المجلد العاشر - ذكر غارة الفرنج على بلد حوران وغارة المسلمين على بلد الفرنج

‏ في هذه السنة في ربيع الأول اجتوعت الفرنج وساروا إلى بلد حوران من أعمال دمشق للغارة عليه وبلغ الخبر إلى نور الدين وكان قد برز ونزل هو وعسكره بالكسوة فسار إليهم مجدًا وقدم بجموعه عليهم فلما علموا بقربه منهم دخلوا إلى السواد وهو من أعمال دمشق أيضًا ولحقهم المسلمون وتخطفوا من في ساقتهم ونالوا منهم وسار نور الدين فنزل في عشترا وسير منها سرية إلى أعمال طبرية فشنوا الغارات عليها فنهبوا وسبوا وأحرقوا وخربوا فسمع الفرنج ذلك فرحلوا إليهم ليمنعوه عن بلادهم فلما وصلوا كان المسلمون قد فرغوا من نهبهم وغنيمتهم وعادوا وعبروا النهر‏.‏

وأدركهم الفرنج فوقف مقابلهم شجعان المسلمين وحماتهم يقاتلونهم فاشتد القتال وصبر الفريقان الفرنج يرومون أن يلحقوا الغنيمة فيردوها والمسلمون يريدون أن يمنعونهم عنها لينجو بها من قد سار معها فلما طال القتال بينهم وأبعدت الغنيمة وسلمت مع المسلمين عاد الفرنج ولم يقدروا أن يستردوا منها شيئًا‏.‏

في هذه السنة في جمادى الأولى سار شمس الدولة توارنشاه بن أيوب أخو صلاح الدين الأكبر من مصر إلى بلد النوبة فوصل إلى أول بلادهم ليتغلب عليه ويتملكه‏.‏

وكان سبب ذلك أن صلاح الدين وأهله كانوا يعلمون أن نور الدين كان على عزم الدخول إلى مصر وأخذها منهم فاستقر الرأي بينهم أنهم يتملكون إما بلاد النوبة أو بلاد اليمن حتى إذا وصل إليهم نور الدين لقوه وصدوه عن البلاد فإن قووا على منعه أقاموا بمصر وإن عجزوا عن ذلك ركبوا البحر ولحقوا بالبلاد التي افتتحوها فجهز شمس الدولة وسار إلى أسوان ومنها إلى بلد النوبة فنازل قلعة اسمها أبريم فحصرها وقاتله أهلها فلم يكن لهم بقتال العسكر الإسلامي قوة لأنهم ليس لهم جنة تقيهم السهام وغيرها من آلة الحرب فسلموها فملكها وأقام فيها ولم ير للبلاد دخلًا يرغب فيه وتحتمل المشقة لأجله وقوتهم الذرة فلما رأى عدم الحاصل وقشف العيش مع مباشرة الحروب ومعاناة التعب والمشقة وتركها وعاد إلى مصر بما غنم وكان عامة غنيمتهم العبيد والجواري‏.‏

ذكر ظفر لمليح بن ليون بالروم

في هذه السنة في جمادى الأولى هزم مليح بن ليون الأرمني صاحب بلاد الدروب المجاورة لحلب عسكر الروم من القسطنطينية‏.‏

وسبب ذلك أن نور الدين كان قد استخدم مليحًا المذكور وأقطعه إقطاعًا سنيًا وكان ملازم الخدمة لنور الدين ومشاهدًا لحروبه مع الفرنج ومباشرًا لها وكان هذا من جيد الرأي وصائبه فغن نور الدين لما قيل له في معنى استخدامه وإعطائه الإقطاع من بلاد الإسلام قال‏:‏ استعين به على قتال أهل ملته وأريح طائفة من عسكري تكون بإزائه لتمنعه من الإغارة على البلاد المجاورة له‏.‏

وكان مليح أيضًا يتقوى بنور الدين على ما يجاوره من الأرمن والروم وكانت مدينة أدنة والمصيصة وطرسوس بيد ملك الروم صاحب القسطنطينية فأخذها مليح منهم لأنها تجاور بلاده فسير إليه ملك الروم جيشًا كثيفًا وجعل عليهم بعض أعيان البطارقة من أقاربه فلقيهم مليح ومعه طائفة من عسكر نور الدين فقاتلهم وصدقهم القتال وصابرهم فانهزمت الروم وكثر فيهم القتل والأسر وقويت شوكة مليح وانقطع أمل الروم من تلك البلاد‏.‏

وأرسل مليح إلى نور الدين كثيرًا من غنائمهم ومن الأسرى ثلاثين رجلًا من مشهوريهم وأعيانهم فسير نور الدين بعض ذلك إللى الخليفة المستضيئ بأمر الله وكتب يعتد بهذا الفتح لأن بعض جنده فعلوه‏.‏

في هذه السنة توفي أتابك إيلدكز بهمذان وملك بعده ابنه محمد البهلوان ولم يختلف عليه أحد وكان إيلدكز هذا مملوكًا للكمال السميرمي وزير السلطان محمود فلما قتل الكمال كما ذكرناه صار إيلدكز إلى السلطان محمود فلما ولي السلطان مسعود السلطنة ولاه أرانية فمضى إليها ولم يعد يحضر عند السلطان مسعود ولا غيره ثم ملك أكثر أذربيجان وبلاد الجبل وهمذان وغيرها واصفهان والري وما والاهما من البلاد وخطب بالسلطنة لابن امرأته أرسلان شاه بن طغرل وكان عسكره خمسين ألف فارس سوى الأتباع واتسع ملكه من باب تفليس إلى كرمان ولم يكن السلطان أرسلان شاه معه حكم إنما كان له جراية تصل إليه‏.‏

وبلغ من تحكمه عليه أنه شرب ذات ليلة فوهب ما في خزانته وكان كثيرًا فلما سمع إيلدكز بذلك استعاده جميعه وقال له‏:‏ متى أخرجت المال في غير وجههن أخذته أيضًا من غير وجهه وظلمت الرعية‏.‏

