المجلد العاشر - ذكر وقعة الفرنج واليزك وعود صلاح الدين إلى منازلة الفرنج

قد ذكرنا رحيل صلاح الدين عن عكا إلى الخروبة لمرضه فما برأ أقام بمكانه إلى أن ذهب الشتاء وفي مدة مقامه بالخروبة كان يزكه وطلائعه لا تنقطع عن الفرنج‏.‏

فلما دخل صفر من سنة ست وثمانين وخمسمائة سمع الفرنج أن صلاح الدين قد سار للصيد ورأى العسكر الذي ي اليزك عندهم قليلًا وأن الوحل الذي في مرج عكا كثير يمنع من سلوكه من أراد أن ينجد اليزك فاغتنموا ذلك وخرجوا من خندقهم على اليزك وقت العصر فقاتلهم المسلمون وحموا أنفسهم بالنشاب وأحجم الفرنج عنهم وحتى فني نشابهم فحملوا عليهم حينئذ حملة رجل واحد فاشتد القتال وعظم الأمر وعلم المسلمون أنه لا ينجيهم إلا الصبر وصدق القتال فقاتلوا قتال مستقتل إلى أن جاء الليل وقتل من الفريقين جماعة كثيرة وعاد الفرنج إلى خندقهم‏.‏

ولما عاد صلاح الدين إلى المعسكر سمع خبر الوقعة فندب الناس إلى نصر إخوانهم فأتاه الخبر أن الفرنج عادوا إلى خندقهم فأقام ثم إنه رأى الشتاء قد ذهب وجاءته العساكر من البلاد القريبة منه دمشق وحمص وحماة وغيرها فتقدم من الخروبة نحو عكا فنزل بتل كيسان وقاتل الفرنج كل يوم ليشغلهم عن قتال من بعكا من المسلمين فكانوا يقاتلون الطائفين ولا يسأمون‏.‏

ذكر إحراق الأبراج ووقعة الأسطول

كان الفرنج في مدة مقامهم على عكا قد عملوا ثلاثة أبراج من الخشب عالية جدًا طول كل برج منها في السماء ستون ذراعًا وعملوا كل برج منها خمس طبقات كل طبقة مملوءة من المقاتلة وقد جمعوا أخشابها من الجزائر فإن مثل هذه الأبراج العظيمة لا يصلح لها من الخشب إلا القليل النادر وغشوها بالجلود والخل والطين والأدوية التي تمنع النار من إحراقها وأصلحوا الطرق لها وقدموها نحو مدينة عكا من ثلاث جهات وزحفوا بها في العشرين من ربيع الأول فأشرفت على السور وقاتل من بها من عليه فانكشفوا وشرعوا في طم خندقها فأشرف البلد على أن يملك عنوة وقهرًا‏.‏

فأرسل أهله إلى صلاح الدين إنسانًا سبح في البحر فأعلمه ما هم فيه من الضيق وما قد أشرفوا عليه من أخذهم وقتلهم فركب هو وعساكره وتقدموا إلى الفرنج وقاتلوهم من جميع جهاتهم قتالًا عظيمًا دائمًا يشغلهم عن مكاثرة البلد فافترق الفرنج فرقتين‏:‏ فرقة تقاتل صلاح الدين وفرقة تقاتل أهل عكا إلا أن الأمر قد خف عمن بالبلد ودام القتال ثمانية أيام متتابعة آخرها الثامن والعشرون من الشهر وسئم الفريقان القتال وملوا منه لملازمته ليلًا ونهارًا والمسلمون قد تيقنوا استيلاء الفرنج على البلد لما رأوا من عجز من فيه عن دفع الأبراج فإنهم لم يتركوا حيلة إلا وعملوها فلم يفد ذلك ولم يغن عنهم شيئًا وتابعوا رمي النفط الطيار عليها فلم يؤثر فيها فأيقنوا بالبوار والهلاك فأتاهم الله بنصر من عنده وإذن في إحراق الأبراج‏.‏

وكان سبب ذلك أن إنسانًا من أهل دمشق كان مولعًا بجمع آلات النفاطين وتحصيل عقاقير تقوي عمل النار فكان من يعرفه يلومه على ذلك وينكره عليه وهو يقول‏:‏ هذه حالة لا أباشرها بنفسي إنما أشتهي معرفتها وكان بعكا لأمر يريده الله فلما رأى الأبراج قد نصبت على عكا شرع في عمل ما يعرفه من الأدوية المقوية للنار بحيث لا يمنعها شيء من الطين والخل وغيرهما فلما فرغ منها حضر عند الأمير قراقوش وهو متولي الأمور بعكا والحاكم فيها وقال له‏:‏ تأمر المنجنيقي أن يرمي في المنجنيق المحاذي لبرج من هذه الأبراج ما أعطيه حتى أحرقه‏.‏

وكان عند قراقوش من الغيظ والخوف على البلد ومن فيه ما يكاد يقتله فازداد غيظًا بقوله وحرد عليه فقال له‏:‏ قد بالغ أهل هذه الصناعة في الرمي بالنفط وغيره فلم يفلحوا فقال له من حضر‏:‏ لعل الله تعالى قد جعل الفرنج على يد هذا ولا يضرنا أن نوافقه على قوله فأجابه إلى ذلك وأمر المنجنيقي بامتثال أمره فرمى عدة قدور نفطًا وأدوية ليس فيها نار فكان الفرنج إذا رأوا القدر لا يحرق شيئًا يصيحون ويرقصون ويلعبون على سطح البرج حتى إذا علم أن الذي ألقاه قد تمكن من البرج ألقى قدرًا مملوءة وجعل فيها النار فاشتعل البرج وألقى قدرًا ثانية وثالثة فاضطرمت النار في نواحي البرج وأعجلت من في طبقاته الخمس عن الهرب والخلاص فاحترق هو ومن فيه وكان فيه من الزرديات والسلاح شيء كثير‏.‏

وكان طمع الفرنج بما رأوا أن القدور الأولى لا تعمل شيئًا يحملها على الطمأنينة وترك السعي في الخلاص حتى عجل الله لهم النار في الدنيا قبل الآخرة فلما احترق البرج الأول انتقل إلى الثاني وقد هرب من فيه لخوفهم فأحرقه وكذلك الثالث وكان يومًا مشهودًا لم ير الناس مثله والمسلمون ينظرون ويفرحون وقد أسفرت وجوههم بعد الكآبة فرحًا بالنصر وخلاص المسلمين من القتل لأنهم ليس فيهم أحد ألا وله في البلد إما نسيب وإما صديق‏.‏

وحمل ذلك الرجل إلى صلاح الدين فبذل له الأموال الجزيلة والإقطاع الكثير فلم يقبل منه الحبة الفرد وقال‏:‏ إنما عملته لله تعالى ولا أريد الجزاء إلا منه‏.‏

وسيرت الكتب إلى البلاد بالبشائر وأرسل يطلب العساكر الشرقية فأول من أتاه عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي وهو صاحب سنجار وديار الجزيرة ثم أتاه علاء الدين ولد عز

الدين مسعود بن مودود بن زنكي سيره أبوه مقدمًا على عسكره وهو صاحب الموصل ثم وصل زين الدين يوسف صاحب إربل وكان كل منهم إذا وصل يتقدم إلى الفرنج بعسكره وينضم إليه غيرهم ويقاتلونهم ثم ينزلون‏.‏

ووصل الأسطول من مصر فلما سمع الفرنج بقربه منهم جهزوا إلى طريقه أسطولًا ليلقاه ويقاتله فركب صلاح الدين في العساكر جميعها وقاتلهم من جهاتهم ليشتغلوا بقتاله عن قتال الأسطول ليتمكن من دخول عكا فلم يشتغلوا عن قصده بشيء فكان القتال بين الفريقين برًا وبحرًا وكان يومًا مشهودًا لم يؤرخ مثله وأخذ المسلمون من الفرنج مركبًا بما فيه من الرجال والسلاح وأخذ الفرنج من المسلمين مثل ذلك إلا أن القتل في الفرنج كان أكثر منه في المسلمين ووصل الأسطول الإسلامي سالمًا‏.‏

