المجلد العاشر - ذكر الحرب بين غياث الدين وخاله

في هذه السنة في جمادى الآخرة انهزم إيغان طائيسي وهو خال غياث الدين بن خوارزم شاه محمد بن تكش وغياث الدين هذا هو صاحب بلاد الجبل والري وأصبهان وغير ذلك وله أيضًا بلاد كرمان‏.‏

وكان سبب ذلك أن خاله إيغان طائيسي كان معه وفي خدمته وهو أكبر أمير معه لا يصدر غياث الدين إلا عن رأيه والحكم إليه في جميع المملكة فلما عظم شأنه حدث نفسه بالاستيلاء على الملك وحسن له ذلك غيره وأطمعه فيه قيل‏:‏ إن الخليفة الناصر لدين الله أقطعه البلاد سرًا وأمره بذلك فقويت نفسه على الخلاف فاستفسد جماعة من العسكر واستمالهم‏.‏

فلما تم له أمره أظهر الخلاف على غياث الدين وخرج عن طاعة أوزبك وصار في البلاد يفسد ويقطع الطريق وينهب ما أمكنه من القرى وغيرها‏.‏

وانضاف إليه جمع كثير من أهل العنف والفساد ومعه مملوك آخر اسمه أيبك الشامي وساروا جميعهم إلى غياث الدين ليقاتلوه ويملكوا بلاده ويخرجوه منها فجمع غياث الدين عسكره والتقوا بنواحي‏.‏

واقتتلوا فانهزم خال غياث الدين ومن معه وقتل من عسكره وأسر كثير وعاد المنهزمون إلى أذربيجان على أقبح حال وأقام غياث الدين في بلاده وثبت قدمه‏.‏

حادثة غريبة لم يوجد مثلها كان أهل المملكة في الكرج لم يبق منهم غير امرأة وقد انتهى الملك إليها فوليته وقامت بالأمر فيهم وحكمت فطلبوا لها رجلًا يتزوجها ويقوم بالملك نيابة عنها ويكون من أهل بيت مملكة فلم يكن فيهم من يصلح لهذا الأمر‏.‏

وكان صاحب أرزن الروم هذا الوقت هو مغيث الدين طغرل شاه بن قلج أرسلان بن مسعود قلج أرسلان وبيته مشهور من أكابر ملوك الإسلام وهم من الملوك السلجوقية وله ولد كبير فأرسل إلى الكرج يطلب الملكة لولده ليتزوجها فامتنعوا من إجابته وقالوا‏:‏ لا نفعل هذا لأننا لا يمكنا أن يملك أمرنا مسلم‏.‏

فقال لهم‏:‏ إن ابني يتنصر ويتزوجها فأجابوه إلى ذلك فأمر ابنه فتنصر ودان بالنصرانية وتزوج الملكة وانتقل إليها وأقام عند الكرج حاكمًا في بلادهم واستمر على النصرانية نعوذ بالله من الخذلان ونسأله أن يجعل خير أعمالنا آخرها وخير ثم كانت هذه الملكة الكرجية تهوى مملوكًا لها فكان زوجها يسمع عنها القبائح ولا يمكنه الكلام لعجزه ثم إنه يومًا دخل عليها فرآها نائمة مع مملوكها في فراش فأنكر ذلك وواجهها بالمنع منه فقالت‏:‏ إن رضيت بهذا وإلا أنت أخبر‏.‏

فقال‏:‏ إنني لا أرضى بهذا فنقلته إلى بلد آخر ووكلت به من يمنعه من الحركة وحجرت عليه وأرسلت إلى بلد اللان وأحضرت رجلين كانا قد وصفا بحسن الصورة فتزوجت أحدهما فبقي معها يسيرًا ثم إنها فارقته وأحضرت إنسانًا آخر من كنجة وهو مسلم فطلبت منه أن يتنصر ليتزوجها فلم يفعل فأرادت أن تتزوجه وهو مسلم فقام عليها جماعة من الأمراء ومعهم إيواني وهو مقدم العساكر الكرجية فقالوا لها‏:‏ قد افتضحنا بين الملوك بما تفعلين ثم تريدين أن يتزوجك مسلم وهذا لا نمكن منه أبدًا والأمر بينهم متردد والرجل الكنجي عندهم لم يجبهم إلى الدخول في النصرانية وهي تهواه‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة كان الجراد في أكثر البلاد وأهلك كثيرًا من الغلات والخضر بالعراق والجزيرة وديار بكر وكثير من الشام وغيرها‏.‏

وفيها في رمضان توفي عبد الرحمن بن هبة الله بن عساكر الفقيه الشافعي الدمشقي بها وفيها خرج العرب في خلق كثير على حجاج الشام وأرادوا قطع الطريق عليهم وأخذهم وكان الأمير على الحجاج شرف الدين يعقوب بن محمد وهو من أهل الموصل أقام بالشام وتقدم فيه فمنعهم بالرغبة والرهبة ثم صانعهم بمال وثياب وغير ذلك فأعطى الجميع من ماله ولم يأخذ من الحجاج الدرهم الفرد وفعل فعلًا جميلًا‏.‏

وكان عنده كثير من العلوم ويرجع إلى دين متين‏.‏

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وستمائة

ذكر عود طائفة من التتر إلى الري وهمذان وغيرهما

أول هذه السنة وصل طائفة من التتر من عند ملكهم جنكزخان وهؤلاء غير الطائفة الغربية التي ذكرنا أخبارها قبل وصول هؤلاء الري وكان من سلم من أهلها قد عادوا إليها وعمروها فلم يشعوا بالتتر إلا وقد وصلوا إليها فلم يمتنعوا عنهم فوضعوا في أهلها السيف وقتلوهم كيف شاؤوا ونهبوا البلد وخربوه وساروا إلى ساوة ففعلوا بها كذلك ثم إلى قم وقاشان وكانتا قد سلمتا من التتر أولًا فإنهم لم يقربوهما ولا أصاب أهلهما أذى فأتاهما هؤلاء وملكوهما وقتلوا ثم ساروا في البلاد يخربون ويقتلون وينهبون ثم قصدوا همذان وكان قد اجتمع بها كثير ممن سلم من أهلها فأبادوهم قتلًا وأسرًا ونهبًا وخربوا البلد‏.‏

وكانوا لما وصلوا إلى الري رأوا بها عسكرًا كثيرًا من الخوارزمية فكبسوهم وقتلوا منهم وانهزم الباقون إلى أذربيجان فنزلوا بأطرافها فلم يشعروا إلا والتتر أيضًا قد كبسوهم ووضوا السيف فيهم فولوا منهزمين فوصل طائفة منهم إلى تبريز وأرسلوا إلى صاحبها أوزبك بن البهلوان يقولون‏:‏ إن كنتم موافقنا فسلم إلينا من عندك من الخوارزمية وإلا فعرفنا أنك غير موافق لنا ولا في طاعتنا فعمد إلى من عنده من الخوارزمية فقتل بعضهم وأسر بعضهم وحمل الأسرى والرؤوس إلى التتر وأنفذ معها من الأموال والثياب والدواب شيئًا كثيرًا فعادوا عن بلاده نحو خراسان فعلوا هذا وليسوا في كثرة كانوا نحو ثلاثة آلاف فارس وكان الخوارزمية الذين انهزموا منهم نحو ستة آلاف راجل وعسكر أوزبك أكثر من الجميع ومع هذا فلم يحدث نفسه ولا الخوارزمية بالامتناع منهم‏.‏

نسأل الله أن ييسر للإسلام والمسلمين من يقوم بنصرتهم فقد دفعوا إلى أمر عظيم من قتل النفوس ونهب الأموال واسترقاق الأولاد وسبي الحريم وقتلهن وتخريب البلاد‏.‏

قد ذكرنا أن غياث الدين بن خوارزم شاه محمد كان بالري وله معها أصفهان وهمذان وما بينهما من البلاد وله أيضًا بلاد كرمان فلما هلك أبوه كما ذكرناه وصل التتر إلى بلاه وامتنع بأصفهان وحصره التتر فيها فلم يقدروا عليها فلما فارق التتر بلاده وساروا إلى بلاد قفجاق عاد ملك البلاد وعمر ما أمكنه منها وأقام بها إلى أواخر سنة عشرين وستمائة وجرى له ما ذكرناه‏.‏

ففي آخر سنة عشرين وستمائة سار إلى بلا فارس فلم يشعر صاحبها وهو أتابك سعد بن دكلا إلا وقد وصل غياث الدين إلى أطراف بلاده فلم يتمكن من الامتناع فقصد قلعة إصطخر فاحتمى بها وسار غياث الدين إلى مدينة شيراز وهي كرسي مملكة فارس وأكبرها وأعظمها فملكها بغير تعب أو سنة إحدى وعشرين وستمائة وبقي غياث الدين بها واستولى على أكثر البلاد ولم يبق بيد سعد إلا الحصون المنيعة‏.‏

