المجلد العاشر - ذكر الوقعة التي أفنت الخطا

لما فعل خوارزم شاه بالخطا ما ذكرناه مضى من سلم منهم إلى ملكهم فإنه لم يحضر الحرب فاجتمعوا عنده وكان طائفة عظيمة من التتر قد خرجوا من بلادهم حدود الصين قديمًا ونزلوا وراء بلاد تركستان وكان بينهم وبين الخطا عداوة وحروب فلما سمعوا بما فعله خوارزم شاه بالخطا قصدوهم مع ملكهم كشلي خان فلما رأى ملك الخطا ذلك أرسل إلى خوارزم شاه يقول له‏:‏ أما ما كان منك من أخذ بلادنا وقتل رجالنا فعفو عنه وقد أتى من هذا العدو من لا قبل لنا به وإنهم إن انتصروا علينا وملكونا فلا دافع لهم عنك والمصلحة أن تسير إلينا بعساكرك وتنصرنا على قتالهم ونحن نحلف لك أننا إذا ظفرنا بهم لا نتعرض إلى ما أخذت من البلاد ونقنع بما في أيدينا‏.‏

وأرسل إليه كشلي خان ملك التتر يقول‏:‏ إن هؤلاء الخطا أعداؤك وأعداء آبائك وأعداؤنا فساعدنا عليهم ونحلف أننا إذا انتصرنا عليهم لا نقرب بلادك ونقنع بالمواضع التي ينزلونها فأجاب كلًا منهما‏:‏ إنني معك ومعاضدك على خصمك‏.‏

وسار بعسكره إلى أن نزل قريبًا من الموضع الذي تصافوا فيه فلم يخالطهم مخالطة يعلم بها أنه من أحدهما فكانت كل طائفة منهم تظن أنه معها وتواقع الخطا والتتر فانهزم الخطا هزيمة عظيمة فمال حينئذ خوارزم شاه وجعل يقتل ويأسر وينهب ولم يترك أحدًا ينجو منهم فلم يسلم منهم إلا طائفة يسيرة مع ملكهم في موضع من نواحي الترك يحيط به جبل ليس إليه طريق إلا من جهة واحدة تحصنوا فيه وانضم إلى خوارزم شاه منهم طائفة وساروا في عسكره وأنفذ خوارزم شاه إلى كشلي خان ملك التتر يمن عليه بأنه حضر لمساعدته ولولاه لما تمكن من الخطا فاعترف له كشلي خان بذلك مدة ثم أرسل إليه يطلب منه المقاسمة على بلاد الخطا وقال‏:‏ كما أننا اتفقنا على إبادتهم ينبغي أن نقتسم بلاهم فقال‏:‏ ليس لك عندي غير السيف

ولستم بأقوى من الخطا شوكة ولا أعز ملكًا فإن قنعت بالمساكتة وإلا سرت إليك وفعلت بك شرًا مما فعلت بهم‏.‏

وتجهز وسار حتى نزل قريبًا منهم وعلم خوارزم شاه أنه لا طاقة له به فكان يراوغه فإذا سار إلى موضع قصد خوارزم شاه أهله وأثقالهم فينهبها وإذا سمع أن طائفة سارت عن مواطنهم سار إليها فأوقع بها فأرسل إليه كشلي خان يقول له‏:‏ ليس هذا فعل الملوك‏!‏ هذا فعل اللصوص وإلا إن كنت سلطانًا كما تقول فيجب أن نلتقي فإما أن تهزمني وتملك البلاد التي بيدي وإما أفعل أنا بك ذلك‏.‏

فكان يغالطه ولا يجيبه إلى ما طلب لكنه أمر أهل الشاش وفرغاته وأسفيجاب وكاسان وما حولها من المدن التي لم يكن في الدنيا أنزه منها ولا أحسن عمارة بالجلاء منها واللحاق ببلاد الإسلام ثم خربها جميعها خوفًا من التتر أن يملكوها‏.‏

ثم اتفق خروج هؤلاء التتر الآخر الذين خربوا الدنيا وملكهم جنكزخان النهرجي على كشلي خان ملك التتر الأول فاشتغل بهم كشلي خان عن خوارزم شاه فخلا وجهه فعبر النهر إلى خراسان‏.‏

في هذه السنة ملك الملك الأوحد نجم الدين أيوب ابن مالك العادل أبي بكر ابن أيوب مدينة خلاط‏.‏

وسبب ذلك أنه كان بمدينة ميافارقين من أبيه فلما كان من ملك بلبان خلاط ما ذكرناه قصد هو مدينة موش وحصرها وأخذها وأخذ معها ما يجاورها‏.‏

وكان بلبان لم تثبت قدمه حتى منعه فلما ملكها طمع في خلاط فسار إليها فزهمه بلبان كما ذكرناه أيضًا فعاد إلى بلده وجمع وحشد وسير إليه أبوه جيشًا فقصد خلاط فسار إليه بلبان فتصافا واقتتلا فانهزم بلبان وتمكن نجم الدين من البلاد وازداد منها‏.‏

ودخل بلبان خلاط واعتصم بها وأرسل رسولًا إلى مغيث الدين طغرل شاه بن قلج أرسلان وهو صاحب أرزن الروم يستنجده على نجم الدين فحضر بنفسه ومعه عسكره فاجتمعا وهزما نجم الدين وحصرا موش فأشرف الحصن على أن يملك فغدر ابن قلج أرسلان بصاحب خلاط وقتله طمعًا في البلاد فلما قتله سار إلى خلاط فمنعه أهلها عنها فسار إلى ملازكرد فرده أهلها أيضًا وامتنعوا عليه فلما لم يجد في شيء من البلاد مطمعًا عاد إلى بلده‏.‏

فأرسل أهل خلاط إلى نجم الدين يستدعونه إليهم ليملكوه فحضر عندهم وملك خلاط وأعمالها سوى اليسير منها وكره الملوك المجاورون له ملكه لها خوفًا من أبيه وكذلك أيضًا خافه الكرج وكرهوه فتابعوا الغارات على أعمال خلاط وبلادها ونجم الدين مقيم بخلاط لا يقدر على مفارقتها فلقي المسلمون من ذلك أذى شديدًا‏.‏

واعتزل جماعة من عسكر خلاط واستولوا على حصن وان وهو من أعظم الحصون وأمنعها وعصوا على نجم الدين واجتمع إليهم جمع كثير وملكوا مدينة أرجيش فأرسل نجم الدين إلى أبيه الملك العادل يعرفه الحال ويطلب منه أن يمده بعسكر فسير إليه أخاه الملك الأشرف موسى بن العادل في عسكر فاجتمعا في عسكر كثير وحصرا قلعة وان وبها الخلاطية وجدوا في قتالهم فضعف أولئك عن مقاومتهم فسلموها صلحًا وخرجوا منها وتسلمها نجم الدين واستقر ملكه بخلاط وأعمالها وعاد أخوه الأشرف إلى بلده حران والرها‏.‏

ذكر غارات الفرنج بالشام

و في هذه السنة كثر الفرنج الذين بطرابلس وحصن الأكراد وأكثروا الإغارة على بلد حمص وولاياتها ونازلوا مدينة حمص وكان جمعهم كثيرًا لم يكن لصاحبها أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه بهم قوة ولا يقدر على دفعهم ومنعهم فاستنجد الظاهر غازي صاحب حلب وغيره من ملوك الشام فلم ينجده إلا الظاهر فإنه سير له عسكرًا أقاموا عنده ومنعوا الفرنج عن ولايته‏.‏

ثم إن الملك العادل خرج من مصر بالعساكر الكثيرة وقصد مدينة عكا فصالحه صاحبها الفرنجي على قاعدة استقرت من إطلاق أسرى من المسلمين وغير ذلك ثم سار إلى حمص فنزل على بحيرة قدس وجاءته عساكر الشرق وديار الجزيرة ودخل إلى بلاد طرابلس وحاصر موضعًا يسمى القليعات وأخذه صلحًا وأطلق صاحبه وغنم ما فيه من دواب وسلاح وخربه وتقدم إلى طرابلس فنهب وأحرق وسبى وغنم وعاد وكانت مدة مقامه في بلد الفرنج اثني عشر يومًا وعاد إلى بحير قدس‏.‏

وترددت الرسل بينه وبين الفرنج في الصلحخ فلم تستقر قاعدة ودخل الشتاء وطلبت العساكر الشرقية العود إلى بلادهم قبل البرد الشديد فنزل طائفة من العسكر بحمص عند صاحبها وعاد إلى دمشق فشتى بها وعادت عساكر ديار الجزيرة إلى أماكنها‏.‏

وكان سبب خروجه من مصر بالعساكر أن أهل قبرس من الفرنج أخذوا عدة قطع من أسطول مصر وأسروا من فيها فأرسل العادل إلى صاحب عكا في رد ما أخذ ويقول‏:‏ نحن صلح فلم غدرتم بأصحابنا فاعتذر بأن أهل قبرس ليس لي عليهم حكم و أن مرجعهم إلى الفرنج الذين بالقسطنطينية ثم إن أهل قبرس ساروا إلى القسطنطنية بسبب غلاء كان عندهم وتعذرت عليهم الأقوات وعاد حكم قبرس إلى صاحب عكا وأعاد العادل مراسلته فلم ينفصل حال فخرج بالعساكر وفعل بعكا ما ذكرنا فأجابه حينئذ صاحبها إلى ما طلب وأطلق الأسرى‏.‏

ذكر الفتنة بخلاط وقتل كثير من أهلها

لما تم ملك خلاط وأعمالها للملك الأوحد بن العادل سار عنها إلى ملازكرد ليقرر قواعدها أيضًا ويفعل ما ينبغي أن يفعله فيها فلما فارق خلاط وثب أهلها على من بها من العسكر فأخرجوه من عندهم وعصوا وحصروا القلعة وبها أصحاب الأوحد ونادوا بشعار شاه أرمن وإن كان ميتًا يعنون بذلك رد الملك إلى أصحابه ومماليكه‏.‏