وكان إيلدكز عاقلًا حسن السيرة يجلس بنفسه للرعية ويسمع شكاويهم وينصف بعضهم من بعض

ذكر وصول الترك إلى إفريقية

في هذه السنة سارت طائفة من الترك من ديار مصر مع قراقوش مملوك تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى جبال نفوسة واجتمع مسعود بن زمام المعروف بمسعود البلاط وهو من أعيان العرب هناك وكان خارجًا عن طاعة عبد المؤمن وأولاده فاتفقا وكثر جمعهما ونزلا على طرابلس الغرب فحاصراها وضيقا على أهلها ثم فتحت فاستولى قراقوش وأسكن اهله قصرها وملك كثيرًا من بلاد إفريقية ما خلا المهدية وسفاقس وقفصة وتونس وما والاها من القرى والمواضع‏.‏

وصار مع قراقوش عسكر كثير فحكم على تلك البلاد بمساعدة الععرب بما جبلت عليه من التخريب والنهب والإساد بقطع الأشجار والثمار وغير ذلك فجمع بها أموالًا عظيمة وجعلها بمدينة قابس وقويت نفسه وحدثته بالاستيلاء على جميع لإفريقية لبعد أبي يعقوب بن عبد المؤمن صاحبها عنها وكان ما سنذكره إن شاء الله‏.‏

ذكر غزو ابن عبد المؤمن الفرنج بالأندلس


في هذه السنة جمع أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن عساكره وسار من إشبيلية إلى الغزو فقصد بلاد الفرنج ونزل على مدينة رندة وهي بالقرب من طليطلة شرقًا منها وحصرها

فاتفق أن الغلاء اشتد على المسلمين وعدمت الأقوات عندهم وهم في جمع كثير فاضطروا إلى مفارقة بلاد الفرنج فعادوا إلى إشبيلية وأقام أبو يعقوب بها سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وهو في ذلك يجهز العساكر ويسيرها إلى غزو بلاد الفرنج في كل وقت فكان فيها عدة وقائع وغزوات ظهر فيها من العرب من الشجاعة ما لا يوصف وصار الفارس من العرب يبرز بين الصفين ويطلب مبارزة الفارس المشهور من الفرنج فلا يبرز إليه أحد ثم عاد أبو يعقوب إلى مراكش‏.‏

ذكر نهب نهاوند

في هذه السنة نهب عسكر شملة نهاوند‏.‏ وسبب ذلك أن شملة كان أيام إيلدكز لا يزال يطلب منه نهاوند لكونها مجاورة بلاده ويبذل فيها الأموال فلا يجيبه إلى ذلك فلما مات إيلدكز وملك بعده محمد البهلوان وسار إلى أذربيجان لإصلاحها أنفذ شملة ابن أخيه ابن سنكا لأخذ نهاوند وبلغ أهل البلد الخبر فتحصنوا وحصرهم وقاتلهم وقاتلوهن وأفحشوا في سبه فلما علم أنه لا طاقة له بهم رجع إلى تستر وهي قريبة منها وأرسل أهل نهاوند إلى البهلوان يطلبون منه نجدة فتأخرت عنهم فلما اطمأنوا خرج ابن سنكا من تستر في خمس مائة فارس جريدة وسار يومًا وليلة فقطع أربعين فرسخًا حتى وصل إلى نهاوند وضرب البوق وأظهر أنه من أصحاب البهلوان لأنه جاءهم من ناحيته ففتح أهل البلد له الأبواب فدخله فلما توسط قبض على القاضي والرؤساء وصلبهم ونهب البلد وأحرقه وقطع أنف الوالي وأطلقه وتوجه نحو ماسبذان قاصدًا العراق‏.‏

ذكر قصد نور الدين بلاد قلج أرسلان

في هذه السنة سار نور الدين محمود بن زنكي إلى مملكة عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان وهي ملطية وسيواس وأقصرا وغيرها عازمًا على حربه وأخذ بلاده منه‏.‏

وكان سبب ذلك أن ذي النون بن دانشمند صاحب ملطية وسيواس قصده قلج أرسلان وأخذ بلاده وأخرجه عنها طريدًا فريدًا فسار إلى نور الدين مستجيرًا به وملتجئًا إليه فأكرم نزله وأحسن إليه وحمل له ما يليق أن يحمل إلى الملوك ووعده النصرة والسعي في رد ملكه إليه‏.‏

ثم أنه أرسل إلى قلج أرسلان يشفع إليه في إعادة بلاد ذي النون إليه فلم يجبه إلى ذلك فسار نور الدين إليه فابتدئ بكيسون وبهنسى ومرعش ومرزبان فملكها وما بينها وكان ملكه لمرعش أوائل ذي القعدة والباقي بعدها فلما ملكها سير طائفة من عسكره إلى سيواس فملكوها‏.‏

وكان قلج أرسلان لما سار نور الدين إلى بلاده قد سار من طرفها الذي يلي الشام إلى وسطها وراسل نور الدين يستعطفه ويسأله الصلح فتوقف نور الدين عن قصده رجاء أن ينصلح الأمر بغير حرب فأتاه عن الفرنج ما أزعجه فأجابه إلى الصلح وشرط عليه أن ينجده بعساكر إلى الغزاة وقال له‏:‏ أنت مجاور الروم ولا تغزوهم وبلادك قطعة كبيرة من بلاد الإسلام ولا بد من الغزاة معي‏.‏

فأجابه إلى ذلك وتبقى سيواس على حالها بيد نواب نور الدين وهي لذي النون فبقي العسكر فيها في خدمة ذي النون إلى أن مات نور الدين فلما مات رحل عسكره عنها وعاد قلج أرسلان وملكها وهي بيد أولاده إلى الآن سنة عشرين وستمائة‏.‏

