المجلد العاشر - ذكر ملك صلاح الدين حلب

و في هذه السنة سار صلاح الدين من عين تاب إلى حلب فنزل عليها في المحرم أيضًا في الميدان الأخضر وأقام به عدة أيام ثم انتقل إلى جبل جوشن فنزل بأعلاه وأظهر أنه يريد أن يبني وكان صاحب حلب عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي ومعه العسكر النوري وهم مجدون في القتال فلما رأى كثرة الخرج كأنه شح بالمال فحضر يومًا عنده بعض أجناده وطلبوا منه شيئًا فاعتذر بقلة المال عنده فقال له بعضهم‏:‏ من يريد أن يحفظ مثل حلب يخرج الأموال ولو باع حلي نسائه فمال حينئذ إلى تسليم حلب وأخذ العوض منها وأرسل مع الأمير طمان الياروقي وكان يميل إلى صلاح الدين وهواه معه فلهذا أرسله فقرر قاعدة الصلح على أن يسلم عماد الدين حلب إلى صلاح الدين ويأخذ عوضها سنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج وجرت اليمن على ذلك وباعها بأوكس الأثمان أعطى حصنًا مثل حلب وأخذ عوضها قرى ومزارع فنزل عنها عشر صفر وتسلمها صلاح الدين فعجب الناس كلهم من ذلك وقبحوا ما أتى حتى إن بعض عامة حلب أحضر اجانة وماء وناداه‏:‏ أنت لا يصلح لك الملك وإنما يصلح لك أن تغسل الثياب وأسمعوه المكروه‏.‏

واستقر ملك صلاح الدين بملكها وكان مزلزلًا فثبت قدمه بتسليمها وكان على شفا جرف هار وإذا أراد الله أمرًا فلا مرد له‏.‏

وسار عماد الدين إلى البلاد التي أعطيها عوضًا عن حلب فتسلمها وأخذ صلاح الدين حلب واستقر الحال بينهما‏:‏ إن عماد الدين يحضر في خدمة صلاح الدين بنفسه وعسكره إذا

استدعاه لا يحتج بحجة ومن الاتفاقات العجيبة أن محيي الدين بن الزكي قاضي دمشق مدح صلاح الدين بقصيدة منها‏:‏ وفتحكم حلبًا بالسيف في صفر مبشر بفتوح القدس في رجب فوافق فتح القدس في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة على ما ذكرناه إن شاء الله تعالى‏.‏

ومما كتبه القاضي الفاضل في المعنى عن صلاح الدين‏:‏ فأعطيناه عن حلب كذا وكذا وهو صرف على الحقيقة أخذنا فيه الدنانير وأعطيناه الدراهم ونزلنا عن القرى وأحرزنا العواصم‏.‏

وكتب أيضًا‏:‏ أعطيناه ما لم يخرج عن اليد يعني أنه متى شاء أخذه لعدم حصانته‏.‏

وكان ي جملة من قتل على حلب تاج الملوك بوري أخو صلاح الدين الأصغر وكان فارسًا شجاعًا كريمًا حليمًا جامعًا لخصال الخير ومحاسن الأخلاق طعن في ركبته فانفكت فمات منعها بعد أن استقر الصلح بين عماد الدين وصلاح الدين على تسليم حلب قبل أن يدخلها صلاح الدين فلما استقر أمر الصلح حضر صلاح الدين عند أخيه يعوده وقال له‏:‏ هذه حلب قد أخذناها وهي لك فقال‏:‏ ذلك لو كان وأنا حي‏.‏

ووالله لقد أخذتها غالية حيث تفقد مثلي‏.‏

فبكى صلاح الدين وأبكى‏.‏

ولما خرج عماد الدين إلى صلاح الدين وقد عمل له دعوة احتفل فيها فبينما هم في سرور إذ جاء إنسان فأسر إلى صلاح الدين بموت أخيه فلم يظهر هلعًا ولا جزعًا وأمر بتجهيزه سرًا ولم يعلم عماد الدين ومن معه في الدعوة واحتمل الحزن وحده لئلا يتنكر ما هم فيه وكان هذا من الصبر الجميل‏.‏

ذكر فتح صلاح الدين حارم

لما ملك صلاح الدين حلب كان بقلعة حارم وهي من أعمال حلب بعض المماليك النورية واسمه سرحك وولاه عليها الملك الصالح عماد الدين فامتنع من تسليمها إلى صلاح الدين فراسله صلاح الدين في التسليم وقال له‏:‏ اطلب من الإقطاع ما أردت ووعده الإحسان فاشتط في الطلب وترددت الرسل بينهما فراسل الفرنج ليحتمي بهم فسمع من معه من الأجناد أنه يراسل الفرنج فخافوا أن يسلمها إليهم فوثبوا عليه وقبضوه وحبسوه وراسلوا صلاح الدين يطلبون منه الأمان والإنعام فأجابهم إلى ما طلبوا وسلموا إليه الحصن فرتب به دزدارًا بعض خواصه‏.‏

وأما باقي قلاع حلب فإن صلاح الدين أقر عين تاب بيد صاحبها كما تقدم وأقطع تل خالد لأمير يقال له داروم الباروقي وهو صاحب تل باشر‏.‏

وأما قلعة إعزاز فإن عماد الدين إسماعيل كان قد خربها فأقطعها صلاح الدين لأمير يقال له دلدرم سلمان بن جندر فعمرها‏.‏

وأقام صلاح الدين بحلب إلى أن فرغ من تقرير قواعدها وأحوالها وديوانها وأقطع أعمالها وأرسل منها فجمع العساكر من جميع بلاده‏.‏

ذكر القبض على مجاهد الدين وما حصل من الضرر بذلك

في هذه السنة في جمادى الأولى قبض عز الدين مسعود صاحب الموصل على نائبه مجاهد الدين قايماز وكان إليه الحكم في جميع البلاد واتبع في ذلك هوى من أراد المصلحة لنفسه ولم ينظر في مضرة صاحبه‏.‏

وكان الذي أشار بذلك عز الدين محمود زلفندار وشرف الدين أحمد ابن أبي الخير الذي كان أبوه صاحب الغراف وهما من أكابر الأمراء فلما أراد القبض عليه لم يقدم على ذلك لقوة مجاهد الدين فأظهر أنه مريض وانقطع عن الركوب عدة أيام فدخل إليه مجاهد الدين وحده وكان خصيًا لا يمتنع من الخول على النساء فلما دخل عليه قبض عليه وركب لوقته إلى القلعة فاحتوى على الأموال التي لمجاهد الدين وخزائنه وولى زلفندار قلعة الموصل بعد مجاهد الدين وكان تحت حكم مجاهد الدين حينئذ إربل وأعمالها ومعه فيها زين الدين يوسف بن زين الدين علي وهو صبي صغير ليس له من الحكم شيء والحكم والعسكر إلى مجاهد الدين وتحت حكمه أيضًا جزيرة ابن عمر وهي لمعز الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود وهو أيضًا صبي والحكم والنواب والعسكر لمجاهد الدين وبيده أيضًا شهرزور وأعمالها ونوابه فيها ودقوقا ونائبه فيها وقلعة عقر الحميدية ونائبه فيها ولم يبق لعز الدين مسعود بعد أن أخذ صلاح الدين البلاد الجزرية سوى الموصل وقلعتها بيد مجاهد الدين وهو على الحقيقة الملك واسمه لعز الدين فلما قبض عليه امتنع صاحب إربل من طاعة عز الدين واستبد وكذلك أيضًا صاحب جزيرة ابن عمر وأرسل الخليفة إلى دقوقا فحصرها وأخذها ولم يحصل لعز الدين مسعود غير شهر زور والعقر وصارت إربل والجزيرة أضر شيء على صاحب الموصل وأرسل صاحبها إلى صلاح الدين بالطاعة له والكون في خدمته‏.‏

وكان الخليفة الناصر لدين الله قد أرسل صدر الدين شيخ الشيوخ ومعه بشير الخادم الخاص إلى صلاح الدين في الصلح مع عز الدين صاحب الموصل وسير عز الدين معه القاضي محيي الدين أبا حامد بن الشهرزوري في المعنى فأجاب صلاح الدين إلى ذلك وقال‏:‏ ليس لكم مع الجزيرة وإربل حديث فامتنع محيي الدين عن ذلك وقال‏:‏ هما لنا فلم يجب صلاح الدين إلى

