الجملة الخامسة: صفة الأوردة

هي خمسة فصول

الفصل الأول

العروق الساكنة

قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه أما العروق الساكنة ... إلى آخر الفصل.

الشرح لما كانت الكبد وهي العضو الذي من شأنه إحالة الكيلوس كيموساً لتغذية نفسها وتغذية البدن كله بذلك الكيموس. وإنما يمكن ذلك بأن يكون للكيموس طريق ينفذ فيه من المعدة والأمعاء إلى الكبد ويكون للكيموس طريق ينفذ فيه من الكبد إلى جميع الأعضاء، ولا بد من أن يكون جرم كل واحد من الطرق قوياً لئلا ينخرق عند تمديد الكيموس أو الكيلوس له. ولا بد أن يكون مع ذلك لدناً حتى يكون قابلاً للانثناء والانعطاف بسهولة على حسب ما يعرض للأعضاء الأخر من ذلك فلا يكون معاوقاً عن تحرك الأعضاء. ولا بد من أن يكون مع ذلك مجوفاً ليمكن أن ينفذ في تجويفه كل واحد من هذين: أعني الكيلوس والكيموس وما هو من الأعضاء كذلك فهو المسمى عند متأخري الأطباء بالأوردة، وهي التي نريد أن نتكلم الآن فيها.

ولما كان تولد الكيموس هو في المعدة، وانجذابه هو في الأمعاء، وجب أن يكون الطريق الذي ينفذ فيه الكيلوس إلى الكبد مع اتصاله بالكبد هو متوجه إلى ناحية المعدة وإلى الأمعاء وما يقرب منهما ليكون منهما ترشح من هذين العضوين شيء من الكيلوس فيمكن لتلك الأوردة المنبثة هناك من استرشاحه لينفذ في تجاويفها ويوصله إلى الكبد.

أما اتصال هذه الأوردة بالكبد فيكفي أن تكون في موضع واحد. ومن ذلك موضع يتفرق الكيلوس في جرم الكبد فلذلك يكفي أن يكون الآتي للكبد بالكيلوس عرقاً واحداً، ويكون لذلك العرق تفرع في جرم الكبد إلى فروع كثيرة فيها ينفذ الكيلوس في جرمها متفرقاً متشتتاً ليكون أقوى على إحالة قوية.

وهذا العرق يسمى الباب وفروعه التي تنبت في جرم الكبد تسمى فروع الباب.

وأما أطراف هذا العرق عند المعدة والأمعاء ونواحيهما فيجب أن تكون كثيرة جداً لتفي باستنشاق جميع ما يرشح من هذين العضوين من أي موضع كان. فلذلك يجب أن ينقسم الباب في أخذه إلى المعدة والأمعاء إلى فروع كثيرة.

وهذه الفروع تسمى الماساريقا والمشهور أن هذه الماساريقا متصلة بالمعدة وبالأمعاء جميعها نافذة بتجاويفها إلى تجاويف المعدة والأمعاء وهذا قد بيناه فيما سلف أن من جملة الخرافات المشهورة هذا.

وأما الأوردة الموصلة للكيموس من الكبد إلى جميع الأعضاء فظاهر أنها يجب أن تكون متصلة أيضاً بالكبد وبالأعضاء جميعها واتصالها بالكبد يكفي أيضاً أن يكون في موضع واحد وذلك هو الوريد المسمى بالأجوف. ولما كان اتصال الباب بالكبد يجب أن يكون من جهة مواجهتها للمعدة والأمعاء وذلك هو مقعر الكبد، وجب أن يكون اتصال الأجوف هو محدب الكبد لأن الكيلوس إنما يجذبه الكبد ليأخذ منه الغذاء، واندفاعه بعد أن صار كيموساً من الكبد إلى الأعضاء الأخر، إنما يكون لأنه فضل غذائها، وجهة دفع الفضل يجب أن تكون مقابلة لجهة جذب الغذاء كما بيناه مراراً، فلا بد أن يكون اتصال العرق المسمى بالأجوف من محدب الكبد، ويجب أن يكون لهذا الأجوف أصول كثيرة متفرقة في أجزاء الكبد لتمتص الكيموس من جميع أجزاء الكبد وتوصله إلى هذا الأجوف.

وبعد هذا نتكلم إن شاء الله تعالى في تفصيل الكلام في كل واحد من هذين العرقين: وهما الباب والأجوف.

ولنقدم أو لاً الكلام في الباب لأن فعله متقدم على فعل الأجوف. والله ولي التوفيق.

الفصل الثاني

تشريح الوريد المسمى بالباب

قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه ولنبدأ بتشريح العرق... إلى آخر الفصل.

الشرح قوله: ينقسم طرفه في تجويف الكبد إلى خمسة أقسام. السبب في أن هذه الأقسام خمسة هو أن الكبد يمكن أن يكون لها خمس زوائد فلذلك جعلت هذه الأقسام خمسة ليكون لكل زائدة يمكن حدوثها قسم على حدة.
قوله: ويذهب وريد منها إلى الزائدة.

السبب في جعل العرق الآتي إلى المرارة من جملة هذه الفروع لا من أقسام الباب كما في الطحال، هو أن المندفع إلى المرارة شديد المنافاة لمادة الغذاء، فلذلك لا يصلح نفوذه في مجرى الغذاء، بخلاف النافذ إلى الطحال، وكذلك الطحال لبعده لا يمكن أن يكون النافذ إليه من هذه الفروع بخلاف المرارة، فإنها شديدة القرب من الكبد.

