الجزء الثاني

الباب الخامس والخمسون في النهي عن أنْ تُباشِر المرأةُ المرأةَ في ثوبٍ واحد

عن جابر ـــ رضي الله عنه ـــ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ينهى أن يباشر الرجل الرجل في ثوب واحد، والمرأة المرأة في ثوب واحد».

الباب السادس والخمسون في نَهْيِ المرأة أنْ تصفَ المرأةَ لزوجها

عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا تباشر المرأة المرأة، تنعتها لزوجها حتى كأنه ينظر إليها».
واعلم أنه إنما نهي عن هذا لأن الرجل إذا سمع وصف المرأة، تحركت همّته، واشتغل قلبه، والنفس مولعة بطلب الموصوف بالحسن، فربما كانت الصفة داعية إلى تطلب الموصوف، وربما وقع من اللهج بالطلب لذلك ما يقارب العشق.

الباب السابع والخمسون في تحريمِ التبرُّجِ وإظْهار الزينةِوإبراز المحاسنِ وكلّ ما يستدعي شَهْوة الرجل

وقد قال الله تعالى: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَهِلِيَّةِ الاْولَى} (الأحزاب: 33)، وقد اختلف المفسرون في ذلك التبرّج، فقال مجاهد: كانت المرأة في الجاهلية الأولى تخرج، فتمشي بين الرجال، فذلك التبرج.

وقال قتادة: هي مشية فيها تكسر وتغنّج. وقال ابن أبي نجيح: هو التبختر. وحكى الفراء: أنه لبس الثياب الخفاف التي تصف الجسد.
قال المصنف رحمه الله: قلت: نفس خروج المرأة من بيتها ومشيها في الطريق فتنة، فإذا تصنعت في مشيتها لتري محاسنها زاد في الشرك حبل.

الباب الثامن والخمسون في أَجر المُتَسرْبِلات من النساء

عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «رحم الله المتسربلات من النساء».
وعن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلّمعلى باب من أبواب المسجد، مرت امرأة على دابة، فلما جازت بالنبي صلى الله عليه وسلّمعثرت بها، فأعرض النبي صلى الله عليه وسلّموتكشفت فقيل: يا رسول صلى الله عليه وسلّم إنَّ عليها سراويل. فقال: «رحم الله المتسرولات».

الباب التاسع والخمسون في النَّهْي عن تشبُّهِ المرأة بالرجل

عن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلّمالمخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، قال: قلت له: وما المترجلات من النساء، قال: «المتشبهات من النساء بالرجال».

وعن ابن عباس أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لعن الواصلة والموصلة، والمتشبهات من النساء بالرجال».
وعن نافع قال: كان ابن عمر، وعبد الله بن عمرو، عند بني المطلب إذ أقبلت امرأة تسوق غنماً، متنكبة قوساً، فقال عبد الله بن عمر: أرَجُل أنت أم امرأة؟ فالتفتت إلى ابن عمر فقال: إن الله عز وجل لعن على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلّمالمتشبهات بالرجال من النساء، والمتشبهين من الرجال بالنساء.

وعن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ أنه ذكر لها أن امرأة تنتعل أو انتعلت، فقالت: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلّمالرَجُلَة من النساء.
وعن أبي سعيد الخدري ـــ رضي الله عنه ـــ قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلّمالمتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال.

وعن أبي هريرة قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلّممخنثي الرجال الذين يتشبهون بالنساء، والمترجلات من النساء المتشبهات بالرجال، وراكب الفلاة وحده».

قال أحمد بن حنبل ـــ رحمه الله ـــ حدثنا أبو عامر بإسناده إلى أبي هريرة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّملعن الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل.

الباب الستون في تخويف النساء من الذنوب وإعلامهنَّ أنهنَّ أكثر أهل النار

عن أسامة بن زيد ـــ رضي الله عنهما ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها من المساكين، وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء».

وعن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ أن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء».

وعن جابر بن عبد الله قال: «شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلّمفصلى قبل أن يخطب، وصلّى بغير أذان ولا إقامة، قال: فوعظ الناس، وذكرهم، ثم أتى النساء ومعه بلال، فوعظهن، وذكّرهن، وأمرهن بالصدقة، وقال: «إن في الجنة منكن ليسيراً». قال: فقالت امرأة: لِمَ يا رسول الله؟ قال: «لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير».

وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّمللنساء: «تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم». فقامت امرأة من سطة النساء، سفعاء الخدين، فقالت: لِمَ يا رسول الله؟ قال: «لأنكن تكثرن الشكاة أو اللعن، وتكفرن العشير».

وعن زينب قالت: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلّمفقال: «يا معشر النساء تصدقن، ولو من حليكنّ، فإنكن أكثر أهل جهنم يوم القيامة».

وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «رأيت النار، ورأيت أكثر أهلها النساء»، قالوا: لِمَ يا رسول الله، قال: «لكفرهن»، قال: أيكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت منك خيراً قط».
وعن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «يا معشر النساء تصدقن، فإنكن أكثر أهل النار»، قالت امرأة: وما لنا أكثر أهل النار؟ قال: «لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير».

وعن أبي سعيد الخدري ـــ رضي الله عنه ـــ قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّمفي أضحى أو فطر إلى المصلّى، فصلّى ثم انصرف، فقام فوعظ الناس، وأمرهم بالصدقة، فقال: «أيها الناس تصدّقوا»، ثم انصرف. فمرّ على النساء فقال: «يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار»، فقلن: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن».

وعن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمانصرف من الصبح يوماً، فأتى النساء فوقف عليهن، فقال: «يا معشر النساء ما رأيت من نواقص عقل ودين أذهب لعقول ذوي الألباب منكنّ، وإني قد رأيت أنكن أكثر أهل النار. فتقربن إلى الله تعالى ما استطعتن».

وعن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: كنا مع عمرو بن العاص في الحج أو عمرة فإذا امرأة قد أخرجت يدها، عليها خواتمها، قد وضعت يدها على هودجها، فعدل، فدخل شعباً فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّمفي هذا فإذا غربان كثيرة، وإذا فيها غراب أعصم، أحمر المنقار والرجلين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا يدخل الجنة من النساء، إلا كقدر هذا الغراب في هذه الغربان».

وعن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «إن المرأة المؤمنة كالغراب الأصم في الغربان، وإن النار خلقت للسفهاء، وإن النساء من السفهاء إلا صاحبة القسط والسراج».

قلت: أما الغراب الأعصم ففيه قولان:

أحدهما: أنه الأبيض اليدين، ومنه قيل للوعول: عصم، لبياض أيديها، قاله أبو عبيدة.

والثاني: أنه الأبيض الجناحين، قاله: النضر بن شميل.

وأما القسط، فقال الخطّابي: المراد به الإناء الذي توضئه فيه، فقال: والقسط نصف صاع. وأما السراج، فقال بقية بن الوليد: هي التي تقوم على رأس زوجها بالسراج توضئه بالماء.

وعن أبي راشد الحبراني قال: قال عبد الرحمن بن شبل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إن الفساق أهل النار»، قيل: يا رسول الله، ومَن الفسّاق؟ قال: «النساء»، قال رجل: يا رسول الله، أوَلسن أمهاتنا وأخواتنا وأزواجنا، قال: «بلى، ولكنهنّ إذا أعطين لا يشكرن، وإذا ابتلين لم يصبرن».

الباب الحادي والستون في تحذير النساء من مجالس القُصَّاص وما تجلب من المِحَن، وأحداث السوء، ومؤاخاة الرجال النساء، ومصافحتهنَّ، وغير ذلك من المنكرات

أما أفعالهن الظاهرة القبيحة فكثيرة، ولهن مقابح يحتقرنها، وهي عظائم، كالصرير في الخف، والخروج بغير إذن الزوج، وسوء المعاشرة له، والسرقة من ماله، والتدليس في القطن بدقّ الخشن منه ليتوهم أنه ناعم، وتنديته، والخروج إلى المقابر، فإذا أفلحن وتركن ذلك، حضرن أوقات الصوفية المتضمنة للغناء والطرب والرقص واللعب، وتخريق الثياب على الوجد، وتفريقها بعد تخريقها، والنظر إلى الشباب. وغير ذلك من الأسباب المفسدة لقلوبهن على أزواجهن المغيّرة لدينهن.

فإذا حضرن مجالس القُصَّاص، فأكثرها يجري فيها المنكر من إنشاد القصاص أشعار العشق والغزل، وتلحين القراء القرآن، ونحو ذلك مما يوجب الطرب، ويثبت في القلب الهوى، وربما أنشدوا الأشعار الواصفة للبلى وأحوال الموتى، فيهيجون قلوب السامعين، ويخرجونهم من الصبر إلى الجزع، وكل ذلك من القبائح المفسدة. وربما قالت المرأة: أنا ألبس قميصاً من يد الواعظ، وأصير بنتاً له. وبلغنا أن قوماً من المتزهدين يؤاخون النساء، ويخلون بهن، ويصافحونهن، وقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه ما صافح امرأة أجنبية، وكل هذا مخرج إلى الفساد والقبيح، وقد ذكرت في كتابي «تلبيس إبليس» طرفاً من هذا.

الباب الثاني والستون في الأمرِ بالتزويج، وفَضْلِ النكاح

عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قال عبد الله: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّمشباباً ليس لنا شيء، فقال: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإن الصوم له وجاء».
وروى جابر ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «أيما شاب تزوج في حداثة سنّه عج شيطانه، يا ويله عصم مني دينه».

وعن علقمة عن عثمان قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّمعلى فتية من قريش، وأنا فيهم فقال: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإن لم يستطع فليصم، فإن الصوم له وجاء».

قال المصنف رحمه الله: هذا الحديث رواه خالد الحذاء، وسعيد بن أبي عروبة، ويونس بن عبيد، جميعاً عن أبي معشر عن إبراهيم عن علقمة، وأسنده.

وعن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلّم والصحيح أنه مسند عن عبد الله بن مسعود. قال البغوي: حدثني أحمد بن زهير قال: سئل يحيى بن معين عن حديث أبي معشر هذا، فقال: خطأ الأعمش.

حدثنا شيبان قال: ثنا أبو عوانة، عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال: قال عبد الله لعثمان: لقد قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم «يا معشر الشباب»، وذكر الحديث.

هذا هو الصحيح، وهو مخرّج في «الصحيح» على ما ذكرناه في أول الباب، والمراد بالباءة: النكاح. والوجاء: رضّ الأنثيين من الفحل، فكأنه أراد أن الصوم يقطع شهوة النكاح كما يفعل الوجاء.

الباب الثالث والستون في الأمرِ بتزويِج البنت إذا بلغتْ

عن علي بن أبي طالب ـــ عليه السلام ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «ثلاث يا علي لا تؤخرهن، الصلاة إذا آنت، والجنازة إذا حضرت، والأيّم إذا وجدت كفؤاً».

وعن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من أدرك له ولد وقد بلغ النكاح، وعنده ما يزوِّجه فلم يزوِّجه فأحدث، فالإثم بينهما».

وعن محمد بن إبراهيم التيمي عن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ما من شيء خير لامرأة من زوج أو قبر».

وعن عمر بن الخطاب ـــ رضي الله عنه ـــ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «مكتوب في التوراة من بلغتْ له ابنةُ اثنتي عشرة سنة فلم يزوجها، فأصابت إثماً، فإثم ذلك عليه».

وعن زيد بن أسلم قال: قال عمر بن الخطاب: زوّجوا أولادكم إذا بلغوا، لا تحملوا آثامهم.

وعن الحسن قال: بادروا نساءكم التزويج، فإنَّ التسويف مغلمة لهن.

وعن ابن أبي نصر العطار قال: سمعت محمد بن سليمان قال: قال حاتم: كان يقال: «العجلة من الشيطان إلا في خمس: إطعام الطعام إذا حضر ضيف، وتجهيز الميت إذا مات، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدَّيْنِ إذا وجب، والتوبة من الذنب إذا أذنب».

فصل (في أنّ المرأة تحب ما يحّب الرجل)

واستحب لمن أراد تزويج ابنته أن ينظر لها شاباً مستحسن الصورة، لأن المرأة تحب ما يحب الرجل.

عن الزبير بن العوام ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «يعمد أحدكم إلى ابنته فيزوجها القبيح الذميم، إنهن يردن ما تريدون».

وعن عمر بن الخطاب ـــ رضي الله عنه ـــ قال: «لا تنكحوا المرأة الرجل القبيح الذميم، فإنهن يحببن لأنفسهن ما تحبون لأنفسكم».

فصل (في أنه لا ينبغي لوالدي المرأة أنْ تميل إلى إيثارهم)

ولا ينبغي لوالدي المرأة، ولا لجميع أهلها أن يطلبوا منها الميل إلى إيثارهم أكثر من ميلها إلى زوجها، فإنها تميل إلى زوجها بالطبع، وقد أخبر عنها الشارع بذلك، فلتعذر في ذلك.

عن إبراهيم بن محمد بن عبد الله عن أبيه عن حمنة بنت جحش أنها قيل لها: قتل أخوك. فقالت: رحمه الله {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رجِعونَ} (البقرة: 156). قالوا: قُتل زوجك. فقالت: واحزناه، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم «إنَّ للزوج من المرأة لشعبة ما هي لبشر».

الباب الرابع والستون في وجوبِ طاعةِ الزوج، وحقّه على المرأة

عن قيس بن طلق عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم«لا تمنع المرأة زوجها حاجته وإن كان على ظهر قتب، وإن كانت على ظهر قتب».

وعنه أيضاً قال: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّمرجل، فقال: الرجل منّا تكون له الحاجة إلى امرأته فقال: «ليس لها أن تمنعه. وإن كانت على رأس تنور».

وعنه أيضاً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «إن دعا الرجل زوجته فلتأته، وإن كانت على التنُّور».
وعن حصين بن محصن عن عمّةٍ له أتت النبي صلى الله عليه وسلّمفي حاجةٍ لها، ففرغت من حاجتها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أذات زوج أنت؟» قالت: نعم. قال: «فكيف أنت له»؟ قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه، قال: «انظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك».

وعن قيس بن سعد بن عبادة قال: أتيت الحيرة، فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم ورهبانهم، فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلّمقلت: يا رسول الله، أنت أحق أن نسجد لك، فإني رأيتهم يسجدون لرهبانهم وأساقفتهم. فقال: «لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها».

وعن معاذ بن جبل ـــ رضي الله عنه ـــ أنه لما رجع من اليمن قال: يا رسول الله، رأيت رجالاً باليمن يسجد بعضهم لبعض، أفلا نسجد لك؟ قال: «لو كنت آمراً بشراً أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها».

وعن فضال بن جبير قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «لو جاز لأحد أن يسجد لأحد من دون الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها».

وعن أنس بن مالك ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها، والذي نفسي بيده، لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تنبجس بالقيح، والصديد، ثم استقبلته تلحسه ما أدت حقه».

وعن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان في نفر من المهاجرين والأنصار، فجاء بعير، فسجد له، فقال أصحابه: يا رسول الله، تسجد لك البهائم والشجر، فنحن أحق أن نسجد لك، فقال: «اعبدوا ربكم، وأكرموا أخاكم، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولو أمرها أن تنقل من جبل أصفر إلى جبل أسود، ومن جبل أسود إلى جبل أصفر، كان ينبغي لها أن تفعل».

(وعن أبي عبد الله الشامي) عن تميم الداري ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «حق الزوج على زوجته أن تطيع أمره، وأن تبر قسمه، ولا تهجر فراشه، ولا تخرج إلا بإذنه، ولا تدخل عليه من يكره».

وعن ابن عمر قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلّمفقالت: يا رسول الله، ما حقُ الزوج على الزوجة؟ قال: «لا تتصدّق من بيته بشيء إلا بإذنه، فإن فعلت، كان له الأجر، وعليها الوزر»، قالت: يا رسول الله، ما حق الزوج على الزوجة؟ قال: «لا تصوم يوماً إلا بإذنه، فإن فعلت لعنتها ملائكة الله، وملائكة الرحمة، وملائكة الغضب، حتى تفيء أو ترجع».

وقد روي هذا الحديث من طريق ابن عباس أيضاً، عن عطاء عن ابن عباس قال: سألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلّمقالت: ما حق الرجل على المرأة قال: «لا تمنعه نفسها، وإن كانت على رأس قتب»، قالت: وما حق الرجل على امرأته؟» قال: «لا تصوم يوماً تطوعاً إلا بإذنه، فإن فعلت أثمت ولم يتقبل منها»، قالت: وما حق الرجل على امرأته؟ قال: «لا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن فعلت لعنتها ملائكة الرحمة، وملائكة الغضب حتى تتوب وترجع»، قالت: لا جرم، والله لا يملك على أمري رجل أبداً.

وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «نساؤكم أهل الجنة، الودود، الولود، التي إذا أذت أو أُوذيت، أتت زوجها حتى تضع يدها في كفه فتقول: لا أذوق غمضاً حتى ترضى».

وعن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: «يا معشر النساء، لو تعلمن بحق أزواجكن عليكن، لجعْلتُ المرأة منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بحرّ وجهها».

وعن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: قالت ابنة سعيد بن المسيب: ما كنا نكلِّم أزواجنا إلا كما تكلمون أمراءكم.
وعنه أيضاً قال: قالت امرأة سعيد بن المسيِّب: ما كنا نكلم أزواجنا إلا كما تكلمون أمراءكم، أصلحك الله، عافاك الله.

فصل (في أنّ المرأة كالمملوك للزوج)

وينبغي للمرأة أن تعرف أنها كالمملوك للزوج، فلا تتصرف في نفسها ولا في ماله إلا بإذنه، وتقدم حقّه على حقّ نفسها، وحقوق أقاربها. وتكون مستعدة لتمتعه بها بجميع أسباب النظافة، ولا تفتخر عليه بجمالها، ولا تعيبه بقبيح إن كان فيه.

قال الأصمعي: دخلت البادية فإذا امرأة حسناء لها رجل قبيح، فقلت لها: كيف ترضين لنفسك أن تكوني تحت مثله؟ فقالت: لعله أحسن فيما بينه وبين خالقه، فجعلني ثوابه، ولعلي أسأت، فجعله عقوبتي.

وينبغي للمرأة أن تصبر على أذى الزوج كما يصبر المملوك، وقد رُوِّيْنا أن عبد الملك بن مروان وصفت له جارية اجتمعت فيها مناقب، فلما حضرت سألها عن حالها، فقالت: إني لا أنس نفسي أني لك مملوكة. فقال: هذه المنقبة تساوي جميع الثمن.

فصل (في بيان حقّ الزوج ووصايا الوالدين)

وينبغي لأبوي المرأة خصوصاً الأم أن تعرِّفها حق الزوج، وتبالغ في وصيتها، عن عمرو بن سعيد قال: كان في عليّ شدّة على فاطمة ـــ سلام الله عليهما ـــ فقالت: والله لأشكونك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فانطلق عليّ، فقام حيث يسمع كلامها، فشكت غلظ عليّ عليها، وشدته، فقال: يا بنيّة استمعي واسمعي واعقلي، فإنه لا امرأة لا تأتي هوى زوجها، وهو ساكت، قال عليّ: فرجعت، فقال: (والله لا آتي شيئاً تكرهينه أبداً، فقالت: والله لا آتي شيئاً تكرهه أبداً).
قال القرشي: وحدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا عبد الله بن بكر السهمي قال: حدثني بشر أبو نصر أن أسماء بن خارجة زوّج ابنته، فلما أراد أن يهديها إلى زوجها، أتاها فقال: يا بنية، إنّ النساء أحق بأدبك مني، ولا بد لي من تأديبك، كوني لزوجك أمة يكن لك عبداً، ولا تدني منه فيملّك، ولا تباعدي منه فتثقلي عليه، ويثقل عليك، وكوني كما قلت لأمك:

خُذي العفوَ منّي تَسْتديمي مودَّتي

ولا تنطقي في سورتي حين أغضبُ

فإنّي رأيتُ الحبَّ في القلبِ والأذى

إذا اجتمعا، لم يلبث الحبّ يذهبُ

قال القرشي: وحدثني إبراهيم بن سعيد قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: ثنا غسان قال: ثنا سعيد بن يزيد، أن أبا الأسود الدؤلي زوّج ابنه له، فأتته الجارية فقالت: يا أبت إني لم أن أحب أن أفارقك، فأما إذ زوجتني فأوصني. قال: إنك لن تنالي ما عنده إلا باللطف، واعلمي أنَّ أَطْيب الطيب الماء.

وعن أبي عبيدة قال: زوَّج رجل من العرب أربع بنات له، فزار أولاهن فقال: كيف ترين بعلك يا بنيّة؟ فقالت: السهل بأرض محل، إن سألت أعطى، وإن سكت ابتدأ من غير مَنّ ولا أذى. فقال: أي بنية، رزقته بجدّك لا بكدّك.