ذكر وصول ملك الألمان إلى الشام

في هذه السنة خرج ملك الألمان من بلاده وهم نوع من الفرنج من أكثرهم عددًا وأشدهم بأسًا وكان قد أزعجه ملك الإسلام البيت المقدس فجمع عساكره وأزاح علتهم وسار عن بلاده وطريقه على القسطنطينية فأرسل ملك الروم بها إلى صلاح الدين يعرفه الخبر ويعد أنه لا فلما وصل ملك الألمان إلى القسطنطينة عجز ملكها عن منعه من العبور لكثرة جموعه لكنه منع عنهم الميرة ولم يمكن أحدًا من رعيته من حمل ما يريدونه إليهم فضاقت بهم الأزواد والأقوات وساروا حتى عبروا خليج القسطنطينية وصاروا على أرض بلاد الإسلام وهي مملكة الملك قلج أرسلان ابن مسعود بن سليمان بن قتلمش بن سلجق‏.‏

فلما وصلوا إلى أوائلها ثار بهم التركمان الأوج فما زالوا يسايرونهم ويقتلون من انفرد ويسرقون ما قدروا عليه وكان الزمان شتاء والبرد يكون في تلك البلاد شديدًا والثلج متراكمًا فأهلكهم البرد والجوع والتركمان فقل عددهم‏.‏

فلما قاربوا مدينة قونية خرج إليهم الملك قطب الدين ملكشاه بن قلج أرسلان ليمنعهم فلم يكن له بهم قوة فعاد إلى قونية وبها أبوه قد حجر ولده المذكور عليه وتفرق أولاده في بلاده وتغلب كل واحد منهم على ناحية منها فلما عاد عنهم قطب الدين أسرعوا السير في أثره فنازلوا قونية وأرسلوا إلى قلج أرسلان هدية وقالوا له‏:‏ ما قصدنا بلادك ولا أردناها وإنما قصدنا البيت المقدس وطلبوا منه أن يأذن لرعيته في إخراج ما يحتاجون إليه من قوت وغيره فأذن في ذلك فأتاهم ما يريدون فشبعوا وتزودوا وساروا ثم طلبوا من قطب الدين أن يأمر رعيته بالكف عنهم وأن يسلم إليهم جماعة من أمرائه رهائن وكان يخافهم فسلم إليهم نيفًا وعشرين أميرًا كان يكرههم فساروا بهم معهم ولم يمتنع اللصوص وغيرهم من قصدهم والتعرض إليهم فقبض ملك الألمان على من منعه من الأمراء وقيدهم فمنهم من هلك في أسره ومنهم من فدى نفسه‏.‏

وسار ملك الألمان حتى أتى بلاد الأرمن وصاحبها لافون بن اصطفانة بن ليون فأمدهم بالأقوات والعلوفات وحكمهم في بلاده وأظهر الطاعة لهم ثم ساروا نحو أنطاكية وكان في طريقهم نهر فنزلوا عنده ودخل ملكهم إليه ليغتسل فغرق في مكان منه لا يبلغ الماء وسط الرجل وكفى الله شره‏.‏

وكان معه ولد له فصار ملكًا بعده وسار إلى أنطاكية فاختلف أصحابه عليه فأحب بعضهم العود إلى بلاده فتخلف عنه وبعضهم مال إلى تمليك أخ له فعاد أيضًا وسار فيمن صحت نيته له فعرضهم وكانوا نيفًا وأربعين ألفًا ووقع فيهم الوباء والموت فوصلوا إلى أنطاكية وكأنهم قد نبشوا من القبور فتبرم بهم صاحبها وحسن لهم المسير إلى الفرنج الذين على عكا فساروا على جبلة ولاذقية وغيرهما من البلاد التي ملكها المسلمون وخرج أهل حلب وغيرها إليهم وأخذوا منهم خلقًا كثيرًا ومات أكثر ممن أخذ فبلغوا طرابلس وأقاموا بها أيامًا فكثر فيهم الموت فلم يبق منهم إلا نحو ألف رجل فركبوا في البحر إلى الفرنج الذين على عكا ولما وصولا ورأوا ما نالهم في طريقهم وما هم فيه من الاختلاف عادوا إلى بلادهم فغرقت بهم المراكب ولم ينج منهم أحد‏.‏

وكان الملك قلج أرسلان يكاتب صلاح الدين بأخبارهم ويعده أنه يمنعهم من العبور في بلاده فلما عبروها وخلفوها أرسل يعتذر بالعجز عنهم لأن أولاده حكموا عليه وحجروا عليه وتفرقوا عنه وخرجوا عن طاعته‏.‏

وأما صلاح الدين عند وصول الخبر بعبور ملك الألمان فإنه استشار أصحابه فأشار كثير منهم عليه بالمسير إلى طريقهم ومحاربتهم قبل أن يتصلوا بمن على عكا فقال‏:‏ بل نقيم إلى أن يقربوا منا وحينئذ نفعل ذلك لئلا يستسلم من بعكا من عساكرنا لكنه سير بعض من عنده من العساكر منها عسكر حلب وجبلة ولاذقية وشيزر وغير ذلك إلى أعمال حلب ليكونوا في أطراف البلاد يحفظونها من عاديتهم وكان حال المسلمين كما قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إذ جاءكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالًا شديدًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب 10‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فكفى الله شرهم ورد كيدهم في نحرهم‏.‏

ومن شدة خوفهم أن بعض أمراء صلاح الدين كان له ببلد الموصل قرية وكان أخي رحمه الله يتولاها فحصل دخلها من حنطة وشعير وتبن فأرسل إليه في بيع الغلة فوصل كتابه يقول‏:‏ لا تبع الحبة الفرد واستكثر لنا من التبن ثم بعد ذلك وصل كتابه يقول‏:‏ تبيع الطعام فما بنا حاجة إليه ثم إن ذلك الأمير قدم الموصل فسألناه عن المنع من بيع الغلة ثم الإذن فيها بعد مدة يسيرة فقال‏:‏ لما وصلت الأخبار بوصول ملك الألمان أيقنا أننا ليس لنا بالشام مقام فكتبت بالمنع من بيع الغلة لتكون ذخيرة لنا إذا جئنا إليكم فلما أهلكهم الله تعالى وأغنى عنها كتبت ببيعها والانتفاع بثمنها‏.‏

ذكر وقعة للمسلمين والفرنج على عكا

و في هذه السنة في العشرين من جمادى الآخرة خرجت الفرنج فأرسلها وراجلها من وراء خنادقهم وتقدموا إلى المسلمين وهم كثير لا يحصى عددهم وقصدوا نحو عسكر مصر ومقدمهم الملك العادل أبو بكر بن أيوب وكان المصريون قد ركبوا واصطفوا للقاء الفرنج فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا فانحاز المصريون عنهم ودخل الفرنج خيامهم ونهبوا أموالهم فعطف المصريون عليهم فقاتلوهم من وسط خيامهم فأخرجوهم عنها وتوجهت طائفة من المصريين نحو خنادق الفرنج فقطعوا المدد عن أصحابهم الذين خرجوا وكانوا متصلين كالنمل فلما انقطعت أمدادهم ألقوا بأيديهم وأخذتهم السيوف من كل ناحية فلم ينج منهم إلا الشريد وقتل منهم مقتلة عظيمة يزيد عدد القتلى على عشرة آلاف قتيل‏.‏

وكانت عساكر الموصل قريبة من عسكر مصر وكان مقدمهم علاء الدين خرمشاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل فحملوا أيضًا على الفرنج وبالغوا في قتالهم ونالوا منهم نيلًا كثيرًا هذا جميعه ولم يباشر القتال أحد من الحلقة التي مع صلاح الدين ولا أحد من الميسرة وكان بها عماد الدين زنكي صاحب سنجار وعسكر إربل وغيرهم‏.‏

ولما جرى على الفرنج هذه الحادثة خمدت جمرتهم ولانت عريكتهم وأشار المسلمون على صلاح الدين بمباكرتهم القتال ومناجزتهم وهم على هذه الحال من الهلع والجزع فاتفق أنه وصله من الغد كتاب من حلب يخبر فيه بموت ملك الألمان وما أصاب أصحابه من الموت والقتل والأسر وما صار أمرهم إليه من القلة والذلة واشتغل المسلمون بهذه البشرى والفرح بها عن قتال من بإزائهم وظنوا أن الفرنج إذا بلغهم هذا الخبر ازدادوا وهنًا على وهنهم وخوفًا على خوفهم فلما كان بعد يومين أتت الفرنج أمداد في البحر مع كند كبير من الكنود البحرية يقال له الكند هري ابن أخي ملك إفرنسيس لأبيه وابن أخي ملك انكلتار لأمه ووصل معه من الأموال شيء كثير يفوق الإحصاء فوصل إلى الفرنج فجند الأجناد وبذل الأموال فعادت نفوسهم فقويت واطمأنت وأخبرهم أن الأمداد واصلة إليهم يتلو بعضها بعضًا فتماسكوا وحفظوا مكانهم ثم أظهروا أنهم يريدون الخروج إلى لقاء المسلمين وقتالهم فانتقل صلاح الدين من مكانه إلى الخروبة في السابع والعشرين من جمادى الآخرة ليتسع المجال وكانت المنزلة قد أنتنت بريح القتلى‏.‏

