المجلد العاشر - ذكر صفة خوارزم شاه وشيء من سيرته

هو علاء الدين محمد بن علاء الدين تكش وكان مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وشهورًا تقريبًا واتسع ملكه وعظم محله وأطاعه العالم بأسره ولم يملك بعد السلجوقية أحد مثل ملكه فإنه ملك من حد العراق إلى تركستان وملك بلاد غزنة وبعض الهند وملك سجستان وكرمان وطبرستان وجرجان وبلاد الجبال وخراسان وبعض فارس وفعل بالخطا الأفاعيل العظيمة وكان فاضلًا عالمًا بالفقه والأصول وغيرهما وكان مكرمًا للعلماء محبًا لهم محسنًا إليهم يكثر مجالستهم ومناظراتهم بين يديه وكان صبورًا على التعب وإدمان السير وغير متنعم ولا مقبل على اللذات إنما همه في الملك وتدبيره وحفظه ورعاياه وكان معظمًا لأهل الدين مقبلًا عليهم متبركًا بهم‏.‏

حكى لي بعض خدم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم وقد عاد من خراسان قال‏:‏ وصلت إلى خوارزم فنزلت ودخلت الحمام ثم قصدت باب السلطان علاء الدين فحين حضرت لقيني إنسان فقال‏:‏ ما حاجتك فقلت له‏:‏ أنا من خدم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني بالجلوس وانصرف عني قليلًا ثم عاد إلي وأخذني وأدخلني إلى دار السلطان فتسلمني منه حاجب من حجاب السلطان وقال لي‏:‏ قد أعلمت السلطان خبرك فأمر بإحضارك عنده فدخلت إليه وهو جالس في صدر إيوان كبير فحين توسطت صحن الدار قام قائمًا ومشى إلى بين يدي فأسرعت السير فلقيته في وسط الإيوان فأردت أن أقبل يده فمنعني واعتقني وجلس وأجلسني إلى جانبه وقال لي‏:‏ أنت تخدم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ نعم فأخذ يدي وأمرها على وجهه وسألني عن حالنا وعيشنا وصفة المدينة ومقدارها وأطال الحديث معين فلما خرجت من عنده قال‏:‏ لولا أننا على عزم السفر هذه الساعة لما ودعتك إنا نريد أن نعبر جيحون إلى الخطا وهذا طريق مبارك حيث رأينا من يخدم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم وثم ودعني وأرسل إلي جملة كثيرة من النفقة ومضى وكان منه ومن الخطا ما ذكرناهن وبالجملة فاجتمع فيه ما تفرق في غيره من ملوك العالم رحمه الله ولو أردناذكر مناقبه لطال ذلك‏.‏

ذكر استيلاء التتر المغربة على مازندران

لما أيس التتر المغربة من إدراك خوارزم شاه عادوا فقصدوا بلاد مازندران فملكوها في أسرع وقت مع حصانتها وصعوبة الدخول إليها وامتنا قلاعها فإنها لم تزل ممتنعة قديمة الزمان وحديثة حتى إن المسلمين لما ملكوا بلاد الأكاسرة جميعها من العراق إلى أقاصي خراسان بقيت أعمال مازندران يؤخذ منهم الخراج ولا يقدرون على دخول البلاد إلى أن ملكت أيام سليمان بن عبد الملك سنة تسعين وهؤلاء الملاعين ملكوها صفوًا عفوًا لأمر يريده الله تعالى‏.‏

ولما ملكوا بلد مازندران قتلوا وسبوا ونهبوا وأحرقوا البلاد ولما فرغوا من مازندران سلكوا نحو الري فرأوا في الطريق والدة خوارزم شاه ونساءه وأموالهم وذخائرهم التي لم يسمع بمثلها من الأعلاق النفيسة وكان سبب ذلك أن والدة خوارزم شاه لما سمعت بما جرى على ولدها خافت ففارقت خوارزم وقصدت نحو الري لتصل إلى أصفهان وهمذان وبلد الجبل تمتنع فيها فصادفوها في الطريق فأخذوها وما معها قبل وصولهم إلى الري فكان فيه ما ملأ عيونهم وقلوبهم وما لم يشاهد الناس مثله من كل غريب من المتاع ونفيس من الجواهر وغير ذلك وسيروا الجميع إلى جنكزخان بسمرقند‏.‏

ذكر وصول التتر إلى الري وهمذان

في سنة سبع عشرة وستمائة وصل التتر لعنهم الله إلى الري في طلب خوارزم شاه محمد لأنهم بلغهم أنه مضى منهزمًا منهم نحو الري فجدوا السير في أثره وقد انضاف إليهم كثير من عساكر المسلمين والكفار وكذلك أيضًا من المفسدين من يريد النهب والشر فوصلوا إلى الري على حين غفلة من أهلها فلم يشعروا بهم إلا وقد وصلوا إليها وملكوها ونهبوها وسبوا الحريم واستقرقوا الأطفال وفعلوا الأفعال التي لم يسمع بمثلها ولم يقيموا ومضوا مسرعين في طلب خوارزم شاه فنهبوا في طريقهم كل مدينة وقرية مروا عليها وفعلوا في الجميع أضعاف ما فعلوا في الري وأحرقوا وخربوا ووضعوا السيف في الرجال والنساء والأطفال فلم يبقوا على شيء‏.‏

وتموا على حالهم إلى همذان وكان خوارزم شاه قد وصل إليها في نفر من أصحابه ففارقها وكان آخر العهد به فلا يدرى ما كان منه فيما حكاه بعضهم عنه وقيل غير ذلك وقد ذكرناه‏.‏

فلما قاربوا همذان خرج رئيسها ومعه الحمل من الأموال والثياب والدواب وغير ذلك يطلب الأمان لأهل البلد فأمنوهم ثم فارقوها وساروا إلى زنجان ففعلوا أضعاف ذلك وساروا ووصلوا إلى قزوين فاعتصم أهلها منهم بمدينتهم فقاتلوهم وجدوا في قتالهم ودخلوها عنوة بالسيف فاقتتلوا هم وأهل البلد في باطنه حتى صاروا يقتتلون بالسكاكين فقتل من الفريقين ما لا يحصى ثم فارقوا قزوين فعد القتلى من أهل قزوين فزادوا على أربعين ألف قتيل‏.‏

ذكر وصول التتر إلى أذربيجان

لما هجم الشتاء على التتر في همذان وبلد الجبل رأوا بردًا شديدًا وثلجًا متراكمًا فساروا إلى أذربيجان ففعلوا في طريقهم بالقرى والمدن الصغار من القتل والنهب مثل ما تقدم منهم وخربوا وأحرقوا ووصلوا إلى تبريز وبها صاحب أذربيجان أوزبك بن البهلوان فلم يخرج إليهم ولا حدث نفسه بقتالهم لاشتغاله بما هو بصدده من إدمان الشرب ليلًا ونهارًا لا يخرج إليهم ولا

حدث نفسه بقتالهم لاشتغاله بما هو بصدده من إدمان الشرب ليلًا ونهارًا لا يفيق وإنما أرسل إليهم وصالحهم على مال وثياب ودواب وحمل الجميع إليهم فساروا من عنده يريدون ساحل البحر لأنه يكون قليل البرد ليشتوا عليه والمراعي به كثيرة لأجل دوابهم فوصلوا إلى موقان تطرقوا في طريقهم إلى بلاد الكرج فجاء إليهم من الكرج جمع كثير من العسكر نحو عشرة آلاف مقاتل فقاتلوهم فانهزمت الكرج وقتل أكثرهم‏.‏

وأرسل الكرج إلى أوزبك صاحب أذربيجان يطلبون منه الصلح والاتفاق معهم على دفع التتر فاصطلحوا ليجتمعوا إذا انحسر الشتاء وكذلك أرسلوا إلى الملك الأشرف ابن الملك العادل صاحب خلاط وديار الجزيرة يطلبون منه الموافقة عليهم وظنوا جميعهم أن التتر يصبرون في الشتاء إلى الربيع فلم يفعلوا كذلك بل تحركوا وساروا نحو بلاد الكرج وانضاف إليهم مملوك تركي من مماليك أوزبك اسمه أقوش وجمع أهل تلك الجبال والصحراء من التركمان والأكراد وغيرهم فاجتمع معه خلق كثير وراسل التتر في الانضمام إليهم فأجابوه إلى ذلك ومالوا إليه للجنسية فاجتمعوا وساروا في مقدمة التتر إلى الكرج فملكوا حصنًا من حصونهم وخربوه ونهبوا البلاد وخربوها وقتلوا أهلها ونهبوا أموالهم حتى وصلوا إلى قرب تفليس‏.‏

فاجتمعت الكرج وخرجت بحدها وحديدها إليهم فلقيهم أقوش ألًا فيمن اجتمع إليه فاقتتلوا قتالًا شديدًا صبروا فيه كلهم فقتل من أسحاب أقوش خلق كثير وأدركهم التتر وقد تعب الكرج من القتال وقتل منهم أيضًا كثير فلم يثبتوا للتتر وانهزموا أقبح هزيمة وركبهم السيف من كل جانب فقتل منهم ما لا يحصى كثرة وكانت الوقعة في ذي القعدة من هذه السنة ونهبوا من البلاد ما كان سلم منهم‏.‏

ولقد جرى لهؤلاء التتر ما لم يسمع بمثله من قديم الزمان وحديثه‏:‏ طائفة تخرج من حدود الصين لا تنقضي عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى بلاد أرمينية من هذه الناحية ويجاوزوا العراق من ناحية همذان وتالله لا شك أن من يجيء بعدنا إذا بعد العهد ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها والحق بيده فمتى يجيء بعدنا إذا بعد العهد ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها والحق بيده فمتى استبعد ذلك فلينظر أننا سطرنا نحن وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها يسر اله للمسلمين والإسلام من يحفظهم ويحوطهم فلقد دفعوا من العدو إلى عظيم ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه وفرجه ولم ينل المسلمين أذى وشدة مذ جاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هذا الوقت مثل ما دفعوا إليه الآن‏.‏

