المجلد العاشر - ذكر ما جرى لأتابك سعد مع أولاده

لما قتل أغلمش صاحب بلاد الجبل همذان وأصفهان وما بينهما من البلاد جمع أتابك سعد بن دكلا صاحب فارس عساكره وسار عن بلاده إلى أصفهان فملكها وأطاعه أهلها فطمع في تلك البلاد جميعها فسار عن أصفهان إلى الري فلما وصل إليها لقي عساكر خوارزم شاه قد وصلت كما ذكرناه فعزم على محاربة مقدمة العسكر فقاتلها حتى كاد يهزمها فظهرت عساكر خوارزم شاه ورأى الجتر فسقط في يده وألقى نفسه وضعفت قوته وقوة عسكره فولوا الأدبار وأخذ أتابك سعد أسيرًا وأحضر بين يدي خوارزم شاه فأكرمه وطيب نفسه ووعده الإحسان واستصحبه معه إلى أن وصل إلى أصفهان فسيره منها إلى بلاده وهي تجاورها وسير معه عسكرًا مع أمير كبير ليتسلم منه ما كان استقر بينهما فإنهما اتفقا على أن يكون لخوارزم شاه بعض البلاد ولأتابك سعد بعضها وتكون الخطبة لخوارزم شاه في البلاد جميعها‏.‏

وكان أتابك سعد قد استخلف ابنًا له على البلاد فلما سمع الابن بأسر أبيه خطب لنفسه بالمملكة وقطع خطبة أبيه فلما وصل أبوه ومعه عسكر خوارزم شاه امتنع الابن من تسليم البلاد إلى أبيه وجمع العساكر وخرج يقاتله فلما تراءى الجمعان انحازت عساكر فارس إلى صاحبها أتابك سعد وتركوا ابنه في خاصته فحمل على أبيه فلما رآه أبوه ظن أنه لم يعرفه ووصل أتابك سعد إلى البلاد فدخلها مالكًا لها وأخذ ابنه أسيرًا فسجنه إلى الآن إلا أنني سمعت الآن وهو سنة عشرين وستمائة أنه قد خفف حبسه ووسع عليه‏.‏

ولما عاد خوارزم شاه إلى خراسان غدر سعد بالأمير الذي عنده فقتله ورجع عن طاعة خوارزم شاه واشتغل خوارزم شاه بالحادثة العظمى التي شغلته عن هذا وغيره ولكن الله انتقم له بابنه غياث الدين كما ذكرناه سنة عشرين وستمائة لأن سعدًا كفر إحسان خوارزم شاه وكفر الإحسان عظيم العقوبة‏.‏

مدينة دمياط وعودها إلى المسلمين كان من أول هذه الحادثة إلى آخرها أربع سنين غير شهر وإنما ذكرناها هاهنا لأن ظهورهم كن فيها وسقناها سياقة متتابعة ليتلو بعضها بعضًا فنقول‏:‏

في هذه السنة وصلت أمداد الفرنج في البحر من رومية الكبرى وغيرها من بلاد الفرنج في الغرب والشمال إلا أن المتولي لها كان صاحب رومية لأنه يتنزل عند الفرنج بمنزلة عظيمة لا يرون مخالفة أمره ولا العدول عن حكمه فيما سرهم وساءهم فجهز العساكر من عنده مع جماعة من مقدمي الفرنج وأمر غيره من ملوك الفرنج إما أن يسير بنفسه أو يرسل جيشًا ففعلوا ما أمرهم فاجتمعوا بعكا من ساحل وكان الملك العادل أبو بكر بن أيوب بمصر فسار منها إلى الشام فوصل إلى الرملة ومنها إلى لد وبرز الفرنج من عكا ليقصدوه فسار العادل نحوهم فوصل إلى نابلس عازمًا على أن يسبقهم إلى أطراف البلاد مما يلي عكا ليحميها منهم فساروا هم فسبقوه فنزل على بيسان من الأردن فتقدم الفرنج إليه في شعبان عازمين على محاربته لعلمهم أنه في قلة من العسكر لأن العساكر كانت متفرقة في البلاد‏.‏

فلما رأى العادل قربهم منه لم ير أن يلقاهم في الطائفة التي معه خوفًا من هزيمة تكون عليه وكان حازمًا كثير الحذر ففارق بيسان نحو دمشق ليقيم بالقرب منها ويرسل إلى البلاد ويجمع العساكر فوصل إلى مرج الصفر فنزل فيه‏.‏

وكان أهل بيسان وتلك الأعمال لما رأوا الملك العادل عندهم اطمأنوا فلم يفارقوا بلادهم ظنًا منهم أن الفرنج لا يقدمون عليه فلما أقدموا سار على غفلة من الناس فلم يقدر على النجاة إلا القليل فأخذ الفرنج كل ما في بيسان من ذخائر قد جمعت وكانت كثيرة وغنموا شيئًا كثيرًا ونهبوا البلاد من بيسان إلى بانياس بثوا السرايا في القرى فوصلت إلى خسفين ونوى وأطراف البلاد ونازلوا بانياس وأقاموا عليها ثلاثة أيام ثم عادوا عنها إلى مرج عكا ومعهم من الغنائم والسبي والأسرى ما لا يحصى كثرة سوى ما قتلوا وأحرقوا وأهلكوا فأقاموا أيامًا ثم جاؤوا إلى صور وقصدوا بلد الشقيف ونزلوا بينهم وبين بانياس مقدار فرسخين فنهبوا البلاد‏:‏ صيدا والشقيف وعادوا إلى عكا وكان هذا من نصف رمضان إلى العيد والذي سلم من تلك البلاد كان مخفًا حتى قدر على النجاة‏.‏

ولقد بلغني أن العادل لما سار إلى مرج الصفر رأى في طريقه رجلًا يحمل شيئًا وهو يمشي تارة وتارة يقعد ليستريح فعدل العادل إليه وحده فقال له‏:‏ يا شيخ لا تعجل وارفق بنفسك‏!‏ فعرفه الرجل فقال‏:‏ يا سلطان المسلمين‏!‏ أنت لا تعجل فإنا إذا رأيناك قد سرت إلى بلادك وتركتنا مع الأعداء كيف لا نعجل‏!‏ وبالجملة الذي فعله العادل هو الحزم والمصلحة لئلا يخاطر باللقاء على حال تفرق من العساكر ولما نزل العادل على مرج الصفر سير ولده الملك المعظم عيسى وهو صاحب دمشق في قطعة صالحة من الجيش إلى نابلس ليمنع الفرنج عن البيت المقدس‏.‏

ذكر حصر الفرنج قلعة الطور وتخريبها

لما نزل الفرنج بمرج عكا تجهزوا وأخذوا معهم آلة الحصار من مجانيق وغيرها وقصدوا قلعة الطور وهي قلعة منيعة على رأس جبل بالقرب من عكا العادل قد بناها عن قريب فتقدموا فاتفق أن بعض المسلمين ممن فيها قتل بعض ملوكهم فعادوا عن القلعة فتركوها وقصدوا عكا وكانت مدة مقامهم على الطور سبعة عشر يومًا‏.‏

ولما فارقوا الطور أقاموا قريبًا ثم ساروا في البحر إلى ديار مصر على ما نذكره إن شاء الله تعالى فتوجه الملك المعظم إلى قلعة الطور فخربها إلى أن ألحقها بالأرض لأنها بالقرب من عكا ويتعذر حفظها‏.‏

ذكر حصر الفرنج دمياط إلى أن ملكوها

لما عاد الفرنج من حصار الطور أقاموا بعكا إلى أن دخلت سنة خمس عشرة وستمائة فساروا في البحر إلى دمياط فوصلوا في صفر فأرسلوا على بر الجيزة بينهم وبين دمياط النيل فإن بعض النيل يصب في البحر المالح عند دمياط وقد بني في النيل برج كبير منيع وجعلوا فيه سلاسل من حديد غلاظ ومدوها في النيل إلى سور دمياط لتمنع المراكب الواصلة في البحر المالح أن تصعد في النيل إلى ديار مصر ولولا هذا البرج وهذه السلاسل لكانت مراكب العدو لا يقدر أحد على منعها عن أقاصي ديار مصر وأدانيها‏.‏

فلما نزل الفرنج على بر الجيزة وبينهم وبين دمياط النيل بنوا عليه سورًا وجعلوا خندقًا يمنعهم من يريدهم وشرعوا في قتال من بدمياط وعملوا آلات ومرمات وأبراجًا متحركة يزحفون بها في المراكب إلى هذا البرج ليقاتلوه ويملكوه‏.‏

وكان البرج مشحونًا بالرجال وقد نزل الملك الكامل ابن الملك العادل وهو صاحب ديار مصر بمنزلة تعرف بالعادلية بالقرب من دمياط والعساكر متصلة من عنده إلى دمياط ليمنع العدو من العبور إلى أرضهم‏.‏

وأدام الفرنج قتال البرج وتابعوه فلم يظفروا منه بشيء وكسرت مرماتهم وآلاتهم ومع هذا فهم ملازمون لقتاله فبقوا كذلك أربعة أشهر ولم يقدروا على أخذه فلما ملكوه قطعوا السلاسل لتدخل مراكبهم من البحر المالح في النيل ويتحكموا في البر فنصب الملك الكامل عوض السلاسل جسرًا عظيمًا امتنعوا به من سلوك النيل ثم أنهم قاتلوا عليه أيضًا قتالًا شديدًا كثيرًا متتابعًا حتى قطعوه فلا قطع أخذ الملك الكامل عدة مراكب كبار وملأها وخرقها وغرقها في النيل فمنعت المراكب من سلوكه‏.‏

فلما رأى الفرنج ذلك قصدوا خليجًا هناك يعرف بالأزرق كان النيل يجري فيه قديمًا فحفروا ذلك الخليج وعمقوه فوق المراكب التي جعلت في النيل وأجروا الماء فيه إلى البحر المالح وأصعدوا مراكبهم فيه إلى موضع يقال له بورة على أرض الجيزة أيضًا مقابل المنزلة التي فيها الملك الكامل ليقاتلوه من هناك فإنهم لم يكن لهم إليه طريق يقاتلونه فيها كانت دمياط تحجز بينهم وبينه فلما صاروا في بورة حاذوه فقاتلوه في الماء وزحفوا غير مرة فلم يظفروا بطائل‏.‏

ولم يتغير على أهل دمياط شيء لأن الميرة والأمداد متصلة بهم والنيل يحجز بينهم وبين الفرنج فهم ممتنعون لا يصل إليهم أذى وأبوابها مفتحة وليس عليها من الحصر ضيق ولا ضرر‏.‏

فاتفق كما يريد الله عز وجل أن الملك العادل توفي في جمادى الآخرة من سنة خمس عشرة وستمائة على ما نذكره إن شاء الله فضعفت نفوس الناس لأنه السلطان حقيقة وأولاده وإن كانوا ملوكًا إلا أنهم يحكمه والأمر إليه وهو ملكهم البلاد فاتفق موته والحال هكذا من مقاتلة العدو‏.‏

وكان من جملة الأمراء بمصر أمير يقال له عماد الدين أحمد بن علي ويعرف بابن المشطوب وهو من الأكراد الهكارية وهو أكبر أمير بمصر وله لفيف كثير وجميع الأمراء وأرادوا أن يخلعوا الملك الكامل من الملك ويملكوا أخاه الملك الفائز بن العادل ليصير الحكم إليهم عليه وعلى البلاد فبلغ الخبر إلى الكامل ففارق المنزلة ليلًا جريدة وسار إلى قرية يقال لها أشموم طناح فنزل عندها وأصبح العسكر وقد فقدوا سلطانهم فركب كل إنسان منهم هواه ولم يقف الأخ على أخيه ولم يقدروا على أخذ شيء من خيامهم وذخائرهم وأموالهم وأسلحتهم إلا اليسير الذي يخف حمله وتركوا الباقي بحاله من ميرة وسلاح ودواب وخيام وغير ذلك ولحقوا بالكامل‏.‏