ولما كان نور الدين في هذه السفرة جاءه رسول كمال الدين أبي الفضل محمد بن عبد الله بن الشهرزوري من بغداد ومعه منشور من الخليفة بالموصل والجزيرة وبإربل وخلاط الشام بلاد قلج أرسلان وديار مصر‏.‏

ذكر رحيل صلاح الدين عن مصر

في هذه السنة في شوال رحل صلاح الدين يوسف بن أيوب من مصر بعساكره جميعها إلى بلاد الفرنج يريد حصر الكرك والاجتماع مع نور الدين عليهن والإتفاق على قصد بلاد الفرنج من جهتين كل واحد منهما في جهة بعسكره‏.‏

وسبب ذلك ان نور الدين لما أكر على صلاح الدين عوده من بلاد الفرنج في العام الماضي وأراد نور الدين قصد مصر وأخذها منه أرسل يعتذر ويعد من نفسه بالحركة على ما يقرره نور الدين فاستقرت القاعدة بينهما أن صلاح الدين يخرج من مصر ونور الدين يسير من دمشق فأيهما سبق صاحبه يقيم إلى أن يصل الآخر إليه وتواعدا على يوم معلوم يكون فيه وصولهما فسار صلاح الدين عن مصر لأن طريقه أصعب وأبعد وأشق ووصل إلى الكرك وحصره‏.‏

وأما نور الدين فإنه لما وصل إليه كتاب صلاح الدين برحيله من مصر فرق الأموال وحصل الأزواد وما يحتاج إليه وسار إلى الكرك فوصل إلى الرقيم وبينه وبين الكرك مرحلتان‏.‏

فلما سمع صلاح الدين بقربه خافه هو وجميع أهله واتفق رأيهم على العود إلى مصر وترك الاجتماع بنور الدين لأنهم علموا أنه إن اجتمعا كان عزله على نور الدين سهلًا‏.‏

فلما عاد أرسل الفقيه عيسى إلى نور الدين يعتذر عن رحيله بأنه كان قد استخلف أباه نجم الدين أيوب على ديار مصر وأنه مريض شديد المرض ويخاف أن يحدث عليه حادث الموت فتخرج البلاد عن أيديهم وأرسل معه من التحف والهدايا ما يجل عن الوصف فجاء الرسول إلى نور الدين واعلمه ذلك فعظم عليه وعلم المراد من العود إلا أنه لم يظهر للرسول تأثرًا بل قال له‏:‏ حفظ مصر أهم عندنا من غيرنا‏.‏

وسار صلاح الدين إلى مصر فوجد أباه قد قضى نحبه ولحق بربه ورب كلمة تقول لقائلها دعني‏.‏

وكان سبب موت نجم الدين انه ركب يومًا فرسًا بمصر فنفر به الفرس نفرة شديدة فسقط عن ظهره فحمل إلى قصره وقيذًا وبقي أيامًا ومات في السابع والعشرين من ذي الحجة وكان خيرًا عاقلًا حسن السيرة كريمًا جوادًا كثير الإحسان إلى الفقراء والصوفية‏.‏

والمجالسة لهم‏.‏ وقد تقدم من ذكره وابتداء أمره وأمر أخيه شيركوه ما لا حاجة إلى إعادته‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة زادت دجلة زيادة كثيرة أشرفت بها بغداد على الغرق في شعبان وسدوا أبواب الدروب ووصل الماء إلى قبة احمد بن حنبل ووصل إلى النظامية ورباط شيخ الشيوخ واشتغل العالم بالعمل في القورج ثم نقص وكفى الناس شره‏.‏

وفيها وقعت النار ببغداد من درب بهروز إلى باب جامع القصر ومن الجانب الآخر من حجر النحاس إلى دار أم الخليفة‏.‏

وفيها أغار بنو حزن من خفاجة على سواد العراق وسبب ذلك أن الحماية كانت لهم لسواد العراق فلما تمكن يزدن من البلاد وتسلم الحلة أخذها منهم وجعلها لبني كعب من خفاجة‏.‏

وأغار بنو حزن على السواد فسار يزدن في عسكر ومعه الغضبان الخفاجي وهو من بني كعب لقتال بني حزن فبينما هم سائرون ليلًا رمى بعض الجند الغضبان بسهم فقتله لفساده وكان في السواد فلما قتل عاد العسكر إلى بغداد وأعيدت خفارة السواد إلى بني حزن‏.‏

وفيها خرج برجم الإيوائي في جمع من التركمان في حياة إيلدكز وتطرق أعمال همذان ونهب الدينور واستباح الحريم‏.‏

وسمع إيلدكز الخبر وهو بنقجوان فسار مجدًا فيمن خف معه من عسكره فقصده فهرب برجم إلى أن قارب بغداد وتبعه إيلدكز فظن الخليفة أنها حيلة ليصل إلى بغداد فجأة فشرع في جمع العساكر وعمل السور فأرسل إلى إيلدكز الخلع والألقاب الكبيرة فاعتذر أنه لم يقصد إلا كف فساد هؤلاء ولم يتعد قنطرة خانقين وعاد وفيها توفي الأمير يزدن وهو من أكابر أمراء بغداد وكان يتشيع فوقع بسببه فتنة بين السنة والشيعة بواسط لأن الشيعة جلسوا له للعزاء ولما مات أقطع أخوه تنامش ما كان لأخيه وهو مدينة واسط ولقب علاء الدين‏.‏

وفيها أرسل نور الدين محمود بن زنكي رسولًا إلى الخليفة وكان الرسول القاضي كمال الدين أبا الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري قاضي بلاده جميعها مع الوقوف والديوان وحمله رسالة مضمونها الخدمة للديوان وما هو عليه من جهاد الكفار وفتح بلادهم ويطلب تقليدًا بما بيده من البلاد مصر والشام والجزيرة والموصل وبما في طاعته كديار بكر وما يجاور ذلك كخلاط وبلاد قلج أرسلان وأن يعطى من الأقطاع بسواد العراق ما كان لأبيه زنكي وهو‏:‏ صريفين ودرب هارون والتمس أرضًا على شاطئ دجلة يبنيها مدرسة للشافعية ويوقف عليها صريفين ودرب هارون فأكرم كمال الدين إكرامًا لم يكرم به رسول قبله وأجيب إلى ما التمسه فمات نور الدين قبل الشروع في بناء المدرسة رحمه الله‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وستين وخمسمائة