هذا العدو الكافر التتر قد وطئوا بلاد ما وراء النهر وملكوها وخربوها وناهيك به سعة بلاد وتعدت هذه الطائفة منهم النهر إلى خراسان فملكوها وفعلوا مثل ذلك ثم إلى الري وبلد الجبل وأذربيجان وقد اتصلوا بالكرج فغلبوهم على بلادهم‏.‏

والعدو الآخر الفرنج قد ظهروا من بلادهم في أقصى بلاد الروم بين الغرب والشمال ووصلوا إلى مصر فملكوا مثل دمياط وأقاموا فيها ولم يقدر المسلمون على إزعاجهم عنها ولا إخراجهم منها وباقي ديار مصر على خطر فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

ومن أعظم الأمور على المسلمين أن سلطانهم خوارزم شاه محمدًا قد عدم لا يعرف حقيقة خبره فتارة يقال مات عند همذان وأخفي موته وتارة دخل أطراف بلاد فارس ومات هناك وأخفي موته لئلا يقصدها التتر في أثره وتارة يقال عاد إلى طبرستان وركب البحر فتوفي في جزيرة هناك وبالجملة فقد عدم ثم صح موته ببحر طبرستان وهذا عظيم إن مثل خراسان وعراق العجم أصبح سائبًا لا مانع له ولا سلطان يدفع عنه والعدو يجوس البلاد يأخذ ما أراد ويترك ما أراد على أنهم لم يبقوا على مدينة إلا خربوا كل ما مروا عليه وأحرقوه ونهبوه وما لا يصلح لهم أحرقوه فكانوا يجمعون الإبريسم تلالًا ويلقون فيه النار وكذلك غيره من الأمتعة‏.‏

في صفر سنة ثماني عشرة وستمائة ملك التتر مدينة مراغة من أذربيجان‏.‏

وسبب ذلك أننا ذكرنا سنة سبع عشرة وستمائة ما فعله التتر بالكرج وانقضت تلك السنة وهم في بلاد الكرج فلما دخلت سنة ثماني عشرة وستمائة ساروا من ناحية الكرج لأنهم رأوا أن بين أيديهم شوكة قوية ومضايق تحتاج إلى قتال وصراع فعدلوا عنهم وهذه كانت عادتهم إذا قصدوا مدينة ورأوا عندها امتناعًا عدلوا عنها فوصلوا إلى تبريز وصانعهم صاحبها بمال وثياب ودواب فساروا عنه إلى مدينة مراغة فحصروها وليس بها صاحب يمنعها لأن صاحبها كانت امرأة وهي مقيمة بقلعة رويندز وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة‏)‏‏.‏

فلما حصروها قاتلهم أهلها فنصبوا عليها المجانيق وزحفوا إليها وكانت عادتهم إذا قاتلوا مدينة قدموا من معهم من أسارى المسلمين بين أيديهم يزحفون ويقاتلون فإن عادوا قتلوهم فكانوا يقاتلون كرهًا وهم المساكين كما قيل‏:‏ ‏(‏كالأشقر إن تقدم ينحر وإن تأخر يعقر‏)‏ وكانوا هم يقاتلون وراء المسلمين فيكون القتل في المسلمين الأسارى وهم بنجوة منه‏.‏

فأقاموا عليها عدة أيام ثم ملكوا عنوة وقهرًا رابع صفر ووضعوا السيف في أهلها فقتل منهم ما يخرج عن الحد والإحصاء ونهبوا كل ما يصلح لهم وما لا يصلح لهم أحرقوه واختفى بعض الناس منهم فكانوا يأخذون الأسارى ويقولون لهم‏:‏ نادوا في الدرب أن التتر قد رحلوا فإذا نادى أولئك خرج من اختفى فيؤخذ ويقتل‏.‏

وبلغني أن امرأة من التتر دخلت دارًا وقتلت جماعة من أهلها وهم يظنونها رجلًا فوضعت السلاح وإذا هي امرأة فقتلها رجل أخذته أسيرًا وسمعت من بعض أهلها أن رجلًا من التتر دخل دربًا فيه مائة رجل فما زال يقتلهم واحدًا واحدًا حتى أفناهم ولم يمد أحد يده إليه بسوء ووضعت الذلة على الناس فلا يدفعون عن نفوسهم قليلًا ولا كثيرًا نعوذ بالله من الخذلان‏.‏

ثم رحلوا عنها نحو مدينة إربل ووصل الخبر إلينا بذلك بالموصل فخفنا حتى إن بعض الناس هم بالجلاء خوفًا من السيف وجاءت كتب مظفر الدين صاحب إربل إلى بدر الدين صاحب الموصل يطلب منه نجدة من العساكر فسير إليه جمعًا صالحًا من عسكره وأراد أن يمضي إلى طرف بلاده من جهة التتر ويحفظ المضايق لئلا يجوزها أحد فإنها جميعها جبال وعرة ومضايق لا يقدر أن يجوزها إلا الفارس بعد الفارس ويمنعهم من الجواز إليه‏.‏

ووصلت كتب الخليفة ورسله إلى الموصل وإلى مظفر الدين يأمر الجميع بالاجتماع مع عساكره بمدينة دقوقا لمنعوا التتر فإنهم ربما عدلوا عن جبال إربل لصعوبتها إلى هذه الناحية ويطرقون العراق فسار مظفر الدين من إربل في صفر وسار إليهم جمع من عسكر الموصل وتبعهم من المتطوعة كثير‏.‏

وأرسل الخليفة أيضًا إلى الملك الأشرف يأمره بالحضور بنفسه في عساكره ليجتمع الجميع على قصد التتر وقتالهم فاتفق أن الملك المعظم ابن الملك العادل وصل من دمشق إلى أخيه الأشرف وهو بحران يستنجده على الفرنج الذين بمصر وطلب منه أن يحضر بنفسه ليسروا كلهم إلى مصر ليستنقذوا دمياط من الفرنج فاعتذر إلى الخليفة بأخيه وقوة الفرنج وإن لم يتداركها وإلا خرجت هي وغيرها وشرع يتجهز للمسير إلى الشام ليدخل مصر‏.‏

وكان ما ذكرناه من استنقاذ دمياط‏.‏

فلما اجتمع مظفر الدين والعساكر بدقوقا سير الخليفة إليهم مملوكه قشتمر وهو أكبر أمير بالعراق ومعه غيره من الأمراء في نحو ثماني مائة فارس فاجتمعوا هناك ليتصل بهم باقي عسكر الخليفة وكان المقدم على الجميع مظفر الدين فلما رأى قلة العسكر لم يقدم على قصد التتر‏.‏

وحكى مظفر الدين قال‏:‏ لما أرسل إلي الخليفة في معنى قصد التتر قلت له‏:‏ إن العدو قوي وليس لي من العسكر ما ألقاه به فإن اجتمع معي عشرة آلاف فارس استنقذت ما أخذ من البلاد فأمرين بالمسير ووعدني بوصول العسكر فلما سرت لم يحضر عندي غير عدد لم يبلغوا ثماني مائة طواشي فأقمت وما رأيت المخاطرة بنفسي وبالمسلمين‏.‏

ولما سمع التتر باجتماع العساكر لهم رجعوا القهقرى ظنًا منهم أن العسكر يتبعهم فلما لم يروا أحدًا يطلبهم أقاموا وأقام العسكر الإسلامي عند دقوقا فلما لم يروا العدو يقصدهم ولا المدد يأتيهم تفرقوا وعادوا إلى بلادهم‏.‏

ذكر ملك التتر همذان وقتل أهلها

لما تفرق العسكر الإسلامي عاد التتر إلى همذان فنزلوا بالقرب منها وكان لهم بها شحنة يحكم فيها فأرسلوا إليه ليطلب من أهلها مالًا وثيابًا وكانوا قد استنقذوا أموالهم في طول المدة‏.‏

وكان رئيس همذان شريفًا علويًا وهو من بيت رئاسة قديمة لهذه المدينة هو الذي يسعى في أمورهم أهل البلد مع التتر ويوصل إليهم ما يجمعه من الأموال فلما طلبوا الآن منهم المال لم يجد أهل همذان ما يحملونه إليهم فحضروا عند الرئيس ومعه إنسان فقيه قد قام في اجتماع الكلمة على الكفار قيامًا مرضيًا فقالوا لهما‏:‏ هؤلاء الكفار قد أفنوا أموالنا ولم يبق لنا ما نعطيهم وقد هلكنا من أخذهم أموالنا وما يفعله النائب عنهم بنا من الهوان‏.‏

وكانوا قد جعلوا بهمذان شحنة لهم يحكم في أهلها بما يختاره فقال الشريف‏:‏ إذا كنا نعجز عنهم فكيف الحيلة فليس لنا إلا مصانعتهم بالأموال فقالوا له‏:‏ أنت أشد علينا من الكفار‏!‏ وأغلظوا له في القول فقال‏:‏ أنا واحد منكم فاصنعوا ما شئتم‏.‏

فأشار الفقيه بإخراج شحنة التتر من البلد والامتناع فيه ومقاتلة التتر فوثب العامة على الشحنة فقتلوه وامتنعوا في البلد فتقدم التتر إليهم وحصروهم وكانت الأقوات متعذرة في تلك البلاد جميعها لخرابها وقتل أهلها وجلاء من سلم منهم فلا يقدر أحد على الطعام إلا قليلًا وأما التتر فلا يبالون بعدم الأقوات لأنهم لا يأكلون إلا اللحم ولا تأكل دوابهم إلا نبات الأرض حتى إنها تحفر بحوافرها الأرض عن عروق النبات فتأكلها‏.‏

فلما حصروا همذان قاتلهم أهلها والرئيس والفقيه في أوائلهم فقتل من التتر خلق كثير وجرح الفقيه عدة جراحات وافترقوا ثم خرجوا من الغد فاقتتلوا أشد من القتال الأول وقتل أيضًا من التتر أكثر من اليوم الأول وجرح الفقيه أيضًا عدة جراحات وهو صابر وأرادوا أيضًا الخروج اليوم الثالث فلم يطق الفقيه الركوب وطلب الناس الرئيس العلوي فلم يجدوه كان قد هرب في سرب صنعه إلى ظاهر البلد هو وأهله إلى قلعة هناك على جبل عال فامتنع فيها‏.‏

