القسم الثاني: تشريح الأعضاء الآلية - الفصل الحادي عشر: تشريح الكبد

إنا قبل الكلام في تعريف الكبد نقدم مقدمة نبين فيها وجه الحاجة إلى الكبد فنقول. قد بينا مراراً كثيرة أن الحاجة إلى خلقة الكبد هي أن تحيل الغذاء إلى مشابهة جوهرها فيصير لذلك دماً وخلطاً وذلك بعد استعداده في المعدة لذلك. وذلك لطبخ المعدة له وإحالتها إياه إلى حالة يشابه جوهرها مشابهة ما، فتصير بذلك مع أنه أقرب مشابهة لجوهر المعدة مما كان أو لاً لأنه هو أيضاً أقرب مشابهة لجوهر الكبد فلذلك تقرب استحالته إلى مشابهة جوهر الكبد وذلك إذا فعلت فيه بصورتها النوعية فإن الأجسام في هذا العالم جميعها تتفاعل إذا تلاقت وذلك بأن يفعل كل واحد منها في مادة الآخر فعلاً يقرب تلك المادة إلى مشابهة جوهره ولذلك إذا تلاقت العناصر تفاعلت ولزم ذلك حصول المزاج وبيان هذا أن مادة أجسام هذا العالم جميعها واحدة وإنما تختلف في الأجسام باختلاف حالها من الصور، وكل صورة في جسم فإن من شأنها أن تجعل المادة التي هي قائمة بها على الكيفيات التي بها تكون تلك المادة شديدة الملاءمة لتلك الصورة حتى تكون تلك الصورة حينئذٍ أثبت في تلك المادة مثال ذلك الماء فإن صورته من شأنها أن يجعل مادته باردة رطبة وتلك المادة بذلك شديدة المناسبة لصورته حتى إن تلك المادة ما دامت كذلك استحالت أن تفارقها تلك الصورة وإذا حدث لها قاسر يخرج له عن طبيعته كالنار مثلاً إذا سخنته فإن تلك السخونة إذا كانت شديدة جداً أعدت مادته لقبول تلك الصورة الهوائية واستحال ذلك الماء هواء. وإن كانت تلك السخونة أضعف من ذلك الماء لو يفارق صورته لمادته ولكنها تكون في طريق أن يفارق وذلك إذا تزيدت الماء سخونة ثم إذا بطل تأثير ذلك القاسر، وكان الماء لم يفارق صورته لمادته كانت تلك الصورة حينئذٍ مجتهدة في إبطال تلك السخونة لتزول عن مادته التأهب لأن يفارق صورته ومع ذلك فلا يقتصر على إبطال تلك السخونة فقط بل تحيله مع ذلك إلى الكيفية المناسبة لصورته حتى يصير بارداً رطباً ومادة جميع هذا العالم واحدة فإن المادة التي في النار هي بعينها المادة التي في الماء لكن تلك تصورت بصورة النار وهذه تصورت بصورة الماء فلذلك صورة النار تحيل المادة المصورة بصورة الماء إلى طبيعتها فتصير مناسبة لصورة النار فتصير ناراً ومادة الماء تحيل مادة النار إلى طبيعتها فتصير مناسبة لصورة الماء فيصير ماء وكذلك الأجسام المختلفة الصور جميعها كل منها يفعل في غيره هذا الفعل وإن كان بعض الأجسام في ذلك أقوى من بعض فما كان من الأجسام قوى الكيفيات فهو أقوى على إحالة غيره إلى طبيعته من الأجسام إلى كيفياتها ضعيفة فلذلك فإن إحالة النار للماء حاراً أكثر كثيراً من إحالة الهواء إلى الحرارة وكذلك إحالة النطرون لغيره نطروناً أشد وأسرع من إحالة الماء وغيره مادة خاصة إذا كان المستحيل بصورة يعسر قبولها لصورة المحيل لو كانت الاستحالة إلى صورة المحيل عسرة جداً ولذلك فإن استحالة الماء ناراً أعسر من استحالة الأرض ناراً مع أن الأرض أشد كثافة من الماء وأبعد في ذلك عن طبيعة النار وذلك لأن الماء لأجل قوة برده، ورطوبة مادته تعسر استحالة مادته ناراً ولا كذلك الأرض فإن بردها أضعف ومادتها يابسة وكذلك استحالة الأجسام رصاصاً أسرع كثيراً وأسهل من استحالتها ذهباً. وذلك لأن الذهب إنما يتحقق بمزاج شديد وذلك مما يعسر تكيف الأجسام بمزاجه ولا كذلك الرصاص. ولذلك إذا طال مقام الرصاص في موضع ندي كبر جرمه، ولذلك يزداد بخلاف الذهب وقد يحيل جسم جسماً آخر إلى جسم بصورة ثالثة ليست لو أحد منهما فإن النار إذا سخنت الماء سخونة شديدة صار لذلك هواء وكذلك يقال إن الأكسير يحيل الرصاص فضة أو النحاس ذهباً مع أنه ليس بصورة واحد منها وذلك لأن هذا المحيل لا يحيل المادة فيكون بصورة ذلك الثالث بل لأنه يحيلها للتصور بصورته ولكنها في طريق تلك الاستحالة يستعد لصورة ذلك الثالث. والله تعالى لكرمه لا يمنع مستعداً ما استعد له. فلذلك الماء إذا تسخن بفعل النار فالنار تسخنه ليصير ناراً لكنه قبل أن يندفع إلى الحد الذي به يصير ناراً يستعد لصورة الهواء فيعطيه الخالق تعالى صورة الهواء لأجل استعداده لها. وكذلك الأكسير يحيل الرصاص مثلاً لأن يكون بصورته وقبل بلوغه إلى ذلك الحد يستعد لصورة الفضة فيفاض عليه، ولذلك المعدة تحيل الغذاء المستحيل إلى صورتها وقبل ذلك يستعد بعض الاستحالة إلى صورة جسم آخر وأجسام أخر فإن الماء إذا استحال هواء استعد قريباً بذلك من الاستعداد لاستحالة ما وكذلك الحال في الكبد فإن الغذاء إذا استحال إلى صورتها قريباً بذلك من الاستحالة إلى جواهر الأعضاء كلها فهذه فائدة الكبد فإنها إذا أحالت الغذاء دماً استعد بذلك الاستحالة إلى جوهر كل عضو فكان جوهر الكبد كالمتوسط بين جواهر الأغذية وجواهر الأعضاء الأخر. ونحن قد تساهلنا في هذا الكلام فأطلقنا لفظ الاستحالة على التغير في الجوهر. وذلك لأجل تسهيل التعليم وكلامنا في تشريح الكبد يشتمل على بحثين:

