المجلد العاشر - ذكر وصول أسطول صقلية إلى الإسكندرية وانهزامه عنها

‏ثم دخلت سنة سبعين وخمسمائة

في هذه السنة في المحرم ظفر أهل الإسكندرية وعسكر مصر بأسطول الفرنج من صقلية وكان سبب ذلك ما ذكرناه من إرسال أهل مصر إلى ملك الفرنج بساحل الشام وإلى صاحب صقلية ليقصدوا ديار مصر ليثوروا بصلاح الدين ويخرجوه من مصر فجهز صاحب صقلية أسطولًا كثيرًا عدته مائتا شيني تحمل الرجالة وست وثلاثون طريدة تحمل الخيل وستة مراكب تحمل آلة الحرب وأربعون مركبًا تحمل الأزواد وفيها من الراجل خمسون ألفًا ومن الفرسان ألف وخمسمائة منها خمسمائة تركبلي‏.‏

وكان المقدم عليهم ابن عم صاحب صقلية وسيره إلى الإسكندرية من ديار مصر فوصلوا إليها في التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة تسع وستين على حين غفلة من أهلها وطمأنينة فخرج أهل الإسكندرية بعدتهم وسلاحهم ليمنعوهم من النزول وابعدوا عن البلد فمنعهم الوالي من ذلك وأمرهم بملازمة السور ونزل الفرنج إلى البر مما يلي البحر والمنارة وتقدموا إلى المدينة ونصبوا عليها الدبابات والمجانيق وقاتلوا أشد قتال وصبر لهم أهل البلد ولم يكن عندهم من العسكر إلا القليل ورأى الفرنج من شجاعة أهل الإسكندرية وحسن سلاحهم ما راعهم وسيرت الكتب بالحال إلى صلاح الدين يستدعونه لدفع العدو عنهم ودام القتال أول يوم إلى آخر النهار ثم عاود الفرنج القتال في اليوم الثاني وجدوا ولازموا الزحف حتى وصلت الدبابات إلى قرب السور ووصل ذلك اليوم من العساكر الإسلامية كل من كان له في أقطاعة وهو قريب من الإسكندرية فقويت بهم نفوس أهلها وأحسنوا القتال والصبر فلما كان اليوم الثالث فتح المسلمون باب البلد وخرجوا منه على الفرنج من كل جانب وهم غارون وكثر الصياح من كل الجهات فارتاع الفرنج واشتد القتال فوصل المسلمون إلى الدبابات فأحرقوها وصبروا للقتال فأنزل الله نصره عليهم وظهرت أماراته ولم يزالوا مباشرين القتال حتى أخر النهار ودخل أهل البلد إليه وهم فرحون مستبشرون بما رأوا من تباشير الظفر وقوتهم وفشل الفرنج وفتور وأما صلاح الدين فإنه لما وصله الخبر سار بعساكره وسير مملوكًا له ومعه ثلاث جنائب ليجد السير عليها إلى الإسكندرية يبشر بوصوله وسير طائفة من العسكر إلى دمياط خوفًا عليها واحتياطًا لها فسار ذلك المملوك فوصل الإسكندرية من يومه وقت العصر والناس قد رجعوا من القتال فنادى في البلد بمجيء صلاح الدين والعساكر مسرعين فلما سمع الناس ذلك عادوا إلى القتال و قد زال ما بهم من تعب وألم الجراح وكل منهم يظن ان صلاح الدين معه فهو يقاتل قتال من يريد أن يشاهد قتاله‏.‏

وسمع الفرنج بقرب صلاح الدين في عساكره فسقط في أيديهم وازدادوا تعبًا وفتورًا فهاجمهم المسلمون عند اختلاط الظلام ووصلوا إلى خيامهم فغنموها بما فيها من الأسلحة الكثيرة والتحملات العظيمة وكثر القتل في رجالة الفرنج فهرب كثير منهم إلى البحر وقربوا شوانيهم إلى إلى الساحل ليركبوا فيها فسلم بعضهم وركب وغرق بعضهم وغاص بعض المسلمين بالماء وخرق بعض شواني الفرنج فغرقت فخاف الباقون من ذلك فولوا هاربين واحتمى ثلاثمائة من فرسان الفرنج على رأس تل فقاتلهم المسلمون إلى بكرة ودام القتال إلى أن أضحى النهار فغلبهم أهل البلد وقهروهم فصاروا بين قتيل وأسير كفى الله المسلمين شرهم وحاق بالكافرين مكرهم‏.‏

في أول هذه السنة خالف الكنز بصعيد مصر واجتمع إليه من رعية البلاد والسودان والعرب وغيرهم خلق كثير وكان هناك أمير من الصلاحية في أقطاعه وهو أخو الأمير أبو الهيجاء السمين فقتله الكنز فعظم قتله على أخيه وهو من أكبر الأمراء وأشجعهم فسار إلى قتال الكنز وسير معه صلاح الدين جماعة من الأمراء وكثيرًا من العسكر ووصلوا إلى مدينة طود فاحتمت عليهم فقاتلوا من بها وظفروا بهم وقتلوا منهم كثيراُ وذلوا بعد العز وقهروا واستكانوا‏.‏

ثم سار العسكر بعد فراغهم من طود إلى الكنز وهو في طغيانه يعمه فقاتلوه فقتل هو ومن معه من الأعراب وغيرهم وأمنت بعده البلاد واطمأن أهلها‏.‏

ذكر ملك صلاح الدين دمشق

في هذه السنة سلخ ربيع الأول ملك صلاح الدين يوسف بن أيوب مدينة دمشق‏.‏

وسبب ذلك أن نور الدين لما مات وملك ابنه الملك الصالح بعده كان بدمشق كان سعد الدين كمشتكين قد هرب من سيف الدين غازي إلى حلب كما ذكرناه فأقام بها عند شمس الدين بن الداية فلما استولى سيف الدين على البلاد الجزرية خاف ابن الداية أن يغير إلى حلب فيملكها فأرسل سعد الدين إلى دمشق ليحضر الملك الصالح ومعه العساكر إلى حلب فلما قارب دمشق سير إليه شمس الدين محمد بن المقدم عسكرًا فنهبوه وعاد منهزمًا إلى حلب فأخلف عليه ابن الداية عوض ما أخذ منه ثم إن الأمراء الذين بدمشق نظروا في المصلحة فعلموا أن مسيره إلى حلب أصلح للدولة من مقامه بدمشق فأرسلوا إلى ابن الدية يطلبون إرسال سعد الدين ليأخذ الملك الصالح فجهزه وسيره وعلى نفسها براقش تجني فسار إلى دمشق في المحرم من هذه السنة واخذ الملك الصالح وعاد إلى حلب فلما وصلوا إليها قبض سعد الدين على شمس الدين بن الداية وأخوته وعلى ابن الخشاب رئيس حلب ومقدم الأحداث فيها ولولا مرض شمس الدين بن الداية لم يتمكن من ذلك‏.‏