الصلح إلا بأن تكون إربل والجزيرة معه فلم يتم أمره وقوي طمع صلاح الدين في الموصل بقبض مجاهد الدين فلما رأى صاحب الموصل الضرر بقبض مجاهد الدين قبض على شرف الدين أحمد بن صاحب الغراف وزلفندار عقوبة لهما ثم أخرج مجاهد الدين على ما نذكره إن شاء الله‏.‏

ذكر غزو بيسان

لما فرغ صلاح الدين من أمر حلب جعل فيها ولده الملك الظاهر غازي وهو صبي وجعل معه الأمير سيف الدين يازكج وكان أكبر الأمراء الأسدية وسار إلى دمشق وتجهز للغزو ومعه عساكر الشام والجزيرة وديار بكر وسار إلى بلد الفرنج فعبر نهر الأردن تاسع جمادى الآخرة من السنة فرأى أهل تلك النواحي فقد فارقوها خوفًا فقصد بيسان فأحرقها وخربها وأغار على ما هناك فاجتمع الفرنج وجاءوا إلى قبالته فحين رأوا كثرة عساكره لم يقدموا عليه فأقام عليهم وقد استندوا إلى جبل هناك وخندقوا عليهم فأحاط بهم وعساكر الإسلام ترميهم بالسهام وتناوشهم القتال فلم يخرجوا وأقاموا كذلك خمسة أيام وعاد المسلمون عنهم سابع عشر الشهر لعل الفرنج يطمعون ويخرجون فيستدرجونهم ليبلغوا منهم غرضًا فلما وأغار المسلمون على تلك الأعمال يمينًا وشمالًا ووصلوا إلى ما لم يكونوا يطمعون في الوصول إليه والإقدام عليه فلما كثرت الغنائم معهم رأوا العود إلى بلادهم بما غنموا مع الظفر أولى فعادوا إلى بلادهم على عزم الغزو‏.‏

ذكر غزو الكرك وملك العادل حلب

لما عاد صلاح الدين والمسلمون من غزوة بيسان تجهزوا غزو الكرك فسار إليه في العساكر وكتب إلى أخيه العادل أبي بكر بن أيوب وهو نائبه بمصر يأمره بالخروج بجميع العساكر إلى الكرك‏.‏

وكان العادل قد أرسل إلى صلاح الدين يطلب منه مدينة حلب وقلعتها فأجابه إلى ذلك وأمره أن يخرج معه بأهله وماله فوصل صلاح الدين إلى الكرك في رجب ووافاه أخوه العادل في العسكر المصري وكثر جمعه وتمكن من حصره وصعد المسلمون إلى ربضه وملكه وحصر الحصن من الربض وتحكم عليه في القتال ونصب عليه سبعة مجانيق لا تزال ترمي بالحجارة ليلًا ونهارًا‏.‏

وكان صلاح الدين يظن أن الفرنج لا يمكنونه من حصر الكرك وأنهم يبذلون جهدهم في رده عنهم فلم يستصحب معه من آلاف الحصار ما يكفي لمثل ذلك الحصن العظيم والمعقل المنيع فرحل عنه منتصف شعبان وسير تقي الدين ابن أخيه إلى مصر نائبًا عنه ليتولى ما كان أخوه العادل يتولاه واستصحب أخاه العادل معه إلى دمشق وأعطاه مدينة حلب وقلعتها وأعمالها ومدينة منبج وما يتعلق بها وسيره إليها في شهر رمضان من السنة وأحضر ولده الظاهر منها إلى دمشق‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة فتح الرباط الذي بنته أم الخليفة بالمأمونية‏.‏

وفيها في ذي الحجة توفي مكرم بن بختيار أبو الخير الزاهد ببغداد‏.‏

روى الحديث وكان كثير البكاء‏.‏

وفي جمادى الآخرة توفي محمد بن بختيار بن عبد الله أبو عبد الله المولد الشاعر ويعرف بالأبله فمن جملة شعره‏:‏ أرق دمعي لا بل أراق دمي ظلمًا بظلم من ريقه الشبم ذو قامة كالقضيب ناضرة وناظر من سقامه سقمي حصلت من وعده على أصدق ال وعد ومن وصله على التهم

ذكر إطلاق مجاهد الدين من الحبس وانهزام العجم

في هذه السنة في المحرم أطلق أتابك عز الدين صاحب الموصل مجاهد الدين قايماز من الحبس بشفاعة شمس الدين البهلوان صاحب همذان وبلاد الجبل وسيره إلى البهلوان وأخيه قزل يستنجدهما على صلاح الدين فسار إلى قزل أولًا وهو صاحب أذربيجان فلم يمكنه من المضي إلى البهلوان وقال‏:‏ ما تختاره أنا أفعله وجهز معه عسكرًا كثيرًا نحو ثلاثة آلاف فارس وساروا نحو إربل ليحصروها فلما قاربوها أفسدوا في البلاد وخربوها ونهبوا وسبوا وأخذوا النساء قهرًا ولم يقدر مجاهد الدين على منعهم فسار إليهم زين الدين يوسف صاحب إربل في عسكره فلقيهم وهم متفرقون في القرى ينهبون ويحرقون فانتهز الفرصة فيهم بتفرقهم وألقى بنفسه وعسكره على أول من لقيه منهم فهزمهم وتمت الهزيمة على الجميع وغنم الأربليون أموالهم ودوابهم وسلاحهم وعاد العجم إلى بلادهم منهزمين وعاد صاحب إربل إلى بلده مظفرًا غانمًا وعاد مجاهد الدين إلى الموصل فكان يحكي‏:‏ إنني ما زلت أنتظر العقوبة من الله تعالى على سوء أفعال العجم فإنني رأيت منهم ما لم أكن أظنه يفعله مسلم بمسلم وكنت أنهاهم

ذكر وفاة يوسف بن عبد المؤمن وولاية ابنه يعقوب

في هذه السنة سار أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن إلى بلاد الأندلس وجاز البحر إليها في جمع عظيم من عساكر المغرب فإنه جمع وحشد الفارس والراجل فلما عبر الخليج قصد غربي البلاد فحصر مدينة شنترين وهي للفرنج شهرًا فأصابه بها مرض فمات منه في ربيع الأول وحمل في تابوت إلى مدينة إشبيلية من الأندلس‏.‏

وكانت مدة ملكه اثنتين وعشرين سنة وشهرًا ومات عن غير وصية بالملك لأحد من أولاده فاتفق رأي قواد الموحدين وأولاد عبد المؤمن على تمليك ولده أبي يوسف يعقوب بن يوسف ابن عبد المؤمن فملكوه من الوقت الذي مات فيه أبوه لئلا يكونوا بغير ملك يجمع كلمتهم لقربهم من العدو فقام في ذلك أحسن قيام وأقام راية الجهاد وأحسن السيرة في الناس‏.‏

وكان دينًا مقيمًا للحدود في الخاص والعام فاستقامت له الدولة وانقادت إليه بأسرها مع سعة أقطارها ورتب ثغور الأندلس وشحنها بالرجال ورتب المقاتلة في سائر بلادها وأصلح أحوالها وعاد إلى مراكش‏.‏

وكان أبوه يوسف حسن السيرة وكان طرقه ألين من طريق أبيه مع الناس يحب العلماء ويقربهم ويشاورهم وهم أهل خدمته وخاصته‏.‏

وأحبه الناس ومالوا إليه وأطاعه من البلاد ما امتنع على أبيه وسلك في جباية الأموال ما كان أبوه يأخذه ولم يتعده إلى غيره واستقامت له البلاد بحسن فعله مع أهلها ولم يزل كذلك إلى أن توفي رحمه الله تعالى‏.‏

ذكر غزو صلاح الدين الكرك

في هذه السنة في ربيع الآخر سار صلاح الدين من دمشق يريد الغزو وجمع عساكره فأتته من كل ناحية ومن أتاه نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب الحصن‏.‏