ثم زار الثانية، فقال: أي بعل بعلك؟ فقالت: جبار عنيد، من الخيرات بعيد، لا توقد له نار، ولا يؤمن له جار. فقال: أي بنيّة، صبَّتْ عليك بليَّة، فليكن الصبر منك سجيّة حتى تأتيك المنيّة.

ثم زار الثالثة فقال: كيف زوجك؟ فقالت: ذو خلق نزق، وشر غلق، يجود لي في الغنى، ويحرمني إذا افتقر. فقال: أي بنية، تذمّين وتحمدين، وكذا الدهر يكون حين وحين، ويحمل الغث والثمين.

ثم زار الرابعة فقال: أي بعل بعلك؟ فقالت: ذو خلق جميل، ورأي أصيل، مقبل على أهله، متكرم في رحله. فقال: أي بنية، رزقتيه ماجداً، فامنحيه ودّك، وألطفيه جهدك.

وعن عبد الملك بن عُمَيْر قال: لما زوّج عوف بن محلِّم الشيباني ابنته أم إياس بن الحارث بن عمرو الكندي، فجهزت، وحضرت لتحمل إليه، دخلت عليها أمها أمامة لتوصيها فقالت: يا بنية، إنَّ الوصية لو تركت لفضل في الأدب أو مكرمة في الحسب لتركت ذلك منك، ولزويتها عنك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل، أي بنيّة، لو استغنت المرأة عن زوجها بغنى أبيها، وشدّة حاجتها إليه، لكنت أغنى الناس عنه، إلا أنهنّ خُلقن للرجال، كما لهن خُلق الرجال.

أي بنيّة، إنك قد فارقت الجوّ الذي منه خرجت، والعش الذي فيه درجت، إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، أصبح بملكه عليك مليكاً، فكوني له أمة يكن لك عبداً.

احفظي له خصالاً عشراً، تكن لك دركاً وذكراً.

أما الأولى، والثانية: فالصحبة له بالقناعة، والمعاشرة له بحسن السمع والطاعة، فإنّ في القناعة راحة القلب، وفي حسن السمع والطاعة رضى الرب.

وأمّا الثالثة والرابعة: فالتفقد لموضع أنفه، والتعاهد لموضع عينه، فلا تقع عينه منك على شيء قبيح، ولا يشمّ أنفه منك إلا أطيب ريح، وإن الكحل أحسن الحسن الموجود، والماء أطيب المفقود.

وأما الخامسة والسادسة: فالتعاهد لموضع طعامه، والتفقّد له حين منامه، فإنَّ حرارة الجوع ملهبة، وإنّ تنغيص النوم مغضبة.
وأما السابعة والثامنة: فالإرعاء على حشمه وعياله، والاحتفاظ بماله، فإنَّ أصل الاحتفاظ بالمال حسن التقدير، والإرعاء على الحشم والعيال حسن التدبير.

وأما التاسعة والعاشرة: فلا تفشي له سراً، ولا تعصي له في حال أمراً، فإنك إنْ أفشيت سره، لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره، ثم اتقي يا بنيّة الفرح لديه، إذا كان ترحاً، والاكتئاب إذا كان فرحاً، فإنَّ الخصلة الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، وكوني أشدّ ما يكون لك إكراماً، أشد من تكونين له إعظاماً، وأشدّ ما تكونين له موافقة، وأطول ما تكونين له مرافقة، واعلمي يا بنية، أنك لن تصلي إلى ما تحبين منه حتى تؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك، فيما أحببت وكرهت، والله يخيِّر لك ويحفظك. فحملت إليه، فعظم موقفها منه، فولدت له الملوك الذي ملكوا بعده.

قال المصنّف رحمه الله: وقد رويت لنا هذه الحكاية مبسوطة، فقد روى أبو روق الهمداني، عن أبي حاتم السجستاني قال: قالوا: كان ملك من ملوك اليمن يقال له: الحارث بن عمرو الكندي بلغه أنَّ ابنة لعوف الكندي أنها ذات جمال وكمال، فبعث إلى امرأة من قومها يقال لها: عصام.

فقال: إنه بلغني عن بنت عوف جمال وكمال، فاذهبي واعلمي لي عليها. فانطلقت حتى دخلت على أمها، وهي أمامة بنت الحارث، فأخبرتها، ما جاءت له، وإذا أمها كأنها خاذل من الظباء، وحولها بنات لها، كأنهن شوادن الغزلان.

فأرسلت إلى ابنتها فقالت: يا بنية، إنَّ هذه خالتك أتتك لتنظر إلى بعض شأنك، فاخرجي إليها، ولا تستتري عنها بشيء، وناطقيها فيما استنطقتك فيه. فدخلت عليها، ثم خرجت من عندها، وهي تقول: تَركَ الخداعَ مَنْ كشفَ القناعَ، فأرسلتها مثلاً.
فلما جاءت إلى الحارث قال: ما وراءك يا عصام؟ قالت: أيها الملك، صرح المخضي عن الزبد ـــ فأرسلتها مثلاً، ثم قالت: أقول حقاً، وأخبرك صدقاً، لقد رأيت وجهاً كالمرآة المضيئة يزينه شعر حالك، كأذناب الخيل المضفورة إنْ أرسلته خلته سلاسل، وإن مشطته خلته عناقيد كرم جلاها وابل.

لها حاجبان، كأنما خطا بقلم، أو سُوِّدا بحمم، قد تقوسا على مثل عيني الظبية العَبْهرة، التي لم تر قانصاً، ولم يذعرها قسورة ببهتان المتوسم، بينهما أنف كحد السيف المصقول، لم يخنس به قصر، ولم يمعن به طول، حفَّت به وجنتان كالأرجوان في بياض محض كالجمان، شق فيه فم لذيذ الملثم، فيه ثنايا غر، وأسنان كالدر، ذات أشر، ينطق فيه لسان ذو فصاحة وبيان، يحركه عقل وافر، وجواب حاضر، تلتقي دونه شفتان حمروان، كأنهما في لين الزبد يحملان ريقاً كالشهد، نصب ذلك على عنق أبيض، كأنه إبريق فضة.
لها صدر كصدر التمثال، مدت فيه عضدان مدمجتان ممليتان لحماً، مكسوتان شحماً، متصلة بهما ذراعان ما فيهما عظم يمس، ولا عرق يجس عصبتهما، يعقد إن شئت منهما الأنامل، وتركب الفصوص في حفر المفاصل.

نتأ في ذلك الصدر ثديان يخرقان عليها ثيابها، ويمنعانها أن تقلد سخاباً، أسفل من ذلك بطن، طوي كطي القباطي المدمجة كسي عكناً كالقراطيس المدرجة، كمدهن العاج.

لها ظهر فيه كالجدول، ينتهي إلى خصر لولا رحمة ربك لانبتر لها كفل، يكاد يقعدها إذا نهضت، وينهضها إذا قعدت، كأنه حقف من الرمل، لبده سقوط الطل، أسفل من ذلك فخذان لفاوان، كأنما نصبا على نضد جمان، متصلة بهما ساقان بيضاوان خدلجتان حمل ذلك كله قدمان كحذو اللسان، تبارك الله، مع لطافتهما كيف يطيقان حمل ما فوقهما.

وأما ما سوى ذلك، فإني تركت نعته ووصفه لوقته، إلا أنه أكمل وأحسن مما وصف في شعر أو قول.

قال: فبعث إلى أبيها، فخطبها إليه، فزوّجها إياه، فبعث إليها من الصداق بمثل مهور نساء الملوك مائة ألف درهم، وألف من الإبل، فلما حان أن تحمل إليه، دخلت إليها أمها لتوصيها، فقالت: أي بنية، إنَّ الوصية لو تركت لعقل أو أدب أو مكرمة في حسب، لتركت ذلك منك، ولزويته عنك.

ولكن الوصيّة تذكرة للعاقل، ومنبهة للغافل. أي بنيّة، إنه لو استغنت المرأة عن زوجها بغنى أبيها، وشدّة حاجتها إليه، لكنت أغنى الناس عن الزوج، ولكن للرجال خُلِق النساء، كما لهن خُلِق الرجال.

أي بنيّة: إنك فارقت الجو الذي منه خرجت، والوكر الذي فيه درجت، إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك ملكاً، فكوني له أمة يكن لك عبداً.

واحفظي عني خصالاً عشراً تكن لك دركاً وذخراً:

فأما الأولى والثانية: فالمعاشرة له بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة، فإن في القناعة راحة القلب، وحسن السمع والطاعة رأفة الرب.
وأما الثالثة والرابعة: فلا تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشم أنفه منك إلا أطيب ريح، واعلمي أي بنية، أن الماء أطيب الطيب المفقود، وأن الكحل أحسن الحسن الموجود.

وأما الخامسة والسادسة: فالتعهد لوقت طعامه، والهدوء عند منامه، فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغص النوم مغضبة.
وأما السابعة والثامنة: فالاحتفاظ بماله والرعاية على حشمه وعياله، فإنّ الاحتفاظ بالمال من حسن التقدير، والرعاية على الحشم والعيال من حسن التدبير.

وأما التاسعة والعاشرة: فلا تفشي له سراً، ولا تعصي له أمراً، فإنك إن أفشيت سره، لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره، واتقي الفرح لديه إن كان ترحاً، والاكتئاب إذا كان فرحاً، فإن الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، واعلمي أنك لن تصلي إلى ذلك منه حتى تؤثري هواه على هواك، ورضاه على رضاك، فيما أحببت وكرهت، والله يخير لك بخيرته، ويصنع لك برحمته.
فلما حملت إليه غلبت على أمره، وولدت له سبعة أولاد ملكوا بعده.

فصل (في السعي لطلب مرضاة الزوج)

وينبغي للمرأة العاقلة إذا وجدت زوجاً صالحاً يلائمها أن تجتهد في مرضاته، وتجتنب كل ما يؤذيه، فإنها متى آذته، أو تعرضت لما يكرهه أوجب ذلك ملالته، وبقي ذلك في نفسه، فربما وجد فرصته فتركها أو آثر غيرها، فإنه قد يجد، وقد لا تجد هي، ومعلوم أن الملل للمستحسن قد يقع، فكيف للمكروه؟

الباب الخامس والستون في ثوابِ طَاعةِ الزوج

عن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلّمفقالت: يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك، ما من امرأة تسمع مقالتي إلى يوم القيامة إلا سرّها ذلك، الله رب الرجال والنساء، وآدم أبو الرجال والنساء، وحواء أم الرجال والنساء، وأنت رسول الله إلى الرجال والنساء، كتب الله الجهاد على الرجال، فإن استشهدوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون، وإن ماتوا، وقع أجرهم على الله، وإن رجعوا آجرهم الله، ونحن النساء نقوم على المرضى ونداوي الجرحى، فما لنا من الآخرة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «يا وافدة النساء، أبلغي من لقيت من النساء، أن طاعة الزوج، واعترافها بحقه، يعدل ذلك كله».

وعنه أيضاً قال: جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلّمامرأةٌ، فقالت: إني وافدة النساء إليك، والله ما من امرأة سمعت بمخرجي أو لم تسمع، إلا وهي تهوى مقالتي، الله رب الرجال والنساء، وآدم أبو الرجال والنساء، وأنت رسول الله إلى الرجال والنساء، كتب الله الجهاد على الرجال، فإن أصابوا أُجروا، وإن ماتوا وقع أجرهم على الله عز وجل، وإن استشهدوا كانوا أحياء عند ربهم يُرزقون، ونحن نقوم عليهم، ونحْتَش لدوابهم، وليس لنا شيء من ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «فأبلغي من لقيت من النساء، أنَّ طاعة الزوج واعترافها بحقه، يعدل ذلك كله، وقليل منكنّ مَن يفعل ذلك».

وعن أمّ سلمة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أيما امرأة ماتت، وزوجها عنها راضٍ، دخلت الجنة».
وعن أنس بن مالك ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إذا صلّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها، وحفظت فرجها، دخلت الجنة».

الباب السادس والستون في ذكر إثمِ المخالَفة لزوجها

عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «إذا دعا أحدكم امرأته إلى فراشه فلم تأته لعنتها الملائكة حتى تصبح». وفي لفظ: «فبات وهو عليها ساخط، لعنتها الملائكة حتى تصبح» أخرجه البخاري ومسلم في «صحيحهما».
وعن أبي حازم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «والذي نفسي بيده، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها، حتى يرضى عنها».

وعن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تجبه لعنتها الملائكة».
وعن زرارة بن أبي أوفى، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «لا تهجر امرأة فراش زوجها إلا لعنتها ملائكة الله عز وجل».

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة».
وعنه ـــ أن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «لا تهجر امرأة فراش زوجها إلا لعنتها ملائكة الله عز وجل.

وعن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة، ولا يرفع لهم إلى السماء حسنة، العبد الآبق حتى يرجع إلى مواليه، فيضع يده في أيديهم، والمرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى، والسكران حتى يصحو».
وعن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه قال: سمعت أبا هريرة قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلّمالمسوفة، والمفلسة، فأما المسوفة فالتي إذا أرادها زوجها، قالت: سوف وسوف، والآن».

قال المصنف: قلت: كذا روي لنا في هذا الحديث المفلسة، ولم يذكر تفسيره، وقد رواه ابن مِقْسَم في كتاب ـــ «الأنوار»، من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه لعن المسوفة، والمفلسة، فأما المسوفة: فهي التي إذا أرادها زوجها قالت: الآن، وسوف، وأما المفلِّسة، فالتي إذا أرادها قالت: إني حائض، وليست بحائض.

قال المصنف رحمه الله ـــ قلت: فعلى هذا يكون المعنى أنها تقدم ذكر الحيض قبل مجيئه، كما تقدم المفلس.
وقد روى ابن قُتيبة هذا الحديث، وقال: لعن المفسلة، قال: وقال غير واحد: المفسلة التي إذا أرادها زوجها أن يأتيها قالت: إني حائض، وأصل الحرف من الفسولة، وهي الفتور في الأمر والكسل، فعلى هذا تكون المفسلة تصحيفاً من الرواة.
وعن معاذ بن جبل ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا، إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو دخيل عندك، يوشك أن يفارقك إلينا».

وعن عبد الله بن عمر ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها، ولا تستغني به».

وعن الحسن قال: حدثني من سمع النبي صلى الله عليه وسلّميقول: «أول ما تُسأل عنه المرأة يوم القيامة، عن صلاتها، وعن بعلها كيف فعلت إليه».

وعن علي بن زيد عن الحسن قال: «أيما امرأة قالت لزوجها: ما رأيت منك خيراً قط، فقد حبط عملها».

فصل (في وجوب طاعة الزوج)

وعلى ما ذكرنا من وجوب طاعة الزوج، فلا يجوز للمرأة أن تطيعه فيما لا يحل مثل أن يطلب منها الوطء في زمان الحيض أو في المحل المكروه، أو في نهار رمضان، أو غير ذلك من المعاصي، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى.

وعن أبي أمامة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّمتقود ولدين لها، وتحمل آخر، قال: فما أعلمها سألته شيئاً إلا أعطاها، فلما ذهبت أتبعها بصره، فقال: «حاملات، والدات رحيمات، لولا ما يأتين إلى أزواجهن، دخلت مصلياتُهن الجنة».
وعنه أيضاً، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمرأى امرأة ومعها أولادها قد حملت واحداً، والبقية يمشون خلفها، فقال: «والدات حاملات، رحيمات، لولا ما يأتين إلى أزواجهن، دخل مصلياتهن الجنة».

فصل (في الغيرة عند المرأة)

وقد تخرج الغيرة بالمرأة إلى معصية الزوج، فيجب على المؤمنة أن تحمل نفسها على الصبر، إذا كان لها ضرّة.
عن علقمة عن عبد الله قال: بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلّم إذ أقبلت امرأة عريانة، فقام إليها رجل فاعتنقها فواراها، وتغيّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال الرجل: يا رسول الله، إني زوجها. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم «إنَّ الله كتب الغيرة على النساء، والجهاد على الرجال، فمن صبر منهن احتساباً كان لها أجر شهيد».

الباب السابع والستون في جوازِ ضَرْب الرجل زوجته

إذا نشزت المرأة على الرجل أو خالفته فيما هو حقّ له، فلتؤدَّب بإذن الله عز وجل، وهو أن يعظها فإنْ أصرَّت على الخلاف هجرها في المضجع، فإن أصرّت ضربها ضرباً غير مبرّح، سوطاً أو سوطين، أو يزيد عدداً قليلاً.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم «لا يُضرب فوق عشرة أسواط، إلا في حدَ من حدود الله عز وجل».

وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه ما ضرب امرأة من نسائه قط.

وليعلم الإنسان أن من لا ينفع فيه الوعيد والتهديد لا يردعه السوط، وربما كان اللطف أنجح من الضرب، فإنّ الضرب يزيد قلب المعرض إعراضاً.

وفي الحديث «ألا يستحي أحدكم أن يجلد امرأته جَلْدَ العبد، ثم يضاجعها؟» فاللطف أولى إذا نفع.

وعن محمد بن إبراهيم الأنطاكي قال: حدثنا محمد بن عيسى، قال: أراد شعيب بن حرب أن يتزوج امرأة فقال لها: إني سيّىء الخلق. فقالت: أسوأ منك خُلُقاً من أحوجك أنْ تكون سيىء الخُلُق، فقال: إذاً أنت امرأتي.

الباب الثامن والستون في ذكْرِ سؤال المرأة عن بيتِ زَوجها

عن نافع عن ابن عمر ـــ رضي الله عنهما ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «كلكم راع، وكلكم مسؤول، عن رعيته، فالأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته».

الباب التاسع والستون في ذكر مَا يحِلُّ لها تناوله من ماله

عن سعد بن أبي وقاص قال: لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلّمالنساء قامت إليه امرأة جليلة، كأنها من نساء مضر، فقالت: يا رسول الله، إنّا كَلٌّ على آبائنا وأزواجنا، فما يحل لنا من أموالهم؟ فقال: «الرطب أن تأكلنه وتهدينه».

وعن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: جاءت هند بنت عتبة، فقالت: يا رسول الله، إنّ أبا سفيان رجل مِسِّيك، فهل عليّ من حرج أن أطعم عيالي من الذي له؟ فقال: «لا، (إلا) بالمعروف».

وعن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: جاءت هند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّمفقالت: يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض أهل خباءٍ، أحب إليّ من أن يذلهم الله من أهل خبائك، وقد أصبحت، وما على ظهر الأرض أهل خباءٍ أحبّ إليّ أن يعزهم الله من أهل خبائك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأيضاً والذي نفسي بيده، قالت: يا رسول الله إنَّ أبا سفيان رجل ممسك، فهل عليّ حرج أن أنفق على عياله من ماله من غير إذنه؟ فقال: «لا حرج عليك أن تنفقي عليهم بالمعروفة».

فصل (في أخذ المرأة من مال زوجها)

واعلم أن فصل الخطاب في هذا الباب، أنه متى كان الرجل يفرض للمرأة ما يجب عليه لها من النفقة، لم يجز لها أن تأخذ من ماله شيئاً، إلا عن أمره، إلا أن تعلم أنه إذا اطلع على ذلك لم يكرهه، وكذلك إن تصدقت بما تعلم أنه يأذن فيه جاز.

فأما إذا علمت أنه يكره ذلك لم يجز لها، وإنما يجوز أن تأخذ مقدار نفقتها بالعدل إذا كان يمنعها ذلك.

الباب السبعون في نَهْي المرأة أنْ تتسخَّط نفقة الرجل

عن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «رأيت النار، ورأيت أكثر أهلها النساء»، قالوا: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: «بكفرهن»، قالوا: أيكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئاً، قالت: والله ما رأيت منك خيراً قط».

وعن ابن أبي حسين سمع شهراً قال: سمعت أسماء بنت يزيد تقول: مرّ بنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونحن في نسوة، فسلّم علينا، وقال: «إياكن وكفر المنعمين»، فقلنا: يا رسول الله، وما كفر المنعمين؟ قال: «لعل إحداكن تطول أيمتها بين أبويها وتعنس، فيرزقها الله زوجاً، ويرزقها منه مالاً وولداً، فتغضب الغضبة، فتقول: ما رأيت منه يوم خير قط» وقال مرَّة: «خيراً قط».

