل المساخرة الذين لسليمان وقال‏:‏ إنما أفعل ذلك صيانة لملكك ثم اصطلحا وعمل كردبازو دعوة عظيمة حضرها السلطان والأمراء فلما صار السلطان سليمان شاه في داره قبض عليه كردبازو وعلى وزيره ابن القاسم محمود بن عبد العزيز الحامدي وعلى أصحابه في شوال سنة خمس وخمسين وخمسمائة فقتل وزيره وخواصه وحبس سليمان شاه في قلعة ثم أرسل إليه من خنقه وقيل بل حبسه في دار مجد الدين العلوي رئيس همذان وفيها قتل وقيل بل سقي سمًا فمات والله اعلم‏.‏

وأرسل إلى إيلدكز صاحب آران وأكثر بلاد أذربيجان يستدعيه إليه ليخطب للملك أرسلان شاه الذي معه وبلغ الخبر إلى إينانج صاحب بلاد الري فسار ينهب البلاد إلى أن وصل إلى همذان فتحصن كردبازو فطلب منه إينانج أن يعطيه مصافًا فقال‏:‏ أنا لا أحاربك حتى يصل الأتابك الأعظم إيلدكز‏.‏

وسار إيلدكو في عساكره جميعًا يزيد على عشرين ألف فارس ومعه أرسلان شاه بن طغرل بن محمد بن ملكشاه فوصل إلى همذان فلقيهم كردبازو وأنزله دار المملكة وخطب لأرسلان شاه بالسلطنة بتلك البلاد وكان إيلدكز قد تزوج بأم أرسلان شاه وهي أم البهلوان بن إيلدكز وكان إيلدكز أتابكه والبهلوان حاجبه وهو أخوه لأمه وكان إيلدكز هذا أحد مماليك السلطان مسعود واشتراه في أول أمره فلما ملك أقطعه أران وبعض أذربيجان واتفق الحروب والاختلاف فلم يحضر عنده أحد من السلاطين السلجوقية وعظم شأنه وقوي أمره وتزوج بأم الملك أرسلان شاه فولدت له أولادًا منهم البهلوان محمد وقزل أرسلان وقد ذكرنا سبب انتقال أرسلان شاه إليهن وبقي عنده إلى الآن فلما خطب له بهمذان أرسل إيلدكز إلى بغداد يطلب الخطبة لأرسلان شاه أيضًا وأن تعاد القواعد إلى ما كانت عليه أيام السلطان مسعود فأهين رسوله وأعيد إليه على أقبح حالة وأما إيناننج صاحب الري فإن إيلدكز راسله ولاطفه فاصطلحا وتحالفا على الاتفاق وتزوج البهلوان بن إيلدكز بابنة إينانج ونقلت إليه بهمذان‏.‏

ذكر الحرب بين ابن آقسنقر وعسكر إيلدكز

لما استقر الصلح بين إيلدكز وإينانج أرسل إلى ابن آقسنقر الأحمديلي صاحب مراغة يدعوه إلى الحضور في خدمة السلطان أرسلان شاه فامتنع من ذلك وقال‏:‏ إن كففتم عني وإلا فعندي سلطان وكان عنده ولد محمد شاه بن محمود كما ذكرناه وكان الوزير ابن هبيرة قد كاتبه يطمعه بالخطبة لولد محمد شاه فجهز إيلدكز عسكرًا مع ولده البهلوان فبلغ الخبر إلى ابن آقسنقر فأرسل إلى شاه أرمن صاحب خلاط وحالفه وصارا يدًا واحدة فسير إليه شاه أرمن عسكرًا كثيرًا واعتذر عن تأخره بنفسه لأنه في ثغر لا يمكنه مفارقته فقوي بهم ابن آقسنقر وكثر جمعه وسار نحو البهلوان فالتقيا على نهر اسبيرود فاشتد القتال بينهم فانهزم البهلوان

أقبح هزيمةن ووصل هو وعسكره إلى همذان على أقبح صورة واستأمن أكثر أصحابه إلى أقسنقر وعاد إلى بلده منصورًا‏.‏

ذكر الحرب بين إيلدكز وإينانج

لما مات ملكشاه ابن السلطان محمود كما ذكرناه أخذ طائفة من أصحابه ابنه محمودًا وانصرفوا به نحو بلاد فارس فخرج عليهم صاحبها زنكي بن دكلا السلغري فأخذه منهم وتركه في قلعة إصطخر فلما ملك إيلدكز والسلطان أرسلان شاه الذي معه البلاد وأرسل إيلكز إلى بغداد يطلب الخطبة للسلطان كما ذكرناهن شرع الوزير عون الدين أبو المظفر يحيى بن هبيرة وزير الخليفة في إثارة أصحاب الأطراف عليه وراسل الأحمديلي وكان ما ذكرناه وكاتب زنكي بن دكلا صاحب بلاد فارس يبذل له أن يخطب للملك الذي عندهن وهو ابن ملكشاه وعلق الخطبة له بظفره بإيلدكزن فخطب ابن دكلا للملك الذي عنده وأنزله من القلعة وضرب الطبل على بابه خمس نوب وجمع عساكره وكاتب إينانج صاحب الري يطلب منه الموافقة‏.‏

وسمع الخبر إيلدكز فحشد وجمع وكثر عسكره وجموعه فكانت أربعين ألفًا وسار إلى أصفهان يريد بلاد فارس وأرسل إلى زنكي بن دكلا يطلب منه الموافقة على أن يعود يخطب لأرسلان شاه فلم يفعل وقال‏:‏ إن الخليفة قد أقطعني بلاده وأنا سائر إليه فرحل إيلدكز وبلغه أن لأرسلان بوقا وهو أمير من أمراء زنكي وفي أقطاعه أرجان بالقرب منه فأنفذ سرية للغارة عليه فاتفق أن أرسلان بوقا عزم على تغيير الخيل التي معه لضعفها وأخذ عوضها من ذلك الجشير فسار في عسكره إلى الجشير فصادف العسكر الذي سيره إيلدكز لأخذ دوابه فقاتلهم وأخذهم وقتلهم وأرسل الرؤوس إلى صاحبه فكتب بذلك إلى بغداد وطلب المدد فوعد بذلك‏.‏

وكان الوزير عون الدين أيضًا قد كاتب الأمراء الذين مع إيلدكز يوبخهم على طاعته ويضعف رأيهم ويحرضهم على مساعدة زنكي ابن دكلا وإينانج وكان إينانج قد برز من الري في عشرة آلاف فارس فأرسل إليه ابن آقسنقر الأحمديلي خمسة آلاف فارس وهرب ابن البازدار صاحب قزوين وابن طغيرك وغيرهما فلحقوا بإينانج وهو في صحراء ساوة‏.‏

واما إيلدكز فإنه استشار نصحائه فأشاروا بقصد إينانج لأنه أهم فرحل إليه ونهب زنكي بن دكلا سهيرم وغيرها فرد إيلدكز إليه أميرًا في عسرة آلاف فارس لحفظ البلاد‏.‏

فسار زنكي إليهم فلقيهم وقاتلهم فانهزم عسكر إيلدكز إليه فتجلد لذلك وأرسل يطلب عساكر أذربيجان فجاءته مع ولده قزل أرسلان‏.‏

وسير زنكي بن دكلا عسكرًا كثيرًا إلى إينانج واعتذر عن الحضور بنفسه عنده لخوفه على بلاده من شملة صاحب خوزستان فسار إيلدكز إلى إينانج وتدانى العسكران فالتقوا تاسع شعبان وجرى بينهم حرب عظيمة أجلت عن هزيمة إينانج فانهزم أقبح هزيمة وقتلت رجاله ونهبت أمواله ودخل الري وتحصن في قلعة طبرك وحصر إيلدكز الري ثم شرع في الصلح واقترح إينانج أقتراحات فأجابه إيلدكز إليها وأعطاه جرباذقان وغيرها وعاد إيلدكو إلى همذان كان ينبغي أن تتأخر هذه الحادثة والتي قبلها وإنما قدمت لتتبع أخواتها‏.‏

ذكر وفاة ملك الغور وملك ابنه محمد

في هذه السنة في ربيع الآخر توفي الملك علاء الدين الحسين بن الحسين الغوري ملك الغور بعد انصرافه عن غزنة وكان عادلًا من أحسن الملوك سيرة في رعيته ولما مات ملك بعده ابنه سيف الدين محمد وأطاعه الناس وأحبوه وكان قد صار في بلادهم جماعة من دعاة الإسماعيلية وكثر أتباعهم فأخرجوا من تلك الديار جميعها ولم يبق فيها منهم أحدًا وراسل الملوك وهاداهم واستمال المؤيد أي أبه صاحب نيسابور وطلب موافقته‏.‏

ذكر الفتنة بنيسابور وتخريبها

كان أهل العيث والفساد بنيسابور قد طمعوا في نهب الأموال وتخريب البيوت وفعل ما أرادوا فإذا نهوا لم ينتهوا فلما كان الآن تقدم المؤيد أي أبه بقبض أعيان نيسابور منهم نقيب العلويين أبو القاسم زيد بن الحسن الحسيني وغيره وحبسهم في ربيع الآخر سنة ست وخمسين وقال‏:‏ أنتم الذين أطمعتم الرنود والمفسدين حتى فعلوا هذه الفعال ولو أردتم منعهم لامتنعوا‏.‏

وقتل من أهل الفساد جماعة فخربت نيسابور بالكلية ومن جملة ما خرب مسجد عقيل كان مجمعًا لأهل العلم وفيه خزائن الكتب الموقوفة وكان من أعظم منافع نيسابور وخرب أيضًا من مدارس الحنفية ثماني مدارس ومن مدارس الشافعية سبع عشرة مدرسة وأحرق خمس خزائن للكتب ونهب سبع خزائن كتب وبيعت بأبخس الأثمان هذا ما أمكن إحصاؤه سوى ما لم يذكر‏.‏


ذكر خلع السلطان محمود ونهب طوس وغيرها من خراسان

في هذه السنة في جمادى الآخرة قصد السلطان محمود بن محمد الخان وهو ابن أخت السلطان سنجر وقد ذكرنا أنه ملك خراسان بعده ففي هذه السنة حصر المؤيد صاحب نيسابور بشاذياخ وكان الغز مع السلطان محمود فدامت الحرب إلى سنة ست وخمسين وخمسمائة‏.‏

ثم إن محمودًا أظهر أنه يريد دخول الحمام فدخل إلى شهرستان آخر شعبان كالهارب من الغز وأقاموا على نيسابور إلى أخر شوال ثم عادوا راجعين فعاثوا في القرى ونهبوها ونهبوا طوس نهبًا فاحشًا وحضروا المشهد الذي لعلي بن موسى وقتلوا كثيرًا ممن فيه ونهبوهم ولم يعرضوا للقبة التي فيها القبر‏.‏

فلما دخل السلطان محمود إلى نيسابور أمهله المؤيد إلى أن دخل رمضان منسنة سبع وخمسين وخمسمائة وأخذه وكحله وأعماه وأخذ ما كان معه من الأموال والجواهر والأعلاق النفيسةن وكان يخفيها خوفًا عليها من الغز لما كان معهم وقطع المؤيد خطبته من نيسابور وغيرها مما هو في تصرفه وخطب لنفسه بعد الخليفة المستنجد بالله وأخذ ابنه جلال الدين محمدًا الذي كان قد ملكه الغز أمرهم قبل أبيه وقد ذكرنا ذلك وسلمه أيضا وسجنهما ومعهما جواريهما وحشمهما وبقيا فيها فلم تطل أيامهما ومات السلطان محمود ثم مات ابنه بعده من شدة وجده لموت أبيه والله أعلم‏.‏

