القسم الثاني: تشريح الأعضاء الآلية - الفصل الثاني: تشريح العين

وكلامنا في هذا الفصل يشتمل على أربعة مباحث:

البحث الأول
أجزاء العين

قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه فنقول قوة الإبصار ومادة الروح... إلى قوله: أو سطها جليدية وهي.

الشرح لا شك أن الإبصار إما يكون بقوة باصرة وتلك القوة إنما تقوم بروح تحملها وتسمى الروح الباصرة. وهذه القوة وهذه الروح هما من القوى والأرواح النفسانية.

فمبدؤهما لا محالة الدماغ وإنما يتم الإبصار بنفوذ تلك القوة، وهذه الروح من الدماغ إلى العينين أو ما يقرب منهما، فإن هذه القوة لو بقيت في الدماغ لكان إدراكها تخيلاً لا إبصاراً والقوى والأرواح إنما ينفذان من الدماغ إلى الأعضاء بتوسط العصب فلذلك لا بد للعين من عصب تنفذ فيه القوة الباصرة والروح الحاملة لها. وقد بينا أن العين لا بد من أن تكون في أعلى مقدم البدن فلذلك العصب التي تأتي فيه القوة الباصرة والروح الباصر لا بد من أن يكون هو الزوج الأول من أزواج العصب الدماغي لأن هذا الزوج يتصل بالدماغ في مقدمه، ومن ورائه يتصل بالأزواج الأخر. وهذا الزوج يسمى العصب النوري لأن فيه النور الذي به الإبصار.

وقد عرفت هذا الزوج وكيفية نفوذه، إلى العينين عند كلامنا في تشريح الأعصاب، وعرفت أن هذا الزوج مع أنه للحس فإن نفوذه إلى العينين ليس على الاستقامة بل على تقاطع يسمى التقاطع الصليبي وإن اكثر المقصود بذلك أن تكون لهذه القوة الباصرة مكان تقف فيه مشترك بين العصبتين وذلك هو التجويف المجتمع من تجويفي كل فرد من هذا الزوج.

فقد عرفت أن هذا الزوج من خواصه أنه ذو تجويف ظاهر. وإنما خالف بذلك ما في الأعصاب لأن النافذ من الأعصاب المدركة إلى الدماغ في باقي الأعصاب إنما هو هيئة انفعال تلك الأعضاء وذلك مما لا يحتاج فيه إلى أن يكون لحامل ذلك للانفعال مساحة يعتد بها فلذلك يكفي في نفوذ الروح الحاملة لذلك الانفعال التام الذي لا بد منها في الأعصاب بخلاف هذا الروح فإن النافذ من العينين إلى الدماغ إنما هو أشباح المرئيات وتلك الأشباح يحتاج حاملها لا محالة أن تكون له مساحة يعتد بها، فلذلك لا يمكن نفوذه في مسام الأعصاب بدون فساد تلك الأشباح فلذلك يحتاج هذا العصب النوري أن يكون ذا تجويف ظاهر ينفذ فيه الروح البصري. ومن تجويفي كل واحد من فرديه يحدث تجويف واحدد في وسط مسافة نفوذهما إلى العينين وفي ذلك التجويف مكان القوة الباصرة، ولو كانت هذه القوة في عين واحدة لكان وجود الأخرى عبثاً ولو كان في كل قوة عين قوة باصرة لكان الشيء الواحد يرى بكل واحدة في العينين فكان الواحد يرى اثنين.

ولقائل أن يقول: لو كان الأمر كذلك لكان الشيء يسمع اثنين. لأن كل واحدة من الأذنين فيها قوة سامعة فإن قوة السمع لو كانت واحدة وموضوعة في إحدى الأذنين لكانت خلقة الأذن الأخرى عبثاً. ولو كانت هذه القوة في داخل تجويف الدماغ لكان الصوت يتخيل ولا يسمع كما قلتم في الإبصار.

