المجلد العاشر - ذكر حصر نور الدين الكرك

في هذه السنة في جمادى الآخرة سار نورالدين إلى بلاد الفرنج فحصر الكرك وهو امنع المعاقل على طرف البر‏.‏

وكان سبب ذلك أن صلاح الدين أرسل إلى نور الدين يطلب أن يرسل إليه والده نجم الدين أيوب فجهزه نور الدين وسيره وسير معه عسكرًا واجتمع معه من التجار خلق كثير وانضاف إليهم من كان له مع صلاح الدين أنس وصحبة فخاف نور الدين عليهم من الفرنج فسار في عساكره إلى الكرك فحصره وضيق عليه ونصب عليه المجانيق فأتاه الخبر أن الفرنج قد جمعوا له وساروا إليه وقد جعلوا في مقدمتهم إليه ابن هنفري وقريب بن الرقيق وهما فارسا الفرنج في وقتهما فرحل نور الدين نحو هذين المقدمين ليلقاهما ومن معهما قبل أن يلتحق وسلك نور الدين وسط بلادهم ينهب ويحرق ما على طريقه من القرى إلى أن وصل إلى بلاد الإسلام فنزل على عشترا وأقام ينتظر حركة الفرنج ليلقاهم فلم يبرحوا من مكانهم فأقام هو حتى أتاه خبر الزلزلة الحادثة فرحل‏.‏

وأما نجم الدين أيوب فإنه وصل إلى مصر سالمًا هو ومن معه وخرج العاضد الخليفة فالتقاه إكرامًا له‏.‏

ذكر غزوة لسرية نورية

كان شهاب الدين إلياس بن إيلغازي بن أرتك صاحب قلعة البيرة قد سار في عسكره وهو في مائتي فارس إلى نور الدين وهو بعشترا فلما وصل إلى قرية اللبوة وهي من عمل بعلبك ركب متصيدًا فصادف ثلاثمائة فارس من الفرنج قد ساروا للإغارة على بلاد الإسلام سابع عشر شوال فوقع بعضهم على بعض واقتتلوا واشتد القتال وصبر الفريقان لاسيما المسلمون فإن ألف فارس لا يصبرون لحملة ثلاثمائة فارس إفرنجية وكثر القتلى بين الطائفتين فانهزم الفرنج وعمهم القتل والأسر فلم يفلت منهم إلا من لا يعتد به‏.‏

وسار شهاب الدين برؤوس القتلى والأسرى إلى نور الدين فركب نور الدين والعسكر فلقوهم فرأى نور الدين في الرؤوس رأس مقدم الإسبتار صاحب حصن الأكراد وكان من الشجاعة بمحل كبير وكان شجًا في حلوق المسلمين‏.‏

ذكر الزلزلة وما فعلته بالشام

في هذه السنة أيضًا ثاني عشر شوال كانت زلازل عظيمة متتابعة هائلة لم ير الناس مثلها وعمت اكثر البلاد من الشام والجزيرة والموصل والعراق وغيرها من البلاد وأشدها كان بالشام فخربت كثيرًا من دمشق وبعلبك وحمص وحماة وشيزر وبعرين وحلب وغيرها وتهدمت أسوارها وقلاعها وسقطت الدور على أهلها وهلك منهم ما يخرج عن الحد‏.‏

فلما أتاه الخبر سار إلى بعلبك ليعمر ما انهدم من سورها وقلعتها فلما وصلها أتاه خبر باقي البلاد وخراب أسوارها وقلاعها وخلوها من أهلها فجعل ببعلبك من يعمرها ويحميها ويحفظها وسار إلى حمص ففعل مثل ذلك ثم إلى حماة ثم إلى بعرين وكان شديد الحذر على سائر البلاد من الفرنج ثم أتى مدينة حلب فرأى فيها من آثار الزلزلة ما ليس بغيرها من البلاد فإنها كانت قد أتت عليها وبلغ الرعب ممن نجا كل مبلغ وكانوا لا يقدرون أن يأووا إلى مساكنهم خوفًا من الزلزلة فأقام بظاهرها وباشر عمارتها بنفسه فلم يزل كذلك حتى أحكم وأما بلاد الفرنج فان الزلازل أيضًا عملت بها كذلك فاشتغلوا بعمارة بلادهم خوفًا من نور الدين عليها فاشتغل كل منهم بعمارة بلاده خوفًا من الآخر‏.‏

ذكر وفاة قطب الدين مودود بن زنكي وملك ابنه سيف الدين غازي

في هذه السنة في ذي الحجة مات قطب الدين مودود بن زنكي ابن آقسنقر صاحب الموصل بالموصل وكان مرضه حمى حادة ولما اشتد مرضه أوصى بالملك بعده لأبنه الأكبر عماد الدين زنكي ثم عدل عنه إلى ابنه الأكبر سيف الدين غازي وإنما صرف الملك عن ابنه الأكبر عماد الدين زنكي بن مودود لأن القيم بأمور دولته والمقدم فيها كان خادمًا له يقال له فخر الدين عبد المسيح وكان يكره عماد الدين لأنه كان طوع عمه نور الدين لكثرة مقامه عنده ولأنه زوج ابنته وكان نور الدين يبغض عبد المسيح فاتفق فخر الدين وخاتون ابنة حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي وهي والدة سيف الدين على صرف الملك عن عماد الدين إلى سيف الدين فرحل عماد الدين إلى عمه نور الدين مستنصرًا به ليعينه على أخذ الملك لنفسه‏.‏

وتوفي قطب الدين وعمره نحو أربعين سنة وكان ملكه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفًا وكان فخر الدين هو المدبر للأمور والحاكم في الدولة وكان قطب الدين من أحسن الملوك سيرة وأعفهم عن أموال رعيته محسنًا إليهم كثير الإنعام عليهم محبوبًا إلى كبيرهم وصغيرهم عطوفًا على شريفهم ووضيعهم كريم الأخلاق حسن الصحبة معهم فكأن القائل أراد بقوله‏:‏ خلق كماء المزن طيب مذاقه والروضة الغناء طيب نسيم كالسيف لكن فيه حلم واسع عمن جنى والسيف غير حليم كالغيث إلا أن وابل جوده أبدًا وجود الغيث غير مقيم كالدهر إلا أنه ذو رحمة والدهر قاسي القلب غير رحيم وكان سريع الانفعال للخير بطيئًا عن الشر جم المناقب قليل المعايب رحمه الله ورضي عنه وعن جميع المسلمين بمنه وكرمه إنه جواد كريم‏.‏

ذكر حالة ينبغي للملوك أن يحترزوا من مثلها


حدثني والدي رحمه الله قال‏:‏ كنت أتولى جزيرة ابن عمر لقطب الدين كما علمتم فلما كان قبل موته بيسير أتانا كتاب من الديوان بالموصل يأمرون بمساحة جميع بساتين العقيمة وهذه العقيمة هي قرية تحاذي الجزيرة بينهما دجلة ولها بساتين كثيرة بعضها يمسح فيؤخذ منه على كل جريب شيء معلوم وبعضها عليه خراج وبعضها مطلق من الجميع‏.‏

قال‏:‏ وكان لي فيها ملك كثير فكنت أقول‏:‏ إن المصلحة أن لا يغير على الناس شيئًا وما أقول هذا لأجل ملكي فإنني أنا أمسح ملكي وإنما أريد أن يدوم الدعاء من الناس للدولة فجاءني كتاب النائب يقول‏:‏ لا بد من المساحة‏.‏