ثم إن الكند هري نصب منجنيقًا ودبابات وعرادات فخرج من بعكا من المسلمين فأخذوها وقتلوا عندها كثيرًا من الفرنج ثم إن الكند هري بعد أخذ مجانيقه أراد أن ينصب منجنيقًا فلم يتمكن من ذلك لأن المسلمين بعكا كانوا يمنعون من عمل ستائر يستتر بها من يرمي من المنجنيق فعمل تلًا من تراب بالبعد من البلد‏.‏

ثم إن الفرنج كانوا ينقلون التل إلى البلد بالتدريج ويستترون به ويقربونه إلى البلد فلما صار من البلد بحيث يصل من عنده حجر منجنيق نصبوا وراءه منجنيقين وصار التل سترة لهما وكانت الميرة قد قلت بعكا فأرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية يأمرهم بإنفاذ الأقوات واللحوم وغير ذلك في المراكب إلى عكا فتأخر إنفاذها فسير إلى نائبه بمدينة بيروت في ذلك فسير بطسة عظيمة مملوءة من كل ما يريدونه وأمر من بها فلبسوا ملبس الفرنج وتشبهوا بهم ورفعوا عليها الصلبان فلما وصلوا إلى عكا لم يشك الفرنج أنها لهم فلم يتعرضوا لها فلما حاذت ميناء عكا أدخلها من بها ففرح بها المسلمون وانتعشوا وقيت نفوسهم وتبلغوا بما فيها إلى أن أتتهم الميرة من الإسكندرية‏.‏

وخرجت ملكة من الفرنج من داخل البحر في نحو ألف مقاتل فأخذت بنواحي الإسكندرية وأخذ من معها ثم إن الفرنج وصلهم كتاب من بابا وهو كبيرهم الذي يصدرون عن أمره وقوله عندهم كقول النبيين لا يخالف والمحروم عندهم من حرمه والمقرب من قربه وهو صاحب رومية الكبرى يأمرهم بملازمة ما هم بصدده ويعلمهم أنه قد أرسل إلى جميع الفرنج يأمرهم بالمسير إلى نجدتهم برًا وبحرًا ويعلمهم بوصول الأمداد إليهم فازدادوا قوة وطمعًا‏.‏

ذكر خروج الفرنج من خنادقهم

لما تتابعت الأمداد إلى الفرنج وجند لهم الكند هري جمعًا كثيرًا بالأموال التي وصلت معه عزموا على الخروج من خنادقهم ومناجزة المسلمين فتركوا على عكا من يحصرها ويقاتل أهلها وخرجوا حادي عشر شوال في عدد كالرمل كثرة وكالنار جمرة فلما رأى صلاح الدين ذلك نقل أثقال المسلمين إلى قيمون وهو على ثلاثة فراسخ عن عكا وكان قد عاد إليه من فرق من عساكره لما هلك ملك الألمان ولقي الفرنج على تعبئة حسنة‏.‏

وكان أولاده الأفضل علي والظاهر غازي والظافر مما يلي القلب وأخوه العادل أبو بكر في الميمنة ومعه عساكر مصر ومن انضم إليهم وكان في الميسرة عماد الدين صاحب سنجار وتقي الدين صاحب حماة ومعز الدين سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمر مع جماعة من أمرائه واتفق أن صلاح الدين أخذه مغس كان يعتاده فنصب له خيمة صغيرة على تل مشرف على العسكر ونزل فيها ينظر إليهم فسار الفرنج شرقي نهر هناك حتى وصلوا إلى رأس النهر فشاهدوا عساكر الإسلام وكثرتها فارتاعوا لذلك ولقيهم الجالشية وأمطروا عليهم من السهام ما كاد يستر الشمس فلما رأوا ذلك تحولوا إلى غربي النهر ولزمهم الجالشية يقاتلونهم والفرنج قد تجمعوا ولزم بعضهم بعضًا وكان غرض الجالشية أن تحمل الفرنج عليهم فيلقاهم المسلمون ويلتحم القتال فيكون الفصل ويستريح الناس وكان الفرنج قد ندموا على مفارقة خنادقهم فلزموا مكانهم وباتوا ليلتهم تلك‏.‏

فلما كان الغد عادوا نحو عكا ليعتصموا بخندقهم والجالشية في أكتافهم يقاتلونهم تارة بالسيوف وتارة بالرماح وتارة بالسهام وكلما قتل من الفرنج قتيل أخذوه معهم لئلا يعلم المسلمون ما أصابهم فلولا ذلك الألم الذي حدث بصلاح الدين لكانت هي الفصيل وإنما لله أمر هو بالغه فلما بلغ الفرنج خندقهم ولم يكن لهم بعدها ظهور منه عاد المسلمون إلى خيامهم وقد قتلوا وفي الثالث والعشرين من شوال أيضًا كمن جماعة من المسلمين وتعرض للفرنج جماعة أخرى فخرج إليهم أربع مائة فارس فقاتلهم المسلمون شيئًا من قتال وتطاردوا لهم وتبعهم الفرنج حتى جازوا الكمين فخرجوا عليهم فلم يفلت منهم أحد‏.‏

واشتد الغلاء على الفرنج حتى بلغت غرارة الحنطة أكثر من مائة دينار صوري فصبروا على هذا وكان المسلمون يحملون إليهم الطعام من البلدان منهم الأمير أسامة مستحفظ بيروت كان يحمل الطعام وغيره ومنهم سيف الدين علي بن أحمد المعروف بالمشطوب كان يحمل من صيدا أيضًا إليهم وكذلك من عسقلان وغيرها ولولا ذلك لهلكوا جوعًا خصوصًا في الشتاء عند انقطاع مراكبهم عنهم لهياج البحر‏.‏

ذكر تسيير البدل إلى عكا والتفريط فيه حتى أخذت

لما هجم الشتاء وعصفت الرياح خاف الفرنج على مراكبهم التي عندهم لأنها لم تكن في الميناء فسيروها إلى بلاد صور والجزائر فانفتح الطريق إلى عكا في البحر فأرسل أهلها إلى صلاح الدين يشكون الضجر والملل والسآمة وكان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين مقدمًا على جندها فأمر صلاح الدين بإقامة البدل وإنفاذه إليها وإخراج من فيها وأمر أخا الملك العادل بمباشرة ذلك فانتقل إلى جانب البحر ونزل تحت جبل حيفا وجمع المراكب والشواني وكلما جاءه جماعة من العسكر سيرهم إليها وأخرج عوضهم فدخل إليها عشرون أميرًا وكان بها ستون أميرًا فكان الذين دخلوا قليلًا بالنسبة إلى الذين خرجوا وأهمل نواب صلاح الدين تجنيد الرجال وإنفاذهم‏.‏

وكان على خزانة ماله قوم من النصارى وكانوا إذا جاءهم جماعة قد جندوا تعنتوهم بأنواع شتى تارة بإقامة معرفة وتارة بغير ذلك فتفرق بهذا السبب خلق كثير وانضاف إلى ذلك تواني صلاح الدين ووثوقه بنوابه وإهمال النواب فانحسر الشتاء والأمر كذلك وعادت مراكب الفرنج إلى عكا وانقطع الطريق إلا من سابح يأتي بكتاب‏.‏

وكان من جملة الأمراء الذين دخلوا إلى عكا سيف الدين علي بن أحمد المشطوب وعز الدين أرسل مقدم الأسدية بعد جاولي وابن جاولي وغيرهم وكان دخولهم عكا أول سنة سبع وثمانين وكان قد أشار جماعة على صلاح الدين بأن يرسل إلى من بعكا النفقات الواسعة والذخائر والأقوات الكثيرة ويأمرهم بالمقام فإنهم قد جربوا وتدربوا واطمأنت نفوسهم على ما هم فيه فلم يفعل وظن فيهم الضجر والملل وأن ذلك يحملهم على العجز والفشل فكان الأمر بالضد‏.‏