فلما طال الأمر على سعد صالح غياث الدين على أن يكون لسعد من البلاد قسم اتفقوا عليه ولغياث الدين الباقي وأقام غياث الدين بشيراز وازداد إقامة وعزمًا على ذلك لما سمع أن التتر قد عادوا إلى الري والبلاد التي له وخربوها‏.‏

ذكر عصيان شهاب الدين غازي على أخيه الملك الأشرف وأخذ خلاط منه

كان الملك الأشرف موسى بن العادل أبي بكر بن أيوب قد أقطع أخاه شهاب الدين غازي مدينة خلاط وجميع أعمال أرمينية وأضاف إليها ميافارقين وخاني وجبل جور ولم يقنع بذلك حتى جعله ولي عهده في البلاد التي له جميعها وحلف له جميع النواب والعساكر في البلاد‏.‏

فلما سلم إليه أرمينية سار إليها كما ذكرناه وأقام بها إلى آخر سنة عشرين وستمائة فأظهر مغاضبة أخيه الملك الأشرف والتجني عليه والعصيان والخروج عن طاعته فراسله الأشرف يستميله ويعاتبه على ما فعل فلم يرعوا ولا ترك ما هو عليه بل أصر على ذلك واتفق هو وأخوه المعظم عيسى صاحب دمشق ومظفر الدين بن زيد الدين صاحب إربل على الخلاف للأشرف والاجتماع على محاربته وأظهروا ذلك‏.‏

وعلم الأشرف فأرسل إلى أخيه الكامل بمصر يعرفه ذلك وكانا متفقين وطلب منه نجدة فجهز العساكر وأرسل إلى أخيه صاحب دمشق يقول له‏:‏ إن تحركت من بلدك سرت إليه وأخذته وكان قد سار نحو ديار الجزيرة للميعاد الذي بينهم فلما وصلت إليه رسالة أخيه وأما صاحب إربل فإنه جمع العساكر وسار إلى الموصل فكان منه ما نذكره إن شاء الله‏.‏

وأما الأشرف فإنه لما تيقن عصيان أخيه جمع العساكر من الشام والجزيرة والموصل وسار إلى خلاط فلما قرب منها خافه أخوه غازي ولم يكن له قوة على أن يلقاه محاربًا ففرق عسكره في البلاد ليحصنها وانتظر أخوه صاحب دمشق أن يسير صاحب إربل إلى ما يجاوره من الموصل وسنجار وأن يسير أخوه إلى بلاد الأشراف عند الفرات‏:‏ الرقة وحران وغيرهما فيضطر الأشرف حينئذ إلى العود عن خلاط‏.‏

فسار الأشرف إليه وقصد خلاط وكان أهلها يريدونه ويختارون دولته لحسن سيرته كانت فيهم وسوء سيرة غازي فلما حصرها سلمها أهلها إليه يوم الاثنين ثاني عشر جمادى الآخرة وبقي غازي في القلعة ممتنعًا فلما جنه الليل نزل إلى أخيه معتذرًا ومتنصلًا فعاتبه الأشرف وأبقى عليه ولم يعاقبه على فعله لكن أخذ البلاد منه وأبقى عله ميافارقين‏.‏

ذكر حصار صاحب إربل الموصل


قد ذكرنا اتفاق مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي صاحب إربل وشهاب الدين غازي صاحب خلاط المعظم عيسى صاحب دمشق على قصد بلاد الملك الأشرف فأما صاحب دمشق فإنه سار عنها مراحل يسيرة وعاد إليها لأن أخاه صاحب مصر أرسل إليه يتهدده إن سار عن دمشق أنه يقصدها ويحصرها فعاد‏.‏

وأما غازي فإنه استحصر في خلاط وأخذت منه كما ذكرناه‏.‏

وأما صاحب إربل فإنه جمع عسكره وسار إلى بلد الموصل وحصرها ونازلها يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الآخرة ظنًا منه أن الملك الأشرف إذا سمع بنزوله عليها رحل عن خلاط ويخرج غازي في طلبه فتتخبط أحواله وتقوى نفس صاحب دمشق على المجيء إليهم فلا نازل الموصل كان صاحبها بدر الدين لؤلؤ قد أحكم أمورها من استخدام الجند على الأسوار وإظهار آلة الحصار وإخراج الذخائر‏.‏

وإنما قوي طمع صاحب إربل على حصر الموصل لأن أكثر عسكرها كان قد سار إلى الملك الأشرف إلى خلاط وقد قل العسكر فيها وكان الغلاء شديدًا في البلاد جميعها والسعر في الموصل كل ثلاثة مكاكيك بدينار فلهذا السبب أقدم على حصرها فلما نزل عليها أقام عشرة أيام ثم رحل عنها يوم الجمعة لتسع بقين من جمادى الآخرة‏.‏

وكان سبب رحيله أنه رأى امتناع البلد عليه وكثرة من فيه وعندهم من الذخائر ما يكفيهم الزمان الكثير ووصل إليه خبر الملك الأشرف أنه ملك خلاط فانفسخ عليه كل ما كان يؤمله من صاحبها ومن دمشق وبقي وحده متلبسًا بالأمر فلما وصلت الأخبار إليه بذلك سقط في يده ورأى أنه قد أخطأ الصواب فرحل عائدًا إلى بلده وأقام على الزاب ومدة مقامه على الموصل لم يقاتلها إنما كان في بعض الأوقات يجيء بعض اليزك الذين له يقاتلون البلد فيخرج إليهم بعض الفرسان وبعض الرجال فيجري بينهم قتال ليس بالكثير ثم يتفرقون وترجع كل طائفة إلى صاحبها‏.‏

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة أول آب جاء ببغداد مطر برعد وبرق وجرت المياه بباب البصرة والحربية وكذلك بالمحول بحيث إن الناس كانوا يخوضون في الماء والوحل بالمحول‏.‏

وفيها سار صاحب المخزن إلى بعقوبا في ذي القعدة فعسف أهلها فنقل إليه عن إنسان منها أنه يسبه فأحضره وأمر بمعاقبته وقال له‏:‏ لم تسبني فقال له‏:‏ أنتم تسبون أبا بكر وعمر لأجل أخذهما فدك وهي عشر نخلات لفاطمة عليها السلام وأنتم تأخذون مني ألف نخلة ولا أتكلم فعفا عنه‏.‏

وفيها وقعت فتنة بواسط بين السنة والشيعة على جاري عادتهم‏.‏

وفيها قلت الأمطار في البلاد فمل يجيء منها شيء إلى سباط ثم إنها كانت تجيء في الأوقات المتفرقة مجيئًا قريبًا لا يحصل منه الري للزرع فجاءت الغلات قليلة ثم خرج عليها الجراد ولم يكن في الأرض من النبات ما يشتغل به عنها فأكلها إلا القليل وكان كثيرًا خارجًا عن الحد فغلت الأسعار في العراق والموصل وسائر ديار الجزيرة وديار بكر وغيرها وقلت الأقوات إلا أن أكثر الغلاء كان بالموصل وديار الجزيرة‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وستمائة

ذكر حصر الكرج مدينة كنجة

في هذه السنة سارت الكرج في جموعها إلى مدينة كنجة من بلاد أران قصدًا لحصرها واعتدوا لها بما أمكنهم من القوة لأن أهل كنجة كثير عددهم قوية شوكتهم وعندهم شجاعة كثيرة من طول ممارستهم للحرب مع الكرج فلما وصلوا إليها ونازلوها قاتلوا أهلها عدة أيام من وراء السور لم يظهر من أهلها أحد ثم في بعض الأيام خرج أهل كنجة ومن عندهم من العسكر من البلد وقاتلوا الكرج بظاهر البلد أشد قتال وأعظمه فلما رأى الكرج ذلك علموا أنهم لا طاقة لهم بالبلد فرحلوا بعد أن اثخن أهل كنجة فيهم‏.‏

‏{‏ورد الله الذين كفروا بغيظهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 25‏]‏‏.‏ لم ذكر وصول جلال الدين بن خوارزم شاه إلى خوزستان والعراق في أول هذه السنة وصل جلال الدين بن خوارزم شاه محمد بن تكش إلى بلاد خوزستان والعراق وكان مجيئه من بلاد الهند لأنه كان وصل إليها لما قصد التتر غزنة وقد ذكرنا ذلك جميعه فلما تعذر عليه المقام ببلاد الهند سار عنها على كرمان ووصل إلى أصفهان وهي بيد أخيه غياث الدين وقد تقدمت أخباره فملكها وسار عنها إلى بلاد فارس وكان أخوه قد استولى على بعضها كما ذكرناه فأعاد ما كان أخوه أخذه منها إلى أتابك سعد صاحبها وصالحه وسار من عنده إلى خوزستان فحصر مدينة تستر في المحرم وبها الأمير مظفر الدين المعروف بوجه السبع مملوك الخليفة الناصر لدين الله حافظًا لها وأميرًا عليها فحصره جلال الدين وضيق عليه فحفظها وجه السبع وبالغ في الحفظ والاحتياط وتفرق الخوارزمية ينهبون حتى وصلوا إلى بادرايا وباكسايا وغيرهما وانحدر بعضهم إلى ناحية البصرة فنهبوا هنالك فسار إليهم شحنة البصرة وهو الأمير ملتكين فسار إليهم فأوقع بهم وقتل منهم جماعة فدام الحصار نحو شهرين ثم رحل عنها بغتة‏.‏