قال‏:‏ فأظهرت الأمر وكان بها قوم صالحون لي بهم أنس وبيننا مودة فجاءني الناس كلهم وأولئك معهم يطلبون المراجعة فأعلمتهم أنني رجعت وما أجبت إلى ذلك فجاءني منهم رجلان أعرف صلاحهما وطلبا مني المعاودة والمخاطبة ثانية ففعلت فأصروا على المسح فعرفتهما الحال‏.‏

قال‏:‏ فما مضى إلا عدة أيام وإذ قد جاءني الرجلان فلما رايتهما ظننت أنهما جاءا يطلبان المعاودة فعجبت منهما وأخذت أعتذر إليهما فقالا‏:‏ ما جئنا إليك في هذا وإنما جئنا نعرفك إن حاجتنا قضيت‏.‏

قال‏:‏ فظننت أنهما قد أرسلا إلى الموصل إلى من يشفع لهما‏.‏

فقلت‏:‏ من الذي خاطب في هذا بالموصل فقالا‏:‏ إن حاجتنا قد قضيت من السماء ولكافة أهل العقيمة‏.‏

قال‏:‏ فظننت أن هذا مما حدثا به نفوسهما ثم قاما عني فلم يمض غير عشرة أيام وإذ قد جاءنا كتاب من الموصل يأمرون بإطلاق المساحة والمحبسين والمكوس ويأمرون بالصدقة ويقال‏:‏ إن السلطان يعني قطب الدين مريض يعني على حالة شديدة ثم بعد يومين أو ثلاثة جاءنا الكتاب بوفاته فعجبت من قولهما واعتقدته كرامة لهما فصار والدي بعد ذلك يكثر إكرامهما واحترامهما ويزورهما‏.‏

ذكر الحرب بين عساكر عبد المؤمن وابن مردنيش

كان محمد بن سعيد بن مردنيش ملك شرق الأندلس قد اتفق هو والفرنج وامتنع على عبد المؤمن وابنه بعده فاستفحل أمره لا سيما بعد وفاة عبد المؤمن فلما كان هذه السنة جهز إليه يوسف بن عبد المؤمن العساكر الكثيرة مع أخيه عمر بن عبد المؤمن فجاسوا بلاده وخربوها وأخذوا مدينتين من بلاده وأخافوا عساكر جنوده وأقاموا ببلاده مدة يتنقلون فيها ويجبون الأموال‏.‏

ذكر وفاة صاحب كرمان والخلف بين أولاده


في هذه السنة توفي الملك طغرل بن قاورت صاحب كرمان واختلف أولاده بهرام شاه وأرسلان شاه وهو الأكبر وجرى بينهما قتال انهزم فيه بهرامشاه ومعه أخ له اسمه تركان شاه فملك البلاد أرسلان شاه ومضى بهرام شاه إلى خراسان فدخل على المؤيد صاحب نيسابور واستنجده فأنجده بعساكر سار بها إلى كرمان فجرى بين الأخوين حرب ظفر بها بهرام شاه وهرب أرسلان شاه فقصد أصفهان مستجيرًا بإيلدكز فأنفذ معه عسكرًا واستنقذوا البلاد من بهرامشاه وسلموها إلى أخيه أرسلان شاه فعاد بهرام شاه إلى نيسابور مستجيرًا بالمؤيد صاحبها فأقام عنده فاتفق أن أخاه ارسلان شاه مات فسار إلى كرمان فملكها وأقام بها بغير منازع‏.‏

ذكرعدة حوادث

في هذه السنة كثرت الأذية من عبد الملك بن محمد بن عطاء وتطرق بلاد حلوان ونهب وأفسد وتطرق الحجاج فأنفذ إليه من بغداد عسكر فنازلوه في قلاعه وضايقوه ونهبوا أمواله وأموال أهله حتى أذعن بالطاعة ولا يعاود أذى الحجاجولا غيرهم فعاد العسكر عنه‏.‏

وفيها توفي مجد الدين أبو بكر بن الداية وهو رضيع نور الدين وكان أعظم الأمراء منزلة عنده وله أقطاعة حلب وحارم وقلعة جعبر فلما توفي رد نور الدين ما كان له إلى أخيه وفيها في شعبان توفي أحمد ابن صالح بن شافع أبو الفضل الجيلي ببغداد وهو من مشهوري المحدثين‏.‏

ثم دخلت سنة ست وستين وخمسمائة

ذكر وفاة المستنجد بالله

في هذه السنة تاسع ربيع الآخر توفي المستنجد بالله أبو المظفر يوسف ابن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله وقد تقدم باقي النسب في غير موضع وأمه أم ولد اسمها طاووس وقيل نرجس رومية ومولده مستهل ربيع الآخر سنة عشر وخمسمائة وكانت خلافته إحدى عشرة سنة وشهرًا وستة أيام وكان أسمر تام القامة طويل اللحية‏.‏

وكان سبب موته أنه مرض واشتد مرضه وكان قد خافه أستاذ الدار عضد الدين أبو الفرج بن رئيس الرؤساء وقطب الدين قايماز المقتفوي وهو حينئذ أكبر أمير ببغداد فلما اشتد مرض الخليفة اتفقا ووضعا الطبيب على أن يصف له ما يؤذيه فوصف له دخول الحمام فامتنع لضعفه ثم إنه دخل وأغلق الباب عليه فمات‏.‏

وهكذا سمعته من غير واحد ممن يعلم الحال وقيل إن الخليفة كتب إلى وزيره مع طبيبه ابن صفية يأمره بالقبض على أستاذ الدار وقطب الدين وصلبهما فاجتمع ابن صفية بأستاذ الدار وأعطاه خط الخليفة فقال له‏:‏ تعود وتقول إنني أوصلت الخط إلى الوزير ففعل ذلك وأحضر أستاذ الدار قطب الدين ويزدن وأخاه تنامش وعرض الخط عليهم فاتفقوا على قتل الخليفة فدخل إليه يزدن وقايماز الحميدي فحملاه إلى الحمام وهو يستغيث وألقياه وأغلقا الباب عليه وهو يصيح إلى أن مات رحمه الله‏.‏

وكان وزيره حينئذ أبا جعفر البلدي وبينه وبين أستاذ الدار عضد الدين عداوة مستحكمة لأن المستنجد بالله كان يأمره بأشياء تتعلق بهما فيفعلها فكانا يظنان أنه هو الذي يسعى بهما فلما مرض المستنجد وأرجف بموته ركب الوزير ومعه الأمراء والأجناد وغيرهم بالعدة فلم يتحقق عنده خبر موته فأرسل إليه عضد الدين يقول‏:‏ إن أمير المؤمنين قد خف مابه من مرض وأقبلت العافية فخاف الوزير أن يدخل دار الخلافة بالجند فربما أنكر عليه ذلك فعاد إلى داره وتفرق الناس عنه وكان عضد الدين وقطب الدين قد استعدا للهرب لما ركب الوزير خوفًا منه إن دخل الدار أن يأخذهما فلما عاد أغلق أستاذ الدار أبواب الدار وأظهروا وفاة المستنجد وأحضر هو وقطب الدين ابنه أبا محمد الحسن وبايعاه بالخلافة ولقباه المستضيئ بأمر الله وشرطا عليه شروطًا أن يكون عضد الدين وزيرًا وابنه كمال الدين أستاذ الدار ولم يتولى الخلافة من اسمه الحسن إلا الحسن بن علي بن أبي طالب والمستضيئبأمر الله واتفقا في الكنية والكرم فبايعه أهل بيته البيعة الخاصة يوم توفي أبوه وبايعه الناس في الغد في التاج بيعة عامة وأظهر من العدل أضعاف ما عمل أبوه وفرق أموالًا جليلة المقدار‏.‏