فبلغ الخبر إلى الملك الأوحد فعاد إليهم وقد وافاه عسكر من الجزيرة فقوي بهم وحصر خلاط فاختلف أهلها فمال إليه بعضهم حسدًا للآخرين فملكها وقتل بها خلقًا كثيرًا من أهلها وأسر جماعة من الأعيان فسيرهم إلى ميافارقين وكان كل يوم يرسل إليهم يقتل منهم جماعة فلم يسلم إلا القليل وذل أهل خلاط بعد هذه الواقعة وتفرقت كلمة الفتيان وكان الحكم إليهم وكفي الناس شرهم فإنهم كانوا قد صاروا يقيمون ملكًا ويقتلون آخر والسلطنة عندهم لا حكم لها وإنما الحكم لهم وإليهم‏.‏

في هذه السنة ملك الأمير نصرة الدين أبو بكر بن البهلوان صاحب أذربيجان مدينة مراغة‏.‏

وسبب ذلك أن صاحبها علاء الدين قراسنقر مات هذه السنة وولي بعده ابن له طفل وقام بتدبير دولته وتربيته خادم كان لأبيه فعصى عليه أمير كان مع أبيه وجمع جمعًا كثيرًا فأرسل إليه الخادم من عنده من العسكر فقاتلهم ذلك الأمير فانهزموا واستقر ملك ولد علاء الدين إلا أنه لم تطل أيامه حتى توفي في أول سنة خمس وستمائة وانقرض أهل بيته ولم يبق منهم أحد‏.‏

فلما توفي سار نصرة الدين أبو بكر من تبريز إلى مراغة فملكها واستولى عل جميع مملكة آل قراسنقر ما عدا قلعة روين دز فإنها اعتصم بها الخادم وعنده الخزائن والذخائر فامتنع بها على الأمير أبي بكر‏.‏

ذكر عزل نصير الدين وزير الخليفة

كان نصير الدين ناصر بن مهدي العلوي هذا من أهل الري من بيت كبير فقدم بغداد لما ملك مؤيد الدين بن القصاب وزير الخليفة الري ولقي من الخليفة قبولًا فجعله نائب الوزارة ثم جعله وزيرًا وحكمه وجعل ابنه صاحب المخزن‏.‏

فلما كان في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة عزل وأغلق بابه وكان سبب عزله أنه أساء السيرة مع أكابر مماليك الخليفة فمنهم أمير الحاج مظفر الدين سنقر المعروف بوجه السبع فإنه هرب من يده إلى الشام سنة ثلاث وستمائة فارق الحاج بالمرخوم وأرسل يعتذر من هربه ويقول‏:‏ إنني هربت من يد الوزير ثم أتبعه الأمير جمال الدين قشتمر وهو أخص المماليك وآثرهم عنده ومضى إلى لرستان وأرسل يعتذر ويقول‏:‏ إن الوزير يريد أن لا يبقي في خدمة الخليفة أحدًا من مماليكه ولا شك أنه يريد أن يدعي الخلافة وقال الناس في ذلك فأكثروا وقالوا الشعر فمن ذلك قول بعضهم‏:‏ ألا مبلغ عني الخليفة أحمدًا توق وقيت السوء ما أنت صانع وزيرك هذا بين أمرين فيهما فعالك يا خير البرية ضائع فإن كان حقًا من سلالة أحمد فهذا وزير في الخلافة طامع وإن كان فيما يدعي غير صادق فأضيع ما كانت لديه الصنائع فعزله وقيل في سبب ذلك غيره ولما عزل أرسل إلى الخليفة يقول‏:‏ إنني قدمت إلى هاهنا وليس لي دينار ولا درهم وقد حصل لي من الأموال والأعلاق النفيسة وغير ذلك ما يزيد على خمسة آلاف دينار ويسأل أن يؤخذ منه الجميع ويفرج عنه ويمكن من المقام بالمشهد أسوة ببعض فأجابه‏:‏ إننا ما أنعمنا عليك بشيء فنوينا استعادته منك ولو كان ملء الأرض ذهبًا ونفسك في أمان الله وأماننا ولم يبلغنا عنك ما تستوجب به ذلك غير أن الأعداء قد أكثروا فيك فاختر لنفسك موضعًا تنتقل إليه موفورًا محترمًا‏.‏

فاختار أن يكون تحت الاستظهار من جانب الخليفة لئلا يتمكن منه العدو فتذهب نفسه ففعل به ذلك‏.‏

وكان حسن السيرة قريبًا إلى الناس حسن اللقاء لهم والانبساط معهم عفيفًا عن أموالهم غير ظالم لهم فلما قبض عاد أمير الحاج من مصر وكان في الخدمة العادلية وعاد أيضًا قشتمر وأقيم في النيابة ي الوزارة فخر الدين أبو البدر محمد بن أحمد بن أمسينا الواسطي إلا أنه لم يكن متحكمًا‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة ليلة الأربعاء لخمس بقين من رجب زلزلت الأرض وقت السحر وكنت حينئذ بالموصل ولم تكن بها شديدة وجاءت الأخبار من كثير من البلاد بأنها زلزلت ولم تكن بالقوية‏.‏

وفيها أطلق الخليفة الناصر لدين الله جميع حق البيع وما يؤخذ من أرباب الأمتعة من المكوس من سائر المبيعات وكان مبلغًا كثيرًا‏.‏

وكان سبب ذلك أن بنتًا لعز الدين نجاح شرابي الخليفة توفيت فاشتري لها بقر لتذبح ويتصدق بلحمها عنها فرفعوا في حساب ثمنها مؤونة البقر فكانت كثيرة فوقف الخليفة على ذلك وأمر بإطلاق المؤونة جميعها‏.‏

وفيها في شهر رمضان أمر الخليفة ببناء دور في المحال ببغداد ليفرط فيها الفقراء وسميت دور الضيافة يطبخ فيها اللحم الضأن والخبز الجيد عمل ذلك في جانبي بغداد وجعل في كل دار من يوثق بأمانته وكان يعطي كل إنسان قدحًا مملوءًا من الطبيخ واللحم ومنًا من الخبز فكان يفرط كل ليلة على طعامه خلق لا يحصون كثرة‏.‏

وفيها زادت دجلة زيادة كثيرة ودخل الماء في خندق بغداد من ناحية باب كلواذى فخيف على البلد من الغرق فاهتم الخليفة بسد الخندق وركب فخر الدين نائب الوزارة وعز الدين الشرابي ووقفا ظاهر البلد فلم يبرحا حتى سد الخندق‏.‏

وفيها توفي الشيخ حنبل بن عبد الله بن الفرنج المكبر بجامع الرصافة وكان عالي الإسناد روى عن ابن الحصين مسند أحمد بن حنبل وله إسناد حسن وقدم الموصل وحدث بها وبغيرها‏.‏

ثم دخلت سنة خمس وستمائة

في هذه السنة سارت الكرج في جموعها إلى ولاية خلاط وقصدوا مدينة أرجيش فحصروها وملكوها عنوة ونهبوا جميع ما بها من الأموال والأمتعة وغيها وأسروا وسبوا أهلها وأحرقوها وخربوها بالكلية ولم يبق بها من أهلها أحد فأصبحت خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس‏.‏

وكان نجم الدين أيوب صاحب أرمينية بمدينة خلاط وعنده كثير من العساكر فلم يقدم على الكرج لأسباب‏:‏ منها كثرتهم وخوفه من أهل خلاط لما كان أسلف إليهم من القتل والأذى خاف أن يخرج منها فلا يمكن من العود إليها فلما لم يخرج إلى قتال الكرج عادوا إلى بلادهم سالمين لم يذعروهم ذاعر وهذا جميعه وإن كان عظيمًا شديدًا على الإسلام وأهله فإنه يسير بالنسبة إلى ما كان مما نذكره سنة أربع عشرة إلى سنة سبع عشرة وستمائة‏.‏

ذكر قتل سنجر شاه وملك ابنه محمود

في هذه السنة قتل سنجر شاه بن غازي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر صاحب جزيرة ابن عمر وهو ابن عم نور الدين صاحب الموصل قتله ابنه غازي ولقد سلك ابنه في قتله طريقًا عجيبًا يدل على مكر ودهاء‏.‏

وسبب ذلك أن سنجر كان سيء السيرة مع الناس كلهم من الرعية والجند والحريم والأولاد وبلغ من قبح فعله مع أولاده أنه سير ابنيه محمودًا ومودودًا إلى قلعة فرح من بلد الزوزان وأخرج ابنه هذا إلى دار بالمدينة أسكنه فيها ووكل به من يمنعه من الخروج‏.‏

وكانت الدار إلى جانب بستان لبعض الرعية فكان يدخل إليه منها الحيات والعقارب وغيرهما من الحيوان المؤذي ففي بعض الأيام اصطاد حية وسيرها في منديل إلى أبيه لعله يرق له فلم يعطف عليه فأعمل الحيلة حتى نزل من الدار التي كان بها واختفى ووضع إنسانًا كان يخدمه فخرج من الجزيرة وقصد الموصل وأظهر أنه غازي بن سنجر فلما سمع نور الدين بقربه منها أرسل نفقة وثيابًا وخيلًا وأمره بالعود وقال‏:‏ إن أباك يتجنى لنا الذنوب التي لم نعملها ويقبح ذكرنا فإذا صرت عند جعل ذلك ذريعة للشناعات والبشاعات ونقع معه في صراع لا ينادي وليده فسار إلى الشام‏.‏

وأما غازي بن سنجر فإنه تسلق إلى دار أبيه واختفى عند بعض سراريه وعلم به أكثر من بالدار فسترت عليه بغضًا لأبيه وتوقعًا للخلاص منه لشدته عليهن فبقي كذلك وترك أبوه الطلب له ظنًا منه أنه بالشام فاتفق أن أباه في بعض الأيام شرب الخمر بظاهر البلد مع ندمائه فكان يقترح على المغنين أن يغنوا في الفراق وما شاكل ذلك ويبكي ويظهر في قوله قرب الأجل