وعن عبد الحميد، قال: حدثني شهر، قال: سمعت أسماء بنت يزيد الأنصارية تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلّممرّ في المسجد يوماً، وعصبة من النساء قعود، فألوى بيده إليهن بالسلام، وقال: «إياكن وكفر المنعمين، إياكن وكفر المنعمين»، قالت إحداهن: يا رسول الله، أعوذ بالله يا نبي الله من كفران نِعَمِ اللَّه، قال: «بلى، إنَّ إحداكن تطول أيمتها، ويطول تعنيسها، ثم يزوجها الله تعالى البعل، ويفيدها الولد، وقرّة العين، ثم تغضب الغضبة، فتقسم بالله ما رأيت منه ساعةً خيراً قط، فذلك من كفران المنعمين».
وقال المصنف ـــ رحمه الله ـــ: وقد ذكرنا في «باب إثم المخالفة» عن الحسن «أن المرأة إذا قالت لزوجها: ما رأيت منك خيراً قط أُحبط عملها».

الباب الحادي والسبعون في ذكْر ما تتصنَّع به المرأة من قشر الوجه، والوَشْم، وغير ذلك

عن كريمة بنت همّام قالت: سمعت عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ تقول: «يا معشر النساء إياكن وقشر الوجه، قالت: فسألتها عن الخضاب، قالت: لا بأس بالخضاب، ولكني أكرهه؛ لأن حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يكره ريحه».

وعنها ـــ رضي الله عنها ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لعن الصالقة، والحالقة، والخارقة، والقاشرة».
وعن آمنة بنت عبد الله أنها شهدت عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم«يلعن القاشرة، والمقشورة، الواشمة، والمستوشمة، والواصلة والموصّلة».

وعن الحارث عن عليّ ـــ عليه السلام ـــ أنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلّمالواشمة، والمستوشمة، وكان ينهى عن النوح».
وعن قبيصة بن جابر الأسدي، قال: انطلقت مع عجوز من بني أسد إلى ابن مسعود ـــ رضي الله عنه ـــ فقال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميلعن المتنمصات والمتفلجات، والمستوشمات اللائي يغيّرن خلق الله».

وعن علقمة عن عبد الله ـــ رضي الله عنه ـــ قال: «لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفِّلجات للحسن، المغيّرات خلق الله». قال: فبلغ ذلك امرأة في البيت يقال لها أم يعقوب، فجاءت إليه، فقالت: بلغني أنك قلت، كيت وكيت، فقال: ما لي لا ألعن من لعن رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلّم وهو في كتاب الله عز وجل، فقالت: إني لأقرأ ما بين لوحيه فما وجدته، فقال: لئن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أما قرأت: {وَمَآ ءاتَكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} (الحشر: 7) قالت: بلى. قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلّمنهى عنه، قالت: إني لأظن أهلك يفعلون ذلك، قال: اذهبي فانظري، فنظرت، فلم تر من حاجتها شيئاً، فجاءت فقالت: ما رأيت شيئاً، قال: لو كانت كذلك لم تجامعنا».

وقال: سمعته من عبد الرحمن بن عابس، يحدثه عن أم يعقوب سمعته منها، واخترت حديث منصور.

قال المصنف ـــ رحمه الله ـــ: في هذه الأحاديث كلمات غريبة فلنفسرها؛ أما القاشرة: فهي التي تقشر وجهها بالدواء، ليصفو لونها.
وأما الصالقة: فهي التي ترفع صوتها بالصراخ عند المصايب. والحالقة: هي التي تحلق شعرها عند النوائب.

أما الخارقة: فأظنّها التي تخرق ثيابها للمصيبة.

والوشم: أن يغرز كف المرأة، أو معصمها بإبرة، ثم يحشى بكحل فيخضر.

والواصلة: التي تصل شعرها بشعر.

والنامصة: التي تنتف الشعر من الوجه.

والمتفلجات: من الفلج، والفلج فُرْجَةٌ بين الثنايا والرباعيات، تفعل ذلك كله للتحسن.m

وظاهر هذه الأحاديث تحريم هذه الأشياء التي قد نُهي عنها على كل حال، وقد أخذ بإطلاق ذلك ابن مسعود على ما روّينا.
ويحتمل أن يحمل ذلك على أحد ثلاثة أشياء:

إما أن يكون ذلك قد كان شعار الفاجرات، فيكنّ المقصودات به، أو أن يكون مفعولاً للتدليس على الرجل فهذا لا يجوز، أو يكون يتضمن تغيير خلق الله تعالى، كالوشم الذي يؤذي اليد ويؤلمها، ولا يكاد يستحسن، وربما أثر القشر في الجلد تحسناً في العاجل، ثم يتأذى به الجلد فيما بعد.

وأما الأدوية التي تزيل الكلف، وتحسن الوجه للزوج، فلا أرى بها بأساً، وكذلك أخذ الشعر من الوجه للتحسن للزوج، ويكون حديث النامصة محمولاً على أحد الوجهين الأولين.

قال شيخنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي: إذا أخذت المرأة الشعر من وجهها لأجل زوجها بعد رؤيته إياها، فلا بأس به، وإنما يذم إذا فعلته قبل أن يراها، لأن فيه تدليساً.

عن أم جليلة قالت: شهدتُ امرأة سألت عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ ما تقولين في قشر الوجه، قالت: إن كان شيء ولدت وهي بها، فلا يحلّ لها، ولا آمرها، ولا أنهاها، وإن كان شيء حدث، فلا بأس، تعمد إلى ديباجة كساها الله إياها فتنحيها من وجهها، لا آمرها ولا أنهاها.
قال مسلم: وحدثتنا تحية الراسبية، قالت: حدثتني أم نصرة، قالت: قالت عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ: «لو كان في وجه بنات أخي لأخرجته ولو بشفرة».

وعن بكرة بنت عقبة أنها دخلت على عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ فسألتها عن الحنّاء، فقالت: «شجرة طيبة وماء طهور، وسألتها عن الحفاف، فقالت لها: إن كان لك زوج فاستطعت أن تنتزعي مقلتيك فتصنعيها أحسن مما هما فافعلي».

الباب الثاني والسبعون في النهْي عن وصْلِ الشَّعَر

عن أبي سعيد المقبري عن أبيه قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان، وهو على المنبر يقول ـــ وفي يده قصة من شعر ـــ: ما بال نسائكم يجعلن في رؤوسهن مثل هذا؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «ما من امرأة تجعل في رأسها شعراً من شعر غيرها، إلا كان زُوراً».

وعن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ أنها جاءتها امرأة فقالت: ابنة لي سقط شعرها، فنجعل على رأسها شيئاً نجمِّلها به؟ فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميسأل عن مثل ما سألت عنه، فقال: «لعن الله الواصلة والمستوصلة».

وعن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لعن الواصلة والمستوصلة، والمتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال».

وعن عبد الله قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلّمالواشمة، والمستوشمة، والواصلة والمستوصلة، والمحلل، والمحلل له، وآكل الربا، وموكله» رواه أحمد.

وعن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ أن امرأة أتتها، فقالت: إن ابنتي عروس مرضت، وتمزق شعرها، أفأصل فيه؟ فقالت: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم الواصلة والمستوصلة، أو قال: المواصلة» رواه أحمد.

وعن أسماء بنت أبي بكر ـــ رضي الله عنها ـــ أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلّمفقالت: إن لي ابنة عروساً، وإنها مرضت فتمزّق شعرها، وإني زوجتها، أفأصله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم «لعن الله الواصلة والمستوصلة».

وعن ابن عمر ـــ رضي الله عنهما ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم«لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة».

وعن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: «لُعنت الواصلة والمستوصلة، والمتنمِّصة، والواشمة، والمستوشمة من غير داء».

قال أبو عبيد: وقد رخصت الفقهاء في القرامل، وكل شيء وصل به الشعر ما لم يكن الوصل شعراً.

الباب الثالث والسبعون في استحبابِ الخضاب بالحنَّاء للنساء

عن بهية قالت: سمعت عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ تقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّميكره أن يرى المرأة ليس بيدها أثر الحنّاء والخضاب».

عن ابن ضميرة بن سعد عن جدته عن امرأة من نسائهم قال: وقد كانت صلَّت إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلّمقالت: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّمفقال: «اختضبي، تترك إحداكن الخضاب حتى تكون يدها كيد الرجل»، فقالت: فما تركت الخضاب حتى لقيت الله، وإن كانت لتختضب، وإنها لابنة ثمانين.

عن عائشة أم المؤمنين ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: مدّت امرأة من وراء الستر بيَدها كتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلّميده، وقال: «ما أدري أيَد رجل أو يد امرأة؟» فقالت: بل يد امرأة، فقال: «لو كنت امرأة غيّرت أظفارك بالحناء».

وعنها ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «إني لأبغض المرأة (أن تكون) سلتاء مرهاء، لا يكون في عينيها كحل، ولا في يدها خضاب».

وقالت عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّمأن نتمشط بالغسل، وأن نختضب الغمس، ولا نقحل أيدينا مثل أيدي الرجال». السلتاء: التي لا تختضب، والمرهاء: التي لا تكتحل، والغمس: خضب اليد كلها.

وعن أيوب قال: دخلت على عائشة بنت سعد، فقالت: «والله ما بقي على ظهر الأرض ابنة مهاجري، ولا مهاجرة غيري، أبي الذي جمع له رسول الله صلى الله عليه وسلّمأبويه يوم أُحد، قالت: ورأيت نساء من أزواج النبي صلى الله عليه وسلّمعليهن المعصفرات، وما رأيت عليهن ثوباً أبيض قط، وكنت أدخل عليهن، فتقعدني إحداهن في حجرها، فتدعو لي بالبركة، وعليّ حليّ، قال أيوب: قلت لها: ما كان حليك؟ قالت: قلائد الذهب».

قال الأصمعي: رأيت في البادية امرأة عليها قميص أحمر، وهي مختضبة، وبيدها سبحة، فقلت لها: ما أبعد هذا من هذا فقالت:
وللَّهِ منّي جانبٌ لا أضيّعهُ

وللَّهِ منّي، والبطالة جانبُ

الباب الرابع والسبعون في ذكر أدبِ المرأة عند الجِمَاع

عن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «إذا أراد الرجل أن يجامع أهله اتخذت له خرقة، فإذا فرغ ناولته، فمسح عنه الأذى، ومسحت، ثم صلّيا في ثوبهما ذلك».

وعن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: «ينبغي للمرأة إذا كانت عاقلة أن تتخذ خرقة، فإذا جامعها زوجها ناولته، فيمسح عنه، ثم تمسح عنها، فيصليان في ثوبهما ذلك، ما لم تصبه جنابة».

قال المصنف رحمه الله ـــ قُلْتُ: هذا أثبت من المرفوع.

فصل (في معرفة المرأة مقصود الرجل)

وينبغي للمرأة العاقلة أن تتلمّح مقصود الرجل فتتبعه، ومتى كان الرجل من أهل الصيانة والتديّن، وشرف النفس، أحب سكوت المرأة عند الجماع، واستعمالها الوقار.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه كان إذا قرُب من المرأة، قال: «عليكن الوقار». أو كما قال.

ومن الرجال من يحب كلام المرأة حينئذ، ويميل إلى تهالكها عند الجماع، ويقول هؤلاء: إذا باشرنا امرأة ساكتة، فكأننا نطأ خشبة منقورة منجورة.

قالوا: وإنما يطيب الأكل مع المنادمين المتكلمين، ويجيب الأولون عن هذا، فيقولون: إنما يقضي الرجل بالوطء حاجة نفسه، فإذا تهالكت المرأة عليه كان كأنما يقضي حاجتها، وإنما يعز عند النفوس الممتنع لا المبذول.

الباب الخامس والسبعون في ستر الفرج عن الزوج

عن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: «ما نظرت إلى فَرْج رسول الله صلى الله عليه وسلّمقط» أو «ما رأيت فَرْج النبي صلى الله عليه وسلّمقط».

وقد روي عن عامر بن الظرب، وكان من حكماء العرب، أنه قال لامرأته: مري ابنتك أن تكثر استعمال الماء، فلا طيب أطيب من الماء، ولا تكثر مضاجعة زوجها، فإن الجسد إذا ملّ، ملّ القلب وَلْتَخَبِّىءْ سَوْأَتها منه.

قال المصنف ـــ رحمه الله ـــ قلت: وهذا عين الصواب، فإنَّ الفَرْج غير مستحسن الصورة من الزوجين، فالاطلاع على بعض العيوب يقدح في المحبة، فينبغي لهما جميعاً، الحذر من ذلك، ولهذا ترى الأكابر ينامون منفردين، لعلمهم أن النوم يتجدد فيه ما لا يصلح.

الباب السادس والسبعون في أجر المرأة إذا حملت ووضعت

عن ابن عمر ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: أراه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمـ قال: «إن للمرأة في حملها إلى وضعها إلى فصالها من الأجر، كالمتشحط في سبيل الله، فإن هلكت فيما بين ذلك، فلها أجر الشهيد».

وعن ابن عمر أيضاً قال سعيد بن جبير أحسبه قد رفعه، قال: المرأة في حملها إلى وضعها، إلى فصالها، كالمرابط في سبيل الله، فإن ماتت فيما بين ذلك، فلها أجر الشهيد.

الباب السابع والسبعون في ثواب من ماتت نفساء

عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «ما تعدون الشهيد فيكم؟»، قالوا: الذي يقاتل فيُقتل في سبيل الله عز وجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إن شهداء أمتي إذاً لقليلٌ، القتيلُ في سبيل الله شهيد، والمَطْعونُ شهيد، والمبطون شهيد، والمرأةُ تموتُ بجُمْع شهيد» ـــ يعني النُّفساء.

وعن عبادة بن الصامت ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «القتل في سبيل الله شهادة، والبطن شهادة، والغرق شهادة، والنفساء شهادة».

وعن راشد بن حبيش، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمدَخَلَ على عبادة بن الصامت في مرضه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أتعلمون مَن الشهيد من أمتي؟»، فأرم القوم، فقال عبادة: ساندوني، فأسندوه، فقال: يا رسول الله، الصابر المحتسب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إن شهداء أمتي إذاً لقليل، القتل في سبيل الله ـــ عز وجل ـــ شهادة، والطاعون شهادة، والغرق شهادة، والبطن شهادة، والنفساء يجرها ولدها بسرره إلى الجنة».

الباب الثامن والسبعون في ثوابِ تربية الأولاد

عن ابن عمر ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «مَن سقى ولده شربة ماء في صغره، سقاه الله سبعين شربة من ماء الكوثر يوم القيامة» رواه الحافظ أبو نعيم بإسناده.

وعن أبي أمامة ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت: من رابط في سبيل الله، ومن علَّمِ علماً أجري له مثل عمله، ورجل تصدق بصدقة، فأجرها له ما جرت، ورجل ترك ولداً صالحاً فهو يدعو له».

الباب التاسع والسبعون في ثوابِ تربيةِ البنات، والنفقة عليهّن، وعلى الأخوات

عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن عروة بن الزبير أخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلّمقالت: جاءت امرأة معها ابنتان لها تسألني، فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها، أخذتها، فشقتها باثنتين، بين ابنتيها، ولم تأكل منها شيئاً، ثم قامت فخرجت هي وابنتاها، فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم فَحَدَّثْتُهُ حديثها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من ابتُلِيَ من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار». أخرجه البخاري، ومسلم.

عن أبي اليمان عن شعيب عن جابر بن عبد الله ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من كان له ثلاث بنات يؤويهن ويرحمهن، فقد وجبت له الجنة البتة»، قالوا: يا رسول الله، وإن كانتا اثنتين؟ قال: «وإن كانتا اثنتين؟»، قال: فرأى بعض القوم أن لو قالوا واحدة، لقال: واحدة.

عن أنس بن مالك أن امرأة دخلت على عائشة، ومعها صبيان لها، فأعطتها عائشة ثلاث تمرات، فأعطت كل صبي تمرة، فأكل الصبيان تمرتيهما، ثم نظرا إلى أمهما، فأخذت التمرة، فشقتها نصفين، فأعطت ذا نصفها، وذا نصفها، فدخل النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبرته عائشة، فقال لها: «ما أعجبك من ذلك؟ فإن الله عز وجل قد رحمها برحمتها صبييها».

وعن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «مَن كان له ثلاث بنات فصبر على إيوائهن وضرّائهن وسرّائهن، أدخله الله الجنةَ بفضل رحمته إياهنَّ»، فقال رجل: أو اثنتان يا رسول الله؟ قال: «أو اثنتان»، فقال رجل: أو واحدةٌ يا رسول الله؟ قال: «أو واحدة».

وعن أبي سعيد الخدري ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا يكون لأحد ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، أو أختان، فيتقي الله فيهن، ويحسن إليهن، إلا دخل الجنة».

عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «مَن أنفق على ابنتين، أو أختين، أو ذواتي قرابة يحتسب النفقة عليهما حتى يغنيهما الله من فضله، أو يكفيهما، كانتا له ستراً من النار».

وعن شرحبيل قال: سمعت ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «ما من مسلم تدركه ابنتان، فيحسن صحبتهما إلا أدخلتاه الجنة».

وعن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من ولدت له ابنة فلم يئدها، ولم يُهنْها، ولم يؤثر ولدَهُ عليها ـــ يعني الذكور ـــ أدخله الله عز وجل بها الجنة».

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات، اتقى الله فيهن، وأقام عليهن، كان معي في الجنة هكذا، وأشار بأصابعه الأربع».

وعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «من كانت له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن وسقاهن، وكساهن من جدَتِهِ، كنّ له حجاباً من النار».

وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا تكرهوا البنات، فإنهن المؤنسات الغاليات».

وعن أبي وائل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من كانت له بنت، فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، وأسبغ عليها من نعمة الله عز وجل التي أسبغ عليه، كانت له ستراً وحجاباً من النار».

وعن عقبة بن عامر الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «من كان له ثلاث بنات، فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جدته، كن له حجاباً من النار».

الباب الثمانون في النَّهْي عن تعليقِ التمائم، وما يظنّ أنه يدفع الشر

عن عبد الله أنه دخل على امرأته، وفي عنقها شيء معقود، فجذبه، فقطعه، ثم قال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «إنَّ الرقى والتمائم والتولة شرك»، فقلنا: هذه الرقى والتمائم قد عرفناها فما التولة؟ قال: «شيء يجعله النساء لأزواجهن يتحبَّبن إلى أزواجهن».

وعن أبي عبيدة عن عبد الله ـــ رضي الله عنه ـــ أنه رأى في عنق امرأةٍ له سيراً فيه تمائم، قال: فمدّه مداً شديداً حتى انقطع السير، وقال: إنَّ آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، ثم قال: إن التولة والتمائم والرقى لشرك، فقالت امرأة: إن إحدانا لتشتكي رأسها، فتسترقي فإذا استرقت ظنت أنَّ ذلك قد نفعها. قال عبد الله: ذلك الشيطان إذ يأتي إحداكن، فينخس في رأسها، فإذا استرقت خنس، فإذا لم تسترق لم ينخس، فلو أن إحداكن تدعو بماء، فينضح في وجهها ورأسها، ثم تقول: «بسم الله الرحمن الرحيم، وتقرأ قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، نفعها ذلك إنْ شاء الله تعالى».

وعن زينب امرأة عبد الله قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة، فانتهى إلى الباب، تنحنح وبصق، كراهية أن يهجم منا على أمر يكرهه، قالت: وإنَّه جاء ذات يوم فتنحنح، قالت: وعندي عجوز ترقيني من الحمرة، فأدخلتها تحت السرير، قالت: فدخل، فجلس إلى جنبي، فرأى في عنقي خيطاً، قال: ما هذا الخيط؟ قالت: خيط رقي لي فيه، قالت: فأخذه، فقطه، ثم قال: إنّ آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك». قالت: فقلت له: لِمَ تقول هذا؟ وقد كانت عيني تقذف، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها فكان إذا رقاها سكنت، قال: إنما ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقيتها كفّ عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أذهب البأس ربّ الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً».

وعن عمران بن الحصين «أن النبي صلى الله عليه وسلّمرأى في عضد رجل حلقة من صفر، فقال: ما هذا؟ قال: من الواهنة، فقال: انبذها عنك، فإنها لا تزيدك إلا وهناً، ولو متّ وهي عليك وكّلت إليها».

عن أبي قلابة قال: قطع رسول الله صلى الله عليه وسلّمالتميمة من قلادة الصبي، قال: «وهو الشيء، يحرر في عنق الصبي من العين، وقطعها من عنق الفضل بن عباس».

قال ابن عقيل: لا يجوز التعوذ بالطلسمات والعزائم، وأسماء الكواكب والصور، وما وضع على النجوم من النقوش، إذ كل هذا منهي عنه، وإنما التعوذ بالقرآن.

الباب الحادي والثمانون في العدل بين الأولاد

عن النعمان بن بشير قال: «سَألت أمي أبي بعض المواهبة لي، فوهبها لي، فقالت: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: فأخذ أبي بيدي، وأنا غلام، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلّمفقال: يا رسول الله، إن أم هذا زاولتني على بعض المواهبة له، وإن قد وهبت له، وقد أعجبها أن أشهدك. قال: «يا بشير أَلَكَ ابن غير هذا؟». قال: نعم، قال: «فوهبت له مثل الذي وهبت لهذا؟». قال: لا، قال: «فلا تشهدني إذاً، فإني لا أشهد على جور». أخرجاه في «الصحيحين».