وعلم الوزير ابن البلدي فسقط في يده وقرع سنه ندمًا على ما فرط في عوده حيث لا ينفعه واتاه من يستدعيه للجلوس للعزاء والبيعة للمستضيئ فمضى إلى دار الخلافة فلما دخلها صرف إلى موضع وقتل وقطع قطعًا وألقي في دجلة رحمه الله وأخذ جميع ما في داره فرأيا فيها خطوط المستنجد بالله يأمره فيها بالقبض عليهما وخط الوزير قد راجعه في ذلك وصرفه عنه فلما وقفا عليهما عرفا براءته مما كانا يظنان فيه فندما حيث فرطا في قتله‏.‏

وكان المستنجد بالله من أحسن الخلفاء سيرة مع الرعية عادلًا فيهم كثير الرفق بهم وأطلق كثيرًا من المكوس ولم يترك بالعراق منها شيئًا وكان شديدًا على أهل العيث والفساد والسعاية بالناس‏.‏

بلغني أنه قبض على إنسان كان يسعى بالناس فأطال حبسه فشفع فيه بعض أصحابه المختصين بخدمته وبذل عنه عشرة آلاف دينار فقال‏:‏ أنا أعطيك عشرة آلاف دينار وتحضر لي إنسانًا آخر مثله لأكف شره عن الناس ولم يطلقه‏.‏

ورد كثيرًا من الأموال على أصحابها وقبض على القاضي ابن المرخم وأخذ منه مالًا كثيرًا فأعاده على أصحابه أيضًا وكان ابن المرخم ظالمًا جائرًا في أحكامه‏.‏

ذكر ملك نور الدين الموصل وإقرار سيف الدين عليها

لما بلغ نور الدين محمودًا وفاة أخيه قطب الدين مودود صاحب الموصل وملك ولده سيف الدين غازي الموصل والبلاد التي كانت لأبيه بعد وفاته وقيام فخر الدين عبد المسيح بالأمر معه وتحكمه عليه أنف لذلك وكبر لديه وعظم عليه وكان يبغض فخر الدين لما يبلغه عنه من خشونة سياسته فقال‏:‏ أنا أولى بتدبير أولاد أخي وملكهم وسار عند انقضاء العزاء جريدة في قلة من العسكر وعبرت الفرات عند قلعة جعبر مستهل المحرم من هذه السنة وقصد الرقة فحصرها وأخذها‏.‏

ثم سار إلى الخابور فملكه جميعه وملك نصيبين وأقام فيها يجمع العساكر فاتاه بها نور الدين محمد بن قرا ارسلان بن داود صاحب حصن كيفا وكثر جمعه وكان قد ترك أكثر عساكره في الشام لحفظ ثغوره فلما اجتمعت العساكر سار إلى سنجار فحصرها ونصب عليها وكان قد جاءته كتب الأمراء الذين بالموصل سرًا يبذلون له الطاعة ويحثونه على الوصول إليهم فسار إلى الموصل فأتى مدينة بلد وعبر دجلة عندها مخاضة إلى الجانب الشرقي وسار فنزل شرق الموصل على حصن نينوى ودجلة بينه وبين الموصل‏.‏

ومن العجب أن يوم نزوله سقط من سور الموصل بدنة كبيرة‏.‏

وكان سيف الدين غازي وفخر الدين قد سيرا عز الدين مسعود بن قطب الدين إلى أتابك شمس الدين إيلدكز صاحب همذان وبلد الجبل وأذربيجان وأصفهان والري وتلك البلاد يستنجده على عمه نور الدين فأرسل إيلدكز رسولًا إلى نور الدين ينهاه عن التعرض للموصل ويقول له‏:‏ إن هذه البلاد للسلطان فلا تقصدها فلم يلتفت إليه وقال للرسول‏:‏ قل لصاحبك أنا أصلح لأولاد أخي منك فلم تدخل نفسك بيننا وعند الفراغ من إصلاح بلادهم يكون الحديث معك على باب همذان فإنك قد ملكت هذه المملكة العظيمة وأهملت الثغور حتى غلب الكرج عليها وقد بليت أنا ولي مثل ربع بلادك بالفرنج وهم أشجع العالم فأخذت معظم بلادهم وأسرت ملوكهم ولا يحل لي السكوت عنك فإنه يجب علينا القيام بحفظ ما أهملت وإزالة الظلم عن المسلمين‏.‏

فأقام نور الدين على الموصل فعزم من بها من الأمراء على مجاهرة فخر الدين عبد المسيح بالعصيان وتسليم البلد إلى نور الدين فعلم ذلك فأرسل إلى نور الدين بتسليم البلد إليه على أن يقره بيد سيف الدين ويطلب لنفسه الأمان ولماله فأجابه إلى ذلك وشرط أن فخر الدين يأخذه معه إلى الشام ويعطيه عنده إقطاعًا يرضيه فتسلم البلد ثالث عشر جمادى الأولى من هذه السنة ودخل القلعة من باب السر لأنه لما بلغه عصيان عبد المسيح عليه حلف أن لا يدخلها إلا من أحصن موضع فيها ولما ملكها أطلق ما بها من المكوس وغيرها من أبواب المظالم وكذلك فعل بنصيبين وسنجار والخابور وهكذا كان جميع بلاده من الشام ومصر‏.‏

ووصله وهو على الموصل يحاصرها خلعة من الخليفة المستضيئ بأمر الله فلبسها ولما ملك الموصل خلعها على سيف الدين ابن أخيه وأمره وهو بالموصل بعمارة الجامع النوري وركب هو بنفسه إلى موضعه فرآه وصعد منارة مسجد أبي حاضر فأشرف منها على موضع الجامع فأمر أن يضاف إلى الأرض التي شاهدها ما يجاورها من الدور والحوانيت وأن لا يؤخذ منها شيء بغير اختيار أصحابه‏.‏

وولى الشيخ عمر الملا عمارته وكان من الصالحين الأخيار فاشترى الأملاك من أصحابها بأوفر الأثمان وعمره فخرج عليه أموال كثيرة وفرغ من عمارته سنة ثمان وستين وخمسمائة‏.‏

وعاد إلى الشام واستناب في قلعة الموصل خصيًا له اسمه كمشتكين ولقبه سعد الدين وأمر

سيف الدين أن لا ينفرد عنه بقليل من الأمور ولا بكثير وحكمه في البلاد واقطع مدينة سنجار لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين فلما فعل ذلك قال كمال الدين بن الشهرزوري‏:‏ هذا طريق إلى أذىً يحصل لبيت أتابك لأن عماد الدين كبير لا يرى طاعة سيف الدين وسيف الدين هو الملك لا يرى الإغضاء لعماد الدين فيحصل الخلف ويطمع الأعداء فكان كذلك على ما نذكره سنة سبعين وخمسمائة وكان مقام نور الدين بالموصل أربعة وعشرين يومًان واستصحب معه فخر الدين عبد المسيح وغير اسمه فسماه عبد الله وأقطعه إقطاعًا كبيرًا‏.‏