كانت شاذياخ قد بناها عبد الله بن طاهر بن الحسين لما كان أميرًا على خراسان للمأمون وسبب عمارتها أنه رأى امرأة جميلة تقود فرسًا تريد سقيه فسألها عن زوجها فأخبرته به فأحضره وقال له‏:‏ خدمة الخيل بالرجال أشبه فلما تقعد أنت في دارك وترسل امرأتك مع فرسك فبكى الرجل وقال له‏:‏ ظلمك يحملنا على ذلك‏.‏

فقال‏:‏ وكيف قال‏:‏ لأنك تنزل الجند معنا في دورنا فإن خرجت أنا وزوجتي بقي البيت فارغًان فيأخذ الجندي ما لنا فيه وإن سقيت أنا الفرس فلا آمن على زوجتي من الجندي فرأيت أن أقيم أنا في البيت وتخدم زوجتي الفرس‏.‏

فعظم الأمر عليه وخرج من البلد لوقته ونزل في الخيام وأمر الجند فخرجوا من دور الناس وبنى شاذياخ دارًا له ولجنده وسكنها وهم معه ثم إنها دثرت بعد ذلك‏.‏

فلما كان أيام السلطان ألب أرسلان ذكرت له هذه القصة فأمر بتجديدها ثم إنها تشعثت بعد ذلك فلما كان الآن وخربت نيسابور ولم يمكن حفظها والغز تطرق البلاد وتنهبها وأمر المؤيد حينئذ بعمل سورها وسد ثلمه وسكناه ففعل ذلك وسكنها هو والناس وخربت حينئذ نيسابور كل خراب ولم يبق فيها أنيس‏.‏

في هذه السنة في شهر رمضان قتل الملك الصالح أبو الغارات طلائع بن رزيك الأرمني وزير العاضد العلوي صاحب مصر وكان سبب قتله أنه تحكم بالدولة التحكم العظيم واستبد بالأمر والنهي وجباية الأموال إليه لصغر العاضد ولأنه هو الذي ولاه ووتر الناس فإنه أخرج كثيرًا من أعيانه وفرقهم في البلاد ليأمن وثوبهم عليه ثم إنه زوج أبنته من العاضد فعاداه أيضًا الحريم من القصر فأرسلت عمة العاضد الأموال إلى الأمراء المصريين ودعتهم إلى قتله‏.‏

وكان أشدهم في ذلك إنسان يقال له ابن الراعي فوقفوا في دهليز القصر فلما دخل ضربوه بالسكاكين على دهش منه فجرحوه جراحات مهلكة إلا أنه حمل إلى داره وفيه حياة فأرسل إلى العاضد يعاتبه على الرضى في قتله مع أثره في خلافته فأقسم العاضد بأنه لا يعلم بذلك ولم يرض به‏.‏

فقال‏:‏ إن كنت بريئًا فسلم عمتك إلي حتى انتقم منها فأمر بأخذها فأرسل إليها قهرًا وأحضرت عنده فقتلها ووصى بالوزارة لابنه رزيك ولقب العادل فانتقل الأمر إليه بعد وفاة والده‏.‏

وللصالح أشعار حسنة بليغة تدل على فضل غزير فمنها في الأفتخار‏:‏ أبى الله إلا أن يدوم لنا الدهر ويخدمنا في ملكنا العز والنصر علمنا بأن المال تفنى ألوفه ويبقى لنا من بعده الأجر والذكر خلطنا الندى بالبأس حتى كأننا سحاب لديه البرق والرعد والقطر كما أنا في السلم نبذل جودنا ويرتع في إنعامنا العبد والحر وهي طويلة‏.‏

وكان الصالح كريمًا فيه أدب وله شعر جيد وكان لأهل العلم عنده أنفاق ويرسل إليهم العطاء الكثير بلغه أن الشيخ أبا محمد الدهان النحوي البغدادي المقيم بالموصل قد شرح بيتًا من شعره وهو هذا‏:‏ تجنب سمعي ما يقول العواذل وأصبح لي شغل من الغزو شاغل فجهز إليه هدية سنية ليرسلها إليه فقتل قبل إرسالها‏.‏

وبلغه أيضًا أن إنسانًا من أهل الموصل قد أثنى عليه بمكة فأرسل إليه كتابًا يشكره ومعه هدية‏.‏

وكان الصلح إماميًا لم يكن على مذهب العلويين المصريين ولما ولي العاضد الخلافة ركب سمع الصالح ضجة عظيمة فقال‏:‏ ما الخبر فقيل‏:‏ إنهم يفرحون بالخليفة‏.‏

فقال‏:‏ كأني بهؤلاء الجهلة وهم يقولون ما مات الأول حتى استخلف هذا وما علموا أنني كنت من ساعة أستعراضهم استعراض الغنم‏.‏

قال عمارة‏:‏ دخلت إلى الصالح قبل قتله بثلاثة أيام فناولني قرطاسًا فيه بيتان من شعره وهما‏:‏

قد رحلنا إلى الحمام سنينًا - ليت شعري متى يكون الحمام فكان آخر عهدي به‏.‏

وقال عمارة أيضًا‏:‏ ومن عجيب الاتفاق أنني أنشدت ابنه قصيدة أقول فيها‏.‏

أبوك الذي تسطو الليالي بحده وأنت يمين إن سطا وشمال لرتبته العظمى وإن طال عمره إليك مصير واجب ومنال تخالسك اللحظ المصون ودونها حجاب شريف لا انقضا وحجال فانتقل الأمر إليه بعد ثلاثة أيام‏.‏

ذكر الحرب بين العرب وعسكر بغداد

في هذه السنة في شهر رمضان اجتمعت خفاجة إلى الحلة والكوفة وطالبوا برسومهم من الطعام والتمر وغير ذلك فمنعهم أمير الحاج أرغش وهو مقطع الكوفة ووافقه على قطعه الأمير قيصر شحنة الحلة وهما من مماليك الخليفة فأفسدت خفاجة ونهبوا سواد الكوفة والحلة فأسرى إليهم الأمير قيصر شحنة الحلة في مائتين وخمسين فارسًا وخرج إليه أرغش في عسكر وسلاح فانتزحت خفاجة من بين أيديهم وتبعهم العسكر إلى رحبة الشام فأرسل خفاجة يعتذرون ويقولون‏:‏ قد قنعنا بلبن الإبل وخبز الشعير وأنتم تمنعوننا رسومنا وطلبوا الصلح فلم يجبهم أرغش وقيصر‏.‏

وكان قد اجتمع مع خفاجة كثير من العرب فتصافوا واقتتلوا وأرسلت العرب طائفة إلى خيام العسكر وخيامهم فحالوا بينهم وبينها وحمل العرب حملة منكرة فانهزم العسكر وقتل كثير منهم وقتل الأمير قيصر وأسرت جماعة أخرى وجرح أمير الحاج جراحة شديدة وخل الرحبة فحماه شيخها وأخذ له الأمان وسيره إلى بغداد ومن نجا مات عطشًا في البرية‏.‏

وكان إماء العرب يخرجن بالماء يسقين الجرحى فإذا طلبه منهن أحد من العسكر أجهزن عليه‏.‏

وكثر النوح والبكاء ببغداد على القتلى وتجهز الوزير عون الدين بن هبيرة والعساكر معه فخرج في طلب خفاجة فدخلوا البر وخرجوا إلى البصرة ولما دخلوا البر عاد الوزير إلى بغداد وأرسل بنو خفاجة يعتذرون ويقولون‏:‏ بغي علينا وفارقنا البلاد فتبعونا واضطررنا إلى القتال وسألوا العفو عنهم فأجيبوا إلى ذلك‏.‏

ذكر حصر المؤيد شارستان


في هذه السنة حصر المؤيد أي أبه مدينة شارستان قرب نيسابور وقاتله أهلها وبصب المجانيق والعرادات فصبر أهلها خوفًا على أنفسهم من المؤيد وكان معه جلال الدين المؤيد الموفقي الفقيه الشافعي فبينما هو راكب إذ وصل إليه حجر منجنيق فقتله خامس جمادى الآخرة من السنة وتعدى الحجر منه إلى شيخ من شيوخ بيهق فقتله فعظمت المصيبة بقتل جلال الدين على أهل العلم وخصوصًا أهل السنة والجماعة وكان في عنفوان شبابه رحمه الله لما قتل ‏.‏

ودام الحصار إلى شعبان سنة سبع وخمسين وخمسمائة فنزل خواجكي صاحبها بعد ما كثر القتل ودام الحصر وكان لهذه القلعة ثلاثة رؤساء هم أصحاب النهي والأمر هم الذين حفظوها وقاتلوا عنها أحدهم خواجكي هذا والثاني داعي بن محمد بن أخي حرب العلوي والثالث الحسين بن أبي طالب العلوي الفارسي فنزلوا كلهم أيضًا إلى المؤيد أي أبه فيمن معهم من أشياعهم وأتباعهم‏.‏

فأما خواجكي فإنه ثبت عليه بأنه قتل زوجته ظلمًا وعدوانًا وأخذ مالها فقتل بها وملك المؤيد شارستان وصفت له فنهبها عسكره إلا انهم لم يقتلوا امرأة ولا سبوها‏.‏

ذكر ملك الكرج مدينة آني

في هذه السنة في شعبان اجتمعت الكرج مع ملكهم وساروا إلى مدينة آني من بلاد آران وملكوها وقتلوا فيها خلقًا كثيرًا فانتدب لهم شاه أرمن بن إبراهيم بن سكمان صاحب خلاط وجمع العساكر واجتمع معه من المتطوعة خلق كثير وسار إليهم فلقوه وقاتلوه فانهزم المسلمون وقتل أكثرهم وأسر كثير منهم وعاد شاه ارمن مهزومًا لم يرجع معه غير أربع مائة فارس من عسكره‏.‏

ذكر ولاية عيسى مكة حرسها الله

كان أمير مكة هذه السنة قاسم بن فليتة بن قاسم بن أبي هاشم العلوي الحسنين فلما سمع بقرب الحجاج من مكة صادر المجاورين وأعيان أهل مكة وأخذ كثيرًا من أموالهم وهرب من مكة خوفًا من أمير الحاج أرغش‏.‏

وكان قد حج هذه السنة زين الدين علي بن بكتكين صاحب جيش الموصل ومعه طائفة صالحة من العسكر فلما وصل أمير الحاج إلى مكة رتب مكان قاسم بن فليتة عمه عيسى بن قاسم بن أبي هاشم فبقي كذلك إلى شهر رمضان ثم إن قاسم بن فليتة جمع جمعًا كثيرًا من العرب أطمعهم في مال له في مكة فاتبعوه فسار بهم إليها فلما سمع عمه عيسى فارقها ودخلها قاسم فأقام بها أميرًا أيامًا ولم يكن له مال يوصله إلى العرب ثم إنه قتل قائدًا كان معه أحسن السيرة فتغيرت نيات أصحابه عليه وكاتبوا عمه عيسى فقدم عليهم فهرب وصعد جبل أبي قبيس فسقط عن فرسه فأخذه أصحاب عيسى وقتلوه فعظم عليه قتله فأخذه وغسله ودفنه بالمعلى عند أبيه فليتة واستقر الأمر لعيسى والله أعلم‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة سار عبد المؤمن صاحب المغرب إلى جبل طارق وهو على ساحل الخليج مما يلي الأندلس فعبر المجاز إليه وبنى عليه مدينة حصينة وأقام بها عدة شهور وعاد إلى مراكش‏.‏

وفيها في المحرم ورد نيسابور جمع كثير من التركمان بلاد فارس ومعهم أغنام كثيرة للتجارة فباعوها وأخذوا الثمن وساروا ونزلوا على مرحلتين من طابس كنكلي وناموا هناك فنزل إليهم الإسماعيلية وكبسوهم ليلًا ووضعوا السيف فيهم فقتلوا وأكثروا ولم ينجو منهم إلا الشريد وغنم الإسماعيلية جميع ما معهم من مال وعروض وعادوا إلى قلاعهم‏.‏