وكتب إلى مصر ليحضر عسكرها عنده على الكرك فنازل الكرك وحصره وضيق على من به وأمر بنصب المجانيق على ربضه واشتد القتال فملك المسلمون الربض وبقي الحصن وهو الربض على سطح جبل واحد إلا أن بينهما خندقًا عظيمًا عمقه نحو ستين ذراعًا فأمر صلاح الدين بإلقاء الأحجار والتراب فيه ليطمه فلم يقدر أحد على الدنو منه لكثرة الرمي عليهم بالسهام من الجرخ والقوس والأحجار من المجانيق فأمر أن يبني بالأخشاب واللبن ما يمكن الرجال يمشون تحته إلى الخندق ولا يصل إليهم شيء من السهام والأحجار ففعل ذلك فصاروا يمشون تحت السقائف وأرسل من فيه من الفرنج إلى ملكهم وفرسانهم يستمدونهم ويعرفونهم عجزهم وضعفهم عن حفظ الحصن فاجتمعت الفرنج عن آخرها وساروا إلى نجدتهم عجلين فلما بلغ الخبر بمسيرهم إلى صلاح الدين رحل عن الكرك إلى طرقهم ليلقاهم ويصاففهم ويعود بعد أن يهزمهم إلى الكرك فقرب منهم وخيم ونزل ولم يمكنه الدنو منهم لخشونة الأرض وصعوبة المسلك إليهم وضيقه فأقام أيامًا ينتظر خروجهم من ذلك المكان ليتمكن منهم فلم يبرحوا منه خوفًا على نفوسهم فلما رأى ذلك رحل عنهم عدة فراسخ وجعل بإزائهم من يعلمه بمسيرهم فساروا ليلًا إلى الكرك فلما علم صلاح الدين ذلك علم أنه لا يتمكن حينئذ ولا يبلغ غرضه فسار إلى مدينة نابلس ونهب كل ما على طريقه من البلاد فلما وصل إلى نابلس أحرقها وخربها ونهبها وقتل فيها وأسر من المسلمين فاستنقذهم ورحل إلى جينين فنهبها وخربها وعاد إلى دمشق ونهب ما على طريه وخربه وبث السرايا في طريقه يمينًا وشمالًا يغنون ويخربون ووصل إلى دمشق‏.‏

ذكر ملك الملثمين بجاية وعودها إلى أولاد عبد المؤمن

في هذه السنة في شعبان خرج علي بن إسحاق المعروف بابن غانية وهو من أعيان الملثمين الذين كانوا ملوك المغرب وهو حينئذ صاحب جزيرة ميورقة إلى بجاية فملكها وسبب ذلك أنه لما سمع بوفاة يوسف بن عبد المؤمن عمر أسطوله فكان عشرين قطعة وسار في جموعه فأرسى في ساحل بجاية وخرجت خيله ورجاله من الشواني فكانوا نحو مائتي فارس من الملثمين وأربعة آلاف راجل فدخل مدينة بجاية بغير قتال لأنه اتفق أن واليها سار عنها قبل ذلك بأيام إلى مراكش ولم يترك فيها جيشًا ولا ممانعًا لعدم عدو يحفظها منه فجاء الملثم ولم يكن في حسابهم أنه يحدث نفسه بذلك فأرسى بها ووافقه جماعة من بقايا الدولة بين حماد وصاروا معه فكثر جمعه بهم وقويت نفسه فسمع خبره والي بجاية فعاد من طريقه ومعه من الموحدين ثلثمائة فارس فجمع من العرب والقبائل الذين في تلك الجهات نحو ألف فارس فسمع بهم الملثم وبقربهم منه فخرج إليهم وقد صار معه قدر ألف فارس وتواقفوا ساعة فانضاف جميع الجموع التي كانت مع والي بجاية إلى الملثم فانهزم حينئذ والي بجاية ومن معه من الموحدين وساروا إلى مراكش وعاد الملثم إلى بجاية فجمع جيشه وخرج إلى أعمال بجاية فأطاعه جميعهم إلا قسنطينة الهوى فحصرها إلى أن جاء جيش من الموحدين من مراكش في صفر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة في البر والبحر وكان بها يحيى وعبد الله أخو علي بن إسحق الملثم فخرجا منها هاربين ولحقا بأخيهما فرحل عن قسنطينة وسار إلى إفريقية‏.‏

وكان سبب إرسال الجيش من مراكش أن والي بجاية وصل إلى يعقوب بن يوسف صاحب المغرب وعرفه ما جرى ببجاية واستيلاء الملثمين عليها وخوفه عاقبة التواني فجهز العساكر في البر عشرين ألف فارس وجهز الأسطول في البحر في خلق كثير واستعادوها‏.‏

ذكر وفاة صاحب ماردين وملك ولده

في هذه السنة مات قطب الدين إيلغازي بن نجم الدين بن ألبي بن تمرتاش ابن إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين وملك بعده ابنه حاسم الدين بولق أرسلان وهو طفل وقام بتربيه وتدبير مملكته نظام الدين البقش مملوك أبيه وكان شاه أرمن صاحب خلاط خال قطب الدين فحكم في دولته وهو رتب البقش مع ولده وكان البقش دينًا خيرًا عادلًا حسن السيرة حليمًا فأحسن تربيته وتزود أمه فلما كبر الولد لم يمكنه النظام من مملكته لخبط وهوج فيه وكان لنظام الدين هذا مملوك اسمه لؤلؤ قد تحكم في دولته وحكم فيها فكان يحمل النظام على ما يفعله مع الولد ولم يزل الأمر كذلك إلى أن مات الولد وله أخ أصغر منه لقبه قطب الدين فرتبه النظام في الملك وليس له منه إلا الاسم والحكم إلى النظام ولؤلؤ فبقي كذلك إلى سنة إحدى وستمائة فمرض

النظام البقش فأتاه قطب الدين يعوده فلما خرج من عنده معه لؤلؤ وضربه قطب الدين بسكين معه فقتله ثم دخل إلى النظام وبيده السكين فقتله أيضًا وخرج وحده ومعه غلام له وألقى الرأسين إلى الأجناد وكانوا كلهم قد أنشأهم النظام ولؤلؤ فأذعنوا له بالطاعة فلما تمكن أخرج من أراد وترك من أراد واستولى على قلعة ماردين وأعمالها وقلعة البارعية وصور وهو إلى الآن حاكم فقيهًا حازم في أفعاله‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة توفي صدر الدين شيخ الشيوخ عبد الرحمن بن شيخ الشيوخ إسماعيل بن شيخ الشيوخ أبي سعيد أحمد في شعبان وكان قد سار في ديوان الخلافة رسولًا إلى صلاح الدين ومعه شهاب الدين بشير الخادم في معنى الصلح بينه وبين عز الدين صاحب الموصل فوصلا إلى دمشق وصلاح الدين بحصر الكرك فأقاما إلى أن عاد فلم يستقر في الصلح أمر ومرضا وطلبا العودة إلى العراق فأشار عليهما صلاح الدين بالمقام إلى أن يصطلحا فلم يفعل وسارا في الحر فمات بشير بالحسنة‏.‏

ومات صدر الدين بالرحبة ودفن بمشهد البوق وكان واحد زمانه قد جمع بين رياسة الدين والدنيا وكان ملجأ لكل خائف صالحًا كريمًا حليمًا وله مناقب كثيرة ولم يستعمل في مرضه هذا دواء توكلًا على الله تعالى‏.‏

وفيها توفي عبد اللطيف بن محمد بن عبد اللطيف الخجندي الفقيه الشافعي رئيس أصفهان وكان موته بباب همذان وقد عاد الحج وله شعر فمنه‏:‏ بالحمى دار سقاها مدمعي يا سقى الله الحمى من مربع ليت شعري والأماني ضلة هل إلى وادي الغض من مرجع أذنت علوة للواشي بنا ما على علوة لو لم تسمع أو تحرت رشدًا فيما وشى أو عفت عني فما قلبي معي رحمه الله ورضي عنه وأرضاه‏.‏

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وخمسمائة

ذكر حصر صلاح الدين الموصل ورحيله عنها لوفاة شاه أرمن

في هذه السنة حصر صلاح الدين يوسف بن أيوب الموصل مرة ثانية وكان مسيره من دمشق في ذي القعدة من السنة الماضية فوصل إلى حلب وأقام بها إلى أن خرجت السنة وسار منها فعبر إلى أرض الجزيرة‏.‏

فلما وصل حران قبض على مظفر الدين كوكبري بن زين الدين الذي كان سبب ملكه الديار الجزرية‏.‏