ذكرغزو صلاح الدين بلاد الفرنج وفتح إيلة

وفي هذه السنة سار صلاح الدين أيضًا عن مصر إلى بلاد الفرنج فأغار على أعمال عسقلان والرملة وهجم على ربض غزة فنهبه واتاه ملك الفرنج في قلة من العسكر مسرعين لرده عن البلاد فقاتلهم وهزمهم وأفلت ملك الفرنج بعد ان اشرف أن يؤخذ أسيرًا وعاد إلى مصر وعمل مراكب مفصلة وحملها قطعًا على الجبال في البر وقصد إيلة فجمع قطع المراكب وألقاها في البحر وحصر إيلة برًا وبحرًا وفتحها في العشر الأول من ربيع الآخر واستباح أهلها وما فيها ذكر ما اعتمده صلاح الدين بمصر كان بمصر دارًا للشحنة تسمى دار المعونة يحبس فيها من يريد حبسه فهدمها صلاح الدين وبناها مدرسة للشافعية وأزال ما كان بها من الظلم وبنى دار العدل مدرسة للشافعية أيضًا وعزل القضاة المصريين وكانوا شيعة وأقام قاضيًا شافعيًا في مصر فاستناب القضاة الشافعية في جميع البلاد في العشرين من جمادى الآخرة‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة اشترى تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين منازل العز بمصر وبناها مدرسة للشافعية‏.‏

وفيها أغار شمس الدولة توارنشاه أخو صلاح الدين أيضًا على الأعراب الذين بالصعيد وكانوا قد أفسدوا في البلاد ومدوا أيديهم فكفوا عما كانوا يفعلونه‏.‏

وفيها مات القاضي ابن الخلال من اعيان الكتاب المصريين وفضلائهم وكان صاحب ديوان الإنشاء بها‏.‏

وفيها وقع حريق ببغداد في درب المطبخ وفي خرابة ابن جردة‏.‏

وفيها توفي الأمير نصر بن المستظهر بالله عم المستنجد بالله وحموه وهو أخر من مات من أولاد المستظهر بالله وكان موته في ذي القعدة ودفن في الترب بالرصافة‏.‏

وفيها جعل ظهير الدين أبو بكر نصر بن العطار صاحب المخزن ببغداد ولقب ظهير الدين‏.‏

وفيها حج بالناس الأمير طاشتكين المستنجدي وكان نعم الأمير رحمه الله‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وستين وخمسمائة

ذكر إقامة الخطبة العباسية بمصر وانقراض الدولة العلوية

في هذه السنة في ثاني جمعة من المحرم قطعت خطبة العاضد لدين الله أبي محمد الإمام عبد الله بن يوسف بن الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد ابن أبي القاسم محمد بن المستنصر بالله أبي تميم معد بن الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن علي بن الحاكم بأمر الله أبي علي المنصور بن العزيز بالله أبي منصور ابن نزار بن المعز لدين الله أبي تميم معد بن المنصور بالله أبي الظاهر إسماعيل ابن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي بالله أبي محمد عبيد الله وهو أول العلويين من هذا البيت الذين خطب لهم بالخلافة وخوطبوا بإمرة المؤمنين‏.‏

وكان سبب الخطبة العباسية بمصر أن صلاح الدين بن أيوب لما ثبت قدمه بمصر وزال المخالفون له وضعف أمر الخليفة العاضد بها وصار قصره يحكم فيه صلاح الدين ونائبه قراقوش وهو خصي كان من أعيان الأمراء الأسدية كلهم يرجعون إليه فكتب إليه نور الدين محمود بن زنكي يأمره بقطع الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة المستضيئية فامتنع صلاح الدين واعتذر بالخوف من أهل الديار المصرية عليه لميلهم إلى العلويين‏.‏

وكان صلاح الدين يكره قطع الخطبة لهم ويريد بقاءهم خوفًا من نور الدين فإنه كان يخافه أن يدخل الديار المصرية ويأخذها منه فكان يريد ان يكون العاضد معه حتى إذا قصده نور الدين امتنع به وبأهل مصر عليه فلما اعتذر إلى نور الدين بذلك لم يقبل عذره وألح عليه بقطع خطبته والزمه إلزامًا لا فسحة له في مخالفته وكان على الحقيقة نائب نور الدين واتفق أن العاضد مرض هذا الوقت مرضًا شديدًا فلما عزم صلاح الدين على قطع خطبته استشار أمراءه فمنهم من أشار به ولم يفكر بالمصريين ومنهم من خافهم إلا أنه ما يمكنه إلا امتثال أمر نور الدين‏.‏

وكان قد دخل إلى مصر إنسان أعجمي يعرف بالأمير العالم رأيته أنا بالموصل فلما رأى ما هم فيه من الإحجام وأن أحدًا لا يتجاسر أن يخطب للعباسيين قال‏:‏ أنا أبتدئ بالخطبة لهم فلما كان أول جمعة من المحرم صعد المنبر قبل الخطيب ودعا للمستضيئ بأمر الله فلم ينكر أحد ذلك فلما كان الجمعة الثانية أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة أن يقطعوا خطبة العاضد ويخطبوا للمستضيئ ففعلوا ذلك فلم ينتتطح فيها عنزان وكتب بذلك إلى سائر بلاد مصر ففعل‏.‏

وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أحد من أهله وأصحابه بقطع الخطبة وقالوا‏:‏ إن عوفي فهو يعلم وإن توفي فلا ينبغي أن نفجعه بمثل هذه الحادثة قبل موته فتوفي يوم عاشوراء ولم يعلم بقطع الخطبة‏.‏

ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصر الخلافة وعلى جميع ما فيه فحفظه بهاء الدين قراقوش الذي كان قد رتبه قبل موت العاضد فحمل الجميع إلى صلاح الدين وكان من كثرته يخرج عن الإحصاء وفيه من الأعلاق النفيسة والأشياء الغريبة ما تخلو الدنيا بمثله ومن الجواهر التي لم توجد عند أحد غيرهم فمنه الجبل الياقوت وزنه سبعة عشر درهمًا أو سبعة عشر مثقالًا أنا لا أشك لأنني رأيته ووزنته واللؤلؤ الذي لم يوجد مثله ومنه النصاب الزمرد الذي طوله أربع أصابع في عرض عقد كبير ووجد فيه طبل كان بالقرب من موضع العاضد وقد احتاطوا عليه بالحفظ فلما رأوه ظنوه عمل لأجل اللعب به فسخروا من العاضد فاخذه إنسان فضرب به فضرط فتضاحكوا منه ثم آخر كذلك وكان كل من ضرب وكان فيه من الكتب النفيسة المعدومة المثل ما لا يعد فباع جميع ما فيه ونقل أهل العاضد إلى موضع من القصر ووكل بهم من يحفظهم وأخرج جميع من فيه من أمة وعبدن فباع البعض وأعتق البعض ووهب البعض وخلى القصر من سكانه كأن لم يغن بالأمس فسبحان الحي الدائم الذي لا يزول ملكه ولا تغيره الدهور ولا يقرب النقص حماه‏.‏