كان زين الدين يوسف بن زين الدين علي صاحب إربل قد حضر عند صلاح الدين بعساكره فمرض ومات ثامن عشر شهر رمضان وذكر العماد الكاتب في كتابه البرق الشامي قال‏:‏ جئنا إلى مظفر الدين نعزيه بأخيه وظننًا به الحزن وليس له أخ غيره ولا ولد يشغله عنه فإذا هو في شغل شاغل عن العزاء مهتم بالاحتياط على ما خلفه وهو جالس في خيام أخيه المتوفي وقد قبض على جماعة من أمرائه واعتقلهم وعجل عليهم وما أغفلهم منهم بلداجي صاحب قلعة خفتيذكان وأرسل إلى صلاح الدين يطلب منه إربل لنزل عن حران والرها فأقطعه إياها وأضاف إليها شهرزور وأعمالها ودربند قرابلي وبنيث قفجاق ولما مات زين الدين كاتب من كان بإربل مجاهد الدين قايماز لهواهم فيه وحسن سيرته فيهم وطلبوه إليهم لملكوه فلم يجسر هو ولا صاحبه عز الدين أتابك مسعود بن مودود على ذلك خوفًا من صلاح الدين‏.‏

وكان أعظم الأٍسباب في تركها أن عز الدين كان قد قبض على مجاهد الدين فتمكن زين الدين من إربل ثم إن عز الدين أخرج مجاهد الدين من القبض وولاه نيابته وقد ذكرنا ذلك أجمع‏.‏

فلما ولاه النيابة عنه لم يمكنه وجعل معه إنسانًا كان من بعض غلمان مجاهد الدين فكان يشاركه في الحكم ويحل عليه ما يعقده فلحق مجاهد الدين من ذلك غيظ شديد فلما طلب إلى إربل قال لمن يثق به‏:‏ لا أفعل لئلا يحكم فيها فلان ويكف يدي عنها فجاء مظفر الدين إليها وملكها وبقي غصة في حلق البيت الأتابكي لا يقدرون على إساغتها‏.‏

وسنذكر ما اعتمده معهم مرة بعد أخرى إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر ملك الفرنج مدينة شلب وعودها إلى المسلمين

في هذه السنة ملك ابن الرنك وهو من ملوك الفرنج غرب بلاد الأندلس مدينة شلب وهي من كبار مدن المسلمين بالأندلس واستولى عليها فوصل الخبر بذلك إلى الأمير أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن صاحب الغرب والأندلس فتجهز في العساكر الكثيرة وسار إلى الأندلس وعبر المجاز وسير طائفة كثيرة من عسكره في البحر ونازلها وحصرها وقاتل من بها قتالًا شديدًا حتى ذلوا وسألوا الأمان فأمنهم وسلموا البلد وعادوا إلى بلادهم‏.‏

وسير جيشًا من الموحدين ومعهم جمع من العرب إلى بلاد الفرنج ففتحوا أربع مدن كان الفرنج قد ملكوها قبل ذلك بأربعين سنة وفتكوا في الفرنج فخافهم ملك طليطلة من الفرنج وأرسل يطلب الصلح فصالحه خمس سنين وعاد أبو يوسف إلى مراكش وامتنع من هذه الهدنة طائفة من الفرنج لم يرضوها ولا أمكنهم إظهار الخلاف فبقوا متوقفين حتى دخلت سنة تسعين وخمسمائة فتحركوا‏.‏ وسنذكر خبرهم هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر الحرب بين غياث الدين وسلطان شاه بخراسان


كان سلطان شاه أخو خوارزم شاه قد تعرض إلى بلاد غياث الدين ومعز الدين ملكي الغورية من خراسان فتجهز غياث الدين وخرج من فيروزكوه إلى خراسان سنة خمس وثمانين وخمسمائة فبقي يتردد بين بلاد الطالقان وبنجده ومرو وغيرها يريد حرب سلطان شاه فلم يزل كذلك إلى أن دخلت سنة ست وثمانين فجمع سلطان شاه عساكره وقصد غياث الدين فتصافًا واقتتلا فانهزم سلطان شاه وأخذ غياث الدين بعض بلاده وعاد إلى غزنة‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في ربيع الأول تسلم الخليفة الناصر لدين الله حديثة عانة وكان سير إليها جيشًا حصروها سنة خمس وثمانين فقاتلوا عليها قتالًا شديدًا ودام الحصار وقتل من الفريقين خلق كثير فلما ضاقت عليهم الأقوات سلموها على أقطاع عينوها ووصل صاحبها وأهلها إلى بغداد وأعطوا أقطاعًا ثم تفرقوا في البلاد واشتدت الحاجة بهم حتى رأيت بعضهم وإنه ليتعرض و في هذه السنة توفي مسعود بن النادر الصفار ببغداد وكان مكثرًا من الحديث حسن الخط خيرًا ثقة‏.‏

وفيها توفي أبو حامد محمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري بالموصل وكان قاضيها وقبلها ولي قضاء حلب وجميع الأعمال بها وكان رئيسًا جوادًا ذا مروءة عظيمة يرجع إلى دين وأخلاق جميلة‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة

ذكر حصر عز الدين صاحب الموصل الجزيرة

في هذه السنة في ربيع الأول سار أتابك عز الدين مسعود بن مودود ابن زنكي صاحب الموصل إلى جزيرة ابن عمر فحصرها وكان بها صاحبها سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود وهو ابن أخي عز الدين‏.‏

وكان سبب حصره أن سنجر شاه كان كثير الأذى لعمه عز الدين والشناعة عليه والمراسلة إلى صلاح الدين في حقه تارة يقول إنه يريد قصد بلادك وتارة يقول إنه يكاتب أعداءك ويحثهم على قصدك إلى غير ذلك من الأمور المؤذية وعز الدين يصبر منه على ما يكره لأمور تارة للرحم وتارة خوفًا من تسليمها إلى صلاح الدين فلما كان في السنة الماضية سار صاحبها إلى صلاح الدين وهو على عكا في جملة من سار من أصحابه الأطراف وأقام عنده قليلًا وطلب دستورًا للعود إلى بلده فقال له صلاح الدين‏:‏ عندنا من أصحاب الأطراف جماع منهم عماد الدين صاحب سنجار وغيرها وهو أكبر منك ومنهم ابن عمك عز الدين وهو أصغر منك وغيرهم ومتى فتحت هذا الباب اقتدى بك غيرك فلم يلتفت إلى قوله وأصر على ذلك‏.‏

وكان عند صلاح الدين جماعة من أهل الجزيرة يستغيثون على سنجر شاه لأنه ظلمهم وأخذ أموالهم وأملاكهم فكان يخافه لهذا‏.‏

ولم يزل في طلب الإذن في العود إلى ليلة الفطر من سنة ست وثمانين فركب تلك الليلة في السحر وجاء إلى خيمة صلاح الدين أرسل يطلب الإذن عليه وكان صلاح الدين قد بات محمومًا وقد عرق فلم يمكن أن يأذن له فبقي كذلك مترددًا على باب خيمته إلى أن أذن له فلما دخل عليه هنأه بالعيد وأكب عليه يودعه فقال له‏:‏ ما علمنا بصحة عزمك على الحركة فتصبر علينا حتى نرسل ما جرت به العادة فما يجوز أن تنصرف عنا بعد مقامك عندنا على هذا الوجه‏.‏ فلم يرجع وودعه وانصرف‏.‏

وكان تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين قد أقبل من بلده حماة في عسكره فكتب إليه صلاح الدين يأمره بإعادة سنجر شاه طوعًا أو كرهًا فحكى له عن تقي الدين أنه قال‏:‏ ما رأيت مثل سنجر شاه لقيته بعقبة فيق فسألته عن سبب انصرافه فغالطني فقلت له‏:‏ سمعت بالحال ولا يليق أن تنصرف بغير تشريف السلطان وهديته فيضع تعبك وسألته العود فلم يصغ إلى قولي فكلمني كأنني بعض مماليكه فلما رأيت ذلك منه قلت له‏:‏ إن رجعت بالتي هي أحسن وإلا أعدتك كارهًا فنزل عن دابته وأخذ ذيلي وقال‏:‏ قد استجرت بك وجعل يبكي فعجبت من حماقته أولًا وذلته ثانيًا فعاد معي‏.‏