ودنوا الموت وزوال ما هو فيه فلم يزل كذلك إلى أخر النهار وعاد إلى داره وسكر عند بعض حظاياه ففي الليل دخل الخلاء وكان ابنه عند تلك الحظية فدخل إليه داره فضربه بالسكين أربع عشرة ضربة ثم ذبحه وتركه ملقى ودخل الحمام وقعد يلعب مع الجواري فلو فتح باب الدار وأحضر الجند واستحلفهم لملك البلد لكنه أمن واطمأن ولم يشك في الملك‏.‏

فاتفق أن بعض الخدم الصغار خرج إلى الباب وأعلم أستاذ دار سنجر الخبر فأحضر أعيان الدولة وعرفهم ذلك وأغلق الأبواب على غازي واستحلف الناس لمحمود بن سنجر شاه وأرسل إليه فأحضره من فرح ومعه أخوه مودود فلما حلف الناس وسكنوا فتحوا باب الدار على غازي ودخلوا عليه ليأخذوه فمانعهم عن نفسه فقتلوه وألقوه على باب الدار فأكلت الكلاب بعض لحمه ثم دفن باقيه‏.‏

ووصل محمود إلى البلد وملكه ولقب بمعز الدين لقب أبيه فلما استقر أخذ كثيرًا من الجواري اللواتي لأبيه فغرقهن في دجلة‏.‏

ولقد حدثني صديق لنا أنه رأى بدجلة في مقدار غلوة سهم سبع جوار مغرقات منهن ثلاث قد أحرقت وجوههن بالنار فلم أعلم سبب ذلك الحريق حتى حدثتني جارية اشتريتها بالموصل من جواريه أن محمودًا كان يأخذ الجارية فيجعل وجهها في النار فإذا احترقت ألقاها في وكان سنجر شاه قبيح السيرة ظالمًا غاشمًا كثير المخاتلة والمواربة والنظر في دقيق الأمور وجليلها لا يمتنع من قبيح يفعله مع رعيته وغيرهم من أخذ الأموال والأملاك والقتل والإهانة وسلك معهم طريقًا وعرًا من قطع الألسنة والأنوف والآذان وأما اللحى فإنه حلق منها ما لا يحصى‏.‏ وكان جل فكره في ظلم يفعله‏.‏

وبلغ من شدة ظلمه أنه كان إذا استدعى إنسانًا ليحسن إليه لا يصل إلا وقد قارب الموت من شدة الخوف واستعلى في أيامه السفهاء ونفقت سوق الأشرار والساعين بالناس فخرب البلد وتفرق أهله لا جزم سلط الله عليه أقرب الخلق إليه فقتله ثم قتل ولده غازي وبعد قليل قتل ولده محمود أخاه مودودًا وجرى في داره من التحريق والتغريق والتفريق ما ذكرنا بعضه ولو رمنا شرح قبح سيرته لطال والله تعالى بالمرصاد لكل ظالم‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة ثاني المحرم توفي أبو الحسن ورام بن أبي فراس الزاهد بالحلة السيفية وهو منها وكان صالحًا‏.‏

وفي صفر توفي الشيخ مصدق بن شبيب النحوي وهو من أهل واسط‏.‏

وفي شعبان توفي القاضي محمد بن أحمد بن المنداي والواسطي بها وكان كثير الرواية للحديث وله إسناد عال وهو آخر من حدث بمسند أحمد بن حنبل عن ابن الحصين‏.‏

وفيه توفي القوام أبو الفوارس نصر بن ناصر بن مكي المدائني صاحب المخزن ببغداد وكان أديبًا فاضلًا كامل المروءة يحب الأدب وأهله ويحب الشعر ويحسن الجوائز عليه ولما توفي ولي بعده أبو الفتوح المبارك ابن الوزير عضد الدين أبي الفرج بن رئيس الرؤساء وأكرم وأعلي محله فبقي متوليًا إلى سابع ذي القعدة وعزل لعجزه‏.‏

وفيها كانت زلزلة عظيمة بنيسابور وخراسان وكان أشدها بنيسابور وخرج أهلها إلى الصحراء أيامًا حتى سكنت وعادوا إلى مساكنهم‏.‏

ثم دخلت سنة ست وستمائة

ذكر ملك العادل الخابور ونصيبين وحصره سنجار


وعوده عنها واتفاق نور الدين أرسلان شاه ومظفر الدين في هذه السنة ملك العادل أبو بكر بن أيوب بلد الخابور ونصيبين وحصر مدينة سنجار والجميع من أعمال الجزيرة وهو بيد قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود‏.‏

وسبب ذلك أن قطب الدين المذكور كان بينه وبين ابن عمه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود صاحب الموصل عداوة مستحكمة وقد تقدم ذكر ذلك فلما كان سنة خمس وستمائة حصلت مصاهرة بين نور الدين والعادل فإن ولدًا للعادل تزوج بابنة لنور الدين وكان لنور الدين وزراء يحبون أن يشتغل عنهم فحسنوا له مراسلة العادل والاتفاق معه على أن يقتسما بالبلاد التي لقطب الدين وبالولاية التي لولد سنجر شاه بن غازي بن مودود وهي جزيرة ابن عمر وأعمالها فيكون ملك قطب الدين للعادل وتكون الجزيرة لنور الدين‏.‏

فوافق هذا القول هوى نور الدين فأرسل إلى العادل في المعنى فأجابه إلى ذلك مستبشرًا وجاءه ما لم يكن يرجوه لأنه علم أنه متى ملك هذه البلاد أخذ الموصل وغيرها وأطمع نور الدين أيضًا في أن يعطي هذه البلاد إذا ملكها لولده الذي هو زوج ابنة نور الدين ويكون مقامه في خدمته بالموصل واستقرت القاعدة على ذلك وتحالفا عليها فبادر العادل إلى المسير من دمشق إلى الفرات في عساكره وقصد الخابور فأخذه‏.‏

فلما سمع نور الدين بوصوله كأنه خاف واستشعر فأحضر من يرجع إلى رأيهم وقولهم وعرفهم وصول العادل واستشارهم فيما يفعله فأما من أشاروا عليه بذلك فسكتوا وكان فيهم من لم يعلم هذه الحال فعظم الأمر وأشار بالاستعداد للحصار وجمع الرجال وتحصيل الذخائر وما يحتاج إليه‏.‏

فقال نور الدين‏:‏ نحن فعلنا ذلك وخبره الخبر‏.‏

فقال‏:‏ بأي رأي تجيء إلى عدو لك هو أقوى منك وأكثر جمعًا وهو بعيد منك متى تحرك لقصدك تعلم به فلا يصل إلا وقد فرغت من جميع ما تريده تسعى حتى يصير قريبًا منك ويزداد قوة إلى قوته‏.‏

ثم إن الذي استقر بينكما أنه له يملكه أولًا بغير تعب ولا مشقة وتبقى أنت لا يمكنك أن تفارق الموصل إلى الجزيرة وتحصرها والعادل هاهنا هذا إن وفى لك بما استقرت القاعدة عليه لا يجوز أن تفارق الموصل وإن عاد إلى الشام لأنه قد صار له ملك خلاط وبعض ديار بكر وديار بكر وديار الجزيرة جميعها والجميع بيد أولاده متى سرت عن الموصل أمكنهم أمكنهم أن يحلوا بينك وبينها فما زدت على أن آذيت نفسك وابن عمك وقويت عدوك وجعلته شعارك وقد فات الأمر وليس يجوز إلا أن تقف معه على ما استقر بينكما لئلا يجعل كل حجة ويبتدئ بك‏.‏

هذا والعادل قد ملك الخابور ونصيبين وسار إلى سنجار فحصرها وكان في عزم صاحبها قطب الدين أن يسلمها إلى العادل بعوض يأخذه عنها فمنعه من ذلك أمير كان معه اسمه أحمد بن يرنقش مملوك أبيه زنكي وقام بحفظ المدينة والذب عنها وجهز نور الدين عسكرًا مع ولده الملك القاهر ليسيروا إلى الملك العادل‏.‏

فبينما الأمر على ذلك إذ جاءهم أمر لم يكن لهم في حساب وهو أن مظفر الدين كوكبري صاحب إربل أرسل وزيره إلى نور الدين يبذل من نفسه المساعدة على منع العادل عن سنجار وأن الاتفاق معه على ما يريده فوصل الرسول ليلًا فوقف مقابل دار نور الدين وصاح فعبر إليه سفينة عبر فيها واجتمع بنور الدين ليلًا وأبلغه الرسالة فأجاب نور الدين إلى ما طلب من الموافقة وحلف له على ذلك وعاد الوزير من ليلته فسار مظفر الدين واجتمع هو ونور الدين ونزلا بعساكرهما بظاهر الموصل‏.‏

وكان سبب ما فعله مظفر الدين أن صاحب سنجار أرسل ولده إلى مظفر الدين يستشفع به إلى العادل ليبقي عليه سنجار وكان مظفر الدين يظن أنه لو شفع في نصف ملك العادل لشفعه لأثره الجميل في خدمته وقيامه في الذب عن ملكه غير مرة كما تقدم فشفع إليه فلم يشفعه العادل وظنا منه أنه بعد اتفاقه مع نور الدين لا يبالي بمظفر الدين فلما رد العادل شفاعته راسل نور الدين في الموافقة عليه‏.‏