وجوابه: إن الأمر في السمع ليس كما في الإبصار وذلك أن إدراك السمع هو من جنس إدراك اللمس. وكما أن قوة اللمس متكثرة لأن هذه القوة في جميع الجلد، وفي أكثر اللحم، وفي الأغشية وغير ذلك. ومعلوم أن هذه الأشياء ليست القوة التي فيها قوة واحدة، بل كثيرة جداً فلذلك قوة السمع لا تمتنع عليها أن يكون متكثرة بخلاف قوة البصر. وإنما قلنا إن قوة السمع من جنس قوة اللمس لأن إدراك قوة السمع إنما هو التموج الحاصل في الهواء الراكد في داخل الأذن النافع لتموج الهواء الحامل للصوت، وإدراك هذا التموج هو بانفعال الحاسة عنه، كما تنفعل حاسة اللمس عن الملموسات الحارة والباردة والخشنة ونحو ذلك وتحقيق الكلام في هذا وبسطه الأولى به في غير هذا الكتاب. وهذا العصب النوري هولا محالة كباقي الأعصاب مغشى بغشائين: أحدهما: من الأم الجافية، وهو الأعلى منهما.

والآخر من الأم الرقيقة، فيكون لا محالة كثير العروق كما في تلك الأم فإذا بلغ هذا العصب مع الغشاءين المغشيين له إلى عظم الحجاج، وهذا العظم الذي فيه نقرة العين انبسط طرف كل واحد من ذلك وانفرش بقدر سعة تلك النقرة ثم انضم طرفه وصار من مجموع ذلك العضو الذي يسمى المقلة.

قوله: اتسع طرف كل واحد منها وامتلأ وانبسط واتسع اتساعاً يحيط بالرطوبات التي في الحدقة.

يريد بقوله: وامتلأ وغلظ وسمن. وما أشبه ذلك. وذلك لأن طبقات العين أكثرها أغلظ من كل واحد من الغشاءين اللذين على العصب النوري.

وقوله: يحيط بالرطوبات المشهور أن هذا الاتساع يقدر قدر الرطوبات التي في المقلة حتى تكون الطبقة الحادثة من جرم العصب مشتملة على الرطوبة الجليدية اشتمال الشبكة على الصيد، وهذا لا يصح فإن مقدار الرطوبات أصغر كثيراً من المقلة، ولو كانت الطبقة معها كما قالوه لزم أن تكون المقلة أصغر مما هي عليه، وأصغر من نقرة العين، فلم تكن المقلة ملتصقة بالعظم بل مسربة عنه. وليس كذلك. بل الحق أن اتساع العصب مع الأغشية بقدر نقرة العين وتبقى الرطوبات في الوسط مائلة عن ثقب العصب النوري إلى جهة الموق الأكبر، ولو كانت هذه الرطوبات مالئة لتجويف العصب النوري لكانت سادة له فكان يمنع نفوذ الروح إلى المقلة، ومن المقلة إلى أمام القوة الباصرة فكان الإبصار يتعذر كما يتعذر لسدة أخرى تقع في هذا العصب.

وقوله: التي في الحدقة. المعروف من الاصطلاح أن العين هي مجموعة المقلة مع الأجفان، وأن الحدقة هي الوضع الذي فيه الثقب العيني، وأن سوى الأجفان من العين هو المقلة. وها هنا يريد بالحدقة المقلة وله أن يصطلح على ذلك ولكنه كان ينبغي أن نبين هذا الاصطلاح أو لاً لنفهم المراد من كلامه ولا يحمل على المعنى المشهور. والله ولي التوفيق.

البحث الثاني
رطوبات العين

قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه التي أو سطها الجليدية وهي رطوبة... إلى قوله: ثم إن طرف العصبة تحتوي على الزجاجية والجليدية.