وسبب قبضه عليه أن مظفر الدين كان يراسل صلاح الدين كل وقت ويشير عليه بقصد الموصل ويحسن له ذلك ويقوي طمعه حتى إنه بذل له إذا سار إليها خمسين ألف دينار فلما وصل صلاح الدين إلى حران لم يف له بما بذل من المال وأنكر ذلك فقبض عليه ووكل به ثم أطلقه وأعاد إليه مدينتي حران والرها وكان قد أخذهما منه وإنما أطلقه لأنه خاف انحراف الناس عنه بالبلاد الجزرية لأنهم كلهم علموا بما اعتمده مظفر الدين معه من تمليكه البلاد فأطلقه‏.‏

وسار صلاح الدين عن حران في ربيع الأول فحضر عنده عساكر الحصن ودارا ومعز الدين سنجر شاه صاحب الجزيرة وهو ابن عز الدين صاحب الموصل وكان قد فارق طاعة عمه بعد قبض مجاهد الدين وسار مع صلاح الدين إلى الموصل فلما وصلوا إلى مدينة بلد سير أتابك عز الدين والدته إلى صلاح الدين ومعها ابنة عمه نور الدين محمود بن زنكي وغيرهما من النساء وجماعة من أعيان الدولة يطلبون منه المصالحة وبذلوا الموافقة والإنجاد بالعساكر ليعود عنهم وإنما أرسلهن لأنه وكل من عنده ظنوا أنهن إذا طلبن منه الشام أجابهن إلى ذلك لا سيما ومعهن ابنة مخدومه وولي نعمته نور الدين فلما وصلن إليه أنزلهن وأحضر أصحابه واستشارهم فيما يفعله ويقوله فأشار أكثرهم بإجابتهن إلى ما طلبن منه وقال له الفقيه عيسى وعلي نب أحمد المشطوب وهما من بلد الهكارية من أعمال الموصل‏:‏ مثل الموصل لا يترك لامرأة فإن عز الدين ما أرسلهن إلا وقد عجز عن حفظ البلد‏.‏

ووافق ذلك هواه فأعادهن خائبات واعتذر بأعذار غير مقبولة ولم يكن إرسالهن عن ضعف ووهن إنما أرسلهن طلبًا لدفع الشر بالتي هي أحسن‏.‏

فلما عدن رحل صلاح الدين إلى الموصل وهو كالمتيقن أنه يملك البلد وكان الأمر بخلاف ذلك فلما قارب البلد نزل على فرسخ منه وامتد عسكره في تلك الصحراء بنواحي الحلة المراقية وكان يجري بين العسكرين مناوشات بظاهر الباب العمادي وكنت إذا ذاك بالموصل وبذل العامة نفوسهم غيظًا وحنقًا لرده النساء فرأى صلاح الدين ما لم يكن يحسبه فندم على رجه النساء ندامة الكسعي حيث فاته حسن الذكر وملك البلد وعاد على الذين أشاروا بردهن باللوم والتوبيخ‏.‏

وجاءته كتب القاضي الفاضل وغيره ممن ليس له هوى في الموصل يقبحون فعله وينكرونه وأتاه وهو على الموصل زين الدين يوسف بن زين الدين صاحب إربل فأنزله ومعه أخوه مظفر الدين كوكبري وغيرهما من الأمراء بالجانب الشرقي من الموصل وسير من المنزلة علي بن أحمد المشطوب الهكاري إلى قلعة الجديدة من بلد الهكارية فحصرها واجتمع عليه من الأكراد والهكارية كثير وبقي هناك إلى أن رحل صلاح الدين عن الموصل‏.‏

وكان عامة الموصل يعبرون دجلة فيقاتلون من الجانب الشرقي من العسكر ويعودون ولما كان صلاح الدين يحاصر الموصل بلغ أتابك عز الدين صاحبها أن نائبه بالقلعة زلفندار يكاتبه ويصدر عن رأيه وضبط الأمور وأصلح ما كان فسد من الأحوال حتى آل الأمر إلى الصلح على ما نذكره إن شاء الله‏.‏

وحضر عند صلاح الدين إنسان بغدادي أقام بالموصل ثم خرج إلى صلاح الدين فأشار عليه بقطع دجلة عن الموصل إلى ناحية نينوى وقال‏:‏ إن دجلة إذا نقلت عن الموصل عطش أهلها فملكناها بغير قتال‏.‏

فظن صلاح الدين أن قوله صدق فعزم على ذلك حتى علم أنه لا يمكن قطعه بالكلية فإن المدة تطول والتعب يكثر ولا فائدة وراءه وقبحه عنده أصحابه فأعرض عنه‏.‏

وأقام بمكانه من أول ربيع الآخر إلى أن قارب آخره ثم رحل عنها إلى ميافارقين‏.‏

وكان سبب ذلك أن شاه أرمن صاحب خلاط توفي بها تاسع ربيع الآخر فوصل الخبر بوفاته في العشرين منه فعزم على الرحيل إليها وتملكها حيث إن شاه أرمن لم يخلف ولدًا ولا أحدًا من أهل بيته يملك بلاده بعده وإنما قد استولى عليها مملوك له اسمه بكتمر ولقبه سيف الدين فاستشار صلاح الدين أمراءه ووزراءه فاختلفوا فأما من هواه بالموصل فيشير بالمقام وملازمة الحصار لها وأما من يكره أذى البيت الأتابكي فإنه أشار بالرحيل وقال‏:‏ إن ولاية خلاط أكبر وأعظم وهي سائبة لا حافظ لها و هذه لها سلطان يحفظها ويذب عنها وإذا ملكنا تلك سهل أمر هذه وغيرها فتردد في أمره فاتفق أنه جاءه كتب جماعة من أعيان خلاط من أهلها وأمرائها يستدعونه ليسلموا إليه البلد فسار عن الموصل وكانت مكاتبة من كاتبه خديعة ومكرًا فإن شمس الدين البهلوان بن إيلدكز صاحب أذربيجان وهمذان وتلك المملكة قد قصدهم ليأخذ البلاد منهم وكان قبل ذلك قد زوج شاه أرمن على كبر سنه بنتًا له ليجعل ذلك طريقًا إلى ملك خلاط وأعمالها فلما بلغهم مسيره إليهم كاتبوا صلاح الدين يستدعونه إليهم ليسلموا البلد إليه ليدفعوا به البهلوان يدفعوه بالبهلوان ويبقى البلد بأيديهم فسار صلاح الدين وسير في مقدمته ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه ومظفر الدين بن زين الدين وغيرهم فساروا إلى خلاط ونزلوا بطوانة بالقرب من خلاط وسار صلاح الدين إلى ميافارقين وأما البهلوان فإنه سار إلى خلاط ونزل قريبًا منها وترددت رسل أهل خلاط بينهم وبينه وبين صلاح الدين ثم

ذكر وفاة نور الدين صاحب الحصن

في هذه السنة توفي نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود صاحب الحصن وآمد لما كان صلاح الدين على الموصل وخلف ابنين فملك الأكبر منهما واسمه سقمان ولقبه قطب الدين وتولى تدبير الأمور وزيره القوام بن سماقا الأسعردي‏.‏

وكان عماد الدين بن قرا أرسلان قد سيره أخوه نور الدين في عساكره إلى صلاح الدين وهو يحاصر الموصل وهو معه فلما بلغه خبر وفاة أخيه سار ليملك البلاد بعد لصغر أولاده فتعذر عليه ذلك فسار إلى خرت برت فملكها وهي بيد أولاده إلى سنة عشرين وستمائة ولما حصر صلاح الدين ميافارقين حضر عنده ولد نور الدين فأقره على ملك أبيه ومن جملته آمد وكانوا خافوا أن يأخذها منهم فلم يفعل وردهم إلى بلادهم وشرط عليهم أن يراجعوه فيما يفعلونه ويصدروا عن أمره ونهيه ورتب معه أميرًا لقبه صلاح الدين من أصحابه أبيه‏.‏

ذكر ملك صلاح الدين ميافارقين

لما سار صلاح الدين إلى خلاط جعل طريقه على ميافارقين مطمع ملكها حيث كان صاحبه قطب الدين صاحب ماردين قد توفي كما ذكرنا وملك بعد ابنه وهو طفل وكان حكمها إلى شاه أرمن وعسكره فيها فلما توفي طمع في أخذها فلما نازلها رآها مشحونة بالرجال وبها زوجة قطب الدين المتوفي ومعها بنات لها منه وهي أخت نور الدين محمد صاحب الحصن فأقام صلاح الدين عليها يحصرها من أول جمادى الأولى‏.‏