ولما اشتد مرض العاضد أرسل إلى صلاح الدين يستدعيه فظن ذلك خديعة فلم يمض إليه فلما توفي علم صدقه فندم على تخلفه عنه وكان يصفه كثيرًا بالكرم ولين الجانب وغلبة الخير على طبعه وانقياده وكان في نسبه تسعة خطب لهم بالخلافة وهم‏:‏ الحافظ والمستنصر والظاهر والحاكم والعزيز والمعز والمنصور والقائم والمهدي ومنهم من لم يخطب له بالخلافة‏:‏ أبوه يوسف بن الحافظ وجد أبيه وهو الأمير أبو القاسم محمد بن المستنصر وبقي من خطب له بالخلافة وليس من آبائه‏:‏ المستعلي والآمر والظافر والفائز وجميع من خطب له منهم بالخلافة أربعة عشر خليفة منهم بإفريقية‏:‏ المهدي والقائم والمنصور والمعز إلى أن سار إلى مصر ومنهم بمصر‏:‏ المعز المذكور وهو أول من خرج إليها من إفريقية والعزيز والحاكم والظاهر والمستنصر والمستعلي والأمر والحافظ والظافر والفائز والعاضد وجميع مدة ملكهم من حين ظهر المهدي بسجلماسة في ذي الحجة من سنة تسع وتسعين ومائتين إلى أن توفي العاضد وهذا دأب الدنيا لم تعط إلا واستردت ولم تحلو إلا وتمرمرت ولم تصف إلا وتكدرت بل صفوها لا يخلو من الكدر وكدرها قد يخلو من الصفو‏.‏

نسأل الله تعالى أن يقبل بقلوبنا إليه ويرينا الدنيا حقيقة ويزهدنا فيها ويرغبنا في الآخرة إنه سميع الدعاء قريب من الإجابة‏.‏

ولما وصلت البشارة إلى بغداد بذلك ضربت البشائر بها عدة أيام وزينت بغداد وظهر من الفرح والجذل ما لا حد عليه‏.‏

وسيرت الخلع مع عماد الدين صندل وهو من خواص الخدم المقتفوية والمقدمين في الدولة لنور الدين وصلاح الدين فسار صندل إلى نور الدين وألبسه الخلعة وسير الخلعة التي لصلاح الدين وللخطباء بالديار المصرية والأعلام السود ثم إن صندلًا هذا صار أستاذ الدار للخليفة المستضيئ بأمر الله في بغداد وكان يدري الفقه على المذهب الشافعي وسمع الحديث ورواه ويعرف أشياء حسنة وفيه دين وله معروف كثير وهو من محاسن بغداد‏.‏

ذكر الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين

في هذه السنة جرت أمور أوجبت أن تأثر نور الدين من صلاح الدين ولم يظهر ذلك‏.‏

وكان سببه أن صلاح الدين يوسف بن أيوب سار عن مصر في صفر من هذه السنة إلى بلاد الفرنج غازيًا ونازل حصن الشوبك وبينه وبين الكرك يوم وحصره وضيق على من به من الفرنج وأدام القتال وطلبوا الأمان واستمهلوه عشرة أيام فأجابهم إلى ذلك‏.‏

فلما سمع نور الدين بما فعله صلاح الدين سار عن دمشق قاصدًا بلاد الفرنج ليدخل إليها من جهة أخرى فقيل لصلاح الدين‏:‏ إن دخل نور الدين بلاد الفرنج وهم على هذه الحال‏:‏ أنت من جانب ونور الدين من جانب ملكها ومتى زال الفرنج عن الطريق وأخذ ملكهم لم يبق بديار مصر مقام مع نور الدين وإن جاء نور الدين إليك وأنت هاهنا فلا بد لك من الاجتماع به وحينئذ يكون هو المتحكم فيك بما شاء إن شاء تركك وغن شاء عزلك فقد لا تقدر على الامتناع عليه والمصلحة الرجوع إلى مصر‏.‏

فرحل عن الشوبك عائدًا إلى مصر ولم يأخذه من الفرنج وكتب إلى نور الدين يعتذر باختلال الديار المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعته العلويين وأنهم عازمون على الوثوب بها فإنه يخاف عليها من البعد عنها أن يقوه أهلها على من تخلف بها وان يخرجوهم وتعود ممتنعة وأطال الاعتذار فلم يقبلها نور الدين منه وتغير عليه وعزم على الدخول إلى مصر وإخراجه عنها‏.‏

وظهر ذلك فسمع صلاح الدين الخبر فجمع أهله وفيهم أبوه نجم الدين أيوب وخاله شهاب الدين الحارمي ومعهم سائر الأمراء وأعلمهم ما بلغه من عزم نور الدين وحركته إليه واستشارهم فلم يجبه أحد بكلمة واحدة فقام تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين فقال‏:‏ إذا جاءنا قاتلناه ومنعناه عن البلاد ووافقه غيره من أهلهم فشتم نجم الدين أيوب وأنكر ذلك واستعظمه وشتم تقي الدين وأقعده وقال لصلاح الدين‏:‏ أنا أبوك وهذا خالك شهاب الدين ونحن أكثر محبة لك من جميع ما ترى ووالله لو رأيت أنا وخالك هذا نور الدين لم يمكننا إلا أن نقبل الأرض بين يديه ولو أمرنا أن نضرب عنفك بالسيف لفعلنا فإذا كنا نحن هكذا فما ظنك بغيرنا وكل من تراه عندك من الأمراء لو رأوا نور الدين وحده لم يتجاسروا على الثبات على سروجهم وهذه البلاد له ونحن مماليكه ونوابه بها فإن أراد عزلك سمعنا وأطعنا والرأي أن تكتب كتابًا من نجاب تقول فيه‏:‏ بلغني بأنك تريد الحركة لأجل البلاد فأي حاجة إلى هذا يرسل المولى نجابًا يضع في رقبتي منديلًا ويأخذني إليك وما هاهنا من يمنع عليك‏.‏

وأقام الأمراء وغيرهم وتفرقوا على هذا فلما خلا به أيوب قال له‏:‏ بأي عقل فعلت هذا أما تعلم أن نور الدين إذا سمع عزمنا على منعه ومحاربته جعلنا أهم الوجوه إليه وحينئذ لا تقوى به وأما الآن إذا بلغه ما جرى وطاعتنا له تركنا واشتغل بغيرنا والأقدار تعمل عملها‏.‏

ووالله لو أراد نور الدين قصبة من قصب السكر لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل‏.‏

ففعل صلاح الدين ما أشار به فترك نور الدين قصده واشتغل بغيره فكان الأمر كما ظنه

أيوب فتوفي نور الدين ولم يقصده وملك صلاح الدين البلاد وكان هذا من أحسن الآراء وأجودها‏.‏

ذكر غزوة إلى الفرنج بالشام

في هذه السنة خرج مركبان من مصر إلى الشام فأرسيا بمدينة لاذقية فأخذهما الفرنج وهما مملوءان من الأمتعة والتجار وكان بينهم وبين نور الدين هدنة فنكثوا وغدروا فأرسل نور الدين إليهم في المعنى وإعادة ما أخذوه من أموال التجار فغالطوه واحتجوا بأمور منها أن المركبين كانا قد انكسرا ودخلهما الماء‏.‏

وكان الشرط أن كل مركب ينكسر ويدخله الماء يأخذونه فلم يقبل مغالطتهم وجمع العساكر وبث السرايا في بلادهم بعضها نحو أنطاكية وبعضها نحو طرابلس وحصر هو حصن عرقة وخرب ربضه وأرسل طائفة من العسكر إلى حصن صافيثا وعريمة فأخذهما عنوة ونهب وخرب وغنم المسلمون غنائم كثيرة وعادوا إليه وهو بعرقة فسار في العساكر جميعها إلى أن قارب طرابلس ينهب ويخرب ويحرق ويقتل‏.‏