فلما عاد بقي عند صلاح الدين عدة أيام وكتب صلاح الدين إلى عز الدين أتابك يأمره بقصد الجزيرة ومحاصرتها وأخذها وأنه يرسل إلى طريق سنجر شاه ليقبض عليه إذا عاد فخاف عز الدين أن صلاح الدين قد فعل ذلك مكيدة ليشنع عليه بنكث العهد فلم يفعل شيئًا من ذلك بل أرسل إليه يقول‏:‏ أريد خطك بذلك ومنشورًا منك بالجزيرة فترددت الرسل في ذلك إلى أن انقضت سنة ست وثمانين ودخلت هذه السنة فاستقرت القاعدة بينهما فسار عز الدين إلى الجزيرة فحصرها أربعة أشهر وأيامًا آخرها شعبان ولم يملكها بل استقرت القاعدة بينه وبين سنجر شاه على يد رسول صلاح الدين فإنه كان قد أرسله بعد قصدها يقول‏:‏ إن صاحب سنجار وصاحب إربل وغيرهما قد شفعا في سنجر شاه فاستقر الصلح على أن لعز الدين وعاد عز الدين في شعبان إلى الموصل وكان صلاح الدين بعد ذلك يقول‏:‏ ما قيل لي عن أحد شيء من الشر فرأيته إلا كان دون ما يقال فيه إلا سنجر شاه فإنه كان يقال لي عنه شيئًا استعظمتها فلما رأيته صغر في عيني ما قيل فيه‏.‏

ذكر عبور تقي الدين الفرات وملكه حران

وغيرها من البلاد الجزرية ومسيره إلى خلاط ومؤتة في هذه السنة في صفر سار تقي الدين من الشام إلى البلاد الجزرية‏:‏ حران والرها كان قد أقطعه إياها عمه صلاح الدين بعد أخذها من مظفر الدين مضافًا إلى ما كان له بالشام وقرر معه أنه يقطع البلاد للجند ويعود وهم معه إليه ليتقوى بهم على الفرنج فلما عبر الفرات وأصلح حال البلاد سار إلى ميافارقين وكانت له فلما بلغها تجدد له طمع في غيرها من البلاد المجاورة لها فقصد مدينة حاني من ديار بكر فحصرها وملكها وكان في سبع مائة فارس فلما سمع سيف الدين بكتمر صاحب خلاط بملكه حاني جمع عساكره وسار إليه فاجتمعت عساكره أربعة آلاف فارس فلما التقوا اقتتلوا فلم يثبت عسكر خلاط لتقي الدين بل انهزموا وتبعهم تقي الدين ودخل بلادهم‏.‏

وكان بكتمر قد قبض على مجد الدين بن رشيق وزير صاحبه شاه أرمن وسجنه في قلعة هناك فلما انهزم كتب إلى مستحفظ القلعة يأمره بقتل ابن رشيق فوصل القاصد وتقي الدين قد نازل القلعة فأخذ الكتاب وملك القلعة وأطلق ابن رشيق وسار إلى خلاط فحصرها ولم يكن في كثرة من العسكر فليم يبلغ منها غرضًا فعاد عنها وقصد ملازكرد وحصرها وضيق على من بها وطال مقامه عليها فلما ضاق عيهم الأمر طلبوا منه المهلة أيامًا ذكروها فأجابهم إليها‏.‏

ومرض تقي الدين فمات قبل انقضاء الأجل بيومين وتفرقت العساكر عنها وحمله ابنه وأصحابه ميتًا إلى ميافارقين وعاد بكتمر فقوي أمره وثبت ملكه بعد أن أشرف على الزوال وهذه الحادثة من الفرج بعد الشدة فإن ابن رشيق نجا من القتل وبكتمر نجا من أن يؤخذ‏.‏

ذكر وصول الفرنج من الغرب في البحر إلى عكا

و في هذه السنة وصلت أمداد الفرنج في البحر إلى الفرنج الذين على عكا وكان أول من وصل منهم الملك فليب ملك إفرنسيس وهو من أشرف ملوكهم نسبًا وإن كان ملكه ليس بالكثير وان وصوله إليها ثاني عشر ربيع الأول ولم يكن في الكثرة التي ظنوها وإنما كان معه ست بطس وكان صلاح الدين على شفرعم فكان يركب كل يوم ويقصد الفرنج ليشغلهم بالقتال عن مزاحفة البلد وأرسل إلى الأمير أسامة مستحفظ بيروت يأمره بتجهيز ما عنده من الشواني والمراكب وتشحينها بالمقاتلة وتسييرها في البحر ليمنع الفرنج من الخروج إلى عكا ففعل ذلك وسير الشواني في البحر فصادفت خمسة مراكب مملوءة رجالًا من أصحاب ملك انكلتار الفرنج كان قد سيرهم بين يديه وتأخر هو بجزيرة قبرس ليملكها فأقبلت شواني المسلمين مع مراكب الفرنج فاستظهر المسلمون عليهم وأخذوهم وغنموا ما معهم من قوت ومتاع ومال وأسروا الرجال‏.‏

وكتب أيضًا صلاح الدين إلى من بالقرب من النواب له يأمرهم بمثل ذلك ففعلوا‏.‏

وأما الفرنج الذين على عكا فإنهم لازموا قتال من بها ونصبوا عليها سبعة مجانيق رابع جمادى الأولى فلما رأى صلاح الدين ذلك تحول من شفرعم ونزل عليهم لئلا يتعب العسكر كل يوم في المجيء إليهم والعود عنهم فقرب منهم‏.‏

وكانوا كلما تحركوا للقتال ركب وقاتلهم من وراء خندقهم فكانوا يشتغلون بقتالهم فيخف القتال عمن بالبلد‏.‏

ثم وصل ملك انكلتار ثالث عشر جمادى الأولى‏.‏

وكان قد استولى في طريقه على جزيرة قبرس وأخذها من الروم فإنه لما وصل إليها غدر بصاحبها وملكها جميعًا فكان ذلك زيادة في ملكه وقوة للفرنج فلما فرغ منها سار عنها إلى من على عكا من الفرنج فوصل إليهم في خمس وعشرين قطعة كبارًا مملوءة رجالًا وأموالًا فعظم به شر الفرنج واشتدت نكايتهم في المسلمين‏.‏

وكان رجل زمانه شجاعة ومكرًا وجلدًا وصبرًا وبلي المسلمون منه بالداهية التي لا مثل لها‏.‏

ولما وردت الأخبار بوصوله أمر صلاح الدين بتجهيز بطسة كبيرة مملوءة من الرجال والعدة والقوت فجهزت وسيرت من بيروت وفيها سبع مائة مقاتل فلقيها ملك إنكلتار مصادفة فقاتلها وصبر من فيها على قتالها فلما أيسوا من الخلاص نزل مقدم من بها إلى أسفلها وهو يعقوب الحلبي مقدم الجندارية يعرف بغلام ابن شقين فخرقها خرقًا واسعًا لئلا يظفر الفرنج بمن فيها وما معهم من الذخائر فغرق جميع ما فيها‏.‏

وكانت عكا محتاجة إلى رجال لما ذكرناه من سبب نقصهم ثم إن الفرنج عملوا دبابات زحفوا بها فأحرق المسلمون بعضها وأخذوا بعضها ثم عملوا كباشًا وزحفوا بها فخرج المسلمون وقاتلوهم بظاهر البلد وأخذوا تلك الكباش فلما رأى الفرنج أن ذلك جميعه لا ينفعهم عملوا تلًا كبيرًا من التراب مستطيلًا وما زالوا يقربونه إلى البلد ويقاتلون من ورائه لا ينالهم من البلد أذى حتى صار على نصف علوه فكانوا يستظلون به ويقاتلون من خلفه فلم يكن للمسلمين فيه حيلة لا بالنار ولا بغيرها فحينئذ عظمت المصيبة على من بعكا من المسلمين فأرسلوا إلى

ذكر ملك الفرنج عكا

في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة استولى الفرنج لعنهم الله على مدينة عكا وكان أول وهن دخل على من بالبلد أن الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري المعروف بالمشطوب كان فيها ومعه عدة من الأمراء كان هو أمثلهم وأكبرهم خرج إلى ملك إفرنسيس وبذل له تسليم البلد بما فيه على أن يطلق المسلمين الذين فيه ويمكنهم من اللحاق بسلطانهم فلم يجبه إلى ذلك فعاد علي بن أحمد إلى البلد فوهن من فيه وضعفت نفوسهم وتخاذلوا وأهمتهم أنفسهم‏.‏

ثم إن أميرين ممن كان بعكا لما رأوا ما فعلوا بالمشطوب وأن الفرنج لم يجيبوا إلى الأمان اتخذوا الليل جملًا وركبوا في شيني صغير وخرجوا سرًا من أصحابهم ولحقوا بعسكر المسلمين وهم عز الدين أرسل الأسدي وابن عز الدين جاولي ومعهم غيرهم فلما أصبح الناس ورأوا ذلك ازدادوا وهنًا إلى وهنهم وضعفًا إلى ضعفهم وأيقنوا بالعطب‏.‏