واستبد سعد الدين بتدبير الملك الصالح فخافه ابن المقدم وغيره من الأمراء الذين بدمشق وقالوا‏:‏ إذا استقر أمر حلب أخذ الملك الصالح وسار به إلينا وفعل مثل ما فعل بحلب وكاتبوا سيف الدين غازي صاحب الموصل ليعبر الفرات إليهم ليسلموا إليه دمشق فيمنع عنها ويقصده ابن عمه وعسكر حلب من وراء ظهره فيهلك‏.‏

وأشار عليه بهذا زلفندار عز الدين والجبان يقدر البعيد من الشر قريبًا ويرى الجبن حزمًا كما قال‏:‏ يرى الجبناء أن الجبن حزم وتلك طبيعة الرجل الجبان فلما أشار عيه بهذا الرأي زلفندار قبله وامتنع عن قصد دمشق وراسل سعد الدين الملك الصالح وصالحهما على ما أخذه من البلاد فلما امتنع عن العبور إلى دمشق عظم خوفهم وقالوا‏:‏ حيث صالحهم سيف الدين لم يبق لهم مانع عن المسير إلينا فكاتبوا حينئذ صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب مصر واستدعوه ليملكوه عليهم وكان كبيرهم في ذلك شمس الدين بن المقدم ومن أشبه أباه فما ظلم وقد ذكرنا مخامرة أبيه في تسليم سنجار سنة أربع وأربعين وخمسمائة‏.‏

فلما وصلت الرسل إلى صلاح الدين بذلك لم يلبث وسار جريدة في سبع مائة فارس والفرنج في طريقه فلم يبال بهم فلما وطئ ارض الشام قصد بصرى وكان بها حينئذ صاحبها وهو من جملة من كاتبه فخرج ولقيه فلما رأى قلة من معه خاف على نفسه واجتمع بالقاضي الفاضل وقال‏:‏ ما أرى معكم عسكرًا وهذا بلد عظيم لا يقصد بمثل هذا العسكر ولو منعكم من به ساعة من النهار أخذكم أهل السواد فإن كان معكم مال سهل الأمر‏.‏

فقال معنا مال كثير يكون خمسين ألف دينار فضرب صاحب بصرى على رأسه وقال‏:‏ هلكتم وأهلكتمونا وجميع ما كان معهم عشرة آلاف دينار‏.‏

ثم سار صلاح الدين إلى دمشق فخرج كل من بها من العسكر إليه فلقوه وخدموه ودخل البلد ونزل في دار والده المعروفة بدار العقيقي وكانت القلعة بيد خادم اسمه ريحان فأحضر صلاح الدين كمال الدين بن الشهرزوري وهو قاضي البلد والحاكم في جميع أموره من الديوان والوقف وغير ذلك وأرسله إلى ريحان ليسلم القلعة إليه وقال‏:‏ أنا مملوك الملك الصالح وما جئت إلا لأنصره وأخدمه وأعيد البلاد التي أخذت منه إليه وكان يخطب له في بلاده كلها فصعد كمال الدين إلى ريحان ولم يزل معه حتى سلم القلعة فصعد صلاح الدين غليها وأخذ ما فيها من الأموال وأخرجها واتسع بها وثبت قدمه وقويت نفسه وهو مع هذا يظهر الطاعة للملك الصالح ويخاطبه بالمملوك والخطبة والسكة باسمه‏.‏

ذكر ملك صلاح الدين مدينتي حمص وحماة

لما استقر ملك صلاح الدين لدمشق وقرر أمرها استخلف بها أخاه سيف الإسلام طغدكين بن أيوب وسار إلى مدينة حمص مستهل جمادى الأولى وكانت حمص وحماة وقلعة بعين وسلمية وتل خالد والرها من بلد الجزيرة في أقطاع الأمير فخر الدين مسعود الزعفراني فلما مات نور الدين لم يمكنه المقام بها لسوء سيرته في أهلها ولم يكن له في قلاع هذه البلاد حكم إنما فيها ولاة لنور الدين‏.‏

وكان بقلعة حمص وال يحفظها فلما نزل صلاح الدين على حمص حادي عشر الشهر المذكور راسل من فيها بالتسليم فامتنعوا فقاتلهم من الغد فملك البلد وأمن أهله وامتنعت عليه القلعة وبقيت ممتنعة إلى أن عاد من حلب على ما نذكره إن شاء الله وترك بمدينة حمص من يحفظها ويمنع من بالقلعة من التصرف وأن تصعد إليهم ميرة‏.‏

وسار إلى مدينة حماة وهو في جميع أحواله لا يظهر إلا طاعة الملك الصالح بن نور الدين وانه إنما خرج لحفظ بلاده عليه من الفرنج واستعادة ما أخذه سيف الدين صاحب الموصل من البلاد الجزرية فلما وصل إلى حماة ملك المدينة مستهل جمادى الآخرة وكان بقلعتها الأمير عز الدين جورديك وهو من المماليك النورية فامتنع من التسليم إلى صلاح الدين فأرسل إليه صلاح الدين ما يعرفه ما هو عليه من طاعة الملك الصالح وإنما يريد حفظ بلاده عليه فاستحلفه جورديك على ذلك فحلف له وسيره إلى حلب في اجتماع الكلمة على طاعة الملك الصالح وفي إطلاق شمس الدين علي وحسن وعثمان أولاد الداية من السجن فسار جورديك إلى حلب واستخلف بقلعة حماة أخاه ليحفظها فلما وصل جورديك إلى حلب قبض عليه كمشتكين وسجنه فلما علم أخوه بذلك سلم القلعة إلى صلاح الدين فملكها‏.‏

ذكر حصر صلاح الدين حلب وعوده عنها

لما ملك صلاح الدين حماة سار إلى حلب فحصرها ثالث جمادى الآخرة فقاتله أهلها وركب الملك الصالح وهو صبي عمره اثنتا عشر سنة وجمع أهل حلب وقال لهم‏:‏ قد عرفتم إحسان أبي إليكم ومحبته لكم وسيرته فيكم وأنا يتيمكم وقد جاء هذا الظالم الجاحد إحسان والدي إليه يأخذ بلدي ولا يراقب الله تعالى ولا الخلق وقال من هذا كثير وبكى فأبكى الناس فبذلوا له الأموال والأنفس واتفقوا على القتال دونه والمنع عن بلده وجدوا في القتال وفيهم شجاعة وقد ألفوا الحرب واعتادوها حيث كان الفرنج بالقرب نهم فكانوا يخرجون ويقاتلون صلاح الدين عند جبل حوشن فلا يقدر على القرب من البلد‏.‏