ذكر ملك شمس الدولة زبيد وعدن وغيرهما من بلاد اليمن

قد ذكرنا قبل أن صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب مصر وأهله كانوا يخافون من نور الدين محمود أن يدخل إلى مصر فيأخذها منهم فشرعوا في تحصيل مملكة يقصدونها ويتملكونها تكون عدة لهم إن أخرجهم نور الدين من مصر ساروا إليها وأقاموا بها فسيروا شمس الدولة تورانشاه بن أيوب وهو أخوا صلاح الدين الأكبر إلى بلد النوبة فكان ما ذكرناه‏.‏

فلما عاد إلى مصر استأذنوا نور الدين في أن يسير إلى اليمن لقصد عبد النبي صاحب زبيد لأجل قطع الخطبة العباسية فأذن في ذلك‏.‏

وكان بمصر شاعر اسمه عمارة من أهل اليمن فكاك يحسن لشمس الدولة قصد اليمن ويصف البلاد له ويعظم ذلك في عينه فزاده قوله رغبة فيها فشرع يتجهز ويعد الأزواد والروايا والسلاح وغيره من الآلات وجند الأجناد فجمع وحشد وسار عن مصر مستهل رجب فوصل إلى مكة أعزها الله تعالى ومنها إلى زبيد وفيها صاحبها المتغلب عليها المعروف بعبد النبي فلما قرب منها رآه أهلها فاستقلوا من معه فقال لهم عبد النبي‏:‏ كأنكم بهؤلاء وقد حمي عليهم الحر فهلكوا وما هم إلى أكلة رأس فخرج إليهم بعسكره فقاتلهم شمس الدولة ومن معه فلم يثبت أهل زبيد وانهزموا ووصل المصريون إلى سور زبيد فلم يجدوا عليه من يمنعهم فنصبوا السلالم وصعدوا السور فملكوا البلد عنوة ونهبوه وأكثروا النهب واخذوا عبد النبي أسيرًا وزوجته المدعوة بالحرة وكانت امرأة صالحة كثيرة الصدقة لا سيما إذا حجت فإن فقراء الحاج كانوا يجدون عندها صدقة دارة وخيرًا كثيرًا ومعروفًا عظيمًان وسلم شمس الدولة عبد النبي إلى بعض أمراءه يقال له سيف الدولة مبارك بن كامل من بني منقذ أصحاب شيزر وأمره أن يستخرج منه الأموال فأعطاه منها شيئًا كثيرًا ثم إنه دلهم على قبر قكان قد صنعه لوالدهن وبنى عليه بنية عظيمة وله هناك دفائن كثيرة فأعلمهم بها فاستخرجت الأموال من هناك وكانت جليلة المقدار وأما الحرة فإنها أيضًا تدلهم على ودائع لها فأخذ منها مالًا كثيرًا‏.‏

ولما ملكوا زبيد واستقر الأمر لهم بها ودان أهلها وأقيمت فيها الخطبة العباسية اصلحوا حالها وساروا إلى عدن وهي على البحر ولها مرسى عظيم وهي فرضة الهند والزنج والحبشة وعمان وكرمان وكيس وفارس وغير ذلك وهي من جهة البر من أمنع البلاد وأحصنها وصاحبها إنسان اسمه ياسر فلو أقام بها ولم يخرج عنها لعادوا خائبين وإنما حمله جهله وانقضاء مدته على الخروج إليهم ومباشرة قتالهم فسار إليهم وقاتلهم فانهزم ياسر ومن معه وسبقهم بعض عسكر شمس الدولة فدخلوا البلد قبل أهله فملكوه وأخذوا صاحبه ياسر أسيرًا وأرادوا نهب البلد فمنعهم شمس الدولة وقال‏:‏ ما جئنا لنخرب البلاد وغنما جئنا لنملكها ونعمرها وننتفع بدخلها فلم ينهب منها أحد شيئًا فبقيت على حالها وثبت ولما مضى إلى عدن كان معه عبد النبي صاحب زبيد مأسورًا فلما دخل إلى عدن قال‏:‏ سبحان الله‏!‏ كنت قد علمت أنني ادخل إلى عدن في موكب كبير فأنا انتظر ذلك وأسر به ولم أكن أعلم أنني أدخلها على هذه الحال‏.‏

ولما فرغ شمس الدولة من أمر عدن عاد إلى زبيد وملك أيضًا قلعة التعكر والجند وغيرها من المعاقل والحصون واستناب بعدن عز الدين عثمان بن الزنجيلي وبزبيد سيف الدولة مبارك ابن منقذ وجعل في كل قلعة نائبًا من أصحابه وألقى ملكهم باليمن جرانه ودام وأحسن شمس الدولة إلى أهالي البلاد واستصفى طاعتهم بالعدل والإحسان وعادت زبيد إلى أحسن أحوالها من العمارة والأمن‏.‏

ذكر قتل جماعة من المصريين أرادوا الوثوب بصلاح الدين

في هذه السنة ثاني رمضان صلب صلاح الدين يوسف بن أيوب جماعة ممن أرادوا الوثوب به من أصحاب الخلفاء العلويين‏.‏

وسبب ذلك أن جماعة من شيعة العلويين منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر وعبد الصمد الكاتب والقاضي العويرس وداعي الدعاة وغيرهم من جند المصريين ورجالتهم السودان وحاشية القصر ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد فإذا قصدوا البلاد فإن خرج صلاح الدين إليهم بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه فلا يبقى له مقام مقابل الفرنج وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به وأخذوه أخذًا باليد لعدم وجود الناصر له والمساعد وقال لهم عمارة‏:‏ وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفًا أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده‏.‏