وقوله: وهذه الشعب هي مثل أصول الشجرة التي ينبغي أن تكون مثل أصول الشجرة هو الأقسام المنقسمة من الباب خارج الكبد لأن تلك منها تنفذ مادة الغذاء إلى هذه الثقبة في جرم الكبد.

وكذلك أصول الشجر التي تنفذ منها مادة الغذاء وينتهي إلى الفروع وعبارة الكتاب في هذا ظاهرة غنية عن الشرح. والله ولي التوفيق.

الفصل الثالث

تشريح الأجوف وما يصعد منه

وكلامنا في هذا الفصل يشتمل على أربعة مباحث: البحث الأول تشريح العرق الصاعد من الأجوف بعد انفصاله من الكبد إلى أن يقارب القلب قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما الأجوف فإن أصله... إلى قوله: ثم ينقسم إلى قسمين قسم منه عظيم يأتي من القلب.

الشرح: الأجزاء التي تنبث من العرق الأجوف ثم جرم الكبد تخالف الأجزاء المنبثة فيه من العرق المسمى بالباب لان تلك المنبثة من الباب تشبه كما قلناه لفروع الشجرة. وأما هذه المنبثة من العرق المسمى بالأجوف فإنها تشبه أصول الشجرة لأنها تأخذ مادة الغذاء. أما هي منبثة فيه، ويرسلها إلى غيرها كما هي أصول الشجرة.

قوله: لتجذب الغذاء من شعب الباب المتشعبة أيضاً كالشعر.

لقائل أن يقول: إن هذه الأصول، وتلك الفروع لو خلقت متصلة كأنها عروق واحدة لكان ذلك أسهل من نفوذ الغذاء من مقعر الكبد إلى محدبها. وأولى من بقاء الكبد بقية من الفضول بخلاف ما إذا كانتا متغايرتين منفصلة إحداهما عن الأخرى. فإن الغذاء حينئذٍ إنما يصل إلى أصول الأجوف بعد أن يخرج من أفواه فروع الباب وتمتصه تلك الأصول. وقد بقي منه شيء لا تقوى هذه الأصول على امتصاصه فيبقى محتبساً في جرم الكبد، وفضلاً فيها.

فما الحكمة في انفصال أحدهما عن الآخر؟وجوابه: أن الأمر وإن كان كما قلتموه إلا أن هذا الانفصال ضروري في جودة تغذية الأعضاء، وذلك لأن عروق الباب إذا كانت منفصلة من عروق الأجوف بقي الغذاء في مقعر الكبد إلى أن يتم انهضامه لأنه قبل تماماً انهضامه لا يتمكن من النفوذ في أفواه فروع الباب ولا في أفواه أصول الأجوف فلذلك تبقى في مقعر الكبد إلى أن يتم انهضامه وحينئذٍ يستعد بسبب ترققه للنفوذ في تلك الأفواه، فلذلك إذا كانت هذه العروق في الكبد غير متصلة بقي الغذاء في مقعر الكبد انهضامه وحينئذٍ تجتذبه أجزاء العرق الأجوف وإنما تجتذبه لتغذية أجزاء محدب الكبد، فلذلك إنما يجتذب حينئذٍ ما يصلح لتغذية تلك الأجزاء، وذلك هو الدم والكيلوس والبلغم أما الدم فلأنه صالح بالفعل لتغذية محدب الكبد وأما البلغم والكيلوس فلأنهما أيضاً صالحان لذلك بالقوة أي بأن يستحيلا إلى الدموية وحينئذٍ يصلحان لتغذية محدب الكبد، ويلزم ذلك أن تبقى في مقعرها ما في ذلك الكبد مما يضر ذلك المقعر ويمنع نفوذ الغذاء إلى المواضع التي هما فيها فلذلك يضطر مقعر الكبد إلى دفع هذين الخلطين وإنما يسهل دفعهما حينئذٍ إلى الجهة التي فيها المقعر، لأن محدب الكبد لأجل ضيق أفواه عروقه لا يسهل اندفاع هذين الخلطين إليه لذلك فإنما يندفعان حينئذٍ من مقعر الكبد لأن أو ائل تلك الفروع المنبثة فيه من الباب اكبر سعة لا محالة من أفواه أصول الأجوف.

أما السوداء فلأجل غلظها إنما تندفع حينئذٍ من الباب لأن فروعه بقربه أو سع كثيراً من أطراف تلك الفروع. وأما الصفراء فلأجل لطافتها يمكن نفوذها في بعض تلك الفروع، وذلك بأن يكون ذلك الفرع الذي يندفع فيه منعطفاً من داخل مقعر الكبد إلى ظاهره فلذلك تنفذ الصفراء في بعض فروع الباب إلى المرارة.

وأما السوداء فتندفع إلى الطحال، ولكن من العروق المنقسمة من العرق المسمى بالباب أعني المنقسم منه من خارج الكبد، ويلزم ذلك أن يكون الغذاء الواصل إلى محدب الكبد خالياً من السوداء والصفراء المتكونتين في مقعرها، وبذلك يكون الدم الواصل إلى البدن نقياً من هذين الخلطين إلا ما يتكون منهما في محدب الكبد، وهذا إنما يتم إذا كانت أصول العرق الأجوف غير متصلة بأطراف فروع الباب بل هي ملاقية لها.

قوله: وأما الصاعد منه فيخرق الحجاب وينفذ فيه وأما جواب خرق هذا العرق الصاعد للحجاب فلأنه يحتاج إلى النفوذ إلى أعالي البدن وإلى القلب، والحجاب موضوع بين آلات الغذاء وآلات التنفس فلذلك إنما يتمكن هذا العرق من النفوذ إلى القلب ونواحيه بعد نفوذه إلى الحجاب، وذلك بأن يخرقه نافذاً فيه. ولا بد وأن يكون عند موضع خرقه شديد الاتصال بالحجاب إذ لو كان متبرماً عنه ولو بقدر يسير لكان النفس يخرج من الخلل الذي بينهما وينفذ إلى آلات الغذاء وذلك فيه ضرر عظيم.