وكان المقدم على أجنادها أميرًا اسمه يرنقش ولقبه أسد الدين وكان شجاعًا شهمًا يحفظ البلد فأحسن إليه واشتد القتال عليه ونصبت المجانيق والعرادات فلم يصل صلاح الدين إلى ما يريد منها فلما رأى ذلك عدل عن القوة والحرب إلى أعمال الحيلة فراسل امرأة قطب الدين المقيمة بالبلد يقول لها‏:‏ إن أسد الدين يرنقش قد مال إلينا في تسليم البلد ونحن نرعى حق أخيك نور الدين فيك بعد وفاته ونريد أن يكون لك في هذا الأمر نصيب وأنا أزوج بناتك بأولادي وتكون ميافارقين وغيرها لك وبحكمك ووضع من أرسل إلى أسد يعرفه أن الخاتون قد مالت للمقاربة والانقياد إلى السلطان وأن من بخلاط قد كاتبوه ليسلموا إليه فخذ لنفسك‏.‏

واتفق أن رسولًا وصله من خلاط يبذلون له الطاعة وقالوا له من الاستدعاء إليهم ما كانوا يقولونه فأمر صلاح الدين الرسول فدخل إلى ميافارقين وقال لأسد‏:‏ أنت عمن تقاتل وأنا قد جئت في تسليم خلاط إلى صلاح الدين‏!‏ فسقط في يده وضعفت نفسه وأرسل يقترح أقطاعًا ومالًا فأجيب إلى ذلك وسمل البلد سلخ جمادى الأولى وعقد النكاح لبعض أولاده على بعض

ذكر عود صلاح الدين إلى بلد الموصل والصلح بينه وبين أتابك عز الدين

لما فرغ صلاح الدين من أمر ميافارقين وأحكم قواعدها وقرر أقطاعها وولاياتها أجمع على العود إلى الموصل فسار نحوها وجعل طريقه على نصيبين فوصل إلى كفر زمار والزمان شتاء فنزلها في عسكره وعزم على المقام بها وإقطاع جميع بلاد الموصل وأخذ غلالها ودخلها وإضعاف الموصل بذلك إذ علم أنه لا يمكنه التغلب عليها وكان نزوله في شعبان وأقام بها شعبان ورمضان وتردد الرسل بينه وبين عز الدين صاحب الموصل وصار مجاهد الدين يراسل ويتقرب وكن قوله مقبولًا عند سائر الملوك لما علموا من صحته‏.‏

فبينما الرسل تتردد في الصلح إذ مرض صلاح الدين وسار من كفر زمار عائدًا إلى حران فلحقه الرسل بالإجابة إلى ما طلب فتقرر الصلح وحلف على ذلك وكاتب القاعدة أن يسلم إليه عز الدين شهرزور وأعمالها وولاية القرابلي وجميع ما وراء الزاب من الأعمال وأن يخطب له على منابر بلاده ويضرب اسمه على السكة فلما حلف أرسل رسله فحلف عز الدين له وتسلموا البلاد التي استقرت القاعدة على تسليمها‏.‏

ووصل صلاح الدين إلى حران فأقام بها مريضًا وأمنت الدنيا وسكنت الدهماء وانحسمت مادة الفتن وكان ذلك بتوصل مجاهد الدين قايماز رحمه الله‏.‏

وأما صلاح الدين فإنه طال مرضه بحران وكان عنده من أهله أخوه الملك العادل وله حينئذ حلب وولده الملك العزيز عثمان واشتد مرضه حتى أيسوا من عافيته فحلف الناس لأولاده وجعل لكل منهم شيئًا من البلاد معلومًا وجعل أخاه العادل وصيًا على الجميع ثم إنه عوفي وعاد إلى دمشق في المحرم سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة‏.‏

ولما كان مريضًا بحران كان عنده ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه وله من الأقطاع حمص والرحبة فسار من عنده إلى حمص فاجتاز بحلب وأحضر جماعة من أحداثها وأعطاهم مالًا ولما وصل إلى حمص راسل جماعة من الدمشقيين وواعدهم على تسليمهم البلد إليه إذا مات صلاح الدين وأقام بحمص ينتظر موته ليسير إلى دمشق فيملكها فعوفي وبلغه الخبر على جهته فلم يمض غير قليل حتى مات ابن شيركوه ليلة عيد الأضحى فإنه شرب الخمر وأكثر منها فأصبح ميتًا فذكروا والعهدة عليهم أن صلاح الدين وضع عليه إنسانًا يقال له الناصح بن العميد وهو من دمشق فحضر عنده ونادمه وسقاه سمًا فلما أصبحوا من الغد لم يروا الناصح فسألوا عنه فقيل‏:‏ إنه سار من ليلته إلى صلاح الدين فكان هذا مما قوى الظن‏.‏

فلما توفي أعطى أقطاعه لولده شيركوه وعمره اثنتا عشرة سنة‏.‏

وخلف ناصر الدين من الأموال والخيل والآلات شيئًا كثيرًا فحضر صلاح الدين في حمص واستعرض تركته وأخذ أكثرها ولم يترك إلا ما لا خير فيه‏.‏

وبلغني أن شيركوه بن ناصر الدين حضر عند صلاح الدين بعد موت أبيه بسنة فقال له‏:‏ إلى أين بلغت من القرآن فقال‏:‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏‏.‏ فعجب صلاح الدين والحاضرون من ذكائه‏.‏

ذكر الفتنة بين التركمان والأكراد بديار الجزيرة والموصل

في هذه السنة ابتدأت الفتنة بين التركمان والأكراد بديار الجزيرة والموصل وديار بكر وخلاط والشام وشهرزور وأذربيجان وقتل فيها من الخلق ما لا يحصى ودامت عدة سنين وتقطعت الطرق ونهبت الأموال وأريقت الدماء‏.‏

وكان سببها أن امرأة من التركمان تزوجت بإنسان تركماني واجتازوا في طريقهم بقلعة من الزوزان للأكراد فجاء أهلها وطلبوا من التركمان وليمة العرس فامتنعوا من ذلك وجرى بينهم كلام صاروا منه إلى القتال فنزل صاحب تلك القلعة فأخذ الزوج فقتله فهاجت الفتنة وقام التركمان على ساق وقتلوا جمعًا كثيرًا من الأكراد وثار الأكراد فقتلوا من التركمان أيضًا كذلك وتفاقم الشر ودام‏.‏

ثم إن مجاهد الدين قايماز رحمه الله جمع عنده جمعًا من رؤساء الأكراد والتركمان وأصلح بينهم وأعطاهم الخلع والثياب وغيرها وأخرج عليهم مالًا جمًا فانقطعت الفتنة وكفى الله شرها وعاد الناس إلى ما كانوا عليه من الطمأنينة والأمان‏.‏

ذكر ملك الملثمين والعرب إفريقية وعودها إلى الموحدين

قد ذكرنا سنة ثمانين ملك علي بن إسحق الملثم بجاية وإرسال يعقوب ابن يوسف بن عبد المؤمن صاحب المغرب العساكر واستعادتها فسار علي إلى إفريقية فلما وصل إليها اجتمع سليم ورباح ومن هناك من العرب وانضاف إليهم الترك الذين كانوا قد دخلوا من مصر مع قراقوش وقد تقدم ذكر وصوله إليها ودخل أيضًا من أتراك مصر مملوك لتقي الدين ابن أخي صلاح الدين اسمه بوزابة فكثر جمعهم وقويت شوكتهم فلما اجتمعوا بلغت عدتهم مبلغًا كثيرًا وكلهم كاره لدولة الموحدين واتبعوا جميعهم علي ابن إسحاق الملثم لأنه من بيت المملكة والرياسة القديمة وانقادوا إليه ولقبوه بأمير المسلمين وقصدوا بلاد إفريقية فملكوها جميعها شرقًا وغربًا إلا مدينتي تونس والمهدية فإن الموحدين أقاموا بهما وحفظوهما على خوف وضيق شدة وانضاف إلى المفسد الملثم كل مفسد في تلك الأرض ومن يريد الفتنة والنهب والفساد والشر فخربوا البلاد والحصون والقرى وهتكوا الحزم وقطعوا الأشجار‏.‏