وكانت عساكر الخليفة مع مملوكه جمال الدين قشتمر بالقرب منه فلما رحل جلال الدين لم يقدر العسكر على منعه فسار إلى أن وصل إلى بعقوبا وهي قرية مشهورة بطريق خراسان بينها وبين بغداد نحو سبعة فراسخ فلما وصل الخبر إلى بغداد تجهزوا للحصار وأصلحوا السلاح من الجروخ والقسي والنشاب والنفط وغير ذلك وعاد عسكر الخليفة إلى بغداد‏.‏

وأما عسكر جلال الدين فنهب البلاد وأهلكها وكان قد وصل هو وعسكره إلى خوزستان في ضر شديد وجهد جهيد وقلة من الدواب والذي معهم فهو من الضعف فهو من الضعف إلى حد لا ينتفع به فغنموا من البلاد جميعها واستغنوا وأكثروا من أخذ الخيل والبغال فإنهم كانوا في غاية الحاجة إليها‏.‏

وسار من بعقوبا إلى دقوقا فحصرها فصعد أهلها إلى السور وقاتلوه وسبوه وأكثروا من التكبير فعظم ذلك عنده وشق عليه وجد في قتالهم ففتحها عنوة وقهرًا ونهبتها عساكره وقتلوا كثيرًا من أهلها فهرب من سلم منهم من القتل وتفرقوا في البلاد‏.‏

ولما كان الخوارزميون على دقوقا سارت سرية منهم إلى البت والراذان فهرب أهلها إلى تكريت فتبعهم الخوارزمية فجرى بينهم وبين عسكر تكريت وقعة شديدة فعادوا إلى العسكر‏.‏

ولقد رأيت بعض أعيان أهل دقوقا وهم بنو يعلى وهم أغنياء فنهبوا وسلم أحدهم ومعه ولدان له وشيء يسير من المال فسير ما سلم معه إلى الشام مع الولدين ليتجر بما ينفعون به وينفقونه على نفوسهم فمات أحد الولدين بدمشق واحتاط الحاكم على ما معهم فلقد رأيت أباهم على حالة شديدة لا يعلمها إلا الله يقول‏:‏ أخذت الأموال والأملاك وقتل بعض الأهل وفارق من سلم منهم الوطن بهذا القدر الحقير أردنا أن نكف به وجوهنا من السؤال ونصون أنفسنا فقد ذهب الولد والمال‏.‏

ثم سار إلى دمشق ليأخذ ما سلم مع ابنه الآخر فأخذه وعاد إلى الموصل فلم يبق غير شهر حتى توفي إن الشقي بكل حبل يخنق‏.‏

وأما جلال الدين فإنه لما فعل بأهل دقوقا ما فعل خافه أهل البوازيج و هي لصاحب الموصل فأرسلوا إليه يطلبون منه إرسال شحنة إليهم يحميهم وبذلوا له شيئًا من المال فأجابهم إلى ذلك وسير إليهم من يحميهم قيل‏:‏ كان بعض أولاد جنكزخان مل التتر أسره جلال الدين في بعض حروبه مع التتر فأكرمه فحماهم وأقام بمكانه إلى أواخر ربيع الآخر والرسل مترددة بينه وبين مظفر الدين صاحب إربل فاصطلحوا فسار جلال الدين إلى أذربيجان وفي مدة مقام جلال الدين بخوزستان والعراق ثارت العرب في البلاد يقطعون الطريق وينهبون القرى ويخيفون السبيل فنال الخلق منهم أذى شديد وأخذوا في طريق العراق قفلين

ذكر وفاة الملك الأفضل وغيره من الملوك

في هذه السنة في صفر توفي الملك الأفضل علي بن صلاح الدين يوسف ابن أيوب فجأة بقلعة سميساط وكان عمره نحو سبع وخمسين سنة وقد ذكرنا سنة تسع وثمانين وخمسمائة عند وفاة والده رحمه الله ملكه مدينة دمشق والبيت المقدس وغيرهما من الشام وذكرنا سنة اثنتين وتسعين أخذ الجميع منه ثم ذكرنا سنة خمس وتسعين ملكه ديار مصر وذكرنا سنة ست وتسعين أخذها منه وانتقل إلى سميساط وأقام بها ولم يزل بها إلى الآن فتوفي بها‏.‏

وكان رحمه الله من محاسن الزمان لم يكن في الملوك مثله كان خيرًا عادلًا فاضلًا حليمًا كريمًا قل أن عاقب على ذنب ولم يمنع طالبًا وكان يكتب خطًا حسنًا وكتابة جيدة وبالجملة فاجتمع فيه من الفضائل والمناقب ما تفرق في كثير من الملوك لا جرم حرم الملك والدنيا وعاداه الدهر ومات بموته كل فعل جليل فرحمه الله ورضي عنه‏.‏

ورأيت من كتابته أشياء حسنة فما بقي على خاطري منها أنه كتب إلى بعض أصحابه لما أخذت دمشق منه كتابًا من فصوله‏:‏ وأما أصحابنا بدمشق فلا علم لي بأحد منهم وسبب ذلك أني‏:‏وأي ضد سألت حالته سمعت ما لا تحبه أذني فتركت السؤال عنهم وهذا غاية الجودة في الاعتذار عن ترك السؤال والصاحب‏.‏

ولما مات اختلف أولاده وعمهم قطب الدين موسى ولم يقو أحد منهم على الباقين ليستبد بالأمر‏.‏

ومات في هذه السنة صاحب أرزن الروم وهو مغيث الدين طغرل بن قلج أرسلان وهو الذي سير ولده إلى الكرج وتنصر وتزوج ملكة الكرج ولما مات ملك بعده ابنه‏.‏

ومات فيها ملك أرزنكان‏.‏

وتوفي فيها عز الدين الخضر بن إبراهيم بن أبي بكر بن قرا أرسلان بن داود أبن سقمان صاحب خرت برت وملك بعده ابنه نور الدين أرتق شاه وكان المدبر لدولته ولدولته ودولة والده معين الدين بدر بن عبد الرحمن البغدادي الأصل الموصلي المنشإ‏.‏

ذكر خلع شروان شاه وظفر المسلمين بالكرج

في هذه السنة ثار على شروان شاه ولده فنزعه من الملك وأخرجه من البلاد وملك بعده‏.‏

وسبب ذلك أن شروان شاه كان سيء السيرة كثير الفساد والظلم يتعرض لأموال الرعايا وأملاكهم وقيل أيضًا‏:‏ إنه كان يتعرض للنساء والولدان فاشتدت وطأته على الناس فاتفق بعض العسكر مع ولده وأخرجوا أباه من البلاد وملك الابن وأحسن السيرة فأحبه العساكر والرعية وأرسل الولد إلى أبيه يقول له‏:‏ إني أردت أن أتركك في بعض القلاع وأجري لك الجرايات الكثيرة ولكل من تحب أن يكون عندك والذين حملني على ما فعلت معك سوء سيرتك وظلمك لأهل البلاد وكراهيتهم لك ولدولتك‏.‏فلما رأى الأب ذلك سار إلى الكرج واستنصر بهم وقرر معهم أن يرسلوا معه عسكرًا يعيدونه إلى ملكه ويعطيهم نصف البلاد فسيروا معه عسكرًا كثيرًا فسار حتى قارب مدينة شروان فجمع ولده العسكر وأعلمهم الحال وقال‏:‏ إن الكرج متى حصرونا ربما ظفروا بنا وحينئذ لا يبقي أبي على أحد منا ويأخذ الكرج نصف البلاد وربما أخذوا الجميع وهذا أمر عظيم والرأي أننا نسير إليهم جريدة ونلقاهم فإن ظفرنا بهم فالحمد لله وإن ظفروا بنا فالحصر بين أيدينا فأجابوه إلى ذلك‏.‏

فخرج في عسكره وهم قليل نحو ألف فارس ولقوا الكرج وهم في ثلاثة آلاف مقاتل فالتقوا واقتتلوا وصبر أهل شروان فانهزم الكرج فقتل كثير منهم وأسر كثير ومن سلم عاد بأسوإ حال وشروان شاه المخلوع معهم فقال له مقدمو الكرج‏:‏ إننا لم نلق بسببك خيرًا ولا نؤاخذك بما كن منك فلا تقم ببلادنا ففارقهم وبقي مترددًا لا يأوي إلى أحد واستقر ولده في الملك

