المجلد العاشر - ذكر ملك نور الدين نصيبين

في هذه السنة في جمادة الأولى سار نور الدين أرسلان شاه بن مسعود ابن مودود صاحب الموصل إلى مدينة نصيبين فملكها وأخذها من ابن عمه قطب الدين محمد‏.‏

وسبب ذلك أن عمه عماد الدين كان له نصيبين فتطاول نوابه بها واستولوا على عدة قرى من أعمال بين النهرين من ولاية الموصل وهي تجاور نصيبين فبلغ الخبر مجاهد الدين قايماز القائم بتدبير مملكة نور الدين بالموصل وأعمالها والمرجوع إليه فيها فلم يعلم مخدومه نور الدين بذلك لما علم من قلة صبره على احتمال مثل هذا وخاف أن يجري خلف بينهم فأرسل من عنده رسولًا إلى عماد الدين في المعنى وقبح هذا الفعل الذي فعله النواب بغير أمره وقال‏:‏ أنني ما أعلمت نور الدين بالحال لئلا يخرج عن يدك فإنه ليس كوالده وأخاف أن يبدو منه ما يخرج الأمر فيه عن يدي فأعاد الجواب‏:‏ إنهم لم يفعلوا إلا ما أمرتهم به وهذه القرى من أعمال

فترددت الرسل بينهما فلم يرجع عماد الدين عن أخذها فحينئذ أعلم مجاهد الدين نور الدين بالحال فأرسل نور الدين رسولًا من مشايخ دولته ممن خدم جدهم الشهيد زنكي ومن بعده وحمله رسالة فيها بعض الخشونة فمضى الرسول فلحق عماد الدين وقد مرض فلما سمع الرسالة لم يلتفت وقال‏:‏ لا أعيد ملكي فأشار الرسول من عنده حيث هو من مشايخ دولتهم بترك اللجاج وتسليم ما أخذه وحذره عاقبة ذلك فأغلظ عليه عماد الدين القول وعرض بذم نور الدين واحتقاره فعاد الرسول وحكى لنور الدين جلية الحال فغضب لذلك وعزم على المسير إلى نصيبين وأخذها من عمه‏.‏

فاتفق أن عمه مات وملك بعده ابنه فقوي طمعه فمنعه مجاهد الدين فلم يمتنع وتجهز وسار إليها فلما سمع قطب الدين صاحبها سار إليها من سنجار في عسكره ونزل عليها ليمنع نور الدين عنها فوصل نور الدين وتقدم إلى البلد وكان بينهما نهر فجازه بعض أمرائه وقاتل من بإزائه فلم يثبتوا له فعبر جميع العسكر النوري وتمت الهزيمة على قطب الدين فصعد هو ونائبه مجاهد الدين يرنقش إلى قلعة نصيبين وأدركهم الليل فخرجوا منها هاربين إلى حان وراسلوا الملك العادل أبا بكر بن أيوب صاحب حران وغيرها وهو بدمشق وبذلوا له الأموال الكثيرة لينجدهم ويعيد نصيبين إليهم‏.‏

وأقام نور الدين بنصيبين مالكًا لها فتضعضع عسكره بكثرة الأمراض وعودهم إلى الموصل وموت كثير منهم ووصل العادل إلى الديار الجزرية فحينئذ فارق نور الدين نصيبين وعاد إلى الموصل في شهر رمضان فلما فارقها تسلمها قطب الدين‏.‏

وممن توفي من أمراء الموصل‏:‏ عز الدين جورديك وشمس الدين عبد الله بن إبراهيم وفخر الدين عبد الله بن عيسى المهرانيان ومجاهد الدين قايماز وظهير الدين يولق بن بلنكري وجمال الدين محاسن وغيرهم ولما عاد نور الدين إلى الموصل قصد العادل قلعة ماردين فحصرها وضيق على أهلها على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر ملك الغورية مدينة بلخ من الخطا الكفرة

في هذه السنة ملك بهاء الدين سام بن محمد بن مسعود وهو ابن أخت غياث الدين وشهاب الدين صاحبي غزنة وغيرها وله باميان مدينة بلخ وكان صاحبها تركيًا اسمه أزيه وكان يحمل الخراج كل سنة إلى الخطا بما وراء النهر فتو في هذه السنة فسار بهاء الدين سام إلى المدينة فملكها وتمكن فيها وقطع الحمل إلى الخطا وخطب لغياث الدين وصارت من جملة

ذكر انهزام الخطا من الغورية

و في هذه السنة عبر الخطا نهر جيحون إلى ناحية خراسان فعاثوا في البلاد وأفسدوا فلقيهم عسكر غياث الدين الغوري وقاتلهم فانزم الخطا‏.‏

وكان سبب ذلك أن خوارزم شاه تكش كان قد سار إلى بلد الري وهمذان وأصفهان وما بينهما من البلاد وملكها وتعرض إلى عساكر الخليفة وأظهر طلب السلطنة والخطبة ببغداد فأرسل الخليفة إلى غياث الدين ملك الغور وغزنة يأمره بقصد بلاد خوارزم شاه ليعود عن قصد العراق وكان خوارزم شاه قد عاد إلى خوارزم فراسله غياث الدين يقبح له فعله ويتهدده بقصد بلاده وأخذها فأرسل خوارزم شاه إلى الخطا يشكو إليهم من غياث الدين ويقول‏:‏ إن لم تدركوه بإنفاذ العساكر وإلا أخذ غياث الدين بلاده كما أخذ مدين بلخ وقصد بعد ذلك بلادهم ويتعذر عليهم منعه ويعجزون عنه ويضعفون عن رده عما وراء النهر فجهز ملك الخطا جيشًا كثيفًا وجعل مقدمهم المعروف بطاينكوا وهو كالوزير له فساروا وعبروا جيحون في جمادى الآخرة وكان الزمان شتاء وكان شهاب الدين الغوري أخو غياث الدين ببلاد الهند والعساكر معه وغياث الدين به من النقرس ما يمنعه من الحركة إنما يحمل في محفة والذي يقود الجيش ويباشر الحروب أخوه شهاب الدين فلما وصل الخطا إلى جيحون سار خوارزم شاه إلى طوس عازمًا على قصد هراة ومحاصرتها وعبر الخطا النهر ووصلوا إلى بلاد الغور مثل‏:‏ كرزبان وسرقان وغيرهما وقتلوا وأسروا ونهبوا وسبوا كثيرًا لا يحصى فاستغاث الناس بغياث الدين فلم يكن عنده من العساكر ما يلقاهم بها فراسل الخطا بهاء الدين سام ملك باميان يأمرونه بالإفراج عن بلخ أو أنه يحمل ما كان من قبله يحمله من المال فلم يجبهم إلى ذلك‏.‏

وعظمت المصيبة على المسلمين بما فعله الخطا فانتدب الأمير محمد بن جربك الغوري وهو مقطع الطالقان من قبل غياث الدين وكان شجاعًا وكاتب الحسين بن خرميل وكان بقلعة كرزبان واجتمع معهما الأمير حروش الغوري وساروا بعساكرهم إلى الخطا فبيتوهم وكبسوهم ليلًا ومن عادة الخطا أنهم لا يخرجون من خيامهم ليلًا ولا يفارقونها فآتاهم هؤلاء الغورية وقاتلوهم وأكثروا القتل في الخطا وانهزم من سلم منهم من القتل وأين ينهزمون والعسكر الغوري خلفهم وجيحون بن أيديهم وظن الخطا أن غياث الدين قد قصدهم في عساكره فلما أصبحوا وعرفوا من قاتلهم وعلموا أن غياث الدين بمكانه قويت قلوبهم وثبتوا واقتتلوا عامة نهارهم فقتل من الفريقين خلق عظيم ولحقت المتطوعة بالغوريين وأتاهم مدد من غياث الدين

وحمل الأمير حروش على قلب الخطا وكان شيخًا كبيرًا فأصابه جراحة توفي منها ثم إن محمود بن جربك وابن خرميل حملا في أصحابهما وتمادوا‏:‏ لا يرم أحد بقوس ولا يطعن برمح وأخذوا اللتوت وحملوا على الخطا فهزموهم وألحقوهم بجيحون فمن صبر قتل ومن ألقى نفسه في الماء غرق‏.‏

ووصل الخبر إلى ملك الخطا فعظم عليه وأرسل إلى خوارزم شاه يقول له‏:‏ أنت قتلت رجالي وأريد عن كل قتيل عشرة آلاف دينار وكان القتلى اثني عشر ألفًا وأنفذ إليه من رده إلى خوارزم وألزموه بالحضور عنده فأرسل حينئذ خوارزم شاه إلى غياث الدين يعرفه حاله مع الخطا ويشكو إليه ويستعطفه غير مرة فأعاد الجواب يأمره بطاعة الخليفة وإعادة ما أخذه الخطا من بلاد الإسلام فلم ينفصل بينهما حال‏.