وأرسلوا إلى الفرنج بصقلية والساحل في ذلك وتقررت القاعدة بينهم ولم يبق إلا رحيل الفرنج وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين ادخلوا معهم في هذا الأمر الأمير زين الدين علي بن نجا الواعظ المعروف بابن نجية ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقاضي إلا أن بني رزيك قالوا‏:‏ يكون الوزير منا وبني شاور قالوا‏:‏ يكون الوزير منا فلما علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين وأعلمه حقيقة الأمر فأمر بملازمتهم ومخالطتهم ومواطأتهم على ما يريدون ان يفعلوه وتعريفه ما يتجدد أولًا بأول ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا ثم وصل رسول من ملك الفرنج بالساحل الشامي إلى صلاح الدين بهدية ورسالة وهو في الظاهر إليه والباطن إلى أولئك الجماعة وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجلية الحال فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق به من النصارى وداخله فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة منهم‏:‏ عمارة وعبد الصمد والعويرس وغيرهم وصلبهم‏.‏

وقيل في كشف أمرهم إن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي القاضي الفاضل الكاتب الصلاحي يخدمه ويتقرب إليه بجهده وطاقته فلقيه يومًا فلم يلتفت إليه فقال القاضي الفاضل‏:‏ ما هذا إلا لسبب‏.‏

وخاف أن يكون قد صار له باطن من صلاح الدين فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال وقال‏:‏ أريد أن تكشف لي الأمر فسعى في كشفه فلم ير لم من جانب صلاح الدين شيئًا فعدل إلى الجانب الآخر فكشف الحال وحضر عند القاضي العادل وأعلمه فقال‏:‏ تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع فذكر له الحال فقام وأخذ الجماعة وقررهم فأقروا فأمر بصلبهم‏.‏

وكان عمارة بينه وبين الفاضل عداوة من أيام العاضد وقبلها فلما أراد صلبه قام القاضي الفاضل وخاطب صلاح الدين في إطلاقه وظن عمارة أنه يحرض على هلاكه فقال لصلاح الدين‏:‏ يامولانا لا تسمع منه في حقي فغضب الفاضل وخرج وقال صلاح الدين لعمارة‏:‏ إنه كان يشفع فيك فندم ثم أخرج عمارة ليصلب فطلب أن يمر به على مجلس الفاضل فاجتازوا به عليه فأغلق بابه ولم يجتمع به فقال عمارة‏:‏ عبد الرحيم قد احتجب إن الخلاص هو العجب ثم صلب هو والجماعة ونودي في أجناد المصريين بالرحيل من ديار مصر ومفارقتها إلى أقاصي الصعيد واحتيط على من بالقصر من سلالة العاضد وغيره من أهله‏.‏

وأما الذين نافقوا على صلاح الدين من جنده فلم يعرض لهم ولا أعلمهم انه علم بحالهم وأما الفرنج فإن فرنج صقلية قصدوا الإسكندرية على ما نذكره إن شاء الله تعالى لأنهم لم يتصل بهم ظهور الخبر عند صلاح الدين وأما فرنج الشام فإنهم لم يتحركوا لعلمهم بحقيقة الحال‏.‏

وكان عمارة شاعرًا مفلقًا فمن شعره‏:‏ لو أن قلبي يوم كاظمة معي لملكته وكظمت فيض الأدمع قلب كفاك من الصبابة أنه لبى نداء الظاعنين وما دعي ما القلب أول غادر فألومه هي شيمة الأيام مذ خلقت معي ومن الظنون الفاسدات توهمي بعد اليقين بقاءه في أضلعي لي في هوى الرشا العذري إعذار لم يبق لي مذ أقر الدمع إنكار لي في القدود وفي لثم الخدود وفي ضم النهود لبانات وأوطار هذا اختياري فوافق إن رضيت به أو لا فدعني وما أهوى وأختار وله ديوان شعر مشهور في غاية الحسن والرقة والملاحة‏.‏

ذكر وفاة نور الدين محمود بن زنكي

في هذه السنة توفي نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر صاحب الشام وديار الجزيرة ومصر يوم الأربعاء حادي عشر شوال بعلة الخوانيق ودفن بقلعة دمشق ونقل منها إلى المدرسة التي أنشأها بدمشق عند سوق الخواصين‏.‏

ومن عجيب الاتفاق أنه ركب ثاني شوال وإلى جانبه بعض الأمراء الأخيار فقال له الأمير‏:‏ سبحان من يعلم هل نجتمع هنا في العام المقبل أم لا فقال نور الدين‏:‏ لا تقل هكذا بل سبحان من يعلم هل نجتمع بعد شهر أم لا فمات نور الدين رحمه الله بعد أحد عشر يومًا ومات الأمير قبل الحول فأخذ كل منهما بما قاله‏.‏

وكان قد شرع يتجهز للدخول إلى مصر لأخذها من صلاح الدين يوسف ابن أيوب فإنه رأى منه فتورًا في غزو الفرنج من ناحيته وكان يعلم انه إنما يمنع صلاح الدين من الغزو الخوف منه ومن الاجتماع به فإنه يؤثر كون الفرنج في الطريق ليمتنع بهم عن نور الدين فأرسل إلى الموصل وديار الجزيرة وديار بكر يطلب العساكر للغزاة وكان عزمه أن يتركها مع ابن أخيه سيف الدين غازي صاحب الموصل بالشام ويسير هو بعساكره إلى مصر فبينما هو يتجهز لذلك أتاه أمر الله الذي لا مرد له‏.‏