ذكر ظفر المسلمين بالكرج أيضًا

و في هذه السنة أيضًا سار جمع من الكرج من تفليس يقصدون أذربيجان والبلاد التي بيد أوزبك فنزلوا وراء مضيق في الجبال لا يسلك إلا للفارس بعد الفارس فنزلوا آمنين من المسلمين استضعافًا لهم واغترارًا بحصانة موضعهم وأنه لا طريق إليهم‏.‏

وركب طائفة من العساكر الإسلامية وقصدوا الكرج فوصلوا إلى ذلك المضيق فجاوزوه مخاطرين فلم يشعر الكرج إلا وقد غشيهم المسلمون ووضعوا فيهم السيف فقتلوهم كيف شاؤوا وولى الباقون منهزمين لا يلوي والد على ولده ولا أخ على أخيه وأسر منهم جمع كثير صالح فعظم الأمر عليهم وعزموا على الأخذ بثأرهم والجد في قصد أذربيجان واستئصال المسلمين منه وأخذوا يتجهزون على قدر عزمهم‏.‏

فبينما هم في ذلك إذ وصل إليهم الخبر بوصول جلال الدين بن خوارزم شاه إلى مراغة على ما نذكره إن شاء الله فتركوا ذلك وأرسلوا إلى أوزبك صاحب أذربيجان يدعونه إلى الموافقة على رد جلال الدين وقالوا‏:‏ إن لم نتفق نحن وأنت وإلا أخذك ثم أخذنا فعاجلهم جلال الدين قبل اتفاقهم واجتماعهم فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

في هذه السنة استولى جلال الدين على أذربيجان وسبب ذلك أنه لما سار من دقوقا كما ذكرناه قصد مراغة فملكها وأقام بها وشرع في عمارة البلد فاستحسنه فلما وصل إليها أتاه الخبر أن الأمير إيغان طائيس وهو خال أخيه غياث الدين قد قصد همذان قبل وصول جلال الدين بيومين‏.‏

وكان إيغان طائيسي هذا قد جمع عسكرًا كثيرًا يبلغون خمسة آلاف فارس‏.‏

ونهب كثيرًا من أذربيجان وسار إلى البحر من بلد أران فشتى هنالك لقلة البرد ولما عاد إلى همذان نهب أذربيجان أيضًا مرة ثانية‏.‏

وكان سبب مسيره إلى همذان أن الخليفة الناصر لدين الله راسله وأمره بقصد همذان وأقطعه إياها وغيرها فسار ليستولي عليها كما أمر فلما سمع جلال الدين بذلك سار جريدة إليه فوصل إلى إيغان طائيسي ليلًا وكان إذا نزل جعل حول عسكره جميع ما غنموا من أذربيجان وأران من خيل وبغال وحمير وبقر وغنم‏.‏

فلما وصل جلال الدين أحاط بالجميع فلما أصبح عسكر إيغان طائيسي ورأى العسكر والجتر الذي يكون على رأس السلطان علموا أنه جلال الدين وبقي إيغان طائيسي وحده إلى أن أضاف إليه جلال الدين عسكرًا غير عسكره وعاد إلى مراغة و أعجبه المقام بها‏.‏

وكان أوزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان وأران قد سار من تبريز إلى كنجة خوفًا من جلال الدين وأرسل جلال الدين إلى من في تبريز من وال وأمير ورئيس يطلب منهم ن يتردد عسكره إليهم يمتارون فأجابوه إلى ذلك وأطاوه فتردد العسكر إليها وباعوا واشتورا الأقوات والكسوات وغيرها ومدوا أيديهم إلى أموال الناس فكان أحدهم يأخذ الشيء ويعطي الثمن ما يريد فشكا بعض أهل تبريز إلى جلال الدين منهم فأرسل إليهم شحنة يكون عندهم وأمره أن يقيم بتبريز ويكف أيدي الجند عن أهلها ومن تعدى على أحد منهم صلبه‏.‏

فأقام الشحنة ومنع الجند من التعدي على أحد من الناس وكانت زوجة أوزبك وهي ابنة السلطان طغرا بن أسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه مقيمة بتبريز وهي كانت الحاكمة في بلاد زوجها وهو مشغول بلذاته من أكل وشرب ولعب‏.‏

ثم إن أهل تبريز شكو شكوا من الشحنة وقالوا‏:‏ إنه يكلفنا أكثر من طاقتنا فأمر جلال الدين أنه لا يعطى إلا ما يقمي به لا غير فعلوا ذلك وسار جلال الدين إلى تبريز وحصرها خمسة أيام وقاتل أهلها قتالًا شديدًا وزحف إليها فوصل العسكر إلى السور فأذعن أهلها بالطاعة وأرسلوا يطلبون الأمان منه لأنه كان يذمهم ويقول‏:‏ قتلوا أصحابنا المسلمين وأرسلوا رؤوسهم إلى التتر الكفار وقد تقدمت الحادثة سنة إحدى وعشرين وستمائة فخافوا منه لذلك فلما طلبوا الأمان ذكر لهم فعلهم بأصحاب أبيه وقتلهم فاعتذروا بأنهم لم يفعلوا شيئًا من ذلكن وإنما فعله صاحبهم ولم يكن لهم من القدرة ما يمنعونه فعذرهم وأمنهم وطلبوا منه أن يؤمن زوجة أوزبك ولا يعارضها في الذي لها بأذربيجان وهو مدينة خوي وغيرها من ملك ومال وغيره‏.‏

فأجابهم إلى ذلك‏.‏

وملك البلد سابع عشر رجب من هذه السنة وسير زوجة أوزبك إلى خوي ومعها طائفة من العسكر مع رجل كبير القدر عظيم المنزلة وأمرهم بخدمتها فإذا وصلت إلى خوي عادوا عنها‏.‏

ولما رحل جلال الدين إلى تبريز أمر أن لا يمنعوا عنه أحدًا من أهلها فأتاه الناس مسلمين عليه فلم يحجبوا عنه وأحسن إليهم وبث فيهم العدل ووعدهم الإحسان والزيادة منه وقال لهم‏:‏ قد رأيتم ما فعلت بمراغة من الإحسان والعمارة بعد أن كانت خرابًا وسترون كيف أصنع معكم من العدل فيكم وعمارة بلادكم‏.‏

وأقام إلى يوم الجمعة فحضر الجامع فلما خطب الخطيب ودعا للخليفة قام قائمًا ولم يزل كذلك حتى فرغ من الدعاء وجلس‏.‏

ودخل إلى كشك كان أوزبك قد عمره وأخرج عليه من الأموال كثيرًا فهو في غاية الحسن مشرف على البساتين فلما طاف فيه خرج منه وقال‏:‏ هذا مسكن الكسالى لا يصلح لنا‏.‏

وأقام أيامًا استولى فيها على غيرها من البلاد وسير الجيوش إلى بلاد الكرج‏.‏

ذكر انهزام الكرج من جلال الدين

قد ذكرنا فيما تقدم من السنين ما كان الكرج يفعلونه في بلاد الإسلام‏:‏ خلاط وأذربيجان وأران وأرزن الروم ودربند شروان وهذه ولايات تجاور بلادهم وما كانوا يسفكون من دماء المسلمين وينهبون من أموالهم ويملكون من بلادهم والمسلمون معهم في هذه البلاد تحت الذل والخزي كل يوم قد أغاروا عليهم وقتلوا فيهم وقاطعوهم على ما شاؤوا من الأموال فكنا كلما سمعنا بشيء من ذلك سألنا الله تعالى نحن والمسلمون في أن ييسر للإسلام والمسلمين من يحميهم وينصرهم ويأخذ بثأرهم فإن أوزبك صاحب أذربيجان منعكف على شهوة بطنه وفرجه لا يفيق من سكره وإن أفاق فهو مشغول بالقمار بالبيض‏.‏

وهذا ما لم يسمع بمثله أن أحدًا من الملوك فعله لا يهتدي لمصلحة ولا يغضب لنفسه بحيث إن بلاده مأخوذة وعساكره طماعة ورعيته قد قهرها وقد كان كل من أراد أن يجمع جمعًا ويتغلب على بعض البلاد فعل كما ذكرناه من حال بغدي وأيبك الشامي وإيغان طائيسي فنظر الله تعالى إلى أهل هذه البلاد المساكين بعين الرحمة فرحمهم ويسر لهم جلال الدين هذا ففعل بالكرج ما تراه وانتقم للإسلام والمسلمين منهم فنقول‏:‏

في هذه السنة كان المصاف بين جلال الدين بن خوارزم شاه وبين الكرج في شهر شعبان فإن جلال الدين من حين وصل إلى هذه النواحي لا يزال يقول‏:‏ إنني أريد أقصد بلاد الكرج وأقاتلهم وأملك بلادهم فلما ملك أذربيجان أسل إليهم يؤذنهم بالحرب فأجابوه بأننا قد قصدنا التتر الذين فعلوا بأبيك وهو أعظم منك ملكًا وأكثر عسكرًا وأقوى نفسًا ما تعلمه وأخذوا بلادكم فلم نبال بهم وكان قصاراهم السلامة منا‏.‏