فلما فقده الناس بقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون إلا أنهم اجتمعت كلمتهم على القتال إلى أن وكان التتر قد عزموا على الرحيل عنهم لكثرة من قتل منهم فلما لم يروا أحدًا خرج إليهم من البلد طمعوا واستدلوا على ضعف أهله فقصدوهم وقاتلوهم في رجب من سنة ثماني عشرة وستمائة ودخلوا المدينة بالسيف وقاتلهم الناس في الدروب فبطل السلاح للزحمة واقتتلوا بالسكاكين فقتل من الفريقين ما لا يحصيه إلا الله تعالى وقوي التتر على المسلمين فأفنوهم قتلًا ولم يسلم إلا من كان عمل له نفقًا يختفي فيه وبقي القتل في المسلمين عدة أيام ثم ألقوا النار في البلد فأحرقوه ورحلوا عنه إلى مدينة أردويل‏.‏

وقيل كان السبب في ملكها أن أهل البلد لما شكوا إلى الرئيس الشريف ما يفعل بهم الكفار أشار عليهم بمكاتبة الخليفة لينفذ إليهم عسكرًا مع أمير يجمع كلمتم فاتفقوا على ذلك فكتب إلى الخليفة ينهي إليه ما هم عليه من الخوف والذل وما يركبهم به العدو من الصغار والخزي ويطلب نجدة ولو ألف فارس مع أمير يقاتلون معه ويجتمعون عليه فلما سار القصاد بالكتب أرسل بعض من علم بالحال إلى التتر يعلمهم ذلك فأرسلوا إلى الطريق فأخذوهم وأخذوا الكتب منهم وأرسلوا إلى الرئيس ينكرون عليه الحال فجحد فأرسلوا إليه كتبه وكتب الجماعة فسقط في أيديهم وتقدم إليهم التتر حينئذ وقاتلوهم وجرى في القتال كما ذكرنا‏.‏

وملكهم أردويل وغيرها لما فرغ التتر من همذان ساروا إلى أذربيجان فوصلوا إلى أردويل فملكوها وقتلوا فيها وأكثروا وخربوا أكثرها وساروا منها إلى تبريز وكان قد قام بأمرها شمس الدين الطغرائي وجمع كلمة أهلها وقد فارقها صاحبها أوزبك بن البهلوان وكان أميرًا متخلفًا لا يزال منهمكًا في الخمر ليلًا ونهارًا يبقى الشهر والشهرين لا يظهر وإذا سمع هيعة طار مجفلًا له وله جميع أذربيجان وأران وهو أعجز خلق الله عن حفظ البلاد من عدو يريدها ويقصدها‏.‏

فلما سمع بمسير التتر من همذان فارق هو تبريز وقصد نقجوان وسير أهله ونساءه إلى خوي ليبعد عنهم فقام هذا الطغرائي بأمر البلد وجمع الكلمة وقوى نفوس الناس على الامتناع وخذرهم عاقبة التخاذل والتواني وحصن البلد بجهده وطاقته فلما قاربه التتر وسمعوا بما أهل البلد عليه من اجتماع الكلمة على قتالهم وأنهم قد حصنوا المدينة وأصلحوا أسواها وخندقها أرسلوا يطلبون منهم مالًا وثيابًا فاستقر الأمر بينهم عل قدر معلوم من ذلك فسيروه إليهم فأخذوه ورحلوا إلى مدينة سراو فنهبوها وقتلوا كل من فيها‏.‏

ورحلوا منها إلى بيلقان من بلاد أران فنهبوا كل ما مروا به من البلاد والقرى وخربوا وقتلوا من ظفروا به من أهلها فلما وصولا إلى بيلقان حصروها فاستدعى أهلها منهم رسولًا يقرون معه الصلح فأرسلوا إليهم رسولًا من أكابرهم ومقدميهم فقتله أهل البلد فزحف التتر إليهم وقاتلوهم ثم إنهم ملكوا البلد عنوة في شهر رمضان سنة ثماني عشرة ووضعوا فيهم السيف فلم يبقوا على صغير ولا كبير ولا امرأة حتى إنهم كانوا يشقون بطون الحبالى ويقتلون الأجنة وكانوا يفجرون بالمرأة ثم يقتلونها وكان الإنسان منهم يدخل الدرب فيه الجماعة فيقتلهم واحدًا بعد واحد حتى يفرغ من الجميع لا يمد أحد منهم إليه يدًا‏.‏

فلما فرغوا منها استقصوا ما حولها بالنهب والتخريب وساروا إلى مدينة كنجة وهي أم بلاد أران فعلموا بكثرة أهلها وشجاعتهم لكثرة ذريتهم بقتال الكرج وحصانتها فلم يقدموا عليها فساروا إلى أهلها يطلبون منهم المال والثياب فحملوا إليهم ما طلبوا فساروا عنهم‏.‏

ذكر قصد التتر بلاد الكرج

لما فرغ التتر من بلاد المسلمين بأذربيجان وأران بعضه بالملك وبعضه بالصلح ساروا إلى بلاد الكرج من هذه الأعمال أيضًا وكان الكرج قد أعدوا لهم واستعدوا وسيروا جيشًا كثيرًا إلى طرف بلادهم ليمنعوا التتر عنها فوصل إليهم التتر فالتقوا فلم يثبت الكرج بل ولوا منهزمين ولقد بلغني أنهم قتل منهم نحو ثلاثين ألفًا ونهبوا ما وصلوا إليه من بلادهم وخربوها وفعلوا بها ما هو عادتهم فلما وصل المنهزمون إلى تفليس وبها ملكهم جمعوا جموعًا أخرى وسيرهم إلى التتر أيضًا ليمنعوهم من توسط بلادهم فرأوا التتر وقد دخلوا البلاد لم يمنعهم جبل ولا مضيق ولا غير ذلك فلما رأوا فعلهم عادوا إلى تفليس فأخلوا البلاد ففعل التتر فيها ما أرادوا من النهب والقتل والتخريب ورأوا بلادًا كثيرة المضايق والدربندات فلم يتجاسروا على الوغول فيها فعادوا عنها‏.‏

وداخل الكرج منهم خوف عظيم حتى سمعت عن بعض أكابر الكرج قدم رسولًا أنه قال‏:‏ من حدثكم أن التتر انهزموا وأسروا فلا تصدقوه وإذا حدثتم أنهم قتلوا فصدقوا فإن القوم لا يفرون أبدًا ولقد أخذنا أسيرًا منهم فألقى نفسه من الدابة وضرب رأسه بالحجر إلى أن مات ولم يسلم نفسه للأسر‏.‏

ذكر وصولهم إلى دربند شروان وما فعلوه فيه

لما عاد التتر من بلد الكرج قصدوا دربند شروان فحصروا مدينة شماخي وقاتلوا أهلها فصبروا على الحصر ثم إن التتر صعدوا سورها بالسلاليم وقيل بل جمعوا كثيرًا من الجمال والبقر والغنم وغير ذلك ومن قتلى الناس منهم ومن غيرهم وألقوا بعضه فوق بعض فصار مثل التل وصعدوا عليه فأشرفوا على المدينة وقاتلوا أهلها فصبروا واشتد القتال ثلاثة أيام فأشرفوا على أن يؤخذوا فقالوا‏:‏ السيف لا بد منه فالصبر أولى بنا نموت كرامًا‏.‏

فصبوا تلك الليلة فأنتنت تلك الجيف وانهضمت فلم يبق للتتر على السور استعلاء ولا تسلط على الحرب فعاودوا الزحف وملازمة القتال فضجر أهلها ومسهم التعب والكلال والإعياء فضعفوا فملك التتر البلد وقتلوا فيه فأكثروا ونهبوا الأموال فاحتازوها‏.‏

فلما فرغوا منه أرادوا عبور الدربند فلم يقدروا على ذلك فأرسلوا رسولًا إلى شروان شاه ملك دربند شروان يقولون له ليرسل إليهم رسولًا يسعى بينهم في الصلح فأرسل عشرة رجال من أعيان أصحابه فأخذوا أحدهم فقتلوه ثم قالوا للباقين‏:‏ إن أنتم عرفتمونا طريقًا نعبر فيه فلكم الأمان وإن لم تفعلوا قتلناكم كما قتلنا هذا‏.‏

فقالوا لهم‏:‏ إن هذا الدربند ليس فيه طريق البتة ولكن فيه موضع هو أسهل ما فيه من الطرق فساروا معهم إلى ذلك الطريق فعبروا فيه وخلفوه وراء ظهورهم‏.‏

ذكر ما فعلوه باللان وقفجاق

لما عبر التتر دربند شروان ساروا في تلك الأعمال وفيها أمم كثيرة منهم‏:‏ اللان واللكز وطوائف من الترك فنهبوا وقتلوا من اللكز كثيرًا وهم مسلمون وكفار وأوقعوا بمن عداهم من أهل تلك البلاد ووصلوا إلى اللان وهم أمم كثيرة وقد بلغهم خبرهم فحذروا وجمعوا عندهم جمعًا من قفجاق فقاتلوهم فلم تظفر أحدى الطائفتين بالأخرى فأرسل التتر إلى قفجاق يقولون‏:‏ نحن وأنتم جنس واحد وهؤلاء اللان ليسوا منكم حتى تنصروهم ولا دينكم مثل دينهم ونحن نعاهدكم أننا لا نتعرض لكم ونحمل إليكم من الأموال والثياب ما شئتم وتتركون بيننا وبينهم‏.‏