ثم إن الفرنج أرسلوا إلى صلاح الدين في معنى تسليم البلد فأجابهم إلى ذلك والشرط بينهم أن يطلق من أسراهم بعدد من في البلد ليطلقوا هم من بعكا وأن يسلم إليهم صليب الصلبوت فلم يقنعوا بما بذل فأرسل إلى من بعكا من المسلمين يأمرهم أن يخرجوا من عكا يدًا واحدة ويسيروا مع البحر ويحملوا على العدو حملة واحدة ويتركوا البلد بما فيه ووعدهم أنه يتقدم إلى تلك الجهة التي يخرجون منها بعساكره يقاتل الفرنج فيها ليلحقوا به فشرعوا في ذلك واشتغل كل منهم باستصحاب ما يملكه فما فرغوا من أشغالهم حتى أسفر الصبح فبطل ما عزموا عليه لظهوره‏.‏

فلما أصبحوا عجز الناس عن حفظ البلد وزحف إليهم الفرنج بحدهم وحديدهم فظهر من بالبلد على سوره يحركون أعلامهم ليراها المسلمون وكانت هي العلامة إذا حزبهم أمر فلما رأى المسلمون ذلك ضجوا بالبكاء والعويل وحملوا على الفرنج من جميع جهاتهم ظنًا منهم أن الفرنج يشتغلون عن الذين بعكا وصلا الدين يحرضهم وهو في أولهم‏.‏

وكان الفرنج قد زحفوا من خنادقهم ومالوا إلى جهة البلد فقرب المسلمون من خنادقهم حتى كادوا يدخلونها عليهم ويضعون السيف فيهم فوقع الصوت فعاد الفرنج ومنعوا المسلمين وتركوا في مقابلة من بالبلد من يقاتلهم‏.‏

فلما رأى المشطوب أن صلاح الدين لا يقدر على نفع ولا يدفع عنهم ضرًا خرج إلى الفرنج وقرر معهم تسليم البلد وخروج من فيه بأموالهم وأنفسهم وبذلك لهم عن ذلك مائتي ألف دينار وخمسمائة أسير من المعروفين وإعادة صليب الصلبوت وأربعة عشر ألف دينار للمركيس صاحب صور فأجابوه إلى ذلك وحلفوا له عليه وأن تكون مدة تحصيل المال والأسرى إلى شهرين‏.‏

فلما حلفوا له سلم البلد إليهم ودخلوه سلمًا فلما ملكوه غدروا واحتاطوا على من فيه من المسلمين وعلى أموالهم وحبسوهم وأظهروا أنهم يفعلون ذلك ليصل إليهم ما بذل لهم وراسلوا صلاح الدين في إرسال المال والأسرى والصليب حتى يطلقوا من عندهم فشرع في جمع المال وكان هو لا مال له إنما يخرج ما يصل إليه من دخل البلاد أولًا بأول‏.‏

فلما اجتمع عنده من المال مائة ألف دينار جمع الأمراء واستشارهم فأشاروا بأن لا يرسل شيئًا حتى يعود فيستحلفهم على إطلاق أصحابه وأن يضمن الداوية ذلك لأنهم أهل تدين يرون الوفاء‏.‏

فراسلهم صلاح الدين في ذلك فقال الداوية‏:‏ لا نحلف ولا نضمن لأننا نخاف غدر من عندنا وقال ملوكهم‏:‏ إذا سلمتم إلينا المال والأسرى والصليب فلنا الخيار فيمن عندنا فحينئذ علم صلا الدين عزمهم على الغدر فلم يرسل إليهم شيئًا وأعاد الرسالة إليهم وقال‏:‏ نحن نسلم إليكم هذا المال والأسرى والصليب ونعطيكم رهنًا على الباقي وتطلقون أصحابنا وتضمن الداوية الرهن ويحلفون على الوفاء لهم فقالوا‏:‏ لا نحلف إنما ترسل إلينا المائة ألف دينار التي حصلت والأسرى والصليب ونحن نطلق من أصحابكم من نريد ونترك من نريد حتى يجيء باقي المال فعلم الناس حينئذ غدرهم وإنما يطلقون غلمان العسكر والفقراء والأكراد ومن لا يؤبه له ويمسكون عندهم الأمراء وأرباب الأموال يطلبون منهم الفداء فلم يجبهم السلطان إلى ذلك‏.‏

فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرين من رجب ركب الفرنج وخرجوا إلى ظاهر البلد بالفارس والراجل وركب المسلمون إليهم وقصدوهم وحملوا عليهم فانكشفوا عن موقفهم وإذا أكثر من كان عندهم من المسلمين قتلى قد وضعوا فيهم السيف وقتلوهم واستبقوا الأمراء والمقدمين ومن كان له مال وقتلوا من سواهم من سوادهم وأصحابهم ومن لا مال له فلما رأى صلاح الدين ذلك تصرف في المال الذي كان جمعه ورد الأسرى والصليب إلى دمشق‏.‏

ذكر رحيل الفرنج إلى ناحية عسقلان

لما فرغ الفرنج لعنهم الله من إصلاح أمر عكا برزوا منها في الثامن والعشرين من رجب وساروا مستهل شعبان نحو حيفا مع شاطئ البحر لا يفارقونه فلما سمع صلاح الدين برحيلهم نادى في عسكره بالرحيل فساروا‏.‏

وكان على اليزك ذلك اليوم الملك الأفضل ولد صلاح الدين ومعه سيف الدين إيازكوش وعز الدين جورديك وعدة من شجعان الأمراء فضايقوا الفرنج في مسيرهم وأرسلوا عليهم من السهام ما كاد يحجب الشمس ووقعوا على ساقة الفرنج فقتلوا منها جماعة وأسروا جماعة‏.‏

وأرسل الأفضل إلى والده يستمده ويعرفه الحال فأمر العساكر بالمسير إليه فاعتذروا بأنهم ما ركبوا بأهبة الحرب وإنما كانوا على عزم المسير لا غير فبطل المدد وعاد ملك الإنكلتار إلى ساقة الفرنج فحماها وجمهم وساروا حتى أتوا حيفا فنزلوا بها ونزل المسلمون بقيمون قرية بالقرب منهم وأحضر الفرنج من عكا عوض من قتل منهم وأسر ذلك اليوم وعوض ما هلك من الخيل ثم ساروا إلى قيسارية والمسلمون يسايرونهم ويتخطفون منهم من قدروا عليه فيقتلونه لأن صلاح الدين كان قد أقسم أنه لا يظفر بأحد منهم إلا قتله بمن قتلوا ممن بعكا‏.‏

فلما قاربوا قيسارية لاصقهم المسلمون وقاتلوهم أشد قتال فنالوا منهم نيلًا كثيرًا ونزل الفرنج بها وبات المسلمون قريبًا منهم فلما نزلوا خرج من الفرنج جماعة فأبعدوا عن جماعتهم فأوقع بهم المسلمون الذين كانوا في اليزك فقتلوا منهم وأسروا ثم ساروا من قيسارية إلى أرسوف وكان المسلمون قد سبقوهم إليها ولم يمكنهم مسايرتهم لضيق الطريق فلما وصل الفرنج إليهم حمل المسلمون علهم حملة منكرة وألحقوهم بالبحر ودخله بعضهم فقتل منهم كثير‏.‏

فلما رأى الفرنج ذلك اجتمعوا وحملت الخيالة على المسلمين حملة رجل واحد فولوا منهزمين لا يلوي أحد على أحد‏.‏

وكان كثير من الخيالة والسوقة قد ألفوا القيام وقت الحرب قريبًا من المعركة فلما كان ذلك اليوم كانوا على حالهم فلما انهزم المسلمون عنهم قتل خلق كثير والتجأ المنهزمون إلى القلب وفيه صلاح الدين فلو علم الفرنج أنها هزيمة لتبعوهم واستمرت الهزيمة وهلك المسلمون لكن كان بالقرب من المسلمين شعرة كثيرة الشجر فدخلوها وظنها الفرنج مكيدة فعادوا وزال عنهم ما كانوا فيه من الضيق وقتل من الفرنج كند كبير من طواغيتهم وقتل من المسلمين مملوك لصلاح الدين اسمه أياز الطويل وهو من الموصوفين بالشجاعة والشهامة لم يكن في زمانه مثله‏.‏

فلما نزل الفرنج نزل المسلمون وأعنة خيلهم بأيديهم ثم سار الفرنج إلى يافا فنزلوها ولم يكن بها أحد من المسلمين فملكوها‏.‏