وكان الوالي على إفريقية حينئذ عبد الواحد بن عبد الله الهنتاتي وهو بمدينة تونس فأرسل إلى ملك المغرب يعقوب وهو بمراكش يعلمه الحال وقصد اللثم جزيرة باشرا وهي بقرب تونس تشتمل على قرى كثيرة فنازلها وأحاط بها فطلب أهلا منه الأمان فأمنهم فلما دخلها العسكر نهبوا جميع ما فيها من الأموال والدواب والغلات وسلبوا الناس حتى أخذوا ثيابهم وامتدت الأيدي إلى النساء والصبيان وتركوهم هلكى فقصدوا مدينة تونس فأما الأقوياء فكانوا يخدمون ويعملون ما يقوم بقوتهم وأما الضعفاء فكانوا يستعطون ويسألون الناس ودخل عليهم فصل الشتاء فأهلكهم البرد ووقع فيهم الوباء فأحصي الموتى منهم فكانوا اثنتي عشر ألفًا هذا من موضع واحد فما الظن بالباقي‏.‏

ولما استولى الملثم على إفريقية قطع خطبة أولاد عبد المؤمن وخطب للإمام الناصر لدين الله الخليفة العباسي وأرسل إليه يطلب الخلع والأعلام السود‏.‏

وقصد في سنة اثنتين وثمانين مدينة قفصة فحصرها فأخرج أهلها الموحدين من عساكر ولد عبد المؤمن وسلموها إلى الملثم فرتب فيها جندًا من الملثمين والأتراك وحصنها بالرجال مع حصانتها في البناء‏.‏

وأما يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن فإنه لما وصله الخبر اختار من عساكره عشرين ألف فارس من الموحدين وقصد قلة العسكر لقلة القوت في البلاد ولما جرى فيها من التخريب والأذى وسار في صفر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة فوصل إلى مدينة تونس وأرسل ستة آلاف فارس مع ابن أخيه فساروا إلى علي بن إسحق الملثم ليقاتلوه وكان بقفصة فوافوه وكان مع الموحدين جماعة من الترك فخامروا عليهم فانهزم الموحدون وقتل جماعة من مقدميهم وكان ذلك في ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين‏.‏

فلما بلغ يعقوب الخبر أقام بمدينة تونس إلى نصف رجب من السنة ثم خرج فيمن معه من العساكر يطلب الملثم والأتراك فوصل إليهم فالتقوا بالقرب من مدينة قابس واقتتلوا فانهزم الملثم ومن معه فأكثر الموحدون القتل حتى كادوا يفنونهم فلم ينج منهم إلا القليل فقصدوا البر ورجع يعقوب من يومه إلى قابس ففتحها وأخذ منها أهل قراقوش وأولاده وحملهم إلى مراكش وتوجه إلى مدينة قفصة فحصرها ثلاثة أشهر وقطع أشجارها وخرب ما حولها فأرسل إليه الترك الذين فيها يطلبون الأمان لأنفسهم ولأهل البلد فأجابهم إلى ذلك وخرج الأتراك منها سالمين وسير الأتراك إلى الثغور لما رأى من شجاعتهم ونكايتهم في العدو وتسلم يعقوب البلد وقتل من فيه من الملثمين وهدم أسواره وترك المدينة مثل قرية وظهر ما أنذر به المهدي بن تومرت فإنه قال إنها تخرب أسوارها وتقطع أشجارها وقد تقدم ذلك ذلك فلما فرغ يعقوب من أمر قفصة واستقامت إفريقية عاد إلى مراكش وكان وصوله إليها سنة أربع وثمانين وخمسمائة‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة فارق الرضي أبو الخير إسماعيل القزويني الفقيه الشافعي بغداد وكان مدرس النظامية بها وعاد إلى قزوين ودرس فيها بعده الشيخ أبو طالب المبارك صاحب ابن الخل وكان من العلماء الصالحين‏.‏

وفيها كان بني أهل الكرخ ببغداد وبين أهل باب البصرة فتنة عظيمة جرح فيها كثير منهم وقتل ثم أصلح النقيب الظاهر بينهم‏.‏

وفيها توفي الفقيه مهذب الدين عبد الله بن أسعد الموصلي وكان عالمًا بمذهب الشافعي وله نظم حسن ونثر أجاد فهي وكان من محاسن الدنيا وكانت وفاته بحمص‏.‏

ذكر نقل العادل من حلب والملك العزيز إلى مصر

وإخراج الأفضل من مصر إلى دمشق وإقطاعه إياها في هذه السنة أخرج صلاح الدين ولده الأفضل عليًا من مصر إلى دمشق وأقطعها له وأخذ حلب من أخيه العادل وسيره مع ولده العزيز عثمان إلى مصر وجعل نائبًا عنه واستدعي تقي الدين منها‏.‏

وسبب ذلك أنه كان قد استناب تقي الدين بمصر كما ذكرناه وجعل معه ولده الأكبر الأفضل عليًا فأرسل تقي الدين يشكو من الأفضل ويذكر أنه قد عجز عن جباية الخراج معه لأنه كان حليمًا كريمًا إذا أراد تقي الدين معاقبة أحد منعه فأحضر ولده الأفضل وقال لتقي الدين‏:‏ لا تحتج في الخراج وغيره بحجة وتغير عليه بذلك وظن أنه يريد إخراج ولده الأفضل لينفرد بمصر حتى يملكها إذا مات صلاح الدين فلما قوي هذا الخاطر عنده أحضر أخاه العادل من حلب وسيره إلى مصر ومعه ولده العزيز عثمان واستدعى تقي الدين إلى الشام فامتنع من الحضور وجمع الأجناد والعساكر ليسير إلى المغرب إلى مملوكه قراقوش وكان قد استولى على جبال نفوسة وبرقة وغيرها وقد كتب إليه يرغبه في تلك البلاد فتجهز للمسير إليه واستصحب معه فلم سمع ذلك صلاح الدين ساءه وعلم أنه إن أرسل إليه يمنعه لم يجبه فأرسل إليه يقول له‏:‏ أريد أن تحضر عندي لأودعك وأوصيك بما تفعله فلما حضر عنده منعه وزاد في إقطاعه فصار إقطاعه عندي لأودعك وأوصيك بما تفعله فلما حضر عنده منعه وزاد في إقطاعه فصار إقطاعه حماة ومنبج والمعزة وكفر طاب وميافارقين وجبل جور بجميع أعمالها وكان تقي الدين قد سير في مقدمته مملوكه بوزابة فاتصل بقراقوش وكان منهم ما ذكرناه سنة إحدى وثمانين وخمسمائة‏.‏

وقد بلغني من خبير بأحوال صلاح الدين أنه إنما حمله على أخذ حلب من العادل وإعادة تقي الدين إلى الشام أن صلاح الدين لما مرض بحران على ما ذكرناه أرجف بمصر أنه قد مات فجرى من تقي الدين حركات من يريد أن يستبد بالملك فلما عوفي صلاح الدين بلغه ذلك فأرسل الفقيه عيس الهكاري وكان كبير القدر عنده مطاعًا في الجند إلى مصر وأمره بإخراج تقي الدين والمقام بمصر فسار مجدًا فلم يشعر تقي الدين إلا وقد دخل الفقيه عيس إلى داره بالقاهرة وأرسل إليه يأمره بالخروج منا فطلب أن يمهل إلى أن يتجهز فلم يفعلن وقال‏:‏ تقيم خارج المدينة وتتجهز‏.‏

فخرج وأظهر أنه يريد الدخول إلى الغرب فقال له‏:‏ اذهب حيث شئت فلما سمع صلاح الدين الخبر أرسل إليه يطلبه فسار إلى الشام فأحسن إليه ولم يظهر له وأما أخذ حلب من العادل فإن السبب فيه أنه كان من جملة جندها أمير كبير اسمه سليمان بن جندر بينه وبين صلاح الدين صحبة قدية قبل الملك وكان صلاح الدين يعتمد عليه وكان عاقلًا ذا مكر ودهاء فاتفق أن الملك العادل لما كان بحلب مل يفعل معه ما كان يظنه وقدم غيره عليه فتأثر بذلك‏.‏