الشرح إن العين يجب أن يشتمل على رطوبات ثلاث. أما عندهم فلأن الإبصار على قولهم إنما يتم بوقوع الأشباح على الجليدية، وهذه الجليدية مستعدة جداً لسرعة التحلل فلا بد لنا من جسم يمدها بالغذاء لتخلف بدل المتحلل منها فلا يفنى بسرعة، وذلك الجسم لا يمكن أن يكون دماً باقياً على لو نه وإلا كانت هذه الرطوبة تعجز عن إحالته بسرعة إلى طبيعتها فكانت تقل جداً قبل تمكنها من إحالة ما يقوم لها بدل المتحلل فلذلك احتيج أن يستحيل هذا الدم إلى مشابهتها بعض الاستحالة حتى تصير مقتدرة على أخذ الغذاء منه بسهولة ولون هذه الرطوبة مع صفائه وبريقه أبيض فلذلك إنما يصير الدم شبيهاً بها بوجه ما إذا استحال عن حمرته بعض الاستحالة فلذلك يصير لو نه بين البياض والحمرة، وذلك هو لون الزجاج الذائب فلذلك الدم يصل إلى هذه الرطوبة ليغذوها يجب أن يكون كذلك، ولذلك تسمى بالرطوبة الزجاجية ثم إن الجليدية إذا أبعدت من هذه الرطوبة وإحالتها إلى طبيعتها فلا بد من أن تفضل منها فضلة وتلك الفضلة تكون لا محالة قد ازدادت بإحالة الرطوبة الجليدية لها صفاءً وبياضاً فلذلك يكون كبياض البيض. وحينئذٍ تدفع تلك الجليدية تلك الفضلة إلى أمامها فيكون من ذلك الرطوبة البيضية فلذلك لا بد في العين من هذه الرطوبات الثلاث. فهذا مذهبهم في هذه الرطوبات مع تقديرنا له. وأما عندنا: فإن أشباح المرئيات ليست تقع على الرطوبة الجليدية فإن الشبح إنما يقع على جسم إذا كان ذلك الجسم لا يحول بينه وبين ذي الشبح جسم ملون بل يكون ذلك الجسم مكشوفاً ولذلك فإن المرآة إذا غطيت بجسم ملون فإنه لا يقع عليها شبح البتة.

وهذه الرطوبة الجليدية مغطاة، ومحجوبة من قدامها بجسم شديد السواد، فكذلك يستحيل أن تقع عليها شبح المرئيات، وذلك الجسم المغطى للجليدية هو الجسم الأسود الذي يشاهد أمامها ولولاه لشوهدت للناظر في العين فكانت ترى على لو نها الذي هو بياض مع صفار فلذلك الشبح عندنا إنما يقع على ذلك الجسم الذي يرى أسود، وذلك الجسم هو الروح الذي يتأدى فيه الشبح إلى أمام القوة الباصرة ويسمى الروح المؤدي فلذلك الحاجة عندنا إلى الرطوبات التي في العين ليس ليقع الشبح على شيء منها بل ليكون داخل العين كثير الرطوبة حتى يكون في مزاجه قريباً من مزاج الدماغ.

فلذلك إذا حصلت الروح فيه لم تتغير عن مزاجها وهي في الدماغ بل يكون فيه كما هي في الدماغ فلذلك إذا وقع عليه شبح ثم انتقل ذلك الشبح إلى الدماغ بقي ذلك الشبح على حاله لأجل بقاء الروح على حالتها، ولا كذلك لو عرض لهذه الأرواح في الدماغ تغير عن حالتها وهي في العين لكان الشبح الذي فيها يعرض له حينئذٍ تغير. فكان الشيء يتخيل على خلاف ما رئي فلذلك احتيج أن يكون داخل العين مثل داخل الدماغ في أنه كثير الرطوبة وطبقات العين كلها مائلة إلى اليبوسية فلذلك إنما يكون داخلها كثير الرطوبة إذا كانت مشتملة على رطوبة كثيرة. ويجب أن تكون هذه الرطوبة نيرة صافية فإن ذلك أعون على الإبصار فلذلك احتيج أن يكون في داخل العين هذه الرطوبة الجليدية، ويجب أن يغتذي فيجب أن يكون وراءها الرطوبة الزجاجية ولأنها لا بدلها من فضله ليجب أن يكون قدامها الرطوبة البيضية لما مر تقريره.