ولما كان من المسلمين بأرسوف من الهزيمة ما ذكرناه سار صلاح الدين عنهم إلى الرملة واجتمع بأثقاله بها وجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل فأشاروا عليه بتخريب عسقلان وقالوا له‏:‏ قد رأيت ما كان منا بالأمس وإذا جاء الفرنج إلى عسقلان ووقفنا في وجوههم نصدهم عنها فهم لا شك يقاتلوننا لننزاح عنها فينزلوا عليها فإذا كان ذلك عدنا إلى مثل ما كنا عليه على عكا ويعظم الأمر علينا لأن العدو قد قوي بأخذ عكا وما فيها من الأسلحة وغيرها وضعفنا نحن بما خرج عن أيدينا ولم تطل المدة حتى نستجد غيرها‏.‏

فلم تسمح نفسه بتخريبها وندب الناس إلى دخولها وحفظها فلم يجبه أحد إلى ذلك وقالوا‏:‏ إن أردت حفظها فادخل أنت معنا أو بعض أولادك الكبار وإلا فما يدخلها منا أحد لئلا يصيبنا ما أصاب أهل عكا فلما رأى الأمر كذلك سار إلى عسقلان وأمر بتخريبها فخربت تاسع عشر شعبان وألقيت حجارتها في البحر وهلك فيها من الأموال والذخائر التي للسلطان والرعية ما لا يمكن حصره وعفى أثرها حتى لا يبقى للفرنج في قصدها مطمع‏.‏

ولما سمع الفرنج بتخريبها أقاموا مكانهم ولم يسيروا إليها وكان المركيس لعنه الله لما أخذ الفرنج عكا قد أحس من ملك إنكلتار بالغدر به فهرب من عنده إلى مدينة صور وهي له وبيده وكان رجل الفرنج رأيًا شجاعة وكل هذه الحروب هو أثارها فلما خربت عسقلان أرسل إلى ملك إنكلتار يقول له‏:‏ مثلك لا ينبغي أن يكون ملكًا ويتقدم على الجيوش تسمع أن صلاح الدين قد خرب عسقلان وتقيم مكانك يا جاهل لما بلغك أنه قد شرع في تخريبها كنت سرت إليه مجدًا فرحلته وملكتها صفوًا بغير قتال ولا حصار فإنه ما خربها إلا وهو عاجز عن حفظها‏.‏

وحق المسيح لو أنني معك كانت عسقلان اليوم بأيدينا لم يخرب منها غير برج فلما خربت عسقلان رحل صلاح الدين عنها ثاني شهر رمضان ومضى إلى الرملة فخربت حصنها وخب كنيسة لد وفي مدة مقامه لتخريب عسقلان كانت العساكر مع الملك العادل أبي بكر بن أيوب نجاه الفرنج ثم سار صلا الدين إلى القدس بعد تخريب الرملة فاعتبره وما فيه من سلاح وذخائر وقرر قواعده وأسبابه وما يحتاج إليه وعاد إلى المخيم ثامن رمضان‏.‏

وفي هذه الأيام خرج ملك إنكلتار من يافا ومعه نفر من الفرنج من معسكرهم فوقع به نفر من المسلمين فقاتلوهم قتالًا شديدًا وكاد ملك إنكلتار يؤسر ففداه بعض أصحابه بنفسه فتخلص الملك وأسر ذلك الرجل‏.‏

وفيها أيضًا كانت وقعة بين طائفة من المسلمين وطائفة من الفرنج انتصر فيها المسلمون‏.‏

ذكر رحيل الفرنج إلى نطرون

لما رأى صلاح الدين أن الفرنج قد لزموا يافا ولم يفارقوها وشرعوا في عمارتها‏.‏

رحل من منزلته إلى النطرون ثالث عشر رمضان وخيم به فراسله ملك إنكلتار يطلب المهادنة فكانت الرسل تتردد إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب أخي صلاح الدين فاستقرت القاعدة أن ملك إنكلتار يزوج أخته من العادل أبي بكر بن أيوب أخي صلاح الدين فاستقرت القاعدة أن ملك إنكلتار يزوج أخته من العادل ويكون القدس وما بأيدي المسلمين من بلاد الساحل للعادل وتكون عكا وما بيد الفرنج من البلاد لأخت ملك إنكلتار مضافًا إلى مملكة كانت لها داخل البحر قد ورثتها من زوجها وأن يرضى الداوية بما يقع الاتفاق عليه فعرض العادل ذلك على صلاح الدين فأجاب إليه فلما ظهر الخبر اجتمع القسيسون والأساقفة والرهبان إلى أخت ملك إنكلتار وأنكروا عيها فامتنعت من الإجابة وقيل كان المانع منه غير ذلك والله أعلم‏.‏

وكان العادل وملك إنكلتار يجتمعان بعد ذلك ويتجاريان حديث الصلح وطلب من العادل أن يسمعه غناء المسلمين فأحضر له مغنية تضرب بالجنك فغنت له فاستحسن ذلك ولم يتم بينهما صلح وكان ملك إنكلتار يفعل ذلك خديعة ومكرًا‏.‏

ثم إن الفرنج أظهروا العزم على قصد البيت المقدس فسار صلاح الدين إلى الرملة جريدة وترك الأثقال بالنطرون وقرب من الفرنج وبقي عشرين يومًا ينتظرهم فلم يبرحوا فكن بين الطائفتين مدة المقام عدة وقعات في كلها ينتصر المسلمون على الفرنج وعاد صلاح الدين إلى النطرون ورحل الفرنج من يافا إلى الرملة ثالث ذي القعدة على عزم قصد البيت المقدس فقرب بعضهم من بعض فعظم الخطب واشتد الحذر فكان كل ساعة يقع الصوت في العسكرين بالنفير فلقوا من ذلك شدة شديدة وأقبل الشتاء وحالت الأوحال والأمطار بينهما‏.‏

لما رأى صلاح الدين أن الشتاء قد هجم والأمطار متوالية متتابعة والناس منها في ضنك وحرج ومن شدة البرد ولبس السلاح والسهر في تعب دائم وكان كثير من العساكر قد طال بيكارها فأذن لهم في العود إلى بلادهم للاستراحة والإراحة وسار هو إلى البيت المقدس فيمن بقي معه فنزلوا جميعًا داخل البلد فاستراحوا مما كانوا فيه ونزل هو بدار الأقسا مجاور بيعة قمامة وقدم إليه عسكر من مصر مقدمهم الأمير أبو الهيجاء السمين فقويت نفوس المسلمين بالقدس‏.‏

وسار الفرنج من الرملة إلى النطرون ثالث ذي الحجة على عزم قصد القدس فكانت بينهم وبين يزك المسلمين وقعات أسر المسلمون في وقعة منها نيفًا وخمسين فارسًا من مشهوري الفرنج وشجعانهم وكان صلاح الدين لما دخل القدس أمر بعمارة سوره وتجديد ما رث منه فأحكم الموضع الذي ملك البلد منه وأتقنه وأمر بحفر خندق خارج الفصيل وسلم كل برج إلى أمير يتولى عمله فعمل ولده الأفضل من ناحية باب عمود إلى باب الرحمة وأرسل أتابك عز الدين مسعود صاحب الموصل جماعة من الحصاصين ممن له في قطع الصخر اليد الطولى فعملوا له هناك برجًا وبدنة وكذلك جميع الأمراء‏.‏

ثم إن الحجارة قلت عند العمالين فكان صلاح الدين رحمه الله يركب وينقل الحجارة بنفسه على دابته من الأمكنة البعيدة فيقتدي به العسكر فكان يجمع عنده ن العمالين في اليوم الواحد ما يعملونه عدة أيام‏.‏

ذكر عود الفرنج إلى الرملة

في العشرين من ذي الحجة عاد الفرنج إلى الرملة وكان سبب عودهم أنهم كانوا ينقلون ما يريدونه من الساحل فلما أبعدوا عنه كان المسلمون يخرجون على من يجلب لهم الميرة فيقطعون الطريق ويغنمون ما معهم ثم إن ملك إنكلتار قال لمن معه من الفرنج الشاميين‏:‏ صوروا لي مدينة القدس فإني ما رأيتها فصوروها له فرأى الوادي يحيط بها ما عدا موضعًا يسير من جهة الشمال فسأل عن الوادي وعن عمقه فأخبر أنه عميق وعر المسلك‏.‏