فاستقر الأمر بينهم على مال حملوه وثياب وغير ذلك فحملوا إليهم ما استقر وفارقهم قفجاق فأوقع التتر باللان فقتلوا منهم وأكثروا ونهبوا وسبوا وساروا إلى قفجاق وهم آمنون متفرقون لما استقر بينهم من الصلح فلم يسمعوا بهم إلا وقد طرقوهم ودخلوا بلادهم فأوقعوا بهم الأول فالأول وأخذوا منهم أضعاف ما حملوا إليهم وسمع من كان بعيد الدار من قفجاق الخبر ففروا من غير قتال وأبعدوا فبعضهم اعتصم بالغياض وبعضهم بالجبال وبعضهم لحق ببلاد الروس‏.‏

وأقام التتر في بلاد قفجاق وهي أرض كثيرة المراعي في الشتاء والصيف وفيها أماكن باردة في الصيف كثيرة المرعى وأماكن حارة في الشتاء كثيرة المرعى وهي غياض على ساحل البحر ووصلوا إلى مدينة سوادق وهي مدينة قفجاق التي منها مادتهم فإنهم على بحر الخزر والمراكب تصل إليها وفيها الثياب فيشتري قفجاق منهم ويبيعون عليهم الجواري والمماليك والبرطاسي والقندر والسنجاب وغير ذلك مما هو في بلادهم وبحر الخزر هذا هو بحر متصل بخليج القسطنطينية‏.‏

ولما وصل التتر إلى سوادق ملكوها وتفرق أهلها منها فبعضهم صعد الجبال بأهله وماله وبعضهم ركب البحر وسار إلى بلاد الروم التي بيد المسلمين من أولاد قلج أرسلان‏.‏

ذكر ما فعله التتر بقفجاق والروس

لما استولى التتر على أرض قفجاق وتفرق قفجاق كما ذكرنا سار طائفة كثيرة منهم إلى بلاد الروس وهي بلاد كثيرة طويلة عريضة تجاورهم وأهلها يدينون بالنصرانية فلما وصلوا إليهم اجتمعوا كلهم واتفقت كلمتهم على قتال التتر إن قصدوهم وأقام التتر بأرض قفجاق مدة ثم إنهم ساروا سنة عشرين وستمائة إلى بلاد الروس فسمع الروس وقفجاق خبرهم وكانوا مستعدين لقتالهم فساروا إلى طريق التتر ليلقوهم قبل أن يصلوا إلى بلادهم ليمنعوهم عنها فبلغ مسيرهم إلى التتر فعادوا على أعقابهم راجعين فطمع الروس وقفجاق فيهم وظنوا أنهم عادوا خوفًا منهم وعجزًا عن قتالهم فجدوا في اتباعهم ولم يزل التتر راجعين وأولئك يقفون أثرهم اثني عشر يومًا‏.‏

ثم إن التتر عطفوا على الروس وقفجاق فلم يشعروا بهم إلا وقد لقوهم على غرة منهم لأنهم كانوا قد أمنوا التتر واستشعروا القدرة عليهم فلم تتكامل عدتم للقتال إلا وقد بلغ التتر منهم مبلغًا عظيمًا فصبر الطائفتان صبرًا لم يسمع بمثله‏.‏

ودام القتال بينهم عدة أيام ثم إن التتر ظفروا واستظهروا فانهزم قفجاق والروس هزيمة عظيمة بعد أن أثخن فيهم التتر وكثر القتل في المنهزمين فلم يسلم منهم إلا القليل ونهب جميع ما معهم ومن سلم وصل إلى البلاد على أقبح صورة لبعد الطريق والهزيمة وتبعهم التتر يقتلون وينهبون ويخربون البلاد حتى خلا أكثرها فاجتمع كثير من أعيان تجار الروس وأغنيائهم وحملوا ما يعز عليهم وساروا يقطعون البحر إلى بلاد الإسلام في عدة مراكب‏.‏

فلما قاربوا المرسى الذي يريدونه انكسر مركب من مراكبهم فغرق إلا أن الناس نجوا وكانت العادة جارية أن السلطان له كل مركب ينكسر فأخذ من ذلك شيئًا كثيرًا وسلم باقي المراكب وأخبر من بها بهذه الحال‏.‏

وقفجاق إلى ملكهم لما فعل التتر بالروس ما ذكرناه ونهبوا بلادهم عادوا عنها وقصدوا بلغار أواخر سنة عشرين وستمائة فلما سمع أهل بلغار بقربهم منهم كمنوا لهم في عدة مواضع وخرجوا إليهم فلقوهم واستجروهم إلى أن جاوزوا موضع الكمناء فخرجوا عليهم من وراء ظهورهم فبقوا في الوسط وأخذهم السيف من كل ناحية فقتل أكثرهم ولم ينج منهم إلا القليل‏.‏

قيل‏:‏ كانوا نحو أربعة آلاف رجل فساروا إلى سقسين عائدين إلى ملكهم جنكزخان وخلت أرض قفجاق منهم فعاد من سلم منهم إلى بلادهم وكان الطريق منقطعًا مذ دخلها التتر فلم يصل منهم شيء من البرطاسي والسنجاب والقندر وغيرها مما يحمل من تلك البلاد فلما فارقوها عادوا إلى بلادهم واتصلت الطريق وحملت الأمتعة كما كانت‏.‏

هذه أخبار التتر المغربة قد ذكرناها سياقة واحدة لئلا تنقطع‏.‏

ذكر ما فعله التتر بما وراء النهر بعد بخارى وسمرقند

قد ذكرنا ما فعله التتر المغربة التي سيرها ملكهم جنكزخان لعنه الله إلى خوارزم شاه وأما جنكزخان فإنه بعد أن سير هذه الطائفة إلى خوارزم شاه وبلغه انهزام خوارزم شاه من خراسان قسم أصحابه عدة أقسام فسير قسمًا منها إلى بلاد فرغانة ليملكوها وسيسر قسمًا آخر منها إلى ترمذ وسير قسمًا منها إلى كلانة وهي قلعة حصينة على جانب جيحون من أحصن القلاع وأمنع الحصون فسارت كل طائفة إلى الجهة التي أمرت بقصدها ونازلتها واستولت عليها وفعلت من القتل والأسر والسبي والنهب والتخريب وأنواع الفساد مثل ما فعل أصحابها‏.‏

فلما فرغوا من ذلك عادوا إلى ملكهم جنكزخان وهو بسمرقند فجهز جيشًا عظيمًا مع أحد أولاده وسيرهم إلى خوارزم وسير جيشًا فعبروا جيحون إلى خراسان‏.‏

ذكر ملك التتر خراسان


لما سار الجيش المنفذ إلى خراسان عبروا جيحون وقصدوا مدينة بلخ فطلب أهلها الأمان فأمنوهم فسلم البلد سنة سبع عشرة وستمائة ولم يتعرضوا له بنهب ولا قتل بل جعلوا فيه شحنة وساروا وقصدوا الزوزان وميمند وأندخوي وقاريات فملكوا الجميع وجعلوا فيه ولاة ولم يتعرضوا لأهلها بسوء ولا أذى سوى أنهم كانوا يأخذون الرجال ليقاتلوا بهم من يمتنع عليهم حتى وصلوا إلى الطالقان وهي ولاية تشتمل على عدة بلاد وفيها قلعة حصينة يقال لها منصوركوه لا ترام علوًا وارتفاعًا وبها رجال يقاتلون شجعان فحصروها مدة ستة أشهر يقاتلون أهلها ليلًا ونهارًا ولا يظفرون منها بشيء‏.‏

فأرسلوا إلى جنكزخان يعرفونه عجزهم عن ملك هذه القلعة لكثرة من فيها من المقاتلة ولامتناعها بحصانتها فسار بنفسه وبمن عنده من جموعه إليهم وحصرها ومعه خلق كثير من المسلمين أسرى فأمرهم بمباشرة القتال وإلا قتلهم فقاتلوا معه وأقام عليها أربعة أشهر أخرى فقتل من التتر عليها خلق كثير فلما رأى ملكهم ذلك أمر أن يجمع له من الحطب والأخشاب ما أمكن جمعه ففعلوا ذلك وصاروا يعملون صفًا من خشب وفوقه صفًا من تراب فلم يزالوا كذلك حتى صار تلًا عاليًا يوازي القلعة وصعد الرجالة فوقه ونصبوا عليه منجنيقًا فصار يرمي إلى وسط القلعة وحملوا على التتر حملة واحدة فسلم الخيالة منهم ونجوا وسلكوا تلك الجبال والشعاب‏.‏

وأما الرجالة فقتلوا ودخل التتر القلعة وسبوا النساء والأطفال ونهبوا الأموال والأمتعة‏.‏

ثم إن جنكزخان جمع أهل البلاد الذين أعطاهم الأمان ببلخ وغيرها وسيرهم مع بعض أولاده إلى مدينة مرو فوصلوا إليها وقد اجتمع بها من الأعراب والأتراك وغيرهم ممن نجا من المسلمين ما يزيد على مائتي ألف رجل وهم معسكرون بظاهر مرو وهم عازمون على لقاء التتر ويحدثون نفوسهم بالغلبة لهم والاستيلاء عليهم فلما وصل التتر إليهم التقوا واقتتلوا فصبر المسلمون وأما التتر فلا يعرفون الهزيمة حتى إن بعضهم أسر فقال وهو عند المسلمين‏:‏ إن قيل إن التتر يقتلون فصدقوا وإن قيل إنهم انهزموا فلا تصدقوا‏.‏

فلما رأى المسلمون صبر التتر وإقدامهم ولو منهزمين فقتل التتر منهم وأسروا الكثير ولم يسلم إلا القليل ونهبت أموالهم وسلاحهم ودوابهم وأرسل التتر إلى ما حولهم من البلاد يجمعون الرجال لحصار مرو فلما اجتمع لهم ما أرادوا تقدموا إلى مرو وحصروها وجدوا في حصرها ولازموا القتال‏.‏

وكان أهل البلد قد ضعفوا بانهزام ذلك العسكر وكثرة القتل والأسر فيهم فلما كان اليوم الخامس من نزولهم أسل التتر إلى الأمي الذي بها متقدمًا على من فيها يقولون له‏:‏ لا تهلك نفسك وأهل البلد واخرج إلينا فنحن نجعلك أمير هذه البلدة ونرحل عنك فأرسل يطلب الأمان لنفسه ولأهل البلد فأمنهم فخرج إليهم فخلع عليه ابن جنكزخان واحترمه وقال له‏:‏ أريد أن تعرض علي أصحابك حتى ننظر من يصلح لخدمتنا استخدمناه وأعطيناه إقطاعًا ويكون معنا‏.‏

