القسم الثاني: تشريح الأعضاء الآلية - الفصل الرابع عشر: تشريح الأمعاء الستة

وكلامنا في هذا يشتمل على خمسة مباحث:

البحث الأول
منفعة الأمعاء

قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليهإن الخالق تعالى بسابق عنايته... إلى قوله: من امتصاص صفاوته التي فاتت الطائفة الأولى.

الشرح قد علمت أن المعدة لا بد منها في هضم الغذاء وتهيئته في للإنهضام في الكبد ليتكون منه الدم وغيره من الأخلاط التي لا بد منها في التغذية التي لا بد منها في بقاء الإنسان ونحوه من الأجسام المغتذية وقد عرفت أن هضم المعدة يتم بأمرين: أحدهما: فعل صورتها في الغذاء لتحيله إلى مشابهة جوهرها.

وثانيهما: فعل الحرارة الطابخة للغذاء حتى تتشابه أجزاؤه وتصلح لفعل الكبد فيه فإذا تم انهضام الغذاء فيها لهذين الأمرين وجب أن يندفع منها ولا يلزم فيها بعد ذلك زماناً له قدر يعتد به لأنه لو بقي فيها بعد ذلك زماناً كثيراً لزم ذلك أمران: أحدهما تعذر نفوذ غذاء آخر إليها فتهضمه كما هضمت الأول إذ لا يكون لهذا الثاني مكان ويلزم ذلك تضرر البدن بانقطاع الغذاء الثاني عنه إلى أن يندفع الأول.

وثانيها: إن الغذاء إذا بقي في المعدة بعد تمام انهضامه فسد لأن الحرارة لا بد وأن يستمر عملها فيه. ويلزم ذلك أن يتدخن أو يحترق وبالجملة أن يصير بحال لا يصلح لفعل الكبد فيه فلذلك وجب أن يندفع الغذاء من المعدة إذا تم انهضامه فيها واندفاعه حينئذٍ لا يمكن أن يكون إلى الكبد فإن عروق الكبد لأجل ضيقها لا يمكن نفوذ الغذاء فيها دفعه وفي زمان قصير جداً ولو اندفع إلى فوق فخرج بالقيء مثلاً لغابت منفعته فلا بد من أن يكون اندفاعه حينئذٍ إلى داخل البدن وأن يكون ذلك في تجويف يمكن نفوذه فيه دفعة، وهذا التجويف لا يمكن أن يكون بحيث يخرج هذا الغذاء منه دفعة أيضاً بل لا بد وأن يقيم فيه الغذاء مدة في مثلها يتمكن الكبد من أخذ الصالح منه الصافي فلذلك لا بد من أن يكون هذا التجويف بقرب الكبد ولا بد من أن يكون مع قبوله لجملة الغذاء دفعة يتعذر مع ذلك خروجه منه دفعة، وإنما يمكن ذلك بأن يكون لهذا التجويف امتداد كبير حتى يكون بعضه مستسفلاً على الاستقامة حتى يقبل نفوذ الغذاء فيه من المعدة دفعة ويكون بعضه مع ذلك ملتوياً متعرجاً حتى يعسر نفوذ هذا الغذاء منه إلى خارج دفعة فيفوت الكبد أخذ الصالح منه ولا بد من أن يكون مع تعاريجه والتواءه يصعد بعضه إلى فوق حتى يعسر نفوذ الغذاء في ذلك الصاعد إلا بفعل الطبيعة وذلك عند الحاجة إلى دفعه وذلك عند فراغ الكبد من جذب ما من شأنها جذبه منه.

ولا بد من أن يكون مع ذلك يسهل نفوذ الصالح منه إلى الكبد وهذا إنما يمكن بأحد أمرين: إما أن يكون فيه مجار ينفذ منها إلى داخل الكبد والكبد يجذب ذلك الصالح من تلك المجاري كما هو مذهبهم، وإما أن يكون جرم هذا التجويف واسع المنافذ والمسام حتى يسهل رشح ذلك الصالح من باطن التجويف إلى خارجه فيأخذ الكبد يجذبها له بعضها بنفسها وبعضه بانتشاف العروق التي هي كالأصول للعرق النافذ في مقعر الكبد الذي هو الباب وذلك كما هو مذهبنا. ولكن اتصال المجاري بهذا التجويف قد بينا أنه باطل لأمرين: أحدهما: الوجود كما بيناه فيما سلف مراراً .