وفيها كثرت الأمطار في أكثر البلاد ولا سيما خراسان فإن الأمطار توالت فيها من العشرين وفيها كان بين الكرج وبين الملك صلتق بن علي صاحب أرزن الروم قتال وحرب انهزم فيه صلتق وعسكره وأسر هو وكانت أخته شاه بانوار قد تزوجها شاه أرمن سكمان بن ابراهيم بن سكمان صاحب خلاط فأرسلت إلى ملك الكرج هدية جليلة المقدار وطلبت منه أن يفاديها بأخيها فأطلقه فعاد إلى ملكه‏.‏

وفيها قصد صاحب صيدا من الفرنج نور الدين محمود صاحب الشام ملتجئًا إليه فأمنه وسير معه عسكرًا يمنعه من الفرنج أيضًا فظهر عليهم في الطريق كمينًا للفرنج فقتلوا من المسلمين جماعة وانهزم الباقون‏.‏

وفيها ملك قرا أرسلان صاحب حصن كيفا قلعة شاتان وكانت لطائفة من الأكراد يقال لهم الجونيه فلما ملكها خربها وأضاف ولايتها إلى حصن طالب‏.‏

وفيها توفي الكمال حمزة بن علي بن طلحة صاحب المخزن كان جليل القدر أيام المسترشد بالله وولي المقتفي وبنى مدرسة لأصحاب الشافعي بالقرب من داره ثم حج وعاد وقد لبس الفوط وزي الصوفية وترك الأعمال فقال بعض الشعراء به‏:‏ يا عضد الإسلام يا من سمت إلى العلا همته الفاخرة كانت لك الدنيا فلم ترضها ملكًا فأخلدت إلى الآخرة

ثم دخلت سنة سبع وخمسين وخمسمائة

ذكر فتح المؤيد طوس وغيرها

في هذه السنة في السابع والعشرين من صفر نازل المؤيد أي أبه أبا بكر جاندار بقلعة وسكره خوي من طوس وكان قد تحصن بها وهي حصينة منيعة لا ترام فقاتله وأعانه أهل طوس على أبي بكر لسوء سيرته فيهم وظلمه فلما رأى أبو بكر ملازمة المؤيد ومواصلة القتال عليه خضع وذل واستكان ونزل من القلعة بالأمان في العشرين من ربيع الأول من السنة فلما نزل منها حبسه المؤيد وأمر بتقييده‏.‏

ثم سار منها إلى كرستان وصاحبها أبو بكر فاخر فنزل من قلعته وهي من أمنع الحصون على رأس جبل عال وصار في طاعة المؤيد ودان له ووافقه وسير جيشًا في جمادى الآخرة منها إلى أسفرايين فتحصن رئيسها عبد الرحمن بن محمد بن علي الحاج بالقلعة وكان أبوه كريم خراسان على الإطلاق ولكن كان عبد الرحمن هذا بئس الخلف فلما تحصن أحاط به العسكر المؤيدي واستنزلوه من الحصن وحملوه مقيدًا إلى شاذياخ وحبس فيها وقيل في ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وخمسمائة‏.‏

وملك المؤيد أيضًا قهندز نيسابور واستدارت مملكة المؤيد حول نيسابور وعادت إلى ما كانت عليه قبل إلا أن أهلها انتقلوا إلى شاذياخ وخربت المدينة العتيقة‏.‏

وسير المؤيد جيشًا إلى خواف وبها عسكر مع بعض الأمراء اسمه أرغش فكمن أرغش جمعًا في تلك المضايق والجبال وتقدم إلى عسكر المؤيد فقاتلهم وطلع الكمين فانهزم عسكر المؤيد وقتل منهم جمع وعاد الباقون إلى المؤيد بنيسابور‏.‏

وسير جيشًا إلى بوشنج هراة وهي في طاعة الملك محمد بن الحسين الغوري فحصروها واشتد الحصار عليها ودام القتال والزحف فسير الملك محمد الغوري جيشًا إليها ليمنع عنها فلما قاربوا هراة فارقها العسكر الذي يحصرها وعاودوا عنها وصفت تلك الولاية للغورية‏.‏

ذكر أخذ ابن مردنيش غرناطة من عبد المؤمن وعودها إليه

في هذه السنة أرسل أهل غرناطة من بلاد الأندلس وهي لعبد المؤمن إلى الأمير إبراهيم بن همشك صهر ابن مردنيشن فاستدعوه إليهم ليسلموا إليه البلد وكان قد وحد وصار من أصحاب عبد المؤمن وفي طاعته وممن يحرضه على قتل ابن مردنيش‏.‏

ففارق طاعة عبد المؤمن وعاد إلى موافقة ابن مردنيش‏.‏

فامتنعوا بحصنها فبلغ الخبر أبا سعيد عثمان بن عبد المؤمن وهو بمدينة مالقة فجمع الجيش الذي كان عنده وتوجه إلى غرناطة لنصرة من فيها من أصحابهم فعلم بذلك إبراهيم بن همشك فاستنجد ابن مردنيش ملك البلاد بشرق الأندلس فأرسل إليه ألفي فارس من أنجاد أصحابه ومن الفرنج الذين جندهم معه فاجتمعوا بضواحي غرناطة فالتقوا هم ومن بغرناطة من عسكر عبد المؤمن قبل وصول أبي سعيد إليهم فاشتد القتال بينهم فانهزم عسكر عبد المؤمن وقدم أبو سعيد واقتتلوا أيضًا فانهزم كثير من أصحابه وثبت معه طائفة من الأعيان والفرسان المشهورين والرجالة الأجلاد حتلا قتلوا عن آخرهم وانهزم حينئذ أبو سعيد ولحق بمالقة‏.‏

وسمع عبد المؤمن الخبر وكان قد سار إلى مدينة سلا فسير إليهم في الحال ابنه ابا يعقوب يوسف في عشرين ألف مقاتل فيهم جماعة من شيوخ الموحدين فجدوا المسير فبلغ ذلك ابن مردنيش فسار بنفسه وجيشه إلى غرناطة ليعين ابن همشك فاجتمع منهم بغرناطة جمع كثير فنزل ابن مردنيش في الشريعة بظاهرها ونزل العسكر الذي كان أمد به ابن همشك أولًان وهم ألفا فارس بظاهر القلعة الحمراء ونزل ابن همشك بباطن القلعة الحمراء بمن معه ووصل عسكر عبد المؤمن إلى جبل قريب من غرناطة فأقاموا في سفحه أيامًا ثم سيروا سرية أربعة ألاف فارس فبينوا العسكر الذي بظاهر القلعة الحمراء وقاتلوهم من جهاتهم فما لحقوا وأقبل عسكر عبد المؤمن بجملته فنزلوا بضواحي غرناطة فعلم ابن مردنيش وابن همشك أنهم لا طاقة لهم بهم ففروا في الليلة الثانية ولحقوا ببلادهم واستولى الموحدون على غرناطة في باقي السنة المذكورة وعاد عبد المؤمن من مدينة سلا إلى مراكش‏.‏

ذكر حصر نور الدين حارم

في هذه السنة جمع نور الدين بن محمود بن آقسنقر صاحب الشام العساكر بحلب وسار إلى قلعة حارم وهي للفرنج غربي حلب فحصرها وجد في قتالها فامتنعت عليه بحصانتها وكثرة من بها من فرسان الفرنج ورجالتهم وشجعانهم فلما علم الفرنج ذلك جمعوا فارسهم وراجلهم من سائر البلاد وحشدوا واستعدوا وساروا نحوها ليرحلوه عنها فلما قاربوه طلب منهم المصاف فلم يجيبوه إليه وراسلوه وتلطفوا الحال معه فلما رأى أنه لا يمكنه أخذ الحصن ولا يجيبونه إلى المصاف عاد إلى بلاده وممن كان معه في هذه الغزوة مؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن منقذ الكناني وكان من الشجاعة في الغاية فلما عاد إلى حلب دخل إلى مسجد شيزر وكان قد دخله في العام الماضي سائرًا إلى الحج فلما دخله الآن كتب على حائطه‏:‏ نزلت بهذا المسجد العام قافلًا من الغزو موفور النصيب من الأجر ومنه رحلت العيس في عامي الذي مضى نحو بيت الله والركن والحجر فأديت مفروضي وأسقطت ثقل ما تحملت من وزر الشبيبة عن ظهري

ذكر ملك الخليفة قلعة الماهكي

في هذه السنة في رجب ملك الخليفة المستنجد بالله قلعة الماهكي وسبب ذلك أن سنقر الهمذاني صاحبها سلمها إلى أحد مماليكه ومضى إلى همذان فضعف هذا المملوك عن مقاومة ما حولها من التركمان والأكراد فأشير عليه ببيعها من الخليفة فراسل في ذلك فاستقرت على خمسة عشر ألف دينار وسلاح وغير ذلك من الأمتعة وعدة من القرى فسلمها واستلم ما استقر له وأقام ببغداد‏.‏ وهذه القلعة لم تزل من أيام المقتدر بالله بأيدي التركمان والأكراد وإلى الآن‏.‏


ذكر الحرب بين المسلمين والكرج

في هذه السنة في شعبان اجتمعت الكرج في خلق كثير يبلغون ثلاثين ألف مقاتل ودخلوا بلاد الإسلام وقصدوا مدينة دوين من أذربيجان فملكوها ونهبوها وقتلوا من أهلها وسوادها نحو

عشرة آلاف قتيل وأخذوا النساء سبايا وأسروا كثيرًا وأعروا النساء وقادوهم حفاة عراة وأحرقوا الجوامع والمساجد فلما وصلوا إلى بلادهم أنكر نساء الكرج مافعلوا بنساء المسلمين وقلن لهم‏:‏ قد أحوجتم المسلمين أن يفعلوا بنا مثل ما فعلتم بنسائهم وكسونهن‏.‏

ولما بلغ الخبر إلى شمس الدين إيلدكز صاحب أذربيجان والجبل وأصفهان جمع عساكره وحشدها وانضاف إليه شاه أرمن بن سكمان القطبي صاحب خلاط وابن آقسنقر صاحب مراغة وغيرها فاجتمعوا في عسكر كثير يزيدون على خمسين ألف مقاتل وساروا إلى بلاد الكرج في صفر سنة ثمان وخمسين ونهبوها وسبوا النساء والصبيان وأسروا الرجال ولقيهم الكرج واقتتلوا أشد قتال صبر فيه الفريقان ودامت الحرب بينهم أكثر من شهر وكان الظفر للمسلمين فانهزم الكرج وقتل منهم كثير وأسر كذلك‏.‏

وكان سبب الهزيمة ان بعض الكرج حضر عند إيلدكز فأسلم على يديه وقال له‏:‏ تعطيني عسكرًا حتى أسير بهم في طريق أعرفها وأجيء إلى الكرج من ورائهم وهم لا يشعرون‏!‏ فاستوثق منه وسير معه عسكرًا وواعده يومًا يصل فيه إلى الكرج فلما كان ذلك اليوم قاتل المسلمون الكرج فبينما هم في القتال وصل ذلك الكرجي الذي أسلم ومعه العسكر وكبروا وحملوا على الكرج من ورائهم فانهزموا وكثر القتل فيهم والسر وغنم المسلمون من أموالهم ما لا يدخل تحت الإحصاء لكثرته فإنهم كانوا متيقنين النصر لكثرتهم فخيب الله ظنهم وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون ثلاثة أيام بلياليها وعاد المسلمون منصورين قاهرين‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة وصل الحجاج إلى منى ولم يتم الحج لأكثر الناس لصدهم عن دخول مكة والطواف والسعي فمن دخل يوم النحر مكة وطاف وسعى كمل حجه ومن تأخر عن ذلك منع دخول مكة لفتنة جرت بين أمير الحاج وأمير مكة‏.‏