وشرعوا يجمعون العساكر فجمعوا ما يزيد على سبعين ألف مقاتل فسار إليهم فملك مدينة دوين وهي للكرج كانوا قد أخذوها من المسلمين كما ذكرناه وسار منهم إليهم فلقوه وقاتلوه أشد قتال وأعظمه وصبر كل منهم لصاحبه فانهزم الكرج وأمر أن يقتلوا بكل طريق ولا يبقوا على أحد منهم فالذي تحققناه أنه قتل منهم عشرون ألفًا وقيل‏:‏ أكثر من ذلك فقيل‏:‏ الكرج جميعهم قتلوا وافترقوا وأسر كثير من أعيانهم من جملتهم شلوة فنمت الهزيمة عليهم ومضى إيواني منهزمًا وهو المقدم على الكرج جميعهم ومرجعهم إليه ومعولهم عليه وليس لهم ملك إنما الملك امرأة ولقد صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث يقول‏:‏ ‏(‏لن يفلح قوم ولوا‏)‏ فلما انهزم إيواني أدركه الطلب فصعد قلعة لهم على طريقهم فاحتمى فيها وجعل جلال الدين عليها من يحصرها ويمنعه من النزول وفرق عساكره في بلاد الكرج ينهبون ويقتلون ويسبون ويخربون البلاد فلولا ما أتاه من تبريز ما أوجب عوده لملك البلاد بغير تعب ولا مشقة لأن أهلها كانوا قد هلكوا فهم بين قتيل وأسير وطريد‏.‏

ذكر عود جلال الدين إلى تبريز وملكه مدينة كنجة ونكاحه زوجة أوزبك

لما فرغ جلال الدين من هزيمة الكرج ودخل البلاد وبث العساكر فيها أمرهم بالمقام بها مع أخيه غياث الدين وعاد إلى تبريز‏.‏

وسبب عوده أنه كان قد خلف وزيره شرف الملك في تبريز ليحفظ البلد وينظر في مصالح الرعية فبلغه عن رئيس تبريز وشمس الدين الطغرائي وهو المقدم على كل من في البلد وعن غيرهما من المقدمين أنهم قد اجتمعوا وتحالفوا على الامتناع على جلال الدين وإعادة البلد إلى أوزبك وقالوا‏:‏ إن جلال الدين قد قصد بلاد الكرج فإذا عصينا عليه وأحضرنا أوزبك ومن معه من العساكر يضطر جلال الدين إلى العود فإذا عاد تبعه الكرج فلا يقدر على المقام فبنوا أمرهم على أن جلال الدين يسير الهوينا إلى بلاد الكرج ويتريث في الطريق احتياطًا منهم فلما اتفقوا على ذلك أتى الخبر إلى الوزير فأرسل إلى جلال الدين يعرفه الحال فأتاه الخبر وقد قارب بلاد الكرج فلم يظهر من ذلك شيئًا وسار نحو الكرج مجدًا فلقيهم وهزمهم فلما فرغ منهم قال لأمراء عسكره‏:‏ إنني قد بلغني من الخبر كذا وكذا فتقيمون أنتم في البلاد على ما أنتم عليه من قتل من ظفرتم به وتخريب ما أمكنكم من بلادهم فإنني خفت أن أعرفكم قبل هزيمة الكرج لئلا يلحقكم وهن وخوف‏.‏

فأقاموا على حالهم وعاد هو إلى تبريز وقبض على الرئيس والطغرائي وغيرهما فأما الرئيس فأمر أن يطاف به على أهل البلد وكل من له عليه مظلمة فليأخذها منه وكان ظالمًا ففرح الناس بذلك ثم قتله وأما الباقون فحبسوا فلما فرغ منهم واستقام له أمر البلد تزوج زوجة أوزبك ابنة السلطان طغرل وإنما صح له نكاحها لأنه ثبت عن أوزبك أنه حلف بطلاقها أنه لا يقتل مملوكًا له اسمه‏.‏

ثم قتله فلما وقع الطلاق بهذه اليمن نكحها جلال الدين وأقام بتبريز مدة وسير منها جيشًا إلى مدينة كنجة فملكوها وفارقها أوزبك إلى قلعة كنجة فتحصن فيها‏.‏

فبلغني أن عساكر جلال الدين تعرضوا لأعمال هذه القلعة بالنهب والأخذ فأرسل أوزبك إلى جلال الدين يشكو ويقول‏:‏ كنت لا أرضى بهذه الحال لبعض أصحابي فأنا أسأل أن تكف الأيدي المتطرقة إلى هذه الأعمال عنها‏.‏

فأرسل جلال الدين إليها من يحميها من التعرض لها من أصحابه وغيرهم‏.‏

ذكر وفاة الخليفة الناصر لدين الله

في هذه السنة آخر ليلة من شهر رمضان توفي الخليفة الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله أبي عبد الله بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي العباس محمد بن المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله بن الذخيرة محمد بن القائم بأمر الله أبي جعفر عبد الله بن القادر بالله أبي العباس أحمد بن إسحق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق أبي أحمد محمد بن جعفر المتوكل على الله ولم يكن الموفق خليفة وإنما كان ولي عهد أخيه المعتمد على الله فمات قبل المعتمد فصاروا ولده المعتضد بالله ولي عهد المعتمد على الله‏.‏

وكان المتوكل على الله ابن المعتصم بالله أبي إسحق محمد بن هرون الرشيد ابن محمد المهدي بن أبي جعفر عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رضي نسب كأن عليه من شمس الضحى نورًا ومن فلق الصباح عمودا فكان في آبائه أربعة عشر خليفة وهم كل من له لقب والباقون غير خلفاء وكان فيهم من ولي العهد محمد بن القائم والمرفق بن المتوكل وأما باقي الخلفاء من بني العباس فلم يكونوا من آبائه فكان الشفاح أبو العباس عبد الله أخا المنصور ولي قبله وكان موسى الهادي أخا الرشيد ولي قبله وكان محمد الأمين وعبد الله المأمون ابنا الرشيد أخوي المعتصم وليًا قبله وكان محمد المنتصر بن المتوكل ولي بعده‏.‏

ثم ولي بعد المنتصر بالله المستعين بالله أبو العباس أحمد بن محمد بن المعتصم وولي بعد المستعين المعاز بالله محمد وقيل طلحة وهو ابن المتوكل وولي بعد المعتز المهتدي بالله محمد بن الواثق ثم ولي بعده المعتمد على الله أحمد بن المتوكل فالمنتصر والمعتز والمعتمد إخوة الموفق والمهتدي ابن عمه والموفق من أجداد الناصر لدين الله‏.‏

ثم ولي المعتضد بعد المعتمد وولي بعد المعتضد ابنه أبو محمد علي المكتفي بالله وهو أخو المقتدر بالله وولي بعد المقتدر بالله أخوه القاهر بالله أبو منصور محمد بن المعتضد وولي بعد القاهر الراضي بالله أبو العباس محمد بن المقتدر‏.‏

ثم ولي بعده المتقي لله أبو إسحق إبراهيم بن المقتدر ثم ولي بعده المستكفي بالله أبو القاسم عبد الله بن المكتفي بالله علي بن المعتضد ثم ولي بعده المطيع لله أبو بكر عبد الكريم فالقاهر والراضي والمتقي والمطيع بنوه والمستكفي ابن أخيه المكتفي‏.‏

ثم ولي الطائع لله بن المقتدر ثم ولي بعد الطائع القادر بالله وهو من أجداد الناصر لدين الله ثم ولي بعده المستظهر بالله ثم ولي بعده ابنه المسترشد بالله أبو منصور وولي بعد المسترشد بالله ابنه الراشد أبو جعفر فالمسترشد أخو المتقي والراشد بالله ابن أخيه فجمع من ولي الخلافة ممن ليس في سياق نسب الناصر تسعة عشر خليفة‏.‏

وكانت أم الناصر أم ولد تركية اسمها زمرد وكانت خلافته ستًا وأربعين سنة وعشرة أشهر وثمانية وعشرين يومًا وكان عمره نحو سبعين سنة تقريبًا فلم يل الخلافة أطول مدة منه إلا ما قيل عن المستنصر بالله العلوي صاحب مصر فإنه ولي ستين سنة ولا اعتبار به فإنه ولي وله سبع سنين فلا تصح ولايته‏.‏

وبقي الناصر لدين الله ثلاث سنين عاطلًا عن الحركة بالكلية وقد ذهبت إحدى عينيه والأخرى يبصر بها إبصارًا ضعيفًا وفي آخر الأمر أصابه دوسنطاريا عشرين يومًا ومات‏.‏