وأما الفرنج فإنهم أصبحوا من الغد فلم يروا من المسلمين أحدًا على شاطئ النيل كجاري عادتهم فبقوا لا يدرون ما الخبر وإذ قد أتاهم من أخبرهم الخبر على حقيقة فعبروا حينئذ النيل إلى بر دمياط آمنين بغير منازع ولا ممانع وكان عبورهم في العشرين من ذي القعدة سنة خمس عشرة وستمائة فغنموا ما في معسكر المسلمين فكان عظيمًا يعجز العادين‏.‏

وكان الملك الكامل يفارق الديار المصرية لأنه لم يثق بأحد من عسكره وكان الفرنج ملكوا الجميع بغير تعب ولا مشقة فاتفق من لطف الله تعالى بالمسلمين أن الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل وصل إلى أخيه الكامل بعد هذه الحركة بيومين والناس في أمر مريج فقوي به قلبه واشتد ظهره وثبت جنانه وأقام بمنزلته وأخرجوا ابن المشطوب إلى الشام فاتصل بالملك الأشرف وصار من جنده‏.‏

فلما عبر الفرنج إلى أرض دمياط اجتمعت العرب على اختلاف قبائلها ونهبوا البلاد المجاورة لدمياط وقطعوا الطريق وأفسدوا وبالغوا في الإفساد فكانوا أشد على المسلمين من الفرنج وكان أضر شيء على أهل دمياط أنها لم يكن بها من العسكر أحد لأن السلطان ومن معه من العساكر كانوا عندها يمنعون العدو عنها فأتتهم هذه الحركة بغتة فلم يدخلها أحد من العسكر وكان ذلك من فعل ابن المشطوب لا جرم لم يمهله الله وأخذه أخذة رابية على ما نذكره إن شاء الله‏.‏

وأحاط الفرنج بدمياط وقاتلوها برًا وبحرًا وعملوا عليهم خندقًا يمنعهم من يريدهم من المسلمين وهذه كانت عادتهم وأداموا القتال واشتد الأمر على أهلها وتعذرت عليهم الأقوات وغيرها وسئموا القتال وملازمته لأن الفرنج كانوا يتناوبون القتال عليهم لكثرتهم وليس بدمياط من الكثرة ما يجعلون القتال بينهم مناوبة ومع هذا فقد صبروا صبرًا لم يسمع بمثله وكثر القتل فيهم والجراح والموت والأمراض ودام الحصار عليهم إلى السابع والعشرين من شعبان سنة ست عشرة وستمائة فعجز من بقي من أهلها عن الحفظ لقلتهم وتعذر القوت عندهم فسلموا البلد إلى الفرنج في هذا التاريخ بالأمان فخرج منهم قوم وأقام آخرون لعجزهم عن الحركة فتفرقوا أيدي سبا‏.‏

ذكر ملك المسلمين دمياط من الفرنج

لما ملك الفرنج دمياط أقاموا بها وبثوا سراياهم في كل ما جاورهم من البلاد ينهبون ويقتلون وأما الملك الكامل فإنه أقام بالقرب منهم في أطراف بلاده يحميها منهم‏.‏

ولما سمع الفرنج في بلادهم بفتح دمياط على أصحابهم أقبلوا إليهم يهرعون من كل فج عميق وأصبحت دار هجرتهم وعاد الملك المعظم صاحب دمشق إلى الشام فخرب البيت المقدس وإنما فعل ذلك لأن الناس كافة خافوا الفرنج وأشرف الإسلام وجميع أهله وبلاده على خطة خسف في شرق الأرض وغربها‏:‏ أقبل التتر من المشرق حتى وصلوا إلى نواحي العراق وأذربيجان وأران وغيرها على ما نذكره إن شاء الله تعالى وأقبل الفرنج من المغرب فملكوا مثل دمياط في الديار المصرية مع عدم الحصون المانعة بها من الأعداء وأشرف سائر البلاد بمصر والشام على أن تملك وخافهم الناس كافة وصاروا يتوقعون البلاء صباحًا ومساء‏.‏

وأراد أهل مصر الجلاء عن بلادهم خوفًا من العدو ‏{‏ولات حين مناص‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 3‏]‏‏.‏ والعدو قد أحاط بهم من كل جانب ولو مكنهم الكامل من ذلك لتركوا البلاد خاوية على عروشها وإنا منعوا منه فثبتوا‏.‏

وتابع الملك الكامل كتبه إلى أخويه المعظم صاحب دمشق والملك الأشرف موسى بن العادل صاحب ديار الجزيرة وأرمينية وغيرهما يستنجدهما ويحثهما على الحضور بأنفسهما فإن لم يكن فيرسلان العساكر إليه فسار صاحب دمشق إلى الأشرف بنفسه بحران فرآه مشغولًا عن إنجادهم بما دهمه من اختلاف الكلمة عليه وزوال الطاعة عن كثير ممن كان يطيعه ونحن نذكر ذلك سنة خمس عشرة وستمائة إن شاء الله عند وفاة الملك القاهر صاحب الموصل فليطلب من هناك فعذره وعاد عنه وبقي الأمر كذلك مع الفرنج‏.‏

فأما الملك الأشرف فزال الخلف من بلاده ورجع الملوك الخارجون عن طاعته إليه واستقامت له الأمور إلى سنة ثماني عشرة وستمائة والملك الكامل مقابل الفرنج‏.‏

فلما دخلت سنة ثماني عشرة وستمائة علم بزوال مانع الملك الأشرف عن إنجاده فأرسل يستنجده وأخاه صاحب دمشق فسار صاحب دمشق المعظم إلى الأشرف يحثه على المسير ففعل وسار إلى دمشق فيمن معه من العساكر وأمر الباقين باللحاق به إلى دمشق وأقام بها ينتظرهم فأشار عليه بعض أمرائه وخواصه بإنفاذ العساكر والعود إلى بلاده خوفًا من اختلاف يحدث بعده فلم يقبل قولهم وقال‏:‏ قد خرجت للجهاد ولا بد من إتمام ذلك العزم فسار إلى مصر‏.‏

وكان الفرنج قد ساروا عن دمياط في الفارس والراجل وقصدوا الملك الكامل ونزلوا مقابله بينهما خليج من النيل يسمى بحر أشموم وهم يرمون بالمنجنيق والجرخ إلى عسكر المسلمين وقد تيقنوا هم وكل الناس أنهم يملكون الديار المصرية‏.‏

وأما الأشراف فإنه سار حتى وصل مصر فلما سمع أخوه الكامل بقربه منهم توجه إليه فلقيه واسبتشر هو وسائر المسلمين باجتماعهما لعل الله يحدث بذلك نصرًا وظفرًا‏.‏

وأما الأشرف فإنه سار حتى وصل مصر فلما سمع أخوه الكامل بقربه منهم توجه إليه فلقيه واسبتشر هو وسائر المسلمين باجتماعهما لعل الله يحدث بذلك نصرًا وظفرًا‏.‏

وأما الملك المعظم صاحب دمشق فإنه سار أيضًا إلى ديار مصر وقصد دمياط ظنًا منه أن أخويه وعسكريهما قد نازلوها وقيل بل أخبر في الطريق أن الفرنج قد توجهوا إلى دمياط فسابقهم إليها ليلقاهم من بين أيديهم وأخواه من خلفهم والله أعلم‏.‏

ولما اجتمع الأشراف بالكامل استقر الأمر بينهما على التقدم إلى خليج من النيل يعرف ببحر المحلة فتقدموا إليه فقاتلوا الفرنج وازدادوا قربًا وتقدمت شواني المسلمين من النيل وقاتلوا شواني الفرنج فأخذوا منها ثلاث قطع بمن فيها من الرجال وما فيها من الأموال والسلاح ففرح المسلمون بذلك واسبتشروا وتفاءلوا وقويت نفوسهم واستطالوا على عدوهم‏.‏

هذا يجري والرسل مترددة بينهم في تقرير قاعدة الصلح وبذل المسلمون لهم تسليم البيت المقدس وعسقلان وطبرية وصيدا وجبلة واللاذقية وجميع ما فتحه صلاح الدين من الفرنج بالساحل وقد تقدم ذكره ما عدا الكرك ليسلموا دمياط فلم يرضوا وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار فبينما الأمر في هذا وهم يمتنعون اضطر المسلمون إلى قتالهم وكان الفرنج لاعتدادهم بنفوسهم لم يستصحبوا معهم ما يقوتهم عدة أيام ظنًا منهم أن العساكر الإسلامية لا تقوم لهم وأن القرى والسواد جميعه يبقى بأيديهم ويأخذون منه ما أرادوا من الميرة لأمر يريده الله تعالى بهم فعبر طائفة من المسلمين إلى الأرض التي عليها الفرنج ففجروا النيل فركب الماء أكثر تلك الأرض ولم يبق للفرنج جهة يسلكون منها غير جهة واحدة فيها ضيق فنصب الكامل حينئذ الجسور على النيل عند أشموم وعبرت العساكر عليها فملك الطريق الذي يسلكه الفرنج إن أرادوا العود إلى دمياط فلم يبق لهم خلاص‏.‏

واتفق في تلك الحال أنه وصل إليهم مركب كبير للفرنج من أعظم المراكب يسمى مرمة وحوله عدة حراقات تحميه والجميع مملوء من الميرة والسلاح وما يحتاجون إليه فوقع عليها شواني المسلمين وقاتلوهم فظفروا بالمرمة وبما معها من الحراقات وأخذوها فلما رأى الفرنج ذلك سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا الصواب بمفارقة دمياط في أرض يجهلونها‏.‏

هذا وعساكر المسلمين محيطة بهم يرمونهم بالنشاب ويحملون على أطرافهم فلما اشتد الأمر على الفرنج أحرقوا خيامهم ومجانيقهم وأثقالهم وأرادوا الزحف إلى المسلمين ومقاتلتهم لعلم يقدرون على العود إلى دمياط فرأوا ما أملوه بعيدًا وحيل بينهم وبين ما يشتهون لكثرة الوحل فلما تيقنوا أنهم قد أحيط بهم من سائر جهاتهم وأن ميرتهم قد تعذر عليهم وصولها وأن المنايا قد كشرت لهم عن أنيابها ذلت نفوسهم وتكسرت صلبانهم وضل عنهم شيطانهم فراسلوا الملك الكامل والأشرف يطلبون الأمان ليسلموا دمياط بغير عوض فبينما المراسلات مترددة إذ أقبل جمع كبير لهم رهج شديد وجلبة عظيمة من جهة دمياط فظنه المسلمون نجدة أتت للفرنج فاستشعروا وإذا هو الملك المعظم صاحب دمشق قد وصل إليهم وكان قد جعل طريقه على دمياط لما ذكرناه فاشتدت ظهور المسلمين وازداد الفرنج خذلانًا وكان قد جعل طرقه على دمياط لما ذكرناه فاشتدت ظهور المسلمين وازداد الفرنج خذلانًا ووهنًا وتمموا الصلح على تسليم دمياط واستقرت القاعدة والأيمان سابع رجب من سنة ثماني عشرة وستمائة وانتقل ملوك الفرنج وكنودهم وقمامصتهم إلى الملك الكامل والأشرف رهائن على تسليم دمياط ملك عكا ونائب بابا صاحب رومية وكند ريش وغيرهم وعدتهم عشون ملكًا وراسلوا قسوسهم ورهبانهم إلى دمياط في التسليم فلم يمتنع من هبا وسلموها إلى المسلمين تاسع رجب المذكور وكان يومًا مشهودًا‏.‏