قوله: وقد فرطحت ليكون المتشبح فيها أو فر مقداراً إما أن الرطوبة الجليدية فيها أن تكون مستديرة فلأنها جسم متشابه الأجزاء فليس بعضه بأن يكون زاوية أو بشكل آخر أولى من الآخر فلذلك لا بد من أن تكون شكلها متشابه الأجزاء. والشكل الذي هو كذلك في المسطحات هو الدائرة، وفي المجسمات هو الكرة، هذا إذا لم يكن أمر يحوج إلى شكل آخر غير طبيعي لذلك الجسم. وها هنا كذلك فإنه لا موجب لتغير هذه عن الكرية إلا بتسطح ظاهرها، وعلة ذلك التسطيح أما عند من يقول إن وقوع الشبح هو في الجليدية فهو أن يكون مقدار الشبح فيها على المقدار الذي ينبغي أن يكون عليه ليكون المرئي كذلك فإن الشبح الواقع في جسم كري يكون أصغر من المقدار الذي يستحقه ولذلك ترى المصورة في المرآة المحدبة الصغيرة والشبح الواقع في جسم مقعر يكون أعظم من القدر الذي يستحقه ولذلك ترى الصورة في المرآة المقعرة كبيرة، وأما الشبح الواقع في السطح المستوي فإنه يكون على المقدار الذي يستحق بحسب رأي الشيخ.

هذا عندما نقول إن وقوع الشبح هو في الرطوبة الجليدية.

وأما على رأينا: وهو أن وقوع الشبح هو في الروح المشاهد في الحدقة فإن فائدة تسطح الرطوبة الجليدية من قدام هو أن يكون ذلك الموضع مستوي الوضع فيكون للروح الانبساط عليه جميعه. وإن كانت تلك الروح يسيرة فقد لا يزيد على المقدار الذي ولا كذلك إذا كان الموضع محدباً، فإنه حينئذٍ كان يكون وسطه ناتئاً. فإذا كانت الروح يسيرة فقد لا يزيد على المقدار الذي يملأ ما يحيط بذلك الوسط الناقىء حتى ينبسط على ذلك الناقىء فيبقى وسط الحدقة خالياً من الروح فلا يقع عليه شبح فهذا ما نذكره ها هنا من سبب هذا التسطيح على رأينا وعلى الرأي المشهور.

وأما قوله: ليكون المتشبح فيها أو فر مقداراً فهذا لا يصح فإن المقصود ليس أن يكون الشبح أكثر ما يستحقه بل أن يكون على ذلك المقدار.

قوله: هو أن يتدرج حمل الضوء على الجليدية يريدان الضوء القوى يؤذي الجليدية بفرط تحليله. فلذلك وضعت الرطوبة البيضية أمامها ليقل ما يصل إليها من ذلك الضوء، ويريد بذلك الضوء الحامل للشبح وهذا إنما يصح على قول من يقول: إن وقوع الأشباح هو على الرطوبة الجليدية. ونحن قد أبطلناه فلذلك يكون هذا السبب المذكور باطلاً. والله ولي التوفيق.

البحث الثالث
تشريح طبقات العين

قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليهمن قوله: ثم إن طرف العصبة يحتوي على الزجاجية... إلى قوله: وأما الهدب فقد خلقت لدفع ما يطير إلى العين.

الشرح قد بينا أن العصب النوري يحيط به غشاءان أصلهما من الغشاءين المحيطين بالدماغ فلذلك الخارج منهما صلب غليظ قليل العروق والداخل رقيق لين كثير العروق كما هما الغشاءان المحيطان بالدماغ. وهذه الأجسام الثلاثة إذا انبسطت في عظم النقرة وملأت تلك النقرة ثم اجتمعت إلى قدام الرطوبات كان منها ثلاث طبقات، وهذه هي طبقات العين مع الطبقة الملتحمة التي نذكرها بعد والمشهور أن يعد ما هو ملتصق بعظم النقرة على حدة وبعد ما هو متصل بذلك من قدام الرطوبات على حدة. فلذلك تجعل تلك الطبقات الثلاث ستاً، ولذلك تكون طبقات العين إذا عدت مع الطبقة الملتحمة سبعاً.