كان سببها أن جماعة من عبيد مكة أفسدوا في الحاج بمنى فنفر عليهم بعض أصحاب أمير الحاج فقتلوا منهم جماعة ورجع من سلم إلى مكة وجمعوا جمعًا وأغاروا على جمال الحاج واخذوا منها قريبًا من ألف جمل فنادى أمير الحاج في جنده فركبوا بسلاحهم ووقع القتال بينهم فقتل جماعة ونهب جماعة من الحاج وأهل مكة فرجع أمير الحاج ولم يدخل مكة ولم يقم بالزاهر غير يوم واحد وعاد كثير من الناس رجالة لقلة الجمال ولقوا شدة‏.‏

وممن حج في هذه السنة جدتنا أم أبينا ففاتها الطواف والسعي فاستفتي لها الإمام الشيخ أبو القاسم بن البرري فقال‏:‏ تدوم على ما بقي عليها من إحرامها إلى قابل وتعود إلى مكة فتطوف وتسعى فكمل الحجة الأولى ثم تحرم إحرامًا ثانيًا وتعود إلى عرفات فتقف وترمي الجمار وتطوف وتسعى فتصير لها حجة ثانية فبقيت على إحرامها إلى قابل وحجت وفعلت كما قال فتم حجها الأول والثاني‏.‏

وفيها نزل بخراسان برد كثير عظيم المقدار أواخر نيسان وكان أكثره بجوين ونيسابور وما والاهما فأهلك الغلات ثم جاء بعده مطر كثير دام عشرة أيام‏.‏

وفيها في جمادى الآخرة وقع الحريق ببغداد احترق سوق الطيوريين والدور التي تليه مقابله إلى سوق الصفر الجديد والخان الذي في الرحبة ودكاكين البزورين وغيرها‏.‏

وفيها توفي الكيا الصباحي صاحب الموت مقدم الإسماعيلية وقام ابنه مقامه فأظهر التوبة وأعاد هو ومن معه الصلوات وصيام شهر رمضان وأرسلوا إلى قزوين يطلبون من يصلي بهم ويعلمهم حدود الإسلام فأرسلوا إليهم‏.‏

وفيها في رجب درس شرف الدين يوسف الدمشقي في المدرسة النظامية ببغداد وفيها توفي شجاع الفقيه الحنفي ببغداد وكان مدرسًا بمدرسة أبي حنيفة وكان موته في ذي القعدة‏.‏

وفيها توفي صدقة بن وزير الواعظ‏.‏

وفيها في المحرم توفي الشيخ عدي بن مسافر الزاهد المقيم ببلد الهكارية من أعمال الموصل وهو من الشام من بلد بعلبك فانتقل إلى الموصل وتبعه أهل السواد والجبال بتلك النواحي وأطاعوه وحسنوا الظن فيه وهو مشهور جدًا‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة

ذكر وزارة شاور للعاضد بمصر ثم وزارة الضرغام بعده

في هذه السنة في صفر وزر شاور للعاضد لدين الله العلوي صاحب مصر وكان ابتداء أمره ووزارته أنه كان يخدم الصالح بن رزيك ولزمه فأقبل عليه الصالح وولاه الصعيد وهو أكبر الأعمال بعد الوزارة فلما ولي الصعيد ظهرت منه كفاية عظيمة وتقدم زائد واستمال الرعية والمقدمين من العرب وغيرهم فعسر أمره على الصالح ولم يمكنه عزله فاستدام استعماله لئلا يخرج عن طاعته‏.‏

فلما جرح الصالح كان من جملة وصيته لولده العادل‏:‏ إنك لا تغير على شاور فإنني أنا أقوى منك وقد ندمت على استعماله ولم يمكنّي عزله فلا تغيروا ما به فيكون لكم منه ما تكرهون‏.‏

فلما توفي الصالح من جراحته وولي ابنه العادل الوزارة حسن له أهله عزل شاور واستعمال بعضهم مكانه وخوفوه منه إن أقروه على عمله فأرسل إليه بالعزل فجمع جموعًا كثيرة وسار إلى القاهرة بهم فهرب منه العادل ابن الصالح بن زريك فأخذ وقتل فكانت مدة وزارته ووزارة أبيه قبله تسع سنين وشهرًا وأيامًا وصار شاور وزيرًا وتلقب بأمير الجيوش وأخذ أموال بني رزيك وودائعهم وذخائرهم وأخذ منه أيضًا طي والكامل ابنا شاور والمصريين إلى الأتراك‏.‏

ثم إن الضرغام جمع جموعًا كثيرة ونازع شاور بالوزارة في شهر رمضان وظهر أمره وانهزم شاور منه إلى الشام على ما نذكره سنة تسع وخمسين وخمسمائة وصار ضرغام وزيرًا‏.‏

وكان هذه السنة ثلاثة وزراء‏:‏ العادل بن زريك وشاور وضرغام فلما تمكن ضرغام من الوزارة قتل كثيرًا من الوزراء المصريين لتخلو له البلاد من منازع فضعفت الدولة بهذا السبب حتى خرجت البلاد عن أيديهم‏.‏

ذكر وفاة عبد المؤمن وابنه يوسف

في هذه السنة في العشرين من جمادى الآخرة توفي عبد المؤمن بن علي صاحب بلاد المغرب وإفريقية والأندلس وكان قد سار من مراكش إلى سلا فمرض بها ومات‏.‏

ولما حضره الموت جمع شيوخ الموحدين من أصحابه وقال لهم‏:‏ قد جربت ابني محمدًا فام أره يصلح لهذا الأمر وإنما يصلح له ابني يوسف وهو أولى بها فقدموه لها ووصاهم بها وبايعوه ودعي بأمير المؤمنين وكتما موت عبد المؤمن وحمل فمن سلا في محفة بصورة أنه مريض إلى أن وصل إلى مراكش‏.‏

وكان ابنه أبو حفص في تلك المدة حاجبًا لأبيه فبقي مع أخيه على مثل حاله مع أبيه يخرج فيقول للناس‏:‏ أمير المؤمنين أمر بكذا ويوسف لم يقعد مقعد أبيه إلى أن كملت المبايعة له في جميع البلاد واستقرت قواعد الأمور له ثم أظهر موت أبيه عبد المؤمن فكانت ولايته ثلاثًا وثلاثين سنة وشهورًا وكان عاقلًا حازمًا سديد الرأي حسن السياسة للأمور كثير البذل للأموال إلا أنه كان كثير السفك لدماء المسلمين على الذنب الصغير‏.‏

وكان يعظم أمر الدين ويقويه ويلزم الناس في سائر بلاده بالصلاة ومن رؤي وقت الصلاة غير تصل قتل وجمع الناس على مذهب مالك في الفروع وعلى مذهب أبي الحسن الأشعري في الأصول وكان الغالب على مجلسه أهل العلم والدين المرجع إليهم والكلام معهم ولهم‏.‏

ذكر ملك المؤيد أعمال قومس

في هذه السنة سار المؤيد أي أبه صاحب نيسابور إلى بلاد قومس فملك بسطام ودامغان واسنناب بقومس مملوكه تنكز فأقام تنكز بمدينة بسطام فجرى بين تنكز وبين شام مازندران اختلاف أدى إلى الحرب فجمع كل منهما عسكره والتقوا أوائل ذي الحجة في هذه السنة واقتتلوا فانهزم عسكر مازندران وأخذت أسلابهم وقتل منه طائفة كبيرة‏.‏

ولما ملك المؤيد بلاد قومس أرسل إليه السلطان أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه خلعًا نفيسة وألوية معقودة وهدية جليلة وأمره أن يهتم باستيعاب بلاد خراسان ويتولى ذلك أجمع وأن يخطب له فلبس المؤيد الخلع فخطب له في البلاد التي هي بيده‏.‏

وكان السبب في هذا أتابك شمس الدين إيلدكز فانه كان هو الذي يحكم في مملكة أرسلان وليس لأرسلان غير الاسم وكان بين إيلدكز وبين المؤيد مودة عظيمة ذكرناها عند قتل المؤيد فلما أطاع المؤيد السلطان أرسلان خطب له ببلاده مهي بلاد قومس ونيسابور وطوس وأعمال نيسابور جميعها ومن نسا إلى طبس كنكلي وكان يخطب لنفسه بعد أرسلان وكانت الخطبة في جرجان ودهستان لخوارزم شاه أيل أرسلان بن أتسز وبعده للأمير إيثاق وكانت الخطبة في مرو وبلخ وهراة وسرخس وهذه البلاد بيد الغز إلا هراة فكانت بيد الأمير ايتكين وهو مسالم للغز فكانوا يخطبون للسلطان سنجر فيقولون‏:‏ اللهم اغفر للسلطان السعيد المبارك على المسلمين

ذكر قتل الغز ملك الغور

في هذه السنة في رجب قتل سيف الدين محمد بن الحسين الغور ملك الغور قتله الغز‏.‏

وسبب ذلك أنه جمع عساكره وحشد فأكثر وسار في بلاد الغور يريد الغز وهم ببلخ واجتمعوا وتقدموا إليه فاتفق أن ملك الغور خرج من معسكره في جماعة من خاصته جريدة فسمع به أمراء الغز فساروا يطلبونه مجدين قبل أن يعود إلى معسكره فأوقعوا به فقاتلهم أشد قتال رآه الناس فقتل ومعه نفر ممن كانوا معه واسر طائفة وهربت طائفة فلحقوا بمعسكرهم وعادوا إلى بلادهم منهزمين لا يقف الأب على ابنه ولا الولد على أخيه وتركوا كل ما معهم بحاله ونجوا بنفوسهم‏.‏

فكان عمر ملك الغور لما قتل عشرين سنة وكان عادلًا حسن السيرة فمن عدله وخوفه عاقبة الظلم انه حاصر أهل هراة فلما ملكها أراد عسكره أن ينهبوها فنزل على درب المدينة وأحضر الأموال والثياب فأعطى جميع عسكره منها وقال‏:‏ هذا خير لكم من أن تنهبوا أموال المسلمين وتسخطوا الله تعالى فإن الملك يبقى على الكفر ولا يبقى على الظلم ولما قتل عاد الغز إلى بلخ ومرو وقد غنموا من العسكر الغوري الشيء الكثير لأن أهله تركوه ونجوا‏.‏

في هذه السنة انهزم نور الدين محمود بن زنكي من الفرنج تحت حصن الأكراد وهي الوقعة المعروفة بالبقيعة وسببها أن نور الدين جمع عساكره دخل بلاد الفرنج ونزل في البقيعة تحت حصن الأكراد محاصرًا له عازما على قصد طرابلس ومحاصرتها فبينما الناس يومًا في خيامهم وسط النهار لم يرعهم إلا ظهور صلبان الفرنج من وراء الجبل الذي عليه حصن الأكراد وذلك أن الفرنج اجتمعوا واتفق رأيهم على كبسة المسلمين نهارًا فإنهم يكونوا آمنين فركبوا من وقتهم ولم يتوقفوا حتى يجمعوا عساكرهم وساروا مجدين فلم يشعر بذلك المسلمين إلا وقد قربوا منهم فأرادوا منعهم فلم يطيقوا ذلك فأرسلوا إلى نور الدين يعرفونه الحال فرهقهم الفرنج بالحملة فلم يثبت المسلمون وعادوا يطلبون معسكر المسلمين والفرنج في ظهورهم فوصلوا معًا إلى العسكر النوري فلم يتمكن المسلمون من ركوب الخيل وأخذ السلاح إلا وقد خالطوهم فأكثروا القتل والأسر‏.‏

وكان أشدهم على المسلمين الدوقس الرومي فإنه كان قد خرج من بلاده إلى الساحل في جمع كثير من الروم فقاتلوا محتسبين في زعمهم فلم يبقوا على أحد وقصدوا خيمة نور الدين وقد ركب فيها فرسه ونجا بنفسه ولسرعته ركب الفرس والشبحة في رجله فنزل إنسان كردي قطعها فنجا نور الدين وقتل الكردي فأحسن نور الدين إلى مخلفيه ووقف عليهم الوقوف‏.‏