البحث الأول

هيئة الكبد وموضعها وأفعالها

قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه إن الكبد هو العضو الذي... إلى قوله: وأكثر القوى الأخرى في ليفيته.

الشرح قوله وإن كان الماساريقاً قد يحيل الكيلوس إلى الدم إحالة ما إن عني بالدم الخلط الذي لو نه أحمر فإحالة الماساريقا الكيلوس إليه إنما يكون بتقريبه إلى طبيعة الدم أعني أن الماساريقا يقرب الكيلوس إلى أن يصير في الكبد دماً وذلك بأن يحيله بعض الإحالة التي بها يستعد لقبول الصورة الدموية وهذا كما أن الفم والمريء يحيلان الغذاء إلى أن تسهل صيرورته في المعة كيلوساً. وأما إن عني بالدم ما يصلح لتغذية عضو وإن لم يكن لو نه أحمر فلا يبعد أن تقوى الماساريقا على ذلك وذلك بأن تحيل الكيلوس إلى أن يصير صالحاً لتغذيتها، وإن لم ينفذ إلى الكبد البتة وذلك فإن السطح الباطن من المعدة يحيل الكيلوس إلى حالة تصلح بها تغذيته ولكنه لا يصير بذلك أحمر اللون لأنه إنما يصير بذلك أحمر اللون لأنه إنما يصير كذلك باستحالته إلى مشابهته جوهر باطن المعدة، وهذا الجوهر ليس بأحمر اللون فما يستحيل إلى مشابهته محال أن يكون لو نه أحمر.

قوله: كأنه دم جامد يريد بالجمود هاهنا مسمى الانعقاد على سبيل التجوز وذلك لأن الجمود إنما يقال حقيقة لانعقاد الشيء بالبرد. وأمامنا ينعقد بالحرارة كانعقاد جرم الكبد فلذلك إذا قيل له جمود كان على سبيل التجوز.

قوله: وهو يمتص من المعدة والأمعاء بتوسط شعب الباب المسماة ماساريقا من تقعيره وبطبخه هناك دماً وتوجهه إلى البدن بتوسط العرق الأجوف النابت من حدبته قد علمت مما سلف من كلامنا أن الكبد يأخذ مادة الغذاء بعضها بانتشار فيها لما يرشح من المعدة والأمعاء من ذلك وبعضها بما يستسقيه أجزاء الباب التي نسميها نحن: أصولاً ويسمونها هم: فروعاً وشعباً.