وعن مالك بن أبي معشر عن إبراهيم قال: كانوا يحبون أن يساووا بين أولادهم حتى في القبل».

الباب الثاني والثمانون في النهي عن الدعاء على الأولاد

عن ابن عمر ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا تدعوا على أولادكم أن يوافق ذلك إجابةً».

الباب الثالث والثمانون في ثوابِ خدْمة المرأةِ في بيتها

عن أنس بن مالك ـــ رضي الله عنه ـــ قال: أتين النساء النبي صلى الله عليه وسلّم وقلن: يا رسول الله، ذهب الرجال بالفضل من الجهاد في سبيل الله، وما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله، قال: مهنة إحداكن في بيتها تدرك بها عمل المجاهدين في سبيل الله.

وعن أسماء بنت أبي بكر ـــ رضي الله عنهما ـــ قالت: «تزوجني الزبير، وما له في الأرض من مال ولا مملوك، ولا شيء غير فرسه، قالت: فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مؤونته، وأسوسه، وأدق النوى لناضحه، وأعلفه، وأستقي الماء، وأخرز قربه، وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، فكانت تخبز لي جارات من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى في أرض الزبير ـــ التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلّمـ على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ.

قالت: فجئت يوماً، والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعه نفر من أصحابه، فدعاني، ثم قال: أنخ، ليحملني خلفه، قالت: فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، قالت: وكان أغيَر الناس، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلّمأني قد استحييت فمضى.

فجئت الزبير، فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب معه، فاستحييت، وعرفت غيرتك. فقال: والله لحملك النوى كان أشد عليّ من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إليّ أبو بكر بعد ذلك بخادم، فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني».

الباب الرابع والثمانون في مُرَاعاةِ حقِّ الْجَارِ والهديةِ له

عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «ما زال جبريل ـــ عليه السلام ـــ يوصيني بالجار حتى ظننت أنه ليورثنه».

وعن أبي ذر ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إذا طبخت فأكثر المرق، وتعاهد جيرانك» وأقسم بين جيرانك.
قال أبو يوسف: وحدّثنا محمد بن أبي بإسناده إلى سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «يا نساء المسلمات، لا تحقرنَّ جارة لجارتها، ولو فرسن شاة».

وعن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان يقول: «يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة».

وعن عمرو بن معاذ الأشهلي عن جدّته أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «يا نساء المؤمنات، لا تحقرَّن أحداكن لجارتها، ولو كراع شاة محرق».

قال المصنف ـــ رحمه الله ـــ: الفرسن للشاة: بمنزلة الحافر للفرس، وكراع الشاة: قائمتها.

الباب الخامس والثمانون في الابتداءِ بالهديَّةِ بأقربِ الْجيران

عن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلّمفقالت: إنَّ لي جارين، فإلى أيهما أُهدي؟ قال: «إلى أقربهما منك باباً».

الباب السادس والثمانون في إثْمِ أذى الْجَار

عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إن فلانة تصوم النهار، وتقوم الليل، وتؤذي جيرانها بلسانها، قال: «لا خير فيها، هي في النار» قالوا: يا رسول الله، إن فلانة تصلي المكتوبة، وتتصدق بالأثوار من الأقط، ولا تؤذي جيرانها، قال: «هي في الجنة».

الباب السابع والثمانون في النهي عن حبسِ الهرّة وغيرها من غيرِ افتقادٍ لمطعمها، ومشربها

عن أبي هريرة، وعن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «دخلت امرأة النار في هرّة ربطتها حتى ماتت، فلم تطعمها، ولم تسقها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض».

وعن جابر بن عبد الله ـــ رضي الله عنهما ـــ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «عُذِّبت امرأة في هرّة أو هرّ، ربطته حتى مات، ولم ترسله فيأكل من خشاش الأرض، وجبت لها النار بذلك».

وعن محمد قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «دخلت امرأة النار في هرّ أو هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تسقها، ولم ترسلها تأكل من خشاش الأرض».

وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «دخلت امرأة النار في هر ربطته، فلم تطعمه، ولم تسقه، ولم ترسله، فيأكل من خشاش الأرض حتى مات في رباطه، ودخلت امرأة مومسة الجنة، إذ مرّت على طوى عليه كلب يريد الماء، فلم تقدر عليه ظمآن، فنزعت خفها أو موقها، فربطته في نطاقها أو خمارها، ثم نزعت له، فسقته حتى أروته».
وعن عبد الله بن أبي رافع عن جدّته قالت: «أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلّمبالهرَّة، وقالت: إن امرأة عذبت في هرة ربطتها (حتى ماتت)، فلم تطعمها، ولم تتركها، فتأكل من خشاش الأرض».

الباب الثامن والثمانون في ذكر ثوَاب من مات له سِقْط

عن سهل بن الحنظلية ـــ وكان لا يولد له ـــ قال: لأن يولد لي في الإسلام، ولو سقط، فأحتسبه، أحب إلي من أن تكون لي الدنيا جميعاً وما فيها.

وكان ابن الحنظلية ممن بايع تحت الشجرة.

الباب التاسع والثمانون في إثمِ المرأة إذا تعمَّدتِ الإسقاط

لما كان موضوع النكاح لطلب الولد، وليس من كل الماء يكون الولد، فإذا تكوَّن فقد حصل المقصود من النكاح.
فتعمُّد إسقاطه مخالفة لمراد الحكمة، إلا أنه إن كان ذلك في أول الحمل، فقبل نفخ الروح، كان فيه إثم كبير، لأنه مترقّ إلى الكمال، وسار إلى التمام، إلا أنه أقل إثماً من الذي نفخ فيه الروح.

فإذا تعمَّدت إسقاط ما فيه الروح كان كقتل مؤمن، وقد قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءودَةُ سُئِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } (التكوير: 8 ـــ 9)، الموؤودة: البنت كانوا يدفنونها حية، فهي تُسأل يوم القيامة لتبكيت قاتليها.

وقد روى جويرية بن أسماء عن عمه قال: حججت، وإنّا لفي رفقة، إذ نزلنا، ومعنا امرأة. فنامت، فانتبهت، فإذا حية منطوية عليها، قد جمعت رأسها مع ذنبها بين ثدييها، فهالنا ذلك، وارتحلنا، فلم تزل منطوية عليها، لا تضربها، حتى دخلنا أنصاب الحرم، فانسابت، فدخلت مكة، فقضينا نسكنا، وانصرفنا، حتى إذا كنا بالمكان الذي انطوت عليها فيه الحيّة، وهو المنزل الذي نزلت، فنامت واستيقظت، والحية منطوية عليها، صفّرت الحيّة، فإذا الوادي يسيل علينا حيات، فنهشتها حتى بقيت عظامها، فقلت لجارية كانت معها: ويحك أخبرينا عن هذه المرأة، قالت: بغت ثلاث مرات، كل مرّة تلد ولداً، فإذا وضعته سجرت التنور، ثم ألقته فيه.

الباب التسعون في ذِكْر كفَّارة الإسقاط

إذا تعمَّدت المرأة الإسقاط بشرب دواء يسقط، فإن كان الحمل لم يبلغ المدة التي تُنفخ فيها الروح، فلا دية في ذلك، إنما عليها الإثم فحسب.

هذا في أحد الوجهين لأصحابنا.

والوجه الثاني: أنها إن ألقته مضغة، وشهد القوابل أنه خلق آدمي، وجبت الغرة.

قال الخرقي: وإذا شربت الحامل دواء، فأسقطت جنينها، فعليها غرة لا ترث منها شيئاً، وتعتق رقبة.

قال المصنف ـــ رحمه الله ـــ قلت: وإن كان قد نفخ فيه الروح فوقع، فعليها غرة، عبد، أو أمة، قيمتها نصف عشر دية أبيه، أو عشر دية الأم، تدفع إلى ورثته، ولا ترث الأم منها شيئاً.

وتجب عليها الكفارة بعد هذا، وهي: عتق رقبة، فإن لم تجد صامت شهرين متتابعين، فإن لم تستطع، فهل يجب أن تطعم أم لا؟ على روايتين، فإن قلنا تطعم، أطعمت ستين مسكيناً.

الباب الحادي والتسعون في ذكْر مَن مَات له ولدٌ

عن أبي سنان قال: دفنت ابني سناناً، وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر، فلما أردت الخروج، أخذ بيدي، فأخرجني، فقال: ألا أبشرك، حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عزوم، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إذا مات ولد العبد قال الله عز وجل للملائكة: قبضتم ولد عبدي؟ قالوا: نعم. قال: ما قال؟ قالوا: استرجع وحمد. قال: ابْنوا له بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد».
وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «قال الله عز وجل: يا ملك الموت، قبضت ولد عبدي، قبضت قرة عينه، وثمرة فؤاده؟ قال: نعم، قال: فماذا قال؟ قال: حمدك واسترجع. قال: ابنوا له بيتاً في الجنة، وسمّوه بيت الحمد».

وعن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «من كان له فرطان من أمتي دخل الجنة». فقالت: عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ بأبي فمن كان له فرط؟ قال: «ومن كان له فرط»، قالت: فمن لم يكن له فرط من أمتك؟ قال: «فأنا فرط أمتي لم يصابوا بمثلي».

عن معاوية بن قرة، عن أبيه، أن رجلاً كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلّم ومعه ابنٌ له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم «أتحبُّه؟». فقال: يا رسول الله أحبّك اللَّهُ، كما أُحبُّهُ، فَفَقَدَهُ النبي صلى الله عليه وسلّمفقال: «ما فعل ابن فلان؟». قالوا: يا رسول الله، مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلّملأبيه: «أما تحب أن لا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك؟» فقال رجلٌ: يا رسول الله، ألَهُ خاصَّةً، أم لكُلِّنا؟ قال: «بل لكلكم».

وعن أبي عبيدة بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «مَن قدّم ثلاثة لم يبلغوا الحنث، كانوا له حصناً حصيناً من النار»، فقال أبو ذر: قدمت اثنين؟ قال: «واثنين»، فقال أُبِّي بن كعب سيد القراء: قدمت واحداً، قال: «وواحداً، ولكن ذلك في أول صدمة».

وعن محمد خلف وكيع قال: كان لإبراهيم الحربي ابن، وكان له إحدى عشرة سنة، قد حفظ القرآن، ولقّنه من الفقه شيئاً كثيراً فمات، قال: فجئت أعزِّيه، فقال لي: كنت أشتهي موت ابني هذا، قلت: يا أبا إسحاق، أنت عالم الدنيا، تقول مثل هذا في صبي، قد أنجب، وحفظ القرآن، ولقّنته الحديث والفقه؟ قال: نعم. رأيت في النوم، كأنَّ القيامة قد قامت، وكأنَّ صبياناً بأيديهم قلال ماء، يستقبلون الناس يسقونهم، وكان اليوم يوماً حاراً شديداً حرّه.

قال: فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء، قال: فنظر إليّ، وقال لي: ليس أنت أبي؟ فقلت: فأيش أنتم؟ قالوا: نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا، وخلفنا آباءنا، نستقبلهم، فنسقيهم الماء، قال: فلهذا تمنيت موته.

الباب الثاني والتسعون في ذكْر أجرِ مَن مَات له ولدان

عن أبي سعيد الخدري ـــ رضي الله عنه ـــ أن النساء قلن: غلبنا عليك الرجال يا رسول الله، فاجعل لنا يوماً نأتك فيه. فواعدهن ميعاداً، فأمرهن ووعظهن، وقال: «ما منكن امرأة يموت لها ثلاثة من الولد، إلا كانوا لها حجاباً من النار»، فقالت امرأة: أو اثنين؟ فإنه مات لي ابنان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «واثنين».

عن أبي ثعلبة الأشجعي قال: قلت: مات لي يا رسول الله ولدان في الإسلام، قال: فقال: «من مات له ولدان في الإسلام أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهما».

وعن جابر بن عبد الله ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «من مات له ثلاثة من الولد فاحتسبهم دخل الجنة، قال: قلنا يا رسول الله، واثنان؟ قال: واثنان، قال محمود: فقلت لجابر: أراكم لو قلتم واحداً، لقال واحداً، قال: وأنا والله أظن ذلك».

الباب الثالث والتسعون في ذكْر أَجر مَن مَات له ثلاثةٌ من الولد

عن الزبير بن العوام ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «من مات له ثلاثة من الأولاد لم يبلغوا الحنث، كانوا له حجاباً من النار». أو كما قال.

وعن عمرو بن عبسة ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «أيما رجل مسلم قدم الله له من صلبه ثلاثة لم يبلغوا الحنث أو امرأة، فهم له ستر من النار».

وعن ابن مسعود ـــ رضي الله عنه ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمخطب النساء، فقال لهن: «ما فيكن امرأة يموت لها ثلاثة من الولد إلا أدخلها الله عز وجل الجنة»، فقالت أجلّهن امرأة: يا رسول الله، وصاحبة الاثنين في الجنة؟ فقال: «وصاحبة الاثنين في الجنة».
وعن أنس بن مالك ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من مات له ثلاثة لم يبلغوا الحنث، أدخله الله بفضل رحمته إياهم».

وعن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فتمسه النار إلا تحلّة القسم».

وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، فتمسه النار إلا تحلة القسم».
وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث، إلا أدخلهم الله وإياهم بفضل رحمته الجنة، قال: يقال لهم: ادخلوا الجنة، قال: فيقولون: حتى يجيء أبوانا، قال: ثلاث مرات، فيقولون مثل ذلك، فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وأبواكم».

وعن أبي زرعة عن أبي هريرة ـــ أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلّمبصبي فقالت: ادع له، فقد دفنت ثلاثة، قال: «احتظرت بحظار شديد من النار».

وعن أم سليم قالت: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلّميوماً، فقال: «يا أم سليم، ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد، إلا أدخلهم الله عز وجل الجنة بفضل رحمته إياهم»، قلت: واثنان؟، قال: «واثنان».

وعن أبي ذر ـــ رضي الله عنه ـــ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم».

وعن شرحبيل الرحبي قال: سمعت عتبة بن عبد السلمي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلّميقول: «ما من رجل مسلم يتوفى له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيِّها شاء دخل».

الباب الرابع والتسعون في ذكر مَن مات له أربعةٌ من الولد

عن الحارث بن أقيش قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ما من مسلمين يموت لهما أربعة أولاد، إلا أدخلهما الله الجنة»، قالوا: يا رسول الله، وثلاثة؟ قال: «وثلاثة»، قالوا: يا رسول الله، واثنان؟ قال: «واثنان».

الباب الخامس والتسعون في الأمرِ بالصبر، وبَيان أنَّ الصبر عند أوَّل صدمة

الصبر: حبس النفس عن الجزع.

وفي «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «ما أُعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر».
وقال علي عليه السلام للأشعث بن قيس: «إنك إن صبرت إيماناً واحتساباً، وإلا سلوت كما تسلو البهائم».
وكتب حكيم إلى رجل قد أصيب بمصيبة: «إنك قد ذهب منك ما رزقت به، فلا يذهبن عنك ما عُوِّضت عنه، يعني من الأجر».
وقال حكيم: الجزع لا يردّ الفائت، ولكن يسرّ الشامت.

وقال آخر: العاقل من يفعل أول يوم من أيام المصيبة ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام.

قال المصنف ـــ رحمه الله ـــ قلت: وقد علم أن مَرَّ الزمان يسلي المصائب، فلذلك أمر الشرع بالصبر، عند الصدمة الأولى.

وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلّم«أنه خرج إلى البقيع، فأتى على امرأة جاثية على قبر تبكي، فقال لها: «يا أمة الله، اتقي الله، واصبري»، قالت: يا عبد الله، أنا الحزنى الثكلى، قال: «يا أمة الله، اتقي الله، واصبري»، قالت: يا عبد الله، لو كنت مصاباً لعذرتني، قال: يا أمة الله، اتقي الله، واصبري». قالت: يا عبد الله، قد أسمعتني، فانصرف.

قال: فانصرف عنها، وبصر بها رجل من المسلمين، فأتاها، فسألها: ما قال لك الرجل؟ فأخبرته بما قال، وما ردّت عليه، فقال لها: أتعرفينه؟ قالت: لا، قال: ويحك ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فبادرت تسعى حتى أدركته، قالت: يا رسول الله أَصْبِرُ، قال: «الصبر عند الصدمة الأولى»، ثلاث مرات.

قال أبان بن ثعلب: رأيت أعرابية تمرّض ولدها، فلما فاض أغمضته، ثم تنحت، وقالت: ما أحقّ من ألبس العافية، وأسبغت عليه النعمة، وأطيلت له النظرة، أن يعجز عن التوثق لنفسه قبل حلّ عقدته، والحلول بعقوته.

فأجابها أعرابي: لم نزل نسمع أن الجزع للنساء، ولقد كرم صبرك. فقالت: ما بَيّن رجل بين الصبر والجزع، إلا أصاب بينهما منهجين بعيدي التفاوت.

أما الصبر فحسن العلانية، محمود العاقبة، وأما الجزع فغير معوّض مع مأثمه.

وأصيبت منفوسة بنت زيد الفوارس بابنها، فقالت، وهو في حجرها: والله لتقدّمك أمامي أحب إليّ من تأخرك ورائي، ولصبري عليك أجدى من جزعي عليك، ولئن كان فراقك حسرة، إنّ توقع أجرك لخيرة.

ونظر رجل إلى امرأة بالبصرة، فقال: ما رأيت مثل هذه النضارة، وما ذاك إلا من قلة الحزن. فقالت: يا عبد الله، إنَّ لي حزناً ما شاركني فيه أحد. قال: وكيف؟ قالت: أخبرك أن زوجي ذبح شاة يوم أضحى، ولي صبيَّان يلعبان، فقال الأكبر للأصغر: أتريد أن أريك كيف ذبح أبي الشاة؟ قال: نعم. فذبحه، فلما ارتفع الصراخ، هرب الغلام، فالتجأ إلى الجبل، فأكله الذئب، فخرج أبوه يطلبه، فمات عطشاً، فأفردني الدهر. فقال: فكيف صبرت؟ فقالت: لو وجدت في الجزع دركاً ما حزنت عليهم.

الباب السادس والتسعون في جوازِ البُكَاءِ على الميِّت

عن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّمبكت النساء، فجعل عمر يضربهن بسوطه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّمبيده، ثم قال: «مهلاً يا عمر»، ثم قال: «ابكين، وإياكنّ ونعيق الشيطان»، ثم قال: إنه مهما كان من العين والقلب فمن الله عز وجل، ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان».

وعنه قال: ماتت رُقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّمفقال: «الحقي بسلفنا الخير عثمان بن مظعون، وبكت النساء، فجعل عمر يضربهن بسوطه، فقال النبي صلى الله عليه وسلّملعمر: دعهن يبكين، وإياكن ونعيق الشيطان، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم مهما يكن من العين والقلب فمن الله والرحمة، ومهما كان من اليد واللسان فمن الشيطان، وقعد رسول الله صلى الله عليه وسلّمعلى شفير القبر، وفاطمة إلى جنبه تبكي، فجعل النبي صلى الله عليه وسلّميمسح عن فاطمة بثوبه رحمة لها».

الباب السابع والتسعون في النهي عن اللَّطْمِ وتخريقِ الثياب عند المصيبة

عن مسروق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ليس منا مَن شقّ الجيوب، ولطم الخدود، ودعا بدعوى الجاهلية».

وعن ابن عمر ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: «دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإذا ابنه إبراهيم يجود بنفسه، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فوضعه في حجره، ففاضت عيناه، قال: قلت: يا رسول الله، أتبكي وتنهانا عن البكاء؟ فقال: «لست عن البكاء نهيت، ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، صوت عند نغمة لعب ولهو ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة ضرب وجه، وشق جيوب، ورنّة شيطان، وهذه رحمة، ومن لا يرحم لا يُرحم، يا إبراهيم، لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وسبيل لا بد منه، لحزنا عليك حزناً غير هذا، وإنا بك لمحزونون، العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول ما يسخط الرب».

وعن محمد بن سعد قال: قيل لأم خلاد بن سويد بن ثعلبة: قد قتل خلاد، فجاءت وهي متنقبة، فقيل لها: قتل خلاد، وأنت متنقبة؟ قالت: إن كنت رزئت خلاداً، فلا أرزأ حيائي.


الباب الثامن والتسعون في النهي عن النَوْح

عن حفصة عن أم عطية قالت: «كنت فيمن بايع النبي صلى الله عليه وسلّم وكان فيما أخذ علينا أن لا ننوح، ولا نحدِّث من الرجال إلا محرماً».