فلما مرض صلاح الدين وعوفي سار إلى الشام فسايره يومًا سليمان ابن جندر فجرى حديث مرضه فقال له سليمان‏:‏ بأي رأي كنت تظن أنك تمضي إلى الصيد فلا يخالفونك بالله ما تستحي يكون الطائر أهدى منك إلى المصلحة قال‏:‏ وكيف ذلك وهو بضحك قال‏:‏ إذا أراد الطائر أن يعمل عشًا لفراخه قصد أعالي الشجر ليحمي فراخه وأنت سلمت الحصون إلى أهلك وجعلت أولادك على الأرض‏.‏

هذه حلب بيد أخيك وحماه بيد تقي الدين وحصن بيد ابن شيركوه وابنك العزيز مع تقي الدين بمصر يخرجه أي وقت أراد وهذا ابنك الآخر مع أخيك في خيمه يفعل به ما أراد‏.‏

فقال له‏:‏ صدقت واكتم هذا الأمر ثم أخذ حلب من أخيه وأخرج تقي الدين من مصر ثم أعطى أخاه العادل حران والرها وميافارقين ليخرجه من الشام ومصر لتبقى لأولاده فلم ينفعه ما فعل لما أراد الله تعالى نقل الملك عن أولاده على ما نذكر‏.‏

في هذه السنة في أولها توفي البهلوان محمد بن إيلدكز صاحب بلد الجبل والري وأصفهان وأذربيجان وأرانية وغيرها من البلاد وكان عادلًا حسن السيرة عاقلًا حليمًا ذا سياسة حسنة للملك وكانت تلك البلاد في أيامه آمنة والرعايا مطمئنة فلما مات جرى بأصفهان بين الشافعية والحنفية من الحروب والقتل والإحراق والنهب ما يجل عن الوصف وكان قاضي البلد رأس الحنفية وابن الخجندي رأس الشافعية وكان بمدينة الري أيضًا فتنة عظيمة بني السنة والشيعة وتفرق أهلها وقتل منهم وخربت المدينة وغيرها من البلاد‏.‏

ولما مات البهلوان ملك أخوه قزل أرسلان واسمه عثمان وكان السلطان طغرل بن أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه مع البهلوان والخطبة له في البلاد بالسلطنة وليس له من الأمر شيء وإنما البلاد والأمراء والأموال بحكم البهلوان فلما مات البهلوان خرج طغرل عن حكم قزل ولحق به جماعة من الأمراء والجند فاستولى على بعض البلاد وجرت بينه وبين قزل حروب نذكرها إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر اختلاف الفرنج بالشام وإنحياز القمص صاحب طرابلس إلى صلاح

كان القمص صاحب طرابلس واسمه ريمند بن ريمند الصنجيلي قد تزوج بالقومصة صاحبة طبرية وانتقل إليها وأقام عندها بطبرية ومات ملك الفرنج بالشام وكان مجذومًا وأوصى بالملك إلى ابن أخت له وكان صغيرًا فكفه القمص وقام بسياسة الملك وتدبيره لأنه لم يكن للفرنج ذلك الوقت أكبر من شأنًا ولا أشجع ولا أجود رأيًا منه فطمع في الملك بسبب هذا الصغير فاتفق أن الصغير توفي فانتقل الملك إلى أمه فبطل ما كان القمص يحدث نفسه به‏.‏

ثم إن هذه الملكة هويت رجلًا من الفرنج الذين قدموا الشام من الغرب اسمه كي فتزوجته ونقلت الملك إليه وجعلت التاج على رأسه وأحضرت البطريك والقسوس والرهبان والإسبتارية والدواية والبارونية وأعلمتهم أنها قد ردت الملك إليه وأشهدتهم عليها بذلك فأطاعوه ودانوا له فعظم ذلك على القمص وسقط في يديه طولب بحساب ما جبى من الأموال مدة ولاية ذلك الصبي فأدعى أنه أنفقه عليه وزاده ذلك نفورًا وجاهر بالمشاقة والمباينة وراسل صلاح الدين وانتمى إليه واعتضد به وطلب منه المساعدة على بلوغ غرضه من الفرنج ففرح صلاح الدين والمسلمون بذلك ووعده النصرة والسعي له في كل ما يريده وضمن له أنه يجعله ملكًا مستقلًا للفرنج قاطبة وكان عنده جماعة من فرسان القمص أسرى فأطلقهم فحل ذلك عنده أعظم محل وأظهر طاعة صلاح الدين ووافقه على ما فعل جماعة من الفرنج فاختلفت كلمتهم وتفرق شملهم وكان ذلك من أعظم الأسباب الموجبة لفتح بلادهم واستنفاذ البيت المقدس منهم على ما نذكره إن شاء الله‏.‏

وسير صلاح الدين السرايا من ناحية طبرية فشنت الغارات على بلاد الفرنج وخرجت سالمة غانمة فوهن الفرنج بذلك وضعفوا وتجرأ المسلمون عليهم وطمعوا فيهم‏.‏

ذكر غدر البرنس أرناط

كان البرنس أرناط صاحب الكرك من أعظم الفرنج وأخبثهم وأشدهم عداوة للمسلمين وأعظمهم ضررًا عليهم فلما رأى صلاح الدين ذلك منه قصد بالحصر مرة بعد مرة وبالغارة على بلاده كرة بعد أخرى فذل وخضع وطلب الصلح من صلاح الدين فأجابه إلى ذلك وهادنه وتحالفا وترددت القوافل من الشام إلى مصر ومن مصر إلى الشام‏.‏

فلا كان هذه السنة اجتاز به قافلة عظيمة غزيرة الأموال كثيرة الرجال ومعها جماعة صالحة من الأجناد فغدر اللعين بهم وأخذهم عن آخرهم وغنم أموالهم ودوابهم وسلاحهم وأودع السجون من أسره منهم فأرسل إليه صلاح الدين يلومه ويقبح فعله وغدره ويتهدده إن لم يطلب الأسى والأموال فلم يجب إلى ذلك وأصر على الامتناع فنذر صلاح الدين نذرًا أن

ذكر عدة حوادث

كان المنجون قديمًا وحديثًا قد حكموا أن هذه السنة التاسع والعشرين من جمادى الآخرة تجتمع الكواكب الخمسة في برج الميزان ويحدث باقترانها رياح شديدة وتراب يهلك العباد ويخرب البلاد فلما دخلت هذه السنة لم يكن لذلك صحة ولم يهب من الرياح شيء البتة حتى إن غلال الحنطة والشعير تأخر نجازها لعدم الهواء الذي يذري به الفلاحون فأكذب الله أحدوثة المنجمين وأخزاهم‏.‏

وفيها توفي عبد الله بن بري بن عبد الجبار بن بري النحوي المصري وكان إمامًا في النحو رحمه الله تعالى‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة

اتفق أول هذه السنة يوم السبت وهو يوم النوروز السلطاني ورابع عشر آذار سنة ألف وأربع مائة وثمان وتسعين إسكندرية وكان القمر والشمس في الحمل واتفق أول سنة العرب وأول سنة الفرس التي جددوها أخيرًا وأول سنة الروم والشمس والقمر في أول البروج وهذا يبعد وقوع مثله‏.‏

في هذه السنة كتب صلاح الدين إلى جميع البلاد يستنفر الناس للجهاد وكتب إلى الموصل وديار الجزيرة وإربل وغيرها من بلاد الشرق وإلى مصر وسائر بلاد الشام يدعوهم إلى الجهاد ويحثهم عليه ويأمرهم بالتجهز له بغاية الإمكان‏.‏

ثم خرج من دمشق أواخر المحرم في عسكرها الخاص فسار إلى رأس الماء وتلاحقت به العساكر الشامية فلما اجتمعوا جعل عليهم ولده الملك الأفضل عليًا ليجتمع إليه من يرد إليه منها وسار هو إلى بصرى جريدة‏.‏

وكان سبب مسيره وقصده إليها أنه أتته الأخبار أن البرنس أرناط صاحب الكرك يريد أن يقصد الحجاج ليأخذهم من طريقهم وأظهر أنه إذا فرغ من أخذ الحجاج يرجع إلى طريق العسكر المصري يصدهم عن الوصول إلى صلاح الدين فسار إلى بصرى ليمنع البرنس أرناط من طلب الحجاج ويلزم بلده خوفًا عليه‏.‏