ومن العجب أن المسلمين لما تسلموها وصلت للفرنج نجدة في البحر فلو سبقوا المسلمين إليها لامتنعوا من تسليمها ولكن سبقهم المسلمون ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا ولم يبق بها من أهلها إلا آحاد وتفرقوا أيدي سبا وبعضهم سار عنها باختياره وبعضهم مات وبعضهم أخذه الفرنج‏.‏

ولما دخلها المسلمون رأوها وقد حصنها الفرنج تحصينًا عظيمًا بحيث بقيت لا ترام ولا يوصل إليها وأعاد الله سبحانه وتعالى الحق إلى نصابه ورده إلى أربابه وأعطى المسلمين ظفرًا مل يكن في حسابهم فإنهم كانت غاية أمانيهم أن يسلموا البلاد التي أخذت منهم بالشام ليعيدوا دمياط فرزقهم الله إعادة دمياط وبقيت البلاد بأيديهم على حالها فالله المحمود المشكور على ما أنعم به على الإسلام والمسلمين من كف عادية هذا العدو وكفاهم شر التتر على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في المحرم كانت ببغداد فتنة بين أهل المأمونية وبني أهل باب الأزج بسبب قتل سبع وزاد الشر بينهم واقتتلوا فجرح بينهم كثير فحضر نائب الباب وكفهم عن ذلك فلم يقبلوا ذلك وأسمعوه ما يكره فأرسل من الديوان أمير من مماليك الخليفة فرد أهل كل محلة إلى محلتهم وسكنت الفتنة‏.‏

وفيها كثر الفأر ببلدة دجيل من أعمال بغداد فكان الإنسان لا يقدر أن يجلس إلا ومعه عصًا يردج الفأر عنه وكان يرى الكثير منه ظاهرًا يتبع بعضه بعضًا‏.‏

وفيها زادت دجلة زيادة عظيمة لم يشاهد في قديم الزمان مثلها وأشرفت بغداد على الغرق فركب الوزير والأمراء والأعيان كافة وجمعوا الخلق العظيم من العامة وغيرهم لعمل القورج حول البلد وقلق الناس لذلك وانزعجوا وعاينوا الهلاك وأعدوا السفن لينجوا فيها وظهر الخليفة للناس وحثهم على العمل وكان مما قال لهم‏:‏ لو كان يفدى ما أرى بمال أو غيره لفعلت ولو دفع بحرب لفعلت ولكن أمر الله لا يرد‏.‏

ونبع الماء من البلاليع والآبار من الجانب الشرقي وغرق كثير منه وغرق مشهد أبي حنيفة وبعض الرصافة وجامع المهدي وقرية الملكية والكشك وانقطعت الصلاة بجامع السلطان‏.‏

وأما الجانب الغربي فتهدم أكثر القرية ونهر عيسى والشطيات وخربت البساتين ومشهد باب التبن ومقبرة أحمد ابن حنبل والحريم الطاهري وبعض باب البصرة والدور التي على نهر عيسى وأكثر محلة قطفتا‏.‏

وفيها توفي أحمد بن أبي الفضائل عبد المنعم بن أبي البركات محمد بن طاهر ابن سعيد بن فضل الله بن سعيد بن أبي الخير الميهني الصوفي أبو الفضل شيخ رباط الخليفة ببغداد وكان صالحًا

ثم دخلت سنة خمس عشرة وستمائة

ذكر وفاة الملك القاهر

وولاية ابنه نور الدين وما كان من الفتن بسبب موته إلى أن استقرت الأمور في هذه السنة توفي الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود ابن مودود بن زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل ليلة الاثنين لثلاث بقين من شهر ربيع الأول وكانت ولايته سبع سنين وتسعة أشهر‏.‏

وكان سبب موته أنه أخذته حمى ثم فارقته الغد وبقي يومين موعوكًا ثم عاودته الحمى مع فيء كثير وكرب شديد وقلق متتابع ثم برد بدنه وعرق وبقي كذلك إلى وسط الليل ثم توفي‏.‏

وكان كريمًا حليمًا قليل الطمع في أموال الرعية كافًا عن أذى يوصله إليهم مقبلًا على لذاته كأنما ينهبها ويبادر بها الموت وكن عنده رقة شديدة ويكثرذكر الموت‏.‏

حكى لي بعض من كان يلازمه قال‏:‏ كنا ليلة قبل وفاته بنصف شهر عنده فقال لي‏:‏ قد وجدت ضجرًا من القعود فقم بنا نتمشى إلى الباب العمادي قال‏:‏ فقمنا فخرج من داره نحو الباب العمادي فوصل التربة التي عملها لنفسه عند داره فوقف عندها مفكرًا لا يتكلم ثم قال لي‏:‏ والله ما نحن في شيء‏!‏ أليس مصيرنا إلى هاهنا وندفن تحت الأرض وأطال الحديث في هذا ونحوه ثم عاد إلى الدار فقلت له‏:‏ ألا نمشي إلى الباب العمادي فقال‏:‏ ما بقي عندي نشاط إلى هذا ولا إلى غيره ودخل داره وتوفي بعد أيام‏.‏

وأصيب أهل بلاده بموته وعظم عليهم فقده وكان محبوبًا إليهم قريبًا من قلوبهم ففي كل دار لأجله رنة وعويل ولما حضرته الوفاة أوصى بالملك لولده الأكبر نور الدين أرسلان شاه وعمره حينئذ نحو عشر سنين وجعل الوصي عليه والمدبر لدولته بدر الدين لؤلؤ وهو الذي كان يتولى دولة القاهر ودولة أبيه نور الدين قبله وقد تقدم من أخباره ما يعرف به محله وسيرد منها أيضًا ما يزيد الناظر بصيرة فيه‏.‏

فلما قضى نحبه قام بدر الدين بأمر نور الدين وأجلسه في مملكة أبيه وأرسل إلى الخليفة يطلب له التقليد والتشريف وأرسل إلى الملوك وأصحاب الأطراف المجاورين لهم يطلب منهم تجديد العهد لنور الدين على القاعدة التي كانت بينهم وبين أبيه فلم يصبح إلا وقد فرغ من كل ما يحتاج إليه وجلس للعزاء وحلف الجند والرعايا وضبط المملكة من التزلزل والتغير مع صغر السلطان وكثرة الطامعين في الملك فإنه كان معه في البلد أعمام أبيه وكان عمه عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه بولايته وهي قلعة عقر الحميدية يحدث نفسه بالملك لا يشك في أن الملك يصير إليه بعد أخيه فرقع بدر الدين ذلك الخرق ورتق ذلك الفتق وتابع الإحسان والخلع على الناس كافة وغير ثياب الحداد عنهم فلم يخص بذلك شريفًا دون مشروف ولا كبيرًا دون صغير وأحسن السيرة وجلس لكف ظلامات الناس وإنضاف بعضهم من بعض‏.‏

وبعد أيام وصل التقليد من الخليفة لنور الدين بالولاية ولبدر الدين بالنظر في أمر دولته والتشريفات لهما أيضًا وأتتهما رسل الملوك بالتعزية وبذل ما طلب منهم من العهود واستقرت القواعد لهما‏.‏

ذكر ملك عماد الدين زنكي قلاع الهكارية والزوزان

قد ذكرنا عند وفاة نور الدين سنة سبع وستمائة أنه أعطى ولده الأصغر زنكي قلعتي العقر وشوش وهما بالقرب من الموصل فكان تارة يكون بالموصل وتارة بولايته متجنيًا لكثرة تلونه وكان بقلعة العمادية مستحفظ من مماليك جده عز الدين مسعود بن مودود قيل إنه جرى له منع زنكي مراسلات في معنى تسليم العمادية إليه فنمى الخبر بذلك إلى بدر الدين فبادره بالعزل مع أمير كبير وجماعة من الجند لم يمكنه الامتناع وسلم القلعة إلى نائب بدر الدين كذلك وجعل وكان نور الدين بن القاهر لا يزال مريضًا من جروح كانت به وغيرها من الأمراض وكان يبقى المدة الطويلة لا يركب ولا يظهر للناس فأرسل زنكي إلى من بالعمادية من الجند يقول‏:‏ إن ابن أخي توفي ويريد بدر الدين أن يملك البلاد وأنا أحق بملك آبائي وأجدادي فلم يزل حتى استدعاه الجند منها وسلموا إليه ثامن عشر رمضان سنة خمس عشرة وستمائة وقبضوا على النائب البدري وعلى من معه‏.‏

فوصل الخبر إلى بدر الدين ليلًا فجد في الأمر ونادى في العسكر لوقته بالرحيل فساروا مجدين إلى العمادية وبها زنكي ليحصروه فيها فلم يطلع الصبح إلا وقد فرغ من تسيير العساكر فساروا إلى العمادية وحصروها وكان الزمان شتاء والبرد شديد والثلج هناك كثير فلم يتمكنوا من قتال من بها لكنهم أقاموا يحصرونها وقام مظفر الدين كوكبري بن زين الدين صاحب إربل في نصر عماد الدين وتجرد لمساعدته فراسله بدر الدين يذكره الأيمان والعهود التي من جملتها أنه لا يتعرض إلى شيء من أعمال الموصل ومنها قلاع الهكارية والزوزان بأسمائها ومتى تعرض إليها أحد من الناس من كان منعه بنفسه وعساكره وأعان نور الدين وبدر الدين على منعه ويطالبه بالوفاء بها‏.‏

ثم نزل عن هذا ورضي منه بالسكوت لا لهم ولا عليهم فلم يفعل وأظهر معاضدة عماد الدين زنكي فحينئذ لم يمكن مكاثرة زنكي بالرجال والعساكر لقرب هذا الخصم من الموصل وأعمالها إلا أن العسكر البدري محاصر للعمادية وبها زنكي‏.‏

ثم إن بعض الأمراء من عسكر الموصل ممن لا علم له بالحرب وكان شجاعًا وهو جديد الإمارة أراد أن يظهر شجاعته ليزداد بها تقدمًا أشار على من هناك من العسكر بالتقدم إليها ومباشرتا بالقتال وكانوا قد تأخروا عنها شيئًا يسيرًا لشدة البرد والثلج فلم يوافقوه وقبحوا رأيه فتركهم ورحل متقدمًا إليهم ليلًا فاضطروا إلى اتباعه خوفًا عليه من أذى يصيبه ومن معه فساروا إليه على غير تعبئة لضيق المسلك ولأنه أعجلهم عن ذلك وحكم الثلج عليهم أيضًا‏.‏

فسمع زنكي ومن مه فنزلوا ولقوا أوائل الناس وأهل مكة أخبر بشعابها فلم يثبتوا لهم وانهزموا وعادوا إلى منزلتهم ولم يقف العسكر عليهم فاضطروا إلى العود فلما عادوا راسل زنكي باقي قلاع الهكارية والزوزان واستدعاهم إلى طاعته فأجابوه وسلموا إليه فجعل فيها الولاة وتسلمها وحكم فيها‏.‏

ذكر اتفاق بدر الدين مع الملك الأشرف

لما رأى بدر الدين خروج القلاع عن يده واتفاق مظفر الدين وعماد الدين عليه ولم ينفع معهما اللين ولا الشدة وإنهما لا يزالان يسعيان في أخذ بلاده ويتعرضان إلى أطرافها بالنهب والأذى أرسل إلى الملك الأشرف موسى ابن الملك العادل وهو صاحب ديار الجزيرة كلها إلا القليل وصاحب خلاط وبلادها يطلب منه الموافقة والمعاضدة وانتمى إليه وصار في طاعته منخرطًا في سلك موافقته فأجابه الأشرف بالقبول لذلك والفرح به والاستبشار وبذل له المساعدة والمعاضدة والمحاربة دونه واستعادة ما أخذ من القلاع التي كانت له‏.‏