ووزر له عدة وزراء وقد تقدم ذكرهم ولم يطلق في طول مرضه شيئًا كان أحدثه من الرسوم الجائرة وكان قبيح السيرة في رعيته ظالمًا فخرب في أيامه العراق وتفرق أهله في البلاد وأخذ أملاكهم وأموالهم وكان يفعل الشيء وصده فمن ذلك أنه عمل دور الضيافة ببغداد ليفطر الناس عليها في رمضان فبقيت مدة ثم قطع ذلك ثم عمل دور الضيافة للحجاج فبقيت مدة ثم بطلها وأطلق بعض المكوس التي جددها ببغداد خاصة ثم أعادها‏.‏

وجعل جل همه في رمي البندق والطيور المناسيب وسراويلات الفتوة فبطل الفتوة في البلاد جميعها إلا من يلبس منه سراويل يدعى إليه ولبس كثير من الملوك منه سراويلات الفتوة‏.‏

وكذلك أيضًا مع الطيور المناسيب لغيره إلا ما يؤخذ من طيوره ومنع الرمي بالندق إلا من ينتمي إليه فأجابه الناس بالعراق وغيره إلى ذلك إلا إنسانًا واحدًا يقال له ابن السفت من بغداد فإنه هرب من العراق ولحق بالشام فأرسل إليه يرغبه في المال الجزيل ليرمي عنه وينسب في الرمي إليه‏:‏ فلم يفعل فبلغني أن بعض أصدقائه أنكر عليه الامتناع من أخذ المال فقال‏:‏ يكفيني فخرًا أنه ليس في الدنيا أحد إلا يرمي للخليفة إلا أنا‏.‏

فكان غرام الخليفة بهذه الأشياء من أعظم الأمور وكان سبب ما ينسبه العجم إليه صحيحًا من أنه هو الذي أطمع التتر في البلاد وراسلهم في ذلك فهو الطامة الكبرى التي يصغر عندها كل ذنب‏.‏

قد ذكرنا سنة خمس وثمانين وخمسمائة الخطبة للأمير أبي نصر محمد ابن الخليفة الناصر لدين الله بولاية العهد في العراق وغيره من البلاد ثم بعد ذلك خلعه الخليفة من ولاية العهد وأرسل إلى البلاد في قطع الخطبة له وإنما فعل ذلك لأنه كان يميل إلى ولده الصغير علي فاتفق أن الولد الصغير توفي سنة اثنتي عشرة وستمائة ولم يكن للخليفة ولد غير ولي العهد فاضطر إلى إعادته إلا أنه تحت الاحتياط والحجر لا يتصرف في شيء‏.‏

فلما توفي أبوه ولي الخلافة وأحضر الناس لأخذ البيعة وتلقب بأمر الله وعنى أن أباه وجميع أصحابه أرادوا صرف الأمر عنه فظهر وولي الخلافة بأمر الله لا بسعي أحد‏.‏

ولما ولي الخلافة أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سنة العمرين فلو قيل إنه لم يل الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقًا فإنه أعاد الخراج القديم في جميع العراق وأن يسقط جميع ما جدده أبوه وكان كثيرًا لا يحصى فمن ذلك أن قرية بعقوبا كان يحصل منها قديمًا نحو عشرة آلاف دينار فلما تولى الناصر لدين الله كان يؤخذ منها كل سنة ثمانون ألف دينار فحضر أهلها واستغاثوا وذكروا أن أملاكهم أخذت حتى صار يحصل منها هذا المبلغ فأمر أن يؤخذ الخراج القديم وهو عشرة آلاف دينار فقيل له إن هذا المبلغ يصل إلى المخزن فمن أين يكون العوض فأقام لهم العوض من جهات أخرى فإذا كان المطلق من جهة واحدة

ومن أفعاله الجميلة أنه أمر بأخذ الخراج الأول من باقي البلاد جميعها فحضر كثير من أهل العراق وذكروا أن الأملاك التي كان يؤخذ منها الخراج قديمًا يبس أكثر أشجارها وخربت ومتى طولبوا بالخراج الأول لا يفي دخل الباقي بالخراج فأمر أن لا يؤخذ الخراج إلا من كل شجرة سليمة وأما الذاهب فلا يؤخذ منه شيء وهذا عظيم جدًا‏.‏

ومن ذلك أيضًا أن المخزن كان له صنجة الذهب تزيد على صنجة البلد نصف قيراط يقبضون بها المال ويعطون بالصنجة التي للبلد يتعامل بها الناس فسمع بذلك فخرج خطه إلى الوزير وأوله ‏{‏ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 1‏]‏‏.‏

قد بلغنا أن الأمر كذا وكذا فتعاد صنجة المخزن إلى الصنجة التي يتعامل بها المسلمون واليهود والنصارى‏.‏

فكتب بعض النواب إليه يقول‏:‏ إن هذا مبلغ كثير وقد حسبناه فكان في السنة الماضية خمسة وثلاثين ألف دينار فأعاد الجواب ينكر على القائل ويقول‏:‏ لو أنه ثلاث مائة ألف وخمسون ألف دينار يطلق‏.‏

وكذلك أيضًا فعل في إطلاق زيادة الصنجة التي للديوان وهي في كل دينار حبة وتقدم إلى القاضي أن كل من عرض عليه كتابًا صحيحًا بملك يعيده إليه من غير إذن وأقام رجلًا صالحًا في ولاية الحشري وبيت المال وكان الرجل حنبليًا فقال‏:‏ إنني من مذهبي أن أورث ذوي الأرحام فإن أذن أمير المؤمنين أن أفعل ذلك وليت وإلا فلا‏.‏

فقال له‏:‏ أعط كل ذبي حق حقه واتق الله ولا تتق سواه‏.‏

ومنها أن العادة كانت ببغداد أن الحارس بكل درب يبكر ويكتب مطالعة إلى الخليفة بما تجدد في دربه من اجتماع بعض الأصدقاء ببعض على نزهة أو سماع أو غير ذلك ويكتب ما سوى ذلك من صغير كبير فكان الناس من هذا في حجر عظيم فلما ولي هذا الخليفة جاه الله خيرًا أتته المطالعات على العادة فأمر بقطعها وقال‏:‏ أي غرض لنا في معرفة أحوال الناس في بيوتهم فلا يكتب أحد إلينا إلا ما يتعلق بمصالح دولتنا فقيل له‏:‏ إن العامة تفسد بذلك ويعظم شرها فقال‏:‏ نحن ندعو الله أن يصلحهم‏.‏

ومنها أنه لما ولي الخلافة وصل صاحب الديوان من واسط وكان قد سار إليها أيام الناصر لتحصيل الأموال فأصعد ومعه من المال ما يزيد على مائة ألف دينار وكتب مطالعة تتضمن ذكر ما معه ويستخرج الأمر في حمله فأعاد الجواب بأن يعاد إلى أربابه فلا حاجة لنا إليه فأعيد عليهم‏.‏

ومنها أنه أخرج كل من كان في السجون وأمر بإعادة ما أخذ منهم‏.‏

وأرسل إلى القاضي عشرة ومن سن نيته للناس أن الأسعار في الموصل وديار الجزيرة كانت غالية فرخصت الأسعار وأطلق حمل الأطعمة إليها وأن يبيع كل من أراد البيع للغلة فحمل منها الكثير الذي لا يحصى فقيل له‏:‏ إ السعر قد غلا شيئًا والمصلحة المنع منه فقال‏:‏ أولئك مسلمون وهؤلاء مسلمون وكما يجب علينا النظر في أمر هؤلاء كذلك يجب علينا النظر لأولئك‏.‏

وأمر أن يباع من الأهراء التي له طعام أرخص ما يبيع غيره ففعلوا ذلك فرخصت الأسعار عندهم أيضًا أكثر مما كانت أولًا وكان السعر في الموصل لما ولي كل مكوك بدينار وثلاثة قراريط فصار كل أربعة مكاكيك بدينار في أيام قليلة وكذلك باقي الأشياء من التمر والدبس والأرز والسمسم وغيرها فالله تعالى يؤيده وينصره ويبقيه فإنه غريب في هذا الزمان الفاسد‏.‏

ولقد سمعت عنه كلمة أعجبتني جدًا وهي أنه قيل له في الذي يخرجه ويطلقه من الأموال التي لا تسمح نفس ببعضها فقال لهم‏:‏ أنا فتحت الدكان بعد العصر فاتركوني أفعل الخير فكم أعيش وتصدق ليله عيد الفطر من هذه السنة وفرق في العلماء وأل الدين مائة ألف دينار‏.‏

ذكر ملك بدر الدين قلعتي العمادية وهرور

في هذه السنة ملك بدر الدين قلعة العمادية من أعمال الموصل وقد تقدم ذكر عصيان أهلها عليه سنة خمس عشرة وستمائة وتسليمها إلى عماد الدين زنكي ثم عودهم إلى طاعة بدر الدين وخلافهم على عماد الدين فلما عادوا إلى بدر الدين أحسن إليهم وأعطاهم الإقطاع الكثير وملكهم القرى ووصلهم بالأموال الجزيلة والخلع السنية فبقوا كذلك مدة يسيرة‏.‏