وكان من الحجاج جماعة من أقاربه منهم محمد بن لاجين وهو ابن أخت صلاح الدين وغيره فلما سمع أرناط بقرب صلاح الدين من بلده لم يفارقه وانقطع عما طمع فيه فوصل الحجاج سالمين فلما وصلوا وفرغ سره من جهتهم سار إلى الكرك فحصره وضيق عليه الكرك والشوبك وغيرهما فنهبوا وخربوا وأحرقوا والبرنس محصور لا يقدر على المنع عن بلده وسائر الفرنج قد لزموا طرف بلادهم خوفًا من العسكر الذي مع ولده الأفضل فتمكن من الحصر والنهب

ذكر الغارة على بلد عكا

أرسل صلاح الدين إلى ولده الأفضل يأمره أن يرسل قطعة صالحة من الجيش إلى بلد عكا ينهبونه ويخربونه فسير مظفر الدين كوكبري بن زين وهو صاحب حران والرها وأضاف إليه قايماز النجمي ودلدرم اليارقي وهما من أكابر الأمراء وغيرهما فساروا ليلًا وصبحوا صفورية أواخر صفر فخرج إليهم الفرنج في جمع من الدواية والاسبتارية وغيرهما فالتقوا هناك وجرت بينهم حرب تشيب لها المفارق السود‏.‏

ثم أنزل الله تعالى نصره على المسلمين فانهزم الفرنج وقتل منهم جماعة وأسر الباقون وفيمن قتل مقدم الاسبتارية وكان من فرسان الفرنج المشهورين وله النكايات العظيمة في المسلمين ونهب المسلمون ما جاورهم من البلاد وغنموا وسبوا وعادوا سالمين وكان عودهم على طبرية وبها القمص فلم ينكر ذلك فكان فتحًا كثيرًا فإن الداوية والاسبتارية هم جمرة الفرنج وسيرت البشائر إلى البلاد بذلك‏.‏

ذكر عود صلاح الدين إلى عسكره ودخوله إلى الفرنج

لما أتت صلاح الدين البشارة بهزيمة الاسبتارية والدواية وقتل من قتل منهم وأسر من أسر عاد عن الكرك إلى العسكر الذي مع ولده الملك الأفضل وقد تلاحقت سائر الأمداد والعساكر واجتمع بهم وساروا جميعًا وعرض العسكر فبلغت عدتهم اثني عشر ألف فارس ممن له الأقطاع والجامكية وسوى المتطوعة فعبا عسكره قلبًا وجناحين وميمنة وميسرة وجالشية وساقة وعرف كل منهم موضعه وموقفه وأمره بملازمته وسار على تعبئة فنزل بالأقحوانة بقرب طبرية وكان القمص قد انتمى إلى صلاح الدين كما ذكرنا وكبه متصلة إليه يعده النصرة ويمنيه المعاضدة وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا‏.‏

فلما رأى الفرنج اجتماع العساكر الإسلامية وتصميم العزم على قصد بلادهم أرسلوا إلى القمص البطرك والقوس والرهبان وكثيرًا من الفرسان فأنكروا عليه انتماءه إلى صلاح الدين و قالوا له‏:‏ لا شك أنك أسلمت و إلا لم تصبر على ما فعل المسلمون أمس بالفرنج يقتلون الداوية والاسبتارية ويأسرونهم ويجتازون بهم عليك وأنت لا تنكر ذلك ولا تمنع عنه ووافقهم على ذلك من عنده من عسكر طبرية وطرابلس وتهدده البطرك أنه يحرمه ويفسخ نكاح زوجته إلى غير ذلك من التهديد فلما رأى القمص شدة الأمر عليه خاف فاعتذر وتنصل وتاب فقبلوا عذره وغفروا زلته وطلبوا منه الموافقة على المسلمين والمؤازرة على حفظ بلادهم فأجابهم إلى المصالحة والانضمام إليهم والاجتماع معهم وسار معهم إلى ملك الفرنج واجتمعت كلمتهم بعد فرقتهم ولم تغن عنهم من الله شيئًا وجمعوا فارسهم وراجلهم ثم ساروا من عكا إلى صفورية وهم يقدمون رجلًا ويؤخرون أخرى قد ملئت قلوبهم رعبًا‏.‏

ذكر فتح صلاح الدين طبرية لما اجتمع الفرنج وساروا إلى صفورية جمع صلاح الدين أمراءه ووزراءه واستشارهم فأشار أكثرهم عليه بترك اللقاء وأن يضعف الفرنج بشن الغارات وإخراب الولايات ومرة بعد مرة فقال له بعض أمرائه‏:‏ الرأي عندي أننا نجوس بلادهم وننهب ونخرب ونحرق ونسبي فإن وقف أحد من عسكر الفرنج بن أيدينا لقيناه فإن الناس بالمشرق يلعنوننا ويقولون ترك قتال الكفار وأقبل يريد قتال المسلمين والرأي أن نفعل فعلًا نعذر فيه ونكف الألسنة عنا فقال صلاح الدين‏:‏ الرأي عندي أن نلقي بجمع المسلمين جمع الكفار فإن الأمور لا تجري بحكم الإنسان ولا نعلم قدر الباقي من أعمارنا ولا ينبغي أن نفرق هذا الجمع إلا بعد الجد بالجهاد‏.‏

ثم رحل من الأقحوانة اليوم الخامس من نزوله بها وهو يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر فسار حتى خلف طبرية وراء ظهره وصعد جبلها وتقدم حتى قارب الفرنج فلم ير الفرنج من يمنعهم من القتال ونزل جريدة إلى طبرية وقاتلهم ونقب بعض أبراجها وأخذ المدينة عنوة في ليلة ولجأ من بها إلى القلعة التي لها فامتنعوا بها وفيها صاحبتها ومعها أولادها فنهب المدينة وأحرقها‏.‏

فلما سمع الفرنج نزول صلاح الدين إلى طبرية وملكه المدينة وأخذ ما فيها وإحراقها وإحراق ما تخلف مما لا يحمل اجتمعوا للمشورة فأشار بعضهم بالتقدم إلى المسلمين وقتالهم ومنعهم عن طبرية فقال القمص‏:‏ إن طبرية لي ولزوجتي وقد فعل صلاح الدين بالمدينة ما فعل وبقي القلعة وفيها زوجتي وقد رضيت أن يأخذ القلعة وزوجتي وما لنا بها ويعود فوالله لقد رأيت عساكر الإسلام قديمًا وحديثًا ما رأيت مثل هذا العسكر الذي مع صلاح الدين كثرة وقوة وإذا أخذ طبرية لا يمكنه المقام بها فمتى فارقها وعاد عنها أخذناها وإن أقام بها لا يقدر على المقام بها إلا بجميع عساكره ولا يقدرون على الصبر طول الزمان عن أوطانهم وأهليهم فيضطر إلى تركها ونفتك من أسر منا‏.‏

فقال له برنس أرناط صاحب الكرك‏:‏ قد أطلت في التخويف من المسلمين ولا شك أنك تريدهم وتميل إليهم وإلا ما كنت تقول هذا وأما قولك‏:‏ إنهم كثيرون فإن النار لا يضرها كثرة الحطب‏.‏

فقوي عزمهم على التقدم إلى المسلمين وقتالهم فرحلوا من معسكرهم الذي لزموه وقربوا من عساكر الإسلام فلما سمع صلاح الدين بذلك عاد عن طبرية إلى عسكره وكان قريبًا منه وإنما كان قصده بمحاصرة طبرية أن يفارق الفرنج مكانهم لتمكن من قتالهم‏.‏

وكان المسلمون قد نزلوا على الماء والزمان قيظ شديد الحر فوجد الفرنج العطش ولم يتمكنوا من الوصول إلى ذلك الماء من المسلمين وكانوا قد أفنوا ما هناك من ماء الصهاريج ولم يتمكنوا من الرجوع خوفًا من المسلمين فبقوا على حالهم إلى الغد وهو يوم السبت وقد أخذ العطش منهم‏.‏

وأما المسلمون فإنهم طمعوا فيهم وكانوا من قبل يخافونهم فباتوا يحرض بعضهم بعضًا وقد وجدوا ريح النصر والظفر وكلما رأوا حال الفرنج خلاف عادتهم مما ركبهم من الخذلان زاد طمعهم وجرأتهم فأكثروا التكبير والتهليل طول ليلتهم ورتب السلطان تلك الليلة الجاليشية وفرق فيهم النشاب‏.‏