فلما حضروا عنده وتمكن منهم قبض عليهم وعلى أميرهم وكتفوهم فلما فرغ منهم قال لهم‏:‏

اكتبوا إلى تجار البلد ورؤسائه وأرباب الأموال في جريدة واكتبوا إلى أرباب الصناعات والحرف في نسخة أخرى واعرضوا ذلك علينا ففعلوا ما أمرهم فلما وقف على النسخ أمر أن يخرج أهل البلد منه بأهليهم فخرجوا كلهم ولم يبق فيه أحد فجلس على كرسي من ذهب وأمر أن يحضر أولئك الأجناد الذين قبض عليهم فأحضروا وضربت رقابهم صبرًا والناس ينظرون إليهم ويبكون‏.‏

وأما العامة فإنهم قسموا الرجال والنساء والأطفال والأموال فكان يومًا مشهودًا من كثرة الصراخ والبكاء والعويل وأخذوا أرباب الأموال فضربوهم وعذبوهم بأنواع العقوبات في طلب الأموال فربما مات أحدهما من شدة الضرب ولم يكن بقي له ما يفتدي به نفسه ثم إنهم أحرقوا البلد وأحرقوا تربة السلطان سنجر ونبشوا القبر طلبًا للمال فبقوا كذلك ثلاثة أيام فلما كان اليوم الرابع أمر بقتل أهل البلد كافة وقال‏:‏ هؤلاء عصوا علينا فقتلوهم أجمعين وأمر بإحصاء القتلى فكانوا نحو سبعمائة ألف قتيل فإنا لله وإنا إليه راجعون مما جرى على المسلمين ذلك اليوم‏.‏

ثم ساروا إلى نيسابور فحصروها خمسة أيام وبها جمع صالح من العسكر الإسلامي فلم يكن لهم بالتتر قوة فملكوا المدينة وأخرجوا أهلها إلى الصحراء فقتلوهم وسبوا حريمهم وعاقبوا من اتهموه بالمال كما فعلوا بمرو وأقاموا خمسة عشر يومًا يخربون ويفتشون المنازل عن الأموال‏.‏

وكانوا لما قتلوا أهل مرو قيل لهم إن قتلاهم سلم منهم كثير ونجوا إلى بلاد الإسلام فأمروا بأهل نيسابور أن تقطع رؤوسهم لئلا يسلم من القتل أحد فلما فرغوا من ذلك سيروا طائفة منهم إلى طوس ففعلوا بها كذلك أيضًا وخربوها وخربوا المشهد الذي فيه علي بن موسى الرضى والرشيد حتى جعلوا الجميع خرابًا‏.‏

ثم ساروا إلى هراة وهي من أحصن البلاد فحصروها عشرة أيام فملكوها وأمنوا أهلها وقتلوا منهم البعض وجعلوا عند من سلم منهم شحنة وساروا إلى غزنة فلقيهم جلال الدين بم خوارزم شاه فقاتلهم وهزمهم على ما نذكره إن شاء الله فوثب أهل هراة على الشحنة فقتلوه فلما عاد المنهزمون إليهم دخلوا البلد قهرًا وعنوة وقتلوا كل من فيه ونهبوا الأموال وسوبا الحريم ونهبوا السواد وخربوا المدينة جميعها وأحرقوها وعادوا إلى ملكهم جنكزخان وهو بالطالقان يرسل السرايا إلى جميع بلاد خراسان ففعلوا بها كذلك ولم يسلم من شرهم وفسادهم شيء من البلاد وكان جميع ما فعلوه بخراسان سنة سبع عشرة‏.‏

ذكر ملكهم خوارزم وتخريبها

وأما الطائفة من الجيش التي سيرها جنكزخان إلى خوارزم فإنها كانت أكثر السرايا جميعها لعظم البلد فساروا حتى وصلوا إلى خوارزم وفيها عسكر كبير وأهل البلد معروفون بالشجاعة والكثرة فقاتلوهم أشد قتال سمع به الناس ودام الحصر لهم خمسة أشهر فقتل من الفريقين خلق كثير إلا أن القتلى من التتر كانوا أكثر لأن المسلمين كان يحميهم السور‏.‏

فأرسل التتر إلى ملكهم جنكزخان يطلبون المدد فأمدهم بخلق كثير فلما وصلوا إلى البلد زحفوا زحفًا متتابعًا فملكوا طرفًا منه فاجتمع أهل البلد وقاتلوهم في طرف الموضع الذي ملكوا فلم يقدروا على إخراجهم ولم يزالوا يقاتلونهم والتتر يملكون منهم محلة بعد محلة وكلما ملكوا محلة قاتلهم المسلمون في المحلة التي تليهم فكان الرجال والنساء والصبيان يقاتلون فلم يزالوا كذلك حتى ملكوا البلد جميعه وقتلوا كل من فيه ونهبوا كل ما فيه ثم إنهم فتحوا السكر الذي يمنع ماء جيحون عن البلد فدخله الماء فغرق البلد جميعه وتهدمت الأبنية وبقي موضعه ماء ولم يسلم من أهله أحد البتة فإن غيره من البلاد قد كان يسلم بعض أهله منهم من يختفي ومنهم من يهرب ومنهم من يخرج ثم يسلم ومنهم من يلقي نفسه بين القتلى فينجو وأما أهل خوارزم فمن اختفى من التتر غرقه الماء أو قتله الهدم فأصبحت خرابًا يبابًا‏:‏ كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر وهذا لم يسمع بمثله في قديم الزمان وحديثه نعوذ بالله من الحور بعد الكور ومن الخذلان بعد النصر فلقد عمت هذه المصيبة الإسلامية وأهله فكم من قتيل من أهل خراسان وغيرها لأن القاصدين من التجار وغيرهم كانوا كثيرًا مضى الجميع تحت السيف‏.‏

ولما فرغوا من خراسان وخوارزم عادوا إلى ملكهم بالطالقان‏.‏

ذكر ملك التتر غزنة وبلاد الغور

لما فرغ التتر من خراسان وعادوا إلى ملكهم جهز جيشًا كثيفًا وسيره إلى غزنة وبها جلال الدين بن خوارزم شاه مالكًا لها وقد اجتمع إليه من سمل من عسكر أبيه قيل‏:‏ كانوا ستين ألفًا فلما وصلوا إلى أعمال غزنة خرج إليهم المسلمون مع ابن خوارزم شاه إلى موضع يقال له بلق فالتقوا هناك واقتتلوا قتالًا شديدًا وبقوا كذلك ثلاثة أيام ثم أنزل الله نصره على المسلمين فانهزم التتر وقتلهم المسلمون كيف شاؤوا ومن سلم منهم عاد إلى ملكهم بالطالقان فلما سمع أهل هراة بذلك ثاروا بالوالي الذي عندهم للتتر فقتلوه فسير إليهم جنكزخان عسكرًا فملكوا البلد وخربوه كما ذكرناه‏.‏

فما انهزم التتر أرسل جلال الدين رسولًا إلى جنكزخان يقول له‏:‏ في أي موضع تريد أن يكون الحرب حتى نأتي أليه فجهز جنكزخان عسكرًا كثيرًا أكثر من الأول مع بعض أولاده وسيره إليه فوصل إلى كابل فتوجه العسكر الإسلامي إليهم وتصافوا هناك وجرى بنيهم قتال عظيم فانهزم الكفار ثانيًا فقتل كثير منهم وغنم المسلمون ما معهم وكان عظيمًا وكان معهم من أسارى المسلمين خلق كثير فاستنقذوهم وخلصوهم‏.‏

ثم إن المسلمين جرى بينهم فتنة لأجل الغنيمة وسبب ذلك أن أميرًا منهم يقال له سيف الدين بغراق أصله من الأتراك الخلج كان شجاعًا مقدامًا ذا رأي في الحرب ومكيدة واصطلى الحرب مع التتر بنفسه وقال العسكر جلال الدين‏:‏ تأخروا أنتم فقد ملثم منهم رعبًا وكان معهم من أسارى المسلمين خلق كثير فاستنقذوهم وخلصوهم‏.‏

وكان من المسلمين أيضًا أمير كبير يقال له ملك خان بينه وبين خوارزم شاه نسب وهو صاحب هراة فاختلف هذان الأميران في الغنيمة فاقتتلوا فقتل بينهم أخ لبغراق‏.‏

فقال بغراق‏:‏ أنا أهزم الكفار ويقتل أخي لأجل هذا السحت‏!‏ فغضب وفارق العسكر وسار إلى الهند فتبعه من العسكر ثلاثون ألفًا كلهم يريدونه فاستعطفه جلال الدين بكل طريق وسار بنفسه إليه وذكره الجهاد وخوفه من الله تعالى وبكى بين يديه فلم يرجع وسار مفارقًا فانكسر لذلك المسلمون وضعفوا‏.‏

فبينما هم كذلك إذ ورد الخبر أن جنكزخان قد وصل في جموعه وجيوشه فلما رأى جلال الدين ضعف المسلمين لأجل من فارقهم من العسكر ولم يقدر على المقام سار نحو بلاد الهند فوصل إلى ماء السند وهو نهر كبير فلم يجد من السفن ما يعبر فيه‏.‏

وكان جنكزخان يقص أثره مسرعًا فلم يتمكن جلال الدين من العبور حتى أدركه جنكزخان في التتر فاضطر المسلمون حينئذ إلى القتال والصبر لتعذر العبور عليهم وكانوا في ذلك كالأشقر إن تأخر يقتل وإن تقدم يعقر فتصافوا واقتتلوا أشد قتال اعترفوا كلهم أن كل ما مضى من الحروب كان لعبًا بالنسبة إلى هذا القتال فبقوا كذلك ثلاثة أيام فقتل الأمير ملك خان المقدم ذكره وخلق كثير وكان القتل في الكفار أكثر و الجراح أعظم فرجع الكفار عنهم فأبعدوا ونزلوا على بعد فلما رأى المسلمون أنهم لا مدد لهم وقد ازدادوا ضعفًا بمن قتل منهم وجرح ولم يعلموا بما أصاب الكفار من ذلك أرسلوا يطلبون السفن فوصلت وعبر المسلمون ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا‏.‏