فالطبقة الأولى: هي الحادثة وراء الرطوبات من العصب النوري، وتسمى الطبقة الشبكية، وقد أشار الشيخ إلى علة هذه التسمية وهي أنها تحتوي على الرطوبة الجليدية. أي على منتصف الرطوبة الجليدية، احتواء الشبكة على الصيد وبعضهم علل ذلك بأن هذه الطبقة تنفذ إليها من الغشاء الرقيق عروق كثيرة متنسج فيها انتساج الشبكة وسبب ذلك أن هذه الطبقة أقرب لا محالة إلى الرطوبة الزجاجية يأخذ إليها من هذه الطبقة، وإنما يمكن ذلك إذا كانت مشتملة على عروق كثيرة ليكون فيها دم كثير يكفي لغذائها ولغذاء الرطوبة الجليدية يتوسط إحالة الزجاجية إلى قرب مشابهة الجليدية وجوهر العصب يخلو عن العروق البتة فلا بد من أن تكون العروق التي في هذه الطبقة آتية إليها من غيرها والغشاء الرقيق مع كثرة عروقه وهو شديد القرب من هذه الطبقة، فلذلك وجب أن تكون العروق الآتية إلى هذه الطبقة آتية إليها من الغشاء المشيمي. وهذه العروق لا بد من أن تكون في هذه الطبقة منبثة معوجة ليكون كما في الشبكة من الخيوط، وذلك ليطول تردد الدم في هذه الطبقة فتحيله إلى طبيعتها فتقرب بذلك من البياض ليصير مشابهاً بوجه ما للرطوبة الزجاجية.

والطبقة الثانية تبتدئ من طرف هذه الطبقة وتغشي ظاهر الجليدية وذلك لأن الرطوبة البيضية قد بينا أنها فضلة غذاء الجليدية وملاقاة الفضول دائماً. ولا شك أنه مضر وذلك احتيج أن يكون بين الرطوبة الجليدية والرطوبة البيضية حاجز وذلك هو هذه الطبقة ولذلك جعلت هذه الطبقة مفرطة في الرقة عنكبوتية أي شبيهة بنسيج العنكبوت. ولذلك تسمى طبقة عنكبوتية وإنما احتيج أن تكون كذلك مع أنها لو كانت غليظة لكانت أكثر حجباً للرطوبة الجليدية عن ملاقاة البيضية، والسبب في ذلك أما عندهم فلتكون هذه الطبقة كثيرة التخلخل فلا يمنع نفوذ الضوء الحامل للشبح إلى الرطوبة الجليدية وأما عندنا فلتكون عندنا غير مانعة من نفوذ نور الرطوبة الجليدية إلى ما أمامها فتبطل فائدة الجليدية ولو كانت هذه الطبقة غليظة كثيفة الجرم ولهذه الطبقة فائدة أخرى، وهي أنها لا تخلو من عروق دقاق، وتلك العروق يكون ما فيها من الدم قد استحال إلى مشابهة الجليدية في الطبقة الشبكية وفي هذه الطبقة أيضاً، فلذلك يكون ذلك الدم غير بعيد جداً عن جوهر الجليدية فلذلك ما يرشح من العروق التي في هذه الطبقة من الدم يصلح لغذاء الجليدية من قدامها فإن الرطوبة الزجاجية إنما تلاقيها من ورائها فيقل أيضاً ما يصل إليها من الغذاء إلى مقدم الجليدية فلذلك احتاج مقدم الجليدية إلى أن يأتيه الغذاء من هذه الطبقة العنكبوتية، وإنما جعل بين الرطوبة الجليدية والبيضية هذه الطبقة ولم يحتج إلى طبقة أخرى بين الجليدية والزجاجية وذلك لأن الزجاجية لأجل غذاء الجليدية والأجاود أن يكون الغذاء ملاقياً للمغتذي ليسهل انفعاله منه فتستحيل إلى مشابهته بسهولة ولا كذلك البيضة فإنها فضل تتضرر بدوام ملاقاتها للجليدية.

والطبقة الثالثة: هي الطبقة المشيمية ويحدث من الغذاء المشيمي وهو الغشاء الرقيق الكثير العروق وذلك من وراء الرطوبات وهذه الطبقة هي بالحقيقة الممددة للعين ولجميع أجزائها بالغذاء من قدام هذه الطبقة.