وأرسل سعد الدين كمشتكين إلى سنان مقدم الإسماعيلية وبذل له أموالًا كثيرة ليقتلوا صلاح الدين فأرسلوا جماعة منهم إلى عسكره فلما وصلوا رآهم أمير اسمه خمارتكين صاحب قلعة أبي قبيس فعرفهم لأنه جارهم في البلاد كثير الاجتماع بهم والقتال لهم فلما رآهم قال لهم‏:‏ ما الذي أقدمكم وفي أي شيء جئتم فجرحوه جراحات مثخنة وحمل أحدهم على صلاح الدين ليقتله فقتل دونه وقاتل الباقون من الإسماعيلية فقتلوا جماعة ثم قتلوا‏.‏

وبقي صلاح الدين محاصرًا لحلب إلى سلخ جمادى الآخرة ورحل عنها مستهل رجب وسبب رحيله أن القمص ريمند الصنجيلي صاحب طرابلس كان قد أسره نور الدين على حارم سنة تسع وخمسين وخمسمائة وبقي في الحبس إلى هذه السنة فأطلقه سعد الدين بمائة ألف وخمسين ألف دينار صورية وألف أسير فلما وصل إلى بلده اجتمع الفرنج عليه يهنئونه بالسلامة وكان عظيمًا فيهم من أعيان شياطينهم فاتفق أن مري ملك الفرنج لعنه الله مات أول هذه السنة وكان أعظم ملوكهم شجاعة وأجودهم رأيًا ومكرًا ومكيده فلما توفي خلف ابنًا مجذومًا عاجزًا عن تدبير الملك فملكه الفرنج صورة لا معنى تحتها وتولى القمص ريمند تدبير الملك وإليه الحل والعقد عن أمره يصدرون فأرسل إليه من بحلب يطلبون منه أن يقصد بعض البلاد التي بيد صلاح الدين ليرحل عنهم فسار إلى حمص ونازلها سابع رجب فلما تجهز لقصدها سمع صلاح الدين الخبر فرحل عن حلب فوصل إلى حماة ثامن رجب بعد نزول الفرنج على حمص بيوم ثم رحل إلى الرستن فلما سمع الفرنج بقربه رحلوا عن حمص ووصل صلاح الدين إليها فحصر القلعة إلى أن ملكها في الحادي والعشرين من شعبان من السنة فصار أكثر الشام بيده‏.‏

ولما ملك حمص سار منها إلى بعلبك وبها خادم اسمه يمن وهو وال عليها من أيام نور الدين فحصرها صلاح الدين فأرسل يمن يطلب الأمان له ولمن عنده فأمنهم صلاح الدين وسلم القلعة رابع شهر رمضان من السنة المذكورة‏.‏

لما ملك صلاح الدين دمشق وحمص وحماة كتب الملك الصالح إسماعيل ابن نور الدين إلى ابن عمه سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود يستنجده على صلاح الدين ويطلب أن يعبر إليه ليقصدوا صلاح الدين ويأخذوا البلاد منه فجمع سيف الدولة عساكره وكاتب أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار يأمره أن ينزل إليه بعساكره ليجتمعا على المسير إلى الشام فامتنع من ذلك‏.‏

وكان صلاح الدين قد كاتب عماد الدين وأطمعه في الملك لأنه هو الكبير فحمله الطمع على الامتناع عن أخيه فلما رأى سيف الدين امتناعه جهز أخاه عز الدين مسعودًا في عسكر كثير هو معظم عسكره وسيره إلى الشام وجعل المقدم على العسكر مع أخيه عز الدين محمود ويلقب أيضًا زلفندار وجعله المدبر للأمر وسار سيف الدين إلى سنجار فحصرها في شهر رمضان وقاتلها وجد في القتال وامتنع عماد الدين بها وأحسن حفظها والذب عنها فدام الحصار عليها فبينما هو يحاصرها أتاه الخبر بانهزام عسكره مع أخيه عز الدين مسعود من صلاح الدين فراسل حينئذ أخاه عماد الدين وصالحه على ما بيده ورحل إلى الموصل وثبت قدم صلاح الدين بعد الهزيمة وخافه الناس وترددت الرسل بينه وبين سيف الدين غازي في الصلح فلم يستقر حال‏.‏

ذكر انهزام عسكر سيف الدين من صلاح الدين وحصره مدينة حلب

في هذه السنة سار عسكر سيف الدين مع أخيه عز الدين وعز الدين زلفندار إلى حلب واجتمع معهما عساكر حلب وساروا كلهم إلى صلاح الدين ليحاربوه فارسل صلاح الدين إلى سيف الدين يبذل تسليم حمص وحماة وأن يقر بيده مدينة دمشق وهو فيها نائب الملك الصالح فلم يجب إلى ذلك وقال‏:‏ لا بد من تسليم جميع ما أخذ من بلاد الشام ويعود إلى مصر‏.‏

وكان صلاح الدين يجمع عساكره ويتجهز للحرب فلما امتنع سيف الدين من إجابته إلى ما بذل سار في عساكره إلى عز الدين مسعود وزلفندار فالتقوا تاسع عشر رمضان بالقرب من مدينة حماة بموضع يقال له قرون حماة وكان زلفندار جاهلًا بالحروب والقتال غير عالم بتدبيرها مع جبن فيه إلا انه قد رزق سعادة وقبولًا من سيف الدين فلما التقى الجمعان لم يثبت العسكر السيفي وانهزموا لا يلوي أخ على أخيه وثبت عز الدين أخو سيف الدين بعد انهزام أصحابه فلما رأى صلاح الدين ثباته قال‏:‏ إما أن هذا أشجع الناس أم أنه لا يعرف الحرب وأمر أصحابه بالحملة عليه فحملوا فأزاحوه عن موقفه وتمت الهزيمة عليهم‏.‏

وتبعهم صلاح الدين وعسكره حتى جازوا معسكرهم وغنموا منهم غنائم كثيرة وآلة وسلاحًا عظيمًا ودواب فارهة وعادوا بعد طول البيكار مستريحين وعاد المنهزمون إلى حلب وتبعهم صلاح الدين فنازلهم بها محاصرًا لها ومقاتلًا وقطع خطبة الملك الصالح بن نور الدين وأزال أسمه عن السكة في بلاده ودام محاصرًا لهم فلما طال الأمر عليهم راسلوه في الصلح على أن يكون له ما بيده من بلاد الشام ولهم ما بأيديهم منها فأجابهم إلى ذلك وانتظم الصلح ورحل عن حلب في العشر الأول من شوال ووصل إلى حماة ووصلت إليه بها خلع الخليفة مع رسوله‏.‏