ذكر ملك خوارزم شاه مدينة بخارى

لما ورد رسول ملك الخطا على خوارزم شاه بما ذكرناه أعاد الجواب‏:‏ إن عسكرك إنما قصد انتزاع بلخ ولم يأتوا إلى نصرتي ولا اجتمعت بهم ولا أمرتهم بالعبور إن كنت فعلت ذلك فأنا مقيم بالمال المطلوب مني ولكن حيث عجزتم أنتم عن الغورية عدتم علي بهذا القول وهذا فعاد الرسول بالجواب فجهز ملك الخطا جيشًا عظيمًا وسيره إلى خوارزم فحصروها فكان خوارزم شاه يخرج إليهم كل ليلة ويقتل منهم خلقًا وأتاه من المتطوعة خلق كثير فلم يزل هذا فعله بهم حتى أتى على أكثرهم فدخل الباقون إلى بلادهم ورحل خوارزم شاه في أثارهم وقصد بخاري فنازلها وحصرها وامتنع أهلها منه وقاتلوه مع الخطا حتى إنهم أخذوا كلبًا أعور وألبسوه قباء وقلنسوة وقالوا‏:‏ هذا خوارزم شاه لأنه كان أعور وطافوا به على السور ثم ألقوه في منجنيق إلى العسكر وقالوا‏:‏ هذا سلطانكم‏.‏

وكان الخوارزميون يسبونهم ويقولون‏:‏ يا أجناد الكفار أنتم قد ارتددتم عن الإسلام فلم يزل هذا دأبهم حتى ملك خوارزم شاه البلد بعد أيام يسيرة عنوة وعفا عن أهله وأحسن إليهم وفرق فيهم مالًا كثيرًا وأقام به مدة ثم عاد إلى خوارزم‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في ذي الحجة توفي أبو طالب يحيى بن سعيد بن زيادة كاتب الإنشاء بديوان الخليفة وكان عالمًا فاضلًا له كتابة حسنة وكان رجلًا عاقلًا خيرًا كثير النفع للناس وله شعر جيد‏.‏

وفيها حصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب قلعة ماردين في شهر رمضان وقاتل من بها وكان صاحبها حسام الدين يولق أرسلان بن إيلغازي بن ألبي ابن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق كل هؤلاء ملوك ماردين وقد تقدم من أخبارهم ما يعلم به محلهم وكان صبيًا والحاكم في بلده ودولته مملوك أبيه النظام يرنقش وليس لصاحبه معه حكم البتة في شيء من الأمور ولما حصر العادل ماردين ودام عليها سلم إليه بعض أهلها الربض بمخامرة بينهم فنهب العسكر أهله نهبًا قبيحًا وفعلوا بهم أفعالًا عظيمة لم يسمع بمثلها فلما تسلم الربض تمكن من حصر القلعة وقطع الميرة عنها وبقي عليها إلى أن رحل عنها خمسة وتسعين على ما نذكره إن شاء الله‏.‏

وفيها توفي الشيخ أبو علي الحسن بن مسلم بن أبي الحسن القادسي الزاهد المقيم ببغداد والقادسية التي ينسب إليها قرية بنهر عيس من أعمال بغداد وكان من عباد الله الصالحين العاملين ودفن بقريته‏.‏

وأبو المجد علي بن أبي الحسن علي بن الناصر بن محمد الفقيه الحنفي مدرس أصحاب أبي حنيفة ببغداد وكان من أولاد محمد بن الحنفية ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ‏.‏

ذكر وفاة الملك العزيز وملك أخيه الأفضل ديار مصر

في هذه السنة في العشرين من المحرم توفي الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب ديار مصر وكان سبب موته أنه خرج إلى الصيد فوصل إلى الفيوم متصيدًا‏.‏

فرأى ذئبًا فركض فرسه في طلبه فعثر الفرس فسقط عنه في الأرض ولحقته حمى فعاد إلى القاهرة مريضًا فبقي كذلك إلى أن توفي فلما مات كان الغالب على أمره مملوك والده فخر الدين جهاركس وهو الحاكم في بلده فأحضر إنسانًا كان عندهم من أصحاب الملك العادل أبي بكر بن أيوب وأراه العزيز ميتًا وسيره إلى العادل وهو يحاصر ماردين كما ذكرناه ويستدعيه ليملكه البلاد فسار القاصد مجدًا فلما كان بالشام رأى بعض أصحاب الأفضل علي بن صلاح الدين فقال له‏:‏ قل لصاحبك إن أخاه العزيز توفي وليس في البلاد من يمنعها فليسر إليها فليس دونها مانع‏.‏

وكان الأفضل محببًا إلى الناس يريدونه فلم يلتفت الأفضل إلى هذا القول وإذا قد وصله رسل الأمراء من مصر يدعونه إليهم لملكوه وكان السب في ذلك أن الأمير سيف الدين يازكج مقدم الأسدية والفرقة الأسدية والأمراء الأكراد يريدونه ويميلون إليه وكان المماليك الناصرية الذين هم ملك أبيه يكرهونه فاجتمع سيف الدين مقدم الأسدية وفخر الدين جهاركس مقدم الناصرية ليتفقوا على من يولونه الملك فقال فخر الدين‏:‏ نولي ابن الملك العزيز فقال سيف الدين‏:‏ إنه طفل وهذه البلاد ثغر الإسلام ولا بد من قيم بالملك يجمع العساكر ويقاتل بها والرأي أننا نجعل الملك في هذا الطفل الصغير ونجعل معه بعض أولاد صلاح الدين يدبره إلى أن يكبر فإن العساكر لا تطيع غيرهم ولا تنقاد لأمير فاتفقا على هذا فقال جهاركس‏:‏ فمن يتولى هذا فأشار يازكج بغير الأفضل ممن بينه وبين جهاركس منازعة لئلا يتهم وينفر جهاركس عنه فامتنع من ولايته فلم يزل يذكر من أولاد صلاح الدين واحدًا بعد آخر إلى أن ذكر آخرهم الأفضل فقال جهاركس‏:‏ هو بعيد عنا وكان بصرخد مقيمًا فيها من حين أخذت منه دمشق فقال يازكج‏:‏ نرسل إليه من يطلبه مجدًا فأخذ جهاركس يغالطه فقال يازكج‏:‏ تمضي إلى القاضي الفاضل ونأخذ رأيه فاتفقا على ذلك وأرسل يازكج يعرفه ذلك ويشير بتمليك الأفضل فلما اجتمعا عنده وعرفاه صورة الحال أشار بالأفضل فأرسل يازكج في الحال القصاد وراءه فسار عن صرخد لليلتين بقيتا من صفر متنكرًا في تسعة عشر نفسًا لأن البلاد كانت للعادل ويضبط نوابه الطرق لئلا يجوز إلى مصر ليجيء العادل ويملكها‏.‏

فلما قارب الأفضل القدس وقد عدل عن الطريق المؤدي إليه لقيه فارسان قد أرسلا إليه من القدس فأخبراه أن من بالقدس قد صار في طاعته وجد في السير فوصل إلى بليس خامس ربيع الأول ولقيه إخوته وجماعته الأمراء المصرية وجميع الأعيان فاتفق أن أخاه الملك المؤيد مسعودًا صنع له طعامًا وصنع له فخر الدين مملوك أبيه طعامًا فابتدأ بطعام أخيه ليمين حلفها أخوه أنه يبدأ به فظن جهاركس أنه فعل هذا انحرافًا عنه وسوء اعتقاد فيه فتغيرت نيته وعزم على الهرب فحضر عند الأفضل وقال‏:‏ إن طائفة من العرب قد اقتتلوا ولئن مل تمض إليهم تصلح بينهم يؤد ذلك إلى فساد فأذن له الأفضل في المضي إليهم ففارقه وسار مجدًا حتى وصل إلى البيت المقدس ودخله وتغلب عليه ولحقه جماعة من الناصرية منهم قراجة الزره كش وسرا سنقر وأحضروا عندهم ميمونًا القصري صاحب نابلس وهو أيضًا من المماليك الناصرية فقويت شوكتهم به واجتمعت كلمتهم على خلاف الأفضل وأرسلوا إلى الملك العادل وهو ماردين يطلبونه إليهم ليدخلوا معه إلى مصر ليملكوها فلم يسر إليهم لأنه كانت أطماعه قد قويت في أخذ ماردين وقد عجز من بها عن حفظها فظن أنه يأخذها والذي يريدونه منه لا يفوته‏.‏

وأما الأفضل فإنه دخل إلى القاهرة سابع ربيع الأول وسمع بهرب جهاركس فأمه ذلك وترددت الرسل بينه وبينهم ليعودوا إليه فلم يزدادوا إلا بعدًا ولحق بهم جماعة من الناصرية أيضًا فاستوحش الأفضل من الباقين فقبض عليهم وهم شقيرة وأيبك فطيس والبكي الفارس وكل هؤلاء بطل مشهور ومقدم مذكور سوى من ليس مثلهم في التقدم وعلو القدر وأقام الأفضل بالقاهرة وأصلح الأمور وقرر القواعد والمرجع في جميع الأمور إلى سيف الدين يازكج‏.‏