وكان الملك الأشرف حينئذ بحلب نازلًا بظاهرها لما ذكرناه من تعرض كيكاوس ملك بلاد الروم التي بيد المسلمين قونية وغيرها إلى أعمالها وملكه بعض قلاعها فأرسل إلى مظفر الدين يقبح هذه الحالة ويقول له‏:‏ إن هذه القاعدة تقررت بين جميعنا بحضور رسلك وإننا نكون على الناكث إلى أن يرجع الحق ولا بد من إعادة ما أخذ من بلد الموصل لندوم على اليمين التي استقرت بيننا فإن امتنعت وأصررت على معاضدة زنكي ونصرته فأنا أجيء بنفسي وعساكري وأقصد بلادك وغيرها وأسترد ما أخذتموه وأعيده إلى أصحابه والمصلحة أنك توافق وتعود إلى الحق لنجعل شغلنا جمع العساكر وقصد الديار المصرية وإجلاء الفرنج عنها قبل أن يعظم خطبهم ويستطير شرهم‏.‏

فلم تحصل الإجابة منه إلى شيء من ذلك وكان ناصر الدين محمود صاحب الحصن وآمد قد امتنع عن موافقة الأشرف ذلك جهز عسكرًا وسيره إلى نصيبين نجدة لبدر الدين إن احتاج إليهم‏.‏

ذكر انهزام عماد الدين من العسكر البدري

لما عاد العسكر البدري من حصار العمادية وبها زنكي كما ذكرناه قويت نفسه وفارقها وعاد إلى قلعة العقر التي له ليتسلط على أعمال الموصل بالصحراء فإن بلد الجبل كان قد فرغ منه وأمده مظفر الدين بطائفة كثيرة من العسكر‏.‏

فلما اتصل الخبر ببدر الدين سير طائفة من عسكره إلى أطراف بلد الموصل يحمونها فأقاموا على أربعة فراسخ من الموصل ثم إنهم اتفقوا بينهم على المسير إلى زنكي وهو عند العقر في عسكره ومحاربته ففعلوا ذلك ولم يأخذوا أمر بدر الدين بل أعلموه بمسيرهم جريدة ليس معهم إلا سلاحهم ودواب يقاتلون عليها فساروا ليلتهم وصبحوا زنكي بكرة الأحد لأربع بقين من المحرم من سنة ست عشرة وستمائة فالتقوا واقتتلوا تحت العقر وعظم الخطب بينهم فأنزل الله نصره على العسكر البدري فانهزم عماد الدين وعسكره وسار إلى إربل منهزمًا وعاد العسكر البدري إلى منزلته التي كان بها وحضرت الرسل من الخليفة الناصر لدين الله ومن الملك الأشرف في تجديد الصلح فاصطلحوا وتحالفوا بحضور الرسل‏.‏

ذكر وفاة نور الدين صاحب الموصل وملك أخيه

ولما تقرر الصلح توفي نور الدين أرسلان شاه ابن مالك القاهرة صاحب الموصل وكان لا يزال مريضًا بعدة أمراض فرتب بدر الدين في الملك بعده أخاه ناصر الدين محمودًا وله من العمر نحو ثلاث سنين ولم يكن للقاهر ولد غيره وحلف له الجند وركبه فطابت نفوس الناس لأن نور الدين كان لا يقدر على الركوب لمرضه فلما ركبوا هذا علموا أن لهم سلطانًا من البيت الأتابكي فاستقروا واطمأنوا وسكن كثير من الشغب بسببه‏.‏

ذكر انهزام بدر الدين من مظفر الدين

لما توفي نور الدين وملك أخوه ناصر الدين تجدد لمظفر الدين ولعماد الدين طمع لصغر سن ناصر الدين فجمعا الرجال وتجهز للحركة فظهر ذلك وقصد بعض أصحابهم طرف ولاية الموصل بالنهب والفساد‏.‏

وكان بدر الدين قد سير ولده الأكبر في جمع صالح من العسكر إلى الملك الأشرف بحلب نجدة له بسبب اجتماع الفرنج بمصر وهو يريد أن يدخل بلاد الفرنج التي بساحل الشام ينهبها ويخربها ليعود بعض من بدمياط إلى بلادهم فيخف الأمر على الملك الكامل صاحب مصر فلما رأى بدر الدين تحرك مظفر الدين وعماد الدين وأن بعض عسكره بالشام أرسل إلى عسكر الملك الأشرف الذي بنصيبين يستدعيهم ليعتضد بهم وكان المقدم عليهم مملوك الأشرف اسمه أيبك فساروا إلى الموصل رابع رجب سنة ست عشرة‏.‏

فلما رآهم بدر الدين استقلهم لأنهم كانوا أقل من العسكر الذي له بالشام أو مثلهم فألح أيبك على عبور دجلة وقصد بلاد إربل فمنعه بدر الدين من ذلك وأمره بالاستراحة فنزل بظاهر الموصل أيامًا وأصر على عبور دجلة فعبرها بدر الدين موافقة له ونزلوا على فرسخ من الموصل شرقي دجلة فلما سمع مظفر الدين ذلك جمع عسكره وسار إليهم ومعه زنكي فعبر الزاب وسبق خبره فسمع به بدر الدين فعبأ أصحابه وجعل أيبك في الجالشية ومعه شجعان أصحابه وأكثر معه منهم بحيث إنه لم يبق معه إلا اليسير وجعل في ميسرته أميرًا كبيرًا وطلب الانتقال عنها إلى الميمنة فنقله‏.‏

فلما كان وقت العشاء الآخرة أعاد ذلك الأمير الطلب بالانتقال من الميمنة إلى الميسرة والخصم بالقرب منهم فمنعه بدر الدين وقال‏:‏ متى انتقلت أنت ومن معك في هذا الليل ربما ظنه الناس هزيمة فلا يقف أحد فأقام بمكانه وهو في جمع كبير من العسكر فلما انتصف الليل سار أيبك فأمره بدر الدين بالمقام إلى الصبح لقرب العدو منهم فلم يقبل لجهله بالحرب فاضطر الناس لاتباعه فتقطعوا في الليل والظلمة والتقوا هم والخصم في العشرين من رجب على ثلاثة فراسخ من الموصل فأما عز الدين فإنه تيامن والتحق بالميمنة وحمل في اطلابه هو والميمنة على ميسرة مظفر الدين فهزمها وبها زنكي‏.‏

وكان الأمير الذي انتقل إلى الميمنة قد أبعد عنها فلم يقاتل فلما رأى أيبك قد هزم الميسرة تبعها والتحق به وانهزمت ميسرة بدر الدين فبقي هو في النفر الذين معه وتقدم إليه مظفر الدين فيمن معه في القلب لم يتفرقوا فلم يمكنه الوقوف فعاد إلى الموصل وعبر دجلة إلى القلعة ونزل منها إلى البلد فلما رآه الناس فرحوا به وساروا معه وقصد باب الجسر والعدو بإزائه بينهما دجلة فنزل مظفر الدين فيمن سلم معه من عسكره وراء تل حصن نينوى فأقام ثلاثة أيام‏.‏

فلما رأى اجتماع العسكر البدري بالموصل وأنهم لم يفقد منهم إلا اليسير وبلغه الخبر أن بدر الدين يريد العبور إليه ليلًا بالفارس والراجل على الجسور وفي السفن ويكبسه رحل ليلًا من غير أن يضرب كوسًا أو بوقًا وعادوا نحو إربل فلما عبروا الزاب نزلوا ثم جاءت الرسل وسعوا في الصلح فاصطلحوا على أن كل من بيده شيء هو له وتقررت العهود والأيمان على ذلك‏.‏

ذكر ملك عماد الدين قلعة كواشى وملك بدر الدين تل يعفر

وملك الملك الأشرف سنجار كواشى هذه من أحصن قلا الموصل وأعلاها وأمنعها وكان الجند الذين بها لما رأوا ما فعل أهل العمادية وغيرها من التسليم إلى زنكي وأنهم قد تحكموا في القلاع لا يقدر أحد على الحكم عليهم أحبوا أن يكونا كذلك فأخرجوا نواب بدر الدين عنهم وامتنعوا بها وكانت رهائنهم بالموصل وهم يظهرون طاعة بدر الدين ويبطنون المخالفة فترددت الرسل في عودهم إلى الطاعة فلم يفعلوا وراسلوا زنكي في المجيء إليهم فسار إليهم وتسلم القلعة وأقام عندهم فرسول مظفر الدين يذكر بالأيمان القريبة العهد ويطلب منه إعادة كواشى فلم تقع الإجابة إلى ذلك فأرسل حينئذ بدر الدين إلى الملك الأشرف وهو بحلب يستنجده فسار وعبر الفرات إلى حران واختلفت عليه الأمور من عدة جهات منعته من سرعة السير‏.‏

وسبب هذا الاختلاف أن مظفر الدين كان يراسل الملوك أصحاب الأطراف ليستميلهم ويحسن لهم الخروج على الأشرف ويخوفهم منه إن خلا وجهه فأجابه إلى ذلك عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن قلج أرسلان صاحب بلاد الروم وصاحب آمد وحصن كيفا وصاحب ماردين واتفقوا كلهم على طاعة كيكاوس وخطبوا له في بلادهم ونحن نذكر ما كان بينه وبين الأشراف عند منبج لما قصد بلاد حلب فهو موغر الصدر عليه‏.‏

فاتفق أن كيكاوس مات في ذلك الوقت وكفي الأشرف وبدر الدين شره ولا جد إلا ما أقعص عنك الرجال وكان مظفر الدين قد راسل جماعة من الأمراء الذين مع الأشرف واستمالهم فأجابوه منهم‏:‏ أحمد بن علي بن المشطوب الذي ذكرنا أنه فعل على دمياط ما فعل وهو أكبر أمير معه ووافقه غيره منهم‏:‏ عز الدين محمد بن بدر الحميدي وغيرهما وفارقوا الأشرف ونزلوا بدنيسر تحت ماردين ليجتمعوا مع صاحب آمد ويمنعوا الأشراف من العبور إلى الموصل لمساعدة بدر الدين‏.‏

فلما اجتمعوا هناك عاد صاحب آمد إلى موافقة الأشرف وفارقهم واستقر الصلح بينهما وسلم إليه الأشرف مدينة حاني وجبل جور وضمن له أخذ دارا وتسليمها إليه فلما فارقهم صاحب آمد انحل أمرهم فاضطر بعض أولئك الأمراء إلى العود إلى طاعة الأشرف وبقي ابن المشطوب وحده فسار إلى نصيبين ليسير إلى إربل فخرج إليه شحنة نصيبين فيمن عنده من الجند فاقتتلوا فانهزم ابن المشطوب وتفرق من معه من الجمع ومضى منهزمًا فاجتاز بطرف بلد سنجار فسير إليه صاحبها فروخ شاه بن زنكي ابن مودود بن زنكي عسكرًا فهزموه وأخذوه أسيرًا وحملوه إلى سنجار وكان صاحبها موافقًا للأشرف وبدر الدين‏.‏

فلما صار عند ابن المشطوب حسن عنده مخالفة الأشرف فأجابه إلى ذلك وأطلقه فاجتمع معه من يريد الفساد فقصدوا البقعا من أعمال الموصل ونهبوا فيها عدة قرى وعادوا إلى سنجار ثم ساروا وهو معهم إلى تل يعفر وهي لصاحب سنجار ليقصدوا بلد الموصل وينهبوا في تلك الناحية فلما سمع بدر الدين بذلك سير إليه عسكرًا فقاتلوهم فمضى منهزمًا وصعد إلى تل يعفر واحتمى بها منعم ونازلوه وحصروه فيها فسار بدر الدين من الموصل إليه يوم الثلاثاء لتسع بقين من ربيع الأول سنة سبع عشرة وستمائة وجد في حصره وزحف إليها مرة بعد أخرى فملكها سابع عشر ربيع الآخر من هذه السنة وأخذ ابن المشطوب معه إلى الموصل فسجنه بها ثم أخذه منه الأشرف فسجنه بحران إلى أن توفي في ربيع الآخر سنة تسع عشرة وستمائة ولقاه الله عقوبة ما صنع بالمسلمين بدمياط‏.‏