وعلمت أن هذه المادة تنفذ أو لاً إلى الجزء المقعر من الكبد، وهو الذي تنبت فيه أكثر فروع الباب التي يسمونها هم أصولاً. وفي ذلك الجزء المقعر يستحيل أو لاً إلى الأخلاط الأربعة ثم تجذبها أصول العرق المسمى بالأجوف من فوهاتها الملاقية لفوهات فروع الباب وإنما ينجذب حينئذٍ في تلك الأصول الدم والبلغم وما بقي من الكيلوس وذلك لأن هذه جميعها تصلح لتغذية محدب الكبد وإنما هو يجذب لأجل هذه التغذية فلذلك تتخلف السوداء والصفراء في مقعر الكبد ويحتاج إلى دفعها ليخلو المكان لجذب غذاء آخر واندفاعها حينئذٍ لا يمكن أن يكون إلى جهة المحدب فإنه لا يقبلها لأنهما لا يصلحان للتغذية فلذلك إنما يندفع من المقعر إلى الجهة التي فيها المعدة والأمعاء وتندفع الصفراء في فرع من فروع الباب إلى المرارة من غير أن ينفذ في الباب وأما السوداء فيندفع في الباب، وينفذ ويندفع في الطحال كما بيناه في كلامنا في تشريح الأوردة وبذلك تتميز الصفراء والسوداء المندفعتان إلى مجاريهما.

قوله: وتوجه المائية إلى الكليتين من طريق الحدبة.

لقائل أن يقول: إنكم قلتم إن اندفاع الصفراء والسوداء من المقعر إنما كان لأن المحدب لا يجذبهما لأنهما لا يصلحان لتغذية عضو من الأعضاء فهي أولى بأن لا يجذبها المحدب. وكان ينبغي أن يكون اندفاعها من المقعر؟ وجوابه: أن هذا لا يصح فإن نفوذ المائية في المقعر لا لأجل التغذي بل ليرقق الغذاء فتمكن نفوذه في مجاري الكبد، وهذا مما يحتاج إليه في المحدب أيضاً فلذلك ينجذب إليه الماء فإذا انفصل الدم وغيره من الأخلاط من الكبد إلى العرق الأجوف جذبت الأعضاء تلك الأخلاط لتغتذي بها ولم يجذب من المائية إلا ما يحتاج إليه في التغذية فيبقى ما كانت الحاجة إليه لأجل نفوذ الغذاء في مجاري الكبد مستغنياً عنه فلذلك يحتاج إلى دفعه ويندفع حينئذٍ إلى الكليتين لأنهما مخلوقتان لذلك ثم منهما إلى المثانة ثم إلى سبيل البول.

قوله: ويعد لها بالنبض. هذا لا يصح، فإن نفوذ الشرايين في الأعضاء إنما هو لإفادتها الحياة والحرارة الغريزية لا لتعديلها فإن تعديل النبض إنما هو بنفوذ الهواء البارد إلى تجاويف الشرايين، وذلك فإن أفاد تبريداً فإن تبريده إنما هو لما هو في داخل الشرايين لا للعضو الذي فيه شريان فإن ذلك لا يصل إليه بتبريد هذا الهواء المجذوب إلى داخل الشريان.

قوله: والفضاء الذي يحوي الكبد يربطها بالغشاء المجلل للمعدة والأمعاء يريد بهذا الغشاء الشحمي الذي هو الثرب فإن هذا الثرب يغشي الأمعاء والمعدة ونحوها من أعضاء الغذاء والفضول.

قوله: وإذا اختل في التميز اختل أيضاً تولد الدم الجيد واختلال التمييز قد لا يلزمه اختلال في تولد الدم بل في الدم الواصل إلى الأعضاء وإن كان تولده على أفضل الوجوه وذلك لأن اختلال التمييز إن كان بسبب غير الكبد فظاهر أن ذلك لا يلزمه اختلالها في توليد الدم ولا في غيره وإن كان اختلال التمييز لأجل خلل في الكبد فقد لا يلزم ذلك أيضاً وقوع خلل في توليدها الدم لأن القوة المميزة مغايرة للقوة الهاضمة. ومن الجائز أن يعرض خلل في القوة المميزة مع سلامة غيرها من القوى. والله ولي التوفيق.

البحث الثاني

نقض مذهب قيل في القوى التي في الماساريقا

قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه ولا يبعد أن يكون في الماساريقا... إلى قوله: وكذلك الهواء بين الحديد والمغناطيس عند أكثر أهل التحقيق.

الشرح أما أن الماساريقا ونحوها من الأعضاء فيها قوى يتصرف في غذائها فذلك مما لا شك فيه فإن جميع الأعضاء لا تخلو عن ذلك وقد وقع الاتفاق على ذلك بين الأطباء والفلاسفة وأما أن فيها قوى يتصرف فيها في الغذاء العام كتصرف المعدة والكبد فذلك ما لا أجزم بثبوته ولا أنفيه وإن كنت إلى ثبوته أميل وذلك ليستفيد الغذاء فيها تهيئة بفعل الكبد. وألفاظ الكتاب ظاهرة. والله ولي التوفيق.