ولما وصل إلى الموصل واجتمع بنور الدين أرسلا إلى الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين وهو صاحب حلب وإلى كيخسرو بن قلج أرسلان صاحب بلاد الروم بالاتفاق معهما فكلاهما أجاب إلى ذلك فتواعدوا على الحركة وقصد بلاد العادل إن إمتنع من الصلح والإبقاء على صاحب سنجار وأرسلا أيضًا إلى الخليفة الناصر لدين الله ليرسل رسولًا إلى العادل في الصلح أيضًا فقويت حينئذ نفس صاحب سنجار على الامتناع ووصلت رسل الخليفة وهو هبة الله بن المبارك بن الضحاك أستاذ الدار والأمير آق باش وهو من خواص مماليك الخليفة وكبارهم فوصلا إلى الموصل وسارا منها إلى العادل وهو يحاصر سنجار وكان من معه لا يناصحونه في القتال لا سيما أسد الدين شيركوه صاحب حمص والرحبة فإنه كان يدخل إليها الأغنام وغيرها من الأقوات ظاهرًا ولا يقاتل عليها وكذلك غيره‏.‏

فلما وصلت رسل الخليفة إلى العادل أجاب أولًا إلى الرحيل ثم امتنع عن ذلك وغالط وأطال الأمر لعله يبلغ منها غرضًا فلم ينل منها ما أمله وأجاب إلى الصلح على أن يكون له ما أخذ وتبقى سنجار لصاحبها‏.‏

واستقرت القاعدة على ذلك وتحالفوا على هذا كلهم وعلى أن يكونوا يدًا واحدة على الناكث منهم ورحل العادل عن سنجار إلى حران وعاد مظفر الدين إلى إربل وبقي كل واحد من الملوك في بلده وكان مظفر الدين عند مقامه بالموصل قد زوج ابنتين له بولدين لنور الدين وهما عز الدين مسعود وعماد الدين زنكي‏.‏

في هذه السنة في ربيع الأول عزل فخر الدين بن أمسينا عن نيابة الوزارة للخليفة وألزم بيته ثم نقل إلى المخزن على سبيل الاستظهار عليه وولي بعده نيابة الوزارة مكين الدين محمد بن محمد بن عبد الكريم بن برز القمي كاتب الإنشاء ولقب مؤيد الدين ونقل إلى دار الوزارة مقابل باب النوبي‏.‏

وفيها في شوال توفي مجد الدين يحيى بن الربيع الفقيه الشافعي مدرس النظامية ببغداد‏.‏

وفيها توفي فخر الدين أبو الفضل محمد بن عمر ابن خطيب الري الفقيه الشافعي صاحب التصانيف المشهورة في الفقه والأصولين وغيرهما وكان إمام الدين في عصره وبلغني أن مولده سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة‏.‏

وفيها سلخ ذي الحجة توفي أخي مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم الكاتب مولده في أحد الربيعين سنة أربع وأربعين وكان عالمًا في عدة علوم مبرزًا فيها منها‏:‏ الفقه والأصولان والنحو والحديث واللغة وله تصانيف مشهورة في التفسير والحديث والنحو والحساب وغريب الحديث وله رسائل مدونة وكان كاتبًا مفلقًا يضرب به المثل ذا دين متين ولزوم طريق مستقيم رحمه الله ورضي عنه فلقد كان من محاسن الزمان ولعل من يقف على ما ذكرته يتهمني في قولي ومن عرفه من أهل عصرنا يعلم أني مقصر‏.‏

وفيها توفي المؤيد بن عبد الرحيم بن الإخوة بأصفهان وهو من أهل الحديث رحمه الله‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وستمائة

ذكر عصيان سنجر مملوك الخليفة بخوزستان ومسير العساكر إليه

كان قطب الدين سنجر مملوك الخليفة الناصر لدين الله قد ولاه الخليفة خوزستان بعد طاشتكين أمير الحاج كما ذكرناه فلما كان سنة ست وستمائة بدا منه تغير عن الطاعة فروسل في القدوم إلى بغداد فغالط ولم يحضر وكان يظهر الطاعة ويبطن التغلب على البلاد فبقي الأمر كذلك إلى الأول من هذه السنة فتقدم الخليفة إلى مؤيد الدين نائب الوزارة وإلى عز الدين بن نجاح الشرابي خاص الخليفة بالمسير بالعساكر إليه بخوزستان وإخراجه عنها فسارا في عساكر كثيرة إلى خوزستان فلما تحقق سنجر قصدهم إليه فارق البلاد ولحق بصاحب شيراز وهو أتابك عز الدين سعد ابن دكلا ملتجئًا إليه فأكرمه وقام دونه‏.‏

ووصل عسكر الخليفة إلى خوزستان في ربيع الآخر بغير ممانعة فلما استقروا في البلاد راسلوا سنجر يدعونه إلى الطاعة فلم يجب إلى ذلك فساروا إلى أرجان عازمين على قصد صاحب شيراز فأدركهم الشتاء فأقاموا شهورًا والرسل مترددة بينهم وبين صاحب شيراز فلم يجبهم إلى تسليمه فلما دخل شوال رحلوا يريدون شيراز فحينئذ أرسل صاحبها إلى الوزير والشرابي يشفع فيه ويطلب العهد له على أن لا يؤذى فأجيب إلى ذلك وسلمه إليهم هو وماله وأهله فعادوا إلى بغداد وسنجدر معهم تحت الاستظهار وولى الخليفة بلاد خوزستان مملوكه ياقوتًا أمير الحاج‏.‏

ووصل الوزير إلى بغداد في المحرم سنة ثمان وستمائة هو والشرابي والعساكر وخرج أهل بغداد إلى تلقيهم فدخلوها وسنجر معهم راكبًا على بغل بإكاف وفي رجله سلسلتان في يد كل جندي سلسلة وبقي محبوسًا إلى أن دخل صفر فجمع الخلق الكثير من الأمراء والأعيان إلى دار مؤيد الدين نائب الوزارة فأحضر سنجر وقرر بأمور نسبت إليه منكرة فأقر بها فقال مؤيد الدين للناس‏:‏ قد عرفتم ما تقتضيه السياسة من عقوبة هذا الرجل وقد عفا أمير المؤمنين عنه وأمر بالخلع عليه فلبسها وعاد إلى داره فعجب الناس من ذلك‏.‏

وقيل إن أتابك سعد نهب مال سنجر وخزانته ودوابه وكل ماله ولأصحابه وسيرهم فلما وصل سنجر إلى الوزير والشرابي طلبوا المال فأرسل شيئًا يسيرًا والله أعلم‏.‏

وشيء من سيرته في هذه السنة أواخر رجب توفي نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل وكان مرضه قد طال ومزاجه قد فسد وكانت مدة ملكه سبع عشرة سنة واحد وأحد عشر شهرًا وكان شهمًا شجاعًا ذا سياسة للرعايا شديدًا على أصحابه فكانوا يخافونه خوفا شديدًا وان ذلك مانعًا من تعدي بعضهم على بعض وكان له همة عالية أعاد ناموس البيت الأتابكي وجاهه وحرمته بعد أن كانت قد ذهبت وخافه الملوك وكان سريع الحركة في طلب الملك إلا أنه لم يكن له صبرا فلهذا لم يتسع ملكه ولو لم يكن له من الفضيلة إلا أنه لما رحل الكامل بن العادل عن ماردين كما ذكرناه سنة خمس وتسعين وخمسمائة عف عنها وأبقاها على صاحبها ولو قصدها وحصرها لم يكن فيها قوة الامتناع لأن من كانوا بها كانوا قد هلكوا وضجروا ولم يبق لهم رمق فأبقاها على صاحبها‏.‏

ولما ملك استغاث به إنسان من التجار فسأل عن حاله فقيل إنه قد أدخل قماشه إلى البلد ليبيعه فلم يتم له البيع ويريد إخراجه وقد منع من ذلك فقال‏:‏ من منعه فقيل‏:‏ ضامن البز يريد منه ما جرت به العادة من المكس وكان القيم بتدبير مملكته مجاهد الدين قايماز وهو إلى جانبه فسأله عن العادة كيف هي فقال‏:‏ إن اشترط صاحبه إخراج متاعه مكن من العادة مدبرة إنسان لا يبيع متاعه لأي شيء يؤخذ منه ماله فقال مجاهد الدين‏:‏ لا شك في فساد العادة مدبة إنسان لا يبيع متاعه لأي شيء يؤخذ منه ماله فقال مجاهد الدين‏:‏ لا شك في فساد هذه العادة مدبرة إنسان لا يبيع متاعه لأي شيء يؤخذ منه ماله فقال مجاهد الدين‏:‏ لا شك في فساد هذه العادة فقال‏:‏ إذا قلت أنا وأنت إنها عادة فاسدة فما المانع من تركها وتقدم بإخراج مال الرجل وأن لا يؤخذ إلا ممن باع‏.‏

وسمعت أخي مجد الدين أبا السعادات رحمه الله وكان من أكثر الناس اختصاصًا به يقول‏:‏ ما قلت له يومًا في فعل خير فامتنع منه بل بادر إليه بفرح واستبشار واستدعى في بعض الأيام أخي المذكور فركب إلى داره فلما كان بباب الدار لقيته امرأة وبيدها رقعة وهي تشكو وتطلب عرضها على نور الدين فأخذها فلما دخل إليه جاراه في مهم له فقال‏:‏ قبل كل شيء تقف على هذه الرقعة وتقضي شغل صاحبتها فقال‏:‏ لا حاجة إلى الوقوف عليها عرفنا إيش فيها‏.‏

فقال‏:‏ والله لا أعلم إلا أنني رأيت امرأة بباب الدار وهي متظلمة شاكية‏.‏

فقال‏:‏ نعم عرفت حالها ثم انزعج فظهر منه الغيظ والغضب وعنده رجلان هما القيمان بأمور دولته فقال لأخي‏:‏ أبصر إلى أي شيء قد دفعت مع هذين‏.‏