وأما الملك الأشرف فإنه لما أطاعه صاحب الحصن وآمد وتفرق الأمراء عنه كما ذكرناه رحل من حران إلى دنيسر فنزل علها واستولى على بلد ماردين وشحن عليه وأقطعه ومنع الميرة عن ماردين وحضر معه صاحب آمد وترددت الرسل بينه وبين صاحب ماردين في الصلح فاصطلحوا على أن يأخذ الأشرف رأس عين وكان هو قد أقطعها لصاحب ماردين ويأخذ منه أيضًا ثلاثين ألف دينار ويأخذ منه صاحب آمد الموزر من بلد شبختان‏.‏

فلما تم الصلح سار الأشرف من دنيسر إلى نصيبين يريد الموصل فبينما هو في الطريق لقيه رسل صاحب سنجار يبذل تسليمها إليه ويطلب العوض عنها مدينة الرقة‏.‏

وكان السبب في ذلك أخذ تل يعفر منه فانخلع قلبه وانضاف إلى ذلك أن ثقاته ونصحاءه خانوه وزادوه رعبًا وخوفًا لأنه تهددهم فتغدوا به قبل أن يتعشى بهم ولأنه قطع رحمه وقتل أخاه الذي ملك سنجار بعد أبيه وقتله كما نذكره إن شاء الله وملكها فلقاه الله سوء فعله ولم يمتنعه بها فلما تيقن رحيل الأشرف تحير في أمره فأرسل في التسليم إليه فأجابه الأشرف إلى العوض وسلم إليه الرقة وتسلم سنجار مستهل جمادى الأولى سنة سبع عشرة وستمائة وفارقها صاحبها وإخوته بأهليهم وأموالهم وكان هذا آخر ملوك البيت الأتابكي بسنجار فسبحا الحي الدائم الذي ليس لملكه آخر‏.‏

وكان مدة ملكهم لها أربعًا وتسعين سنة وهذا دأب الدنيا بأبنائها فتعسًا لها من دار ما أغدرها بأهلها‏!‏

والصلح مع مظفر الدين لما ملك الملك الأشرف سنجار سار يري الموصل ليجتاز منها فقدم بين يديه عساكره فكان يصل كل يوم منهم جمع كثير ثم وصل هو في آخرهم يوم الثلاثاء تاسع عش جمادى الأولى من السنة المذكورة وكان يوم وصوله مشهودًا وأتاه رسل الخليفة ومظفر الدين في الصلح وبذل تسليم القلاع المأخوذة جميعها إلى بدر الدين ما عدا قلعة العمادية فإنها تبقى بيد زنكي وإن المصلحة قبول هذا لتزول الفتن ويقع الاشتغال بجهاد الفرنج‏.‏

وطال الحديث في ذلك نحو شهرين ثم رحل الأشرف يريد مظفر الدين صاحب إربل فوصل إلى قرية السلامية بالقرب من نهر الزاب وكان مظفر الدين نازلًا عليها من جانب إربل فأعاد الرسل وان العسكر قد طال بيكاره والناس قد ضجروا وناصر الدين صاحب آمد يميل إلى مظفر الدين فأشار بالإجابة إلى ما بذل وأعانه عليه غيره فوقعت الإجابة إليه واصطلحوا على ذلك وجعل لتسليمها أجل وحمل زنكي إلى الملك الأشرف يكون عنده رهينة إلى حين تسليم القلاع‏.‏

وسملت قلعة العقر وقلعة شوش أيضًا وهما لزنكي إلى نواب الأشرف رهنًا على تسليم ما استقر من القلاع فإذا سلمت أطلب زنكي وأعيد عليه قلعة العقر وقلعة شوس وحفوا على هذا وسلم الأشرف زنكي القلعتين وعاد إلى سنجار وكان رحيله عن الموصل ثاني شهر رمضان من سنة سبع عشرة وستمائة فأرسلوا إلى القلاع لتسلم إلى نواب بدر الدين فلم يسلم إليه غير قلعة جل صورا من أعمال الهكارية وأما باقي القلاع فإن جندها أظهروا الامتناع من ذلك ومضى الأجل ولم يسلم غير جل صورا‏.‏

ولزم عماد الدين زنكي لشهاب الدين غازي ابن الملك العادل وخدمه وتقرب إليه فاستعطف له أخاه الملك الأشرف فمال إليه وأطلقه وأزال نوابه من قلعة العقر وقلعة شوش وسلمهما إليه‏.‏

وبلغ بدر الدين عن الملك الأشرف ميل إلى قلعة تل يعفر وإنها كانت لسنجار من قديم الزمان وحديثه وطال الحديث في ذلك فسلمها إليه بدر الدين‏.‏      

ذكر عود قلاع الهكارية والزوزان إلى بدر الدين

لما ملك زنكي قلاع الهكارية والزوزان لم يفعل مع أهلها ما ظنوه من الإحسان والإنعام بل فعل ضده وضيق عليهم وكان يبلغهم أفعال بدر الدين مع جنده ورعاياه وإحسانه إليهم وبذله الأموال لهم وكانوا يريدون العود إليه ويمنعهم الخوف منه لما أسلفوه من ذلك فلما كان الآن أعلنوا بما فعل معهم فأرسلوا إلى بدر الدين في المحرم سنة ثماني عشرة وستمائة في التسليم إليه وطلبوا منه اليمين والعفو عنهم وذكروا شيئًا من إقطاع يكون لهم فأجابهم إلى ذلك وأرسل إلى الملك الأشرف يستأذنه في ذلك فلم يأذن له‏.‏

وعاد زنكي من عند الأشرف فجمع جموعًا وحصر قلعة العمادية فلم يبلغ منهم غرضًا وأعادوا مراسلة بدر الدين في التسليم إليه فكتب إلى الملك الأشرف في المعنى وبذل هل قلعة جديدة نصيبين وولاية بني النهرين ليأذن له في أخذها فأذن له فأرسل إليها كلها النواب وتسلموها وأحسن إلى أهلها ورحل زنكي عنها ووفى له بدر الدين بما بذله لهم‏.‏

فلما سمع جند باقي القلاع بما فعلوا وما وصلهم من الإحسان والزيادة رغبوا كلهم في التسليم إليه فسير إليهم النواب واتفقت كلمة أهلها على طاعته والانقياد إليه والعجب أن العساكر اجتمعت من الشام والجزيرة وديار بكر وخلاط وغيرها في استعادة هذه القلاع فلم يقدروا على ذلك فلما تفرقوا حضر أهلها وسألوا أن تؤخذ منهم فعادت صفوًا عفوًا بغير منة ولقد أحسن من قال‏:‏ لا سهل إلا ما جعلت سهلًا وإن تشأ تجعل بحزن وحلا

ذكر قصد كيكاوس ولاية حلب وطاعة صاحبها للأشرف وانهزام كيكاوس

في هذه السنة سار عز الدين كيكاوس بن كيخسرو ملك الروم إلى ولاية حلب قصدًا للتغلب عليها ومعه الأفضل بن صلاح الدين يوسف‏.‏

وسبب ذلك أنه كان بحلب رجلان فيما شر كثير وسعاية بالناس فكانا ينقلان إلى صاحبها الملك الظاهر بن صلاح الدين عن رعيته فأوغرا صدره فلقي الناس منهما شدة فلما توفي الظاهر وولي الأمر شهاب الدين طغرل أبعدهما وغيرهما ممن يفعل مثل فعلهما وسد هذا الباب على فاعله ولم يطرق إليه أحدًا من أهله فلما رأى الرجلان كساد سوقهما لزما بيوتهما وثار بهما الناس وآذوهما وتهددوهما لما كانا أسلفاه من الشر فخافا ففارقا حلب وقصدا كيكاوس فأطمعاه فيها وقررا في نفسه أنه متى قصدها لا تثبت بين يديه وأنه يملكها ويهون عليه ملك ما بعدها‏.‏

فلما عزم على ذلك أشار عليه ذوو الرأي من أصحابه وقالوا له‏:‏ لا يتم لك هذا إلا بأن يكون معك أحد من بيت أيوب ليسهل على أهل البلاد وجندها الانقياد إليه وهذا الأفضل بن صلاح الدين هو في طاعتك والمصلحة أنك تستصحبه معك وتقرر بينكما قاعدة فيما تفتحانه من البلاد فمتى كان معك أطاعك الناس وسهل عليك ما تريد‏.‏

فأحضر الأفضل من سميساط إليه وأكرمه وحمل إليه شيئًا كثيرًا من الخيل والخيام والسلاح وغير ذلك واستقرت القواعد بينهما أن يكون ما يفتحه نم حلب وأعمالها للأفضل وهو في طاعة كيكاوس والخطبة له في ذلك أجمع ثم يقصدون ديار الجزيرة فما يفتحونه مما بيد الملك الأشرف مثل‏:‏ حران والرها من البلاد الجزرية تكون لكيكاوس‏.‏

وجرت الأيمان على ذلك وجمعوا العساكر وساروا فملكوا قلعة رغبان فتسلمها الأفضل فمال الناس حينئذ إليهما‏.‏

ثم سارا إلى قلعة تل باشر وفيها صاحبها ولد بدر الدين دلدرم الياروقي فحصروه وضيقوا عليه وملكوها منه فأخذها كيكاوس لنفسه ولم يسلمها إلى الأفضل فاستشعر الأفضل من ذلك وقال‏:‏ هذا أول الغدر وخاف أنه إن ملك حلب يفعل به هكذا فلا يحصل إلا أن يكون قد قلع بيته لغيره ففترت نيته وأعرض عما كان يفعله وكذلك أيضًا أهل البلاد فكانوا يظنون أن الأفضل يملكها فيسهل عليهم الأمر فلما رأوا ضد ذلك وقفوا‏.‏

وأما شهاب الدين أتابك ولد الظاهر صاحب حلب فإنه ملازمه قلعة حلب لا ينزل منها ولا يفارقها البتة وهذه كانت عادته مذ مات الظاهر خوفًا من ثائر يثور به فلما حدث هذا الأمر خاف أن يحصروه وربما سلم أهل البلد والجند المدينة إلى الأفضل لميلهم إليه فأرسل إلى الملك الأشرف ابن الملك العادل صاحب الديار الجزرية وخلاط وغيرها يستدعيه إليه لتكون طاعتهم له ويخطبون له ويجعل السكة باسمه ويأخذ من أعمال حلب ما اختار ولأن ولد الظاهر هو ابن أخته فأجاب إلى ذلك وسار إليهم في عساكره التي عنده وأرسل إلى الباقين يطلبهم إليه وسره ذلك للمصلحة العامة لجميعهم وأحضر إليه العرب من طيء وغيرهم ونزل بظاهر حلب‏.‏

ولما أخذ كيكاوس تل باشر كان الأفضل يشير بمعاجلة حلب قبل اجتماع العساكر بها وقبل أن يحتاطوا ويتجهزوا فعاد عن ذلك وصار يقول‏:‏ الرأي أننا نقصد منبج وغيرها لئلا يبقى لهم وراء ظهورنا شيء قصدًا للتمادي ومرور الزمان في لا شيء فتوجهوا من تل باشر إلى جهة منبج وتقدم الأشرف نحوهم وسارت العرب في مقدمته وكان طائفة من عسكر كيكاوس نحو ألف فارس قد سبقت مقدمته له فالتقوا هم والعرب ومن معهم من العسكر الأشرفي فاقتتلوا فانهزم عسكر كيكاوس وعادوا إليه منهزمين وأكثر العرب الأسر منهم والنهب لجودة خيلهم ودبر خيل الروم‏.‏