فلما كان الغد عاد الكفار إلى غزنة وقد قويت نفسوهم بعبور المسلمين الماء إلى جهة الهند وبعدهم فلما وصلوا إليها ملكوها لوقتها لخلوها من العسكر والمحامي فقتلوا أهلها ونهبوا الأموال وسبوا الحريم ولم يبق أحد وخربوها وأحرقوها وفعلوا بسوادها كذلك ونهبوا وقتلوا وأحرقوا فأصبحت تلك الأعمال جميعها خالية من الأنيس خاوية على عروشها كأن لم تغن

ذكر تسليم الأشرف خلاط إلى أخيه شهاب الدين غازي

أواخر هذه السنة أقطع الملك الأشرف موسى بن العادل مدينة خلاط وجميع الأعمال‏:‏ أرمينية ومدينة ميافارقين من ديار بكر ومدينة حاني أخاه شهاب الدين غازي بن العادل وأخذ منه مدينة الرها ومدينة سروج من بلاد الجزيرة وسيره إلى خلاط أول سنة ثماني عشرة وستمائة‏.‏

وسب ذلك أن الكرج لما قصد التتر بلادهم وهزموهم ونهبوها وقتلوا كثيرًا من أهلها أرسلوا إلى أوزبك صاحب أذربيجان وأران يطلبون منه المهادنة والموافقة على دفع التتر وأرسلوا إلى الملك الأشرف في هذا المعنى وقالوا للجميع‏:‏ إن لم توافقونا على قتال هؤلاء القوم ودفعهم عن بلادنا وتحضروا بنفوسكم وعساكركم لهذا المهم وإلا صالحناهم عليكم‏.‏

فوصلت رسلهم إلى الأشرف وهو يتجهز إلى الديار المصرية لأجل الفرنج وكانوا عنده أهم الوجوه لأسباب‏:‏ أولها أن الفرنج كانوا قد ملكوا دمياط وقد أشرفت الديار المصرية على أن تملك فلو ملكوها لم يبق بالشام ولا غيره معهم ملك لأحد‏.‏

وثانيها أن الفرنج أشد شكيمة وطالبوا ملك فإذا ملكوا قرية لا يفارقونها إلا بعد أن يعجزوا وثالثها أن الفرنج قد طمعوا في كرسي مملكة البيت العادلي وهي مصر والتتر لم يصلوا إليها ولم يجاوزوا شيئًا من بلادهم وليسوا أيضًا ممن يريد المنازعة في الملك وما غرضهم إلا النهب والقتل وتخريب البلاد والانتقال من بلد إلى آخر‏.‏

فلما أتاه رسل الكرج بما ذكرناه أجابهم يعتذر بالمسير إلى مصر لدفع الفرنج ويقول لهم‏:‏ إنني قد أقطعت ولاية خلاط لأخي وسيرته إليها ليكون بالقرب منكم وتركت عنده العساكر فمتى احتجتم إلى نصرته حضر لدفع التتر وسار هو إلى مصر كما ذكرناه‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في ربيع الآخر ملك بدر الدين قلعة تل أعفر‏.‏

وفيها في جمادى الأولى ملك الأشرف مدينة سنجار‏.‏

وفيها أيضًا وصل الموصل وأقام بظاهرها ثم سار يريد إربل لقصد صاحبها فترددت الرسل بينهم في الصلح فاصطلحوا في شعبان وقد تقدم هذا جميعه مفصلًا سنة خمس عشرة وستمائة‏.‏

وفيها وصل التتر الري فملكوها وقتلوا كل من فيها ونهبوها وساروا عنها فوصلوا إلى همذان فلقيهم رئيسها بالطاعة والحمل فأبقوا على أهلها وساروا إلى أذربيجان فخربوا وحرقوا البلاد وقتلوا وسبوا وعملوا ما لم يسمع بمثله وقد تقدم أيضًا مفصلًا‏.‏

وفيها توفي نصير الدين ناصر بن مهدي العلوي الذي كان وزير الخليفة وصلي عليه بجامع القصر وحضره أرباب الدولة ودفن بالمشهد‏.‏

وفيها توفي صدر الدين أبو الحسن محمد بن حموية الجويني شيخ الشيوخ بمصر والشام وكان موته بالموصل وردها رسولًا وكان فقيهًا فاضلًا وصوفيًا صالحًا من بيت كبير من خراسان رحمه الله كان نعم الرجل‏.‏

وفيها عاد جمع بني معروف إلى مواضعهم من البطيحة وكانوا قد ساروا إلى الأجنا والقطيف فلم يمكنهم المقام لكثرة أعدائهم فقصدوا شحنة البصرة وطلبوا منه أن يكاتب الديوان ببغداد بالرضى عنهم فكتب معهم بذلك وسيرهم مع أصحابه إلى بغداد فلما قاربوا واسط لقيهم قاصد من الديوان بقتلهم فقتلوا‏.‏

ثم دخلت سنة ثماني عشرة وستمائة

ذكر وفاة قتادة أمير مكة

في هذه السنة في جمادى الآخرة توفي قتادة بن إدريس العلوي ثم الحسني أمير مكة حرسها الله بها وكان عمره نحو تسعين سنة وكانت ولايته قد اتسعت من حدود اليمن إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وله قلعة ينبع بنواحي المدينة وكثر عسكره واستكثر من المماليك وخافه العرب في تلك البلاد خوفًا عظيمًا‏.‏

وكان في أول ملكه لما ملك مكة حرسها الله حسن السيرة أزال عنها العبيد المفسدين وحمى البلاد وأحسن إلى الحجاج وأكرمهم وبقي كذلك مدة ثم إنه بعد ذلك أساء السيرة وجدد المكوس بمكة وفعل أفعالًا شنيعة ونهب الحاج في بعض السنين كما ذكرناه‏.‏

ولما مات ملك بعده ابنه الحسن وكان له ابن آخر اسمه راجح مقيم في العرب بظاهر مكة يفسد وينازع أخاه في ملك مكة فلما سار حاج العراق كان الأمير عليهم مملوكًا من مماليك الخليفة الناصر لدين الله اسمه أقباش وكان حسن السيرة مع الحاج في الطريق كثير الحماية فقصده راجح ابن قتادة وبذل له وللخليفة مالًا ليساعده على ملك مكة فأجابه إلى ذلك ووصولا إلى مكة ونزلوا بالزاهر وتقدم إلى مكة مقاتلًا لصاحبها حسن‏.‏

وكان حسن قد جمع جموعًا كثيرة من العرب وغيرها فخرج إليه من مكة وقاتله وتقدم أمير الحاج من بين يدي عسكره منفردًا وصعد الجبل إدلالًا بنفسه وأنه لا يقدم أحد عليه فأحاط به أصحاب حسن وقتلوه وعلقوا رأسه فانهزم عسكر أمير المؤمنين وأحاط أصحاب حسن بالحاج لينهبوهم فأرسل إليهم حسن عمامته أمانًا للحجاج فعاد أصحابه ولم ينهبوا منهم شيئًا وسكن الناس وأذن لهم حسن في دخول مكة وفعل ما يريدونه من الحج والبيع وغير ذلك وأقاموا بمكة عشرة أيام وعادوا فوصلوا إلى العراق سالمين وعظم الأمر على الخليفة فوصلت رسل حسن يعتذرون ويطلبون العفو عنه فأجيب إلى ذلك‏.‏

وقيل في موت قتادة‏:‏ إن ابنه حسنًا خنقه فمات وسبب ذلك أن قتادة جمع جموعًا كثيرة وسار عن مكة يريد المدينة فنزل بوادي الفرع وهو مريض وسير أخاه على الجيش ومعه ابنه الحسن بن قتادة فلما أبعدوا بلغ الحسن أن عمه قال لبعض الجند‏:‏ إن أخي مريض وهو ميت لا محالة وطلب منهم أن يحلفوا له ليكون هو الأمير بعد أخيه قتادة فحضر الحسن عند عمه واجتمع إليه كثير من الأجناد والمماليك الذي لأبيه فقال الحسن لعمه‏:‏ قد فعلت كذا وكذا فقال‏:‏ لم أفعل فأمر حسن الحاضرين بقتله فلم يفعلوا وقالوا‏:‏ أنت أمير وهذا أمير ولا نمد أيدينا إلى أحدكما‏.‏

فقال له غلامان لقتادة‏:‏ نحن عبيدك فمرنا بما شئت فأمرهم أن يجعلا عمامة عمه في عنقه ففعلا ثم قتله‏.‏

فسمع قتادة الخبر فبلغ منه الغيظ كل مبلغ وحلف ليقتلن ابنه وكان على ما ذكرناه من المرض

فكتب بعض أصحابه إلى الحسن يعرفه الحال ويقول له‏:‏ ابدأ به قبل أن يقتلك فعاد الحسن إلى مكة فلما وصلها قصد دار أبيه في نفر يسير فوجد على باب الدار جمعًا كثيرًا فأمرهم بالانصراف إلى منازلهم ففارقوا الدار وعادوا إلى مساكنهم ودخل الحسن إلى أبيه فلما رآه أبوه شمته وبالغ في ذمه وتهديده فوثب إليه الحسن فخنقه لوقته وخرج إلى الحرم الشريف وأحضر الأشراف وقال‏:‏ إن أبي قد اشتد مرضه وقد أمركم أن تحلفوا لي أن أكون أنا أميركم فحلفوا له ثم إنه أظهر تابوتًا ودفنه ليظن الناس أنه مات وكان قد دفنه سرًا‏.‏