ذكر حصر الأفضل مدينة دمشق وعوده عنها

لما ملك الأفضل مصر واستقر بها ومعه ابن أخيه الملك العزيز اسم الملك له لصغره واجتمعت الكلمة على الأفضل بها وصل إليه رسول أخيه الملك الظاهر غازي صاح بحلب ورسل ابن عمه أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص يحثانة على الخروج إلى دمشق واغتنام الفرصة بغيبة العادل عنها وبذلا له المساعدة بالمال والنفس والرجال فبرز من مصر منتصف جمادى الأولى من السنة على عزم المسير إلى دمشق وأقام بظاهر القاهرة إلى ثالث رجب ورحل فيه تعوق في مسيره ولو بادر وعجل المسير لملك دمشق لكنه تأخر فوصل إلى دمشق ثالث عشر شعبان فنزل عند جسر الخشب على فرسخ ونصف من دمشق وكان العادل قد أرسل إليه نوابه بدمشق يعرفونه قصد الأفضل لهم ففارق ماردين وخلف ولده الملك الكامل محمدًا في جميع العساكر على حصارها وسار جريدة فجد في السير فسبق الأفضل فدخل دمشق قبل الأفضل بيومين‏.‏

وأما الأفضل فإنه تقدم إلى دمشق من الغد وهو رابع عشر شعبان ودخل ذلك اليوم بعينه طائفة يسيرة من عسكره إلى عسقلان إلى دمشق من باب السلامة وسبب دخولهم أن قومًا من أجناده ممن بيوتهم مجاورة الباب اجتمعوا بالأمير مجد الدين أخي الفقيه عيسى الهكاري وتحدثوا معه في أن يقصد هو والعسكر باب السلامة ليفتحوه لهم فأراد مجد الدين أن يختص بفتح الباب وحده فلم يعلم الأفضل ولا أخذ معه أحدًا من الأمراء بل سار وحده بمفرده ومعه نحو خمسين فارسًا من أصحابه ففتح له الباب فدخله هو ومن معه فلما رآهم عامة البلد نادوا بشعار الأفضل واستسلم من به من الجند ونزلوا عن الأسوار وبلغ الخبر إلى الملك العادل فكاد يستسلم وتماسك‏.‏

وأما الذين دخلوا البلد فإنهم وصولا إلى باب البريد فلما رأى عسكر العادل بدمشق قلة عددهم وانقاطع مددهم وثبوا بهم وأخرجوهم منه وكان الأفضل قد نثب خيمة بالميدان الأخضر وقارب عسكره الباب الحديد وهو من أبواب القلعة فقدر الله تعالى أن أشير على الأفضل بالانتقال إلى ميدان الحصى ففعل ذلك فقويت نفوس من فيه وضعفت نفوس العسكر المصري ثم إن الأمراء الأكراد منهم تحالفوا فصاروا يدًا واحدة يغضبون لغضب الدمشقيين فرحلوا من موضعهم وتأخروا في العشرين من شعبان ووصل بعده الملك الظاهر صاحب حلب ثاني عشر شهر رمضان وأرادوا الزحف إلى دمشق فمنعهم الملك الظاهر مكرًا بأخيه وحسدًا له ولم يشعر أخوه الأفضل بذلك‏.‏

وأما الملك العادل فإنه لما رأى كثرة العساكر وتتابع الأمداد إلى الأفضل عظم عليه فأرسل إلى المماليك الناصرية بالبيت المقدس يستدعيهم إليه فساروا سلخ شعبان فوصل خبرهم إلى الأفضل فسير أسد الدين صاحب حمص ومعه جماعة من الأمراء إلى طريقهم ليمنعوهم فسلكوا غير طريقهم فجاء أولئك ودخلوا دمشق خامس رمضان فقوي العادل بهم قوة عظيمة وأيس الأفضل ومن معه من دمشق وخرج عسكر دمشق في شوال فكبسوا العسكر المصري فوجدوهم قد حذروهم فعادوا عنهم خاسرين‏.‏

وأقام العسكر على دمشق ما بين قوة وضعف وانتصار وتخاذل حتى أرسل الملك العادل خلف ولده الملك الكامل محمد وكان قد رحل عن ماردين على ما نذكره إن شاء الله تعالى وهو بحران فاستدعاه إليه بعسكره فسار على طريق البر فدخل إلى دمشق ثاني عشر صفر سنة ست وتسعين وخمسمائة فعند ذلك رحل العسكر عن دمشق إلى ذيل جبل الكسوة سابع عشر صفر واستقر أن يقيموا بحوران حتى يخرج الشتاء فرحلوا إلى رأس الماء وهو موضع شديد البرد فتغير العزم عن المقام واتفقوا على أن يعود كل منهم إلى بلده فعاد الظاهر صاحب حلب وأسد الدين صاح بحمص إلى بلادهما وعاد الأفضل إلى مصر فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر وفاة يعقوب بن يوسف وولاية ابنه محمد

في هذه السنة ثامن عشر ربيع الآخر وقيل جمادى الأولى توفي أبو يوسف يعقوب بن أبي يعقوب يوسف ين عبد المؤمن صاحب المغرب والأندلس بمدينة سلا وكان قد سار إليها من مراكش وكان قد بنى مدينة محاذية لسلا وسماها المهدية من أحسن البلاد وأنزهها فسار إلهيا يشاهدها فتوفي بها وكانت ولايته خمس عشرة سنة وكان ذا جهاد للعدو ودين وحسن سيرة وكان يتظاهر بمذهب الظاهرية وأعرض عن مذهب مالك فعظم أمر الظاهرية في أيامه وكان بالمغرب منهم خلق كثير يقال لهم الحزمية منسوبون إلى ابن محمد بن حزم رئيس الظاهرية إلا أنهم مغمورون بالمالكية‏.‏

ففي أيامه ظهروا وانتشروا ثم في آخر أيامه استقضى الشافعية على بعض البلاد ومال إليهم ولما مات قام ابنه أبو عبد الله محمد بالملك بعده وكان أبوه قد ولاه عهده في حياته فاستقام الملك له وأطاعه الناس وجهز جمعًا من العرب وسيرهم إلى الأندلس احتياطًا من الفرنج‏.‏

ذكر عصيان أهل المهدية على يعقوب وطاعتها لولده محمد

كان أبو يوسف يعقوب صاحب المغرب لما عاد من إفريقية كما ذكرناه سنة إحدى وثمانين وخمسمائة استعمل أبا سعيد عثمان وأبا علي يونس بن عمر اينتي وهما وأبوهما من أعيان الدولة فولى عثمان مدينة تونس وولى أخاه المهدية وجعل قائد الجيش بالمهدية محمد بن عبد الكريم وهو شجاع مشهور فعظمت نكايته في العرب فلم يبق منهم إلا من يخافه‏.‏

فاتفق أنه أتاه الخبر بأن طائفة من عوف نازلون بمكان فخرج إليهم وعدل عنهم حتى جازهم ثم أقبل عائدًا يطلبهم وأتاهم الخبر بخروجه إليهم فهربوا من بين يديه فلقوه أمامهم فهربوا وتركوا المال والعيال من غير قتال فأخذ الجميع ورجع إلى المهدية وسلم العيال إلى الوالي وأخذ من الأسلاب والغنيمة ما شاء وسمل الباقي إلى الوالي وإلى الجند‏.‏

ثم إن العرب من بني عوف قصدوا أبا سعيد بن عمر اينتي فوحدوا وصاروا من حزب الموحدين واستجاروا به في رد عيالهم فأحضر محمد بن عبد الكريم وأمره بإعادة ما أخذ لهم من النعم فقال‏:‏ أخذه الجند ولا أقدر على رده فأغلظ له في القول وأراد أن يبطش به فاستمهله إلى أن يرجع إلى المهدية ويسترد من الجند ما يجده عندهم وما عدم منه غرم العوض عنه من ماله فأمهله فعاد إلى المهدية وهو خائف فلما وصلها جمع أصحابه وأعلمهم ما كان من أبي سعيد وحالفهم على موافقته فحلفوا له فقبض على أبي علي يونس وتغلب على المهدية وملكها فأرسل إليه أبو سعيد في معنى إطلاق أخيه يونس فأطلقه على اثني عشر ألف دينار فلما أرسلها إليه أبو سعيد فرقها في الجند وأطلق يونس وجمع أبو سعيد العساكر وأراد قصده ومحاصرته فأرسل محمد بن عبد الكريم إلى علي بن إسحاق الملثم فحالفه واعتضد به فامتنع أبو سعيد من قصده‏.‏