الطبقة العنبية: وهي الطبقة الرابعة وهذه الطبقة ثخينة الجرم ظاهرها صلب لأنها تلاقي الطبقة القرنية وباطنها ألين وكأنه لحم إسفنجي لأنه ذو خمل وخشونة والمشهور أن فائدة ذلك أن يجد الماء المقدوح خشونة يتعلق بها ولا يعود إلى الحدقة. وأما الحق: فإن فائدة هذا الخمل أن يكون ما ينفذ إلى العين من الفضول يمنعه ذلك الخمل من الوصول إلى الحدقة وهذه الطبقة ذات لو ن إلى السواد ليكون بذلك جمع البصر وقوته. فلذلك لا بد من أن تكون مثقوبة في وسطها وذلك هو موضع الحدقة. إذ لو لا هذا الثقب لم ينفذ الشبح إلى موضعه وقد زيد في صلابة ما يحيط بهذا الثقب لئلا ينخرق هذه الطبقة هناك بسبب تمديد الأبخرة ونحوها مما نفذ إلى داخل تجويف العين.

والطبقة الخامسة: تحدث من وراء الرطوبات من الغشاء الصلب، فلذلك هذه الطبقة أصلب الطبقات الباطنة وفائدة ذلك أن تقوي العين على ملاقاة العظم ولا تضرر بصلابته وتسمى هذه الطبقة: الطبقة الصلبة لأجل صلابتها ومن قدام هذه الطبقة الطبقة القرنية: وهي: الطبقة السادسة: وسميت هذه قرنية لأنها تشبه القرن المرفق بالنحت وهي شديدة الإشفاف فلذلك ينفذ فيها الشعاع، وهي أيضاً صلبة لأنها في ظاهر المقلة، وأصلب أجزائها ما يحاذي منها الحدقة لأن هذا الموضع ليس وراءه ما يعتمد عليه عندما تصيب العين ضربة ونحوها.

وأما الطبقة الملتحمة: فإنها تحدث من أجزاء الغشاء الظاهر وهو المغشي لظاهر الرأس وغيره ويسمى السمحاق فيحدث من تلك الأجزاء ومن لحم أبيض صلب غضروفي جرم هذه الطبقة وسميت ملتحمة لأنها كالملتحمة بالمقلة من خارجها وفائدة هذه الطبقة إفادة المقلة من خارجها رطوبة بما فيها من دسومة.

قوله: وهي بالحقيقة كالمؤلفة من طبقات رقاق أربع أي: الطبقة القرنية ذات طبقات أربع هي لها كالقشور المتراكبة بعضها فوق بعض من غير خلل بينها وفائدة ذلك أن تكون بعض هذه الطبقات قائماً مقام البعض إذا حدثت لذلك البعض آفة من حرق ونحوها.

واحتيج أن تكون أربعاً لأن ظاهر المقلة يحتاج أن يكون شديد الصلابة ليقوى على مقاومة المصادمات ونحوها كما قلنا، وباطن هذه الطبقة يحتاج أن يكون إلى لين ليكون شيهاً لقوام ظاهر العنبية فإن ذلك الظاهر، وإن كان صلباً فهو بالنسبة إلى ظاهر المقلة شديد اللين، وإذا كان كذلك وجب أن يكون بين الطبقة الخارجة من هذه الغريبة، والطبقة الداخلة منها متوسط بينهما في الصلابة واللين لئلا يتضرر الطبقة الداخلة بصلابة الطبقة الخارجة ويجب أن يكون هذا المتوسط طبقتين فإن الذي يجود ملاقاته للطبقة الداخلة لا يجود ملاقاته للطبقة الخارجة لأن التفاوت بينهما في الصلابة واللين كثير جداً. فلذلك وجب أن يكون لهذه الطبقة أربعة قشور. والله ولي التوفيق.

البحث الرابع
تشريح الأجفان والأهداب

قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه أما الهدب فقد خلقت لدفع... إلى آخر الفصل.