وأما الذين ساروا إلى أنطاكية ففعلوا في ولايتها مثل ما فعل نور الدين في ولاية طرابلس فراسله الفرنج وبذلوا إعادة ما أخذوه من المركبين وتجديد الهدنة معهم فأجابهم إلى ذلك وأعادوا ما أخذوا وهم صاغرون وقد خربت بلادهم وغنمت أموالهم‏.‏


ذكر وفاة ابن مردنيش وملك يعقوب بن عبد المؤمن بلاده

في هذه السنة توي الأمير محمد بن سعد بن مردنيش صاحب البلاد بشرق الأندلس وهي‏:‏ مرسية وبلنسية وغيرهما ووصى أولاده ان يقصدوا بعد موته الأمير أبا يوسف يعقوب بن عبد المؤمن صاحب المغرب والأندلس وتسلموا البلاد وتدخلوا في طاعته فلما مات قصدوا يعقوب وكان قد اجتاز إلى الأندلس في مائة ألف مقاتل قبل موت ابن مردنيش فحين رآهم يوسف فرح بهم وسره قدومهم عليه وتسلم بلادهم وتزوج أختهم وأكرمهم وعظم أمرهم ووصلهم بالأمال الجزيلة وأقاموا معه‏.‏

ذكر عبور الخطا جيحون والحرب بينهم وبين خوارزمشاه

في هذه السنة عبر الخطا نهرجيحون يريدون خوارزم فسمع صاحبها خوارزمشاه أرسلان بن أتسز فجمع عساكره وسار إلى آموية ليقاتلهم ويصدهم فمرض وأقام بها وسير بعض جيشه مع أمير كبير إليهم فلقيهم فاقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم الخوارزميون وأسر مقدمهم ورجع به الخطا إلى ما وراء النهر وعاد خوارزم شاه إلى خوارزم مريضًا‏.‏

في هذه السنة اتخذ نور الدين بالشام الحمام الهوادي وهي التي يقال لها المناسيب وهي تطير من البلاد البعيدة إلى أوكارها وجعلها في جميع بلاده‏.‏

وسبب ذلك أنه لما اتسعت بلاده وطالت مملكته وعرضت أكنافها وتباعدت أوائلها عن أواخرها ثم إنها جاورت بلاد الفرنج وكانوا ربما نازلوا حصنًا من ثغوره فإلى أن يصل الخبر ويسير إليهم يكونون قد بلغوا غرضهم منه فأمر بالحمام ليصل الخبر إليه في يومه وأجرى الجرايات على المرتبين لحفظها وإقامتها فحصل منها الراحة العظيمة والنفع الكبير للمسلمين‏.‏

وفيها عزل الخليفة المستضيئ بأمر الله وزيره عضد الدين أبا الفرج بن رئيس الرؤساء مكرهًا لأن قطب الدين قايماز ألزمه بعزله فلم يمكنه مخالفته‏.‏

وفيها مات أبو محمد عبد الله بن أحمد الخشاب اللغوي وكان قيمًا بالعربية وسمع الحديث الكثير إلى أن مات‏.‏

وفيها مات البوري الفقيه الشافعي تفقه على محمد بن يحيى وقدم بغداد ووعظ وكان يذم الحنابلة وكثرت أتباعه فأصابه إسهال فمات هو وجماعة من أصحابه فقيل‏:‏ إن الحنابلة أهدوا إليه حلوى فمات هو وكل من أكل منها‏.‏

وفيها مات القرطبي أبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام الأزدي وكان إمامًا في القراءة والنحو وغيره من العلوم زاهدًا عابدًا انتفع به الناس بالموصل وفيها كانت وفاته‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وستين وخمسمائة

ذكر وفاة خوارزم شاه أرسلان


وملك ولده سلطان شاه وبعده ولده الآخر تكش وقتل المؤيد وملك ابنه في هذه السنة توفي خوارزم شاه أرسلان بن أتسز بن محمد بن أنوشتكين قد عاد من قتال الخطا مريضًا فتوفي وملك بعده سلطان شاه مسعود ودبرت والدته المملكة والعساكر‏.‏

وكان ابنه الأكبر علاء الدين تكش مقيمًا في الجند قد أقطعه أبوه إياها فلما بلغه موت أبيه وتولية أخيه الصغير انف من ذلك وقصد ملك الخطا واستمده على أخيه واستمده على أخيه وأطمعه في الأموال وذخائر خوارزم فسير معه جيشًا كثيفًا مقدمهم قومًا فساروا حتى قاربوا خوارزم فخرج سلطان شاه وأمه إلى المؤيد فأهدى له هدية جليلة المقدار ووعده أموال خوارزم وذخائرها فاغتر بقوله وجمع جيوشه وسار معه حتى بلغ سوبرني بليدة على عشرين فرسخًا من خوارزم وكان تكش قد عسكر بالقرب منها فتقدم إليهم فلما تراءى الجمعان انهزم عسكر المؤيد وكسر المؤيد وأخذ أسيرًا وجيء به إلى خوارزم شاه تكش فأمر بقتله فقتل بين يديه صبرًا‏.‏

وهرب سلطان شاه وأخذ إلى دهستان فقصده خوارزم شاه تكش فافتتح المدينة عنوة فهرب سلطان شاه وأخذت أمه فقتلها تكش وعاد خوارزم‏.‏

ولما عاد المنهزمون من عسكر المؤيد إلى نيسابور ملكوا ابنه طغان شاه أبا بكر بن المؤيد واتصل به سلطان شاه ثم سار من هناك إلى غياث الدين ملك الغورية فأكرمه وعظمه وأحسن ضيافته‏.‏

وأما علاء الدين تكش فإنه لما ثبت قدمه بخوارزم اتصلت به رسل الخطا بالاقتراحات والتحكم كعادتهم فأخذته حمية الملك والدين وقتل أحد أقارب الملك وكان قد ورد إليه ومعه جماعة أرسلهم ملكهم في مطالبة خوارزم شاه بالمال فأمر خوارزم شاه أعيان خوارزم فقتل كل واحد منهم رجلًا من الخطا فلم يسلم منهم أحد ونبذوا إلى ملك الخطا وبلغ ذلك سلطان شاه فسار إلى ملك الخطا واغتنم الفرصة بهذه الحال واستنجده على أخيه علاء الدين تكش وزعم له أن أهل خوارزم معه يريدونه ويختارون ملكه عليهم ولو رأوه لسلموا البلد إليه فسير معه جيشًا كثيرًا من الخطا مع قوما أيضًا فوصلوا إلى خوارزم فحصروها فأمر خوارزم شاه علاء الدين بإجراء ماء جيحون عليهم فكادوا يغرقون فرحلوا ولم يبلغوا منها غرضًا ولحقهم الندم حيث لم ينفعهم ولاموا سلطان شاه وعنفوه فقال لقوما‏:‏ لو أرسلت معي جيشًا إلى مرو لاستخلصتها من يد دينار الغزي وكان قد استولى عليها من حين كانت فتنة الغز إلى الآن فسير معه جيشًا فنزل على سرخس على غرة من أهلها وهجموا على الغز فقتلوا منهم مقتلة عظيمة فلم يتركوا بها أحدًا منهم وألقى دينار ملكهم نفسه في خندق القلعة فأخرج منه ودخل القلعة وتحصن بها‏.‏