ولكان أيضاً ما يسيل إلى داخل الصدر من القيح وغيره ينفذ في ذلك الخلل إلى آلات الغذاء فلذلك احتيج أن يكون التحام هذا العرق بالحجاب في موضع خرقه له شديداً وإنما يتمكن من ذلك إذا خرجت منه أجزاء تنبث في جرم الحجاب وأقل ذلك عرقان كل واحد منهما من جانب، وبذلك يشتد التحام هذا العرق بالحجاب.

قوله: ثم يحاذي غلاف القلب فيرسل إليه شعباً كثيرة تتفرع كالشعر. أما نفوذ هذه الشعب إلى غلاف القلب فلأجل تغذيته.

وأما أن هذه الشعب يجب فيها أن تكون شعرية فلأن هذا الغلاف يحتاج أن يكون جرمه كثير الشحم ليمد القلب بالدهنية فلا يعرض له جفاف لأجل حرارته ويبوسة جرمه مع دوام تحركه ومادة الشحم كما علمت هي مائية الدم فلذلك يجب أن يكون الغذاء الواصل إلى هذا الغلاف كثير المائية وإنما يمكن ذلك بأن تكون العروق التي تنفذ فيها شعرية حتى يمتنع نفوذ الدم الغليظ والمتين فيها، وها هنا سؤال ينبغي أن نحقق الكلام فيه: وهو أنه للقائل أن يقول: ما السبب في أن العرق الخارج من القلب إلى غيره من الأعضاء عند أو ل خروجه منه تنفصل منه شعبتان إحداهما تستدير حول القلب وتنبث في أجزائه، والأخرى تنفذ إلى البطن الأيمن؟ وأما الكبد فإن العرق الخارج منها إلى الأعضاء الأخر لا ينفصل منه شيء يتفرق في أجزائها؟وجوابه: أن سبب ذلك أن العرق الخارج من القلب إلى الأعضاء فائدته إفادة الروح للأعضاء والحياة، وهذا العرق إنما يخرج من البطن الأيسر من القلب. وهناك الروح الحيواني فلو لم تنفصل من ذلك العرق ما ينفذ إلى بقية أجزاء القلب لكانت تلك الأجزاء تخلو من الروح، وعن قوة الحياة.

وأما العرق الخارج من الكبد فإن فائدته إيصال الغذاء إلى جميع الأعضاء. والغذاء إنما يصل إلى هذا العرق بعد عمومه لأجزاء الكبد كلها، وذلك من الأجزاء المتفرقة منه ومن الأجزاء المتفرقة من الباب ولذلك تكون جميع أجزاء الكبد مستغنية عن غذاء ينفذ إليها من عرق ينفصل من هذا العرق الأجوف، وقد عرفت مما سلف أن رأي جالينوس أن الأوردة جميعها تنبت من الكبد، وأن الشرايين تنبت من القلب، وأن العصب ينبت من الدماغ أو النخاع.

والمشهور عن أرسطوطاليس أن هذه جميعها تنبت من القلب، ومذهب الرئيس ابن سينا تجويز كل واحد من هذين المذهبين مع جواز أن يكون شيء من هذه ينبت من عضو.

وأما الحق الذي ذهبنا إليه، فهو أنه ليس شيء من هذه يجوز البتة أن ينبت من عضو، وأنها لها أسوة بباقي الأعضاء في أنها تتكون ابتداء من غير أن تكون نابتة من شيء من الأعضاء.

وأما ساسينوس القبرصي فقد قال: إن مبادئ نبات العروق جميعها من ناحية العينين والحاجبين ثم ينحدر عرقان يمنة ويسرة.

وقد قال ديباجانس: إن أصل العروق عرقان يبتدئان من البطن ثم ينحدران ويصعدان، ولم يشرح هو كيفية ذلك.

وقال: إن العرقين يرتفعان إلى فوق إلا شعبتين منهما دقيقتين فإنهما ترسلان إلى الكبد، وإلى الطحال وعرقان آخران يبتدئان من خرز الظهر يتيامن من أحدهما، ويتياسر من الآخر، ويمضي اليمين إلى الكبد، واليسار إلى الطحال وكل واحد منهما يتشعب في يد، ومنهما الكتفي والإبطي، ثم إنه يطول في قسمة ذلك بما لا فائدة.

وأما بولونيوس فإنه جعل مبدأ العروق من أزواج أربعة: زوج من خلف الرأس إلى العنق، من خلف إلى اسفل.

وزوج آخر من الرأس والدماغ عند الأذنين ثم إلى الفقار والظهر وجعل مبدأ العروق جملة هو الرأس والدماغ.

وقال الإمام أبقراط: والعروق الغلاظ التي في البدن على هذه الصفة. وهي أربعة أزواج: أحدها: يبتدئ من مؤخر الرأس، وينحدر على الرقبة من خارج، ويمتد على جنبي عظم الصلب إلى أن يبلغ إلى الوركين، والرجلين ثم ينحدر من هناك على الساق إلى أن يبلغ الكرسوع والقدمين من خارج فقد ينبغي لمن أراد فصد العرق في أو جاع الخاصرتين والأنثيين أن يفصد العرق الذي يظهر تحت الركبة، والعرق الذي على الكرسوع من خارج.