حكى لي طبيب يعرف بالطبيب الرحبي وهو كان يخدم نور الدين وهو من حذاق الأطباء قال‏:‏ استدعاني نور الدين في مرضه الذي توفي فيه مع غيري من الأطباء فدخلنا إليه وهو في بيت صغير في قلعة دمشق وقد تمكنت الخوانيق منه وقارب الهلاك فلا يكاد يسمع صوته وكان يخلو فيه للتعبد فابتدأ به المرض فلم ينتقل عنه فلما دخلنا ورأيت ما به قلت له‏:‏ كان ينبغي أن لا تؤخر إحضارنا إلى أن يشتد بك المرض الآن وينبغي أن تعجل الانتقال من هذا المكان إلى مكان فسيح مضيء فله اثر في هذا المرض‏.‏

وشرعنا في علاجه وأشرنا بالفصد فقال‏:‏ ابن ستين لا يفتصد وامتنع به فعالجناه بغيره فلم ينجع فيه الدواء وعظم الداء ومات رحمه الله ورضي عنه‏.‏

وكان أسمر طويل القامة ليس له لحية إلا في حنكه وكان واسع الجبهة حسن الصورة حلو العينين وكان قد اتسع ملكه جدًا وخطب له بالحرمين الشريفين وباليمن لما دخلها شمس الدولة بن أيوب وملكها وكان مولده سنة إحدى عشرة وخمسمائة وطبق ذكره الأرض بحسن سيرته وعدله‏.‏

وقد طالعت سير الملوك المتقدمين فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته ولا أكثر تحريًا للعدل منه‏.‏

وقد أتينا على كثير من ذلك في كتاب الباهر من أخبار دولتهم ولنذكر هاهنا نبذة مختصرة لعل يقف عليها من له حكم فيقتدي به فمن ذلك زهده وعبادته وعلمه فإنه كان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف في الذي يخصه إلا من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين ولقد شكت إليه زوجته من الضائقة فأعطاها ثلاث دكاكين في حمص كانت له منها يحصل له في السنة نحو عشرين دينارًا فلما استقلتها قال‏:‏ ليس لي إلا هذا وجميع ما يدي أنا خازن فيه للمسلمين لا أخونهم فيه ولا أخوض نار جهنم لأجلك‏.‏

وكان يصلي كثيرًا بالليل وله فيه أوراد حسنة وكان كما قيل‏:‏ جمع الشجاعة والخشوع لربه ما أحسن المحراب في المحراب وكان عارفًا بالفقه على مذهب أبي حنيفة ليس عنده فيه تعصب وسمع الحديث واسمعه طلبًا للأجر‏.‏

وأما عدله فإنه لم يترك في بلاده على سعتها وكسًا ولا عشرًا بل أطلقها جميعها في مصر والشام والجزيرة والموصل وكان يعظم الشريعة ويقف عند أحكامها وأحضره إنسان إلى مجلس الحكم فمضى معه إليه وأرسل إلى القاضي كمال الدين الشهرزوري يقول‏:‏ قد جئت محاكمًا فاسلك معي ما تسلك مع الخصوم وظهر الحق له فوهبه الخصم الذي أحضره وقال‏:‏ أردت أن أترك له ما يدعيه وإنما خفت أن يكون الباعث لي على ذلك الكبر والأنفة من الحضور إلى مجلس الشريعة فحضرت ثم وهبته ما يدعيه‏.‏

وبنى دار العدل في بلاده وكان يجلس هو والقاضي بها ينصف المظلوم ولو أنه يهودي من الظالم ولو أنه ولده أم أكبر أمير عنده‏.‏

وأما شجاعته فإليها النهاية وكان في الحرب يأخذ قوسين وتركشين ليقاتل بها فقال له القطب النشاوي الفقيه‏:‏ بالله عليك لا تخاطر بنفسك وبالإسلام والمسلمين فإن أصبت في معركة لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف‏.‏

فقال له نور الدين‏:‏ ومن محمود حتى يقال له ذلك من قبلي من حفظ البلاد والإسلام ذلك الله الذي لا إله إلا هو‏.‏

وأما فعله الصالح فإنه بنى أسوار مدن الشام جميعها وقلاعها فمنها دمشق وحمص وحماة وحلب وشيزر وبعلبك وغيرها وبنى المدارس الكثيرة للحنفية والشافعية وبنى الجامع النوري بالموصل وبنى البيمارستانات والخانات في الطرق وبنى الخانكاهات للصوفية في جميع البلاد ووقف على الجميع الوقوف الكثيرة‏.‏

سمعت أن حاصل وقفه كل شهر تسعة آلاف دينار صوري‏.‏

وكان يكرم العلماء وأهل الدين ويعظمهم ويعطيهم ويقوم إليهم ويجلسهم معه وينبسط معهم ولا يرد لهم قولًا ويكاتبهم بخط يده وكان وقورًا مهيبًا مع تواضعه وبالجملة فحسناته كثيرة ومناقبه غزيرة لا يحتملها هذا الكتاب‏.‏

ذكر ملك ولده الملك الصالح

لما توفي نور الدين قام ابنه الملك الصالح إسماعيل بالملك بعده وكان عمره إحدى عشرة سنة وحلف له الأمراء والمقدمون بدمشق وأقام بها وأطاعه الناس بالشام وصلاح الدين بمصر وخطب له بها وضرب السكة باسمه وتولى تربيته الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم وصار مدبر دولته فقال له كمال الدين بن الشهرزوري ولمن معه من الأمراء‏:‏ قد علمتم أن صلاح الدين صاحب مصر هو من مماليك نور الدين ونوابه أصحاب نور الدين والمصلحة أن نشاوره في الذي نفعله ولا نخرجه من بيننا فيخرج عن طاعتنا ويجعل ذلك حجة علينا وهو أقوى منا لأنه قد انفرد اليوم بملك مصر فلم يوافق هذا القول أغراضهم وخافوا أن يدخل صلاح الدين ويخرجهم فلم يمض غير قليل حتى وردت كتب صلاح الدين إلى الملك الصالح يعزيه ويهنئه بالملك وأرسل دنانير مصرية عليها اسمه ويعرفه أن الخطبة والطاعة له كما كانت لأبيه‏.‏