فقال‏:‏ هذه مدينة لا يمكن حصرها ما دام صلاح الدين حيًا وكلمة المسلمين مجتمعة لأننا إن نزلنا في الجانب الذي يلي المدينة بقيت سائر الجوانب غير محصورة فيدخل إليهم منها الرجال والذخائر وما يحتاجون إليه وإن نحن افترقنا فنزل بعضنا من جانب الوادي وبعضنا من الجانب الآخر جمع صلاح الدين عسكره وواقع إحدى الطائفتين ولم يمكن الطائفة الأخرى إنجاد أصحابهم لأنهم إن فارقوا مكانهم خرج من بالبلد من المسلمين فغنموا ما فيه وإن تركوا فيه من يحفظه وساروا نحو أصحابهم فإلى أن يتخلصوا من الوادي ويلحقوا بهم يكون صلاح الدين قد فرغ منهم هذا سوى ما يتعذر علينا من إيصال ما يحتاج إليه من العلوفات والأقوات‏.‏

فلا قال لهم ذلك علموا صدقه ورأوا قلة الميرة عندهم وما يجري للجالبين لها من المسلمين فأشاروا عليه بالعود إلى الرملة فعادوا خائبين خاسرين‏.‏

ذكر قتل قزل أرسلان

في شعبان من هذه السنة قتل قزل أرسلان واسمه عثمان بن إيلدكز وقد ذكرنا أنه ملك البلاد بعد وفاة أخيه البهلوان ملك أران وأذربيجان وهمذان وأصفهان والري وما بينها وأطاعه صاحب فارس وخوزستان واستولى على السلطتان طغرل بن أرسلان بن طغرل فاعتقله في بعض القلاع ودانت له البلاد‏.‏

وفي آخر أمره سار إلى أصفهان والفتن بها متصلة من لدن توفي البهلوان إلى ذلك الوقت فتعصب على الشافعية وأخذ جماعة من أعيانهم فصلبهم وعاد إلى همذان وخطب لنفسه بالسلطنة وضرب النوب الخمس ثم إنه دخل ليلة قتل إلى منزله لينام وتفرق أصحابه فدخل إليه من قتله على فراشه ولم يعرف قاتله فأخذ أصحابه صاحب بابه ظنًا وتخمينًا وكان كريمًا

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة قدم معز الدين قيصر شاه بن قلج أرسلان صاحب بلاد الروم على صلاح الدين في رمضان وكان سب قدومه أن والده عز الدين قلج أرسلان فرق مملكته على أولاده وأعطى ولده هذا ملطية وأعطى ولده قطب الدين ملك شاه سيواس فاستولى قطب الدين على أبيه وحجر عليه وأزال حكمه وألزمه أن يأخذ ملطية من أخيه هذا ويسلمها إليه فخاف معز الدين فسار إلى صلاح الدين ملتجئًا إليه معتضدًا به فأكرمه صلاح الدين وزوجه بابنه أخيه الملك العادل فامتنع قطب الدين من قصده وعاد معز الدين إلى ملطية في ذي القعدة‏.‏

وحدثني من أثق به قال‏:‏ رأيت صلاح الدين وقد ركب ليودع معز الدين هذا فترجل له معز الدين وترجل صلاح الدين وودعه راجلًا فلما أراد الركوب عضده معز الدين هذا وأركبه وسوى ثيابه علاء الدين خرمشاه بن عز الدين صاحب الموصل قال‏:‏ فعجبت من ذلك وقلت ما تبالي يا ابن أيوب أي موتة تموت يركبك ملك سلجوقي وابن أتابك زنكي‏.‏

وفيها توفي حسام الدين محمد بن لاجين وهو ابن أخت صلاح الدين وعلم الدين سليمان بن وفي رجب توفي الصفي بن القابض وكان متولي دمشق لصلاح الدين يحكم في جميع بلاده‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة

ذكر عمارة الفرنج عسقلان

في هذه السنة في المحرم رحل الفرنج نحو عسقلان وشرعوا في عمارتها وكان صلاح الدين بالقدس فسار ملك إنكلتار جريدة من عسقلان إلى يزك المسلمين فواقعهم وجرى بين الطائفتين قتال شديد انتصف بعضهم من بعض‏.‏

وفي مدة مقام صلاح الدين بالقدس ما برحت سراياه تقصد الفرنج فتارة تواقع طائفة منهم وتارة تقطع الميرة عنهم ومن جملتها سرية كان مقدمها فارس الدين ميمون القصري وهو من مقدمي المماليك الصلاحية خرج على قافلة كبيرة للفرنج فأخذها وغنم ما فيها‏.‏

ذكر قتل المركيس وملك الكندهر

في هذه السنة في ثالث عشر ربيع الآخر قتل المركيس الفرنجي لعنه الله صاحب صور وهو أكبر شياطين الفرنج‏.‏

وكان سبب قتله أن صلاح الدين راسل مقدم الإسماعيلية وهو سنان وبذل له أن يرسل من يقتل ملك إنكلتار وإن قتل المركيس فله عشرة آلاف دينار فلم يمكنهم قتل ملك إنكلتار ولم يره سنان مصلحة لهم لئلا يخلو وجه صلاح الدين من الفرنج ويتفرغ لهم وشره في أخذ المال فعدل إلى قتل المركيس فأرسل رجلين في زي الرهبان واتصلا بصاحب صيدا وابن بارزان صاحب الرملة وكانا مع المركيس بصور فأقاما معهما ستة أشهر يظرهان العبادة فأنس بهما المركيس ووثق بهما فلما كان بعد التاريخ عمل الأسقف بصور دعوة للمركيس فحضرها وأكل طعامه وشرب مدامه وخرج من عنده فوثب عليه الباطنيان المذكوران فجرحاه جراحًا وثيقة وهرب أحدهما ودخل كنيسة يختفي فيها فاتفق أن المركيس حمل إليها ليشد جراحه فوثب عليه ذلك الباطني فقتله وقتل الباطنيان بعده‏.‏

ونسب الفرنج قتله إلى وضع من ملك إنكلتار لينفرد بملك الساحل الشامي فلما قتل ولي بعده مدينة صور كند من الفرنج من داخل البحر يقال له الكند هري وتزوج بالملكة في ليلته ودخل بها وهي حامل وليس الحمل عندهم مما يمنع النكاح‏.‏

وهذا الكند هري هو ابن أخت ملك إفرنسيس من أبيه وابن أخت ملك إنكلتار من أمه وملك كند هري هذا بلاد الفرنج بالساحل بعد عود ملك إنكلتار وعاش إلى سنة أربع وتسعين وخمسمائة فسقط من سطح فمات وكان عاقلًا كثير المدارة والاحتمال‏.‏

ولما رحل ملك إنكلتار إلى بلاده أرسل كند هري هذا إلى صلاح الدين يستعطفه ويستميله يطلب منه خلعة وقال‏:‏ أنت تعلم أن لبس القباء والشربوش عندنا عيب وأنا ألبسهما منك محبة لك فأنفذ إليه خلعة سنية منها القباء والشربوش فلبسهما بعكا‏.‏

ذكر نهب بني عامر البصرة

في هذه السنة في صفر اجتمع بنو عامر في خلق كثير وأميرهم اسمه عميرة وقصدوا البصرة وكان الأمير بها اسمه محمد بن إسمعيل ينوب عن مقطعها الأمير طغرل مملوك الخليفة الناصل لدين الله فوصلوا إليها يوم السبت سادس صفر فخرج إليهم الأمير محمد فيمن معه من الجند فوقعت الحرب بينهم بدرب الميدان بجانب الخريبة ودام القتال إلى آخر النهار فلما جاء الليل ثلم العرب في السور عدة ثلم ودخلوا البلد من الغد فقاتلهم أهل البلد فقتل بينهم قتلى كثيرة من الفريقين ونهبت العرب الخانات بالشاطئ وبعض محال البصرة وعبر أهلها إلى شاطئ الملاحين وفارق العرب البلد في يومهم وعاد أهله إليه‏.‏

وكان سبب سرعة العرب في مفارقة البلد أنهم بلغهم أن خفاجة والمنتفق قد قاربوهم فساروا إليهم وقاتلوهم أشد قتال فظفرت عامر وغنمت أموال خفاجة والمنتفق وعادوا إلى البصرة بكرة الاثنين وكان الأمير قد جمع من أهل البصرة والسواد جمعًا كثيرًا فلما عادت عامر قاتلهم أهل البصرة ومن اجتمع معهم فلم يقوموا للعرب وانهزموا ودخل العرب البصرة ونهبوها وفارق البصرة أهلها ونهبت أموالهم وجرت أمور عظيمة ونهبت القسامل وغيرها يومين وفارقها العرب وعاد أهلها إليها وقد رأيت هذه القصة بعينها في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة والله أعلم‏.‏