ثم شرعوا يراسلون عماد الدين زنكي ومظفر الدين صاحب إربل وشهاب الدين غازي بن العادل لما كان بخلاط ويعدون كلًا منهم بالانحياز إليه والطاعة له وأظهروا من المخالفة لبدر الدين ما كانوا يبطنونه فكانوا لا يمكنون أن يقيم عندهم من أصحاب بدر الدين إلا من يريدونه ويمنعون من كرهوه فطال الأمر وهو يحتمل فعلهم ويداريهم وهم لا يزدادون إلا طمعًا وخروجًا عن الطاعة‏.‏

وكانوا جماعة فاختلفوا فقوي بعضهم وهم أولاد خواجه إبراهيم وأخوه ومن معهم على الباقين فأخرجوهم عن القلعة وغلبوا عليها وأصروا على ما كانوا عليه من النفاق‏.‏

فلما كان هذه السنة سار بدر الدين إليهم في عساكره فأتاهم بغتة فحصرهم وضيق عليهم وقطع الميرة عنهم وأقام بنفسه عليهم وجعل قطعة من الجيش على قلعة هرور يحصرونها وهي من أمنع الحصون وأحصنها لا يوجد مثلها وكان أهلها أيضًا قد سلكوا طريق أهل العمادية من

عصيان وطاعة ومخادعة فأتاهم العسكر وحصروهم وهم في قلة من الذخيرة فحصروها أيامًا ففني ما في القلعة فاضطر أهلها إلى التسليم فسلموها ونزلوا منها‏.‏

وعاد العسكر إلى العمادية فأقاموا عليها مع بدر الدين فبقي بدر الدين بعد أخذ هرور يسيرًا وعاد إلى الموصل وترك العسكر بحاله مع ابنه أمين الدين لؤلؤ فبقي الحصار إلى أول ذي القعدة فأرسلوا يذعنون بالطاعة ويطلبون العوض عنها ليسلموها فاستقرت القواعد على العوض من قلعة يحتمون فيها وأقطاع ومال وغير ذلك فأجابهم بدر الدين إلى ما طلبوا وحضر نوابهم ليحلفوا بدر الدين‏.‏

فبينما هو يريد أن يحلف لهم وقد أحضر من يشهد اليمين إذ قد وصل طائر من العمادية وعلى جناحه رقعة من أمين الدين لؤلؤ يخبر أنه قد ملك العمادية قهرًا وعنوة وأسر بني خواجه الذين كانوا تغلبوا عليه فامتنع بدر الدين من اليمين‏.‏

وأما سبب غلبة أمين الدين عليها فإنه كان قد ولاه بدر الدين عليها لما عاد أهلها إلى طاعته فبقي فيها مدة وأحسن فيهم واستمال جماعة منهم ليتقوى بهم على الحرب للذين عصوا أولًا فنمى الخبر إليهم فأساؤوا مجاورته واستقالوا من ولايته عليهم ففارقهم إلى الموصل‏.‏

وكان أولئك الذين استمالهم يكاتبونه ويراسلونه فلما حصرهم كانوا أيضًا يكاتبونه في النشاب يخبرونه بكل ما يفعله أولاد خواجة من إنفاذ رسول وغير ذلك وبما عندهم من الذخائر وغيرها إلا إنهم لم يكونوا من الكثرة إلى حد أنهم يقهرون أولئك‏.‏

فلما كان الآن واستقرت القواعد من التسليم لم يذكر أولاد خواجه أحدًا من جند القلعة في نسخة اليمين بمال ولا غيره من أمان وإقطاع فسخطوا هذه الحال وقالوا لهم‏:‏ قد حلفتم لأنفسكم بالحصون والقرى والمال ونحن قد خربت بيوتنا لأجلكم فلم تذكرونا فأهانوهم ولم يلتفتوا إليهم فحضر عند أمين الدين رجلان منهم ليلًا وطلبوا منه أن يرسل إليهم جمعًا يصعدونهم إلى القلعة ويثبون بأولئك ويأخذونهم فامتنع فقال‏:‏ أخاف أن لا يتم هذا الأمر ويفسد علينا كل ما فعلناه‏.‏

فقالوا‏:‏ نحن نقبض عليهم غدًا بكرة وتكون أنت والعسكر على ظهر فإذا سمعتم النداء باسم بدر الدين وشعاره تصعدون إلينا فأجابهم إلى ذلك‏.‏

وركب بنفسه بكرة هو والعسكر على العادة وأما أولئك فإنهم اجتمعوا وقبضوا على أولاد خواجة ومن معهم ونادوا بشعار بدر الدين فبينما العسكر قيام إذا الصوت من القلعة باسم بدر الدين فصعدوا إليها وملكوها وتسلم أمين الدين أولاد خواجه فحبسهم وكتب الرقعة على جناح الطائر بالحال وملكوا القلعة صفوًا وعفوًا بغير عوض وكان يريد أن يغرم مالًا جليلًا وأقطاعًا كثير وحصنًا منيعًا فتوفر الجميع عليه وأخذ منهم كل ما احتقبوه وادخروه وإذا

ذكرعدة حوادث

في هذه السنة ليلة الأحد العشرين من صفر زلزلت الأرض بالموصل وديار الجزيرة والعراق وغيرها زلزلة متوسطة‏.‏

وفيها اشتد الغلاء بالموصل وديار الجزيرة جميعها فأكل الناس الميتة والكلاب والسنانير فقلت الكلاب والسنانير بعد أن كانت كثيرة‏.‏

ولقد دخلت يومًا إلى داري فرأيت الجواري يقطعن اللحم ليطبخنه فرأيت سنانير استكثرتا فعددتها فكانت اثني عشر سنورًا ورأيت اللحم في هذا الغلاء في الدار وليس عنده من يحفظه من السنانير لعدمها وليس بين المرتين كثير‏.‏

وغلا مع الطعام كل شيء فبيع رطل الشيرج بقيراطين بعد أن كان بنصف قيراط قبل الغلاء وأما قبل ذلك فكان كل ستين رطلًا بدينار‏.‏

ومن العجب أن السلق والجزر والشلجم بيع كل خمسة أرطال بدرهم وبيع البنفسج كل ستة أرطال بدرهم وبيع في بعض الأوقات كل سبعة أرطال بدرهم وهذا ما لم يسمع بمثله‏.‏

فإن الدنيا ما زالت قديمًا وحديثًا إذا غلت الأسعار متى جاء المطر رخصت إلا هذه السنة فإن الأمطار ما زالت متتابعة من أول الشتاء إلى آخر الربيع وكلما جاء المطر غلت الأسعار

وهذا ما لم يسمع بمثله فبلغت الحنطة مكوك وثلث بدينار وقيراط يكحون وزنه خمسة وأربعين رطلًا دقيقًا بالبغدادي وكان الملح مكوك بدرهم فصار المكوك بعشرة دراهم وكان الأرز مكوك باثني عشر درهمًا فصار المكوك بخمسين درهمًا وكان التمر كل أربعة أرطال وخمسة أرطال بقيراط فصار كل رطلين بقيراط‏.‏

ومن عجيب ما يحكى أن السكر النادر الأسمر كان كل رطل بدرهم وربع وكان السكر الأبلوج المصري النقي كل رطل بدرهمين فصار السكر الأسمر كل رطل بثلاثة دراهم ونصف والسكر الأبلوج كل رطل بثلاثة دراهم وربع وسبه أن الأمراض لما كثرت واشتد الوباء قالت النساء‏:‏ هذه الأمراض باردة والسكر الأسمر حار فينفع منها والأبلوج بارد يقويها وتبعهن الأطباء استمالة لقلوبهن ولجهلهم فغلا الأسمر بهذا السبب وهذا من الجهل المفرط‏.‏

وما زالت الأشياء هكذا إلى أول الصيف واشتد الوباء وكثر الموت والمرض في الناس فكان يحمل على النعش الواحد عدة من الموتى فممن مات فيه شيخنا عبد المحسن بن عبد الله الخطيب الطوسي خطيب الموصل وكان من صالحي المسلمين وعمره ثلاث وثمانون سنة وشهور‏.‏

وفيها انخسف القمر ليلة الثلاثاء خامس عشر صفر‏.‏

وفيها هرب أمير حاج العراق وهو حسام الدين أبو فراس الحلي الكردي والورامي وهو ابن أخي الشيخ ورام وكان عمه من صالحي المسلمين وخيارهم من أهل الحلة السيفية فارق الحاج بين مكة والمدينة وسار إلى مصر‏.‏