الشرح إن الإنسان ونحوه مما هو لين العين فإن عينيه يخشى عليهما من مصادمات الأجسام لها من خارج فلذلك جعلها الخالق تعالى من عظام ناتئة وهذه العظام إنما توقيها وقاية تامة من الأجسام العظيمة وأما ما صغر من الأجسام فلا كثير نفع لهذه العظام فيها، فلذلك احتياجها إلى وقاية أخرى ولا يمكن أن يكون العينان دائماً مكشوفتين وإلا تعرضتا لملاقاة الآفات المؤذيات لهما ولا دائماً مغطاتين وإلا بطلت منفعتهما فلذلك احتيج إلى كشفهما وقتاً وذلك حين يراد الإبصار وإلى سترهما وقتاً وذلك حيث يراد صونهما عن المؤذيات وأما الواردة أو المخوف ورودها كما عند النوم، فلذلك لا بد لهما من غطاء يزول تارة ويغطي تارة أخرى وهذا هو الأجفان، ويكفي في ذلك حركة أحدهما دون الآخر، وكل حيوان يبيض فإنه يحرك جفنه الأسفل، وكل حيوان يلد فإنه يحرك جفنه الأعلى فلذلك الإنسان يحرك جفنه الأعلى فلذلك يحتاج إلى عضل يحركه هذا الجفن دون الأسفل فلذلك الجفن الأعلى في الإنسان ونحوه يزيد في أجزائه على الجفن الأسفل بالعضل المحرك له وبالجرم الذي يكون منه الشرناق. ونحن قد بسطنا الكلام في ذلك حيث تكلمنا في العضل ويكون الجفن هو الغشاء المسمى بالسمحاق. فإن هذا الغشاء إذا بلغ موضع الجفن الأعلى ينزل على العين يقدر يغطيها ثم انعطف إلى فوق فإذا لاقى المقلة تفرق في طبقاتها واحتشى لحماً أبيض صلباً وتكون منهما الطبقة الملتحمة، ثم إن هذا الجفن لكثرة حركته خيف عليه أن يفرط في التجفف فخلق بين طبقاته غشاء شحمي وذلك هو الجرم الذي إذا عظم جداً كان من الشرناق واحتيج إلى أن يحفظ للطي على هيئته فلا تتغير وضع طاقيته فخلق في طرف هذا الطاق جرم غضروفي دقيق وفيه تنبت الأهداب وجعل الوتر المحرك للجفن متصلاً بهذا الغضروف ليكون إذا حركه تحرك بسبب ذلك جميع الجفن من غير أن يمتد موضع الوتر فقط.

وأما الجفن الأسفل فإنه أيضاً يتكون من السمحاق وذلك بأن يصعد من فوق عظم الوجنة، فإذا غشي بعض المقلة انعطف إلى أسفل فإذا لاقى المقلة حدث منه ومن اللحم الأبيض الطبقة الملتحمة كما ذكرنا.

وخلق أيضاً في طرف عطفة الجرم الغضروفي ليحفظ وضع ذلك العطف وليكون مغرسٍ الهدب صلباً لما نذكره من منافع ذلك وهذا الجفن أصغر كثيراً من العالي لأنه لو كان عظيماً كالعالي لحبس الغذى الذي بينه وبين المقلة ولا كذلك العالي فإن حركته تدفع القذى والذي نحوه إلى أسفل فيظهر القذى ويخرج وهدب الجفن الأسفل منقلبة إلى أسفل لأنها لو كانت منتصبة على الاستقامة لمنعت نزول ما ينزل عليها من الغبار ونحوه وحبسته أمام المقلة، ولو كانت منتصبة إلى فوق لأضرت بالإبصار فلذلك خلقت منعطفة إلى أسفل فإن ذلك أمنع لتصعد ما من شأنه التصعد إلى المقلة.

وأما هدب الجفن الأعلى فإنها لو كانت منعطفة إلى فوق لحبست ما ينزل إلى العين عندها، ولو كانت مسترسلة إلى أسفل لأضرت بالإبصار فلذلك خلقت منتصبة إلى قدام، ولولا صلابة مغرس هذه الأهداب في الجفنين لكانت تكون كما في الشعور مسترخية ولذلك جعل مغرسها في الجرم الغضروفي الذي ذكرناه ثم جعل هذا الجرم منثقباً لأنه لو كان مصمتاً لكان ما يحصل من الفضول بين الطاقين يحتبس بينهما ويضر بالجفن، فلذلك خلق ذلك الجرم منثقباً ولذلك يخرج من طرف الجفن الرمص ونحوه. ولأجل صلابة مغرس الأهداب ويبوسته قل جداً ما ينفذ في الشعر من الرطوبة فلذلك جميع الشعور تشيب في الكبر إلا هذه الأهداب لأن بياضها شديد الإضرار بالبصر. والله ولي التوفيق.