ذكر ملك صلاح الدين قلعة بعرين

في هذه السنة في العشر الأول من شوال ملك صلاح الدين قلعة بعرين من الشام وكان صاحبها فخر الدين مسعود بن الزعفراني وهو من أكابر الأمراء النورية فلما رأى قوة صلاح الدين نزل منها واتصل بصلاح الدين ظن أنه يكرمه ويشاركه في ملكه ولا ينفرد عنه بأمر مثل ما كان مع نور الدين فلم ير من ذلك شيئًا ففارقه ولم يكن بقي من أقطاعه الذي كان له في الأيام النوريه غير بعرين ونائبه بها فلما صالح صلاح الدين الملك الصالح بحلب عاد إلى حماة وسار منها إلى بعرين وهي قريبة منها فحصرها ونصب عليها المجانيق وأدام قتالها فسلمها واليها بالأمان فلما ملكها عاد إلى حماة فأقطعها خاله شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي وأقطع حمص ناصر الدين محمد ابن عمه شيركوه وسار منها إلى دمشق فدخلها أواخر شوال من السنة‏.‏

ذكر ملك البهلوان مدينة تبريز

في هذه السنة ملك البهلوان بن إيلدكز مدينة تبريز وهي من جملة بلاد آقسنقر الأحمديلي وسبب ذلك أن البهلوان سار إلى مراغة وحصرها وكان ابن أقسنقر الأحمديلي صاحبها قد مات ووصى بالملك لابنه فلك الدين فقصده البهلوان ونزل على قلعة روبين دز وحصرها فامتنعت عليه فتركها وحصر مراغة وسير أخاه قزل أرسلان في جيش إلى مدينة تبريز فحصرها أيضًا‏.‏

وكان البهلوان يقاتل أهل مراغة فظفروا بطائفة من عسكره فخلع عليهم صدر الدين قاضي مراغة وأطلقهم فحسن ذلك عند البهلوان وشرع القاضي في الصلح على ان يسلموا تبريز إلى البهلوان فأجيب إلى ذلك واستقرت القاعدة عليه وحلف كل واحد منهما إلى صاحبه وتسلم البهلوان تبريز وأعطاها أخاه قزل أرسلان ورحل عن مراغة‏.‏

في هذه السنة مات شملة التركماني صاحب خوزستان وكان قد كثرت ولايته وعظم شانه وبنى عدة حصون وبقي كذلك زيادة على عشرين سنة‏.‏

وكان سبب موته انه قصد بعض التركمان فعلموا بذلك فاستعانوا بشمس الدين البهلوان بن إيلدكز صاحب عراق العجم فسير إليهم جيشًا فاقتتلوا فأصاب شملة سهم ثم أخذ أسيرًا وولده وابن أخيه وتوفي بعد يومين وهو من التركمان الأقشرية ولما مات ملك ابنه بعده‏.‏

ذكر هرب قطب الدين قايماز من بغداد

في هذه السنة في شوال سير علاء الدين تنامش وهو من اكابر الأمراء ببغداد وهو ابن أحمد قطب الدين قايماز زوج اخته عسكرًا إلى الغراف فنهبوا أهله وبالغوا في أذاهم فجاء منهم جماعة إلى بغداد واستغاثوا فلم يغاثوا لضعف الخليفة مع قايماز وتنامش وتحكمهما عليه فقصدوا جامع القصر واستغاثوا فيهن ومنعوا الخطيب وفاتت الصلاة اكثر الناس فأنكر الخليفة ما جرى فلم يلتفت قطب الدين وتنامش إلى ما فعل واحتقروه فلا جرم لم يمهلهم الله تعالى لاحتقارهم الدعاء وازدرائهم أهله‏.‏

فلما كان الخامس من ذي القعدة قصد قطب الدين قايماز أذى ظهير الدين بن العطار وكان صاحب المخزن وهو خاص الخليفة وله به عناية تامة فلم يراع الخليفة في صاحبه فارسل إليه يستدعيه ليحضر عنده فهرب فاحرق قطب الدين داره وحال الأمراء على المساعدة والمظاهرة له وجمعهم وقصد دار الخليفة لعلمه أن ابن العطار فيها فلما علم الخليفة ذلك ورأى الغلبة صعد إلى سطح داره وظهر للعامة وأمر خادمًا فصاح واستغاث وقال للعامة‏:‏ مال قطب الدين لكم ودمه لي فقصد الخلق كلهم دار قطب الدين للنهب فلم يمكنه المقام لضيق الشوارع وغلبة العامة فهرب من داره من باب فتحة فيظهرها لكثرة الخلق على بابها وخرج من بغداد ونهبت داره وأخذ منها من الأموال ما لا يحد ولا يحصى فرؤي فيها من التنعم ما ليس لأحد مثله فمن جملة ذلك ان بيت الطهارة الذي كان له فيه سلسلة ذهب من السقف إلى محاذي وجه القاعد على الخلا وفي أسفلها كرة كبيرة ذهب مخرمة محشوة بالمسك والعنبر ليشمها إذا قعد فتشبث بها إنسان وقطعها وأخذها ودخل بعض الصعاليك فاخذ عدة أكياس مملوءة دنانير‏.‏

وكان الأقوياء قد وقفوا على الباب يأخذون ما يخرج به الناس فلما أخذ ذلك الصعلوك الأكياس قصد المطبخ فاخذ منه قدرًا مملوئة طبيخًا وألقى الأكياس فيها وحملها على رأسه وخرج بها والناس يضحكون منه فيقول‏:‏ أنا أريد شيئًا أطعمه عيالي اليوم فنجا بما معه ولما خرج من البلد تبه تنامش وجماعة من الأمراء فنهبت دورهم أيضًا وأخذت أموالهم واحرق أكثرها وسار قطب الدين إلى الحلة ومعه الأمراء فسير الخليفة غليه صدر الدين شيخ الشيوخ فلم يزل به يخدعه حتى سار عن الحلة إلى الموصل على البر فلحقه ومن معه عطش شديد فهلك أكثرهم من شدة الحر والعطش ومات قطب الدين قبل وصوله إلى الموصل فحمل ودفن بظاهر باب العمادي وقبره مشهور هناك‏.‏

وهذا عاقبة عصيان الخليفة وكفران الإحسان والظلم سوء التدبير فإنه ظلم أهل العراق وكفر إحسان الخليفة الذي كان قد غمره ولو أقام بالحلة وجمع العساكر عاود بغداد لاستولى على الأمور كلها كما كان فإن عامة بغداد كانوا يريدونه وكان قوي بالاستيلاء على البلاد فأطاعوه‏.‏

ولما مات في ذي الحجة وصل علاء الدين تنامش إلى الموصل فأقام مديدة ثم أمره الخليفة بالقدوم إلى بغداد فعاد إليها وبقي فيها إلى أن مات بغير إقطاع وكان هذا آخر أمرهم‏.‏

ولما أقام قطب الدين بالحلة امتنع الحاج من السفر فتأخروا إلى أن رحل عنها فدخلوا من الكوفة إلى عرفات في ثمانية عشر يومًا وهذا ما لم يسمع بمثله وفات كثير منهم الحج‏.‏