ومات يعقوب وولي ابنه محمد فسير عسكرًا مع عمه في البحر وعسكرًا آخر في البر مع ابن عمه الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن فلما وصل عسكر البحر إلى بجاية وعسكر البر إلى قسنطينة الهوى هرب الملثم ومن معه من العرب من بلاد إفريقية إلى الصحراء ووصل الأسطول إلى المهدية فشكا محمد بن عبد الكريم ما لقي من أبي سعيد وقال‏:‏ أنا على طاعة أمير المؤمنين محمد ولا أسلمها إلى أبي سعيد وإنما أسلمها إلى من يصل من أمير المؤمنين فأرسل محمد من يتسلمها منه وعاد إلى الطاعة‏.‏

ذكر رحيل عسكر الملك العادل عن ماردين


في هذه السنة زال الحصار عن ماردين ورحل عسكر الملك العادل عنها مع ولده الملك الكامل وسبب ذلك أن الملك العادل لما حصر ماردين عظم ذلك على نور الدين صاحب الموصل وغيره من ملوك ديار بكر والجزيرة وخافوا إن ملكها أن يبقي عليهم إلا أن العجز عن منعه حملهم على طاعته فلما توفي العزيز صاحب مصر وملك الأفضل مصر كما ذكرناه وبينه وبين العادل اختلاف أرسل أحد عسكر مصر من عنده وأرسل إلى نور الدين صاحب الموصل وغيره من الملوك يدعوهم إلى موافقته فأجابوه إلى ذلك فلما رحل الملك العادل عن ماردين إلى دمشق كما ذكرناه برز نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود صاحب الموصل عنها ثاني شعبان وسار إلى دنيسر فنزل عليها ووافقه ابن عمه قطب الدين محمد ابن زنكي بن مودود صاحب سنجار وابن عمه الآخر معز الدين سنجر شاه بن غازي بن مودود صاحب جزيرة ابن عمر فاجتمعوا كلهم بدنيسر إلى أن عيدوا عيد الفطر ثم ساروا عنها سادس شوال ونزلوا بحرزم وتقدم العسكر إلى تحت الجبل ليرتادوا موضعًا للنزول‏.‏

وكان أهل ماردين قد عدمت الأقوات عندهم وكثرت الأمراض فيهم حتى إن كثيرًا منهم كان لا يطيق القيام فلما رأى النظام وهو الحاكم في دولة صاحبها ذلك أرسل إلى ابن العادل في تسليم القلعة إليه إلى أجل معلوم ذكره على شرط أن يتركهم يدخل إليهم من الميرة ما ولد العادل بباب القلعة أميرًا لا يترك يدخلها من الأطعمة إلا ما يكفيهم يومًا بيوم فأعطى من بالقلعة ذلك الأمير شيئًا فمكنهم من إدخال الذخائر الكثيرة‏.‏

فبينما هم كذلك إذ أتاهم خبر وصول نور الدين صاحب الموصل فقويت نفوسهم وعزموا على الامتناع فلما تقدم عسكره إلى ذيل جبل ماردين قدر الله تعالى أن الملك الكامل بن العادل نزل بعسكر من ربض ماردين إلى لقاء نور الدين وقتاله ولو أقاموا بالربض لم يمكن نور الدين ولا غيره الصعود إليهم ولا إزالتهم لكن نزلوا ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا فلما أصحروا من الجبل اقتتلوا وكان من عجيب الاتفاق أن قطب الدين صاحب سنجار قد واعد العسكر العادلي أن ينهزم إذا التقوا ولم يعلم بذلك أحدًا من العسكر فقدر الله تعالى أنه لما نزل العسكر العادلي واصطفت العساكر للقتال ألجأت قطب الدين الضرورة بالزحمة إلى أن وقف في سفح شعب جبل ماردين ليس إليه طريق للعسكر العادلي ولا يرى الحرب الواقعة بينهم وبين نور الدين ففاته ما أراده من الانهزام فلما التقى العسكران واقتتلوا حمل ذلك اليوم نور الدين بنفسه واصطلى الحرب فألقى الناس أنفسهم بني يديه فانهزم العسكر العادلي وصعدوا في الجبل إلى الربض وأسر منهم كثير فحملوا إلى بين يدي نور الدين فأحسن إليهم ووعدهم الإطلاق إذا انفضوا ولم يظن أن الملك الكامل ومن معه يرحلون عن ماردين سريعًا فجاءهم أمر لم يكن في الحساب فإن الملك الكامل لما صعد إلى الربض رأى أهل القلعة قد نزلوا إلى الذين جعلهم بالربض من العسكر فقاتلوهم ونالوا منهم ونهبوا فألقى الله الرعب في قلوب الجميع فأعملوا رأيهم على مفارقة الربض ليلًا فرحلوا إليه الاثنين سابع شوال وتركوا كثيرًا من أثقالهم ورحالهم وما أعدوه فأخذه أهل القلعة ولو ثبت العسكر العادلي بمكانه لم يمكن أحدًا أن يقرب منهم‏.‏

ولما رحلوا نزل صاحب ماردين حسام الدين يولق بن إيلغازي إلى نور الدين ثم عاد إلى حصنه وعاد أتابك إلى دنيسر ورحل عنها إلى رأس عين على عزم قصد حران وحصرها فأتاه رسول من الملك الظاهر يطلب الخطبة والسكة وغير ذلك فتغيرت نية نور الدين وفتر عزمه عن نصرتهم فعزم على العودة إلى الموصل فهو يقدم إلى العرض رجلًا ويؤخر أخرى إذ أصابه مرض فتحقق عزم العود إلى الموصل فعاد إليها وأرسل رسولًا إلى الملك الأفضل والملك الظاهر يعتذر عن عوده بمرضه فوصل الرسول ثاني ذي الحجة إليهم وهم على دمشق‏.‏

وكان عود نور الدين من سعادة الملك العادل فإنه كان هو وكل من عنده ينتظرون ما يجيء من أخباره فإن من بحران استسلمونا فقدر الله تعالى أنه عاد فلما عاد جاء الملك الكامل إلى حران وكان قد سار عن ماردين إلى ميافارقين فلما رجع نور الدين سار الكامل إلى حران وسار إلى أبيه بدمشق على ما ذكرناه فازداد به قوة والأفضل ومن معه ضعفًا‏.‏

ذكر الفتنة بفيروزكوه من خراسان

في هذه السنة كانت فتنة عظيمة بعسكر غياث الدين ملك الغور وغزنة وهو بفيروزكوه عمت الرعية والملوك والأمراء وسببها أن الفخر محمد بن عمر بن الحسين الرازي الإمام المشهور الفقيه الشافعي كان قدم إلى غياث الدين مفارقًا لبهاء الدين سام صاحب باميان وهو ابن أخت غياث الدين فأكرمه غياث الدين واحترمه وبالغ في إكرامه وبنى له مدرسة بهراة بالقرب من الجامع فقصده الفقهاء من البلاد فعظم ذلك على الكرامية وهم كثيرون بهراة وأما الغورية فكلهم كرامية وكرهوه وكان أشد الناس عليه الملك ضياء الدين وهو ابن عم غياث الدين وزوج ابنته فاتفق أن حضر الفقهاء من الكرامية الحنفية والشافعية عند غياث الدين بفيروزكوه للمناظرة وحضر فخر الدين الرازي والقاضي مجد الدين عبد المجيد ابن عمر المعروف بابن القدوة وهو من الكرامية الهيصمية وله عندهم محل كبير لزهده وعلمه وبيته فتكلم الرازي فاعترض عليه ابن القدوة طال الكلام فقام غياث الدين فاستطال عليه الفخر وسبه وشتمه وبالغ في أذاه وابن القدوة لا يزيد على أن يقول لا يفعل مولانا إلا وأخذك الله أستغفر الله فانفصلوا على هذا‏.‏

وقام ضياء الدين في هذه الحادثة وشكا إلى غياث الدين وذم الفخر ونسبه إلى الزندقة ومذهب الفلاسفة فلم يصغ غياث الدين إليه فلما كان الغد وعظ ابن عم المجد نب القدوة بالجامع فلما صعد المنبر قال بعد أن حمد الله وصلى على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏:‏ لا إله إلا الله ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين أيها الناس إنا لا نقول إلا ما صح عندنا عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأما علم أرسطاطاليس وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي فلا نعلمها فلأي حال يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله وعن سنة نبيه‏!‏ وبكى وضج الناس وبكى الكرامية واستغاثوا وأعانهم من يؤثر بعد الفجر الرازي عن السلطان وثار الناس من كل جانب وامتلأ البلد فتنة وكادوا يقتتلون يجري ما يهلك فيه خلق كثير فبلغ ذلك السلطان فأرسل جماعة من عنده إلى الناس وسكنهم ووعدهم بإخراج الفخر من عندهم وتقدم إليه بالعود إلى هراة فعاد إليها‏.‏