الباب التاسع والتسعون في كسب النائحة

عن حميد بن عبد الرحمن قال: كنت عند الحسن بن صالح، قال: فجاءت امرأة فسألته، قالت: ما تقول في نائحة أسكنتها داري؟ فقال: لا، فذهبت ثم جاءت، فقالت: ما تقول فيما كَسَبَتْ، وقد تابت، ورجعت، قال: تردّه على أصحابه، قالت: لا أعرف أصحابه، قال: اصَّدّقي به، فبكت، وبكى معها كل من ثمة غير حسن، فإنه كان ينقر الأرض بإصبعه، ثم قال لها: اتقي الله عز وجل، قالت: أنفقه على أختي أو أعطيه أختي؟ قال: لا، اصّدقي به.

الباب المائة في عقوبةِ النائحةِ، والمستمعة لها

عن أبي مالك الأنصاري ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «النائحة إذا لم تتب قبل موتها، بُعثت يوم القيامة، وعليها سربال من قطران، أو قال: درع من جرب».

وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «تخرج النائحة من قبرها شعثاء غبراء، عليها درع من جرب، وجلباب من لعنة، واضعة يديها على رأسها تقول: يا ويلتاه، وملك يقول: آمين، ثم يكون من ذلك حظها من النار».

وعن أبي سعيد الخدري ـــ رضي الله عنه ـــ قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلّمالنائحة والمستمعة».

عن العبادلة عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر ـــ رضي الله عنهم ـــ أجمعين، قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «النائحة ومن حولها من امرأة مستمعة عليهم لعنة الله والملائكة، والناس أجمعين».
وقد روى عمر بن شيبة بإسناد له عن الأوزاعي قال: بلغني أن عمر بن الخطاب ـــ رضي الله عنه ـــ سمع صوت بكاء في بيت، فدخل ومعه عنزة، فمال عليهم ضرباً حتى بلغ إلى النائحة، فضربها حتى سقط خمارها، وقال: اضرب فإنها نائحة، ولا حرمة لها، إنها لا تبكي بشجوكم، إنها تهرق دموعها على أخذ دراهمكم، إنها تؤذي أمواتكم في قبورهم، وأحياءكم في دورهم، إنها تنهى عن الصبر، وقد أمر الله سبحانه وتعالى به، وتأمر بالجزع، وقد نهى الله تعالى عنه.

الباب الحادي بعد المائة في ذكر تعذيب الميت بالنياحة

عن ابن عمر ـــ رضي الله عنهما ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «إن الميت ليعذب في قبره بالنياحة عليه» أخرجاه في «الصحيحين».

وعن أبي موسى الأشعري عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «الميت يعذب ببكاء الحي عليه، إذا قالت النائحة، وا عضداه وا ناصره، وا كاسياه، جبذ الميت، وقيل له: أنت عضدها، أنت ناصرها، أنت كاسيها؟».

فإذا قال قائل: ما ذنب الميت؟ فالجواب أن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: «إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلّمعلى قبر يهودي فقال: إن صاحب هذا القبر ليعذب، وأهله يبكون عليه، ثم قرأت {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164).

ويحتمل أن يكون هذا في حق مَن أوصى بذلك، أو أن يكون التعذيب بذنوبه، ويجعل ذكر ما يناح به عليه زيادة في توبيخه كقوله: أنت عضدها، أنت كاسيها.

الباب الثاني بعد المائة في نهي النساءِ عنِ اتّباع الجنائز

عن عامر الشعبي عن أنس بن مالك ـــ رضي الله عنه ـــ قال: هلك رجل من الأنصار، قال: فذهبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّمإلى الجنازة حتى إذا كان على باب الدار، ونحن معه، إذا هو بنسوة قعود على باب الدار، فقال: «السلام عليكن»، فقلن: وعليكم السلام يا رسول الله، فقال لهن: «ما يجلسكن هاهنا؟» قلن: ننتظر هذه الجنازة، قال: «هل تحملنها فيمن يحمل؟»، قلن: لا، قال: «فهل تدلينها فيمن يدليها في قبرها؟»، قلن: لا، قال: «فهل تحثين عليها من التراب فيمن يحثى عليها؟»، قلن: لا، قال: «فارجعن مأزورات غير مأجورات». وقال: «ليس للنساء في الجنازة نصيب».

يعني ليس لهن في اتباع الجنازة أجر.

عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـــ قال: بينما نحن نمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلّمإذ بصر بامرأة لا نظن أنه عرفها، فلما توسط الطريق وقف حتى انتهت إليه، فإذا فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّمفقال: «ما أخرجك من بيتك يا فاطمة؟»، قالت: أتيت أهل هذا البيت، فرحِّمتُ إليهم ميِّتهم وعزَّيتهم، قال: «لعلك بلغت معهم الكُدَى؟» قالت: معاذ الله أن أكون بلغتها معهم، وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر، قال: «لو بلغتها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جدُّ أبيك».

وعن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه رأى ابنته فاطمة عليها السلام، فقال لها: «من أين أقبلت يا فاطمة؟»، قالت: أقبلت من وراء جنازة هذا الرجل، قال: «فهل بلغت معهم الكُدى؟»، قالت: لا، وكيف أبلغها، وقد سمعت منك ما سمعت؟ قال: «والذي نفسي بيده، لو بلغت معهم الكدى، ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك».

قال أبو سليمان الخطابي: الكُدَى جمع كدية وهي القطعة الصلبة من الأرض، يحفر فيها القبور، قال: وروي الكرى، بالراء، وهي القبور من قولك كريت الأرض إذا حفرتها، وقد أنكر الأزهري الكرى.

عن أم عطية قالت: نُهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا.j

عن هشام عن حفصة أنها كانت يموت بعض إخوتها، فلا تتبع جنازته إلى المصلى، ولا إلى المقابر،

وعن علقمة بن قيس قال: امنعوا النساء من اتباع الجنائز، فإن أبين فاقتلوهن بالحجارة، فإن أبين فضعوا الجنازة.

الباب الثالث بعد المائة في ذكر لعنة زوارات القبور

عن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسُّرج.
وعن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لعن الله زوارات القبور».

وعنه أيضاً قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلّمزوارات القبور».


الباب الرابع بعد المائة في ذكر ثوابِ مَن خلَّف ولداً صالحاً

عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».

وفي الحديث: أن العبد ليكسى حلة لا تقوم لها الدنيا، فيقول: بماذا كسيت هذه؟ فيقال: ختم ولدك بعدك القرآن.

وقال بعض السلف: رأيت في المنام مقبرة وأهلها، قد خرجوا من القبور يلتقطون شيئاً، وفيهم رجل صالح جالس على قبره، لا يقوم ولا يلتقط، فقلت له: ما هذا الذي يلتقطون؟ فقال: ترحُّم الناس عليهم. فقلت: وأنت ما لك لا تلتقط معهم؟ فقال: لي ولد صالح يقرأ القرآن، ويهدي لي ثوابه، فأنا غني بذلك عن الالتقاط معهم، قال: ثم رأيت بعد مدة تلك المقبرة وأهلها، وهم يلتقطون، وذلك الرجل يلتقط معهم، فسألته عن حاله، فقال: كنت غنياً بما يبعثه إلي ولدي، والآن فقد مات الولد، فاحتجت أن ألتقط معهم.

الباب الخامس بعد المائة في إحداد المرأة المتوفَّى عنها زوجها

عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «المتوفى عنها زوجُها لا تلبس المُعَصْفر من الثياب، ولا المُمَشقة، ولا الحُليّ، ولا تختضب، ولا تكتحل».

وعن أسماء بنت عميس قالت: «لما مات جعفر، أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: تَسَلّبي ثلاثاً، ثم اصنعي ما شئت».

فصل (في الحِداد ومعناه)

والإحداد واجب في عدّة الوفاة، وهل تجب على البائن، أم لا؟ على روايتين. وسواء في ذلك المسلمة، والذمية، والصغيرة، والكبيرة، ومعنى الإحداد: الامتناع عن الزينة، وما يدعو إلى الجماع: كلبس الحلي، والطيب، والخضاب، والحناء، والكحل الأسود، والكلّكون، وإسفيداج العرائس، والحفاف، والملوّن من الثياب: كالأحمر، والأصفر، والأخضر الصافي، والأزرق الصافي، فأما الملوّن لدفع الوسخ كالكحلي والأسود فلا تمنع عنه.

وتعتد التي مات عنها زوجها في المنزل الذي وجبت عليها العدة وهي فيه، إلا أن تدعو ضرورة إلى خروجها عنه، بأن يحولها مالكه، أو تخشى على نفسها، فتنتقل إلى أقرب ما يمكنها منه، ويجوز لها الخروج من منزلها نهاراً، ولا يجوز لها ليلاً.
فأما المبتوتة فلا تجب عليها العدة في منزل طلاقها، ولا الانتقال عنه، والاعتداد في غيره.

فصل (في الحِداد على غير الزوج)

ولا تحد المرأة على غير الزوج؛ عن صفية بنت أبي عبيد عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلّمقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، وتؤمن بالله ورسوله أن تحدّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج، فإنها تحدُّ عليه أربعة أشهر وعشراً».

وفي «الصحيحين» من حديث زينب بنت أبي سلمة أنها دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلّمحين توفي أبوها أبو سفيان، فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق، أو غيره في اليوم الثالث، فدهنت منه جارية، ثم مسَّت بعارضيها، ثم قالت: والله ما لي بالطيب حاجة، غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً».

قالت زينب: ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها، فدعت بالطيب، فمسَّت منه، ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً».

الباب السادس بعد المائة في ذكرِ ثوابِ المرأة إذا مَات عنها زوجها واشتغلتْ عنِ النكاح بتربية أولادها

عن عوف بن مالك ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «أنا وامرأة سفعاء الخدين، امرأة آمت من زوجها، فصبرت على ولدها كهاتين في الجنة» رواه البخاري.

قال المصنف رحمه الله: قلت: ومعنى قوله سفعاء الخدين: أن تركها للأزواج أعرض بها عن التصنع، فقد صار في خديها كمود.

الباب السابع بعد المائة في ذكر ردِّ المرأة إلى زوجها في الجنَّة إذا لم تتزوَّجْ بعده

عن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «المرأة لآخر أزواجها».

عن سلمى بنت جابر أن زوجها استشهد، فأتت عبد الله بن مسعود، فقالت: إني امرأة قد استشهد زوجي، وخطبني الرجال، فأبيت أن أتزوج حتى ألقاه، فترجو لي إذا اجتمعتُ أنا وهو أن أكون من أزواجه؟ قال: نعم. فقال له رجل عنده: ما رأيناك فعلت هذا منذ قاعدناك، قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «إن أسرع أمتي لحوقاً بي امرأة من أحمس».

وعن أم الدرداء ـــ رضي الله عنها ـــ أنها قالت: اللهم إن أبا الدرداء خطبني، فتزوجني في الدنيا، اللهم فأنا أخطبه إليك، فأسألك أن تزوجنيه في الجنة. فقال لها أبو الدرداء: فإن أردت ذلك، وكنتُ أنا الأول، فلا تتزوجي بعدي. فقالت: لا والله، لا أتزوج زوجاً في الدنيا حتى أزوج أبا الدرداء إن شاء الله عز وجل في الجنة.

وعن عروة بن رويم اللخمي قال: لما احتضر موسى صلى الله عليه وسلّمقالت له امرأته: سل الله أن يزوجنيك في الجنة، قال: إن أحببت ذلك، لا تتزوجي بعدي، ولا تأكلي من رشح جبينك، فكانت تتبرقع بعده للقاط، فإذا رآها الحصادون لم يخالطوها، فإذا أحسَّت بذلك تركته، وفي رواية أخرى: فإنَّ المرأة لآخر أزواجها.


الباب الثامن بعد المائة في الأمر بالجدِّ والاجتهاد والاستعداد للموت قَبل نزوله

عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ما من أحد يموتُ إلا نَدِمَ»، قالوا: فما ندمه يا رسول الله؟ قال: «إن كان محسناً ندم إلا يكونَ ازدادَ، وإن كان مسيئاً ندم ألا يكون نَزَعَ».

وعن طارق بن عبد الله المحاربي قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم «يا طارق، استعد للموت قبل الموت».

الباب التاسع بعد المائة في فضل المرأة الصَّالحةِ وذكر أجْرها

عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسنها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يداك». أخرجاه في «الصحيحين».

وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة».

وعن عبد الرحمن بن عوف ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إذا صلَّت المرأةُ خَمْسَها، وصامتْ شَهْرَها، وحَفِظَتْ فَرْجَها، وطاعت زوجَها، قيل لها: ادخلي الجنةَ، من أي أبواب الجنةِ شئْتِ».

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـــ رضي الله عنه ـــ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمنه قال: «إنّ الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة».

وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «الدنيا متاع، وليس من متاع الدنيا شيء أفضل من المرأة الصالحة» انفرد بإخراجه مسلم.

وعن إسماعيل بن محمد بن سعد أبي وقاص ـــ رضي الله عنه ـــ، عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من سعادة ابن آدم ثلاثة، ومن شقوة ابن آدم ثلاثة. من سعادة ابن آدم: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح. ومن شقوة ابن آدم: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء».

عن يعلى بن منية أن رجلاً كانت له امرأة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكانت امرأة صالحة، وكانت إذا دخل عليها قالت: مرحباً بسيدها وسيد أهل بيتها، إن كان همُّك لآخرتك فزادك الله همّاً، وإن كان همّك الدنيا فإن الله عز وجل سيرزقك ويحسن إليك. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّمفأخبره فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لها نصف أجر المجاهد في سبيل الله، وهي عامل من عمال الله».

وعن كثير بن مرة عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إن فجور المرأة الفاجرة كفجور ألف فاجر، وإن برّ المرأة المؤمنة كعمل سبعين صديقاً».

وعن كعب بن عجرة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ألا أُخبرُكم برجالكم من أهل الجنة؟»، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «النَبيُّ في الجنَّةِ، والصدِّيقُ في الجنة، والشهيدُ في الجنة، والرجلُ يزورُ أخاهُ في جانب المِصرِ في الله في الجنة، ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة؟»، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «الودود، الولود، العوود، التي إن هي ظلمت قالت: هذه يدي في يدك لا أذوق غمضاً حتى ترضى».

عن زيد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عن علي ـــ عليهم السلام ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة؟»، قالوا: بلى يا رسول الله قال: «الودود الولود العوود التي إن أغضبته أو غضبت قالت: يدي في يدك لا أكتحل غمضاً حتى ترضى عني».

وعن عليّ ـــ عليه السلام ـــ قال: النساء أربع: القرثع، والوعوع، وغل لا ينزع، وجامعة تجمع. فأما القرثع، فالسمحة، وأما الوعوع: فالصَّخّابة، وأما الغل الذي لا ينزع: فالمرأة السوء للرجل منها أولاد، لا يدري كيف يتخلص، وأما الجامعة التي تجمع: فهي التي تجمع الشمل، وتلمّ الشعث.

وعن زيد بن مرّة قال: «المرأة الفاجرة كألف فاجر، والمرأة الصالحة يكتب لها عمل مائة صدّيق».

وقال زيد بن أسلم: «مثل المرأة التي تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، ولا توطىء فراشها أحداً، مثل المجاهد في سبيل الله».
وعن محمد بن واسع ـــ رحمه الله ـــ قال: قال مسلم بن يسار: «ما غبطت رجلاً بشيء ما غبطته بثلاث: زوجة صالحة، وبجار صالح، وبمسكن واسع».


الباب العاشر بعد المائة في ذكرِ أعيانِ النساء المتقدِّمات في الشَّرَف، والفضْلِ، والعلم

اعلم أنه إذا ذُكر مَن له فضل من الجنس كان تحريضاً للعازم، وتوبيخاً للمتكاسل، وتعليماً للمسترشد، وأنا أذكر من أعيان النساء المتقدمات في الفضائل، فأبتدىء بذكر جماعة من القدماء، ثم من نختار ذكره من الصحابيات، ثم أذكر جماعة من الفاضلات بشرف أو علم، أو تعبّد، أو كرم، والله الموفق.

ذكر جماعة من القدماء

1 ـــ سارة زوج إبراهيم الخليل ـــ عليه السلام ـــ:

لما خلص إبراهيم عليه السلام من النار آمن به جماعة لما رأوا من تلك الآية، منهم: سارة وهي ابنة عمّه، فتزوجها، وعمّه اسمه هاران، وهو الذي بنى مدينة حران، وإليه تنسب.

وقال السدّي: كانت سارة بنت ملك، وقد طعنت على قومها في دينهم، فتزوجها إبراهيم على أن لا يغيّرها، وخرج بها من حران حتى قدم مصر، وبها فرعون من الفراعنة الأول، وكانت من أحسن الناس، فوصفت لفرعون فبعث فطلبها.

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «دخل إبراهيم قرية فيها ملك من الملوك، أو جبَّارٌ من الجبابرة فقيلَ: دخلَ إبراهيم الليلة بامرأةٍ من أحسن الناس، قال: فأرسل إليه الملك من هذه معك؟ قال: أختي، قال: أرسل بها، قال: فأرسل بها إليه، وقال لها: لا تُكَذِّبي حديثي، فإني قد أخبرته بأنك أختي، والله ليس على الأرض مؤمن غيري وغيرُك.

قال: فلما دخلت إليه، قام إليها، قال: فأقبلت تتوضَّأ وتُصلي، وتقول: اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي، إلا على زوجي، فلا تُسلِّط عليَّ الكافر. قال: فغُطَّ حتى رَكَض برجله.

قال أبو الزناد، قال: أبو سلمة، عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ أنها قالت: اللَّهم إنْ يَمُتْ يقل هي قَتَلَتْهُ، قال: فأُرسِلَ، ثم قامَ إليها فقامت، تتوضأ وتُصلي وتقول: اللهم إن كنت تعلم أني آمنتُ بك وبرسولك، وأحصنت فرجي، إلا على زوجي، فلا تُسَلِّطْ عليّ هذا الكافر، قال: فغُط حتى ركض الأرض برجله، فقال في الثالثة أو الرابعة: ما أرسلتم إليّ إلا شيطاناً، أرجعوها إلى إبراهيم، وأعطوها هاجر، فَرَجَعت إلى إبراهيم، فقالت لإبراهيم: أَشعَرتَ أَنَّ اللَّه ـــ عز وجل ـــ ردّ كيد الكافر، وأخْدَمَ وَليدةً».

قال المصنف ـــ رحمه الله ـــ: توفّيت سارة بالشام وهي بنت مائة وسبع وعشرين سنة.

2 ـــ آسية بنت مزاحم:

آمنت بموسى عليه السلام ـــ فعلم فرعون فعذبها، قال أبو هريرة ـــ رضي الله عنه: «ضرب فرعون أوتاداً في يديها ورجليها، فكانوا إذا تفرقوا عنها، أظلتها الملائكة، فقالت: {رَبّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ} (التحريم: 11)، فكشف الله لها عن بيتها في الجنة حتى رأته قبل موتها».

عن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أفضلُ نساء أهل الجنة خديجةُ بنتُ خُويلدٍ، وفاطمةُ بنتُ محمد، ومريمُ بنتُ عِمْرانَ، وآسيةُ بنت مُزَاحمٍ».

3 ـــ ماشطة بنت فرعون:

عن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّملما أُسِري به، مرت به رائحةٌ طيبةٌ، فقال: يا جبريل، ما هذه الرائحة؟ قال: (هذه رائحة) ماشطة ابنة فرعون وأولادها، كانت تمشطها، فوقع المشط من يدها، فقالت: بسم الله. فقالت ابنة فرعون: أبي؟، قالت: لا، بل ربي ورب أبيك. قالت: أُخبر بذلك أبي؟ قالت: نعم، فأخبرته، فدعا بها وبولدها.

فقالت: إن لي إليك حاجة، قال: وما هي؟، قالت: أن تجمع عظامي، وعظام ولدي، فتدفنها جميعاً.

قال: ذلك لك علينا من الحق، قال: فألقي ولدها واحداً واحداً حتى إذا كان آخر ولدها، وكان صبياً مرضعاً قال: اصبري يا أماه، إنك على الحق، ثم ألقيت مع ولدها».

4 ـــ مريم بنت عمران:

كانت أمها حنّة قد رأت طائراً يزق فرخة، فحنّت إلى ولد، فحملت مريم، فجعلت حملها محرراً للكنيسة، فلما وضعت مريم كفلها زكريا، فكان يرى عندها فواكه الصيف في الشتاء، وفواكه الشتاء في الصيف، فيقول: أنَّى لك هذا؟ فتقول: هو من عند الله، فلما بلغت خرجت تستعذب الماء من مغارة، فإذا جبريل ـــ عليه السلام ـــ فنفخ في جيبها نفخة، فحملت بعيسى عليه السلام.
قال ابن عباس: حين حملت وضعت صبيحة ثمانية أشهر، وقال الحسن: تسع ساعات، وعاشت بعد رفع عيسى ست سنين، وكان عمرها نيفاً وخمسين سنة.