ولما هرب قطب الدين خلع الخليفة على عضد الدين الوزير وأعيد إلى الوزارة‏.‏

قال بعض إن كنت معتبرًا بملك زائل وحوادث عنقية الإدلاج فدع العجائب والتواريخ الأولى وانظر إلى قايماز وابن قماج عطف الزمان عليهما فسقاهما من كأسه صرفًا بغير مزاج فتبدلوا بعد القصور وظلها ونعيمها بمهامه وفجاج فليحذر الباقون من أمثالها نكبات دهر خائن مزعاج وكان قطب الدين كريمًا طلق الوجه محبًا للعدل والإحسان كثير البذل للمال‏.‏

والذي كان جرى منه غنما كان يحمله عليه تنامش ولم يكن بإرادته‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة مات زعيم الدين صاحب المخزن واسمه يحيى بن عبد الله ابن محمد بن المعمر بن جعفر أبو الفضل وحج بالناس عدة سنين وغليه الحكم في الطريق وناب عن الوزارة وتنقل في هذه الأعمال اكثر من عشرين سنة وكان يحفظ القرآن‏.‏

ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وخمسمائة

في هذه السنة عاشر شوال كان المصاف بين سيف الدين غازي بن مودود وبين صلاح الدين يوسف بن أيوب بتل السلطان على مرحلة من حلب على طريق حماة وانهزم سيف الدين‏.‏

وسبب ذلك أنه لما انهزم أخوه عز الدين مسعود من صلاح الدين في العام الماضي وصالح سيف الدين أخاه عماد الدين صاحب سنجار عاد إلى الموصل وجمع عساكره وفرق فيهم الأموال واستنجد صاحب حصن كيفا وصاحب ماردين وغيرها فاجتمعت معه عساكره كثيرة بلغت عدتهم ستة آلاف فارس فسار إلى نصبين في ربيع الأول من هذه السنة وأقام بها فأطال المقام حتى انقضى الشتاء وهو مقيم فضجر العسكر ونفدت نفقاتهم وصار العود إلى بيوتهم مع الهزيمة أحب إليهم من الظفر لما يتوقعونه إن ظفروا من طول المقام بالشام بعد هذه المدة‏.‏

ثم سار إلى حلب فنزل إليه سعد الدين كمشتكين الخادم مدبر دولة الملك الصالح ومعه عساكر حلب وكان صلاح الدين في قلة من العساكر لأنه كان صالح الفرنج في المحرم من هذه السنة على ما نذكره إن شاء الله وقد سير عساكره إلى مصر فأرسل يستدعيها فلو عاجلوه لبلغوا غرضهم منه لكنهم تريثوا وتأخروا عنه فجاءته عساكره فسار من دمشق إلى ناحية حلب ليلقى سيف الدين فالتقى العسكران بتل السلطان وكان سيف الدين قد سبقه فلما وصل صلاح الدين كان وصوله العصر وقد تعب هو وأصحابه وعطشوا فألقوا نفوسهم إلى الأرض ليس بهم حركة فأشار جماعة على سيف الدين بقتالهم وهم على هذا الحال فقال زلفندار‏:‏ ما بنا هذه الحاجة إلى قتال هذا الخارجي في هذه الساعة غدًا بكرة نأخذهم كلهم فترك القتال إلى الغد‏.‏

فلما اصبحوا اصطفوا للقتال فجعل زلفندار وهو المدبر للعسكر السيفي أعلامهم في وهدة من الأرض لا يراها إلا من هو بالقرب منها فلما لم يرها الناس ظنوا أن السلطان قد هزم فلم يثبتوا وانهزموا ولم يلو أخ على أخيه ولم يقتل بين الفريقين على كثرتهم غير رجل واحد ووصل سيف الدين إلى حلب وترك بها أخاه عز الدين مسعودًا في جمع من العسكر ولم يقم هو وعبر الفرات وسار إلى الموصل وهو لا يصدق أنه ينجو‏.‏

وظن أن صلاح الدين يعبر الفرات ويقصده بالموصل فاستشار وزيره جلال الدين ومجاهد الدين قايماز في مفارقة الموصل والاعتصام بقلعة عقر الحميدية فقال له مجاهد الدين‏:‏ أرأيت إن ملكت الموصل عليك أتقدر أن تمنع ببعض أبراج الفصيل فقال‏:‏ لا‏.‏

فقال‏:‏ برج في الفصيل خير من القعر وما زال الملوك ينهزمون ويعاودون الحرب واتفق هو والوزير على شد أزره وتقوية قلبه فثبت ثم أعرض عن زلفندار وعزله واستعمل مكانه على إمارة الجيوش مجاهد وقد ذكر العماد الكاتب في كتاب البرق الشامي في تاريخ الدولة الصلاحية أن سيف الدين كان عسكره في هذه الوقعة عشرين ألف فارس ولم يكن كذلكن غنما كان على التحقيق يزيد على ستة آلاف فارس اقل من خمسمائة فإنني وقفت على جريدة العرض وترتيب العسكر للمصاف ميمنة وميسرة وقلبًان وجاليشة وغير ذلك وكان المتولي لذلك والكاتب له أخي مجد الدين أبا السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم رحمه الله وإنما قصد العماد أن يعظم أمر صاحبه بأنه هزم بستة آلاف عشرين ألفًا والحق أحق أن يتبع ثم ياليت شعري كم هي الموصل وأعمالها إلى الفرات حتى يكون لها وفيها عشرون ألف فارس

ذكر ملك صلاح الدين بعد الكسرة من بلاد الصالح نور الدين


لما انهزم سيف الدين وعسكره ووصلوا إلى حلب عاد سيف الدين إلى الموصل كما ذكرناه وترك بحلب أخاه عز الدين مسعودًا في طائفة من العسكر نجدة للملك الصالح وأما صلاح الدين فإنه لما استولى على أثقال العسكر الموصلي هو وعسكره وغنموها واتسعوا بها وقووا سار إلى بزاعة فحصرها وقاتله من بالقلعة ثم تسلمها وجعل بها من يحفظها وسار إلى مدينة منبج فحصرها آخر شوال وبها صاحب قطب الدين ينال بن حسان المنبجي وكان شديد العداوة لصلاح الدين والتحريض عليه والإطماع فيه والطعن فيه فصلاح الدين حنق عليه متهدد له فأما المدينة فملكها ولم تمتنع عليه وبقي القلعة وبها صاحبها قد جمع إليها الرجال والذخائر والسلاح فحصره صلاح الدين وضيق عليه وزحف إلى القلعة فوصل النقابون إلى السور فنقبوها وملكوها عنوة وغنم العسكر الصلاحي كل ما بها وأخذ صاحبها ينال أسيرًا فأخذ صلاح الدين كل ماله واصبح فقيرًا لا يملك نقيرًا ثم أطلقه صلاح الدين فسار إلى الموصل فأقطعه سيف الدين غازي مدينة الرقة‏.‏