فلما سار سيف الدين غازي صاحب الموصل وملك البلاد الجزرية على ما نذكرهن أرسل صلاح الدين أيضًا إلى الملك الصالح يعتبه حيث لم يعلمه قصد سيف الدولة بلاده وأخذها ليحضر في خدمته ويكف سيف الدين وكتب إلى كمال الدين والأمراء يقول‏:‏ لو أن نور الدين يعلم أن فيكم من يقوم مقامي ن أو يثق به مثل ثقته بي لسلم إليه مصر التي هي اعظم ممالكه وولاياته ولو لم يعجل عليه الموت لم يعهد إلى أحد بتربية ولده والقيام بخدمته غيري وأراكم قد تفردتم بمولاي وابن مولاي دوني وسوف أصل إلى خدمته وأجازي إنعام والده بخدمة يظهر أثرها وأجازي كلًا منكم على سوء صنيعه في ترك الذب عن بلاده‏.‏

وتمسك ابن المقدم وجماعة من الأمراء بالملك الصالح ولم يرسلوه إلى حلب خوفًا أن يغلبهم عليه شمس الدين علي بن الداية فإنه كان أكبر الأمراء النورية وإنما منعه من الاتصال به والقيام على خدمته مرض لحق به وكان هو وأخوته بحلب وأمرها إليهم وعساكرها معهم في حياة نور الدين وبعده ولما عجز عن الحركة أرسل إلى الملك الصالح يدعوه إلى حلب ليمنع به البلاد الجزرية من سيف الدين ابن عمه قطب الدين فلم يمكنه الأمراء الذين معه من الانتقال إلى حلب لما ذكرناه‏.‏

ذكر ملك سيف الدين البلاد الجزرية

كان نور الدين قبل أن يمرض قد أرسل إلى البلاد الشرقية الموصل وديار الجزيرة وغيرها يستدعي العساكر منها للغزاة والمراد غيرها وقد تقدم ذكره فسار سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل في عساكره وعلى مقدمته الخادم سعد الدين كمشتكين الذي كان قد جعله نور الدين بقلعة الموصل مع سيف الدين فلما كانوا ببعض الطريق وصلت الأخبار بوفاة نور الدين فأما سعد الدين فإنه كان في المقدمة فهرب جريدة‏.‏

وأما سيف الدين فأخذ كل ما كان له من برك وغيره وعاد إلى نصيبين فملكها وأرسل الشحن إلى الخابور فاستولوا عليه وأقطعه وسار هو إلى حران فحصرها عدة أيام وبها مملوك لنور الدين يقال له قايماز الحراني فامتنع بها وأطاع بعد ذلك على أن تكون حران له ونزل إلى خدمة سيف الدين فقبض عليه وأخذ حران منه وسار إلى الرها فحصرها وملكها وكان بها خادم خصي أسود لنور الدين فسلمها وطلب عوضًا عنها قلعة الزعفران من أعمال جزيرة ابن وسير سيف الدين إلى الرقة فملكها وكذلك سروج واستكمل ملك جميع بلاد الجزيرة سوى قلعة جعبر فإنها كانت منيعة وسوى رأس عين فإنها كانت لقطب الدين صاحب ماردين وهو ابن خال سيف الدين فلم يتعرض إليها‏.‏

وكان شمس الدين علي بن الداية وهو أكبر الأمراء النورية بحلب مع عساكرها فلم يقدر على العبور إلى سيف الدين ليمنعه من أخذ البلاد لفالج كان به فأرسل إلى دمشق يطلب الملك الصالح فلم يرسل إليه لما ذكرناه ولما ملك سيف الدين الديار الجزرية قال له فخر الدين عبد المسيح وكان قد وصل إليه من سيواس بعد موت نور الدين وهو الذي أقر له الملك بعد أبيه قطب الدين فظن أن سيف الدين يرعى له ذلكن فلم يجن ثمرة ما غرس وكان عنده كبعض الأمراء قال له‏:‏ الرأي أن تعبر إلى الشام فليس به مانع فقال له أكبر أمراءه وهو أمير يقال له عز الدين محمود المعروف بزلفندار‏:‏ قد ملكت أكثر ما كان لأبيك والمصلحة أن تعود فرجع إلى قوله وعاد إلى الموصل ليقضي الله مرًا كان مفعولًا‏.‏

ذكر حصر الفرنج بانياس وعودهم عنها

لما مات نور الدين محمود صاحب الشام اجتمعت الفرنج وساروا إلى قلعة بانياس من أعمال دمشق فحصروها فجمع شمس الدين محمد بن المقدم العسكر عنده بدمشق فخرج عنها فراسلهم ولاطفهم ثم أغلظ لهم بالقول وقال لهم‏:‏ إن أنتم صالحتمونا وعدتم عن بانياس فنحن على ما كنا عليه وإلا فنرسل إلى سيف الدين صاحب الموصل ونصالحه ونستنجده ونرسل إلى صلاح الدين بمصر فنستنجده ونقصد بلادكم من جهاتها كلها ولا تقومون لنا‏.‏

وأنتم تعلمون أن صلاح الدين كان يخاف أن يجتمع بنور الدين والآن قد زال ذلك الخوف وإذا طلبناه إلى بلادكم فلا يمتنع‏.‏

فعلموا صدقه فصالحوه على شيء من المال أخذوه وأسرى أطلقوا كانوا عند المسلمين وتقررت الهدنة‏.‏

فلما سمع صلاح الدين بذلك أنكره واستعظمه وكتب إلى الملك الصالح والأمراء الذين معه يقح لهم ما فعلوه ويبذل من نفسه قصد بلاد الفرنج ومقارعتهم وإزعاجهم عن قصد شيء من بلاد الملك الصالح وكان قصده أن يصير له طريق إلى بلاد الشام ليتملك البلاد والأمراء الشاميون إنما صالحوا الفرنج خوفًا منه ومن سيف الدين غازين صاحب الموصل فإنه كان قد أخذ البلاد الجزرية وخافوا منه أن يعبر إلى الشام فرأوا صلح الفرنج أصلح من أن يجيء هذا من الغرب وهذا من الشرق وهم مشغولون عن ردهم‏.‏