ذكر مسير خوارزم شاه إلى الري

في هذه السنة في ربيع الأول سار خوارزم شاه علاء الدين تكش إلى الري وغيرها من بلاد الجبل لأنه بلغه أن نائبه بها مياجق قد تغير عن طاعته فسار إليه فخافه مياجق فجعل يفر من بين يديه وخوارزم شاه في طلبه يدعوه إلى الحضور عنده وهو يمتنع فاستأمن‏:‏ أكثر أصحابه إلى خوارزم شاه وهرب هو فحصل بقلعة من أعمال مازندران فامتنع بها فسارت العساكر في طلبه فأخذ منها وأحضر بين يدي خوارزم شاه فأمر بحبسه بشفاعة أخيه أقجة‏.‏

وسيرت الخلع من الخليفة لخوارزم شاه ولولده قطب الدين محمد وتقليد بما بيده من البلاد فلبس الخلعة واشتغل بقتال الملاحدة فافتتح قلعة على باب قزوين تسمى أرسلان كشاه وانتقل إلى حصار الموت فقتل عليها صدر الدين محمد بن الوزان رئيس الشافعية بالري وكان قد تقدم عنده تقدمًا عظيمًا قتله الملاحدة وعاد خوارزم شاه إلى خوارزم فوثب الملاحدة على وزيره نظام الملك مسعود بن علي فقتلوه في جمادى الآخرة سنة ست وتسعين فأمر تكش ولده قطب الدين بقصد الملاحدة فقصد قلعة ترشيش وهي من قلاعهم فحصرها فأذعنوا له بالطاعة وصالحوه على مائة ألف دينار ففارقها وإنما صالحهم لأنه بلغه خبر مرض أبيه وكانوا يراسلونه بالصلح فلا يفعل فلما سمع بمرض أبيه لم يرحل حتى صالحهم على المال المذكور والطاعة ورحل‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في ربيع الأول توفي مجاهد الدين قايماز رحمه الله بقلعة الموصل وهو الحاكم في دولة نور الدين والمرجوع إليه فيها وكان ابتداء ولايته قلعة الموصل في ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وولي إربل سنة تسع وخمسين وخمسمائة فلما مات زين الدين علي كوجك سنة ثلاث وستين بقي هو الحاكم فيها ومعه من يختاره من أولاد زين الدين ليس لواحد منهم معه حكم‏.‏

وكان عاقلًا دينًا خيرًا فاضلًا يعرف الفقه على مذهب أبي حنيفة ويحفظ من التاريخ والأشعار والحكايات شيئًا كثيرًا‏.‏

وكان كثير الصوم يصوم من كل سنة نحو سبعة أشهر وله أوراد كثيرة حسنة كل ليلة ويكثر الصدقة وكان يكثر الصدقة وكان له فراسة حسنة فيمن يستحق الصدقة ويعرف الفقراء المستحقين ويبرهم وبنى عدة جوامع منها الجوامع منها الجامع الذي يظاهر الموصل بباب الجسر وبنى الربط والمدارس والخانات في الطرق وله من المعروف شيء كثير رحمه الله فلقد كان من محاسن الدنيا‏.‏

وفيها فارق غياث الدين صاحب غزنة وبعض خراسان مذهب الكرامية وصار شافعي المذهب وكان سبب ذلك أنه كان عنده إنسان يعرف بالفخر مبارك شاه يقول الشعر بالفارسية متفننًا في كثير من العلوم فأوصل إلى غياث الدين الشيخ وحيد الدين أبا الفتح محمد بن محمود المروروذي الفقيه الشافعي فأوضح له مذهب الشافعي وبين له فساد مذهب الكرامية فصار شافعيًا وبنى المدارس للشافعية وبنى بغزنة مسجدًا لهم أيضًا وأكثر مراعاتهم فسعى الكرامية في أذى وحيد الدين فلم يقدرهم الله تعالى على ذلك‏.‏

وقيل إن غياث الدين وأخاه شهاب الدين لما ملكا في خراسان قيل لهما‏:‏ إن الناس في جميع البلاد يزرون على الكرامية ويحتقرونهم‏.‏

والرأي أن تفارقوا مذاهبهم فصارا شافعيين وقيل‏:‏ إن شهاب الدين كان حنفيًا والله أعلم‏.‏

و في هذه السنة توفي أبو القاسم يحيى بن علي بن فضلان الفقيه الشافعي وكان إمامًا فاضلًا

ثم دخلت سنة ست وتسعين وخمسمائة

ذكر ملك العادل الديار المصرية

قد ذكرنا سنة خمس وتسعين حصر الأفضل والظاهر ولدي صلاح الدين دمشق ورحيلها إلى رأس الماء على عزم المقام بحوران إلى أن يخرج الشتاء فلما أقاموا برأس الماء وجد العسكر بردًا شديدًا لأن البرد في ذلك المكان في الصيف موجود فكيف في الشتاء فتغير العزم عن المقام واتفقوا على أن يعود كل إنسان منهم إلى بلده ويعودوا إلى الاجتماع فتفرقوا تاسع ربيع الأول فعاد الظاهر وصاحب حمص إلى بلادهما وسار الأفضل إلى مصر فوصل بلبيس فأقام بها ووصلته الأخبار بأن عمه الملك العادل قد سار من دمشق قاصدًا مصر ومعه المماليك الناصرية وقد حلفوه على أن يكون ولد الملك العزيز هو صاحب البلاد وهو المدبر للملك إلى أن يكبر فساروا على هذا‏.‏

وكان عسكره بمصر قد تفرق عن الأفضل من الخشبي فسار كل منهم إلى إقطاعه ليربعوا دوابهم فرام الأفضل جمعهم من أطراف البلاد فأعجله الأمر عن ذلك ولم يجتمع منهم إلا طائفة يسيرة ممن قرب إقطاعه ووصل العادل فأشار بعض الناس على الأفضل أن يخرب سور بلبيس ويقيم بالقاهرة وأشار غيرهم بالتقدم إلى أطراف البلاد ففعل ذلك فسار عن بلبيس ونزل موضعًا يقال له السائح إلى طرف البلاد ولقاء العادل قبل دخول البلاد سابع ربيع الآخر فانهزم الأفضل ودخل القاهرة ليلًا‏.‏

وفي تلك الليلة توفي القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني كاتب الإنشاء لصلاح الدين ووزيره فحضر الأفضل الصلاة عليه وسار العادل فنزل على القاهرة وحصرها فجمع الأفضل من عنده من الأمراء واستشارهم فرأى منهم تخاذلًا فأرسل رسولًا إلى عمه في الصلح وتسليم البلاد إليه وأخذ العوض عنها وطلب دمشق فلم يجبه العادل فنزل عنها إلى حران والرها فمل يجبه فنزل إلى ميافارقين وحاني وجبل جور فأجابه إلى ذلك وتحالفوا عليه وخرج الأفضل من مصر ليلة السبت ثامن عشر ربيع الآخر واجتمع بالعادل وسار إلى صرخد ودخل العادل إلى القاهرة يوم السبت ثامن عشر ربيع الآخر‏.‏

ولما وصل الأفضل إلى صرخد أرسل من تسلم ميافارقين وحاني وجبل جور فامتنع نجم الدين أيوب ابن الملك العادل من تسليم ميافارقين وسلم ما عداها فترددت الرسل بين الأفضل والعادل في ذلك والعادل يزعم أن ابنه عصاه فأمسك عن المراسلة في ذلك لعلمه أن هذا فعل بأمر العادل‏.‏

ولما ثبتت قدم العادل بمصر قطع خطبة الملك المنصور ابن الملك العزيز في شوال من السنة وخطب لنفسه وحاقق الجند في إقطاعاتهم واعتراضهم في أصحابهم ومن عليهم من العسكر المقرر فتغيرت لذلك نياتهم فكان ما نذكره سنة سبع وتسعين إن شاء الله‏.‏

ذكر وفاة خوارزم شاه

في هذه السنة في العشرين من رمضان توفي خوارزم شاه تكش بن ألب أرسلان صاحب خوارزم وبعض خراسان والري وغيرها من البلاد الجبالية بشهرستانة بين نيسابور وخوارزم‏.‏

وكان قد سار من خوارزم إلى خراسان وكان به خوانيق فأشار عليه الأطباء بترك الحركة فامتنع وسار فلما قارب شهرستانة اشتد مرضه ومات ولما اشتد مرضه أرسلوا إلى ابنه قطب الدين محمد يستدعونه ويعرفونه شدة مرض أبيه فسار إليهم وقد مات أبوه فولي الملك بعده ولقب علاء الدين لقب أبيه وكان لقبه قطب الدين وأمر فحمل أبوه ودفن بخوارزم في تربة عملها في مدرسة بناها كبيرة عظيمة وكان عادلًا حسن السيرة له معرفة حسنة وعلم يعرف الفقه على مذهب أبي حنيفة ويعرف الأصول‏.‏

وكان ولده علي شاه بأصفهان فأرسل إليه أخوه خوارزم شاه محمد يستدعيه فسار إليه فنهب أهل أصفهان خزانته ورحله فلما وصل إلى أخيه ولاه حرب أهل خراسان والتقدم على جندها وسلم إليه نيسابور وكان هندوخان بن ملكشاه بن خوارزم شاه تكش يخاف عمه محمدًا فهرب منه ونهب كثيرًا من خزائن جده تكش لما مات وكان معه وسار إلى مرو‏.‏