ولما فرغ صلاح الدين من منبج سار إلى قلعة إعزاز فنازلها ثالث ذي القعدة من السنة وهي من أحصن القلاع وأمنعها فنازلها وحصرها وأحاط بها وضيق على من فيها ونصب عليها المجانيق وقتل عليها كثير من العسكر فبينما صلاح الدين يومًا في خيمة لبعض أمراءه يقال له جاولي وهو مقدم الطائفة الأسدية إذ وثب عليه باطني فضربه بسكين في رأسه فجرحه فلولا أن المغفر الزند كانت تحت القلنسوة لقتله فأمسك صلاح الدين يد الباطني بيده إلا انه لا يقدر على منعه من الضرب بالكلية إنما يضرب ضربًا ضعيفًا فبقي الباطني يضربه في رقبته بالسكين وكان عليه كزاغند فكانت الضربات تقع في زيق الكزاغند فتقطعه والزرد يمنعها من الوصول إلى رقبته لبعد اجله فجاء أمير من أمراءه اسمه يازكش فأمسك السكين بكفه فجرحه الباطني ولم يطلقها من يده إلى أن قتل الباطني وجاء آخر من الإسماعيلية فقتل أيضًا وثلث فقتل وركب صلاح الدين إلى خيمته كالمذعور لا يصدق بنجاته ثم اعتبر جنده فمن أنكره أبعده ومن عرفه اقره على خدمته ولازم حصار إعزاز ثمانية وثلاثين يومًا كل يوم اشد قتالًا مما قبله وكثرت النقوب فيهان فأذعن من بها وسلموا القلعة غليه فتسلمها حادي عشر ذي الحجة‏.‏

ذكر حصر صلاح الدين مدينة حلب والصلح عليها


لما ملك صلاح الدين إعزاز رحل إلى حلب فنازلها منتصف ذي الحجة وحصرها وبها الملك الصالح ومن معه من العساكر وقد قام العامة في حفظ البلد القيام المرضي بحيث انهم منعوا صلاح الدين من القرب من البلد لأنه كان إذا تقدم للقتال خسر هو وأصحابه كثر الجراح فيهم والقتل كانوا يخرجون ويقاتلونه خارج البلد فترك القتال وأخلد للمطاولة‏.‏

وانقضت سنة إحدى وسبعين ودخلت سنة اثنتين وسبعين وهو محاصر لها ثم ترددت الرسل بينهم في الصلح في العشرين من المحرم فوقعت الإجابة إليه من الجانبين لأن أهل حلب خافوا من طول الحصار فإنهم ربما ضعفوا وصلاح الدين رأى انه لا يقدر على الدنو من البلد ولا على قتال من به فأجاب أيضًا وتقررت القاعدة في الصلح للجميع للملك الصالح ولسيف الدين صاحب الموصل ولصاحب الحصن ولصاحب ماردين وتحالفوا واستقرت القاعدة ان يكونوا كلهم عونًا على الناكث الغادر‏.‏

فلما انفصل الأمر وتم الصلح رحل صلاح الدين عن حلب بعد أن أعاد قلعة إعزاز إلى الملك الصالح فإنه اخرج إلى صلاح الدين أختًا له طفلة فأكرمها صلاح الدين وحمل لها شيئًا كثيرًا وقال لها‏:‏ ما تريدين قالت‏:‏ أريد قلعة إعزاز وكانوا قد علموها ذلك فسلمها إليهم ورحل إلى بلد الإسماعيلية‏.‏

ذكر الفتنة بمكة وعزل أميرها وإقامة غيره

في هذه السنة في ذي الحجة كان بمكة حرب شديدة بين أمير الحاج طاشتكين وبين الأمير مكثر أمير مكة وكان الخليفة قد أمر أمير الحاج بعزل مكثر وإقامة أخيه داود مقامه‏.‏

وسبب ذلك أنه كان قد بنى قلعة على جبل أبي قبيس فلما سار الحاج من عرفات لم يبيتوا بالمزدلفة وإنما اجتازوا بها فلم يرموا الجمار إنما بعضهم رمى بعضها وهو سائر ونزلوا الأبطح فخرج إليهم ناس من أهل مكة فحاربوهم وقتل من الفريقين جماعة وصاح الناس‏:‏ الغزاة إلى مكة فهجموا عليها فهرب أمير مكة مكثر فصعد القلعة التي بناها على جبل أبي قبيس فحصروه بها ففارقها وسار عن مكة وولي أخوه داود الإمارة ونهب كثير من الحاج مكة وأخذوا من أموال التجار المقيمين بها الشيء الكثير وأحرقوا دورًا كثيرة‏.‏

ومن أعجب ما جرى فيها أن إنسانًا زراقًا ضرب دارًا بقارورة نفط فأحرقها وكانت لأيتام فأحرقت ما فيها ثم أخذ قارورة أخرى ليضرب فيها مكانًا آخر فأتاه حجر فأصاب القارورة فكسرها فاحترق هو بها فبقي ثلاثة أيام يعذب بالحريق ثم مات‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في شهر رمضان انكسفت الشمس جميعها وأظلمت الأرض حتى بقي الوقت كأنه ليل مظلم وظهرت الكواكب وكان ذلك ضحوة النهار يوم الجمعة التاسع والعشرين منه وكنت حينئذ صبيًا بظاهر جزيرة ابن عمر مع شيخ لنا من العلماء أقرأ عليه الحساب فلما رأيت ذلك خفت خوفًا شديدًا وتمسكت به فقوي قلبي وكان عالمًا بالنجوم أيضاَ وقال لي‏:‏

وفيها ولي الخليفة المستضيء بأمر الله حجابة الباب أبا طالب نصر بن علي الناقد وكان يلقب في صغره قنبرًا فصاروا يصيحون به ذلك إذا خرج فأمر الخليفة أن يركب معه جماعة من الأتراك ويمنعوا الناس من ذلك فامتنعوا فلما كان العيد خلع عليه ليركب في الموكب فاشترى جماعة من أهل بغداد من القنابر شيئًا كثيرًا وعزموا على إرسالها في الموكب إذا رأوا ابن الناقد فأنهي ذلك إلى الخليفة وقيل له يصير الموكب ضحكة فعزله وولى ابن المعوج‏.‏

وفيها في ذي الحجة يوم العيد وقعت فتنة ببغداد بين العامة وبعض الأتراك بسبب أخذ جمال النحر فقتل بينهم جماعة ونهب شيء كثير من الأموال ففرق الخليفة أموالًا جليلة فيمن نهب ماله‏.‏

وفيها زلزلت بلاد العجم من حد العراق إلى ما وراء الري وهلك فيها خلق كثير وتهدمت دور كثيرة وأكثر ذلك كان بالري وقزوين‏.‏