في هذه السنة في المحرم وقع الحريق ببغداد فاحترق أكثر الظفرية ومواضع غيرها ودام الحريق إلى بكرة وطفئت النار‏.‏

وفيها في شعبان بنى ابن سنكا وهو ابن أخي شملة صاحب خوزستان قلعة بالقرب من الماهكي ليتقوى بها على الاستيلاء على تلك الأعمال فسير إليه الخليفة العساكر من بغداد لمنعه فالتقوا وحمل بنفسه على الميمنة فهزمها واقتتل الناس قتالًا عظيمًا وأسر ابن أخي شملة وحمل رأسه إلى بغداد فعلق بباب النوبي وهدمت القلعة‏.‏

وفيها في رمضان توالت الأمطار في ديار بكر والجزيرة والموصل فدامت أربعين يومًا ما رأينا الشمس فيها غير مرتين كل مرة مقدار لحظة وخربت المساكن وغيرها وكثر الهدم ومات تحته كثير من الناس وزادت دجلة زيادة عظيمة وكان أكثرها ببغداد فإنها زادت على كل زيادة تقدمت منذ بنيت بغداد بذراع وكسر وخاف الناس الغرق وفارقوا البلد وأقاموا على شاطئ دجلة خوفًا من انفتاح القورج وغيره وكانوا كلما انفتح موضع بادروا بسده ونبع الماء في البلاليع وخرب كثيرًا من الدور ودخل الماء إلى البيمارستان العضدي ودخلت السفن من الشبابيك التي له فإنها كانت قد تقلعت فمن الله على الناس بنقص الماء بعد أن أشرفوا على الغرق‏.‏

وفيها في جمادى الأولى كانت الفتنة ببغداد بين قطب الدين قايماز والخليفة وسببها أن الخليفة أمر بإعادة عضد الدين بن رئيس الرؤساء إلى الوزارة فمنع منه قطب الدين وأغلق باب النوبي وباب العامة وبقيت دار الخليفة كالمحاصرة فأجاب الخليفة إلى ترك وزارته فقال قطب الدين‏:‏ لا أقنع إلا بإخراج عضد الدين من بغداد فأمر بالخروج منها فالتجأ إلى صدر الدين شيخ الشيوخ عبد الرحيم بن إسماعيل فأخذه إلى رباطه وأجاره ونقله إلى دار الوزير بقطفتا فأقام بها ثم عاد إلى بيته في جمادى الآخرة‏.‏

وفيها سقط الأمير أبو العباس أحمد بن الخليفة وهو الذي صر خليفة من قبة عالية إلى ارض التاج ومعه غلام له اسمه نجاح فألقى نفسه بعده وسلم ابن الخليفة ونجاح فقيل لنجاح‏:‏ لم ألقيت نفسك فقال‏:‏ ما كنت أريد البقاء بعد مولاي فرعى له الأمير أبو العباس ذلك فلما صار خليفة جعله شرابيًا وصارت الدولة جميعها بحكمه ولقبه الملك الرحيم عز الدين وبالغ في الإحسان إليه والتقديم له وخدمه جميع الأمراء بالعراق والوزراء وغيرهم‏.‏

وفيها في رمضان وقع ببغداد برد كبار ما رأى الناس مثله فهدم الدور وقتل جماعة من الناس وكثيرًا من المواشي فوزنت بردة منها فكانت سبعة أرطال وكان عامته كالنارنج يكسر الأغصان‏.‏

هكذا ذكره أبو الفرج بن الجوزي في تاريخه والعهدة عليه‏.‏

وفيها كانت وقعة عظيمة بين المؤيد ن صاحب نيسابور وبين شاه مازندران قتل فيها كثير من الطائفتين فانهزم شاه مازندران ودخل المؤيد بلد الديلم وخربه وفتك بأهله وعاد عنه‏.‏

وفيها وقعت وقعة كبيرة بين أهل باب البصرة وأهل باب الكرخ وسببها أن الماء لما زاد سكر أهل الكرخ سكرًا رد الماء عنهم فغرق مسجد فيه شجرة فانقلعت فصاح أهل الكرخ انقلعت الشجرة لعن الله العشرة‏!‏ فقامت الفتنة فتقدم الخليفة إلى علاء الدين تنامش بكفهم فمال على أهل باب البصرة لأنه كان شيعيًا وأراد خول المحلة فمنعه أهلها وأغلقوا الأبواب ووقفوا على السور وأراد إحراق الأبواب فبلغ ذلك الخليفة فأنكره أشد إنكار وأمر بإعادة تنامش فعاد ودامت الفتنة أسبوعًا ثم انفصل الحال من غير توسط سلطان‏.‏

وفيها عبر الروم خليج القسطنطينية وقصد بلاد قلج ارسلان فجرى بينهما حرب استظهر فيها المسلمون فلما رأى ملك الروم عجزه عاد إلى بلاده وقد قتل من عسكره جماعة كثيرة‏.‏

وفيها في جمادى الأولى مات أحمد بن علي بن المعمر بن محمد بن عبد الله أبو عبد الله العلوي الحسيني نقيب العلويين ببغداد‏.‏

وفيها توفي الحافظ أبو العلاء الحسن بن احمد بن الحسن بن أحمد بن محمد العطار الهمذاني سافر الكثير في طلب الحديث وقراءة القرآن واللغة وكان من أعيان المحدثين في زمانه وكان له قبول عظيم ببلده عند العامة والخاصة‏.‏

وفيها توفي أبو محمد سعيد بن المبارك المعروف بابن الدهان النحوي البغدادي بالموصل وكان إمامًا في النحو له التصانيف المشهورة منها الغرة وغيرها‏.‏