فلما وصل إليه أصحابه منهزمين لم يثبت بل ولى على أعقابه يطوي المراحل إلى بلاده خائفًا وإنما فعل هذا لأنه صبي غر لا معرفة له بالحرب وإلا فالعساكر ما برحت تقع مقدماتها بعضها على بعض فسار حينئذ الأشرف فملك رعبان وحصر تل باشر وبها جمع من عسكر كيكاوس فقاتلوه حتى غلبوا فأخذت القلعة منهم وأطلقهم الأشرف فلما وصولا إلى كيكاوس جعلهم في دار وأحرقها عليهم فهلكوا فعظم ذلك على الناس كافة واستقبحوه واستضعفوه لا جرم لم يمهله الله تعالى لعدم الرحمة في قلبه ومات عقيب هذه الحادثة‏.‏

وسلم الأشرف تل باشر وغيرها من بلد حلب إلى شهاب الدين أتابك صاحب حلب وكان عازمًا على اتباع كيكاوس ودخول بلاده فأتاه الخبر بوفاة أبيه الملك العادل فاقتضت المصلحة العود إلى حلب لأن الفرنج بديار مصر ومثل ذلك السلطان العظيم إذا توفي ربما جرى خلل في البلاد لا تعرف العاقبة فيه فعاد إليها وكفي كل منهما أذى صاحبه‏.‏

ذكر وفاة الملك العادل وملك أولاده بعده

توفي الملك العادل أبو بكر بن أيوب سابع جمادى الآخرة من سنة خمس عشرة وستمائة وقد ذكرنا ابتداء دولتهم عند ملك عمه أسد الدين شيركوه ديار مصر سنة أربع وستين وخمسمائة ولما ملك أخوه صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر بعد عمه وسار إلى الشام استخلفه فلما توفي أخوه صلاح الدين ملك دمشق وديار مصر كما ذكرناه وبقي مالكًا للبلاد إلى الآن فلما ظهر الفرنج كما ذكرناه سنة أربع عشرة وستمائة قصد هو مرج الصفر فلما سار الفرنج إلى ديار مصر انتقل هو إلى عالقين فأقام به ومرض وتوفي وحمل إلى دمشق فدفن بالتربة التي له بها‏.‏

وكان عاقلًا ذا رأي سديد ومكر شديد وخديعة صبورًا حليمًا ذا أناة يسمع ما يكره ويغضي عليه حتى كأنه لم يسمعه كثير الحرج وقت الحاجة لا يقف في شيء وإذا لم تكن حاجة فلا‏.‏

وكان عمره خمسًا وسبعين سنة وشهورًا لأن مولده كان في المحرم من سنة أربعين وخمسمائة وملك دمشق في شعبان سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة من الأفضل ابن أخيه وملك مصر في ربيع الآخر من سنة ست وتسعين منه أيضًا‏.‏

ومن أعجب ما رأيت من منافاة الطوالع أنه لم يملك الأفضل مملكة قط إلا وأخذها منه عمه العادل فأول ذلك أن صلاح الدين أقطع ابنه الأفضل حران والها وميافارقين سنة ست وثمانين بعد وفاة تقي الدين فسار إليها فلما وصل إلى حلب أرسل أبوه الملك العادل بعده فرده من حلب وأخذ هذه البلاد منه‏.‏

ثم ملك الأفضل بعد وفاة أبيه مدينة دمشق فأخذها منه ثم ملك مصر بعد وفاة أخيه الملك العزيز فأخذها أيضًا منه ثم ملك صرخد فأخذها منه‏.‏

وأعجب من هذا أنني رأيت بالبيت المقدس سارية من الرخام ملقاة في بيعة صهيون ليس مثلها فقال القس الذي بالبيعة‏:‏ هذه كان قد أخذها الملك الأفضل لينقلها إلى دمشق ثم إن العادل أخذها بعد ذلك من الأفضل طلبها منه فأخذها‏.‏

وهذا غاية وهو من أعجب ما يحكى‏.‏

وكان العادل قد قسم البلاد في حياته بني أولاده فجعل بمصل ملك الكامل محمدًا وبدمشق والقدس وطبرية والأردن والكرك وغيرها من الحصون المجاورة لها ابنه المعظم عيسى وجعل بعض ديار الجزيرة وميافارقين وخلاط وأعمالها لابنه الملك الأشرف موسى وأعطى الرها لولده شهاب الدين غازي وأعطى قلعة جعبر لولده الحافظ أرسلان شاه فلما توفي ثبت كل منهم في المملكة التي أعطاه أبوه واتفقوا اتفاقًا حسنًا لم يجر بنيهم من الاختلاف ما جرت العادة أن يجري بين أولاد الملوك بعد آبائهم بل كانوا كالنفس الواحدة كل منهم يثق بالآخر بحيث يحضر عنده منفردًا من عسكره ولا يخافه فلا جرم زاد ملكهم ورأوا من نفاذ الأمر والحكم ما لم يره أبوهم‏.‏

ولعمري إنهم نعم الملوك فيهم الحلم والجهاد والذب عن الإسلام وفي نوبة دمياط كفاية وأما الملك الأشرف فليس للمال عنده محل بل يمطره مطرًا كثيرًا لعفته عن أموال الرعية دائم الإحسان لا يسمع سعاية ساع‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في ذي القعدة رحل الملك الكامل بن العادل عن أرض دمياط لأنه بلغه أن جماعة من الأمراء قد اجتمعوا على تمليك أخيه الفائز عوضه فخافهم ففارق منزلته فانتقل الفرنج إليها وحصروا حينئذ دمياط برًا وبحرًا وتمكنوا من ذلك وقد تقدم مستقضى سنة أربع عشرة وستمائة‏.‏

وفيها في المحرم توفي شرف الدين محمد بن علوان بن مهاجر الفقيه الشافعين وكان مدرسًا في عدة مدارس بالموصل وكان صالحًا كثير الخير والدين سليم القلب رحمه الله‏.‏

وفيها توفي عز الدين نجاح الدين الشرابي خاص الخليفة وأقرب الناس إليه وكان الحاكم في دولته كثير العدل والإحسان والمعروف والعصبية للناس وأما عقله وتدبيره فإليه كانت النهاية وبه يضرب المثل‏.‏

وفيها توفي علي بن نصر بن هرون أبو الحسن الحلي النحوي الملقب بالحجة قرأ على ابن الخشاب وغيره‏.‏

 ثم دخلت سنة ست عشرة وستمائة

ذكر وفاة كيكاوس وملك كيقباذ أخيه

في هذه السنة توفي الملك الغالب عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن قلج أرسلان صاحب قونية وأقصرا وملطية وما بينهما من بلد الروم وكان قد جمع عساكره وحشد وسار إلى ملطية على قصد بلاد الملك الأشرف لقاعدة استقرت بينه وبين ناصر الدين صاحب آمد ومظفر الدين صاحب إربل وكانوا قد خطبوا له وضربوا اسمه على السكة في بلادهم واتفقوا على الملك الأشرف وبدر الدين بالموصل‏.‏

فسار كيكاوس إلى ملطية ليمنع الملك الأشرف بها عن المسير إلى الموصل نجدة لصاحبها بدر الدين لعل مظفر الدين يبلغ من الموصل غرضًا وكان قد علق به السل فلما اشتد مرضه عاد عنها فتوفي وملك بعده أخوه كيقباذ وكان محبوسًا قد حبسه أخوه كيكاوس لما أخذ البلاد منه وأشار عليه بعض أصحابه بقتله فلم يفعل فلما توفي لم يخلف ولدًا يصلح للملك لصغرهم

وقيل بل أرسل كيكاوس لما اشتد مرضه فأحضره عنده من السجن ووصى له بالملك وحلف الناس له فلما ملك خالفه عمه صاحب أرزن الروم وخاف أيضًا من الروم المجاورين لبلاده فأرسل إلى الملك الأشرف وصالحه وتعاهدا على المصافاة والتعاضد وتصاهرا وكفي الأشرف شر تلك الجهة وتفرغ باله لإصلاح ما بين يديه ولقد صدق القائل‏:‏ ‏(‏لا جد إلا ما أقعص عنك الرجال‏)‏‏.‏ وكأنه بقوله أراد‏:‏ ‏(‏وجدك طعان بغير سنان‏)‏‏.‏

وهذا ثمرة حسن النية فإنه حسن النية لرعيته وأصحابه كاف عن أذى يتطرق إليهم منه غير قاصد إلى البلاد المجاورة لبلاده بأذى وملك مع ضعف أصحابها وقوته لا جرم تأتيه البلاد صفوًا عفوًا‏.‏

ذكر موت صاحب سنجار وملك ابنه ثم قتل ابنه وملك أخيه

و في هذه السنة ثامن صفر توفي قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود ابن زنكي صاحب سنجار وكان كريمًا حسن السيرة في رعيته حسن المعاملة مع التجار كثير الإحسان إليهم وأما أصحابه فكانوا معه في أرغد عيش يعمهم بإحسانه ولا يخافون أذاه وكان عاجزًا عن ولما توفي ملك بعده ابنه عماد الدين شاهنشاه وركب الناس معه وبقي مالكًا لسنجار عدة شهور وسار إلى تل أعفر وهي له فدخل عليه أخوه عمر بن محمد بن زنكي ومعه جماعة فقتلوه وملك أخوه عمر بعده فبقي كذلك إلى أن سلم سنجار إلى الملك الأشرف على ما نذكره إن شاء الله تعالى ولم يمتع بملكه الذي قطع رحمه وأراق الدم الحرام لأجله‏.‏

ولما سلم سنجار أخذ عوضها الرقة ثم أخذت منه عن قريب وتوفي بعد أخذها منه بقليل وعدم روحه وشبابه‏.‏

وهذه عاقبة قطيعة الرحم فإن صلتها تزيد في العمر وقطيعتها تهدم العمر‏.‏

ذكر إجلاء بني معروف عن البطائح وقتلهم

في هذه السنة في ذي القعدة أمر الخليفة الناصر لدين الله الشريف معدًا متولي بلاد واسط أن يسير إلى قتال بني معروف فتجهز وجمع معه من الرجالة من تكريت وهيت والحديثة والأنبار والحلة والكوفة وواسط والبصرة وغيرها خلقًا كثيرًا وسار إليهم ومقدمهم حينئذ معلى بن معروف وهم قوم من ربيعة‏.‏

وكانت بيوتهم غبي الفرات تحت سوراء وما يتصل بذلك من البطائح وكثر فسادهم وأذاهم لما يقاربهم من القرى وقطعوا الطريق وأفسدوا في النواحي المقاربة لبطيحة العراق فشكا أهل تلك البلاد إلى الديوان منهم فأمر معدًا أن يسير إليهم في الجموع فسار إليهم فاستعد بنو معروف لقتاله فاقتتلوا بموضع يعرف بالمقبر وهو تل كبير بالبطيحة بقرب العراق وكثر القتل بينهم ثم انهزم بنو معروف وكثر القتل فيهم والأسر والغرق وأخذت أموالهم حملت رؤوس كثيرة من القتلى إلى بغداد في ذي الحجة من السنة‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في المحرم انهزم عماد الدين زنكي من عسكر بدر الدين‏.‏

وفيها في العشرين من رجب انهزم بدر الدين من مظفر الدين صاحب إربل وعاد مظفر الدين إلى بلده وقد تقدم ذلك مستوفى في سنة خمس عشرة وستمائة‏.‏

وفيها ثامن صفر توفي قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود ابن زنكي صاحب سنجار وملك بعده ابنه شاهنشاه‏.‏

وفيها في التاسع والعشرين من شعبان ملك الفرنج مدينة دمياط وقد ذكر سنة أربع عشرة مشروحًا‏.‏

وفيها توفي افتخار الدين عبد المطلب بن الفضل الهاشمي العباسي الفقيه الحنفي رئيس الحنيفية بحلب روى الحديث عن عمر البسطامي نزيل بلخ وعن أبي سعد السمعاني وغيرهما‏.‏