ونزل نور الدين على بحيرة قدس بالقرب من حمص وبينه وبين المعركة أربعة فراسخ وتلاحق به من سلم من العسكر وقال له بعضهم ليس من الرأي أن تقيم هاهنا فإن الفرنج ربما حملهم الطمع على المجيء إلينا فنؤخذ ونحن على هذه الحال فوبخه وأسكته وقال‏:‏ إذا كان معي ألف فارس لقيتهم ولا أبالي بهم ووالله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام ثم أرسل إلى حلب ودمشق وأحضر الأموال والثياب والخيام والسلاح والخيل فأعطى اللباس عوض ما أخذ منهم جميعه بقولهم فعاد العسكر كأن لم تصبه هزيمة وكل من قتل أعطى أقطاعه لأولاده‏.‏

وأما الفرنج فإنهم كانوا عازمين على قصد حمص بعد الهزيمة لأنها أقرب البلاد إليهم فلما بلغهم نزول نور الدين بينها وبينهم قالوا‏:‏ لم يفعل هذا إلا وعنده قوة يمنعنا بها‏.‏

ولما رأى أصحاب نور الدين كثرة خرجه قال له بعضهم‏:‏ إن لك في بلادك إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء والفقراء والصوفية والقراء وغيرهم فلو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح فغضب من ذلك وقال‏:‏ والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم كيف أقطع صلات قوم يدافعون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطئ وأصرفها إلى من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطئ وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم ثم إن الفرنج راسلوا نور الدين يطلبون منه الصلح فلم يجبهم وتركوا عند حصن الأكراد من يحميه وعادوا إلى بلادهم‏.‏

ذكر إجلاء بني أسد من العراق

في هذه السنة أمر الخليفة المستنجد بالله بإهلاك بني أسد أهل الحلة المزيدية لما ظهر من فسادهم ولما كان في نفس الخليفة منهم من مساعدتهم السلطان محمدًا لما حصر بغداد فأمر يزدن بن قماج بقتالهم وإجلائهم عن البلاد وكانوا منبسطين في البطائح فلا يقدر عليهم فتوجه يزدن إليهم وجمع عساكر كثيرة من راجل وفارس وأرسل إلى ابن معروف مقدم المنتفق وهو بأرض البصرة فجاء في خلق كثير فحصرهم وسد عليهم الماء وصابرهم مدة فأرسل الخليفة إلى يزدن يعتب عليه ويعجزه وينسبه إلى موافقتهم في التشيع وكان يزدن يتشيع فجد هو وابن معروف في قتالهم والتضييق عليهم وسد مسالكهم في الماء فاستسلموا حينئذ فقتل منهم أربعة آلاف قتيل ونادى فيمن بقي‏:‏ من وجد بعد هذا في المزيدية فقد حل دمه فتفرقوا في البلاد ولم يبق منهم في العراق من يعرف وسلمت بطائحهم وبلادهم إلى ابن معروف‏.‏

ذكر عدة حوادث

وفيها في رجب توفي سديد الدولة أبو عبد الله مجمد بن عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم المعروف بابن الأنباري كاتب الإنشاء بديوان الخليفة وكان فاضلًا أديبًا ذا تقدم كثير عند الخلفاء والسلاطين وخدم من سنة ثلاثين وخمسمائة إلى الآن في ديوان الخلافة وعاش حتى قارب تسعين سنة‏.‏

وتوفي في رمضان هبة الله بن الفضل بن عبد العزيز بن محمد أبو القاسم المتوثي سمع الحديث وهو من الشعراء المشهورين إلا أنه كثير الهجو ومن شعره‏:‏ يا من هجرت ولا تبالي هل ترجع دولة الوصال هل أطمع يا عذاب قلبي أن ينعم في هواك بالي الطرف كما عهدت بالي والجسم كما ترين بال ما ضرك أن تعلليني في الوصل بموعد المحال أهواك وأنت حظ غيري يا قاتلتي فما احتيالي وهي أكثر من هذا‏.‏

في هذه السنة في جمادى الأولى سير نور الدين محمود بن زنكي عسكرًا كثيرًا إلى مصر وجعل عليهم الأمير أسد الدين شيركوه بن شاذي وهو مقدم عسكره وأكبر أمراء دولته وأشجعهم وسنذكر سنة أربع وستين سبب اتصاله بنور الدين وعلو شأنه عنده إن شاء الله تعالى‏.‏

وكان سبب إرسال هذا الجيش أن شاور وزير العاضد لدين الله العلوي صاحب مصر نازعه في الوزارة ضرغام وغلب عليها فهرب شاور منه إلى الشام ملتجئًا إلى نور الدين ومستجيرًا به فأكرم مثواه وأحسن إليه وأنعم عليه وكان وصوله في ربيع الأول من السنة وطلب منه إرسال العساكر معه إلى مصر ليعود إلى منصبه ويكون لنور الدين ثلث دخل البلاد بعد إقطاعات العسكر ويكون شيركوه مقيمًا بعساكره في مصر ويتصرف هو بأمر نور الدين واختياره فبقي نور الدين يقدم إلى هذا العرض رجلًا ويؤخر أخرى فتارة يحمله رعاية لقصد شاور بابه وطلب الزيادة من الملك والتقوي على الفرنج وتارة يمنعه خطر الطريق وأن الفرنج فيه وتخوف أن شاور إن استقرت قاعدته ربما لا يفي‏.‏

ثم قوى عزمه على إرسال الجيوش فتقدم بتجهيزها وإزالة عللها وكان هوى أسد الدين في ذلك وعنده من الشجاعة وقوة النفس ما لا يبالي بمخافة فتجهز وساروا جميعًا وشاور في صحبتهم في جمادى الأولى من سنة تسع وخمسين وتقدم نور الدين إلى شيركوه أن يعيد شاور إلى منصبه وينتقم له ممن نازعه فيه‏.‏

وسار نور الدين إلى طرف بلاد الفرنج مما يلي دمشق بعساكره ليمنع الفرنج من التعرض لأسد الدين ومن معه فكان قصارى الفرنج حفظ بلادهم من نور الدين ووصل أسد الدين ومن معه من العساكر إلى مدينة بلبيس فخرج إليهم ناصر الدين أخو ضرغام بعسكر المصريين ولقيهم فانهزم وعاد إلى القاهرة مهزومًا‏.‏

ووصل أسد الدين فنزل على القاهرة أواخر جمادى الآخرة فخرج ضرغام من القاهرة سلخ الشهر فقتل عند مشهد السيدة نفيسة وبقي يومين ثم حمل ودفن بالقرافة وقتل أخوه فارس المسلمين وخلع عن شاور مستهل رجب وأعيد إلى الوزارة وتمكن منها وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة فغدر به شاور وعاد كما كان قرره لنور الدين من البلاد المصرية ولأسد الدين أيضًا وأرسل إليه يأمره بالعود إلى الشام فأعاد الجواب بالامتناع وطلب ما كان قد استقر بينهم فلم يجبه شاور إليه فلما رأى ذلك أرسل نوابه فتسلموا مدينة بلبيس وحكم على البلاد الشرقية فأرسل شاور إلى الفرنج يستمدهم ويخوفهم من نور الدين إن ملك مصر‏.‏

وكان الفرنج قد أيقنوا بالهلاك إن تم ملكه لها فلما أرسل شاور يطلب منهم أن يساعدوه على إخراج أسد الدين من البلاد جاءهم فرج لم يحتسبوه وسارعوا إلى تلبية دعوته ونصرته وطمعوا في ملك الديار المصرية وكان قد بذل لهم مالًا على المسير إليه وتجهزوا وساروا فلما بلغ نور الدين ذلك سار بعساكره إلى أطراف بلادهم ليمتنعوا عن المسير فلم يمنعهم ذلك لعلمهم أن الخطر في مقامهم إذا ملك أسد الدين مصر أشد فتركوا في بلادهم من يحفظها وسار ملك القدس في الباقين إلى مصر‏.‏

وكان قد وصل إلى الساحل جمع كثير من الفرنج في البحر لزيارة البيت المقدس فاستعان بهم الفرنج الساحلية فأعانوهم فسار بعضهم معهم وأقام بعضهم في البلاد لحفظها فلما قارب الفرنج مصر فارقها أسد الدين وقصد مدينة بلبيس فأقام بها هو وعسكره وجعلها له ظهرًا يتحصن به فاجتمعت العساكر المصرية والفرنج ونازلوا أسد الدين شيركوه بمدينة بلبيس وحصروه بها ثلاثة أشهر وهو ممتنع بها مع أن سورها قصير جدًا وليس لها خندق ولا فصيل يحميها وهو يغاديهم القتال ويراوحهم فلم يبلغوا منه غرضًا ولا نالوا منه شيئًا‏.‏

فبينما هم كذلك إذ أتاهم الخبر بهزيمة الفرنج على حارم وملك نور الدين حارم ومسيره إلى بانياس على ما نذكره عن شاء الله تعالى فحينئذ سقط في أيديهم وأرادوا العودة إلى بلادهم ليحفظوها فراسلوا أسد الدين في الصلح والعد إلى الشام ومفارقة مصر وتسليم ما بيده منها إلى المصريين فأجابهم إلى ذلك لأنه لم يعلم ما فعله نور الدين بالشام بالفرنج ولأن الأقوات والذخائر قلت عليهن وخرج من بلبيس في ذي الحجة‏.‏

فحدثني من رأى أسد الدين حين خرج من بلبيس قال‏:‏ أخرج أصحابه بين يديه وبقي في آخرهم وبيده لت من حديد يحمي ساقتهم والمسلمون والفرنج ينظرون إليه‏.‏

قال‏:‏ فأتاه فرنجي من الغرباء الذين خرجوا من البحر فقال له‏:‏ أما تخاف أن يغدر بك هؤلاء المصريون والفرنج وقد أحاطوا بك وبأصحابك ولا يبقى لكم بقية فقال شيركوه‏:‏ يا ليتهم علوه حتى كنت ترى ما أفعله كنت والله أضع السيف فلا يقتل منا رجل حتى يقتل منهم رجالًا وحينئذ يقصدهم الملك العادل نور الدين وقد ضعفوا وفني شجعانهم فنملك بلادهم ويهلك من بقي منهم والله لو أطاعني هؤلاء لخرجت إليكم من أول يوم ولكنهم امتنعوا‏.‏

فصلب على وجهه وقال‏:‏ كنا نعجب من فرنج هذه البلاد ومبالغتهم في صفتك وخوفهم منك والآن فقد عذرناهم ثم رجع عنه‏.‏

وسار شيركوه إلى الشام فوصل سالمًا وكان الفرنج قد وضعوا له على مضيق في الطريق رصدًا ليأخذوه أو ينالوا منه ظفرًا فعلم بهم فعاد عن ذلك الطريق ففيه يقول عمارة التميمي‏:‏ أخذتم على الإفرنج كل ثنية وقلتم لأيدي الخيل مري على مري ولفظة مري في أخر البيت الأول اسم ملك الفرنج‏.‏

ذكر هزيمة الفرنج وفتح حارم

في هذه السنة في شهر رمضان فتح نور الدين محمود زنكي قلعة حارم من الفرنج وسبب ذلك أن نور الدين لما عاد منهزمًا من البقيعة تحت حصن الأكراد كما ذكرناه من قبل فرق الأموال والسلاح وغير ذلك من الآلات على ما تقدم فعاد العسكر كأنهم لم يصابوا وأخذوا في الاستعداد للجهاد والأخذ بثأره‏.‏