ولما سمع غياث الدين ملك غزنة بوفاة خوارزم شاه أمر أن لا تضرب نوبته ثلاثة أيام وجلس للعزاء على ما بينهما من العداوة والمحاربة فعل ذلك عقلًا منه ومروءة ثم إن هندوخان جمع جمعًا كثيرًا يخرسان فسير إليه عمه خوارزم شاه محمد جيشًا مقدمهم جقر التركي فلما سمع هندوخان بمسيرهم هرب عن خراسان وسار إلى غياث الدين يستنجده على عمه فأكرم لقاءه وإنزاله وأقطعه ووعده النصرة فأقام عنده ودخل جقر مدينة مرو وبها والدة هندوخان وأولاده فاستظهر عليهم وأعلم صاحبه فأمره بإرسالهم إلى خوارزم مكرمين فلما سمع غياث الدين ذلك أرسل إلى محمد بن جربك صاحب الطالقان يأمره أن يرسل إلى جقر يتهدده ففعل ذلك وسار من الطالقان فأخذ مرو الروذ والخمس قرى وتسمى بالفارسية بنج ده وأرسل إلى جقر يأمره بإقامة الخطبة بمرو لغياث الدين أو يفارق البلد فأعاد الجواب يتهدد ابن جربك ويتوعده وكتب إليه سرًا يسأله أن يأخذ له أمانًا من غياث الدين ليحضر خدمته فكتب إلى غياث الدين بذلك فلما قرأ كتابه علم أن خوارزم شاه ليس له قوة فلهذا طلب جقر الانحياز إليه فقوي طمعه في البلاد وكتب إلى أخيه شهاب الدين يأمره بالخوارج إلى خراسان ليتفقا على أخذ بلاد خوارزم شاه محمد‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في جمادى الآخرة وثب الملاحدة الإسماعيلية على نظام الملك مسعود بن علي وزير خوارزم شاه تكش فقتلوه وكان صالحًا كثير الخير حسن السيرة شافعي المذهب بنى للشافعية بمرو جامعًا مشرفًا على جامع الحنفية فتعصب شيخ الإسلام وهو مقدم الحنابلة بها قديم الرياسة وجمع الأوباش فأحرقه‏.‏

فأنفذ خوارزم شاه فأحضر شيخ الإسلام وجماعة ممن سعى في ذلك فأغرمهم مالًا كثيرًا‏.‏

وبنى الوزير أيضاَ مدرسة عظيمة بخوارزم وجامعًا وجعل فيها خزانة كتب وله آثار حسنة بخراسان باقية لوما مات خلف ولدًا صغيرًا فاستوزره خوارزم شاه رعاية لحق أبيه فأشير عليه أن يصلح له إلى أن أكبر فإن كنت أصلح فأنا المملوك فقال خوارزم شاه‏:‏ لست أعفيك وأنا وزيرك فكن مراجعي في الأمور فإنه لا يقف منها شيء‏.‏

فاستحسن الناس هذا ثم إن الصبي لم تطل أيامه فتوقبل خوارزم شاه بيسير‏.‏

و في هذه السنة في ربيع الأول توفي شيخنا أبو الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب بن سعد بن صدقة بن الخضر بن كليب الحراني المقيم ببغداد وله ست وتسعون سنة وشهران وكان عالي الإسناد في الحديث وكان ثقة صحيح السماع‏.‏

وفي ربيع الآخر منها توفي القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الكاتب المشهور لم يكن في زمانه أحسن كتابة منه ودفن بظاهر مصر بالقرافة وكان دينًا كثير الصدقة والعبادة وله وقوف كثيرة على الصدقة وفك الأسارى وكان يكثر الحج والمجاورة مع اشتغاله بخدمة السلطان وكان السلطان صلاح الدين يعظمه ويحترمه ويكرمه ويرجع إلى قوله رحمهما الله‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة

ذكر ملك الملك الظاهر صاحب حلب منبج وغيرها من الشام

وحصره هو وأخوه الأفضل مدينة دمشق وعودهما عنها قد ذكرنا قبل ملك العادل ديار مصر وقطعه خطبة الملك المنصور ولد الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب وأنه لما فعل ذلك لم يرضه الأمراء المصريون وخبثت نياتهم في طاعته فراسلوا أخويه‏:‏ الظاهر بحلب والأفضل بصرخد وتكررت المكاتبات والمراسلات بينهم يدعونهم إلى قصد دمشق وحصرها ليخرج الملك العادل إليهم فإذا خرج إليهم من مصر أسلموه وصاروا معهما فيملكان البلاد‏.‏

وكثر ذلك حتى فشا الخبر واتصل بالملك العادل وانضاف إلى ذلك أن النيل لم يزد بمصر الزيادة التي تركب الأرض ليزرع الناس فكثر الغلاء فضعفت قوة الجند وكان فخر الدين جركس قد فارق مصر إلى الشامخ هو وجماعة من المماليك الناصرية لحصار بانياس ليأخذها لنفسه بأمر العادل وكانت لأمير كبير تركي اسمه بشارة قد اتهمنه العادل فأمر جركس بذلك‏.‏

وكان أمير من أمراء العادل يعرف بأسامة قد حج هذه السنة فلما عاد من الحج وقارب صرخد نزل الملك الأفضل فلقيه وأكرمه ودعاه إلى نفسه فأجابه وحلف له وعرفه الأفضل جلية الحال وكان أسامة من بطانة العادل وإنما حلف لينكشف له الأمر فلما فارق الأفضل أرسل إلى العادل وهو بمصر يعرفه الخبر جميعه فأرسل إلى ولده الذي بدمشق يأمره بحصر الأفضل بصرخد وكتب إلى إياس جركس وميمون القصري صاحب بلبيس وغيرهما من الناصرية يأمرهم الاجتماع مع ولده على حصر الأفضل‏.‏

وسمع الأفضل الخبر فسار إلى أخيه الظاهر بحلب مستهل جمادى الأولى من السنة ووصل إلى حلب عاشر الشهر وكان الظاهر قد أرسل أميرًا كبيرًا من أمرائه إلى عمه العادل فمنعه العادل من الوصول إليه وأمره بأن يكتب رسالته فلم يفعل وعاد لوقته فتحرك الظاهر لذلك وجمع عسكره وقصد منبج فملكها للسادس والعشرين من رجب وسار إلى قلعة نجم وحصرها فتسلمها سلخ رجب‏.‏

وأما ابن العادل المقيم بدمشق فإنه سار إلى بصرى وأرسل إلى جركس ومن معه وهم على بانياس يحصرونها يدعوهم إليه فلم يجيبوه إلى ذلك بل غالطوه فلما طال مقامه على بصرى عاد إلى دمشق وأرسل الأمير أسامة إليهم يدعوهم إلى مساعدته فاتفق أنه جرى بينه وبين البكى الفارس بعض المماليك الكبار الناصرية منافرة فأغلظ له البكى القول وتعدى إلى الفعل باليد وثار العسكر جميعه على أسامة فاستذم بميمون فأمنه وأعاده إلى دمشق واجتمعوا كلهم عند الملك الظافر خضر بن صلاح الدين وأنزلوه من صرخد وأرسلوا إلى الملك الظاهر والأفضل يحثونهما على الوصول إليهم والملك الظاهر يتربص ويتعوق فوصل من منبج إلى حماة في عشرين يومًا وأقام على حماة يحصرها وبها صاحبها ناصر الدين محمد بن تقي الدين إلى تاسع عشر شهر رمضان فاصطلحا وحمل له ابن تقي الدين ثلاثين ألف دينار صورية وساروا منها إلى حمص ثم سارا منها إلى دمشق على طريق بعلبك فنزلوا عليها عند مسجد القدم فلما نزلوا على دمشق أتاهم المماليك الناصرية مع الملك الظافر خضر بن صلاح الدين وكانت القاعدة استقرت بني الظاهر وأخيه الأفضل أنهم إذا ملكوا دمشق تكون بيد الأفضل وكانت القاعدة استقرت بني الظاهر وأخيه الأفضل أنهم إذا ملكوا دمشق تكون بيد الأفضل ويسيرون إلى مصر فإذا ملكوها تسلم الظاهر دمشق فيبقى الشام جميعه له وتبقى مصر للأفضل وسلم الأفضل صرخد إلى زين الدين قراجة مملوك والده ليحضر في خدمته وأنزل والدته وأهله منها وسيرهم إلى حمص فأقاموا عند أسد الدين شيركوه صاحبها‏.‏