وأما الزوج الثاني: فيبتدئ من الرأس وينحدر إلى جانب الأذين على الرقبة من داخل ويمتد على جنبتي عظم الصلب ويسمى هذان العرقان الأوداج إلى أن يبلغ الخواصر، ثم ينقسم من هناك في الانثيين ويمتد أيضاً على الجانب الداخل من مأبض الركبة، ثم على الساقين إلى أن ينتهي إلى الكرسوع والقدمين من داخل فقد ينبغي لمن أراد فصد العرق في أجزاء الخاصرة والانثيين أن يفصد العرق الذي يظهر تحت الركبة، والعرق الذي على الكرسوع من داخل.

وأما الزوج الثالث: فيبتدئ من الأصداغ وينحدر إلى الرقبة تحت الأكتاف ثم يصير من هناك إلى الرئة ويمتد العرق منه إلى الجانب الأيمن ثم إلى الجانب الأيسر تحت الثدي إلى أن يصل إلى الطحال والكلية اليسرى ويمتد الذي في الجانب الأيسر من الرئة إلى الجانب الأيمن تحت الثدي إلى أن يصل إلى الكبد والكلية اليمنى وأطراف هذين العرقين تنتهي عند طرف المعاء المستقيم.

وأما الزوج الرابع: فيبتدئ من مقدم الرأس من ناحية العينين على الرقبة والترقوتين من كل جانب ثم يصير من هناك ممتداً على العضد إلى المأبض من كل واحدة من اليدين ثم من هناك إلى الساعدين والكتفين والأصابع ثم يمتد من الأصابع أيضاً على الذراع إلى المأبض ويمتد على الجانب الداخل من العضد ثم يمر على الأضلاع من خارج فيأتي عرق واحد منها إلى الطحال والعرق الآخر إلى الكبد، ثم يمتد على البطن من خارج إلى أن ينتهي إلى الفرج ثم ينقضي فعلى هذا يكون منشأ العروق الغلاظ. وفي البدن عروق كثيرة مختلفة في الجنس منشؤها من البطن تؤدي الغذاء إلى جميع البدن. وقد يصير أيضاً الدم من العروق إلى جميع البدن ويتأدى من العروق التي في ظاهر البدن والعروق التي في باطنه بعضها إلى بعض، فيصير من العروق التي من خارج إلى التي من داخل، إلى التي من داخل وإلى التي من خارج.

وليكن فصدك العروق على حسب هذا القول وهذا كلامه.

وقد شنع جالينوس وأفرط، ولم يفهم أن غرض أبقراط من هذا إنما هو بيان امتداد العروق التي تفصد لأنها تنبث من هذه المواضع.

وقد بسطنا الكلام في ذلك عند شرحنا لكتاب طبيعة الإنسان فلترجع إليه هناك. والله ولي التوفيق.

البحث الثاني العرق الصاعد من حيث يقارب القلب

إلى أن ينبث في الرئة وفي جرم القلب

قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه ثم ينقسم إلى قسمين قسم منه عظيم.... إلى قوله: وأما النافذ.

الشرح قوله: ثم ينقسم إلى قسمين قسم منه عظيم يأتي القلب ليس المراد أن هذا عظيم بالنسبة إلى القسم الآخر، فإن هذا أصغر من ذلك القسم بكثير، لأن هذا القسم ينحو إلى القلب والرئة وبعض الأضلاع والقسم الآخر يتوجه إلى الصدر والرقبة والرأس والثديين فلذلك يحتاج أن يكون أعظم من هذا القسم بكثير لأن هذا القسم مع أنه أصغر كثيراً من ذلك القسم فإنه في نفسه عظيم ومع ذلك هو أعظم عرق يتصل بالقلب لأن هذا ينفذ فيه الدم وإنما غيره ينفذ فيه النسيم وإن نفذ فيه دم فذلك الدم مع قلته رقيق جداً، فلذلك احتيج أن يكون هذا القسم أعظم عروق القلب.

قوله: وهذا الوريد يخلف عند محاذاة القلب عروقاً ثلاثة.

يريد بهذا المحاذاة الوصول لأن تقسيم هذا الوريد إلى الأقسام الثلاثة هو عند نفوذه في أذن القلب اليمنى وإنما انقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة لأنه يحتاج أن ينفذ منه قسم إلى الرئة ويحتاج أن ينبث منه قسم في جرم القلب لتغذيته ويحتاج أيضاً أن ينفذ منه قسم إلى الأضلاع السفلي والعضل الذي هناك وسائر ما هناك من الأجسام لإفادة الغذاء.

قوله: عرق يصير منه إلى الرئة نابتاً عند منبت الرأس بقرب الأيسر يريد بهذا النبات أنه من هناك يصعد إلى الرئة مع أن دخوله إلى داخل القلب إنما كان عند يمينه وإنما كان كذلك ليستفيد بقربه من البطن الأيسر حرارة بها يصير الدم الذي فيه قريباً من الاستعداد ولأن يكون منه، ومن الهواء الذي يستخلط به ما يصلح لأنه يصير في القلب روحاً وإنما يمكن أن تخرج هذه العروق من قريب البطن الأيسر، مع أن دخوله إلى تجويف القلب، إنما هو من جهة يمينه بأن ينعطف في داخل تجويف القلب من اليمين آخذاً إلى اليسار.

قوله: وقد خلق ذا غشائين كالشريانات. يريد ذا طبقتين وإنما خلق كذلك ليكون جرمه مستحصفاً ضيق المسام جداً فلا يرشح منه من الدم إلا ما لطف جداً، وهذا لذي يرشح منه يصادف هواء كثيراً مبثوثاً في تجاويف الرئة فيختلط به وبذلك يصلح لأن يصير في القلب روحاً وباقي الدم الذي لا يرشح من تلك المسام ينفذ من فوهات أجزاء هذا العرق فتغتذي به الرئة فلذلك غذاء الرئة إنما هو ما تبقى من أجزاء هذا العرق بعد ترشيح لطيفه إلى تجاويف الرئة.