هذه المرأة كان لها ابن وقد مات من مدة في الموصل وهو غريب وخلف قماشًا ومملوكين فاحتاط نواب بيت المال على القماش وأحضروا المملوكين إلينا فبقيا عندنا ننتظر حضور من يستحق التركة ليأخذها فحضرت هذه المرأة ومعها كتاب حكمي بأن المال الذي مع ولدها لها فتقدم منا بتسليم مالها إليها وقلت لهذين‏:‏ اشتريا المملوكين منها وأنصفاها في الثمن فعادا وقالا‏:‏ لم يتم بيننا بيع لأنها طلبت ثمنًا كبيرًا فأمرتهما بإعادة المملوكين إليها من مدة شهرين وأكثر وإلى الآن ما عدت سمعت لها حديثًا وظننت أنها أخذت مالها ولا شك أنها لم يسلما المملوكين إليها وقد استغاثت بهما فلم ينصفاها فجاءت إليك وكل من رأى هذه المرأة تشكو وتستغيث يظن أني أنا منعتها أن تتسلم أنت المملوكين وتسلمها إليها فأخذت المرأة مالها وعادت شاكرة داعية وله من هذا الجنس كثير لا نطول بذكره‏.‏

ذكر ولاية ابنه الملك القاهر

لما حضر نور الدين الموت أمر أن يرتب في الملك بعده ولده الملك القاهر عز الدين مسعود وحلف له الجند وأعيان الناس وكان قد عهد إليه قبل موته بمدة فجدد العهد له عند وفاته وأعطى ولده الأصغر عماد الدين زنكي قلعة عقر الحميدية وقلعة شوش وولايتهما وسيره إلى العقر وأمر أن يتولى تدبير مملكتهما ويقوم بحفظهما والنظر في مصالحهما فتاه الأمير بدر الدين لؤلؤ ملا رأى من عقله وسداده وحسن سياسته وتدبيره وكمال خلال السيادة فيه وكان عمر القاهر حينئذ عشر سنين‏.‏

وملا اشتد مرضه وأيس من نفسه أمره الأطباء بالانحدار إلى الحامة المعروفة بعين القيارة وهي بالقرب من الموصل فانحدر إليها فلم يجد بها راحة وازداد ضعفًا فأخذه بدر الدين وأصعده في الشبارة إلى الموصل فتوفي في الطريق ليلًا ومعه الملاحون والأطباء بينه وبينهم ستر‏.‏

وكان مع بدر الدين عند نور الدين مملوكان فلما توفي نور الدين قال لهما‏:‏ لا يسمع أحد بموته وقال للأطباء والملاحين‏:‏ لا يتكلم أحد فقد نام السلطان فسكتوا ووصلوا إلى الموصل في الليل فأمر الأطباء والملاحين بمفارقة الشبارة لئلا يروه ميتًا وأبعدوا فحمله هو والمملوكان وأدخله الدار وتركه في الموضع الذي كان فيه ومعه المملوكان ونزل على بابه من يثق به لا يمكن أحدًا من الدخول والخروج وقعد مع الناس يمضي أمورًا كان يحتاج إلى إتمامها‏.‏

فلما فرغ من جميع ما يريده أظهر موته وقت العصر ودفن ليلًا بالمدرسة التي أنشأنها مقابل داره وضبط البلد تلك الليلة ضبطًا جيدًا بحيث إن الناس في الليل لم يزالوا مترددين لم يعدم من أحد ما مقداره الحبة الفرد واستقر الملك لولده وقام بدر الدين بتدبير الدولة والنظر في مصالحها‏.‏

ذكرعدة حوادث

في هذه السنة في شهر ربيع الآخر درس القاضي أبو زكرياء يحيى بن القاسم ابن المفرج قاضي تكريت بالمدرسة النظامية ببغداد استدعي من تكريت إليها‏.‏

وفيها نقصت دجلة بالعراق نقصًا كثيرًا حتى كان الماء يجري ببغداد في نحو خمسة أذرع وأمر الخليفة أن يكرى دجلة فجمع الخلق الكثير وكانوا كلما حفروا شيئًا عاد الرمل فغطاه وكان الناس يخوضون دجلة فوق بغداد وهذا مل يعهد مثله‏.‏

وحج بالناس هذه السنة علاء الدين محمد ولد الأمير مجاهد الدين ياقوت أمير الحاج وكان أبوه قد ولاه الخليفة خوزستان وجعله هو أمير الحاج وجعل معه من يدبر الحاج لأنه كان صبيًا‏.‏

وفيها في العشرين من ربيع الآخر توفي ضياء الدين أبو أحمد عب الوهاب ابن علي بن عبد الله الأمير البغدادي ببغداد وهو سبط صدر الدين إسمعيل شيخ الشيوخ وعمره سبع وثمانون سنة وشهور وكان صوفيًا فقيهًا محدثًا سمعنا منه الكثير رحمه الله وكان من عباد الله وفيها توفي شيخنا أبو حفص عمر بن محمد بن المعمر بن طبرزد البغدادي وكان عالي الإسناد‏.‏

ثم دخلت سنة ثمان وستمائة

ذكر استيلاء منكلي على بلاد الجبل وأصفهان وغيرها ‏

وهرب إيدغمش في هذه السنة في شعبان قدم إيدغمش صاحب همذان وأصفهان والري وما بينهما من البلاد إلى بغداد هاربًا من منكلي.وسبب ذلك أن إيدغمش كان قد تمكن في البلاد وعظمك شأنه وانتشر صيته وكثر عسكره حتى إنه حصر صاحبه أبا بكر البهلوان صاحب هذه البلاد‏:‏ أذربيجان وأران كما ذكرناه‏.‏

فلما كان الآن خرج عليه مملوك اسمه منكلي ونازعه في البلاد وكثر أتباعه وأطاعه المماليك البهلوانية فاستولى عليها وهرب منه شمس الدين إيدغمش إلى بغداد فلما وصل إليها أمر الخليفة بالاحتفال له في اللقاء فخرج الناس كافة وكان يوم وصوله مشهودًا ثم قدمت زوجته في رمضان في محمل فأكرمت وأنزلت عند زوجها وأقام ببغداد إلى سنة عشر وستمائة

ذكر نهب الحاج بمنى

و في هذه السنة نهب الحاج بمنى وسبب ذلك أن باطنيًا وثب على بعض أهل الأمير قتادة صاحب مكة فقتله بمنى ظنًا منه أنه قتادة فلما سمع قتادة ذلك جمع الأشراف والعرب والعبيد وأهل مكة وقصدوا الحاج ونزلوا عليهم من الجبل ورموهم بالحجارة والنبل وغير ذلك وكان أمير الحاج ولد الأمير ياقوت المقدم ذكره وهو صبي لا يعرف كيف يفعل فخاف وتحير وتمكن أمير مكة من نهب الحاج فنهبوا منهم من كان في الأطراف وأقاموا على حالهم إلى الليل‏.‏

فاضطرب الحاج وباتوا بأسوإ حال من شدة الخوف من القتل والنهب‏.‏

فقال بعض الناس لأمير الحاج لينتقل بالحجاج إلى منزلة حجاج الشام فأمر بالرحيل فرفعوا أثقالهم على الجمال تؤخذ بأحمالها والتحق من سلم بحجاج الشام فاجتمعوا بهم ثم رحلوا إلى الزاهر ومنعوا من دخول مكة ثم أذن لهم في ذلك فدخلوها وتمموا حجهم وعادوا‏.‏

ثم أرسل قتادة ولده وجماعة من أصحابه إلى بغداد فدخلوها ومعهم السيوف مسلولة والأكفان فقلبوا العتبة واعتذروا مما جرى على الحجاج‏.‏

ذكرعدة حوادث

في هذه السنة أظهر الإسماعيلية ومقدمهم الجلال بن الصباح الانتقال عن فعل المحرمات واستحلالها وأمر بإقامة الصلوات وشرائع الإسلام ببلادهم من خراسان والشام وأرسل مقدمهم رسلًا إلى الخليفة وغيره من ملوك الإسلام يخبرهم بذلك وأرسل والدته إلى الحج فأكرمت ببغداد إكرامًا عظيمًا وكذلك بطريق مكة‏.‏

وفيها سلخ جمادى الآخرة توفي أبو حامد محمد بن يونس بن ميعة الفقيه الشافعي بمدينة الموصل وكان إمامًا فاضلًا إليه انتهت رياسة الشافعية لم يكن في زمانه مثله وكان حسن الأخلاق كثير التجاوز عن الفقهاء والإحسان إليهم رحمه الله‏.‏

وفي شهر ربع الأول توفي القاضي أبو الفضائل علي بن يوسف بن أحمد بن الآمدي الواسطي قاضيها وكان نعم الرجل‏.‏

وفي شعبان توفي المعين أبو الفتوح عبد الواحد بن أبي أحمد بن علي الأمين شيخ الشيوخ ببغداد وكان موته بجزيرة كاس مضى إليها رسولًا من الخليفة وكان من أصدقائنا وبيننا وبينه مودة متأكدة وصحبة كثيرة وكان من عباد الله الصالحين رحمه الله ورضي عنه وله كتابة حسنة وشعر جيد وكان عالمًا بالفقه وغيره ولما توفي رتب أخوه زين الدين عبد الرزاق ابن أبي أحمد وكان ناظرًا على المارستان العضدي فتركه واقتصر على الرباط‏.‏

وفي ذي الحجة توفي محمد بن يوسف بن محمد بن عبيد الله النيسابوري الكاتب الحسن الخط وكان يؤدي طريقه ابن البواب وكان فقيهًا حاسبًا متكلمًا‏.‏

وتوفي عمر بن مسعود أبي العز أبو القاسم البزاز البغدادي بها وكان من الصالحين يجتمع إليه الفقراء كثيرًا ويحسن إليهم‏.‏

وتوفي أيضًا أبو سعيد الحسن بن محمد بن الحسن بن حمدون الثعلبي العدوي وهو ولد مصنف التذكرة وكان عالمًا‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وستمائة

ذكر قدوم ابن منكلي بغداد


في هذه السنة في المحرم قدم محمد بن منكلي المستولي على بلاد الجبل إلى بغداد‏.‏

وسبب ذلكم أن أباه منكلي لما استولى على بلاد الجبل وهرب إيدغمش صاحبها منها إلى بغداد خاف أن يساعده الخليفة ويرسل معه العساكر فيعظم الأمر عليه لأنه لم يكن قد تمكن في البلاد فأرسل ولده محمدًا ومعه جماعة من العسكر فيعظم الأمر عليه لأنه لم يكن قد تمكن في البلاد فأرسل ولده محمدًا ومعه جماعة من العسكر فخرج الناس ببغداد على طبقاتهم يلتقونه وأنزل