واتفق مسير بعض الفرنج مع ملكهم في مصر كما ذكرناه فأراد أن يقصد بلادهم ليعودوا عن مصر فأرسل إلى أخيه قطب الدين مودود صاحب الموصل وديار الجزيرة وإلى فخر الدين قرا أرسلان صاحب حصن كيفا وإلى نجم الدين ألبي صاحب ماردين وغيرهم من أصحاب الأطراف يستنجدهم فأما قطب الدين فإنه جمع عسكره وسار مجدًا وفي مقدمته زين الدين علي أمير جيشه وأما فخر الدين صاحب الحصن فبلغني عنه أنه قال له ندماؤه وخواصه‏:‏ على أي شيء عزمت فقال‏:‏ فقال‏:‏ على القعود فإن نور الدين قد تحشف من كثرة الصوم والصلاة وهو يلقي نفسه والناس معه في المهالك فكلهم وافقه على هذا الرأي فلما كان الغد أمر بالتجهز للغزاة فقال له أولئك‏:‏ ما عدا مما بدا فارقناك أمس على حالة فنرى اليوم ضدها فقال‏:‏ إن نور الدين قد سلك معي طريقًا إن لم أنجده خرج أهل بلادي عن طاعتي واخرجوا البلاد عن يدي فإنه قد كاتب زهادها وعبادها والمنقطعين عن الدنيا فلم يذكر لهم ما لقي المسلمون من الفرنج وما نالهم من القتل والأسر ويستمد نهم الدعاء ويطلب أن يحثوا المسلمين على الغزاة فقد قعد كل واحد من اولئك ومعه أصحابه وأتباعه وهم يقرؤون كتب نور الدين ويبكون ويلعنونني ويدعون علي فلا بد من المسير إليه ثم تجهز وسار بنفسه‏.‏

وأما نجم الدين فإنه سير عسكرًا فلما اجتمعت العساكر سار نحو حارم فحصرها ونصب عليها المجانيق وتابع الزحف إليها فاجتمع من بقي بالساحل من الفرنج فجاؤوا في حدهم وحديدهم وملوكهم وفرسانهم وقسيسهم ورهبانهم وأقبلوا إليه من كل حدب ينسلون وكان المقدم عليهم البرنس بيمند صاحب أنطاكية وقمص صاحب طرابلس وأعمالها وابن جوسلين وهو من مشاهير الفرنج والدوك وهو مقدم كبير من الروم وجمعوا الفارس والراجل فلما قاربوه رحل عن حارم إلى أرتاح طمعًا أن يتبعوه فيتمكن منهم لبعدهم عن بلادهم إذا لقوه فساروا فنزلوا على غمر ثم علموا عجزهم عن لقائه فعادوا إلى حارم فلما عادوا تبعهم نور الدين في أبطال المسلمين على تعبئة الحرب‏.‏

فلما تقاربوا اصطفوا للقتال فبدأ الفرنج بالحملة على ميمنة المسلمين وفيها عسكر حلب وصاحب الحصن فانهزم المسلمون فيها وتبعهم الفرنج فقيل كانت تلك الهزيمة من الميمنة على اتفاق ورأي دبروه وهو أن يتبعهم الفرنج فيبعدوا عن راجلهم فيميل عليهم من بقي من المسلمين بالسيوف فيقتلوهم فإذا عاد فرسانهم لم يلقوا راجلًا يلجأون إليه ولا وزرًا يعتمدون عليه ويعود المنهزمون في أثارهم فيأخذهم المسلمون من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم فكان الأمر على ما دبروه‏:‏ فإن الفرنج لما تبعوا المنهزمين عطف زين الدين علي في عسكر الموصل على راجل الفرنج فأفناهم قتلًا وأسرًا وعاد خيالتهم ولم يمعنوا في الطلب خوفًا على راجلهم فعاد المنهزمون في آثارهم فلما وصل الفرنج رأوا رجالهم قتلى وأسرى فسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد هلكوا وبقوا في الوسط قد أحدق بهم المسلمون من كل جانب فاشتدت الحرب وقامت على ساق وكثر القتل في الفرنج وتمت عليهم الهزيمة فعدل حينئذ المسلمون من القتل إلى الأسر فأسروا ما لا يحد وفي جملة الأسرى صاحب أنطاكية والقمص صاحب طرابلس وكان شيطان الفرنج وأشدهم شكيمة على المسلمين والدوك مقدم الروم وابن جوسلين وكانت عدة القتلى تزيد على عشرة آلاف قتيل‏.‏

وأشار المسلمون على نور الدين بالمسير إلى أنطاكية وتملكها لخلوها من حام يحميها ومقاتل يذب عنها فلم يفعلن وقال‏:‏ أما المدينة فأمرها سهل وأما القلعة فمنيعة وربما سلموها إلى ملك الروم لأن صاحبها ابن أخيه ومجاوره بيمند أحب إلي من مجاورة صاحب قسطنطينية وبث السرايا في تلك الأعمال فنهبوها وأسروا أهلها وقتلوهم ثم إنه فادى بيمند البرنس صاحب أنطاكية بمال جزيل وأسرى من المسلمين كثيرة أطلقهم‏.‏

ذكر ملك نور الدين قلعة بانياس من الفرنج أيضًا

في ذي الحجة من هذه السنة فتح نور الدين محمود قلعة بانياس وهي بالقرب من دمشق وكانت بيد الفرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ولما فتح حارم أذن لعسكر الموصل وديار بكر بالعود إلى بلادهم وأظهر أنه يريد طبرية فجعل من بقي من الفرنج همتهم حفظها وتقويتها فسار محمود إلى بانياس لعلمه بقلة من فيها من الحماة الممانعين عنها ونازلها وضيق عليها وقاتلها وكان في جملة عسكره أخوه نصرة الدين أمير أميران فأصابه سهم فأذهب إحدى عينيه فلما رآه نور الدين قال له‏:‏ لو كشف لك عن الآجر الذي أعد لك لتمنيت ذهاب الأخرى وجد في حصارها فسمع الفرنج فجمعوا فلم تتكامل عدتهم حتى فتحها على أن الفرنج كانوا قد ضعفوا بقتل رجالهم بحارم وأسرهم فملك القلعة وملأها ذخائر وعدة ورجالًا ووصل خبر ملك حارم وحصر بانياس إلى الفرنج بمصر فصالحوا شيركوه وعادوا ليدركوا بانياس فلم يصلوا إلا وقد ملكها ولما عاد منها إلى دمشق كان بيده خاتم بفص ياقوت من أحسن الجوهر وكان يسمى الجبل لكبره وحسنه فسقط من يده في شعاري بانياس وهي كثيرة الأشجار ملتفة الأغصان فلما أبعد عن المكان الذي ضاع فيه علم به فأعاد بعض أصحابه في طلبه ودلهم على المكان الذي كان آخر عهده به فيه وقال‏:‏ أظن هناك سقط فعادوا إليه فوجدوه فقال بعض الشعراء الشاميين أظنه ابن منير يمدحه ويهنئه بهذه الغزاة ويذكر الجبل الياقوت‏:‏ إن يمتر الشكاك فيك بأنك ال مهدي مطفي جمرة الدجال فلعودة الجبل الذي أضللته بالأمس بين غياطل وجبال لم يعطها إلا سليمان وقد الربا بموشك الأعجال رحرحى لسرير ملكك إنه كسريره على كل حد عال فلو البحار السبعة استهوينه وأمرتهن قذفنه في الحال ولما فتح الحصن كان معه ولد معين الدين أنز الذي سلم بانياس إلى الفرنج فقال له‏:‏ للمسلمين بهذا الفتح فرحة واحدة ولك فرحتان فقال‏:‏ كيف ذاك قال‏:‏ لأن اليوم برد الله جلد والدك

ذكر أخذ الأتراك غزنة من ملكشاه وعوده إليها

في هذه السنة قصد بلاد غزنة الأتراك المعروفون بغز ونهبوها وخربوها وقصدوا غزنة وبها صاحبها ملكشاه بن خسروشاه المحمودي فعلم أنه لا طاقة له بهم ففارقها وسار إلى مدينة لهاور وملك الغز مدينة غزنة وكان القيم بأمرهم أمير اسمه زنكي بن علي بن خليفة الشيباني ثم إن صاحبها ملكشاه جمع وعاد إلى غزنة ففارقها زنكي وعاد ملكها ملكشاه ودخلهافي جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وخمسمائة وتمكن من دار ملكه‏.‏

ذكر وفاة جمال الدين الوزير وشيء من سيرته

في هذه السنة توفي جمال الدين أبو جعفر محمد بن علي بن أبي منصور الأصفهاني وزير قطب الدين صاحب الموصل في شعبان مقبوضًا وكان قد قبض عليه سنة ثمان وخمسين فبقي في الحبس نحو سنة حكى لي أنسان صوفي يقال له أبو القاسم كان مختصًا بخدمته في الحبس قال‏:‏ لم يزل محبوسًا في محبسه بأمر آخرته وكان يقول‏:‏ كنت أخشى أن أنقل من الدست إلى القبر فلما مرض قال لي في بعض الأيام‏:‏ يا أبا القاسم‏!‏ إذا جاء طائر أبيض إلى الدار فعرفني‏.‏

قال‏:‏ فقلت في نفسي قد اختلط عقله فلما كان الغد أكثر السؤال عنه وإذا طائر أبيض لم أرى مثله قد سقط فقلت‏:‏ جاء الطائر فاستبشر ثم قال‏:‏ جاء الحق وأقبل على الشهادة وذكر الله تعالى إلى أن توفي فلما توفي طار ذلك الطائر فعلمت أنه رأى شيئًا في معناه‏.‏

ودفن بالموصل عند فتح الكرامي رحمة الله عليهما نحو سنة ثم نقل إلى المدينة فدفن بالقرب من حرم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رباط بناه لنفسه هناك وقال لأبي القاسم‏:‏ بيني وبين أسد الدين شيركوه عهد من مات منا قبل صاحبه حمله إلى المدينة النبوية فدفنه بها في التربة التي عملها فإذا أنا مت فامض إليه وذكره فلما توفي سار أبا القاسم إلى شيركوه في المعنى فقال له‏:‏ شيركوه‏:‏ كم تريد فقال‏:‏ أريد أجرة جمل يحمله وجمل يحملني وزادي فانتهره وقال‏:‏ مثل جمال الدين يحمل هكذا إلى مكة‏!‏ وأعطاه مالًا صالحًا ليحمل معه جماعة يحجون عن جمال الدين وجماعة يقرأون عليه بين يدي تابوته إذا حمل وإذا نزل عن الجمل وإذا وصل مدينة يدخل أولئك القراء ينادون للصلاة عليه فيصلى عليه من كل بلدة يجتاز بها وأعطاه أيضًا مالًا للصدقة عنه فصلي عليه في تكريت وبغداد والحلة وفيد مكة والمدينة وكان يجتمع له في كل بلد من الخلق ما لا يحصى ولما أرادوا الصلاة عليه بالجلة صعد شاب على موضع مرتفع وأنشد سرى نعشه فوق الرقاب وطالما سرى جوده فوق الركاب ونائله يمر على الوادي فتثني رماله عليه وبالنادي فتثني أرامله فلم نر باكيًا أكثر من ذلك اليوم ثم وصلوا به إلى مكة فطافوا به حول الكعبة وصلوا عليه بالحرم الشريف وبين قبره وقبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نحو خمسة عشر ذراعًا‏.‏

وأما سيرته فكان رحمه الله أسخى الناس وأكثرهم بذلًا للمال رحيمًا بالخلق متعطفًا عليهم عادلًا فيهم فمن أعماله الحسنة أنه جدد بناء مسجد الخيف بمنى وغرم عليه أموالًا جسيمة وبنى الحجر بجانب الكعبة وزخرف الكعبة وذهبها وعملها بالرخام ولما أراد ذلك أرسل إلى المقتفي لأمر الله هدية جليلة وطلب منه ذلك وأرسل إلى الأمير عيسى أمير مكة هدية كثيرة وخلعًا سنية منها عمامة مشتراها ثلاثمائة دينار حتى مكنه من ذلك‏.‏

وعمر أيضًا المسجد الذي على جبل عرفات والدرج التي يصعد فيها إليه وكان الناس يلقون شدة في صعودهم وعمل بعرفات أيضًا مصانع للماء وأجرى الماء إليها من نعمان في طرق معمولة تحت الأرض فخرج عليها مال كثير‏.‏