وفيها في ربيع الآخر استوزر سيف الدين غازي جلال الدين أبا الحسن علي بن جمال الدين محمد بن علي وكان ابوه جمال الدين وزير البيت الأتابكي وقد تقدمت أخباره وهو المشهود بالجود والأفضال ولما ولي جلال الدين الوزارة ظهرت منه كفاية عظيمة ومعرفة تامة بقوانين الوزارة وله مكاتبات وعهود حسنة مدونة مشهورة وكان جوادًا فاضلًا خيرًا عمره لما ولي

وفيها في ذي الحجة استناب سيف الدين أيضًا عنه بقلعة الموصل مجاهد الدين قايماز وفوض إليه الأمور وكان قبل ذلك قد فوض إليه الأمر بمدينة إربل وأعمالها وكان رحمه الله من صالحي الأمراء وأرباب المعروف بنى كثيرًا من الجوامع والخانات في الطرق والقناطر على الأنهار والربط وغير ذلك من أبواب البر وكان دائم الصدقة كثير الإحسان عادل السيرة رحمه الله‏.‏

وفيها قبض الخليفة علي عماد الدين صندل المقتفوي أستاذ الدار ورتب مكانه أبا الفضل هبة الله بن علي بن هبه الله بن الصاحب‏.‏

وفيها في رمضان قدم شمس الدولة توارنشاه بن أيوب الذي ملك اليمن إلى دمشق لما سمع أن أخاه صلاح الدين قد ملكها وقد حن إلى الوطن والأتراب ففارق اليمن وسار إلى الشام وأرسل من الطريق إلى أخيه يعلمه بوصوله وكتب في الكتاب شعرًا من قول ابن المنجم المصري‏:‏ وإلى صلاح الدين أشكو أنني من بعده مضنى الجوانح مولع جزعًا لبعد الدار منه ولم أكن لولا هواه لبعد دار أجزع فلأركبن إليه متن عزائمي ويخب بي ركب الغرام ويوسع ولأقطعن من النهار هواجرًا قلب النهار بحرها يتقطع وأقدمن إليه قلبي مخبرًا أني بجسمي من قريب أتبع حتى أشاهد منه أسعد طلعة من أفقها صبح السعادة يطلع وفي هذه السنة في المحرم برز صلاح الدين من دمشق وقد عظم شأنه بما ملكه من بلاد الشام وبكسره عسكر الموصل فخافه الفرنج وغيرهم وعزم على دخول بلدهم ونبه والإغارة عليه فأرسلوا إليه يطلبون الهدنة معه فأجابهم إليها وصالحهم فأمر العساكر المصرية بالعود إلى مصر والاستراحة إلى أن يعود طلبهم وشرط عليهم أنه متى أرسل يستدعيهم لا يتأخرون فساروا إليها وأقاموا بها إلى أن استدعاهم للحرب مع سيف الدين على ما نذكره‏.‏

وفيها مات أبو الحسن علي بن عساكر البطائحي المقرئ وكان قد سمع الحديث الكثير ورواه وكان نحويًا جيدًا‏.‏

وفي ذي الحجة منها توفي أبو سعد محمد بن سعيد بن محمد بن الرزاز سمع الحديث ورواه وله شعر جيد فمن ذلك أنه كتب إليه بعض أصدقائه مكاتبة وضمنها شعرًا فأجابه‏:‏ يا من أياديه تغني من يعددها وليس يحصي مالها من لها يصف عجزت عن شكر ما أوليت من كرم وصرت عبدًا ولي في ذلك الشرف أهديت منظوم شعر كله درر فكل ناظم عقد دونه يقف

وإن أتيت أنا بيت يناقضه أتيت ولكن ببيت سقفه يكف ما كنت منه ولا من أهله أبدًا وإنما حين أدنو منه أقتطف وقيل كانت وفاته سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة وهو الصحيح‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة

ذكر نهب صلاح الدين بلد الإسماعيلية

لما رحل صلاح الدين من حلب على ما ذكرناه قبل قصد بلاد الإسماعيلية في المحرم ليقاتلهم بما فعلوه من الوثوب عليه وإرادة قتله فنهب بلدهم وخربه وأحرقه وحصر قلعة مصياب وهي أعظم حصونهم وأحصن قلاعهم فنصب عليها المجانيق وضيق على من بها ولم يزل كذلك فأرسل سنان مقدم الإسماعيلية إلى شهاب الدين الحارمي صاحب حماة وهو ابن خال صلاح الدين يسأله أن يدخل بينهم ويصلح الحال ويشفع فيهم ويقول له‏:‏ إن لم تفعل قتلناك وجميع أهل صلاح الدين وأمراءه فحضر شهاب الدين عند صلاح الدين وشفع فيهم وسأل الصفح عنهم فأجابه إلى ذلك وصالحهم ورحل عنهم‏.‏

وكان عسكره قد ملوا من طول البيكار وقد امتلأت أيديهم من غنائم عسكر الموصل ونهب بلد الإسماعيلية فطلبوا العود إلى بلادهم للراحة فأذن لهم وسار هو إلى مصر مع عسكرها لأنه قد طال بعده عنها ولم يمكنه المضي إليها فيما تقدم خوفًا على بلاد الشام فلما انهزم سيف الدين وحصر هو حلب وملك بلادها واصطلحوا امن على البلاد فسار إلى مصر فلما وصل إليها أمر ببناء سور على مصر في الشعاري والغياض والقاهرة والقلعة التي على جبل المقطم دوره تسعة وعشرون ألف ذراع وثلاثمائة ذراع بالذراع الهاشمي ولم يزل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين‏.‏

ذكر ظفر المسلمين بالفرنج والفرنج بالمسلمين

كان شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم صاحب بعلبك قد أتاه خبرًا ان جمعًا من الفرنج قد قصدوا البقاع من أعمال بعلبك وأغاروا عليها فسار إليهم وكمن لهم في الشعاري والغياض وأوقع بهم وقتل فيهم وأكثر وأسر نحو مائتي رجل منهم وسيرهم إلى صلاح الدين‏.‏

وكان شمس الدولة توارنشاه أخو صلاح الدين وهو الذي ملك اليمن قد وصل إلى دمشق كما ذكرناه وهو فيها فسمع أن طائفة من الفرنج قد خرجوا من بلادهم إلى أعمال دمشق فسار إليهم ولقيهم عند عين الجر في تلك المروج فلم يثبت لهم وانهزم عنهم فظفروا بجمع من أصحابه فأسروهم منهم سيف الدين أبو بكر بن السلار وهو من أعيان الجند الدمشقيين واجترأ الفرنج بعده وانبسطوا في تلك الولاية وجبروا الكسر الذي ناله منهم ابن المقدم‏.‏