قوله: أن يكون ما يرشح منه دماً كثيراً في غاية الرقة مشاكلاً لجوهر الرئة هذا الكلام لا يصح فإن جوهر الرئة ليس بغاية الرقة وإنما الفائدة فيه ما ذكرناه وإنما كان غذاء الرئة يأتي إليها من القلب مع العرق العظيم الحاوي للدم الغاذي للأعضاء العلوية كما سنذكره بعد تصعيد إلى خلف الرئة، وقريبا منها جداً ومن القلب مع أن العرق قريب منها جداً فيكون أخذها الغذاء منه أسهل. السبب في ذلك أن الرئة عضو من شأنه تهيئة المادة لأن تستحيل في القلب روحاً وإنما يمكن ذلك إذا كانت المادة يغلب عليها الجوهر الهوائي حتى تكون مناسبة لجوهر الروح ولا يمكن أن يكون هواءً صرفاً. فإن الأجسام البسيطة قد بينا أنها لا تصلح للتغذية فلذلك إنما يصير هذا الهواء صالحاً لتغذية الروح إذا خالطته أجزاء دموية حتى يصير بسبب ذلك ممتزجاً مع الهواء وتلك الأجزاء وإنما يمكن تلك الأجزاء، أن تعد الهواء لتغذية الروح إذا كانت شديدة اللطافة حارة وإنما يمكن ذلك إذا كانت قد تسخنت في القلب ولطفت جداً، فلذلك لابد من أن تكون الأجزاء الدموية التي تخالط الهواء الذي في الرئة ويصير من جملة ذلك ما يصلح لغذاء الروح متسخنة في القلب وإنما يمكن نفوذها إلى الرئة بأن تكون الرئة جاذبة لها ولكل عضو يجذب خلطاً فإنه إنما يجذبه ليغتذي به وإنما يمكن ذلك إذا كان غذاء الرئة يأتي إليها من القلب فإنه لو وصل إليها من القلب العرق العظيم الذي هو وراءها لاستغنت تلك عن جذب الدم من القلب. ولو كانت كذلك لم ينفذ الدم اللطيف من القلب إليها فلذلك احتيج أن يكون غذاء الرئة يأتي إليها من القلب لا كما قاله جالينوس. وهو أن ذلك لأن دم العرق العظيم الذي وراءها لا يصلح لتغذيتها لأنه لا يغلب عليه الصفراء، وغذاء الرئة عنده يجب أن تكون الصفراء غالبة عليه.

ونحن قد بينا سهوه في ذلك وبينا أن الصفراء لا تصلح لتغذية عضو البتة لا بانفرادها، ولا بأن تكون غالبة على الدم بل إن كان الصفراء تغذيه كما تغذو الأبازير الحارة إذا وضعت في الأطعمة. والله ولي التوفيق.

البحث الثالث القسم الأعظم من قسمي العرق الصاعد عند انقسامه إلى الجزأين اللذين أصغرهما أعظم عروق القلب هو الذي ينقسم عند الأذن اليمنى من أذني القلب إلى ثلاثة أقسام قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما النافذ... إلى قوله: والذي يبقى من الإنشعاب الأول.

الشرح قوله: يتفرق منه في أعالي الأغشية المنصفة للصدر وأعالي الغلاف وفي اللحم الرخو المسمى توتة شعب شعرية أما تفرق الشعب إلى هذه الأشياء فلأجل تغذيتها، واختصت بهذا الصاعد لأجل قربها منه. وكانت هذه الشعب شعرية لتمنع نفوذ الدم الغليظ فيها فإن غذاء الأغشية أما تفرق الشعب إلى هذه الأشياء فلأجل تغذيتها هذه الأغشية يجب أن يكون رقيقاً كما بيناه أو لاً.

وغذاء الغلاف أعني به غلاف القلب يجب أن يكون مائياً وكذلك غذاء اللحم الرخو، إلا أن مائية غذاء هذا اللحم يجب أن يكون أقل من مائية غذاء الغلاف لأن الشحم أكثر مائية من اللحم الرخو.

قوله: ثم عند القرب من الترقوة يتشعب منه شعبتان تصير كل شعبة منهما شعبتين هاتان الشعبتان تصعدان من العرق العظيم الصاعد إذا قارب في صعوده الترقوتين وهما مع عظمهما صغيران بالقياس إلى الباقي من ذلك العرق وهاتان الشعبتان تصعدان إلى قرب الترقوتين جداً، وتصعدان مؤربتين متباعدتين فيكونان على هيئة اللام اليونانية فإذا قاربتا جداً الترقوتين انقسمت كل واحدة منهما إلى قسمين وهذان القسمان أحدهما أصغر من الآخر والصغير منهما ينحدر كل فرد منه عن جانب القص إلى أسفل حتى تنتهي إلى المواضع المذكورة في الكتاب.

السبب في نزول هذين أن الأعضاء التي ينتهيان إليها كالثرب والعضل المستقيم الذي في طول البطن والعضلات الخارجة من الصدر ونحو ذلك.