وكان الملك العادل قد سار من مصر إلى الشام فنزل على مدينة نابلس وسير جمعًا من العسكر إلى دمشق ليحفظها فوصلوا قبل وصول الظاهر والأفضل وحضر فخر الدين جركس وغيره من الناصرية عند الظاهر وزحفوا إلى دمشق وقاتلوها رابع عشر ذي القعدة واشتد القتال عليها فالتصق الرجل بالسور فأدركهم الليل فعادوا وقد قوي الطمع في أخذها ثم زحفوا إليها مرة ثانية وثالثة فلم يبق إلا ملكها لأن العسكر صعد إلى سطح خان ابن المقدم وهو ملاصق السور فلو لم يدركهم الليل لملكوا البلد فلما أدركهم الليل وهم عازمون على الزحف بكرة وليس لهم عن البلد مانع حسد الظاهر أخاه الأفضل فأرسل إليه يقول له تكون دمشق له وبيده ويسير العساكر معه إلى مصر‏.‏

فقال له الأفضل قد علمت أن والدتي وأهلي وهم أهلك أيضًا على الأرض ليس لهم موضع يأوون إليه فاحسب أن هذا البلد لك تعيرناه فلم يجبه الظاهر إلى ذلك ولج فلما رأى الأفضل ذلك الحال قال للناصرية وكل من جاء إليهم من الجند‏:‏ إن كنتم جئتم إلي فقد أذنت لكم في العود إلى العادل وإن كنتم جئتم إلى أخي الظاهر فأنتم وهو أخبر وكان الناس كلهم يريدون الأفضل فقالوا‏:‏ ما نريد سواك والعادل أحب إلينا من أخيك فأذن لهم في العود فهرب فخر الدين جركس وزين الدين قراجة الذي أعطاه الأفضل صرخد فمنهم من دخل دمشق ومنهم من عاد إلى إقطاعه فلما انفسخ الأمر عليهم عادوا إلى تجديد الصلح مع العادل فترددت الرسل بينهم واستقر الصلح على أن يكون للظاهر منبج وأفامية وكفر طاب وقرى معينة من المعرة ويكون للأفضل سميساط وسروج ورأس عين وحملين ورحلوا عن دمشق أول المحرم سنة ثمان وتسعين فقصد الأفضل حمص فأقام بها وسار الظاهر إلى حلب ووصل العادل إلى دمشق تاسع المحرم وسار الأفضل إليه من حمص فاجتمع به بظاهر دمشق وعاد من عنده إلى حمص وسار منها ليتسلم سميساط فتسلمها وتسلم باقي ما استقر له‏:‏ رأس عين وسروج وغيرهما‏.‏

ذكر ملك غياث الدين وأخيه ما كان لخوارزم شاه بخراسان

قد ذكرنا مسير محمد بن خرميل من الطلقان‏.‏ واستيلاء على مرو الروذ وسؤال جقر اتركي نائب علاء الدين محمد خوارزم شاه بمرو أن يكون في جملة عسكر غياث الدين ولما وصل كتاب ابن خرميل إلى غياث الدين في معنى جقر علم أن هذا إنما دعاه إلى الانتماء إليهم ضعف صاحبه فأرسل إلى أخيه شهاب الدين يستدعيه إلى خراسان فسار من غزنة في عساكره وجنوده وعدته وما يحتاج إليه‏.‏

وكان بهراة الأمير عمر بن محمد المرغني نائبًا عن غياث الدين وكان يكره خروج غياث الدين إلى خراسان فأحضره غياث الدين واستشاره فأشار بالكف عن قصدها وترك المسير إليها فأنكر عليه ذلك و أراد إبعاده عنه ثم تركه ووصل شهاب الدين في عساكره وعساكر سجستان وغيرها في جمادى الأولى من هذه السنة فلما وصلوا إلى ميمنة وهي قرية بين الطالقان وكرزيان وصل إلى شهاب الدين كتاب جقر مستحفظ مرو يطلبه ليسلمها إليه فاستأذن أخاه غياث الدين فأذن له فسار إليها فخرج أهلها مع العسكر الخوارزمي وقاتلوه فأمر أصحابه بالحملة عليهم والجد في قتالهم فحملوا عليهم فأدخلوهم البلد وزحفوا بالفيلة إلى أن قاربوا السور فطلب أهل البلد الأمان فأمنهم وكف الناس عن التعرض إليهم وخرج جقر إلى شهاب الدين فوعده الجميل‏.‏ ثم حضر غياث الدين إلى مرو بعد فتحها فأخذ جقر وسيره إلى هراة مكرمًا وسلم مرو إلى هندوخان بن ملكشاه بن خوارزم شاه تكش وقد ذكرنا هربه من عمه خوارزم شاه محمد بن تكش إلى غياث الدين ووصاه بالإحسان إلى أهلها‏.‏

ثم سار غياث الدين إلى مدينة سرخس فأخذها صلحًا وسلمها إلى الأمير زنكي بن مسعود وهو من أولاد عمه وأقطعه معها نسا وأبيورد ثم سار بالعساكر إلى طوس فأراد الأمير الذي بها أن يمتنع فيها ولا يسلمها فأغلق باب البلد ثلاثة أيام فبلغ الخبز ثلاثة أمناء بدينار ركني فضج أهل البلد عليه فأرسل إلى غياث الدين يطلب الأمان فأمنه فخرج إليه فخلع عليه وسيره إلى هراة ولما ملكها أرسل إلى علي شاه بن خوارزم شاه تكش وهو نائب أخيه علاء الدين‏.‏

وكان مع علي شاه عسكر من خوارزم شاه فاتفقوا على الامتناع من تسليم البلد وحصنوه وخربوا ما بظاهره من العمارة وقطعوا الأشجار‏.‏

وسار غياث الدين إلى نيسابور فوصل إليها أوائل رجب وتقدم عسكر أخيه شهاب الدين إلى القتال فلما رأي غياث الدين ذلك قال لولده محمود‏:‏ قد سبقنا عسكر غزنة بفتح مرو ومن يريدون أن يفتحوا نيسابور فيحصلون بالاسم فاحمل إلى البلد ولا ترجع حتى تصل إلى السور فحمل وحمل معه وجوه الغورية فلم يردهم أحد من السور حتى اصعدوا علم غياث الدين إليه فلما رأى شهاب الدين علم أخيه على السور قال لأصحابه‏:‏ اقصدوا بنا هذه الناحية واصعدوا السور من هاهنا وأشار إلى مكان فيه فسقط السور منهدمًا فضج الناس بالتكبير وذهل الخوارزميون وأهل البلد ودخل الغورية البلد وملكوه عنوة ونهبوه ساعة من نهار فبلغ الخبر إلى غياث الدين فأمر بالنداء‏:‏ من نهب مالًا أو أذى أحدًا فدمه حلال فأعاد الناس ما نهبوه عن آخره‏.‏

ولقد حدثني بعض أصدقائنا من التجار وكان بنيسابور في هذه الحادثة‏:‏ نهب من متاعي شيء من جملته سكر فلما سمع العسكر النداء ردوا جميع ما أخذوا مني وبقي لي بساط وشيء من السكر فرأيت السكر مع جماعة فطلبته منهم فقالوا‏:‏ أما السكر فأكلناه فنسألك ألا يسمع أحد وإن أردت ثمنه أعطيناك فقلت‏:‏ أنتم في حل منه ولم يكن البساط مع أولئك قال‏:‏ فمشيت إلى باب البلد مع النظارة فرأيت البساط الذي لي قد ألقي عند باب البلد لم يجسر أحد على أن يأخذه فأخذته وقلت‏:‏ هذا لي فطلبوا مني من يشهد به فأحضرت من شهد لي وأخذته‏.‏

ثم إن الخوارزميين تحصنوا بالجامع فأخرجهم أهل البلد فأخذهم الغورية ونهبوا ما لهم وأخذ علي شاه بن خوارزم شاه وأحضر عند غياث الدين رجلًا فأنكر ذلك على من أحضره وعظم الأمر فيه وحضرت داية كانت لعلي شاه وقالت لغياث الدين‏:‏ أهكذا يفعل بأولاد الملوك فقال‏:‏ لا‏!‏ بل هكذا وأخذ بيده وأقعده معه على السرير وطيب نفسه وسير جماعة الأمراء الخوارزمية إلى هراة تحت الاستظهار وأحضر غياث الدين ابن عمه وصهره على ابنته ضياء الدين محمد بن أبي علي الغوري وولاه حرب خراسان وخراجها ولقبه علاء الدين وجعل معه وجوه الغورية ورحل إلى هراة وسلم علي شاه إلى أخيه شهاب الدين وأحسن إلى أهل نيسابور وفرق فيهم مالًا كثيرًا‏.‏