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة قبض الملك العادل أبو بكر بن أيوب صاحب مصر والشام على أمير اسمه أسامة كان له إقطاع كثير من جملته حصن كوكب من أعمال الأردن بالشام وأخذ منه حصن كوكب وخربه وعفى أثره ومن بعده بني حصنًا بالقرب من عكا على جبل يسمى الطور وهو معروف هناك وشحنه بالرجال والذخائر والسلاح‏.‏

وفيها توفي الفقيه محمد بن إسمعيل بن أبي الصيف اليمني فقيه الحرم الشريف بمكة‏.‏

ثم دخلت سنة عشر وستمائة

ذكر قتل إيدغمش


في هذه السنة في المحرم قتل إيدغمش الذي كان صاحب همذان وقد ذكرنا سنة ثمان أنه قدم إلى بغداد وأقام بهتا فأنعم عليه الخليفة وشرفه بالخلع وأعطاه الكوسات وما يحتاج إليه وسيره إلى همذان فسار في جمادى الآخرة عن بغداد قاصدًا إلى همذان فوصل إلى بلاد ابن ترجم واجتمعا وأقام ينتظر وصول عساكر بغداد إليه ليسير معه على قاعدة استقرت بينهم‏.‏

وكان الخليفة قد عزل سليمان بن ترجم عن الإمارة على عشيرته من التركمان الإيوانية وولى أخاه الأصغر فأرسل سليمان إلى منكلي يعرفه بحال إيدغمش ومضى هو على وجهه فأخذوه فقتلوه وحملوا رأسه إلى منكلي وتفرق من معه من أصحابه في البلاد لا يلوي أخ على أخيه‏.‏

ووصل الخبر بقتله إلى بغداد فعظم على الخليفة ذلك وأرسل إلى منكلي ينكر عليه ما فعل فأجاب جوابًا شديدًا وتمكن من البلاد وقوي أمره وكثرت جموع عساكره وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله‏.‏

ذكر عدة حوادث حج بالناس

في هذه السنة أبو فراس بن جعفر بن فراس الحلي نيابة عن أمير الحاج ياقوت ومنع ابن ياقوت عن الحج لما جرى للحاج في ولايته‏.‏

وفيها في المحرم توفي الحكيم المهذب علي بن أحمد بن هبل الطبيب المشهور كان أعلم أهل زمانه بالطب روى الحديث وكن مقيمًا بالموصل وبها مات وكان كثير الصدقة حسن الأخلاق وله تصنيف حسن في الطب‏.‏

وفيه توفي الضيا أحمد بن علي البغدادي الفقيه الحنبلي صاحب ابن المني‏.‏

وفيه توفي أيضًا أحمد بن مسعود التركستاني الفقيه الحنفي ببغداد وهو مدرس مشهد أبي حنيفة‏.‏

وفيها في جمادى الأولى توفي معز الدين أبو المعاني سعد بن علي المعروف بابن حديد الذي كان وزير الخليفة الناصر لدين الله وكان قد ألزم بيته ولما توفي حمل تابوته إلى مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام بالكوفة وكان حسن السيرة في وزارته كثير الخير والنفع للناس‏.‏

ثم دخلت سنة إحدى عشرة وستمائة

ذكر ملك خوارزم شاه كرمان ومكران والسند

هذه الحادثة لا أعلم الحقيقة أي سنة كانت إنما هي إما هذه السنة أو قبلها أو بعدها بقليل لأن الذي أخبر بها كان من أجناد الموصل وسافر إلى تلك البلاد وأقام بها عدة سنين وسار مع الأمير أبي بكر الذي فتح كرمان ثم عاد فأخبرني بها على شك من وقتها وقد حضرها فقال‏:‏ خوارزم شاه محمد بن تكش كان من جملة أمراء أبيه أمير اسمه أبو بكر ولقبه تاج الدين‏.‏

وكان في ابتداء أمره جمالًا يكري الجمال في الأسفار ثم جاءته السعادة فاتصل بخوارزم شاه وصار سيروان جماله فرأى منه جلدًا وأمانة فقدمه إلى أن صار من أعيان أمراء عسكره فولاه مدينة زوزن وكان عاقلًا ذا رأي وحزم وشجاعة فتدم عند خوارزم شاه تقدمًا كثيرًا فوثق به أكثر من جميع أمراء دولته فقال أبو بكر لخوارزم شاه‏:‏ إن بلاد كرمان مجاورة لبلدي فلو أضاف السلطان إلي عسكرًا لملكتها في أسرع وقت‏.‏

فسير معه عسكرًا كثيرًا فمضى إلى كرمان وصاحبها اسمه حرب بن محمد بن أبي الفضل الذي كان صاحب سجستان أيام السلطان سنجر فقاتله فلم يكن له به قوة وضعف فملك أبو بكر بلاده في أسرع وقت وسار منها إلى نواحي مكران فملكها كلها إلى السند من حدود كابل وسار إلى هرمز مدينة على ساحل بحر مكران فأطاعه صاحبها واسمه ملنك وخطب بها لخوارزم شاه وحمل عنها مالًا وخطب له بقلهات وبعض عمان لأن أصحابها كانوا يطيعون صاحب هرمز‏.‏

وسبب طاعتهم له مع بعد الشقة والبحر يقطع بينهم أنهم يتقربون إليه بالطاعة ليأمن أصحاب المراكب التي تسير إليهم عنده فإن هرمز مرسى عظيم ومجمع للتجار من أقاصي الهند والصين واليمن وغيرها من البلاد وكان بين صاحب هرمز وبين صاحب كيش حروب ومغاورات وكل منهما ينهى أصحاب المراكب أن ترسي ببلد خصمه وهم كذلك إلى الآن وكان خوارزم شاه يصيف بنواحي سمرقند لأجل التتر أصحاب كشلي خان لئلا يقصد بلاده وكان سريع السير إذا قصد سبق خبره إليها‏.‏

في هذه السنة قتل مؤيد الملك الشحري وكان قد وزر لشهاب الدين الغوري ولتاج الدين الدز بعده و كان حسن السيرة جميل الاعتقاد محسنًا إلى العلماء وأهل الخير وغيرهم يزورهم ويبرهم ويحضر الجمعة ماشيًا وحده‏.‏

وكان سبب قتله أن بعض عسكر الدز كرهوه وكان كل سنة يتقدم إلى البلاد الحارة بين يدي الدز أول الشتاء فسار هذه السنة كعادته فجاء أربعون نفرًا أتراكًا وقالوا له‏:‏ السلطان يقول لك تحضر جريدة في عشرة نفر لمهم تجدد فسار معهم جريدة في عشرة مماليك فلما وصلوا إلى نهوند بالقرب من ماء السند قتلوه وهربوا ثم إنهم ظفر بهم خوارزم شاه محمد فقتلهم‏.‏

وفيها في رجب توفي الركن أبو منصور عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الجليلي البغدادي وكان قد ولي عدة ولايات وكان يتهم بمذهب الفلاسفة حتى إنه رأى أبوه يومًا عليه قميصًا بخاريًا فقال‏:‏ ما هذا القميص فقال‏:‏ بخاري فقال أبوه‏:‏ هذا عجب‏!‏ ما زلنا نسمع‏:‏ مسلم والبخاري وأما كافر والبخاري فما سمعنا‏.‏

وأخذت كتبه قبل موته بعدة سنين وأظهرت في ملأ من الناس ورؤي فيها من تبخير النجوم ومخاطبة زحل بالإلهية وغير ذلك من الكفريات ثم أحرقت بباب العامة وحبس ثم أفرج عنه بشفاعة أبيه واستعمل بعد ذلك‏.‏

وفيها أيضًا توفي أبو العباس أحمد بن هبة الله بن العلاء المعروف بابن الزاهد ببغداد وكان عالمًا بالنحو واللغة‏.‏

وفي شعبان منها توفي أبو المظفر محمد بن علي بن البل اللوري الواعظ ودفن برباط على نهر عيسى ومولده سنة عشر وخمسمائة‏.‏

وفي شوال منها توفي عبد العزيز بن محمود بن المبارك بن محمود بن الأخضر وكان من فضلاء المحدثين وله سبع وثمانون سنة‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وستمائة

ذكر قتل منكلي وولاية أغملش ما كان بيده من الممالك

في هذه السنة في جمادى الأولى انهزم منكلي صاحب همذان وأصفهان والري وما بينهما من البلاد ومضى هابًا فقتل‏.‏

وسبب ذلك أنه كان قد ملك البلاد كما ذكرناه وقتل إيدغمش فأرسل إليه من الديوان الخليفي رسول ينكر ذلك عليه وكان قد أوحش الأمير أوزبك ابن البهلوان صاحب أذربيجان وهو صاحبه ومخدومه فأرسل إليه يحرضه على منكلي ويعده النصرة وأرسل أيضًا إلى جلال الدين الإسماعيلي صاحب قلاع الإسماعيلية ببلاد العجم الموت وغيرها يأمره بمساعدة أوزبك على قتال منكلي واستقرت القواعد بينهم على أن يكون للخليفة بعض البلاد ولأوزبك بعضها ويعطي جلال الدين بعضها فلما استقرت القواعد بينهم على ذلك جهز الخليفة عسكرًا كثيرًا وجعل مقدمهم مملوكه مظفر الدين سنقر الملقب بوجه السبع وأرسل إلى مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي كوجك وهو إذ ذاك صاحب إربل وشهرزور وأعمالها يأمره أن يحضر بعساكره ويكون مقدم العساكر جميعها وإليه المرجع في الحرب‏.‏