وهذه العضلات كلها تحتاج أن يكون دمها الغاذي لها شديد الحرارة أما الثرب وعضلات البطن فلأن هذه الأعضاء تحتاج أن تكون حارة بالفعل لتسخن المعدة فتعينها على طبخ الأغذية. وأما عضلات الصدر ونحو ذلك فلأن الصدر اكثر أجزائه باردة المزاج كالعظام والأغشية ونحو ذلك فيحتاج أن يكون ما عليه من العضل حار المزاج ليفي بتعديل برودة تلك الأعضاء وإنما يمكن أن يكون الدم شديد الحرارة بالطبع إذ قارب القلب حتى يتسخن بحرارته خاصة دم هذا العرق فإنه يقارب القلب مرتين مرة في صعوده ومرة في نزوله. فلذلك احتاج كثير من الأعضاء السفلية إلى أن يأتيها غذاها من العرق الصاعد. وأما الأعضاء العلوية فليس فيها ما يصل إليه شيء من العرق النازل إلا الثدي فإن الثديين ينتهي إليهما عرق من العرق النازل ويصعد إليهما من الرحم.

وذلك ليكون من الرحم والثديين مشاركة له، وإنما احتيج إلى ذلك ليمكن أن يتصعد إليهما ما يفضل من غذاء الجنين من دم الطمث فيستحيل في الثديين لبناً.

وقوله: وأما الباقي في كل واحد منهما وهو زوج يعني بذلك الباقي من كل واحدة من الشعبتين الصاعدتين إلى مقاربة الترقوتين جداً فإن كل واحدة من تلك الشعبتين تنقسم إلى قسمين أصغرهما يمر عن جانبي القص إلى أسفل وينتهي إلى الأعضاء المذكورة في الكتاب وأعظمها وهو قسم من كل واحدة من الشعبتين فلذلك هو زوج، وهذا الزوج في كل فرد منه في قرب ترقوة وهو ينقسم إلى خمسة أقسام. والله ولي التوفيق.

البحث الرابع العرق العظيم الصاعد بعد تشعب الشعبتين منه عند مقاربة الترقوتين إلى أن يبلغ أعلى الرأس قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه والذي يبقى من الإنشعاب الأول الذي انشعب ... إلى آخر الفصل.

الشرح قوله: وقبل أن يمعن في ذلك ينقسم قسمين: أحدهما: الوداج الظاهر والثاني الوداج الغائر.

معناه: أن الأول من هذين القسمين يصير منه الوداج الظاهر. والآخر يصير منه الوداج الغائر.

قوله: على ما هما عليه فليس شيء منهما بوداج لأن كل واحد منهما فإنه إنما يصير منه الوداج الذي سماه به بعد أن ينفصل منه أجزاء، ويكون الوداج ما بقي بعد ذلك. وذلك فلا يكون المجموع هو الوداج وكل واحدة من الترقوتين فإنها تصعد من عندها ما يكون منه وداج ظاهر، ووداج غائر والذي يصير منه الوداج الظاهر كما يصعد من الترقوة ينقسم إلى قسمين: أحدهما: يأخذ إلى قدام الترقوة وإلى جانبها والثاني يأخذ أو لاً إلى قدام ثم يتسافل قليلاً ثم يصعد إلى قدام الترقوة ويستدير عليها ثم يصعد حتى يلحق بالقسم الأول فيختلط به، ويصير من جملتها الوداج الظاهر.

وفائدة انقسامه أو لاً اختلاط قسمته حتى يكون منهما قسم واحد أن يمر أحد القسمين بباطن الترقوة، والآخر بظاهرها فيعم الغذاء لظاهرها وباطنها وذلك مما لا يتم لو كانا قسماً واحداً، والذي يمر بظاهر الترقوة ويحتاج أن يستدير عليها ليصل منه الغذاء إلى أجزاء كثيرة بين ظاهر الترقوة وإنما لم يحتج إلى ذلك المار بباطنها لأن باطن الترقوة يستغني عن ذلك بكثرة العروق هناك ثم إذا تم ذلك الغرض عاد القسمان فصارا عرقاً واحداً لأن ذلك هو المقصود منهما قبل القسمة.

قوله: وقبل أن يختلط به ينفصل عنه جزءان أحدهما يأخذ عرضاً. القسم الثاني من القسمين اللذين يكون من اختلاطهما الوداج الظاهر وهو الذي يتسفل قبل تصعده قليلاً ثم يصعد مستظهراً للترقوة وينفصل منه قبل اختلاطه بالقسم الآخر أربعة عروق أخر.

اثنان منها يتميزان عن الاثنين الآخرين، فلذلك هما زوجان وهما المرادان بالجزأين لأنه جعل كل زوج الاثنين جزءاً، والزوج الأول من هذين يأخذان عرضاً نحو أعلى القص أي إنه يأخذ في عرض العنق مع تسفل يسير وهذا الزوج يلتقي فرداه ويتصل أحدهما بالآخر وذلك عند الموضع الغائر الذي بين الترقوتين وأما الزوج الآخر، فإن فرديه يتوربان صاعدين مستظهرين للعنق، ولا يلتقي أحد فرديه بالآخر كما في الزوج الآخر.

قوله: ويؤديها إلى الموضع الواسع وهو الفضاء الذي ينصب إليه الدم ويجتمع فيه ثم يتفرق عنه فيما ما بين الطاقين.

معناه: ثم يؤدي الصفة الثخين هذه العروق إلى الموضع الواسع، وهو الفضاء الذي من شأنه ذلك موضوع فيما بين الطاقين أي الاثنين: الجافية والرقيقة. وذلك لأن الأم الجافية تنعطف إلى أسفل وتخلي هناك تجويفاً وذلك التجويف هو الفضاء الذي ينصب فيه الدم.

هذا التجويف هولا محالة فوق الأم الجافية، وتحت الأم الرقيقة فهو بين الطاقين. والله ولي التوفيق.