ثم رحل بعده شهاب الدين إلى ناحية قهستان فوصل إلى قرية فذكر له أن أهلها إسماعيلية فأمر بقتل المقاتلة ونهب الأموال وسبي الذراري وخرب القرية فجعلها خاوية على عروشها ثم سار إلى كناباد وهي من المدن التي جميع أهلها إسماعيلية فنزل عليها وحصرها فأرسل صاب قهستان إلى غياث الدين يشكو أخاه شهاب الدين ويقول‏:‏ بيننا عهد فما الذي بدا منا حتى تحاصر بلدي واشتد خوف الإسماعيلية الذين بالمدينة من شهاب الدين فطلبوا الأمان ليخرجوا منها فأمنهم وأخرجهم وملك المدينة وسلمها إلى بعض الغورية فأقام بها الصلاة وشعار الإسلام ورحل شهاب الدين فنزل على حصن آخر للإسماعيلية فوصل إليه رسول أخيه غياث الدين فقال الرسول‏:‏ معي تقدم من السلطان فلا يجري حرد إن فعلته فقال‏:‏ لا فقال‏:‏ إنه يقول لك ما لك ولرعيتي ارحل قال‏:‏ لا أرحل‏!‏ قال‏:‏ إذن أفعل ما أمرني‏.‏

قال‏:‏ افعل فسل سيفه وقطع أطناب سرادق شهاب الدين وقال‏:‏ ارحل بتقدم السلطان فرحل شهاب الدين والعسكر وهو كاره وسار إلى بلد الهند ولم يقم بغزنة غضبًا لما فعله أخوه معه‏.‏

ذكر قصد نور الدين بلاد العادل والصلح بينهما

في هذه السنة أيضًا تجهز نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل وجمع عساكره وسار إلى بلاد الملك العادل بالجزيرة‏:‏ حران والرها وكان سبب حركته أن الملك العادل لما ملك مصر على ما ذكرناه قبل اتفق نور الدين والملك الظاهر صاحب حلب وصاحب ماردين وغيرهما على أن يكونوا يدًا واحدة متفقين على منع العادل عن قصد أحدهم فلما تجددت حركة الأفضل والظاهر أرسلا إلى نور الدين ليقصد البلاد الجزرية فسار عن الموصل في شعبان من هذه السنة وسار معه ابن عمه قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي صاحب سنجار ونصيبين وصاحب ماردين ووصل إلى رأس عين وكان الزمان قيظًا فكثرت الأمراض في وكان بحران ولد العادل يلقب بالملك الفائز ومعه عسكر يحفظ البلاد فلما وصل نور الدين إلى رأس عين جاءته رسل الفائز ومن معه من أكابر الأمراء يطلبون الصلح ويرغبون فيه وكان نور الدين قد سمع بأن الصلح بدأ يتم بين الملك العادل والملك الظاهر والأفضل وانضاف إلى ذلك كثرة الأمراض في عسكره فأجاب إليه وحلف الملك لفائز ومن عنده من أكابر الأمراء عل القاعدة التي استقرت وحلفوا له أنهم يحلفون الملك العادل له فإن امتنع كانوا معه عليه وحلف هو للملك العادل‏.‏

وسارت الرسل من عنده ومن عند ولده في طلب اليمين من العادل فأجاب إلى ذلك وحلف له واستقرت القاعدة وأمنت البلاد وعاد نور الدين إلى الموصل في ذي القعدة من السنة‏.‏

ذكر ملك شهاب الدين نهرواله

لما سار شهاب الدين من خراسان على ما ذكرناه لم يقم بغزنة وقصد بلاد الهند وأرسل مملوكه قطب الدين أيبك إلى نهرواله فوصلها سنة ثمان وتسعين فلقيه عسكر الهنود فقاتلوه قتالًا شديدًا فهزمهم أيبك واستباح معسكرهم وما لهم فيه من الدواب وغيرها وتقدم إلى نهرواله فملكها عنوة وهرب ملكها فجمع وحشد فكثر جمعه‏.‏

وعلم شهاب الدين أنه لا يقدر على حفظها إلا بأن يقيم هو فيها ويخليها من أهلها ويتعذر عليه ذلك فإن البلد عظيم هو أعظم بلاد الهند وأكثرهم أهلًا فصالح صاحبها على مال يؤديه إليه عاجلًا وآجلًا وأعاد عساكره عنها وسلمها إلى صاحبها‏.‏

ذكر ملك ركن الدين ملطية من أخيه وأرزن الروم

في هذه السنة في شهر رمضان ملك ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان مدينة ملطية وكانت لأخيه معز الدين قيصر شاه فسار إليه وحصره أيامًا وملكها وسار منها إلى أرزن الروم وكانت لولد الملك ابن محمد بن صلتق وهم بيت قديم قد ملكوا أرزن الروم هذه مدة طويلة فلما سار إليها وقاربها خرج صاحبها إليه ثقة به ليقرر معه الصلح على قاعدة يؤثرها ركن الدين فقبض عليه واعتقله عنده وأخذ البلد وكان هذا آخر أهل بيته الذين ملكوا فتبارك الله الحي القيوم الذي لا يزول ملكه أبدًا سرمدًا‏.‏

ذكر وفاة سقمان صاحب آمد وملك أخيه محمود

في هذه السنة توفي قطب الدين سقمان بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان صاحب آمد وحصن كيفا سقط من سطح جوسق كان له بظاهر حصن كيفا فمات وكان شديد الكراهة لأخيه هذا والنفور عنه قد أبعده وأنزله حصن منصور في آخر بلادهم واتخذ مملوكًا اسمه إياس فزوجه أخته وأحبه حبًا شديدًا وجعله ولي عهده فلما توفي ملك بعده عدة أيام وتهدد وزيرًا كان لقطب الدين وغيره من أمراء الدولة فأرسلوا إلى أخيه محمود سرًا يستدعونه فسار مجدًا فوصل إلى آمد وقد سبقه إليها إياس مملوك أخيه فلم يقدم على الامتناع فتسلم محمود البلاد جميعها وملكها وحبس المملوك فبقي مدة محبوسًا ثم شفع له صاحب بلاد الروم فأطلق من الحبس وسار إلى الروم فصار أميرًا من أمراء الدولة‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة اشتد الغلاء بالبلاد المصرية لعدم زيادة النيل وتعذرت الأقوات حتى أكل الناس الميتة وأكل بعضهم بعضًا ثم لحقهم عليه وباء وموت كثير أفنى الناس‏.‏

وفي شعبان منها تزلزلت الأرض بالموصل وديار الجزيرة كلها والشام ومصر وغيرها فأثرت في الشام آثارًا قبيحة وخربت كثيرًا من الدور بدمشق وحمص وحماة وانخسفت قرية من قرى بصرى وأثرت في الساحل الشامي أثرًا كثيرًا فاستولى الخراب على طرابلس وصور وعكا ونابلس وغيرها من القلاع ووصلت الزلزلة إلى بلاد الروم وكانت بالعراق يسيرة لم تهدم دورًا‏.‏

وفيها ولد ببغداد طفل له رأسان وذلك أن جبهته مفروقة بمقدار ما يدخل فيها ميل‏.‏

و في هذه السنة في شهر رمضان توفي أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي الحنبلي الواعظ ببغداد وتصانيفه مشهورة وكان كثير الوقيعة في الناس لا سيما في العلماء المخالفين لمذهبه والموافقين له وكان مولده سنة عشر وخمسمائة‏.‏

وفيه أيضًا توفي عيسى بن نصير النميري الشاعر وكان حسن الشعر وله أدب وفضل وكان موته ببغداد‏.‏

وفيها توفي العماد أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد بن محمد بن أله أوله باللام المشددة وهو العماد الكاتب الأصفهاني كتب لنور الدين محمود ابن زنكي ولصلاح الدين يوسف بن أيوب ـ رضي الله عنه ـ ما وكان كاتبًا مفلقًا قادرًا على القول‏.‏

وفيها جمع عبد الله بن حمزة العلوي المتغلب على جبال اليمن جموعًا كثيرة فيها اثنا عشر ألف فارس ومن الرجالة ما لا يحصى كثرة وكان قد انضاف إليه من جند المعز بن إسمعيل بن سيف الإسلام طغدكين بن أيوب صاحب اليمن خوفًا منه وأيقنوا بملك البلاد واقتسموها

وخافهم ابن سيف الإسلام خوفًا عظيمًا فاجتمع قواد عسكر ابن حمزة ليلًا ليتفقوا على رأي يكون العمل بمقتضاه وكانوا اثني عشر قائدًا فنزلت عليهم صاعقة أهلكتهم جميعهم فأتى الخبر ابن سيف الإسلام في باقي الليلة بذلك فسار إليهم مجدًا فأوقع بالعسكر المجتمع فلم يثبتوا له وانهزموا بين يديه ووضع السيف فيهم فقتل منهم ستة آلاف قتيل أو أكثر من ذلك وثبت ملكه واستقر بتلك الأرض‏.‏

وفيها وقع في بني عنزة بأرض الشراة بين الحجاز واليمن وباء عظيم وكانوا يسكنون في عشرين قرية فوقع الوباء في ثماني عشرة قرية فلم يبق منهم أحد‏.‏

وكان الإنسان إذا قرب من تلك القرى يموت ساعة ما يقاربها فتحاماها الناس وبقيت إبلهم وأغنامهم لا مانع لها وأما القريتان الأخريان فلم يمت فيهما أحد ولا أحسوا بشيء مما كان فيه أولئك‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وخمسمائة