5 ـــ زرقاء اليمامة:

وبها سمي بلدها باليمامة، وهي من بنات لقمان بن عاد، وكانت أبصر الخلق، وقصدهم جيش حسَّان بن تبّع، فبقي بينه وبينهم مسيرة ثلاثة أيام، فأبصرتهم، وقد حمل كل رجل منهم شجرة، فقالت: أقسم بالله، لقد أرى رجلاً ينهش كتفاً، أو يخصف نعلاً، فكذبوها، فلم يستعدوا حتى صبحهم حسان فاجتاحهم، فأخذها، فشق عينيها، فإذا فيها عروق من الإثمد، وبنظر هذه المرأة يضرب المثل.
وكانت قد نظرت إلى سرب من حمام طائر فيه ست وستون حمامة، وعندها حمامة واحدة، فقالت: ليت الحمام إلى حمامتنا، ونصفه قد به تم الحمام مائة.

فقال النابغة، يخاطب النعمان:

فَاحْكُمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الْحَيِّ إذ نظرت

إلى حَمَامٍ سراعٍ واردِ الثَّمد

قالت: ألا ليتما هذا الحمامَ، لنا

إلى حمامتِنا، أو نصفَه فَقَد

وأراد بقوله فاحكم: أي كنْ حكيماً.


فائدة: من بني إسرائيل

عن وهب بن منبِّه قال: أُتي بامرأة من بني إسرائيل، يُقال لها سارة، وسبع بنين لها إلى ملك كان يفتن الناس على أكل لحم الخنزير، فدعا أكبرهم فقرّب إليه لحم خنزير فقال: كل، قال: ما كنت لآكل شيئاً حرّمه الله عز وجل عليّ أبداً. فأمر به، فقطع يديه ورجليه، وقطعه عضواً عضواً، حتى قتله.

ثم دعا بالذي يليه فقال: كل، فقال: ما كنت لآكل شيئاً حرّمه الله تعالى عليّ، فأمر بقدر من نحاس فَمُلِئَتْ زيتاً، ثم أُغليت، حتى إذا غلت ألقاه فيها.

ثم دعا بالذي يليه فقال: كل، قال: أنت أذلّ وأهون على الله من أن آكل شيئاً حرّمه الله عليّ. فضحك الملك، وقال: أتدرون ما أراد بسبه إياي؟ أراد أن يغضبني، فأعجل في قتله، وليخطئنه ذلك، وأمر به فَحزَّ جلد عنقه، ثم أمر به أن يسلخوا جلد رأسه ووجهه، فسلخوه سلخاً.
فلم يزل يقتل كل واحد منهم بلون غير قتل أخيه حتى بقي أصغرهم، فالتفت إليه وإلى أمه، فقال لها: لقد أريت لك مما أريت، فانطلقي بابنك هذا، فاخلي به وأريديه على أن يأكل لقمة واحدة فيعش لك.

قالت: نعم، فخلت به، فقالت: أي بني إنّه كان لي على كل رجل من أخوتك حق، ولي عليك حقان، وذلك أني أرضعتُ كل رجل منهم حولين، فمات أبوك، وأنت حمل، فنفست بك، فأرضعتك لضعفك ولرحمتي لك أربعة أحوال، فأسألك بالله، وحقي عليك لما صبرت، ولم تأكل شيئاً مما حرّم الله عليك، ولا تلقينَّ إخوتك يوم القيامة ولستَ معهم.

قال: الحمد لله الذي أسمعني هذا منك، فإنما كنتُ أخاف أن تريديني على أن آكل مما حرّم الله عليّ. ثم جاءت به إلى الملك فقالت: ها هو ذا قد أردته، وعرضت عليه، فأمره الملك أن يأكل، فقال: ما كنت لآكل شيئاً حرّمه الله تعالى، فقتله، وألحقه بإخوته، وقال لأمهم: إني أجدني أرثي لك مما رأيت اليوم، ويحكِ فكلي لقمة، ثم أصنع بك ما شئت، وأعطيك ما أحببت تعيشين به. قال: أجمع بين ثكل ولدي ومعصية الله فلو حييت بعدهم ما أردت ذلك، وما كنت لآكل شيئاً حرّمه الله عليّ أبداً. فقتلها، وألحقها ببنيها.

ذكر فائدة أخرى من بني إسرائيل

عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: بلغني أن عابداً كان في زمن بني إسرائيل يتعبَّد، فأُتيَ في منامه، فقيل: إن فلانة زوجتك في الجنة، قال: فلانة وما عملها؟ فجاءها، فقال لها: إني قد أحببت أن أضيفك ثلاثة أيام ولياليهن، فقالت: بالرحب والسعة.
قال: فكان عندها ثلاثاً، يبيت قائماً، وتبيت نائمة، ويصبح صائماً، وتصبح مفطرة، فلما مضت قال: ما لك عمل غير هذا؟. ما أوثق عملك عندك؟ فقالت: لا والله يا أخي ما هو إلا ما رأيت، إلا خصلة واحدة. قال: وما تلك الخصلة؟ قالت: إن كنتُ في شدّة لم أتمنَّ أني في رخاء، وإن كنتُ جائعة لم أتمنَّ أني شبعانة، وإن كنت في شمس لم أتمنَّ أن أكون في فيء، وإن كنتُ في فيء لم أتمنَّ أن أكون في شمس، وإن كنت في مرض لم أتمنَّ أني في صحة. قال: وأي خصلة هذه والله يعجز عنها العباد؟.

6 ـــ بنت أوس بن حارثة الطائي:

قال الحارث بن عوف لخارجة بن سنان: أتراني أخطب إلى أحد فيردني؟ فقال لغلامه: ارحل بنا، فركبا حتى انتهيا إلى أوس، فلما رأى الحارث بن عوف قال: مرحباً بك يا حارث، وما جاء بك؟ قال: جئتك خاطباً، قال: لست هناك، فانصرف، ولم يكلّمه، ودخل أوس على امرأته مغضباً، وكانت من بني عبس، فقالت: من رجل وقف عليك فلم يطل؟ قال: ذاك سيد العرب، الحارث بن عوف، قالت: فما لك لم تستفز له.
قال: إنه استحمق، جاءني خاطباً، قالت: فإذا لم تزوج سيد العرب فمن؟ قال: قد كان ذلك، قالت: فتدارك ما كان منك. قال: بماذا؟ قالت: أن تلحقه فترده وتقول: إنك لقيتني، وأنا مغضب، فلحقه، فقال له ذلك: فرجع مسروراً.

فقال أوس لزوجته: ادعي أكبر بناتي. فأتته، فقال: يا بنيّة هذا الحارث بن عوف سيد من سادات العرب قد جاءني خاطباً، وأراد أن أزوجك منه.

قالت: لا تفعل فإني لست بابنة عمّه فيرعني حقي، وليس بجارك فيستحي منك، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني. فدعا الوسطى فأجابت بمثل ذلك، فدعا الصغيرة فأخبرها، فقالت: لكني والله الجميلة الوجه، الصناع يداً، فإن طلقني فلا أخلف الله عليه بخير. فخرج إليه، فقال: قد زوجتك بهية بنت أوس، فأمر أمها أن تهيئها، ثم أمر ببيت فضرب له.

قال خارجة: فخرج إلينا، فقلنا له: أفرغت من شأنك؟ قال: لا والله، قلت: كيف؟ قال: لما مددت يدي إليها، قالت: مَهْ أعند أهلي وأخوتي؟ هذا والله ما لا يكون. فارتحلنا، فسرنا ما شاء الله، ثم عدل بها عن الطريق، ثم لحقناه، فقلت: أفرغت؟ قال: لا والله، قلت: ولِمَ؟ قالت: أو كما يفعل بالأمة والسبية، لا والله حتى تنحر الجزور، وتذبح الغنم، وتدعو العرب، وتعمل ما تعمل بمثلي.

قالت: قلت: إني والله لأرى همَّة وعقلاً، فرحلنا حتى جئنا بلادنا، فأحضر الإبل والغنم، ثم دخل عليها، ثم خرج، فقلت: أفرغت؟ قال: لا، قلت: ولِمَ؟ قال: دخلت عليها، فقلت: قد أحضرنا من المال ما تريدين، فقالت: والله لقد ذكرت لي من الشرف ما لا أراه فيك، قلت: فكيف؟ قالت: أتفرغ لنكاح النساء، والعرب تقتل بعضها بعضاً؟ وذلك في أيام حرب عبس وذبيان، قلت: فتقولين ماذا؟ قالت: أخرج إلى هؤلاء القوم، فأصلح بينهم، ثم ارجع إلى أهلك فلن يفوتوك.

قلت: والله إني لأرى همَّة وعقلاً، فخرجنا حتى أصلحنا بينهم، وحملنا عنهم الديات، وكانت ثلاثة آلاف بعير في ثلاث سنين، فانصرفنا بأجمل الذكر، فقال زهير بن أبي سُلمى في ذلك:

تَدَاركْتُمَا عَبْساً، وذبيانَ بَعْدَما

تَفَانَوا، ودقُّوا بينَهم عِطْرَ مَنْشَمِ

ذكر من نختار ذكرها من الصحابيات

1 ـــ ذكر خديجة ـــ رضي الله عنها ـــ:

عن إسماعيل بن أبي خالد عن ابن أوفى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «بشر خديجة بنت خويلد ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب».

عن عبد الله بن جعفر قال: سمعت علياً ـــ عليه السلام ـــ يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة».

وعن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلّملا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن عليها الثناء، فذكرها يوماً من الأيام، فأذكرتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزاً قد أخلف الله لك خيراً منها؟ قالت: فغضب حتى اهتزّ مقدم شعره من الغضب، ثم قال: «لا والله، وما أخلف الله لي خيراً منها، لقد آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها، إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها، إذ حرمني أولاد النساء»، قالت: فقلت بيني وبين نفسي: لا أذكرها بسوء أبداً.
2 ـــ ذكر فاطمة عليها السلام:

قال علي ـــ عليه السلام ـــ: «لقد تزوجت فاطمة وما لي ولها فراش غير جلد كبش ننام عليه بالليل، ونضعه على الناضح بالنهار، وما لي ولها خادم غيرها، ولما زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلّمبي بعث معها بخميلة، ووسادة أدم حشوها ليف، ورحائين، وسقاء، وجرتين، فجرّت بالرحى حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثرت القربة بنحرها، وقمّت البيت حتى أغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دنست ثيابها».

3 ـــ ذكر عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ:

عن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ أنها قالت: يا رسول الله ألا تُكنّيني قال: «تكني بابنك»، يعني عبد الله بن الزبير، فكانت تُكنى أم عبد الله».

ذكر رؤية عائشة جبريل عليه السلام:

عن أبي سلمة قال: قالت عائشة: رأيت النبي صلى الله عليه وسلّمواضعاً يده على معرفة فرس دحية الكلبي، وهو يكلمه، قالت: قلت: يا رسول الله، رأيتك واضعاً يدك على معرفة فرس، وأنت تكلمه. قال: أوَ رأيته؟ قلت: نعم. قال: «ذاك جبريل، هو يقرئك السلام»، قالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، جزاه الله من صاحب ودخيل خيراً، فنعم الصاحب، ونِعم الدخيل، قال سفيان: الدخيل: الضيف.
ذكر تعبُّد عائشة واجتهادها:

عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه حدّثه أن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ كانت تصوم الدهر ولا تفطر، إلا يوم أضحى، أو يوم فطر.
وعن القاسم قال: كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة، وأسلِّم عليها، فغدوت يوماً، فإذا هي قائمة تُسبح، وتقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَنَا عَذَابَ السَّمُومِ } (الطور: 27)، وتدعو، وتبكي، وترددها، فقمت حتى مللت، فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت، فإذا هي قائمة كما هي، تصلي، وتبكي.

ذكر كرم عائشة رضي الله عنها:

عن عبد الله بن الزبير ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة وأسماء، وجودهما مختلف، أما عائشة فكانت تجمع الشيء إلى الشيء، حتى إذا اجتمع عندها قسمت، وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئاً لغد.

ذكر مدح ابن عبَّاس لأم المؤمنين عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ:

عن عبد الله بن أبي مليكة أنه حدّثه ذكوان حاجب عائشة أنه جاء عبد الله بن عباس يستأذن على عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ فجئت وعند رأسها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن، فقلت: هذا ابن عباس يستأذن. فأكب عليها ابن أخيها عبد الله، فقال عبد الله: هذا ابن عباس، وهي تموت.

فقالت: دعني من ابن عباس، فقال لها: يا أماه إن ابن عباس من صالحي بنيك، يسلِّم عليك ويودِّعك. فقالت: أئذن له إن شئت، فأدخلته، فلما جلس قال: أبشري، فما بينك وبين أن تلقي محمداً صلى الله عليه وسلّموالأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد، كنتِ أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلّمإلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلّميحبّ إلا طيِّباً، وسقطت قلادتك ليلة الأبْواء، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلّمحتى تصبح في المنزل، وأصبح الناس ليس معهم ماء، فأنزل الله عز وجل: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً} (النساء: 43)، وكان ذلك في سبيلك، وما أنزل لهذه الأمة من الرخصة، وأنزل براءتك من فوق سبع سموات جاء بها الروح الأمين، فأصبح ليس مسجد من مساجد الله يذكر الله فيه، إلا تتلى فيه آناء الليل وآناء النهار، فقالت: دعني منك يا ابن عباس، فوالذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسياً منسياً.

4 ـــ ذكر حفصة بنت عمر ـــ رضي الله عنها ـــ:

قال المصنف رحمه الله: تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلّمبعد غزوة بدر، ثم إنه طلقها، فقال له جبريل: راجع حفصة، فإنها صوّامة قوّامة، وإنها زوجتك في الجنة، وفي رواية أراد أن يطلقها، فقال له جبريل ذلك.

5 ـــ ذكر زينب ـــ رضي الله عنها ـــ:

عن أنس بن مالك قال: كانت زينب بنت جحش تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلّمتقول: إنَّ الله أنكحني من السماء، وأطعم عليها يومئذ خبزاً ولحماً. قال: وكان القوم جلوساً في البيت، فخرج النبي صلى الله عليه وسلّم فلبث هنيهة، فرجع، والقوم جلوس، فشقَّ ذلك عليه، وعرف في وجهه ذلك، فنزلت آية الحجاب.

6 ـــ ذكر أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم

عن ثابت قال: حدثني ابن أم سلمة أن أبا سلمة جاء إلى أم سلمة فقال: لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلّمحديثاً أحب إليّ من كذا، لا أدري ما عدل به، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «لا تصيب أحداً مصيبة فيسترجع عند ذلك، ويقول: اللهم عندك أحتسب مصيبتي هذه، اللهم أخلفني فيها خيراً منها، إلا أعطاه الله عز وجل».

قالت أم سلمة: فلما أُصبت بأبي سلمة، قلت: اللهم أخلفني فيها بخير منها، ثم قالت: من خير من أبي سلمة أَلَيْس أَلَيْس، ثم قالت ذلك، فلما انقضت عدتها أرسل إليها أبو بكر يخطبها فأبت، ثم أرسل إليها عمر يخطبها فأبت.

ثم أرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلّميخطبها، فقالت: مرحباً برسول الله، إنّ فيّ خلالاً ثلاثة، أنا امرأة شديدة الغيرة، وأنا امرأة مصبية، وأنا امرأة ليس لي هاهنا أحد من أوليائي فيزوجني. فغضب عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلّمأشد مما غضب لنفسه حين ردَّته، فأتاها عمر رضي الله عنه، فقال: أنت التي تردّين رسول الله صلى الله عليه وسلّمبما تردّينه؟ فقالت: يا ابن الخطاب بي كذا وكذا.
فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلّمفقال: «أما ما ذكرت من غيرتك فإني أدعو الله عز وجل أن يُذهبها عنك، وأما ما ذكرتِ من صبيتك فإنَّ الله عز وجل سيكفيكهم، وأما ما ذكرت أنه ليس من أوليائك أحد شاهد، فليس من أوليائك أحد شاهد، ولا غائب يكرهني».
فقالت لابنها: زوِّج رسول الله صلى الله عليه وسلّم فزوَّجه.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أما إني لم أنقصك مما أعطيت فلانة، قال ثابت: قلت لابن أم سلمة: ما أعطى فلانة؟ قال: أعطاها جرتين تضع فيهما حاجتها، ورحى ووسادة من أدم حشوها ليف، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلّميأتيها، فلما رأته وضعت زينب أصغر ولدها في حجرها.

فلما رآها انصرف، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلّميأتيها، فوضعتها في حجرها، وأقبل عمار مسرعاً بين يدي النبي صلى الله عليه وسلّم فانتزعها من حجرها، وقال: هاتي هذه المشقوحة التي قد منعت رسول الله صلى الله عليه وسلّمحاجته. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلم يرها في حجرها، قال: أين زينب؟ قالت: أخذها عمار، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّمعلى أهله. قال: «وكانت في النساء كأنها ليست فيهن، لا تجد ما تجدن من الغيرة».

7 ـــ ذكر صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلّم

عن جابر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأتى بصفية يوم خيبر، وأتى برجلين: أحدهما زوجها، والآخر أخوها، وقد كان أعطاهما الأمان على أن لا يكتما شيئاً، فإن كتماه استحلَّ دماءهما، فأما أحدهما فصدّقه ولم يكتمه، وأما كنانة وهو زوج صفية، فكتمه مسك الجمل، وكان فيه حلي كثير، كان بعيره من غطفان، ويرتهن به الرهان، فقال: يا كنانة، إنك قد أعطيتني ألا تكتمني شيئاً، قال: أجل، قال: فأين مسك الجمل؟ قال: ما كتمتك شيئاً، فأتاه جبريل ـــ عليه السلام ـــ فأخبره بمكانه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّملأصحابه: اذهبوا فإنه في مكان كذا وكذا، فلما أتى به أمر بهما، فضربت أعناقهما.

وقال لبلال: خذ بيد صفية، فأخذ بيدها، فمرّ بها بين القتيلين، فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّمحتى رؤي في وجهه، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلّمفدخل عليها، فنزعت شيئاً كانت عليه جالسة، فألقته لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم خيَّرها بين أن يعتقها فترجع إلى من بقي من أهلها، أو تسلم فيتخذها لنفسه، فقالت: أختارُ الله ورسوله. فلما قالت ذلك، نادى رسول الله صلى الله عليه وسلّمالناس أن انصرفوا عن أمكم، فلما كان عشية زواجه أحقب بعيره، ثم خرجت معه تمشي حتى ثنى لها ركبته صلى الله عليه وسلّمعلى فخذه، فأجلَّت رسول الله صلى الله عليه وسلّمأن تضع قدمها على فخذه، فوضعت ركبتها على فخذه، فركبت، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلّم فألقى عليها كساء، ثم سارا.

وقال المسلمون حجبها رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى إذا كان على ستة أميال من خيبر مال يريد أن يعرّس بها، فأبت صفية، فوجد النبي صلى الله عليه وسلّمعليها في نفسه، فلما كان بالصهباء مال إلى دومة هناك، فطاوعته، فقال لها: ما حملك على إبائك حين أردتُ المنزل الأول؟ قالت: يا رسول الله، خشيت عليك قرب اليهود. فأعرس بها رسول الله صلى الله عليه وسلّمبالصهباء، واغتسل بالقصيبة على رأس ستة أميال، قال: وبات أبو أيوب ليلة يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدور حول خباء رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّمالوطء، قال: من هذا؟ قال: أنا خالد بن زيد، فرجع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّموقال له: ما لك؟ قال: ما نمت هذه الليلة مخافة هذه الجارية عليك. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلّمفرجع».
8 ـــ ذكر أم سليم:

عن أنس بن مالك قال: «خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: ما مثلك يرد، ولكن لا يحل لي أن أتزوجك يا أبا طلحة، وأنت كافر، فإن تسلم فذاك مهري، ولا أسألك غيره، فأسلم، فتزوجها.

قال ثابت: فما سمعنا بمهر قط كان أكرم من مهر أم سليم، الإسلام.

وعن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلّميدخل على أم سليم، فتبسط له النطع، فيقيل عندها، فتأخذ من عرقه، فتجعله في طيبها».