حكى لي بعض أصدقائه أنه إنما حمله على الهرب كثرة الخرج في الطريق وقلة المعونة من الخليفة ولما فارق الحاج خافوا خوفًا شديدًا من العرب فأمن الله خوفهم ولم يذعرهم ذاعر في جميع الطريق ووصلوا آمنين إلا أن كثيرًا من الجمال هلك أصابها غدة عظيمة فلم يسلم إلا القليل‏.‏

وفيها في آب جاء مطر شديد ورعد وبرق ودام حتى جرت الأودية وامتلأت الطرق بالوحل ثم جاء الخبر من العراق والشام والجزيرة وديار بكر أنه كان عندهم مثله ولم يصل إلينا بالموصل أحد إلا وأخبر أن المطر كان عندهم مثله في ذلك التاريخ‏.‏

وفيها كان في الشتاء ثلج كثير ونزلت بالعراق فسمعت أنه نزل في جميع العراق حتى في البصرة أما إلى واسط فلا شك فيه وأما البصرة فإن الخبر لم يكثر عندنا بنزوله فيها‏.‏

وفيها خربت قلعة الزعفران من أعمال الموصل وهي حصن مشهور يعرف قديمًا بدير الزعفران وهو على جبل عال قريب من فرشابور‏.‏

وفيها أيضًا خربت قلعة الجديدة من بلد الهكارية من أعمال الموصل أيضًا وأضيف عملها وفيها في ذي الحجة سار جلال الدين بن خوارزم شاه من تبريز إلى بلد الكرج قاصدًا لأخذ بلادهم واستئصالهم وخرجت السنة ولم يبلغنا أنه فعل بهم شيئًا ونحن نذكر ما فعله بهم سنة ثلاث وعشرين وستمائة إن شاء الله‏.‏

وفيها ثالث شباط سقط ببغداد ثلج وبرد الماء بردًا شديدًا وقوي البرد حتى مات به جماعة من الفقراء‏.‏

وفيه في ربيع الأول زادت دجلة زيادة عظيمة واشتغل الناس بإصلاح سكر القورج وخافوا فبلغت الزيادة قريبًا من الزيادة الأولى ثم نقص الماء واستبشر الناس‏.‏

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وستمائة

ذكر ملك جلال الدين تفليس

في هذه السنة ثامن ربيع الأول فتح جلال الدين بن خوارزم شاه مدينة تفليس من الكرج وسبب ذلك أنا قد ذكرنا سنة اثنتين وعشرين وستمائة الحرب بينه وبينهم وانهزامهم منه وعوده إلى تبريز بسبب الخلف الواقع فيها فلما استقر الأمر في أذربيجان عاد إلى بلد الكرج في ذي الحجة من السنة وخرجت سنة اثنتين وعشرين وستمائة ودخلت هذه السنة فقصد بلادهم وقد عادوا فحشدوا وجمعوا من الأمم المجاورة لهم اللان واللكز وقفجاق وغيرهم فاجتمعوا في جمع كثير لا يحصى فطمعوا بذلك ومنتهم أنفسهم الأباطيل ووعدهم الشيطان الظفر وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا فلقيهم وجعل لهم الكمين في عدة مواضع والتقوا واقتتلوا فولى الكرج منهزمين لا يلو ي الأخ على أخيه ولا الوالد على ولده وكل منهم قد أهمته نفسه وأخذتهم سيوف المسلمين من كل جانب فلم ينج منهم إلا اليسير الشاذ الذي لا يعبأ به وأمر جلال الدين عسكره أن لا يبقوا على أحد وأن يقتلوا من وجدوا فتبعوا المنهزمين يقتلونهم وأشار عليه أصحابه بقصد تفليس دار ملكهم فقال‏:‏ لا حاجة لنا إلى أن نقتل رجالنا تحت الأسوار إنما إذا أفنيت الكرج أخذت البلاد صفوًا عفوًا‏.‏

ولم تزل العساكر تتبعهم وتستقصي في طلبهم إلى أن كادوا يفنونهم فحينئذ قصد تفليس ونزل بالقرب منها‏.‏

وسار في بعض الأيام في طائفة من العسكر وقصدها لينظر إليها ويبصر مواضع النزول عليها وكيف يقاتلها فلما قاربها كمن أكثر العسكر الذي معه في عدة مواضع ثم تقدم إليها في نحو ثلاثة آلاف فارس فلما رآه من بها من الكرج طمعوا فيه لقلة من معه ولم يعلموا أنه معهم فظهروا إليه فقاتلوه فتأخر عنهم فقوي طمعهم فيه لقلة من معه فظنوه منهزمًا فتبعوه فلما توسطوا العساكر خرجوا عليهم ووضعوا السيف فيهم فقتل أكثرهم وانهزم الباقون إلى المدينة فدخلوها وتبعهم المسلمون فلما وصلوا إليها نادى المسلمون من أهلها بشعار الإسلام وباسم جلال الدين فألقى الكرج بأيديهم واستسلموا لأنهم كانوا قد قتل رجالهم في الوقعات المذكورة فقل عددهم وملئت قلوبهم خوفًا ورعبًا فملك المسلمون البلد عنوة وقهرًا بغير أمان وقتل كل من فيه من الكرج ولم يبق على كبير ولا صغير إلا من أذعن بالإسلام وأقر بكلمتي الشهادة فإنه أبقى عليه وأمرهم فتختنوا وتركهم‏.‏

ونهب المسلمون الأموال وسبوا النساء واسترقوا الأولاد ووصل إلى المسلمين الذين بها بعض الأذى من قتل ونهب وغيره‏.‏

وتفليس هذه من أحصن البلاد وأمنعها وهي على جانبي نهر الكر وهو نهر كبير ولقد جل هذا الفتح وعظم موقعه في بلاد الإسلام وعند المسلمين فإن الكرج كانوا قد استطالوا عليهم وفعلوا بهم ما أرادوا فكانوا يقصدون أي بلاد أذربيجان أرادوا فلا يمنعهم عنها مانع ولا يدفعهم عنها دافع وهكذا أرزن الروم حتى إن صاحبها لبس خلعة ملك الكرج ورفع على رأسه علمًا في أعلاه صليب وتنصر ولده رغبة في نكاح ملكة الكرج وخوفًا منهم ليدفع الشر عنه وقد تقدمت القصة وهكذا دربند شروان‏.‏

وعظم أمرهم إلى حد أن ركن الدين بن قلج أرسلان صاحب قونية وأقصرا وملطية وسائر بلاد الروم التي للمسلمين جمع عساكره وحشد معها غيرها فاستكثر وقصد أرزن الروم وهي لأخيه طغرل شاه بن قلج أرسلان فأتاه الكرج وهزموه وفعلوا به وبعسكره كل عظيم وكان أهل دربند شروان معهم في الضنك والضيقة‏.‏

وأما أرمينية فإن الكرج دخلوا مدينة أرجيش وملكوا قرس وغيرها وحصروا خلاط فلولا أن الله سبحانه من على المسلمين بأسر إيواني مقدم عساكر الكرج لملكوها فاضطر أهلها إلى أن بنوا لهم بيعة في القلعة يضرب فيها الناقوس فرحلوا عنهم وقد تقدم تفصيل هذه الحلمة‏.‏

ولم يزل هذا الثغر من أعظم الثغور ضررًا على المجاورين له من الفرس قبل الإسلام وعلى المسلمين بعدهم من أول الإسلام إلى الآن ولم يقدر أحد عليهم هذا الإقدام ولا فعل بهم هذه الأفاعيل فإن الكرج ملكوا تفليس سنة خمس عشرة وخمسمائة والسلطان حينئذ محمود بن محمود بن ملكشاه السلجوقي وهو من أعظم السلاطين منزلة وأوسعهم مملكة وأكثرهم عساكر فلم يقدر على منعهم عنها هذا مع سعة بلاده فإنه كان له الري وأعمالها وبلد الجبل وأصفهان وفارس وخوزستان والعراق وأذربيجان وأران وأرمينية وديار بكر والجزيرة والموصل والشام وغير ذلك وعمه السلطان سنجر له خراسان وما وراء النهر فكان أكثر بلاد الإسلام بأيديهم ومع هذا فإنه جمع عساكره سنة تسع عشرة وخمسمائة وسار ثم ملك بعده أخوه السلطان مسعود وملك الدكز بلد الجبل والري وأصفهان وأذربيجان وأران وأطاعه صاحب خلاط وصاحب فارس وصاحب خوزستان وجمع وحشد لهم وكان قصاره أن يتخلص منهم ثم ابنه البهلوان بعده وكانت البلاد في أيام أولئك عامرة كثيرة الأموال والرجال فلم يحدثوا أنفسهم بالظفر بهؤلاء حتى جاء هذا السلطان والبلاد خراب قد أضعفها الكرج أولًا ثم استأصلها التتر لعنهم الله على ما ذكرنا ففعل بهم هذه الأفاعيل فسبحان من إذا أراد أمرًا قال له كن فيكون‏.‏