فحضر وحضر معه عسكر الموصل وديار الجزيرة وعسكر حلب فاجتمعت عساكر كثيرة وساروا إلى همذان فاجتمعت العساكر كلها فانزاح منكلي من بين أيديهم وتعلق بالجبال وتبعوه فنزلوا بسفح جبل هو في أعلاه بالقرب من مدينة كرج وضاقت الميرة والأقوات على العسكر الخليفي جميعه ومن معهم فلو أقام منكلي بموضعه لم يمكنهم المقام عليه أكثر من عشرة أيام لكنه طمع فنزل ببعض عسكره من الجبل مقابل الأمير أوزبك فحملوا عليه فلم يثبت أوزبك ومضى منهزمًا فعاد أصحاب منكلي وصعدوا الجبل وعاد أوزبك إلى خيامه فطمع منكلي حينئذ ونزل من الغد في جميع عسكره واصطفت العساكر للحرب واقتتلوا أشد قتال يكون فانهزم منكلي وصعد الجبل فلو أقام بمكانه لم يقدر أحد على الصعود إليه وكان قصاراهم العود عنه لكنه اتخذ الليل جملًا وفارق موضعه ومضى منهزمًا فتبعه نفر يسير ن عسكره وفارقه الباقون وتفرقوا أيدي سبا‏.‏

واستولى عسكر الخليفة وأوزبك على البلاد فأعطى جلال الدين ملك الإسماعيلية من البلاد ما كان استقر له وأخذ الباقي أوزبك فسلمه إلى أغلمش مملوك أخيه وكان قد توجه إلى خوارزم شاه علاء الدين محمد وبقي عنده ثم عاد عنه وشهد الحرب وأبلى فيها فولاه أوزبك البلاد وعاد كل طائفة من العسكر إلى بلادهم‏.‏

وأما منكلي فإنه مضى منهزمًا إلى مدينة ساوة وبها شحنة هو صديق له‏.‏

فأرسل إليه يستأذنه في الدخول إلى البلد فأذن له وخلج إليه فلقيه وقبل الأرض بين يديه وأدخله البلد وأنزله في داره ثم أخذ سلاحه وأراد أن يقيده ويرسله إلى أغلمش فسأله أن يقتله هو ولا يرسله فقتله وأرسل رأسه إلى أوزبك وأرسله أوزبك إلى بغداد وكان يوم دخولها يومًا مشهودًا إلا أنه لم تتم المسرة للخليفة بذلك فإنه وصل ومات ولده في تلك الحال فأعيد ودفن‏.‏

ذكر وفاة ابن الخليفة

في هذه السنة في العشرين من ذي القعدة توفي ولد الخليفة وهو الأصغر وكان يلقب الملك المعظم و اسمه أبو الحسن لعي وكان أحب ولدي الخليفة إليه وقد رشحه لولاية العهد بهده وعزل ولده الأكبر عن ولاية العهد واطرحه لأجل هذا الولد‏.‏

وكان رحمه الله كريمًا كثير الصدقة والمعروف حسن السيرة محبوبًا إلى الخاص والعام وكان سبب موته أنه أصابه إسهال فتوفي وحزن عليه الخليفة حزنًا لم يسمع بمثله حتى إنه أرسل إلى أصحاب الأطراف ينهاهم عن إنفاذ رسول إليه يعزيه بولده ولم يقرأ كتابًا ولا سمع رسالة وانقطع وخلا بهمومه وأحزانه ورؤي عليه من الحزن والجزع ما لم يسمع بمثله‏.‏

ولما توفي أخرج نهارًا ومشى جميع الناس بين يدي تابوته إلى تربة جدته عند قبر معروف الكرخي فدفن عندها ولما أدخل التابوت أغلقت الأبواب وسمع الصراخ العظيم من داخل التربة فقيل إن ذلك صوت الخليفة‏.‏

وأما العامة ببغداد فإنهم وجدوا عليه وجدًا شديدًا ودامت المناحات عليه في أقطار بغداد ليلًا ونهارًا ولم يبق ببغداد محلة إلا وفيها النوح ولم تبق امرأة إلا وأظهرت الحزن وما سمع ببغداد مثل ذلك في قديم الزمان وحديثه‏.‏

وكان موته وقت وصول رأس منكلي إلى بغداد فإن الموكب أمر بالخروج إلى لقاء الرأس فخرج الناس كافة فلما دخلوا بالرأس إلى رأس درب حبيب وقع الصوت بموت ابن الخليفة فأعيد الرأس وهذا دأب الدنيا لا يصفو أبدًا فرحها من ترح وقد تخلص مصائبها من شائبة الفرح‏.‏

ذكر ملك خوارزم شاه غزنة وأعمالها

في هذه السنة في شعبان ملك خوارزم شاه محمد بن تكش مدينة غزنة وأعمالها‏.‏

وسبب ذلك أن خوارزم شاه لما استولى على عامة خراسان وملك باميان وغيرها أرسل إلى تاج الدين صاحب غزنة وقد تقدمت أخباره حتى ملكها يطلب منه أن يخطب له ويضرب السكة باسمه ويرسل إليه فيلًا واحدًا ليصالحه ويقر بيده غزنة ولا يعارضه فيها فأحضر الأمراء وأعيان دولته واستشارهم‏.‏

وكان فيهم أكبر أمير اسمه قتلغ تكين وهو من مماليك شهاب الدين الغوري أيضًا وإليه الحكم في دولة الدز وهو النائب عنه بغزنة فقال‏:‏ أرى أن تخطب له وتعطيه ما طلب وتستريح من الحرب والقتال وليس لنا بهذا السلطان قوة‏.‏

فقال الجماعة مثل قوله فأجاب إلى ما طلب منه وخطب لخوارزم شاه وضرب السكة باسمه وأرسل إليه فيلًا وأعاد رسوله إليه ومضى إلى الصيد‏.‏

فأرسل قتلغ تكين والي غزنة إلى خوارزم شاه يطلبه ليسلم إليه غزنة فسار مجدًا وسبق خبره فسلم إليه قتلغ تكين غزنة وقلعتها فلما دخل إليها قتل من بها من عسكر الغورية لا سيما الأتراك وفوصل الخبر إلى الدز بذلك فقال‏:‏ ما فعل قتلغ تكين وكيف ملك القلعة مع وجوده فيها فقيل‏:‏ هو الذي أحضره وسلم إليه فمضى هاربًا هو ومن معه إلى لهاوور وأقام خوارزم شاه بغزنة فلما تمكن منها أحضر قتلغ تكين فقال له‏:‏ كيف حالك مع الدز وكان عالمًا به وإنما أراد أن تكون له الحجة عليه‏.‏

فقال‏:‏ كلانا مماليك شهاب الدين ولم يكن الدز يقيم بغزنة إلا أربعة أشهر الصيف وأنا الحكم فيها والمرجع إلي في كل الأمور‏.‏

فقال له خوارزم شاه‏:‏ إذا كنت لا ترعى لرفيقك ومن أحسن إليك صحبته وإحسانه فكيف يكون حالي أنا معك وما الذي تصنع مع ولدي إذا تركته عندك فقبض عليه وأخذ منه أموالًا جمة حملها ثلاثون دابة من أصناف الأموال والأمتعة وأحضر أربع مائة مملوك فلما أخذ ماله قتله وترك ولده جلال الدين بغزنة مع جماعة من عسكره وأمرائه وقيل إن ملك خوارزم شاه غزنة كان سنة ثلاث عشرة وستمائة‏.‏

ذكر استيلاء الدز على لهاوور وقتله

لما هرب الدز من غزنة إلى لهاوور لقيه صاحبها ناصر الدين قباجة وهو من مماليك شهاب الدين الغوري أيضًا وله من البلاد لهاوور وملتان وأوجه وديبل وغير ذلك إلى ساحل البحر ومعه نحو خمسة عشر ألف فارس وكان قد بقي مع الدز نحو ألف وخمسمائة فارس فوقع بينهما مصاف واقتتلوا فانهزمت ميمنة الدز وميسرته وأخذت الفيلة التي معه ولم يبق له غير فيلين معه في القلب‏.‏

فقال الفيال‏:‏ إذا أخاطر بسعادتك وأمر أحد الفيلين أن يحمل على العلم الذي لقباجة يأخذه وأمر الفيل الآخر الذي له أيضًا أن يأخذ الجتر الذي له فأخذه أيضًا والفيلة المعلمة تفهم ما يقال لها هذا رأيناه فحمل الفيلان وحمل معهما الدز فيمن بقي عنده من العسكر وكشف رأسه وقال بالعجمية ما معناه‏:‏ إما ملك وإما هلك‏!‏ واختلط الناس بعضهم ببعض وفعل الفيلان ما أمرهما الفيال من أخذ العلم والجتر فانهزم قباجة وعسكره وملك الدز مدينة لهاوور‏.‏

ثم سار إلى بلاد الهند ليملك مدينة دهلة وغيرها مما بيد المسلمين وكان صاحب دهلة أمير اسمه الترمش ولقبه شمس الدين وهو من مماليك قطب الدين أيبك مملوك شهاب الدين أيضًا وكان قد ملك الهند بعد سيده فلما سمع به الترمش سار إليه في عساكره كلها فلقيه عند وكان الدز محمود السيرة في ولايته كثير العدل والإحسان إلى الرعية لا سيما التجار والغرباء ومن محاسن أعماله أنه كان له أولاد ولهم معلم يعلمهم فضرب المعلم أحدهم فمات فاحضره الدز وقال له‏:‏ يا مسكين‏!‏ ما حملك على هذا فقال‏:‏ والله ما أردت إلا تأديبه‏.‏

فاتفق أن مات‏.‏

فقال‏:‏ صدقت وأعطاه نفقة وقال له‏:‏ تغيب فإن أمه لا تقدر على الصبر فربما أهلكتك ولا أقدر أمنع عنك‏.‏