وسار سلطان شاه إلى مور فملكها وعاد الخطا إلى ما وراء النهر وجعل سلطان شاه دأبه قتال الغز وقصدهم والقتل فيهم والنهب منهم فلما عجز دينار عن مقاومته أرسل إلى نيسابور إلى طغان شاه ابن المؤيد يقول له ليرسل إليه من يسلم إليه قلعة سرخس فأرسل إليه جيشًا مع أمير اسمه قراقوش فسلم إليه دينار القلعة ولحق بطغان شاه فقصد سلطان شاه سرخس وحصر قلعتها وبلغ ذلك طغان شاه فجمع جيوشه وقصد سرخس فلما التقى هو وسلطان شاه فر طغان شاه إلى نيسابور وذلك سنة ست وسبعين وخمسمائة فأخلى قراقوش قلعة سرخس ولحق بصاحبه وملكها سلطان شاه ثم أخذ طوس وإلزام وضيق الأمر على طغان شاه بعلو همته وقلة قراره وحرصه على طلب الملك‏.‏

وكان طغان شاه يحب الدعة ومعاقرة الخمر فلم يزل الحال كذلك إلى أن مات طغان شاه سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة في المحرم وملك ابنه سنجر شاه فغلب عليه مملوك جده المؤيد اسمه منكلي تكين فتفرق الأمراء أنفة من تحكمه واتصل أكثرهم بسلطان شاه وسار الملك دينار إلى كرمان ومعه الغز فملكها‏.‏

وأما منكلي تكين فإنه أساء السيرة في الرعية وأخذ أموالهم وقتل بعض الأمراء فسمع خوارزم شاه بذلك فسار إليه فحصره في نيسابور في ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة فحصرها شهرين فلم يظفر بها وعاد إلى خوارزم ثم رجع سنة ثلاث وثمانين إلى نيسابور فحصرها وطلبوا منه الأمان فأمنهم فسلموا البلد إليه فقتل منكلي تكين وأخذ سنجر شاه وأكرمه وأنزله بخوارزم وأحسن إليه فأرسل إلى نيسابور يستميل أهلها ليعود إليهم فسمع به خوارزم شاه فأخذ سنجر شاه فسلمه وكان قد تزوج بأمه وزوجه انته فماتت فزوجه بأخته وبقي عنده إلى أن مات سنة خمس وتسعين وخمسمائة‏.‏

ذكر هذا أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي في كتاب مشارب التجارب

وقد ذكر غيره من العلماء بالتواريخ هذه الحوادث مخالفة لهذا في بعض الأمور مع تقديم وتأخير ونحن نوردها فقال إن تكش خوارزم شاه ايل أرسلان أخرج اخاه سلطان شاه من خوارزم وكان قد ملكها بعد موت أبيه فجاء إلى مرو فأزاح الغز عنها فخرجوا أيامًا ثم عادوا عليه فأخرجوه منها وانتهبوا خزانته وقتلوا أكثر رجاله فعبر إلى الخطا فاستنجدهم وضمن لهم مالًا وجاء بجيش عظيم فاخرج الغز عن مرو وسرخس ونسا وأبيورد وملكها ورد الخطا‏.‏

فلما ابعدوا كاتب غياث الدين الغوري يطلب منه أن ينزل عن هراة وبوشنج وباذغيس وما والاها ويتوعده إن هو لم ينزل عن ذلك فأجابه غياث الدين يطلب منه إقامة الخطبة له بمرو وسرخس وما ملكه من بلاد خراسان فلما سمع الرسالة سار عن مرو وشن الغارات على باذغيس وبيوار وما والاها وحصر بوشنج ونهب الرساتيق وصادر الرعايا فلما سمع غياث الدين ذلك لم يرض لنفسه أن يسير هو بل سير ملك سجستان وكاتب ابن أخته بهاء الدين سام صاحب باميان باللحاق به لأن أخاه شهاب الدين كان بالهند والزمان شتاء فجاء بهاء الدين ابن أخت غياث الدين وملك سجستان ومن معهما من العساكر ووافق ذلك وصول سلطان شاه إلى هراة فلما علم بوصولهم عاد إلى مرو من غير أن يقاتلها وأحرق كل ما مر به من البلاد ونهبه وأقام بمرو إلى الربيع وأعاد مراسلة غياث الدين في المعنى فأرسل إلى أخيه شهاب الدين يعرفه الحال فنادى في عساكره الرحيل لساعته وعاد إلى خراسان واجتمع هو وأخوه غياث الدين وملك سجستان وغيرهم من العساكر وقصدوا سلطان شاه فلما علم ذلك جمع عساكره واجتمع عليه من الغز المفسدين وقطاع الطرق ومن عنده طمع خلق كثير فنزل غياث الدين ومن معه من الطالقان ونزل سلطان شاه بمرو الروذ وتقدم عسكر الغورية إليه وتواعدوا للمصاف‏.‏

وبقوا كذلك شهرين والرسل تتردد بين غياث الدين وبين سلطان شاه وشهاب الدين يطلب من أخيه غياث الدين الإذن في الحرب فلا يتركه وتقرر الأمر على أن يسلم غياث الدين إلى سلطان شاه بوشنج وباذغيس وقلاع بيوار وكره ذلك شهاب الدين وبهاء الدين سام صاحب باميان إلا أنهما لم يخالفا غياث الدين وفي آخر الأمر حضر رسول سلطان شاه يطلب أن يحضر شهاب الدين وبهاء الدين هذا الأمر فأرسل غياث الدين إليهما فأعادا الجواب‏:‏ إننا مماليك ومهما تفعل لا يمكننا مخالفتك‏.‏

فبينما الناس مجتمعون في تحرير الأمر وإذ قد أقبل مجد الدين العلوي الهروي وكان خصيصًا بغياث الدين بحيث يفعل في ملكه ما لا يخالف فجاء العلوي ويده في يد ألب غازي ابن أخت غياث الدين قد كتبوا الكتاب وقد أحضر غياث الدين أخاه شهاب الدين وبهاء الدين سام ملك الباميان فجاء العلوي كأنه يسار غياث الدين ووقف في وسط الحلقة وقال للرسول‏:‏ يا فلان‏!‏ تقول لسلطان شاه‏:‏ قد تم لك الصلح من جانب السلطان الأعظم ومن شهاب الدين وبهاء الدين ويقول لك العلوي خصمك‏:‏ أنا ومولانا ألب غازي بيننا وبينك السيف ثم صرخ صرخة ومزق ثيابه وحثا التراب على رأسه وأقبل على غياث الدين وقال له‏:‏ هذا واحد طرده أخوك وأخرجه فريدًا وحيدًا لم تترك له ما ملكناه بأسيافنا من الغز والأتراك السنجرية فإذا سمع هذا عنا يجيئ أخوه يطلب منازعته الهند وجميع ما بيدك فحرك غياث الدين رأسه ولم يتفوه بكلمة فقال الملك سجستان للعلوي‏:‏ اترك الأمر ينصلح‏.‏

فلما لم يتكلم غياث الدين مع العلوي قال شهاب الدين لجاووشيته‏:‏ نادوا في العسكر بالتجهز للحرب والتقدم إلى مرو الروذ وقام وأنشد العلوي بيتًا من الشعر عجميًا معناه‏:‏ إن الموت تحت السيوف أسهل من الرضى بالدنية فرجع الرسول إلى سلطان شاه وأعلمه الحال فرتب عساكره للمصاف والتقى الفريقان واقتتلوا فصبروا للحرب فانهزم سلطان شاه وعساكره وأخذ أكثر أصحابه أسرى فأطلقهم غياث الدين ودخل سلطان شاه مرو في عشرين فارسًا ولحق به من أصحابه نحو ألف خمسمائة فارس‏.‏