وعن أنس أن أبا طلحة زوج أم سليم كان له ابن منها يقال له حفص، غلام قد ترعرع، فأصبح أبو طلحة وهو صايم في بعض شغله، فأقبلت أم سليم على ذات بيتها، فخرج الغلام يلعب مع الصبيان، فلما جاء الغلام الغداة اضطجع على فراش مزمل قطيفة، فلما صنعت أم سليم غداء بيتها، جعلت تصرخ تناديه، فلا يستجيب لها، فلما رأت هذا شأنه، كشفت عن وجهه، فوجدته قد قبض في منامه، فزمَّلته كهيئته، وأقبلت على ذات بيتها، حتى إذا أمست جاء زوجها أبو طلحة، فقربت له فطره، فقال: ادعي لي ابني حفصاً يأكل معي، قالت: إنه قد فرغ. فلما فرغ الشيخ من فطره دنت منه، حتى إذا أصاب ما يصيب الرجل من أهله وفرغ، قالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن رجلاً أعارك عارية، فاستمتعت بها زماناً، وقرت بها عينك، ثم بدا له أن ينتزعها منك، أكنت واجداً عليه في نفسك؟ قال: لا وأبيك إذاً لقد ظلمت.

قالت: فإنَّ ابنك حفصاً أعاركه الله عز وجل ما شاء، ثم قد بدا له أن ينتزعه، وهو أحق به. قال: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رجِعونَ} (البقرة: 156)، ثم قاما فجهّزاه حتى فرغا منه، فلما أصبحا ذكرا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّمفقال: اللهم بارك لهما في ليلتهما، فحملت فجاءت بغلام فلما نفست قالت لابنها أنس بن مالك: أي بني، احمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّمفليحنِّكه، وليسمّه. قالت: فاحتمله أنس ـــ رضي الله عنه ـــ إلى النبي صلى الله عليه وسلّمفي خرقة حتى طلع به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو جالس في المسجد فقال: أنفست أم سليم؟ قال: نعم، وقد أرسلت به إليك لتحنّكه وتسميه. فسمّاه عبد الله، وأخذ تمرة فمضعها فلاكها في فيه فحنكه بها، فجعل الصبي يتلمظ حين وجد حلاوة التمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «حب الأنصار التمر».
9 ـــ ذكر أم حرام بنت ملحان:

عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس ـــ رضي الله عنه ـــ أنه سمعه يقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّميدخل على أم حرام بنت ملحان، فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلّميوماً فأطعمته، ثم جلست تفلي رأسه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلّمثم استيقظ، وهو يضحك.

قالت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج البحر، ملوكاً على الأسرّة أو مثل الملوك على الأسرة ـــ يشكّ أيهما قال ـــ قالت: فقلت: يا رسول الله، ادع الله ـــ عز وجل ـــ أن يجعلني منهم. قال: أنتِ من الأولين، فركبتْ أم حرام البحر زمن معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت».

10 ـــ ذكر أسماء بنت أبي بكر ـــ رضي الله عنها ـــ:

أسلمت قديماً، وهي ذات النطاقين، وكانت تمرِّض المرضى، فتعتق كل مملوك لها، وتوفيت بعد ابنها عبد الله بن الزبير بليال.

عن هشام عن أبيه قال: دخلت أنا وعبد الله بن الزبير على أسماء قبل قتل عبد الله بعشر ليال، وأسماء وجعة، فقال لها عبد الله: كيف تجدينك؟ قالت: وجعة، قال: إن في الموت راحة. فقالت: لعلك تشتهي موتي فلذلك تتمنَّاه، فلا تفعل، فوالله ما أشتهي أن أموت حتى يأتي على أحد طرفيك، إما أن تُقتل فأحتسبك، وإمّا أن تظفر فتقرَّ عيني، فإياك أن تعرض عليك خطة فلا توافقك، فتقبلها كراهية الموت.
وإنما عني ابن الزبير أن يقتل، فيحزنها ذلك.

11 ـــ ذكر الربيع بنت معوذ بن عفراء:

عن خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوذ بن عفراء، قالت: «كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فنخدم القوم، ونسقيهم، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة».

12 ـــ ذكر أم الدحداح:

عن أنس أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلّمفقال: يا رسول الله، إنَّ لفلان نخلة، وإنما قوام حائطي بها، فأمُرْه أن يعطيني حتى أقيم بها حائطي.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أعطها إياه بنخلة في الجنة» فأبى، فأتى أبو الدحداح الرجل فقال: بعني نخلتك بحائطي. ففعل، فأتى أبو الدحداح النبي صلى الله عليه وسلّمفقال: يا رسول الله، إني قد ابتعتُ النخلة بحائطي، فاجعلها له فقد أعطيتكها.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «كم من عذق رداح لأبي الدحداح في الجنة»، قالها مراراً.

فأتى أبو الدحداح امرأته، فقال: يا أم الدحداح، اخرجي من الحائط، فقد بعته بنخلة في الجنة. فقالت: ربح البيع ربح البيع، أو كلمة تشبهها.

13 ـــ ذكر أم عطية:

عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت: «غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلّمسَبْعَ غزوات، وكنت أخلُفُهم في الرحال، وأصنع لهم الطعام، وأقوم على المرضى، وأداوي الجرحى».

14 ـــ ذكر أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط:

عن أبي إسحاق بن شهاب قال: هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في مدة الحديبية، فخرج أخواها عمارة والوليد حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلّم

قال الحربي: وحدثنا محمد بن صالح عن محمد بن عمر عن ربيعة بن عثمان وقدامة، قالا: لا نعلم قرشية خرجت من بين أبويها مسلمة مهاجرة إلا أم كلثوم.

قالت: كنت أخرج إلى بادية لنا فيها أهلي، ولا ينكرون ذهابي البادية حتى أجمعت المسير، فخرجت يوماً من مكة كأني أريد البادية، فلما رجع من معي، إذا رجل من خزاعة، قال: أين تريدين؟ قلت: ما مسألتك، مَنْ أنت؟ قال: رجل من خزاعة، فلما ذكر خزاعة اطمأنت إليه لدخول خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّموعقده، فقلت: إني امرأة من قريش، وإني أريد اللحوق برسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا علم لي بالطريق. فقال: أنا صاحبك حتى أوردك المدينة.

ثم جاءني ببعير فركبته، فكان يقود لي البعير، ولا والله ما يكلمني بكلمة حتى إذا أناخ البعير تنحّى عني، فإذا نزلت، جاء إلى البعير، فقيّده بالشجرة، وتنحّى إلى فيء شجرة، حتى إذا كان الرواح أخرج البعير فقرَّبه، وولَّى عني، فإذا ركبتُ، أخذ برأسه، فلم يلتفت وراءه حتى أنْزل، فلم يزل كذلك حتى قدمنا المدينة، فجزاه الله من صاحب خيراً، فدخلت على أم سليم، وأنا متنقبة فما عرفتني، حتى انتسبت، وكشفت النقاب، فالتزمتني، وقالت: هاجرت إلى الله ورسوله، قلت: نعم، وأنا أخاف كما ردّ أبا جندل، وأبا بصير، وحال الرجل ليس كحال النساء، والقوم مصبِّحي، قد طالت غيبتي عنهم، اليوم خمسة أيام منذ فارقتهم، وهم يتحينون قدر ما كنت أغيب، ثم يطلبوني، فإن لم يجدوني رحلوا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّمعلى أم سليم، فأخبرته خبر أم كلثوم، فرحّب وسهّل.

فقلت: إني قد فررت إليك بديني، فامنعني ولا تردني لهم، يفتنوني ويعذبوني، ولا صبر لي على العذاب، إنما أنا امرأة، وضعف النساء إلى ما تعرف، وقد رأيتك رددت رجلين حتى امتنع أحدهما، فقال: إن الله ـــ عز وجل ـــ قد نقض العهد في النساء، وحكم في ذلك بحكم رضوه كلهم، فكان يردّ من جاء من الرجال، ولا يردّ النساء، فقدم أخواها الوليد وعمارة من الغد.

فقالا: أوف لنا بشرطنا، وما عاهدتنا عليه. قال: «قد نقض الله ذلك»، فانصرفا.

قال المصنف ـــ رحمه الله ـــ قلت: وكانت أم كلثوم عاتقاً حينئذ، فلما هاجرت تزوجت زيد بن حارثة، فقتل عنها، فتزوجها الزبير، فولدت له زينب، ثم تزوجها عبد الرحمن بن عوف، فولدت له إبراهيم وحميداً، ثم تزوجها عمرو بن العاص فماتت عنده.
15 ـــ ذكر امرأة من المهاجرات:

عن أنس ـــ رضي الله عنه ـــ قال: «دخلنا على رجل من الأنصار، وهو مريض مقبل، فلم نبرح حتى مات، فبسطنا عليه ثوبه، وأم له عجوز كبيرة عند رأسه، فالتفت إليها بعضُنا، فقال: يا هذه احتسبي مصيبتك عند الله، قالت: وما ذاك، مات ابني؟ قلنا: نعم، قالت: أحق ما تقولون؟ قلنا: نعم، فمدّت يدها إلى الله ـــ عز وجل ـــ فقالت: اللهم إنك تعلم أني أسلمت، وهاجرت إلى رسولك رجاء أن تعينني عند كل شدة ورخاء، فلا تحملن عليّ هذه المصيبة اليوم، قال: فكشف الثوب عن وجهه، فما برحنا حتى طعمنا معه» لفظ ابن المهدي.
16 ـــ امرأة أخرى من المهاجرات:

عن ابن سيرين أن أبا بكر ـــ رضي الله عنه ـــ أتى بمال فقسَّمه بين الناس، فبعث منه إلى امرأة من المهاجرات، فلما أُتيتْ به قالت: ما هذا؟ قالوا: أبو بكر جاءه مال، فقسَّمه في الناس، فقسم منه في نظرائك، فقالت: أتخافونني أن أدع الإسلام؟ قالوا: لا، قالت: أفترشونني على ديني؟ قالوا: لا، قالت: لا حاجة لي فيه.

17 ـــ اليمنية:

عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: جاءت امرأة من اليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلّمفقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يشفيني، قال: «إنْ شئت دعوت لك، وإن شئت فاصبري، ولا حساب عليك»، قالت: بل أصبر، ولا حساب عليَّ ـــ رحمها الله.

ذكر جماعة من الفاضلات بعد الصحابيات بشرف أو علم أو تعبُّد أو كرم

1 ـــ عابدة من أهل المدينة:

عن عبد الله بن أسلم عن أبيه عن جده قال: بينما أنا مع عمر بن الخطاب ـــ رضي الله عنه ـــ وهو يعسّ المدينة إذ أعيا، فاتكأ على جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة تقول لابنتها: يا ابنتاه، قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء.
فقالت: يا أمتاه وما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم. قالت: وما كان من عزمته يا بنيّة؟ قالت: إنه أمر منادياً، فنادى ألا يشاب اللبن بالماء. فقالت لها: يا بنيّة قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء، فإنك في موضع لا يراك عمر.
فقالت الصبية لأمها: ما كنت لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلاء. وعمر يسمع ذلك، فقال: يا أسلم علِّم الباب، واعرف الموضع، ثم مضى في عشيّته، فلما أصبح، قال: يا أسلم، امضِ إلى الموضع فانظر من القائلة، ومن المقول لها، وهل لهم من بعل.
قال: فأتيت الموضع، فنظرت، فإذا الجارية أيِّم، وإذا تلك أمها: وإذا ليس لهم رجل، فأتيت عمر فأخبرته، فدعا ولده فجمعهم، قال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوِّجه؟ ولو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه منكم أحد إلى هذه الجارية.h
فقال عبد الله: لي زوجة، وقال عبد الرحمن: لي زوجة، وقال عاصم: لا زوجة لي، فزوجني. فبعث إلى الجارية، فزوجها من عاصم، فولدت لعاصم بنتاً، وولدت البنت عمر بن عبد العزيز.

2 ـــ ذكر زوجة شريح القاضي:

قال الشعبي: قال لي شريح عليكم بنساء بني تميم، فإنهن النساء. قلت: كيف؟ قال: انصرفت من جنازة يوماً، فمررت بدور بني تميم، فإذا امرأة جالسة على وسادة، وتجاهها جارية زؤود لها ذؤابة، فأعجبتني فقلت: من هذه؟ قالت: ابنتي، قلت: فمن؟.
قالت: هذه زينب بنت جدير إحدى نساء بني تميم.

قلت: أفارغة أم مشغولة؟

قالت: فارغة. قلت: أفتزوجينها؟ قالت: نعم، إن كنت كفوءاً، ولها عمّ، فاقصده. فأرسلتُ إلى مسروق وأبي بردة وغيرهما، فوافينا عمَّها فقال: ما حاجتك؟ قلت: بنت أخيك زينب بنت جدير. فزوجني، ثم زُفّتْ إليّ.

فلما خلا البيت قلت لها: إن من السنّة أن تصلي ركعتين، وأسأل الله تعالى خير ليلتنا. فالتفت، فإذا هي خلفي تصلي.
ثم التفت، فإذا هي على فراشها، فمددت يدي، فقالت: على رسلك إني امرأة غريبة، ووالله ما سرت سيراً قط أشدّ عليّ منه، وأنت رجل غريب لا أعرف أخلاقك، فحدثني بما تُحب فآتيه، وما تكره فأنزجر عنه. فقلت: أحب كذا، وأكره كذا. فقالت: أخبرني عن أختانك، أتحب أن يزوروك؟ قلت: ما أحب أن يملّوني، فبتُّ بأنعم ليلة.

ثم أقمت عندها ثلاثاً، ثم رجعت إلى مجلس القضاء، فكنت لا أرى يوماً، إلا وهو أفضل من الذي قبله، حتى إذا كان رأس الحول، دخلت منزلي فإذا عجوز تأمر وتنهى.

فقلت: يا زينب، من هذه؟ قالت: أمي. قلت: حياك الله بالسلام. قالت: كيف أنت وزوجتك؟ قلت: على خير. قالت: إنْ رابك ريب فالسوط. قلت: أشهد أنها ابنتك. فكانت كل حول تأتينا فتقول هذا، ثم تنصرف، فما غضبتُ عليها إلا مرّة، كنت لها فيها ظالماً، كنت أمام قومي، فسمعت الإقامة، وقد رأيت عقرباً، فعجلت عن قتلها، وكفأت الإناء عليها، وقلت: لا تحركي الإناء حتى أجيء، فعجلت الإناء فضربتها العقرب، فجئت وهي تلوي، فلو رأيتني يا شعبي وأنا أفرك إصبعها في الماء والملح، وأقرأ عليها.

وكان لي جار لا يزال يضرب امرأته فقلت:

رأيتُ رجالاً يضربون نسَاءَهم

فشلّتْ يميني يومَ أضربُ زينبا

يا شعبي: وددت أني قاسمتها عيشي.

3 ـــ خنساء بنت عمرو النخعيّة:

لما اجتمع الناس بالقادسية، دعت خنساء بنت عمرو بنيها الأربعة، فقالت: يا بني، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم، وما بنت بكم الدار، ولا أقحمتكم السنة، ولا أرداكم الطمع، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا غيَّرت نسبكم، ولا وطأت حريمكم، ولا أبحت حماكم، فإذا كان غداً، فاغدوا لقتال عدوكم، مستنصرين الله، مستبصرين.
فغدوا، وقاتلوا، وكانوا إذا جاؤوا بأعطيتهم يصبونها في حجرها، فتقسم ذلك بينهم حفنة حفنة، فما يغادر واحد من عطائه درهماً.
4 ـــ سُكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب:

واسمها آمنة، وقيل: سكينة لقب عُرفت به، كانت من أهل الجمال والأدب والفصاحة بمنزلة عظيمة، وكان منزلها يألف الأدباء والشعراء، وتزوجت عبد الله بن الحسن بن علي، فقُتل بالطائف قبل أن يبني بها، ثم تزوجها مصعب بن الزبير، ومهرها ألف ألف درهم، وحملها أخوها علي بن الحسين فأعطاه أربعين ألف دينار، فولدت له الرباب، وكانت تلبسها اللؤلؤ، وتقول ما ألبسها إلا لتفضحه.
5 ـــ فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب:

تزوجها الحسن بن الحسن بن علي، وذلك أنه خطب إلى عمه الحسين، فقال: يا ابن أخي، قد انتظرت هذا منك، انطلق معي. فخرج معه، حتى أدخله منزله، ثم أخرج إليه ابنتيه فاطمة وسكينة فقال: اختر، فاختار فاطمة، فزوّجه إياها، فلما حضرت الحسن الوفاة. قال لفاطمة: إنك امرأة مرغوب فيك، وكأني بعبد الله بن عمرو بن عثمان، إذا خرج بجنازتي، قد جاء على فرس مرجّلاً جمّته لابساً حلّته، يسير في جانب الناس، يتعرض لك، فانكحي من شئت سواه، فإني لا أدع من الدنيا ورائي همَّاً غيرك.

فقالت له: أنت آمن من ذلك، والجنة بالإيمان من العتق والصدقة، فوافى عبد الله بن عمرو في الحال الذي وصف، فنظر إلى فاطمة حاسرة تضرب وجهها، فأرسل إليها أن لنا في وجهك حاجة فارفقي به، فاسترخت يداها، وعرف ذلك منها، فلما حلت، أرسل يخطبها، وقالت: كيف بيميني؟ قال: لك مكان كل مملوك مملوكان، ومكان كل شيء شيئان، فعوضها من يمينها، فنكحته، وولدت له محمد الديباج، والقاسم، ورقية.

6 ـــ عائشة بنت طلحة بن عبيد الله بن عثمان التيمية:

أمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق ـــ رضي الله عنه ـــ كانت فائقة في الحسن، فتزوجها مصعب ابن الزبير، وأمهرها خمسمائة ألف درهم، وأهدى لها مثل ذلك، ودخل عليها يوماً، وهي نائمة، ومعه لؤلؤ قيمته عشرون ألفاً، فأيقظها، ونثر اللؤلؤ في حجرها.

فقالت له: نومتي كانت أحب إليَّ من هذا اللؤلؤ، وحجت، ومعها ستون بغلاً عليها الهوادج والرحائل، وقدمت في آخر عمرها على هشام بن عبد الملك، فأمر لها بمائة ألف درهم.

7 ـــ ذكر أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان أخت عمر:

كانت من الأجواد الكرماء، وكانت تقول: لكل قوم نهمة في شيء، ونهمتي في الإعطاء. وكانت تعتق كل جمعة رقبة، وتحمل على فرس في سبيل الله عز وجل، وتقول: أف للبخل لو كان قميصاً لم ألبسه، ولو كان طريقاً لم أسلكه.

8 ـــ الخيزرانة بنت نجيح:

بربرية اشتراها المهدي وتزوجها، فولدت له الهادي والرشيد، وكانت عليها مائتي ألف ألف وستين ألف ألف درهم، ولما وُلِّيَ محمد بن سليمان البصرة أهدى إليها مائة وصيفة بيد كل وصيفة جام من ذهب مملوء مسكاً. فقبلت ذلك منه، وكتبت إليه: عافاك الله إن كان ما وصل إلينا منك ثمن رأينا فيك، فقد بخستنا القيمة، وإن كان وزن ميلك إلينا فظنّنا بك فوقه. ولما ماتت شدَّ الرشيد وسطه، وأخذ بقائمة السرير، ومشى حافياً حتى أتى مقابر قريش.

9 ـــ زبيدة بنت جعفر بن المنصور:

ولدت في زمن المنصور، وكان يرقصها ويقول: أنت زبدة، وأنت زبيدة. فغلب عليها هذا الاسم، وتكنى أم جعفر وأمة العزيز، وليس في بنات هاشم عباسية ولدت خليفة إلا هي، وكانت معروفة بالخير والأفضال على العلماء والفقراء، ولها آثار كثيرة في طريق مكة والحرمين الشريفين، وساقت الماء من أميال حتى أوصلته بين الحل والحرم، ووقفت أموالها على عمارة الحرمين، وحجت، فبلغت نفقتها أربعة وخمسين ألف ألف.

وقالت للمأمون عند دخوله بغداد: أهنيك بخلافة قد هنأت نفسي بها عنك قبل أن أراك، ولئن كنت قد فقدت ابناً خليفة لقد عوضت ابناً خليفة لم ألده، وما خسر من اعتاض مثلك ولا ثكلت أم ملأت يدها منك، وأنا أسأل الله أجراً على ما أخذ، وإمتاعاً بما عوض. فقال المأمون: ما تلد النساء مثل هذه، وماذا أبقت في هذا الكلام لبلغاء الرجال؟.

10 ـــ عُلَيَّة بنت المهدي:

أمها أم ولد، اسمها مكنونة، اشتُريت للمهدي بمائة ألف درهم، فولدت عليّة، وكانت من أجمل النساء، وأظرفهن، وأكملهن عقلاً وأدباً ونزاهة وصيانة وظرفاً، وكان في جبهتها سعة تشين، فاتخذت العصابة المكللة بالجوهر، لتستر بها جبينها، وهي أول من اتخذها.
وكانت كثيرة الصلاة، ملازمة للمحراب، وقراءة القرآن.