وكان يجري الماء في المانع كل سنة أيام عرفات وبنى سورًا على مدينة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى فيد وبنى لها أيضًا فصيلًا‏.‏

وكان يخرج من باب داره كل يوم للصعاليك والفقراء مائة دينار أميري هذا سوى الإدارات ومن أبنيته العجيبة التي لم ير الناس مثلها الجسر الذي بناه على دجلة عند جزيرة ابن عمر بالحجر المنحوت والحديد والرصاص والكلس فقبض قبل أن يفرغ وبنى عندها أيضًا جسرًا كذلك على النهر المعروف بالارباد وبنى الربط وقصده الناس من أقطار الأرض ويكفيه أن ابن الخجندي رئيس أصحاب الشافعي بأصفهان قصده وابن الكافي قاضي قضاة همذان فاخرج عليهما مالًا عظيمًا وكانت صدقاته وصلاته من أقاصي خراسان إلى حدود اليمن‏.‏

وكان يشتري الأسرى كل سنة بعشرة آلاف دينار هذا من الشام حسب سوى ما يشتري من الكرج‏.‏

حكى لي وادي عنه قال‏:‏ كثيرًا ما كنت أرى جمال الدين إذا قدم إليه الطعام يأخذ منه ومن الحلوى ويتركه في خبز بين يديه فكنت أنا ومن يراه يظن أنه يحمله إلى أم ولده علي فاتفق أنه في بعض السنين جاء إلى الجزيرة مع قطب الدين وكنت أتولى ديوانها وحمل جاريته أم ولده إلى داري لتدخل الحمام فبقيت في الدار أيامًا فبينما أنا عنده في الخيام وقد أكل الطعام فعل كما كان يفعل ثم تفرق الناس فقمت فقال‏:‏ اقعد‏.‏

فقعدت فلما خلا المكان قال لي‏:‏ قد آثرتك اليوم على نفسي فإنني في الخيام ما يمكنني أن أفعل ما كنت أفعله خذ هذا الخبز واحمله أنت في كمك في هذا المنديل واترك الحماقة من رأسك وعد إلى بيتك فإذا رأيت في طريقك فقيرًا

يقع في نفسك أنه مستحق فاقعد أنت بنفسك وأطعمه هذا الطعام‏.‏

قال‏:‏ ففعلت ذلك‏.‏

وكان معي جمع كثير ففرقتهم في الطريق لئلا يروني أفعل ذلك وبقيت في غلماني فرأيت في موضع إنسانًا أعمى وعنده أولاده وزوجته وهم من الفقر في حال شديد فنزلت عن دابتي إليهم وأخرجت الطعام وأطعمتهم إياه وقلت للرجل‏:‏ تجيء غدًا بكرة إلى دار فلان أعني داري ولم أعرفه نفسي فإنني أخذ لك من صدقة جمال الدين شيئًا ثم ركبت إليه العصر فلما رآني قال‏:‏ ما الذي فعلت في الذي قلت لك فأخذت أذكر له شيئًا يتعلق بدولتهم فقال‏:‏ ليس عن هذا أسألك إنما أسألك عن الطعام الذي سلمته إليك فذكرت له الحال ففرح ثم قال‏:‏ بقي أنك لو قلت للرجل يجيء إليك هو وأهله فتكسوهم وتعطيهم دنانير وتجري لهم كل شهر دينارًا‏.‏

قال‏:‏ فقلت له‏:‏ قد قلت للرجل حتى بجيء إلي فازداد فرحًا وفعلت بالرجل ما قال ولم يزل يصل إليه رسمه حتى قبض‏.‏

وله من هذا كثير فمن ذلك أنه تصدق بثيابه من على بدنه في بعض السنين التي تعذرت الأقوات فيها‏.‏

ذكر إجلاء القارغلية من وراء النهر

كان خان خانان الصيني ملك الخطا قد فوض ولاية سمرقند وبخارى إلى الخان جغري خان ابن حين تكين واستعمله عليها وهو من بيت الملك قديم الأبوة فبقي فيها مدبر لأمورها فلما كان الآن أرسل إليه ملك الخطا بإجلاء الأتراك القارغلية من أعمال بخارى وسمرقند إلى كاشغر وأن يتركوا حمل السلاح ويشتغلوا بالزراعة وغيرها من الأعمال فتقدم جغري خان إليهم بذلك فامتنعوا فالزمهم وألح عليهم بالانتقال فاجتمعوا وصارت كلمتهم واحدة فكثروا وساروا إلى بخارى فأرسل الفقيه محمد بن عمر بن برهان الدين عبد العزيز بن مازة رئيس بخارى إلى جغري خان يعلمه ذلك ويحثه على الوصول إليهم بعساكره قبل أن يعظم شرهم وينهبوا البلاد‏.‏

وأرسل إليهم ابن مازة يقول لهم‏:‏ إن الكفار بالأمس لما طرقوا هذه البلاد امتنعوا عن النهب والقتل وأنتم مسلمون غزاة يقبح منكم مد الأيدي إلى الأموال والدماء وأنا أبذل لكم من الأموال ما ترضون به لتكفوا عن النهب والغارة فترددت الرسل بينهم في تقرير القاعدة وابن مازة يطاول بهم ويمادي الأيام إلى أن وصل جغري خان فلم يشعر الأتراك القارغلية إلا وقد دهمهم جغري خان في جيوشه وجموعه بغتة ووضع السيف فيهم فانهزموا وتفرقوا وكثر القتل فيهم والنهب واختفى طائفة منهم في الغياض والآجام ثم ظفر بهم أصحاب جغري خان فقطعوا دابرهم ودفعوا عن بخارى وضواحيها ضررهم وخلت تلك الأرض منهم‏.‏

في هذه السنة استولى الأمير صلاح الدين سنقر وهو من مماليك السنجرية وعلى بلاد الطالقان وأغار على حدود غرشستان وتابع الغارات عليها حتى ملكها فصارت الولايتان له وبحكمه وله فيها حصون منيعة وقلاع حصينة وصالح الأمراء الغزية وحمل لهم الإتاوة كل سنة‏.‏

ذكر قتل صاحب هراة

كان صاحب هراة الأمير إيتكين بينه وبين الغز مهادنة فلما توفي ملك الغور محمد طمع في بلادهم فغزاهم غير مرة ونهب وأغار فلما كان في شهر رمضان من هذه السنة جمع إيتكين جموعه وسار إلى بلاد الغور وساروا إلى باميان وإلى ولاية بست والرخج فسلمهما إلى بعض أولاد ملك الغور وأما إيتكين فإنه توغل في بلاد الغور فأتاه أهلها وقاتلوه وصدوه وصدقوه القتال فانهزم عسكره وقتل هو في المعركة‏.‏

ذكر ملك شاه مازندران قومس وبسطام

قد ذكرنا استيلاء المؤيد صاحب نيسابور على قومس وبسطام وتلك البلاد وأنه استناب بها مملوكه تنكز فلما كان هذه السنة جهز شاه مازندران جيشًا واستعمل عليهم أميرًا له يعرف بسابق الدين القزويني فسار إلى دامغان فملكها فجمع تنكز من عنده من العساكر وسار إليه إلى دامغان فخرج إليه القزويني فوصل إلى تنكز على غرة منه فلم يشعر ه وعسكره إلا وقد كبسهم القزويني ووضع السيف فيهم فتفرقوا وولوا منهزمين واستولى عسكر شاه مازندران على تلك البلاد وعاد تنكز إلى المؤيد صاحب نيسابور واشتغل بالغرة على بسطام وبلاد قومس‏.‏

ذكر عصيان غمارة بالمغرب

لما تحقق الناس موت عبد المؤمن سنة تسع وخمسين ثارت قبائل غمارة مع مفتاح بن عمرو وكان مقدمًا كبيرًا فيهم وتبعوه بأجمعهم وامتنعوا في جبالهم وهي معاقل مانعة وهم أمم جمة فتجهز إليهم أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ومعه أخواه عمرو وعثمان في جيش كبير من الموحدين والعرب وتقدموا إليهم فاقتتلوا سنة إحدى وستين وخمسمائة فانهزمت غمارة وقتل منهم كثير وفيمن قتل مفتاح بن عمرو مقدمهم وجماعة من أعيانهم ومقدميهم وملكوا بلادهم عنوة‏.‏

وكان هناك قبائل كثيرة يريدون الفتنة فانتظروا ما يكون من غمارة فلما قتلوا ذلت تلك القبائل

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة أغار الأمير محمد بن أنز على بلد الإسماعيلية بخراسان وأهلها غافلون فقتل منهم وغنم وسبى وأكثر وملأ أصحابه أيديهم من ذلك‏.‏

وفيها توفي أبو الفضل نصر بن خلف ملك سجستان وعمره أكثر من مائة سنة ومدة ملكه ثمانون سنة وملك بعده ابنه شمس الدين أبو الفتح احمد بن نصر وكان أبو الفضل ملكًا عادلًا عفيفًا عن رعيته وله آثار حسنة في نصرة السلطان سنجر في غير موقف‏.‏

وفيها خرج ملك الروم من القسطنطينية في عساكر لا تحصى وقصد بلاد الإسلام التي بيد قلج أرسلان وابن دانشمند فاجتمع التركمان في تلك البلاد في جمع كبير فكانوا يغيرون على أطراف عسكره ليلًا فإذا أصبح لا يرى أحدًا‏.‏

وكثر القتل في الروم حتى بلغت عدة القتلى عشرات ألوف فعاد إلى القسطنطينية ولما عاد ملك المسلمون منه عدة حصون‏.‏

وفيها توفي الإمام عمر الخوارزمي خطيب بلخ ومفتيها بها والقاضي أبو بكر المحمودي صاحب التصانيف والأشعار وله مقامات بالفارسية على نمط مقامات الحريري بالعربية‏.‏

ذكر وفاة شاه مازندران وملك ابنه بعده

في هذه السنة ثامن ربيع الأول توفي شاه مازندران رستم بن علي ابن شهريار بن قارن ولما توفي كتم ابنه الحسن بن علاء الدين موته أيامًا حتى استولى على سائر الحصون والبلاد ثم أظهره فلما ظهر خبر وفاته أظهر إيثاق صاحب جرجان ودهستان المنازعة لولده في الملك ولم يرع حق أبيه عليه فإنه لم يزل يذب عنه ويحميه إذا التجأ إليه ولكن الملك عقيم ولم يحصل من منازعته على شيء غير سوء السمعة وقبح الأحدوثة‏.‏

ذكر حصر عسكر المؤيد نسا ورحيلهم عنها

كان المؤيد قد سير جيشًا إلى مدينة نسا فحصرها إلى جمادى الأولى في هذه السنة فسير خوارزم شاه ايل أرسلان بن أتسز جيشًا إلى نسا فلما قربوها رحل عنها عسكر المؤيد وعادوا إلى نيسابور أواخر جمادى الأولى‏.‏

وسار عسكر المؤيد إلى عسكر خوارزم لأنهم توجهوا إلى نيسابور فتقدم العسكر المؤيدي ليردهم عنها فلما سمع العسكر الخوارزم بهم رجع عنهم وصار صاحب نسا في طاعة خوارزمشاه والخطبة له فيها‏.‏

وسار عسكر خوارزم إلى دهستان فالتجأ صاحبها الأمير إيثاق إلى المؤيد صاحب نيسابور بعد تمكن الوحشة بينهما فقبله المؤيد وسير إليه جيشًا كثيفًا فأقاموا عنده حتى دفع الضرر عن نفسه وبلده من جهة طبرستان وأما دهستان فإن عسكر خوارزم غلبوا عليها وصار لهم فيها شحنة‏.‏