ولما سمع خوارزم شاه تكش بما جرى لأخيه سار من خوارزم في ألفي فارس وأرسل إلى جيحون ثلاثة آلاف فارس يقطعون الطريق على أخيه عن أراد الخطا وجد في السير ليقبض على أخيه قبل أن يقوى فأتت الأخبار سلطان شاه بذلك فلم يقدر على عبور جيحون إلى الخطا فسار إلى غياث الدين وكتب إليه يعلمه قصده إليه فكتب إلى هراة و غيرها من بلاده بإكرامه واحترامه وحمل الإقامات إليه ففعل به ذلك وقدم على غياث الدين والتقاه وأكرمه وأنزله معه في داره وأنزل أصحاب سلطان شاه كل إنسان منهم عند من هو في طبقته فأنزل الوزير عند وزيره والعارض عند عارضه وكذلك غيرهم وأقام عنده حتى انسلخ الشتاء فأرسل علاء الدين بن خوارزم شاه إلى غياث الدين يذكره ما صنعه أخوه سلطان شاه معه من تخريب بلاده وجمع العساكر عليه ويشير بالقبض عليه ورده إليه فأنزل الرسول وإذ قد أتاه كتاب نائبه بهراة يخبره أن كتاب خوارزم شاه جاءه يتهدده فأجابه انه لا يظهر لخوارزمشاه أنه اعلمه بالحال واحضر الرسول وقال له‏:‏ تقول لعلاء الدين‏:‏ أما قولك إن سلطان شاه اخرب البلاد وأراد ملكها فلعمري أنه ملك وابن ملك وله همة عالية وإذا أراد الملك فمثله أراده وللأمور مدبر يوصلها إلى مستحقها وقد التجأ إلي وينبغي أن تنزاح عن بلاده وتعطيه نصيبه مما خلف أبوه ومن الأملاك التي خلف والأموال وأحلف لكما يمينًا على المودة والمصافاة وتخطب لي بخوارزم وتزوج أخي شهاب الدين بأختك‏.‏

فلما سمع خوارزم شاه الرسالة امتعض لذلك وكتب إلى غياث الدين كتابًا يتهدده بقصد بلاده فجهز غياث الدين العساكر مع ابن أخت ألب غازي وصاحب سجستان وسيرهما مع سلطان شاه إلى خواروم وكتب إلى المؤيد صاحب نيسابور يستنجده وكان قد صار بينهما مصاهرة‏:‏ زوج المؤيد ابنة طغان شاه بابنة غياث الدين فجمع المؤيد عساكره وأقام بظاهر نيسابور على طريق خواروم‏.‏

وكان خوارزم شاه قد سار عن خوارزم إلى لقاء عسكر الغورية الذين مع أخيه سلطان شاه وقد نزلوا بطرف الرمل فبينما هو في مسيره أتاه خبر المؤيد انه قد جمع عساكره وانه على قصد خوارزم إذا فارقها فسقط في يديه وعاد فوقع في قلبه وعاد إلى خوارزم فأخذ أمواله وذخائره وعبر جيحون إلى الخطا وأخلى خوارزم فوقع بها خبط عظيم فحضر جماعة من أعيانها عند ألب غازي وسألوه إرسال أمير معهم يضبط البلد فخاف أن تكون مكيدة فلم يفعل‏.‏

فبينما هم في ذلك توفي سلطان شاه سلخ رمضان سنة تسع وثمانين وخمسمائة

فكتب ألب غازي إلى غياث الدين يعلمه الخبر فكتب إليه يأمره بالعود إليه فرجع ومعه أصحاب سلطان شاه فأمر غياث الدين بأن يستخدموا وأقطع الأجناد الإقطاعات الجيدة وكلهم قابل إحسانه بكفران وسنذكر باقي أخبارهم‏.‏

ولما سمع خوارزم شاه تكش بوفاة أخيه عاد إلى خوارزم وأرسل إلى سرخس ومرو شحناء فجهز إليهم أمير هراة عمر المرغني جيشًا فأخبرهم وقال‏:‏ حتى نستأذن السلطان غياث الدين وأرسل خوارزم شاه رسولًا إلى غياث الدين يطلب الصلح والمصاهرة وسير مع رسوله جماعة من الفقهاء خراسان والعلويين ومعهم وجيه الدين محمد بن محمود وهو الذي جعل غياث الدين شافعيًا وكان له عنده منزلة كبيرة فوعظوه وخوفوه الله تعالى وأعلموه أن خوارزم شاه يراسلهم ويتهددهم بأنه يجيئ بالأتراك والخطا ويستبيح حريمهم وأموالهم وقالوا له‏:‏ إما أن تحضر أنت بنفسك وتجعل مرو دار ملكك حتى ينقطع طمع الكافرين عن البلاد ويأمن أهلها وإما أن تصالح خوارزم شاه فأجاب إلى الصلح وترك معارضة البلاد‏.‏

فلما سمع من بخراسان من الغز بذاك طمعوا في البلاد فعادوا إلى النهب والإحراق والتخريب فسمع خوارزم شاه فجمع عساكره وحضر بخراسان ودخل مرو وسرخس ونسا وأبيورد وغيرها وأصلح البلاد وتطرق إلى طوس وهي للمؤيد صاحب نيسابور فجمع المؤيد جيوشه وسار إليه فلما سمع خوارزم شاه بمسيره إليه عاد إلى خوارزم فلما وصل إلى الرمل أقام بطرفه فلما سمع المؤيد بعود خوارزم شاه طمع فيه وتبعه فلما سمع خوارزم شاه بذلك أرسل إلى المناهل التي في البرية فألقى فيها الجيف والتراب بحيث لم يمكن الانتفاع بها‏.‏

فلما توسط المؤيد البرية طلب الماء فلم يجده فجاء خوارزم شاه إليه وهو على تلك الحال ومعه الماء على الجمال فأحاط به فأما عسكره فاستسلموا بأسرهم وجيئ بالمؤيد أسيرًا إلى خوارزم شاه فأمر بضرب عنقه فقال‏:‏ يا مخنث هذا فعال الناس فلم يلتفت إليه وقتله وحمل رأسه إلى خوارزم‏.‏

فلما قتل ملك نيسابور ملك ما كان له ابنه طغان شاه‏.‏

فلما كان من قابل جمع خوارزم شاه عساكره وسار إلى نيسابور فحاصرها وقاتلها فمنعه طغان شاه فعاد عنه ثم رجع إليه فخرج إليه طغان شاه فقاتله فأسر طغان شاه وأخذه فزوجه أخته وحمله معه إلى خوارزم وملك نيسابور وجميع ما كان لطغان شاه من الملك وعظم شأنه وقوي أمره‏.‏

هذا الذي ذكره في هذه الرواية مخالف لما تقدم ولو أمكن الجمع بين الروايتين لفعلت فإن أحدهما قد قدم ما أخره الآخر فلهذا أوردنا جميع ما قالاه ولبعد البلاد عنا لم نعلم أي القولين أصح أن نذكره ونترك الآخر وإنما أوردتها في موضع واحد لأن أيام سلطان شاه لم تطل له