عصيان صاحب شهرزور على سيف الدين

ذكر عصيان صاحب شهرزور على سيف الدين وعوده إلى طاعته

في هذه السنة عصى شهاب الدين محمد بن بزان صاحب شهرزور على سيف الدين غازي وكان في طاعته وتحت حكمه‏.‏

وكان سبب ذلك أن مجاهد الدين قايماز كان متوليًا مدينة أربل وكان بينه وبين ابن بزان عداوة محكمة فلما استناب سيف الدين مجاهد الدين بالموصل خاف ابن بزان ان يناله منه أذى فأظهر الامتناع من النزول إلى الخدمة فأرسل إليه جلال الدين وزيره سيف الدين كتابًا يأمره بمعاودة الطاعة ويحذره عاقبة المخالفة وهو من احسن الكتب وأبلغها في هذا المعنى ولولا خوف التطويل لذكرته فليطلب من مكاتباته فلما وصل إليه الكتاب والرسول بادر إلى حضور الخدمة بالموصل وزال الخلف‏.‏

ذكر فرج بعد شدة يتعلق بالتاريخ

بالقرب من جزيرة ابن عمر حصن منيع من امنع المعاقل اسمه فنك وهو على راس جبل عال وهو للأكراد البشنوية له بأيديهم نحو ثلاثمائة سنة وكان صاحبه هذه السنة أمير منهم اسمه إبراهيم وله أخ اسمه عيسى قد خرج منه وهو لا يزال يسعى في أخذه من أخيه إبراهيم ن فأطاعه بعض بطانة إبراهيم وفتح باب السر ليلًا واصعد منه إلى رأس القلعة نيفًا وعشرين رجلًا من أصحاب عيسى فقبضوا على إبراهيم ومن عنده ولم يكن عنده إلا نفر من خواصه وهذه قلة على صخرة كبيرة مرتفعة عن سائر القلعة ارتفاعًا كثيراُ وبها يسكن الأمير وأهله وخواصه وباقي الجند في القلعة تحت القلة فلما قبضوا إبراهيم جعلوه في خزانة وضربه بعضهم بسيف في يده على عاتقه فلم يصنع شيئًا فلما جعل في الخزانة وكل به رجلان وصعد الباقون إلى سطح القلة ولا يشكون ان القلعة لهم لا مانع عنها‏.‏

ووصل من الغد بكرة الأمير عيسى ليتسلم القلعة وبينها دجلة وكانت امرأة الأمير إبراهيم في خزانة أخرى وفيها شباك حديد ثقيل يشرف على القلعة فجذبته بيدها فانقلع وجند زوجها في القلعة لا يقدرون على شيء فلما قلعت الشباك أرادت أن تدلي حبلًا ترفع به الرجال إليها فلم يكن عندها غير ثياب خام فوصلت بعضها ببعض ودلتها إلى القلعة وشدت طرفيها عندها في عود فأصعدت إليها عشرة رجال ولم يكن يراهم الذين على السطح‏.‏

ورأى الأمير عيسى هو على جانب دجلة الرجال يصعدون فصاح هو ومن معه إلى أولئك الذين على السطح ليحذروا وكانوا كلما صاحوا صاح أهل القلعة لتختلف الأصوات فلا يفهم الذين على السطح فينزلون ويمنعون من ذلك فلما اجتمع عندها عشرة رجال أرسلت مع خادم عندها إلى زوجها قدح شراب وأمرته أن يقرب منه كأنه يسقيه الشراب ويعرفه الحال ففعل ذلك وجلس بين يديه ليسقيه وعرفه الحال فقال‏:‏ ازدادوا من الرجال فأصعدت عشرين رجلًا وخرجوا من عندها فمد إبراهيم يده إلى الرجلين الموكلين به فأخذ شعورهما وأمر الخادم بقتلهما وكان عنده فقتلهما بسلاحهما فخرج واجتمع بأصحابه وأرادوا فتح القلعة ليصعد إليه أصحابه من القلعة فلم يجد المفاتيح وكانت مع أولئك الرجال الذين على السطح فاضطروا إلى الصعود إلى سطح القلة ليأخذوا أصحاب عيسى فعلموا الحال فجاؤوا ووقفوا على راس الممرق فلم يقدر أحد ان يصعد فاخذ بعض أصحاب إبراهيم ترسًا وجعله على رأسه وحصل في الدرجة وصعد وقاتل القوم على رأس الممرق حتى صعد أصحابه فقتلوا الجماعة وبقي منهم رجل ألقى نفسه من السطح فنزل إلى أسفل الجبل فتقطع‏.‏

فلما رأى عيسى ما حل بأصحابه عاد خائبًا مما أمله واستقر الأمير إبراهيم في قلعته على حاله‏.‏

في هذه السنة وصل الملك الذي بخوزستان عند شملة وهو ابن ملكشاه ابن محمود إلى البندنيجين فخربها ونهبها وفتك في الناس وسبى حريمهم وفعل كل قبيح‏.‏

ووصل الخبر إلى بغداد فخرج الوزير عضد الدين وعرض العسكر ووصل عسكر الحلة وواسط مع طاشتكين أمير الحاج وغرغلي وساروا نحو العدو فلما سمع بوصولهم فارق مكانه وعاد وكان معه من التركمان جمع كثير فنهبهم عسكر بغداد ورجعوا من غير أمر بالعود فأنكر عليهم ذلك وأمروا بالعود إلى مواقفهم فعادوا لأوائل شهر رمضان وقد رجع الملك فنهب من البندنيجين ما كان نهب من النهب الأول ووقعت بينهم وبين الملك وقعة ثم افترقوا فمضى الملك وفارق ولاية العراق وعاد عسكر بغداد‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في جمادى الأولى أقيمت الجمعة في الجامع الذي بناه فخر الدولة بن المطلب بقصر المأمون غربي بغداد‏.‏

وفيها أمر صلاح الدين ببناء المدرسة التي على قبر الشافعي رضي الله عنه بمصر وعمل بالقاهرة بيمارستان ووقف عليهما الوقوف العظيمة الكبيرة‏.‏

وفيها رأيت بالموصل خروفين ببطن واحد ورأسين ورقبتين وظهرين وثماني قوائم كأنهما خروفين ببطن واحد وجه أحدهما إلى وجه الآخر وهذا من العجائب‏.‏

وفيها انقض كوكب أضاءت له الأرض إض اءة كثيرة وسمع له صوت عظيم وبقي أثره في السماء مقدار ساعة وذهب‏.‏

وفيها توفي تاج الدين علي الحسن بن عبد الله بن المظفر بن رئيس الرؤساء أخو الوزير عضد الدين وزير الخليفة‏.‏

وفيها في المحرم توفي القاضي كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله ابن القاسم الشهرزوري قاضي دمشق وجميع الشام وإليه الوقوف بها والديوان وكان جوادًا فاضلًا رئيسًا ذا عقل ومعرفة في تدبير الدول رحمه الله ورضي عنه‏.‏