الفصل الرابع

تشريح أوردة اليدين إلى الكتفي منه

وهو القيفال أما الكتفي منه... إلى آخر الفصل.

الشرح قوله: وأما الكتفي وهو القيفال أي وهو الذي يصير منه القيفال فإنه يتفرق منه شعب في جلد العضد، وفي الإبط ظاهره، ويكون منه أيضاً حبل الذراع ويجتمع جزء منه وجزء آخر من العرق الإبطي فيكون منهما العرق المسمى بالأكحل وكذلك أيضاً يجتمع منه جزء وجزء من الإبطي فيكون منه ذلك عرق يتعمق في الساعد، وهذا غير مشهور ولا اسم له، لأنه لأجل غوصه لا يصل إليه المبضع فلذلك لا يفصد فلذلك هو غير مشهور.

والقيفال ليس هو مجموع هذه الأشياء بل ما يبقى من الكتفي بعد هذه الأشياء وهو عرق يمتد في الساعد ماراً في أعلى معطف المرفق. وألفاظ باقي الفصل ظاهرة. والله ولي التوفيق.

الفصل الخامس

تشريح الأجوف النازل

وكلامنا في هذا الفصل يشتمل على بحثين: البحث الأول الأجوف النازل من عند انفصاله من الأجوف الصاعد إلى أن يتوكأ على أعلى الصلب قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه قد ختمنا الكلام في الجزء... إلى قوله: وبعد نبات الطالعين.

الشرح قوله: فأول ما يتفرع منه كما يطلع من الكبد، وقبل أن يتوكأ على الصلب يتشعب منه بشعب شعرية تصير إلى لفائف الكلية اليمنى.

السبب في ذلك أن الكليتين تحتاجان أن يكون على ظاهرهما شحم كثير لما نذكره من منفعة ذلك عند كلامنا في تشريح الكلي. والشحم إنما يتكون من مائية الدم كما علمته من قبل.

وإذا نفذ هذا الأجوف عن الكبد قليلاً تصفى دمه عن المائية الزائدة فاحتيج أن يكون ما يصل إلى ظاهر الكليتين من الدم واصلاً إليهما أو لاً والعروق النافذة إلى ظاهر الكلية اليمنى من أو ل انفصالها عن هذا الأجوف شعرية، ولا كذلك النافذة إلى ظاهر الكلية اليسرى. فإنها تكون أو لاً عرقاً واحداً ثم ينقسم إلى عروق شعرية، وإنما احتيج أن تكون هذه العروق شعرية لتمنع نفوذ الدم المتين فيها، ولا ينفذ فيها من الدم إلا ما تغلب عليه المائية حتى ترققه جداً، وإنما كانت عروق الكلية اليمنى من أو ل انفصالها شعرية لأن هذه الكلية قريبة جداً من الكبد، فلذلك لا يخشى على عروقها الدقاق من الانقطاع لأجل طول المسافة ولا كذلك الكلية اليسرى فإنها بعيدة عن الكبد لأنها مع أنها في خلاف جهتها هي كثيرة النزول إلى أسفل فلذلك جعل ما ينفذ إليها عرقاً واحداً غليظاً ثم يتفرع ذلك العرق إلى عروق كثيرة جداً شعرية.

قوله: يتوجهان إلى الكليتين لتصفية مائية الدم إذ الكلية إنما تجتذب منها غذاها، وهو مائية الدم ها هنا سؤالان: أحدهما: ما السبب في أن العرق النازل جعل له وحده ما يصفى من المائية؟ وهلا جعل ذلك للعرق الصاعد أيضاً؟ أ جعل ما يصفي المائية قبل انقسام الأجوف إلى الصاعد والنازل لتكون التصفية عامة للدم النافذ فيهما؟ وثانيهما: أن الكلية كيف تجذب الدم المائي وكل عضو فإن جذبه للمواد الغذائية إنما يكون لتغتذي من ذلك المجذوب. وغذاء الكلي يجب أن يكون من الدم المتين الكثير الأرضية لأن جوهر الكلية كذلك والغذاء يجب أن يكون فيه شبيهاً بالمغتذي؟الجواب: أما السؤال الأول فإن الدم الصاعد في العرق الصاعد مستغن عن التصفية عن المائية وإنما يحتاج إلى ذلك العرق النازل فقط، وإنما كان كذلك. لأن تصعد المائية في العرق الصاعد لا يمكن أن يكون بالطبع، ولا أيضاً تجذبه الأعضاء فلذلك تصعدها في ذلك الصاعد غير ممكن إنما تصعدها بالطبع محال فلأن المائية من شأنها السيلان إلى أسفل لا إلى فوق وأما أن تصعدها يجذب الأعضاء لا محال فلأن جذب الأعضاء إنما يكون لما يغتذي به ولما يعين على تغذيتها والمائية لا تصلح للأعضاء فلذلك كان تصعد هذه المائية الزائدة في العرق الصاعد حينئذٍ محالاً وأما العرق النازل فإن هذه المائية تنفذ فيه لأن المائية شأنها السيلان إلى أسفل وهذه المائية لأنها زائدة عن المقدار الذي يستحقه الدم الغاذي يحتاج إلى تصفية الدم منها وإنما يمكن ذلك باندفاعها عنه، وذلك بأن تجتذبها الكلى فيخلص الدم منها، وجذب الكلى لها لا لأنها ملازمة للدم الذي يحتاج إليه الكلى في تغذيتها، فتجذب الكلى لذلك الدم ويلزم ذلك انجذاب هذه المائية والسبب في أن هذا الدم تنجذب معه مائية كثيرة بخلاف الدم الباقي وغيره هو أن الأعضاء تجذب الدم أيضاً ولا تجذب المائية، وجب تلك الأعضاء يمانع من أن يندفع إلى الكلى لجذبها دم كثير ولأجل فقدان جذب تلك الأعضاء المائية تكون مندفع منها مع ذلك الدم كثيراً ولأجل هذا وجدت المائية يكون المندفع منها من ذلك الدم كثيراً، فلذلك تندفع إلى الكلى دم كثير المائية وبكثرة تلك المائية يخلص الدم الباقي منها، وبعد انفصال هذين الطالعين من العرق العظيم النازل ينفصل منه أيضاً عرقان آخران ينفذان إلى الأنثيين في نفوذ هذين العرقين إلى مع أن الأنثيين ينبغي أن يكون ما يأتيهما من العروق آتياً إليها من هذا العرق العظيم النازل بعد وصوله إلى عظام العجز. لأن ذلك الموضع أقرب إلى الأنثيين. سبب ذلك أن الدم المائي النافذ في الطالعين إلى الكليتين ليس يكاد يستقصي ما في الدم من المائية الزائدة فيبقى في الدم الباقي يسير من تلك المائية الزائدة فيحتاج إلى دفعها إلى عضو يحتاج في غذائه إلى رطوبة زائدة وذلك هو الأنثيان فلذلك ينفذ إليهما العرقان.