فلما سمعت أم الصبي بموته طلبت الأستاذ لتقتله فلم تجده فسلم وكان هذا من أحسن ما يحكى عن أحد من الناس‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة توفي الوجيه المبارك بن أبي الأزهر سعيد بن الدهان الواسطي النحوي الضرير كان نحريرًا فاضلًا قرأ على الكمال عبد الرحمن بن الأنباري وعلى غيره وكان حنبليًا فصار حنفيًا ثم صار شافعيًا فقال فيه أبو البركات بن زيد التكريتي‏:‏ ألا مبلغًا عني الوجيه رسالة وإن كان لا تجدي لديه الرسائل تمذهبت للنعمان من بعد حنبل وفارقته إذ غورتك المآكل وما اخترت رأي الشافعي تدينًا ولكنما تهوى الذي هو حاصل

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وستمائة

ذكر وفاة الملك الظاهر صاحب حلب

في هذه السنة في جمادى الآخر توفي الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب وهو صاحب مدينة حلب ومنبج وغيرهما من بلاد الشام وكان مرضه إسهالًا وكان شديد السيرة ضابطًا لأموره كلها كثير الجمع للأموال من غير جهاتها المعتادة عظيم العقوبة على الذنب لا يرى الصفح وله مقصد يقصده كثير من أهل البيوتات من أطراف البلاد والشعراء وأهل الدين وغيرهم فيكرمهم ويجري عليهم الجاري الحسن‏.‏

ولما اشتدت علته عهد بالملك بعده لولد له صغير اسمه محمد ولقبه الملك العزيز غياث الدين عمره ثلاث سنين وعدل عن ولد كبير لأن الصغير كانت أمه ابنة عمه الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب مصر ودمشق وغيرهما من البلاد فعهد بالملك له ليبقى عمه البلاد عليه ولا ينازعه فيها‏.‏

ومن أعجب ما يحكى أن الملك الظاهر قبل مرضه أرسل رسولًا إلى عمه العادل بمصر يطلب منه أن يحلف لولده الصغير فقال العادل‏:‏ سبحان الله‏!‏ أي حاجة إلى هذه اليمين الملك الظاهر مثل بعض أولادي‏.‏

فقال الرسول‏:‏ قد طلب هذا واختاره ولا بد من إجابته إليه‏.‏

فقال العادل‏:‏ كم من كبش في المرعى وخروف عند القصاب وحِلف‏.‏

فاتفق في تلك الأيام أن توفي الملك الظاهر والرسول في الطريق ولما عهد الظاهر إلى ولده بذلك جعل أتابكه ومربيه خادمًا روميًا اسمه طغرل ولقبه شهاب الدين وهو من خيار عباد الله كثير الصدقة والمعروف‏.‏

ولما توفي الظاهر أحسن شهاب الدين هذا السيرة في الناس وعدل فيهم وأزال كثيرًا من السنن الجارية وأعاد أملاكًا كانت قد أخذت من أربابها وقام بتربية الطفل أحسن قيام وحفظ بلاده واستقامت الأمور بحسن سيرته وعدله وملك ما كان يتعذر على الظاهر ملكه فمن ذلك تل باشر كان الملك الظاهر لا يقدر أن يتعرض إليه فلما توفي ملكها كيكاوش ملك الروم كما نذكره إن شاء الله تعالى انتقلت إلى شهاب الدين وما أقبح بالملوك وأبناء الملوك أن يكون هذا الرجل الغريب المنفرد أحسن سيرة وأعف عن أموال الرعية وأقرب إلى الخير منهم ولا أعلم اليوم في ولاة أمور المسلمين أحسن سيرة منه فالله يبقيه ويدفع عنه فلقد بلغني عنه كل حسن وجميل‏.‏

في هذه السنة في المحرم وقع بالبصرة برد كثير وهو مع كثرته عظيم القدر قيل‏.‏

كان أصغره مثل النازنجة الكبيرة وقيل في أكبره ما يستحي الإنسان أن يذكره فكسر كثيرًا من رؤوس النخيل‏.‏

وفي المحرم أيضًا سير الخليفة الناصر لدين الله ولدي ابنه المعظم علي إلى تستر وهما المؤيد والموفق وسار معهما مؤيد الدين النائب عن الوزارة وعز الدين الشرابي فأقاما بها يسيرًا ثم عاد الموفق مع الوزير والشرابي إلى بغداد أواخر ربيع الآخر‏.‏

وفيها في صفر هبت ببغداد ريح سوداء شديدة كثيرة الغبار والقتام وألقت رملًا كثيرًا وقلعت كثيرًا من الشجر فخاف الناس وتضرعوا ودامت من العشاء الآخرة إلى ثلث الليل وانكشفت‏.‏

وفيهما توفي التاج زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن سعيد بن عصمة الكندي أبو اليمن البغدادي المولد والمنشإ انتقل إلى الشام فأقام بدمشق وكان إمامًا في النحو واللغة وله الإسناد العالي في الحديث وكان ذا فنون كثيرة من أنواع العلوم رحمه الله‏.‏

ثم دخلت سنة أربع عشرة وستمائة

في هذه السنة سار خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش إلى بلاد الجبل فملكها‏.‏

وكان سبب حركته في هذا الوقت أشياء أحدها‏:‏ أنه كان قد استولى على ما وراء النهر وظفر بالخطا وعظم أمره وعلا شأنه وأطاعه القريب والبعيد ومنها‏:‏ أنه كان يهوى أن يخطب له ببغداد‏.‏ ويلقب بالسلطان‏.‏

وكان الأمر بالضد لأنه كان لا يجد من ديوان الخلافة قبولًا وكان سبيله إذا ورد إلى بغداد أن يقدم غيره عليه ولعل في عسكره مائة مثل الذي يقدم سبيله عليه فكان إذا سمع ذلك يغضبه ومنها‏:‏ أن أغلمش لما ملك بلاد الجبل خطب له فيها جميعها كما ذكرناه فلما قتله الباطنية غضب له وخرج لئلا تخرج البلاد عن طاعته فسار مجدًا في عساكر تطبق الأرض فوصل إلى الري فملكها‏.‏

وكان أتابك سعد بن دكلا صاحب بلاد فارس لما بلغه مقتل أغلمش جمع عساكره وسار نحو بلاد الجبل طمعًا في تملكها لخلوها عن حام وممانع فوصل إلى أصفهان فأطاعه أهلها وسار منها يريد الري ولم يعلم بقدوم خوارزم شاه فلقيه مقدمه خوارزم شاه فظنها عساكر تلك الديار قد اجتمعت لقتاله ومنعه عن البلاد فقاتلهم وجد في محاربتهم حتى كاد يهزمهم‏.‏

فبينما هو كذلك إذ هو قد ظهر له جتر خوارزم شاه فسأل عنه فأخبر به فاستلم وانهزمت عساكره وأخذ أسيرًا وحمل إلى بين يدي خوارزم شاه فأكرمه ووعده الإحسان والجميل وأمنه على نفسه واستحلفه على طاعته واستقرت القاعدة بينهما على أن يسلم بعض البلاد إليه ويبقي بعضها وأطلقه وسير معه جيشًا إلى بلاد فارس ليسلم إليهم ما استقرت القاعدة عليه فلما قدم على ولده الأكبر رآه قد تغلب على بلاد فارس فامتنع من التسليم إلى أبيه‏.‏

ثم إنه ملك البلاد كما نذكره وخطب فيها لخوارزم شاه وسار خوارزم شاه إلى ساوة فملكها وأقطعها لعماد الملك عارض جيشه وهو من أهلها ثم سار إلى قزوين وزنجان وأبهر فملكها كلها بغير ممانع ولا مدافع ثم سار إلى همذان فملكها وأقطع البلاد لأصحابه وملك أصفها وكذلك قم وقاشان واستوعب ملك جميع البلاد واستقرت القاعدة بينه وبين أوزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان وأران بأن يخطب له أوزبك في بلاده ويدخل في طاعته‏.‏

ثم إنه عزم على المسير إلى بغداد فقدم بين يديه أميرًا كبيرًا في خمسة عشر ألف فارس وأقطعه حلوان فسار حتى وصل إليها ثم أتبعه بأمير آخر فلما سار عن همذان يومين أو ثلاثة سقط عليهم من الثلج ما لم يسمع بمثله فهلكت دوابهم ومات كثير منهم طمع فيمن بقي بنو ترجم الأتراك وبنو هكار الأكراد فتخطفوهم فلم يرجع منهم إلى خوارزم شاه إلا اليسير فتطير خوارزم شاه من ذلك الطريق وعزم على العود إلى خراسان خوفًا من التتر لأنه طن أنه يقضي حاجته ويفرغ من إرادته في المدة اليسيرة فخاب ظنه ورأى البيكار بين يديه طويلًا فعزم على العود فولى همذان أميرًا من أقاربه من جهة والدته يقال له طائيسي وجعل في البلاد جميعها ابنه ركن الدين وجعل معه متوليًا لأمر دولته عماد الملك الساوي وكان عظيم القدر عنده وكان يحرص على قصد العراق‏.‏

وعاد خوارزم شاه إلى خراسان فوصل إلى مرو في المحرم سنة خمس عشرة وستمائة وسار من وجهه إلى ما وراء النهر ولما قدم إلى نيسابور جلس يوم الجمعة عند المنبر وأمر الخطيب بترك الخطبة للخليفة الناصر لدين الله وقال‏:‏ إنه قد مات وكان ذلك في ذي القعدة سنة أربع عشرة وستمائة ولما قدم مرو قطع الخطبة بها وكذلك ببلخ وبخارى وسرخس وبقي خوارزم وسمرقند وهراة لم تقطع الخطبة فيها إلا عن قصد لتركها لأن البلاد كانت لا تعارض من أشباه هذا إن أحبوا خطبوا وإن أرادوا قطعوا فبقيت كذلك إلى أن كان منه ما كان‏.‏

وهذه من جملة سعادات هذا البيت الشريف العباسي لم يقصد أحد بأذى إلا لقيه فعله وخبث نيته لا جرم لم يمهل خوارزم شاه هذا حتى جرى له ما نذكره مما لم يسمع بمثله في الدنيا قديمًا ولا حديثًا‏.‏