ذكر استيلاء المؤيد على هراة


قد ذكرنا قتل صاحب هراة سنة تسع وخمسين فلما قتل تجهز الأمراء الغزية وساروا إلى هراة وحصروها وقد تولى أمرها إنسان يلقب أثير الدين وكان له ميل إلى الغز وهو يحاربهم ظاهرًا ويراسلهم باطنًا فهلك لهذا السبب خلق كثير من اهل هراة فاجتمع أهلها فقتلوه وقام مقامه أبو الفتوح علي بن فضل الله الطغرائي فأرسل أهلها إلى المؤيد أي أبه صاحب نيسابور بالطاعة والانقياد إليه فسير إليهم مملوكه سيف الدين تنكز في جيش وسير جيشًا آخر أغاروا على سرخس ومرو فاخذوا دواب الغز وعادوا سالمين‏.‏ فلما سمع الغز بذلك رحلوا عن هراة إلى مرو‏.‏

ذكر الحرب بين قلج ارسلان وبين ابن دانشمند

في هذه السنة كانت الفتنة بين الملك قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان صاحب قونية وما يجاورها من بلد الروم وبين ياغي أرسلان بن دانشمند صاحب ملطية وما يجاورها من بلد الروم وجرى بينهما حرب شديدة‏.‏

وسببها ان قلج أرسلان تزوج ابنة الملك صليق بن علي بن أبي القاسم فسيرت الزوجة إلى قلج أرسلان مع جهاز كثير لا يعلم قدره وأغار ياغي أرسلان صاحب ملطية عليه وأخذ العروس وما معها وأراد أن يزوجها بابن أخيه ذي النون بن محمد بن دانشمند فامرها بالردة عن الإسلام ففعلت لينفسخ النكاح من قج أرسلان ثم عادت إلى اللإسلام فزوجها من ابن أخيه فجمع قلج ارسسلان عسكره وسار إلى ابن دانشمند فالتقيا واقتتلا فانهزم قلج أرسلان والتجأ إلى ملك الروم واستنصره فأرسل إليه جيشًا كثيرًا فمات ياغي أرسلان بن دانشمند في تلك الأيام وملك قلج أرسلان بعض بلاده واصطلح هو والملك إبراهيم بن محمد بن دانشمند لأنه ملك البلاد بعد عمه أرسلان واستولى ذو النون بن محمد بن دانشمند على مدينة قيسارية وملك شاهان شاه بن مسعود أخو قلج أرسلان على مدينة أنكورية واستقرت القاعدة بينهم واتفقوا‏.‏

في هذه السنة كانت وحشة متأكدة بين نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام وبين قلج ارسلان بن مسعود بن قلج أرسلان صاحب الروم أدت إلى الحرب والتضاغن فلما بلغ خبرها إلى مصر كتب الصالح بن رزيك وزير صاحب مصر إلى قلج أرسلان ينهاه عن ذلك ويأمره بموافقته وكتب فيه شعرًا‏:‏ نقول ولكن أين من يتفهم ويعلم وجه الرأي والرأي مبهم وما كل من قاس الأمور وساسها يوفق للأمر الذي هو أحزم وما أحد في الملك يبقى مخلدًا وما أحد مما قضى الله يسلم أمن بعد ما ذاق العدى طعم حربكم بفيهم وكانت وهي صاب وعلقم رجعتم إلى حكم التنافس بينكم وفيكم من الشحناء نار تضرم أما عندكم من يتقي الله وحده أما في رعاياكم من الناس مسل تعالوا لعل الله ينصر دينه إذا ما نصرنا الدين نحن وأنتم وننهض نحو الكافرين بعزمة بأمثالها تحوى البلاد وتقسم وهي أطول من هذا‏.‏

هكذا ذكر بعض العلماء هذه الحادثة وأن الصالح أرسل بهذا الشعر فإن كان الشعر للصالح فينبغي ان تكون قبل هذا التاريخ لأن الصالح قتل سنة ست وخمسين في رمضان وإن لم يكن الشعر له فالحادثة في هذا التاريخ ويحتمل أن يكون هذا التنافس كان أيام الصالح فكتب الأبيات ثم امتد إلى الآن‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في صفر وقع بأصفهان فتنة عظيمة بين صدر الدين عبد اللطيف بن الخجندي وبين القاضي وغيره من أصحاب المذاهب بسبب التعصب للمذاهب فدام القتال بين الطائفتين ثمانية أيام متتابعة قتل فيها خلق كثير واحترق وهدم كثير من الدور والأسواق ثم افترقوا على أقبح صورة‏.‏

وفيها بنى الإسماعيلية قلعة بالقرب من قزوين فقيل لشمس الدين إيلدكز عنها فلم يكن له إنكار لهذه الحال خوفًا من شرهم وغائلتهم فتقدموا بعد ذلك إلى قزوين فحصروها وقاتلهم أهلها أشد قتال رآه الناس‏.‏

وحكى لي بعض أصدقائنا بل مشايخنا من الأئمة الفضلاء قال‏:‏ كنت بقزوين أشتغل بالعلم وكان بها إنسان يقود جمعًا كبيرًا وكان موصوفًا بالشجاعة وله عصابة حمراء إذا قاتل عصب بها رأسه قال‏:‏ كنت أحبه وأشتهي الجلوس معه فبينما أنا عنده يومًا إذا هو يقول‏:‏ كأني بالملاحدة وقد قصدوا البلد غدًا فخرجنا إليهم وقاتلناهم فكنت أول الناس وأنا متعصب بهذه العصابة فقاتلناهم فلم يقتل غيري ثم ترجع الملاحدة ويرجع أهل البلد‏.‏

قال‏:‏ فوالله لما كان الغد إذ وقع الصوت بوصول الملاحدة فخرج الناس قال‏:‏ فذكرت قول الرجل فخرجت والله ليس لي همة إلا أن أنظر هل يصح ما قال أم لا‏.‏

قال‏:‏ فلم يكن إلا قليل حتى عاد الناس وهو محمول على أيديهم قتيلًا بعصابته الحمراء وذكروا أنه لم يقتل بينهم غيره فبقيت متعجبًا من قوله كيف صح ولم يتغير منه شيء ومن أين له هذا اليقين ولما حكى لي هذه الحكاية لم أسأله عن تاريخها وإنما كان في هذه المدة في تلك البلاد فلهذا أثبتها هذه السنة على الظن والتخمين‏.‏

وفيها قبض المؤيد أي أبه صاحب نيسابور على وزيره ضياء الملك بن أبي طالب سعد بن أبي القاسم محمود الرازي وحبسه واستوزر بعده نصير الدين أبا بكر محمد بن أبي نصر محمد المستوفي وكان أيام السلطان سنجر يتولى إشراف ديوانه وهو من أعيان الدولة السنجرية‏.‏

و في هذه السنة وردت الأخبار أن الناس حجوا سنة تسع وخمسين ولقوا شدة وانقطع منهم خلق كثير في فيد والثعلبية وواقصة وغيرها وهلك كثير ولم يمض الحاج إلى مدينة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذه الأسباب ولشدة الغلاء فيها وعدم ما يقتات ووقع الوباء في البادية وفيها في صفر قبض المستنجد بالله على الأمير توبة بن العقيلي وكان قد هرب منه قربًا عظيمًا بحيث يخلو معه وأحبه المستنجد محبة كثيرة فحسده الوزير ابن هبيرة فوضع كتبًا من العجم مع قوم وأمرهم أن يتعرضوا ليؤخذوا ففعلوا ذلك وأخذوا وأحضروا عند الخليفة فأظهروا الكتب بعد الامتناع الشديد فلما وقف الخليفة عليها خرج إلى نهر الملك يتصيد وكانت حلل توبة على الفرات فحضر عنده فأمر بالقبض عليه فقبض وأدخل بغداد ليلًا وحبس فكان آخر العهد به فلم يمتع الوزير بعده بالحياة بل مات بعد ثلاثة أشهر‏.‏

وكان توبة من أكمل العرب مروءة وعقلًا وسخاء وإجازة واجتمع فيه من خلال الكمال ما تفرق في الناس‏.‏

وفيها في ربيع الأول توفي الشهاب محمود بن عبد العزيز الحامدي الهروي وزير السلطان أرسلان ووزير أتابكه شمس الدين إيلدكز‏.‏

وفيها توفي عون الدين الوزير ابن هبيرة واسمه يحيى بن محمد أبو المظفر ووزير الخليفة وكان موته في جمادى الأولى ومولده سنة تسعين وأربعمائة ودفن بالمدرسة التي بناها للحنابلة بباب البصرة وكان حنبلي المذهب دينًا خيرًا عالمًا يسمع حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وله فيه التصانيف الحسنة وكان ذا رأي سديد ونافق على المقتفي نفاقًا عظيمًا حتى إن وتوفي بهذه السنة محمد بن سعد البغدادي بالموصل وله شعر حسن فمن قوله‏:‏ أفدي الذي وكلني حبه بطول إعلال وإمراض ولست أدري بعد ذا كله أساخط مولاي أم راض وفيها توفي الشيخ الإمام أبو القاسم عمر بن عكرمة بن البرزي الشافعي تفقه على الفقيه الكيا الهراسي وكان واحد عصره في الفقه تأتيه الفتاوى من العراق وخراسان وسائر البلاد وهو من جزيرة ابن عمر‏.‏

ثم دخلت سنة إحدى وستين وخمسمائة

ذكر فتح المنيطرة من بلد الفرنج

في هذه السنة فتح نور الدين محمود بن زنكي حصن المنيطرة من الشام وكان بيد الفرنج ولم يحشد له ولا جمع عساكره وإنما سار إليه جريدة على غرة منهم وعلم أنه إن جمع العساكر حذروا وجمعوا وانتهز الفرصة وسار إلى المنيطرة وحصره وجد في قتاله فأخذه عنوة وقهرًا وقتل من بها وسبى وغنم غنيمة كثيرة فإن الذين به كانوا أمنين فأخذتهم خيا الله بغتة وهم لا يشعرون ولم يجتمع للفرنج لدفعه إلا وقد ملكه ولو علوا أنه جريدةفي قلة من العساكر لأسرعوا

ذكر قتل خطلبرس مقطع واسط

في هذه السنة قتل خطلبرس مقطع واسط قتله ابن أخي شملة صاحب خوزستان‏.‏

وسبب ذلك أن ابن سنكا وهو ابن أخي شملة كان قد صاهر منكوبرس مقطع البصرة فاتفق أن المستنجد بالله قتل منكوبرس سنة تسع وخمسين وخمسمائة فلما قتل قصد ابن سنكا البصرة ونهب قراها فأرسل من بغداد إلى كمشتكين صاحب البصرة بمحاربة ابن سنكا فقال‏:‏ أنا عامل لست بصاحب جيش يعني أنه ضامن لا يقدر على إقامة عسكر فطمع ابن سنكا وأصعد إلى واسط ونهب سوادها فجمع خطلبرس مقطعها جمعًا وخرج إلى قتاله‏.‏

وكاتب ابن سنكا الأمراء الذين مع خطلبرس فاستمالهم ثم قاتلهم فانهزم عسكره فقتله وأخذ ابن سنكا علم خطلبرس فنصبه فلما رآه أصحابه ظنوه باقيًا فجعلوا يعودون إليه وكل من رجع أخذه ابن سنكا فقتله وأسره‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة خرج الكرج في جمع كثير وأغاروا على البلدان حتى بلغوا كنجة فقتلوا واسروا وسبوا ونهبوا ما لا يحصى‏.‏ مشهور ويروي عن أحمد بن خلف وغيره‏.‏

وفيها في ربيع الآخر توفي الشيخ عبد القادر بن أبي صالح أبو محمد الجيلي المقيم ببغداد ومولده سنة سبعين وأربعمائة وكان من الصلاح على حالة كبيرة وهو حنبلي المذهب ومدرسته ورباطه مشهوران ببغداد‏.‏  ‏      ‏   ‏ ‏ ‏ ‏ ‏  ‏