قوله: وما يأتي من الأنثيين من الكلية وفيه المجرى الذي ينضج فيه المني بعد احمراره ولكثرة معاطف عروقه وعروق الكلى كما عرفته كثيرة المائية فلذلك يكون فيها دم كثير الرطوبة فيكون ذلك الدم كثير الاستعداد والاستحالة إلى المنوية وذلك إذا خالطه ما يحيله إلى طبيعة المني.

وقد بينا في غير هذا الكتاب أن الأصل في المني والخميرة فيه هو ما ينزل من الدماغ وهذا النازل من الدماغ يخرج من الدماغ في العروق التي عند السحا وتنفذ تلك العروق إلى عظام الصلب فيجري فيها المني مصاحباً للنخاع ليبقى في تلك المنافذ على مزاجه، وهو في الدماغ، ولا يزال ينفذ إلى أسفل حتى ينتهي إلى هذين العرقين فينفذ فيهما، وتحيل ما فيهما من الدم إلى طبيعة المني فلذلك هذان العرقان، وليسا لتغذية الأنثيين فقط بل ولأن يستحيل كثير من الدم الذي فيهما إلى طبيعة المني، وتكمل استحالته إلى ذلك إذا حصل في الأنثيين.

وقد قال الإمام الفاضل أبقراط: إذ نزل المني ووصل إلى مخ عظم الظهر تميز فيه، ثم ينزل في مجار له في الكليتين أعني التي لا تنزل إلى أسفل ولكنها تصعد إلى الكبد، وهي التي إن أصابها شيء من الأوجاع يسيل منها دم، وقوله: التي لا تنزل إلى أسفل يعني التي لا تتعدى الأنثيين إلى أسفل كمالتي تنفذ إلى جهة الرجلين. وقوله: وهي التي إن أصابها شيء من الأوجاع يسيل منها دم، يريد بذلك أن هذه العروق فيها يستحيل الدم إلى طبيعة المنى فإذا عرض له شيء من الأوجاع أي من الأمراض يسيل منها دم عند الإنزال أو يكون ما ينزل حينئذٍ دموياً، وذلك لأجل قصور استحالة الدم الذي فيها إلى المنوية لأجل ضعفها بذلك المرض ولذلك يعرض أيضاً لمن استكثر الجماع أن ينزل منيه دموياً لأنه ينزل حينئذٍ ما لا يكون قد استحكمت استحالته إلى المنوية والله ولي التوفيق.

البحث الثاني الأجوف النازل من حين ما يتوكأ على عظم الصلب إلى أن ينتهي إلى الرجلين قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وبعد نبات الطالعين وصنعتهما يتوكأ الأجوف... إلى قوله: وما يبقى من هذا باقي.

الشرح قوله: يتوكأ الأجوف عن قرب على الصلب الشرايين والأوردة من شأنها أي أن يتوكأ كل منهما في صعودها ونزولها على عظام الصلب لتكون هذه العظام وقاية لها حيث لا يلحقها حراسة الحواس وارتبط بتلك العظام فتبقى أو ضاع أجزائها محفوظة.

قوله: فإذا انتهى إلى آخر الفقار انقسم قسمين. يريد بقوله: أجزاء الفقار الذي ينتهي عنده، وذلك هو فقار العجز، وفائدة هذا الانقسام أن ينتهي كل قسم منها إلى رجل ولذلك يتابعدان فيكونان على هيئة اللام في كتابة اليونان.
وكل واحد من هذين القسمين ينفصل منه قبل موافاته العجز عشرة عروق وهي التي سماها طبقات، وسماها غيره طوائف وبعضهم سماها أنواعاً.

قوله: يتفرع منها عروق صاعدة إلى الثدي تشارك بها الرحم. فائدة هذه المشاركة أن يكون ما يفضل من دم الطمث عن غذاء الجنين يجد طريقاً للنفوذ إلى الثديين ليستحيل لبناً، ويصير بذلك غذاء للجنين بعد انفصاله ولا يبقى في الرحم فضلاً ويندفع إلى غير الثدي من الأعضاء فيؤذيه وعبارة باقي الفصل ظاهرة. والله ولي التوفيق.

تم القسم الأول بحمد الله ومنه ومن هنا نأخذ في تشريح الأعضاء الآلية مستعيناً بالله وحده.