فلما استقرت الإمارة بمكة له أرسل إلى أخيه الذي بقلعة الينبع على لسان أبيه يستدعيه وكتم موت أبيه عنه فلما حضر أخوه قتله أيضًا واستقر أمره وثبت قدمه وفعل بأمير الحاج ما تقدم ذكره فارتكب عظيمًا‏:‏ قتل أباه وعمه وأخاه في أيام يسيرة لا جرم لم يمهله الله سبحانه وتعالى نزع ملكه وجعله طريدًا شريدًا خائفًا يترقب‏.‏

وقيل إن قتادة كان يقول شعرًا فمن ذلك أنه طلب ليحضر عند أمير الحاج كما جرت عادة أمراء مكة فامتنع فعوتب من بغداد فأجاب بأبيات شعر منها‏:‏ ولي كف ضرغام أدل ببطشها وأشري بها بين الورى وأبيع تظل ملوك الأرض تلثم ظهرها وفي وسطها للمجدبين ربيع وما أنا إلا المسك في كل بلدة يضوع وأما عندكم فيضيع

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة استعاد المسلمون مدينة دمياط بالديار المصرية من الفرنج وقد تقدم ذكرها مشروحًا مفصلًا‏.‏

وفيها في صفر ملك التتر مراغة وخربوها وأحرقوها وقتلوا أكثر أهلها ونهبوا أموالهم وسبوا حريمهم‏.‏

وسار التتر منها إلى همذان وحصروها فقاتلهم أهلها وظفر بهم التتر منهم ما لا يحصى ونهبوا البلد‏.‏ وساروا إلى أذربيجان فاعادوا النهب ونهبوا ما بقي من البلاد ولم ينهبوه أولًا‏.‏

ووصلوا إلى بيلقان من بلاد أران فحصروها وملكوها وقتلوا أهلها حتى كادوا يفنونهم ونهبوا أموالهم وساروا إلى بلاد الكرج من أذربيجان وأران فلقيهم خلق كثير من الكرج فقاتلوهم وانهزم الكرج وكثر القتل فيهم ونهب أكثر بلادهم وقتل أهلها وساروا من هناك إلى دربند شروان فحصروا مدينة شماخي وملكوها وقتلوا كثيرًا من أهلها‏.‏

وساروا إلى بلد اللان واللكز ومن عندهم من الأمم فأوقعوا ورحلوا عن فقجاق وأجلوهم عنها واستولوا عليها وساحوا في تلك الأرض حتى وصولا إلى بلاد الروس وقد تقدم ذكر جميعه مستقصى وإنما أوردناه هاهنا جملة ليعلم الذي كان في هذه السنة من حوادثهم‏.‏

وفيها توفي صديقنا أمين الدين ياقوت الكاتب الموصلي ولم يكن في زمانه من يكتب ما يقاربه ولا من يؤدي طريقة ابن البواب مثله وكان ذا فضائل جمة من علم الأدب وغيره وكان كثير الخير نعم الرجل مشهورًا في الدنيا والناس متفقون على الثناء الجميل عليه والمدح له ولهم فيه أقوال كثيرة نظمًا ونثرًا فمن ذلك ما قاله نجيب الدين الحسين بن علي الواسطي من قصيدة يمدحه بها‏:‏ جامع شارد العلوم ولولا ه لكانت أم الفضائل ثكلى ذو يراع تخاف سطوته الأس د وتعنو له الكتائب ذلًا وإذا افتر ثغره عن سواد في بياض فالبيض والسمر خجلى أنت بدر والكاتب ابن هلال كأبيه لا فخر فيمن تولى ومنها‏:‏ إن يكن أولًا فإنك بالتف ضيل أولى لقد سبقت وصلى وفيها توفي جلال الدين الحسن وهو من أولاد الحسن بن الصباح الذي تقدم ذكره صاحب الموت وكردكوه وهو مقدم الإسماعيلية وقد ذكرنا أنه كان قد أظهر شريعة الإسلام من الأذان والصلاة وولي بعد ابنه علاء الدين محمد‏.‏

ثم دخلت سنة تسع عشرة وستمائة

ذكر خروج طائفة من قفجاق إلى أذربيخان وما فعلوه بالكرج وما كان منهم

في هذه السنة اجتمع طائفة كثيرة من القفجاق وفارقوا بلادهم لما استولى عليها التتر وساروا إلى دربند شروان وأرسلوا إلى صاحبه واسمه رشيد وقالوا له‏:‏ إن التتر قد ملكوا بلادنا ونهبوا أموالنا وقد قصدناك لنقيم في بلادك ونحن مماليك لك ونفتح البلاد لك وأنت سطاننا فمنعهم من ذلك وخافهم فأعادوا الرسالة إليه‏:‏ إننا نحن نرهن عندك أولادنا ونساءنا على الطاعة والخدمة لك والانقياد لحكمك فلم يجبهم إلى ما طلبوا فسألوه أن يمكنهم ليتزودوا من بلده تدخل عشرة عشرة فإذا اشتروا ما يحتاجون إليه فارقوا بلاده فأجابهم إلى ذلك فصاروا يدخلون متفرقين ويشترون ما يريدون ويخرجون‏.‏

ثم إن بعض كبرائهم والمقدمين منهم جاء إلى رشيد وقال‏:‏ إنني كنت في خدمة السلطان خوارزم شاه وأنا مسلم والدين يحملني على نصحك اعلم أن قفجاق أعداؤك ويريدون الغدر بك فلا تمكنهم من المقام ببلادك فأعطني عسكرًا حتى أقاتلهم وأخرجهم من البلاد‏.‏

ففعل ذلك وسلم إليه طائفة من عسكره وأعطاهم ما يحتاجون إليه من سلاح وغيره فساروا معه فأوقعوا بطائفة من قفجاق فقتل منهم جماعة ونهب منهم فلم يتحرك قفجاق لقتال بل قالوا‏:‏ نحن مماليك الملك شروان شاه رشيد ولولا ذلك لقاتلنا عسكره فلما عاد ذلك المقدم القفجاقي ومعه عسكر رشيد سالمين فرح بهم‏.‏

ثم إن قفجاق فارقوا موضعهم فساروا ثلاثة أيام فقال ذلك القفجاقي لرشيد‏:‏ أريد عسكرًا أتبعهم فأمر له من العسكر بما أراد فسار يقفو أثر القفجاق فأوقع بأواخرهم وغنم منهم‏.‏

وقصده جمع كثير من قفجاق من الرجال والنساء يبكون وقد جزوا شعورهم ومعهم تابوت وهم محيطون به يبكون حلوه وقالوا له‏:‏ إن صديقك فلانًا مات وقد أوصى أن نحمله إليك فتدفنه في أي موضع شئت ونكون نحن عندك فحمله معه والذين يبكون عليه أيضًا وعاد إلى شروان شاه رشيد وأعلمه أن الميت صديق له وقد حمله معه وقد طلب أهله أن يكونوا عنده في خدمته فأمر أن يدخلوا البلد وأنزلهم فيه‏.‏

فكان أولئك الجماعة يسيرون مع ذلك المقدم ويركبون بركوبه ويصعدون معه إلى القلعة التي لرشيد ويقعدون عنده ويشربون معه هم ونساؤهم فأحب رشيد امرأة ذلك الرجل الذي قيل له‏:‏ إنه ميت ولم يكن مات وإنما فعلوا هكذا مكيدة حتى دخلوا البلد والذي أظهروا موته معهم في المجلس ولا يعرفه رشيد وهو من أكبر مقدمي قفجاق فبقوا كذلك عدة أيام فكل يوم يجيء جماعة من قفجاق متفرقين فاجتمع بالقلعة منهم جماعة وأرادوا قبض رشيد وملك بلاده ففطن لذلك فخرج عن القلعة من باب السر وهرب ومضى إلى شروان‏.‏

وملك قفجاق القلعة وقالوا لأهل البلد‏:‏ نحن خير لكم من رشيد وأعادوا باقي أصحابهم إليهم وأخذوا السلاح الذي في البلد جميعه واستولوا على الأموال التي كانت لرشيد في القلعة ورحلوا عن القلعة وقصدوا قبلة وهي للكرج فنزلوا عليها وحصروها‏.‏

فلما سمع رشيد بمفارقتهم القلعة رجع إليها وملكها وقتل من بها من قفجاق ولم يشعر القفجاق الذين عند قبلة بذلك فأرسلوا طائفة منهم إلى القلعة فقتلهم رشيد أيضًا فبلغ الخبر إلى القفجاق فعادوا إلى دربند فلم يكن لهم في القلعة طمع‏.‏

وكان صاحب قبلة لما كانوا يحصرونه قد أرسل إليهم وقال لهم‏:‏ أنا أرسل إلى ملك الكرج حتى يرسل إليكم الخلع والأموال ونجتمع نحن وأنتم ونملك البلاد فكفوا عن نهب ولايته أيامًا ثم إنهم مدوا أيديهم بالنهب والفساد ونهبوا بلاد قبلة جميعها وساروا إلى قرب كنجة من بلاد أران وهي للمسلمين فنزلوا هناك فأرسل إليهم الأمير بكنجة وهو مملوك لأوزبك صاحب أذربيجان اسمه كوشخرة عسكرًا فمنعهم من الوصول إلى بلاده وسير رسولًا إليهم يقول لهم‏:‏ غدرتم بصاحب شروان وأخذتم قلعته وغدرتم بصاحب قبلة ونهبتم بلاده فما يثق بكم أحد فأجابوا‏:‏ إننا ما جئنا إلا قصدًا لخدمة سلطانكم فمنعنا شروان شاه عنكم فلهذا قصدنا بلاده وأخذنا قلعته ثم تركناها من غير خوف وأما صاحب قبلة فهو عدوكم وعدونا ولو أردنا أن نكون عند الكرج لما كنا جعلنا طريقنا على دربند شروان فإنه أصعب وأشق وأبعد وكنا جئنا إلى بلادهم على عادتنا ونحن نوجه الرهائن إليكم‏.‏