وفيها توفي أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري الضرير النحوي وغيره وفيها توفي أبو الحسن علي بن أبي محمد القاسم بن علي بن الحسن بن عبد الله الدمشقي الحافظ ابن الحافظ المعروف بابن عساكر وكان قد قصد خراسان وسمع بها الحديث فأكثر وعاد إلى بغداد فوقع على القفل حرامية فجرح وبقي ببغداد وتوفي في جمادى الأولى رحمه الله‏.‏

ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة

ذكر خروج التتر إلى بلاد الشام

لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها كارهًا لذكرها فأنا أقدم إليه رجلًا وأؤخر أخرى فمن الذي يسهل عله أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك فيا ليت أمي لم تلدني ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيًا منسيًا إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعًا فنقول‏:‏ عمت الخلائق وخصت المسلمين فلو قال قائل‏:‏ إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقًا فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها‏.‏

ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بخت نصر ببني إسرائيل ن القتل وتخريب البيت المقدس وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج‏.‏

وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه ويهلك من خالفه وهؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء والرجال والأطفال شقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

لهذه الحادثة التي استطار شررها وعم ضررها وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح فإن قومًا خرجوا من أطراف الصين فقصدوا بلا تركستان مثل كاشغر وبلاساغون ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند وبخارى وغيرهما فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكًا وتخريبًا وقتلًا ونهبًا ثم يتجاوزونها إلى الري وهمذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق ثم يقصدون بلاد أذريبجان وأرانية ويخربونها ويقتلون أكثر أهلها ولم ينج إلا الشريد النادر في أقل من سنة هذا ما لم يسمع مثله‏.‏

ثم لما فرغوا من أذربيجان وأرانية ساروا إلى دربند شروان فملكوا مدنه ولم يسلم غير القلعة التي بها ملكهم وعبروا عندها إلى بلد اللان واللكز ومن في ذلك الصقع من الأمم المختلفة فأوسعوهم قتلًا ونهبًا وتخريبًا ثم قصدوا بلاد قفجاق وهم من أكثر الترك عددًا فقتلوا كل من وقف لهم فهرب الباقون إلى الغياض ورؤس الجبال وفارقوا بلادهم واستولى هؤلاء التتر عليها فعلوا هذا في أسرع زمان ولم يلبثوا إلا بمقدار مسيرهم لا غير‏.‏

ومضى طائفة أخرى غير هذه الطائفة إلى غزنة وأعمالها وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان ففعلوا فيه مثل فعل هؤلاء وأشد‏.‏

هذا ما لم يطرق الأسماع مثله فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة إنما ملكها في نحو عشر سنين ولم يقتل أحدًا إنما رضي من الناس بالطاعة وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه وأكثره عمارة وأهلًا وأعدل أهل الأرض أخلاقًا وسيرة في نحو سنة ولم يبق أحد في البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعها ويترقب وصولهم إليه‏.‏

ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم فإنهم معهم الأغنام والبقر والخيل وغير ذلك من الدواب يأكلون لحومها لا غير وأما دوابهم التي يركبونها فإنها تحفر الأرض بحوافرها وتأكل عروق النبات لا تعرف الشعير فهم إذا نزلوا منزلًا لا يحتاجون إلى شيء من خارج‏.‏

وأما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها ولا يحرمون شيئًا فإنهم يأكلون جميع الدواب حتى الكلاب والخنازير وغيرها ولا يعرفون نكاحًا بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال فإذا جاء الولد لا يعرف أباه‏.‏

ولقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم منها هؤلاء التتر قبحهم الله أقبلوا من المشرق ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها وستراها مشروحة متصلة إن شاء الله تعالى‏.‏

ومنها خروج الفرنج لعنهم الله من المغرب إلى الشام وقصدهم ديار مصر وملكهم ثغر دمياط منها وأشرفت ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها لولا لطف الله تعالى ونصره ومنها الذي سلم من هاتين الطائفتين فالسيف بينهم مسلول والفتنة قائمة على ساق وقد ذكرناه أيضًا فإنا لله وإنا إليه راجعون نسأل الله أن ييسر للإسلام والمسلمين نصرًا من عنده فإن الناصر والمعين والذاب عن الإسلام معدوم ‏{‏وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فإن هؤلاء التتر إنما استقام لهم هذا الأمر لعدم المانع‏.‏

وسبب عدمه أن خوارزم شاه محمدًا كان قد استولى على البلاد وقتل ملوكها وأفناهم وبقي هو وحده سلطان البلاد جميعها فلما انهزم منهم لم يبق في البلاد من يمنعهم ولا من يحميها ‏{‏ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 42‏]‏‏.‏ وهذا حين نذكر ابتداء خروجهم إلى البلاد‏.‏

ذكر خروج التتر إلى تركستان وما وراء النهر وما فعلوه

في هذه السنة ظهر التتر إلى بلاد الإسلام وهم نوع كثير من الترك ومساكنهم جبال طمغاج من نحو الصين وبينها وبين بلاد الإسلام ما يزيد على ستة أشهر‏.‏

وكان السب في ظهورهم أن ملكهم ويسمى بجنكزخان المعروف بتموجين كان قد فارق بلاده وسار إلى نواحي تركستان وسير جماعة من التجار والأتراك ومعهم شيء كثير من النقرة والقندر وغيرهما إلى بلاد ما وراء النهر سمرقند وبخارى ليشتروا له ثيابًا للكسوة فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك تسمى أوترا وهي آخر ولاية خوارزم شاه وكان له نائب هناك فلما ورد عليه هذه الطائفة من التتر أرسل إلى خوارزم شاه يعلمه بوصولهم ويذكر له ما معهم من الأموال فبعث إليه خوارزم شاه يأمره بقتلهم وأخذ ما معهم من الأموال وإنفاذه إليهم فقتلهم وسيّر ما معهم وكان شيئًا كثيرًا فلما وصل إلى خوارزم شاه فرقه على تجار بخارى وسمرقند وأخذ ثمنه منهم‏.‏

وكان بعد أن ملك ما وراء النهر من الخطا قد سد الطرق عن بلاد تركستان وما بعدها من البلاد وإن طائفة من التتر أيضًا كانوا قد خرجوا قديمًا والبلاد للخطا فلما ملك خوارزم شاه البلاد بما وراء النهر من الخطا وقتلهم واستولى هؤلاء التتر على تركستان‏:‏ كاشغار وبلاساغون وغيرهما وصاروا يحاربون عساكر خوارزم شاه فلذلك منع الميرة عنهم من الكسوات وغيرها‏.‏

وقيل في سبب خروجهم إلى بلاد الإسلام غير ذلك مما لا يذكر في بطون الدفاتر‏:‏ فكان ما كان ما لست أذكره فظن خيرًا ولا ولا تسأل عن الخبر فلما قتل نائب خوارزم شاه أصحاب جنكزخان أرسل جواسيس إلى جنكزخان لينظر ما هو وكم مقدار ما معه من الترك وما يريد أن يعمل فمضى الجواسيس وسلكوا المفازة والجبال التي على طريقهم حتى وصوا إليه فعادوا بعد مدة طويلة وأخبروه بكثرة عددهم وأنهم يخرجون عن الإحصاء وأنهم من أصبر خلق الله على القتال لا يعرفون هزيمة وأنهم يعملون ما يحتاجون إليه من السلاح بأيديهم فندم خوارزم شاه على قتل أصحابهم وأخذ أموالهم وحصل عنده فكر زائد فأحضر الشهاب الخيوفي وهو فقيه فاضل كبير المحل عنده لا يخالف ما يشير به فحضر عنده فقال له‏:‏ قد حدث أمر عظيم لا بد من الفكر فيه وأخذ رأيك في الذي نفعله وذاك أنه قد تحرك إلينا خصم من ناحية الترك في كثرة لا تحصى‏.‏

فقال له‏:‏ في عساكرك كثرة ونكاتب الأطراف ونجمع العساكر ويكون النفير عامًا فإنه يجب على المسلمين كافة مساعدتك بالمال والنفس ثم نذهب بجميع العساكر إلى جانب سيحون وهو نهر كبير يفصل بين بلاد الترك وبلاد الإسلام فنكون هناك فإذا جاء العدو وقد سار مسافة بعيدة لقيناه ونحن مستريحون وهو وعساكره قد مسهم النصب والتعب‏.‏

فجمع خوارزم شاه أمراءه ومن عنده من أرباب المشورة فاستشارهم فلم يوافقوه على رأيه بل قالوا‏:‏ الرأي أن نتركهم يعبرون سيحون إلينا ويسلكون هذه الجبال والمضايق فإنهم جاهلون بطرقهم ونحن عارفون بها فنقوى حينئذ عليهم ونهلكهم فلا ينجو منهم أحد‏.‏

فبينما هم كذلك إذ ورد رسول من هذا اللعين جنكزخان معه جماعة يتهد خوارزم شاه ويقول‏:‏ تقتلون أصحابي وتجاري وتأخذون مالي منهم‏!‏ استعدوا للحرب فإني واصل إليكم بجمع لا قبل لكم به‏.‏

وكان جنكزخان قد سار إلى تركستان فملك كاشغار وبلاساغون وجميع تلك البلاد وأزال عنها التتر الأولى فلم يظهر لهم خبر ولا بقي لهم أثر بل بادوا كما أصاب الخطا وأرسل الرسالة المذكورة إلى خوارزم شاه فلما سمعها خوارزم شاه أمر بقتل رسوله فقتل وأمر بحلق لحى الجماعة الذين كانوا معه وأعادهم إلى صاحبهم جنكزخان يخبرونه بما فعل بالرسول ويقولون له‏:‏ إن خوارزم شاه يقول لك‏:‏ أنا سائر إليك ولو أنك في آخر الدنيا حتى أنتقم وأفعل بك كما فعلت بأصحابك‏.‏

وتجهز خوارزم شاه وسار بعد الرسول مبادرًا ليسبق خبره ويكسبهم فأدمن السير فمضى وقطع مسيرة أربعة أشهر فوصل إلى بيوتهم فلم ير فيها إلا النساء والصبيان والأثقال فأوقع بهم وغنم الجميع وسبى النساء والذرية‏.‏

وكان سبب غيبة الكفار عن بيوتهم أنهم ساروا إلى محاربة ملك من ملوك الترك يقال له كشلوخان فقاتلوه وهزموه وغنموا أمواله وعادوا فلقيهم في الطريق الخبر بما فعل خوارزم شاه بمخلفيهم فجدوا السير فأدركوه قبل أن يخرج عن بيوتهم وتصافوا للحرب واقتتلوا قتالًا لم يسمع بمثله فبقوا في الحرب ثلاثة أيام بلياليها فقتل من الطائفتين ما لا يعد ولم ينهزم أحد منهم‏.‏

أما المسلمون فإنهم صبروا حمية للدين وعلموا أنهم إن انهزموا لم يبق للمسلمين باقية وأنهم يؤخذون لبعدهم عن بلادهم‏.‏

وأما الكفار فصبروا لاستنقاذ أهليهم وأموالهم واشتد بهم الأمر حتى إن أحدهم كان ينزل عن فرسه ويقاتل قرنه رجلًا ويتضاربون بالسكاكين وجرى الدم على الأرض حتى صارت الخيل تزلق من كثرته واستنفذ الطائفتان وسعهم في الصبر والقتال‏.‏

هذا القتال جميعه مع ابن جنكزخان ولم يحضر أبوه الوقعة ولم يشعر بها فأحصي من قتل من المسلمين في هذه الوقعة فكانوا عشرين ألفًا وأما من الكفار فلا يحصى من قتل منهم‏.‏