وكانت تتزيَّن وتقول: ما حرم الله شيئاً إلا وقد جعل فيما أحل عوضاً منه، فبماذا يحتجّ العاصي؟ وكانت تقول: اللهم لا تغفر لي حراماً أتيته، ولا استفزني لهو إلا ذكرت نسبي من رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقصرت عنه، ولها شعر مليح مثل قولها:

كتَمْتُ اسمَ الحبيبِ عن العبادِ

وردَّدُت الصَّبابةَ في فؤادي

فَوا شَوقي إلى بلدٍ خليَ

لعلي باسمِ مَن أهْوَى أُنادي

11 ـــ بوران بنت الحسن بن سهل:

تزوجها المأمون، ومضى للبناء بها إلى معسكر الحسن، بفم الصلح، فدخل عليها، فنثرت عليها جدتها ألف درة كانت في صينية من ذهب، وفرش له حصير من ذهب، ونثر عليه الدرّة، فقال المأمون لمن حوله من بنات الخلفاء: شرفن أبا محمد، فأخذت كل واحدة درة، وأشعل بين يديه شمعة عنبر وزنها مائة رطل، ونثر على القواد رِقَاع فيها أسماء ضياع، فمن وقعت بيده رقعة أُشهد له.
يا نفسُ صبراً إنها ميتة

مجرَّعها الكاذب والصّادقُ

ظن بنات أنَّني خُنْتُه

روحي إذاً، من جسدي، طالقُ

12 ـــ بدعة جارية عريب:

مولاة المأمون كانت مغنِّية، فبذل إسحاق بن أيوب لمولاتها في ثمنها مائة ألف دينار، وللسفير بينهما عشرين ألفاً، فدعتها، فأخبرتها بالحال، فلم تؤثر البيع، فأعتقتها من وقتها، فلما ماتت خلفت مالاً كثيراً وضياعاً ما ملكها رجل قط.

13 ـــ شجاع أم المتوكل:

كانت كريمة من مسرورات النساء، حجَّت فشيَّعها المتوكل، فلما صارت إلى الكوفة، أمرت لكل رجل من العباسيين والطالبيين بألف درهم، ولأبناء المهاجرين بخمس مائة درهم، ولكل امرأة من الهاشميات بخمس مائة درهم، ولكل امرأة من المهاجرين بعشرة دنانير، ثم خلفت من العين خمسة آلاف دينار، وخمسين ألف دينار، ومن الجوهر ما قيمته ألف ألف دينار.

14 ـــ شغب، أم المقتدر:

كان يُرفع لها من ضياعها كل عام ألف ألف دينار، وكانت تتصدق بأكثر ذلك، وتواظب على مصالح الحاج، وتبعث خزانة الشراب والأطباء معهم، وتأمر بإصلاح الحياض، فلما قتل ولدها، وولي القاهر، عاقبها، فأخذ منها مائة ألف وثلاثين ألف دينار.

15 ـــ عابدتان مدنيتان:  

بلغنا عن عبد الله ابن أخت مسلم بن سعد أنه قال: أردت الحج فدفع إليّ خالي عشرة آلاف درهم، وقال لي: إذا قدمت المدينة فانظر إلى أفقر أهل بيت في المدينة، فأعطهم إياها، فلما دخلت سألت عن أفقر أهل بيت في المدينة، فأعطهم إياها، فلما دخلت سألت عن أفقر أهل بيت في المدينة، فدُللت على أهل بيت، فطرقت الباب فأجابتني امرأة، من أنت؟ فقلت: رجل من أهل بغداد، أودعت عشرة آلاف، وأمرت أن أسلِّمها إلى أفقر أهل بيت بالمدينة، وقد وُصفتم لي، فخذوها، فقالت: يا عبد الله إنَّ صاحبك اشترط أفقر أهل بيت، وهؤلاء الذين بإزائنا أفقر منَّا.

فتركتهم، وأتيت أولئك فطرقت الباب فأجابتني امرأة، فقلت لها مثل الذي قلت لتلك المرأة، فقالت: يا عبد الله نحن وجيراننا في الفقر سواء، فاقسمها بيننا وبينهم.

16 ـــ عابدة مكية:

قال مالك بن دينار: رأيت بمكة امرأة من أحسن الناس عينين، وكنّ النساء يجئن فينظرن إليها، فأخذت في البكاء.

فقيل لها: تذهب عيناك، فقال: إن كنت من أهل الجنة، فسيبدلني الله عينين أحسن من هاتين، وإن كنت من أهل النار، فسيصيبني أشدّ من هذا. فبكت حتى ذهبت إحدى عينيها.

17 ـــ عابدة أخرى:

قال ابن أبي رواد: كانت عندنا امرأة بمكة تُسبِّح كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة فماتت، فلما بلغت القبر اختلست من أيدي الرجال.
18 ـــ عابدة أخرى:

قال هشام بن حسّان: خرجنا حجاجاً، فنزلنا منزلاً، فقرأ رجل منا: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ } (الحجر: 44) فسمعت امرأة، فقالت: أعد. فأعاد، فقالت: خلَّفت لي في البيت سبعة أُعبُد، أشهدكم أنهم أحرار لوجه الله تعالى، لكل باب واحد منهم.
19 ـــ عابدة أخرى:

كانت تأوي إلى سراب، فقيل لها: كيف ترضين بهذا؟ فقالت: هذا لمن يموت كنز.

20 ـــ عابدة أخرى من أهل بغداد:

كانت جوهرة امرأة أبي عبد الله البرائي جارية لبعض الملوك فعتقت، فخلعت الدنيا، ولزمت أبا عبد الله البرائي، فتزوج بها، وتعبدت، فرأت في المنام خياماً مضروبة، فقالت: لمن هذه؟ فقيل: للمتهجدين بالقرآن، فكانت بعد ذلك لا تنام، وكانت تقول لزوجها: كاروان برفت؛ أي قد سارت القافلة.

21 ـــ امرأة يوسف بن أسباط:

قرأت على أبي الفضل بن منصور بسنده إلى محمد بن عياش قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: استأذنتني أهلي أن تزور أباها، فقبضت على كمها بين المغرب والعشاء، وذهبت بها حتى أديتها إليهم، وقعدت على الباب حتى خرجت فرددتها، فما رجعت نفسها إليها سنة.

22 ـــ أخت بشر الحافي:

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: دقّ الباب يوماً، فخرجت، فإذا امرأة تستأذن على أبي، فأذن لها، فقالت: أنا أغزل بالليل في السراج، فربما طفىء السراج، فأغزل في ضوء القمر، فهل عليّ أن أبيّن غزل القمر من غزل السراج؟ فقال: إن كان عندك بينهما فرق، فعليك أن تبيِّني ذلك.

فقالت: يا أبا عبد الله، أنين المريض شكوى؟

قال: أرجو أن لا يكون شكوى ـــ ولكنه اشتكاء إلى الله عز وجل. فخرجتْ، فقال: يا بنيّ، اتبع هذه المرأة، وانظر أين تدخل. فتتبعتها فإذا قد دخلت بيت بشر، وإذا هي أخته، قال: فرجعت فقلت له: محال أن تكون مثل هذه إلا أخت بشر.

وقال عبد الله بن أحمد: جاءت مُخّة، أخت بشر إلى أبي، فقالت: إني امرأة رأس مالي دانقان، أشتري القطن فأردنه، فأبيعه بنصف درهم، فأتقوّت بدانق من الجمعة إلى الجمعة، فمرّ أبو طاهر الطائف، ومعه مشعل فوقف يكلم أصحاب المصالح، فاغتنمت ضوء المشعل، فغزلت طاقات، ثم غاب عني المشعل، فعلمت أن لله في ذلك مطالبة، فخلّصني خلصك الله. فقال: تخرجين الدانقين، وتبقين بلا رأس مال حتى يعوّضك الله تعالى خيراً منه.

23 ـــ عابدة أخرى:

سألت امرأة من المتعبدات إبراهيم الخواص، عن تغيّر وجدَتْه في قلبها، وتغيّر في أحوالها، فقال لها: تفقَّدي. قالت: فقد تفقدت فما رأيت شيئاً. قال: أما تذكرين ليلة المشعل؟ فقالت: بلى، فقال: هذا التغيُّر من ذلك. فبكت.

وقالت: نعم كنتُ أغزل فوق السطح فانقطع خيطي، فمر مشعل السلطان، فغزلتُ في ضوئه خيطاً، ثم أدخلتُ ذلك الخيط في غزلي، ونسجت منه قميصاً ولبسته، ثم قامت، فنزعت القميص، وقالت: يا إبراهيم إنْ أنا بعته وتصدقت بثمنه يرجع قلبي إلى الصفاء؟ فقال: إن شاء الله تعالى ذلك.

24 ـــ عابدة أخرى:

بلغني أن امرأة من أهل بغداد كانت على قدم التقوى والمحاسبة لنفسها، فلقيها رجل، فقرص كتفها، فجاءت إلى زوجها، فقالت له: بالله عليك، أصدقني ما الذي فعلت اليوم من الذنوب؟ فقال: قرصتُ كتف امرأة، فقالت: فقد قُرص كتفي، فقيل لها: من أين علمت؟ قالت: أنا على قدم المراقبة والاحتراس من نفسي، فعلمت أني أوتيت من قبله.

25 ـــ عابدات كوفيات:

كانت أم حسان مجتهدة، فدخل عليها سفيان الثوري، فلم يرَ في بيتها غير قطعة حصير خَلق، فقال لها: لو كتبت رقعة إلى بعض بني أعمامك لغيّروا من سوء حالك، فقالت: يا سفيان: قد كنت في عيني أعظم وفي قلبي أكبر مذ ساعتك هذه، أما إني ما أسألُ الدنيا من يملكها، فكيف أسألُ من لا يملكها؟ يا سفيان: والله ما أحب أن يأتي عليّ وقت، وأنا متشاغلة فيه عن الله بغير الله. فبكى سفيان.
وقالت أم سفيان الثوري له: يا بني، اطلب العلم، وأنا أكفيك بمغزلي، يا بني، إذا كتبت عشرة أحرف، فانظر هل ترى في نفسك زيادة؟ فإن لم ترَ ذلك فاعلم أنه لا ينفعك.

وكانت أم الحسن بن صالح تقوم ثلث الليل، وتبكي الليل والنهار، فماتت، ومات الحسن، فرؤي في المنام، فقيل: ما فعلت الوالدة؟ فقال: بُدِّلت بطول ذلك البكاء سرور الأبد.

أذنب غلام لامرأة، فتبعته بالسوط. فلما قربت منه، رمت السوط، وقالت: ما تركت التقوى أحداً يشفي غيظه.

كانت عابدة لا تنام الليل إلا اليسير، فعوتبت في ذلك، فقالت: كفى بالموت وطول الرقدة في القبور للمؤمن رقاداً.
26 ـــ عابدات بصريات:

كانت معاذة العدوية إذا جاء النهار تقول: هذا يومي الذي أموت فيه، فما تفطر حتى تمسي، وإذا جاء الليل قالت: هذه ليلتي التي أموت فيها، فما تنام حتى تصبح، وإذا جاء البرد لبست الثياب الرقاق حتى يمنعها البرد من النوم، وكانت تصلي كل يوم وليلة ستمائة ركعة، وتقول: عجبت لعين تنام، وقد عرفت طول الرقاد في ظلم القبور، ولم ترفع رأسها إلى السماء أربعين سنة، وقتل زوجها وابنها في غزاة، فاجتمع النساء عندها، فقالت: مرحباً، من جاءت تهنيني فمرحباً، ومن جاء لغير ذلك فلترجع.

وكانت حفصة بنت سيرين قد قرأت القرآن، وهي ابنة اثنتي عشرة سنة، وماتت وهي بنت تسعين سنة، ومكثت في مصلاها ثلاثين سنة لا تخرج إلا لحاجة، وكانت جاريتها تقول: أذنبت سيدتي ذنباً عظيماً، فهي الليل تبكي كله وتصلّي، وكانت تصوم الدهر، وتقرأ القرآن في يومين، وربما طفيت سراجها، فأضاء لها البيت حتى تصبح.

27 ـــ وكانت رابعة العدوية:

قد بلغت ثمانين سنة كأنها الشن البالي، وكان في بيتها كراخة بواري ومشجب قصب عليه أكفانها، فإذا ذكرت الموت ارتعدت، وكان سفيان يقول: مُرُّوا بنا إلى المؤدبة. فدخل عليها يوماً فقال: واحزناه فقالت: قل وا قلّة حزناه لو كنت محزناً ما هنَّاك العيش، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم مضى بعضك. وكانت تصلي الليل كله، فإذا أضاء الفجر هجعت يسيراً، ثم قامت تقول: يا نفس، كم تنامين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور.

28 ـــ حبيبة العدوية:

وكانت حبيبة العدوية تقف بالليل إلى السحر، وتقول: قد خلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك. فإذا جاء السحر، قالت: يا ليت شعري هل قبلت منّي ليلتي فأهنأ، أم رددتها عليّ فأعزّى.

29 ـــ عفيرة العابدة:

ودخلوا على عفيرة العابدة فقالوا: ادعي الله لنا. فقالت: لو خرس الخاطئون ما تكلمت عجوزكم، ولكن المحسن أمر المسيء بالدعاء، جعل الله قراكم الجنة، وجعل الموت مني ومنكم على بال؛ وقدم ابن أخ لها من غيبة طويلة، فبشرت به، فبكت فقيل لها: ما هذا البكاء؟ اليوم يوم فرح وسرور. فازدادت بكاء ثم قالت: والله ما أجد للسرور في قلبي سكناً مع ذكر الآخرة، ولقد أذكرني قدومه يوم القدوم على الله، فمن بين مسرور ومثبور.

30 ـــ عبيدة بنت أبي كلاب:

وبكت عبيدة بنت أبي كلاب أربعين سنة حتى ذهب بصرها، وقالت: أشتهي الموت، لأني أخشى أن أجني جناية يكون فيها عطبي أيام الآخرة.

31 ـــ عمرة امرأة حبيب العجمي:

كانت توقظه بالليل، وتقول: قم يا رجل، فقد ذهب الليل، وبين يديك طريق بعيد، وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا، ونحن قد بقينا.

32 ـــ زجلة العابدة:

ودخلوا على زجلة العابدة مولاة معاوية، وكانت قد صامت حتى اسودَّت، وبكت حتى عمشت، وصلَّت حتى أقعدت، فذكروا العفو، فقالت: علمي بنفسي قرَّح فؤادي، وكلم قلبي، والله لوددت أن الله لم يخلقني.

33 ـــ وكانت راهبة العابدة:

كثيرة التعبّد، فلما احتضرت قالت: يا ذخري وذخيرتي، ومن عليه اعتمادي، لا تخذلني عند الموت، ولا توحشني في قبري. فماتت، وكان ابنها يتردد إلى قبرها كل جمعة، فرآها في المنام فقال: يا أماه، كيف أنت؟ قالت: يا بني، إن للموت كربة شديدة، وأنا بحمد الله لفي برزخ محمود، نفترش فيه الريحان، ونتوسد فيه السندس والإستبرق، إلى يوم النشور، وإنِّي لأبشر بمجيئك يوم الجمعة، فيقال لي: يا راهبة، هذا ابنك قد أقبل، مِنْ أهلِهِ زائراً لك، فأُسرّ بذلك، ويُسر مَنْ حوْلي من الأموات.

وتزوج رباح القيس امرأةً، فنام في أول الليل ليختبرها، فقامت ربع الليل ثم نادته. قم يا رباح فقال: أقوم، فقامت: الربع الآخر، ثم نادته: قم يا رباح فقال أقوم، فقامت الربع الآخر وقالت: مضى الليل، وعسكر المحسنون، وأنت نائم ليت شعري من غرّني بك يا رباح
وكانت امرأة من الصالحات تعجن عجينها، فبلغها موت زوجها، فرفعت يدها منه، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء.
وجاء أخرى موت زوجها، والسراج يشتعل، فأطفأته، وقالت: هذا زيت قد صار لنا فيه شريك.g

واختار بعض الأمراء بنات حاتم الأصم فطلب ماء، فسقي، فرمى إليها شيئاً من المال، فوافقه أصحابه، فبكت بنيَّة صغيرة لحاتم، فقالوا: ما يبكيك؟ قالت: مخلوق نظر إلينا فاستغنينا، فكيف لو نظر إلينا الخالق سبحانه وتعالى؟

34 ـــ جارية هشام بن عبد الملك:

عن يونس قال: اشترى هشام بن عبد الملك جارية، وخلا بها، فقالت له: يا أمير المؤمنين، ما منزلة أطمع فيها فوق منزلتي هذه، إذ صرت للخليفة، ولكن النار ليس لها حظر، إنَّ ابنك فلاناً اشتراني، وكنت عنده، لا أدري أذكر ليلة ونحو ذلك، وإن لا يحل لك مسّي. قال: فحسن هذا القول منها عنده، وحظيت، وتركها، وولاها أمرها.

35 ـــ امرأة بدر المغازلي:

عن محمد بن الحسين السلمي، قال: قال أبو محمد الحريري: كنت عند بدر المغازلي، وكانت امرأته. باعت داراً لها بثلاثين ديناراً، فقال لها بدر: نفرّق هذه الدنانير في إخواننا ونأكل رزق يوم بيوم، فأجابته إلى ذلك، وقالت: تزهد أنت ونرغب نحن، هذا ما لا يكون.
36 ـــ ميمونة بنت شاقولة الواعظة:

أخبرنا محمد بن ناصر، قال أبو علي بن المهدي، قال: أخبرني أبي قال: سمعت ميمونة بنت شاقولة الواعظة تقول: هذا قميص له اليوم سبع وأربعون سنة، ألبسه وما تخرّق، غزلته لي أمي، وصبغته بماء السنابك، والثوب إذا لم يعص الله فيه لا يتخرَّق سريعاً، وسمعتها تقول: آذانا جار لنا، فصليت ركعتين، وقرأتُ من فاتحة كل سورة آية حتى ختمتُ القرآن، وقلت: اللهم اكفنا أمره. ثم نمت، ففتحت عيني، فرأيت النجوم مصطفة، فقرأت: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: 137) فلما كان السحر قام ذلك الإنسان لينزل، فزلقت قدمه، فوقع فمات.

قال: وأخبرني ابنها عبد الصمد قال: كان في دارنا حائط له جوف، فقلت لها: امضي استدعي البنّاء. فقالت: هات رقعة والدواة. فناولتها، فكتبت فيها شيئاً وقالت: دعه في ثقب منه ففعلت، فبقي الحائط نحواً من عشرين سنة، فلما ماتت ذكرت ذلك القرطاس، فقمت، فأخذته لأقرأه، فوقع الحائط، وإذا في الرقعة {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ} (فاطر: 41) بسم الله، يا مُمْسك السماوات والأرض أمسك.
37 ـــ أم عيسى بنت إبراهيم الحربي:

كانت عالمة فاضلة تفتي في الفقه، وهي مدفونة إلى جانب أبيها.

38 ـــ أَمَة الواحد:

سكينة بنت القاضي أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي، تُكنى أَمَة الواحد، كانت عالمة فاضلة من أحفظ الناس للفقه على مذهب الشافعي، وكانت تفتي مع أبي علي بن أبي هريرة.

عن أبي الحسن الدارقطني قال: أمة الواحد بنت الحسين بن إسماعيل سمعت أباها، وإسماعيل الوراق، وعبد الغفّار بن سلامة وغيرهم، وحفظت القرآن والفقه على مذهب الشافعي، والفرائض، وحسابها، والدرر، والنجوم، وغير ذلك من العلوم، وكانت فاضلة في نفسها، كثيرة الصدقة، مسارعة في الخيرات، حدَّثت، وكتب عنها الحديث، وتوفيت سنة سبع وسبعين وثلاثمائة.
39 ـــ أَمَة السلام بنت القاضي أبي بكر أحمد بن كامل:

سمعت محمد بن إسماعيل النصلاني ومحمد بن الحسين بن حميد، روى عنها الأزهري، والتنوخي. وكانت عالمة، عاقلة، كثيرة الفضل.
قال المصنف ـــ رحمه الله تعالى ـــ: هذه نبذة من أخبار النساء الصالحات والفاضلات، تكتفي بسماعها وفهمها المرأة العاقلة الموفقة، فإن أحبت زيادة في أخبار النساء، نظرت كتابنا المسمى بـ«صفة الصفوة»، فإن كانت عالية الهمّة، سمت همتها إلى فنون العلم، فإنَّ الهمّة في القلب جوهر المهر، يحرِّكه الرائض إذا كان عربياً جيد الأصل، فتخرج ما فيه من الجوهر، وإذا لم يكن له همّة كان مثله كمثل الكودن لا ينفعه الرائض.