فلما سمع كوشخرة هذا سار إليهم فسمع به قفجاق فركب أميران منهم هما مقدماهم في نفر يسير وجاءوا إليه ولقوه وخدموه وقالوا له‏:‏ قد أتيناك جريدة في قلة من العدد لتعلم أننا ما قصدنا إلا الوفاء والخدمة لسلطانكم فأمرهم كوشخرة بالرحيل والنزول عند كنجة وتزوج ابنه أحدهم وأرسل إلى صاحبه وأزبك يعرفه حالهم فأمر لهم بالخلع النزول بجبل كيلكون ففعلوا ذلك‏.‏

وخافهم الكرج فجمعوا لهم ليكبسوهم فوصل الخبر بذلك إلى كوشخرة أمير كنجة فأخبر قفجاق وأمرهم بالعود والنزول عند كنجة فعادوا ونزلوا عندها وسار أمير من أمراء قفجاق في جمع منهم إلى الكرج فكبسهم وقتل كثيرًا منهم وهزمهم وغنم ما معهم وأكثر القتل فيهم والأسر منهم وتمت الهزيمة عليهم ورجع قفجاق إلى جبل كيلكون فنزلوا فيه كما كانوا‏.‏

فلما نزلوا أراد الأمير الآخر من أمراء قفجاق أن يؤثر في الكرج مثل ما فعل صاحبه فسمع كوشخرة فأرسل إليه ينهاه عن الحركة إلى أن يكشف له خبر الكرج فلم يقف فسار إلى بلادهم في طائفته ونهب وخرب وأخذ الغنائم فسار الكرج في طريق يعرفونها وسبقوه فلما وصل إليهم قاتلوه وحملوا عليه وعلى من معه على غرة وغفلة فوضعوا السيف فيهم وأكثروا القتل فيهم واستنقذوا الغنائم منه فعاد هو ومن معه على أقبح حالة وقصدوا برذعة‏.‏

وأرسلوا إلى كوشخرة يطلبون أن يحضر عندهم هو بنفسه وعسكره ليقصدوا الكرج فيأخذوا بثأرهم منهم فلم يفعل وأخافهم وقال‏:‏ أنتم خالفتموني وعملتم برأيكم فلا أنجدكم بفارس واحد فأرسلوا يطلبون الرهائن الذين لهم فلم يعطهم فاجتمعوا وأخذوا كثيرًا من المسلمين عوضًا من الرهائن فثأر بهم المسلمون من أهل البلاد وقاتلوهم فقتلوا منهم جماعة كثيرة فخافوا وساروا نحو شروان وجازوا إلى بلد اللكز فطمع الناس فيهم المسلمون والكرج واللكز وغيرهم فأفنوهم قتلًا ونهبًا وأسرًا وسبيًا بحيث إن المملوك منهم كان يباع في دربند

ذكر نهب الكرج بيلقان

في هذه السنة في شهر رمضان سار الكرج من بلادهم إلى بلاد أران وقصدوا مدينة بيلقان وكان التتر قد خربوها ونهبوها كما ذكرناه قبل فلما سرا التتر إلى بلاد قفجاق عاد من سلم من أهلها إليها وعمروا ما أمكنهم عمارته من سورها‏.‏

فبينما هم كذلك إذ أتاهم الكرج ودخلوا البلد وملكوه‏.‏

وكان المسلمون في تلك البلاد ألفوا من الكرج أنهم إذا ظفروا ببلد صانعوه بشيء من المال فيعودون عنهم فكانوا أحسن الأعداء مقدرة فلما كانت هذه الدفعة ظن المسلمون أنهم يفعلون مثل ما تقدم فلم يبالغوا في الامتناع منهم ولا هربوا من بين أيديهم فلما ملك الكرج المدينة وضعوا السيف في أهلها وفعلوا من القتل والنهب أكثر مما فعل بهم التتر‏.‏

هذا جميعه يجري وصاحب بلاد أذربيجان أوزبك بن البهلوان بمدينة تبريز ولا يتحرك في صلاح ولا يتجه لخير بل قد قنع بالأكل وإدمان الشرب والفساد فقبحه الله ويسر للمسلمين من يقوم بنصرهم وحفظ بلادهم بمحمد وآله‏.‏

ذكر ملك بدر الدين قلعة شوش

في هذه السنة ملك بدر الدين صاحب الموصل قلعة شوش من أعمال الحميدية وبينها وبين الموصل اثنا عشر فرسخًا‏.‏

وسبب ذلك أنها كانت هي وقلعة العقر متجاورتين لعماد الدين زنكي ابن أرسلان شاه وكان بينهما من الخلف ما تقدم ذكره‏.‏

فلما كان هذه السنة سار زنكي إلى أذربيجان ليخدم صاحبها أوزبك ابن البهلوان فاتصل به وصار معه وأقطعه إقطاعات وأقام عنده فسار بدر الدين إلى قلعة شوش فحاصرها وضيق عليها وهي على راس جبل عال فطال مقامه عليها لحصانتها فعاد إلى الموصل وترك عسكره محاصرًا لها فلما طال الأمر على من بها ولم يروا من يرحله عنهم ولا من ينجدهم سلموها على قاعدة استقرت بينهم من أقطاع وخلع وغير ذلك فتسلمها نوابه في التاريخ ورتبوا أمورها وعادوا إلى الموصل‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في العشرين من شعبان ظهر كوكب في السماء في الشرق كبير له ذؤابة طويلة غليظة وكان طلوعه وقت السحر فبقي كذلك عشرة أيام ثم إنه ظهر أول الليل في الغرب مما يلي الشمال فكان كل ليلة يتقدم إلى جهة الجنوب نحو عشرة أذرع في رأي العين فلم يزل يقرب من الجنوب حتى صار غربًا محضًا ثم صار غربًا مائلًا إلى الجنوب بعد أن كان غربًا مما يلي الشمال فبقي كذلك إلى آخر شهر رمضان من السنة ثم غاب‏.‏

وفيها توفي ناصر الدين محمود بن محمد قرا أرسلان صاحب حصن كيفا وآمد وكان ظالمًا قبيح السيرة في ريعته‏.‏

قيل‏:‏ إنه كان يتظاهر بمذهب الفلاسفة في أن الأجساد لا تحشر كذبوا لعنهم الله‏.‏

ولما مات ملك ابنه الملك المسعود‏.‏

ثم دخلت سنة عشرين وستمائة

ذكر ملك صاحب اليمن مكة حرسها الله تعالى

في هذه السنة سار الملك المسعود أتسز ابن الملك الكامل محمد صاحب مصر إلى مكة وصاحبها حينئذ حسن بن قتادة بن إديس العلوي الحسيني قد ملكها بعد أبيه كما ذكرناه‏.‏

وكان حسن قد أساء إلى الأشراف والمماليك الذين كانوا لأبيه وقد تفرقوا عنه ولم يبق عنده غير أخواله من غيره فوصل صاحب اليمن إلى مكة ونهبها عسكره إلى العصر‏.‏

فحدثني بعض المجاورين المتأهلين أنهم نهبوها حتى أخذوا الثياب عن الناس وأفقروهم وأمر صاحب اليمن أن ينبش قبر قتادة ويحرق فنبشوه فظهر التابوت الذي دفنه انبه الحسن والناس ينظرون إليه فلم يروا فيه شيئًا فعلموا حينئذ أن الحسن دفن أباه سرًا وأنه لم يجعل في التابوت شيئًا‏.‏

وذاق الحسن عاقبة قطيعة الرحم وعجل الله مقابلته وأزال عنه ما قتل أباه وأخاه وعمه لأجله خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين‏.‏

ذكر حرب بين المسلمين والكرج بأرمينية

في هذه السنة في شعبان سار صاحب قلعة سرماري وهي من أعمال أرمينية إلى خلاط لأنه كان في طاعة صاحب خلاط وهو حينئذ شهاب الدين غازي بن العادل أبي بكر بن أيوب فحضر عنده واستخلف ببلده أميرًا من أمرائه فجمع هذا الأمير جمعًا وسار إلى بلاد الكرج فنهب منها عدة قرى وعاد‏.‏

فسمعت الكرج بذلك فجمع صاحب دوين واسمه شلوة وهو من أكابر أمراء الكرج عسكره وسار إلى سرماري فحضرها أيامًا ونهب بلدها وسوادها ورجع‏.‏

فسمع صاحب سرماري الخبر فعاد إلى سرماري فوصل إليها في اليوم الذي رحل الكرج عنها فأخذ عسكره وتبعهم فأوقع بساقتهم فقتل منهم وغنم واستنقذ بعض ما أخذوا من غنائم بلاده‏.‏

ثم إن صاحب دوين جمع عسكره وسار إلى سرماري ليحصرها فوصل الخبر إلى صاحبها بذلك فحصنها وجمع الذخائر وما يحتاج إليه فأتاه من أخبره أن الكرج نزلوا بوادي بني دوين وسرماري وهو وادي ضيق فسار بجميع عسكره جريدة وجد السير ليكبس الكرج فوصل إلى الوادي الذي هم فيه وقت السحر ففرق عسكره فرقتين‏:‏ فرقة من أعلى الوادي وفرقة من أسفله وحملوا عليهم وهم غافلون ووضعوا السيف فيهم فقتلوا وأسروا فكان في جملة الأسرى شلوة أمير دوين في جماعة كثيرة من مقدميهم ومن سلم من الكرج عاد إلى بلدهم على حال سيئة‏.‏

ثم إن ملك الكرج أرسل إلى الملك الأشرف موسى بن العادل صاحب ديار الجزيرة وهو الذي أعطى خلاط وأعمالها الأمير شهاب الدين يقول له‏:‏ كنا نظن أننا صلح والآن فقد عمل صاحب سرماري هذا العمل فإن كنا على الصلح فنريد إطلاق أصحابنا من الأسر وإن كان الصلح قد انفسخ بيننا فتعرفنا حتى ندبر أمرنا‏.‏

فأرسل الأشرف إلى صاحب سرماري يأمره بإطلاق الأسرى وتجديد الصلح مع الكرج ففعل ذلك واستقرت قاعدة الصلح وأطلق الأسرى‏.‏