فلما كان الليلة الرابعة افترقوا فنزل بعضهم مقابل بعض فلما أظلم الليل أوقد الكفار نيرانهم وتركوها بحالها وساروا وكذلك فعل المسلمون أيضًا كل منهم سئم القتال فأما الكفار فعادوا إلى ملكهم جنكزخان وأما المسلمون فرجعوا إلى بخارى فاستعد للحصار لعلمه بعجزه لأن طائفة عسكره لم يقدر خوارزم شاه على أن يظفر بهم فكيف إذا جاؤوا جميعهم مع ملكهم فأمر أهل بخار وسمرقند بالاستعداد للحصار وجمع الذخائر للامتناع وجعل في بخارى عشرين ألف فارس من العسكر يحمونها وفي سمرقند خمسين ألفًا وقال لهم‏:‏ احفظوا البلد حتى أعود إلى خوارزم وخراسان وأجمع العساكر واستنجد بالمسلمين وأعود إليكم‏.‏

فلما فرغ من ذلك رحل عائدًا إلى خراسان فعبر جيحون ونزل بالقرب من بلخ فعسكر هناك‏.‏

وأما الكفار فإنهم رحلوا بعد أن استعدوا يطلبون ما وراء النهر فوصلوا إلى بخارى بعد خمسة أشهر من وصول خوارزم شاه وحصروها وقاتلوهما ثلاثة أيام قتالًا شديدًا متتابعًا فلم يكن للعسكر الخوارزمي بهم قوة ففارقوا البلد عائدين إلى خراسان فلما أصبح أهل البلد وليس عندهم من العسكر أحد ضعفت نفوسهم فأرسلوا القاضي وهو بدر الدين قاضي خان ليطلب الأمان للناس فأعطوهم الأمان‏.‏

وكان قد بقي من العسكر طائفة لم يمكنهم الهرب مع أصحابهم فاعتصموا بالقلعة فلما أجابهم جنكزخان إلى الأمان فتحت أبواب المدينة يوم الثلاثاء رابع ذي الحجة من سنة ست عشرة وستمائة فدخل الكفار بخارى ومل يتعرضوا لأحد بل قالوا لهم‏:‏ كل ما هو للسلطان عندكم من ذخيرة وغيره أخرجوه إلينا وساعدونا على قتال من بالقلعة وأظهروا عندهم العدل وحسن السيرة ودخل جنكزخان بنفسه وأحاط بالقلعة ونادى في البلد بأن لا يتخلف أحد ون تخلف قتل فحضروا جميعهم فأمرهم بطم الخندق فطموه بالأخشاب والتراب وغير ذلك حتى إن الكفار كانوا يأخذون المنابر وربعات القرآن فيلقونهم في الخندق فإنا لله وإنا إليه راجعون وبحق سمى الله نفسه صبورًا حليمًا وإلا كان خسف بهم الأرض عند فعل مثل هذا‏.‏

ثم تابعوا الزحف إلى القلعة وبها نحو أربع مائة فارس من المسلمين فبذلوا جهدهم ومنعوا القلعة اثني عشر يومًا يقاتلون جميع الكفار وأهل البلد فقتل بعضهم ولم يزالوا كذلك حتى زحفوا إليهم ووصل النقابون إلى سور القلعة فنقبوه واشتد حينئذ القتال ومن بها من المسلمين يرمون ما يجدون من حجارة ونار وسهام فغضب اللعين ورد أصحابه ذلك اليوم وباكرهم من الغد فجدوا في القتال وقد تعب من بالقلعة ونصبوا وجاءهم ما لا قبل لهم به فقهرهم الكفار ودخلوا القلعة وقاتلهم المسلمون الذين فيها حتى قتلوا عن آخرهم فلما فرغ من القلعة نادى أن يكتب له وجوه الناس ورؤساؤهم ففعلوا ذلك فلما عرضوا عليه أمر بإحضارهم فحضروا فقال‏:‏ أريد منكم النقرة التي باعكم خوارزم شاه فإنها لي ومن أصحابي أخذت وهي عندكم‏.‏

فأحضر كل من كان عنده شيء منها بين يديه ثم أمرهم بالخرج من البلد فخرجوا من البلد مجردين من أموالهم ليس مع أحد منه غير ثيابه التي عليه ودخل الكفار البلد فنهبوه وقتلوا من وجدوا فيه وأحاط بالمسلمين فأمر أصحابه أن يقتسموهم فاقتسموهم‏.‏

وكان يومًا عظيمًا من كثرة البكاء من الرجال والنساء والولدان وتفرقوا أيدي سبا وتمزقوا كل ممزق واقتسموا النساء أيضًا وأصبحت بخارى خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس وارتكبوا من النساء العظيم والناس ينظرون ويبكون ولا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم شيئًا مما نزل بهم فمنهم من لم يرض بذلك واختار الموت على ذلكن فقاتل حتى قتل وممن فعل ذلك واختار أن يقتل ولا يرى ما نزل بالمسلمين الفقيه الإمام ركن الدين إمام زاده وولده فإنهما لما رأيا ما يفعل بالحرم قاتلا حتى قتلا‏.‏

وكذلك فعل القاضي صدر الدين خان ومن استسلم أخذ أسيرًا وألقوا النار في البلد والمدارس والمساجد وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال ثم رحلوا نحو سمرقند وقد تحققوا عجز خوارزم شاه عنهم وهم بمكانه بين ترمذ وبلخ واستصحبوا معهم من سلم من أهل بخارى أسارى فساروا بهم مشاة على أقبح صورة فكل من أعيا وعجز عن المشي قتلوه فلما قاربوا سمرقند قدموا الخيالة وتركوا الرجالة والأسارى والأثقال وراءهم حتى تقدموا شيئًا فشيئًا ليكون أرعب لقلوب المسلمين فلما رأى أهل البلد سوادهم استعظموه‏.‏

فلما كان اليوم الثاني وصل الأسارى والرجالة والأثقال ومع كل عشرة من الأسارى علم فظن أهل البلد أن الجميع عساكر مقاتلة وأحاطوا بالبلد وفيه خمسون ألف مقاتل من الخوارزمية وأما عامة البلد فلا يحصون كثرة فخرج إليهم شجعان أهله وأهل الجلد والقوة رجالة ولم يخرج معهم من العسكر الخوارزمي أحد لما في قلوبهم من خوف هؤلاء الملاعين فقاتلهم الرجالة بظاهر البلد فلم يزل التتر يتأخرون وأهل البلد يتبعونهم ويطمعون فيهم وكان الكفار قد كمنوا لهم كمينًا فلما جاوزوا الكمين خرج عليهم وحال بينهم وبين البلد ورجع الباقون الذين أنشبوا القتال أولًا فبقوا في الوسط وأخذهم السيف من كل جانب فلم يسلم منهم أحد قتلوا عن آخرهم شهداء رضي الله عنهم وكانوا سبعين ألفًا على ما قيل‏.‏

فلما رأى الباقون من الجند والعامة ذلك ضعفت نفوسهم وأيقنوا بالهلاك فقال الجند وكانوا أتراكًا‏:‏ نحن من جنس هؤلاء ولا يقتلوننا فطلبوا الأمان فأجابوهم إلى ذلك ففتحوا أبواب البلد ولم يقدر العامة على منعهم وخرجوا إلى الكفار بأهلهم وأموالهم فقال لهم الكفار‏:‏ ادفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم ونحن نسيركم إلى مأمنكم ففعلوا ذلك فلما أخذوا أسلحتهم ودوابهم وضعوا السيف فيهم وقتلوهم عن آخرهم وأخذوا أموالهم ودوابهم ونساءهم‏.‏

فلما كان اليوم الرابع نادوا في البلد أن يخرج أهله جميعهم ومن تأخر قتلوه فخرج جميع الرجال والنساء والصبيان ففعلوا مع أهل سمرقند مثل فعلهم مع أهل بخارى من النهب والقتل والسبي والفساد ودخلوا البلد فنهبوا ما فيه وأحرقوا الجامع وتركوا باقي البلد على حاله وافتضوا الأبكار وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال وقتلوا من لم يصلح للسبي وكان ذلك في المحرم سنة سبع عشرة وستمائة‏.‏

وكان خوارزم شاه بمنزلته كلما اجتمع إليه عسكر سيره إلى سمرقند فيرجعون ولا يقدرون على الوصول إليها نعوذ بالله من الخذلان سير مرة عشرة آلاف فارس فعادوا كالمنهزمين من غير قتال وسير عشرين ألفًا فعادوا أيضًا‏.‏

ذكر مسير التتر الكفار إلى خوارزم شاه وانهزامه وموته

لما ملك الكفار سمرقند عمد جنكزخان لعنه الله وسير عشرين ألف فارس وقال لهم‏:‏ اطلبوا خوارزم شاه أين كان ولو تعلق بالسماء حتى تدركوه وتأخذوه‏.‏

وهذه الطائفة تسميها التتر المغربة لأنها سارت نحو غرب خراسان ليقع الفرق بينهم وبين غيرهم منهم لأنهم هم الذين أوغلوا في البلاد فلما أمرهم جنكزخان بالمسير ساروا وقصدوا موضعًا يسمى بنج آب ومعناه خمسة مياه فوصلوا إليه فلم يجدوا هناك سفينة فعلموا من الخشب مثل الأحواض الكبار وألبسوها جلود البقر لئلا يدخلها الماء ووضعوا فيها سلاحهم وأمتعتهم

وألقوا الخيل في الماء وأمسكوا أذنابها وتلك الحياض التي من الخشب مشدودة إليهم فكان الفرس يجذب الرجل والرجل يجذب الحوض المملوء من السلاح وغيره فعبروا كلهم دفعة واحدة فلم يشعر خوارزم شاه إلا وقد صاروا معه على أرض واحدة‏.‏

وكان المسلمون قد ملئوا منهم رعبًا وخوفًا وقد اختلفوا فيما بينهم إلا أنهم كانوا يتماسكون بسبب أن نهر جيحون بينهم فلما عبروه إليهم لم يقدروا على الثبات ولا على المسير مجتمعين بل تفرقوا أيدي سبا وطلب كل طائفة منهم جهة ورحل خوارزم شاه لا يلوي على شيء في نفر من خاصته وقصدوا نيسابور فلا دخلها اجتمع عليه بعض العسكر فلم يستقر حتى وصل أولئك التتر إليها‏.‏

وكانوا لا يتعرضون في مسيرهم لشيء لا بنهب ولا قتل بل يجدون السير في طلبه لا يمهلونه حتى يجمع لهم فلما سمع بقربهم منه رحل إلى مازندران وهي له أيضًا فرحل التتر المغربون في أثره ولم يعرجوا على نيسابور بل تبعوه فكان كلما رحل عن منزلة نزلوها فوصل إلى مرسى من بحر طبرستان يعرف بباب سكون وله هناك قلعة في البحر فلما نزل هو وأصحابه في السفن وصلت التتر فلما رأوا خوارزم شاه وقد دخل البحر وقفوا على ساحل البحر فلما أيسوا من لحاق خوارزم شاه رجعوا فهم الذين قصدوا الري وما بعدها على ما نذكره إن شاء الله‏.‏ هكذا ذكر لي بعض الفقها ممن كان ببخارى وأسروه معهم إلى سمرقند ثم نجا منهم ووصل إلينا وذكر غيره من التجار أن خوارزم شاه سار من مازندان حتى وصل إلى الري ثم منها إلى همذان والتتر في أثره ففارق همذان في نفر يسير جريدة ليستر نفسه ويكتم خبر وعاد إلى مازندران وركب في البحر إلى هذه القلعة‏.‏

وكان هذا هو الصحيح فإن الفقيه كان حينئذ مأسورًا وهؤلاء التجار أخبروا أنهم كانوا بهمذان ووصل خوارزم شاه ثم وصل بعده من أخبره بوصول التتر ففارق همذان وكذلك أيضًا هؤلاء التجار فارقوها ووصل التتر إليها بعدهم ببعض نهار فهم يخبرون عن مشاهدة ولما وصل خوارزم شاه إلى هذه القلعة المذكورة توفي فيها‏.‏