وثانيهما: أن هذا التجويف لما كان الغذاء يحصل فيه وهو بعد كثير الرطوبة مستعد لأن تتولد منه الرياح والأبخرة والكبد والمرارة مجاورتان له فهما بحرارتهما يحدثان فيه ذلك وإذا حصلت هذه الرياح ولأبخرة في هذا التجويف فهي لا محالة تمدده وتغير وضع بعض أجزائه عن بعض فلو كان له عروق تتصل به وبالكبد لكانت تلك العروق تعرض لها كثيراً أن تتمدد تمدداً كثيراً ويلزم ذلك تقطعها وكان يلزم ذلك تعذر نفوذ الغذاء وخروج الرطوبات التي في الكبد من ذلك المنقطع من تلك العروق وكان يلزم ذلك فساد البدن، فلذلك نفوذ الغذاء من هذا التجويف إلى الكبد لا يمكن أن يكون بعروق تتصل به وبالكبد كما قالوه. فلا بد من أن يكون على الوجه الذي ذكرناه وإنما يمكن ذلك بأن يكون هذا التجويف ذا مسام كثيرة واسعة وإنما يمكن ذلك بأن يكون جرم هذا التجويف له ثقب حتى يمكن نفوذ الغذاء من خلله، وهذا التجويف هو العضو المسمى بالمعاء.

قوله: خلق أمعاؤه التي هي آلات دفع الفضل اليابس كثيرة العدد والتلافيف.

قد ذكر ها هنا لكثرة عدد الأمعاء وكثرة تلافيفها منفعتين: إحداهما: أن يتأخر خروج الثفل منها فلا يخرج كما يدخل فيلزم سرعة خروجه سرعة الحاجة إلى التغذي لأنه إذا خرج بسرعة خرج قل أخذ الكبد منه الغذاء الكافي فاحتيج إلى إدخال غذاء آخر ليأخذ منه القدر الكافي ويلزم ذلك أن يكون حال الإنسان في كثرة عدد اغتذائه كحال الدواب وتلك حال مستنكرة ولذلك فإن من يفعل ذلك من الناس ينسب إلى الشره، والغذاء الوارد بعمل ذلك يكون حاله كحال الأول فيخرج أيضاً بسرعة، ويلزم ذلك كثرة حاجة الإنسان إلى القيام للتبرز وذلك أيضاً مستنكر شاغل له عن المهام ونحوها.

وثانيتهما: أن كثرة عدد الأمعاء وتلافيفها يلزمه تغيير أو ضاع الغذاء الذي في تجويفها وذلك لأن ما كان منه في موضع في العمق يرجع في موضع آخر في المحيط أو ما يقرب منه فيسهل نفوذ ما ينفذ منه إلى الكبد.
أما عندهم فبسبب قربه من العروق الماصة عند حصوله من المحيط.

وأما عندنا فلأجل قربه حينئذٍ من مسام المعاء التي يخرج منها على سبيل الرشح.

ولقائل أن يقول: إن هاتين المنفعتين ليستا متوقفتين على كثرة عدد الأمعاء لأنها لو كانت واحدة ولكنها طويلة وكثيرة التلافيف لكانت هاتان المنفعتان متحققتين مع أن الأمعاء واحد؟ وجوابه: أن اختلاف الأمر في هذا ليس إلا في العبارة فقط، فإن قولنا أن عدد الأمعاء ستة ليس معناه، أن ستة أمعاء منفصل بعضها عن بعض كل واحد منها يقال له معاء بل جميع هذه متصلة. وإنما قلنا إنها كثير ة العدد بمعنى أن بعضها رقيق الجرم ضيق التجويف، وبعضها غليظ الجرم، واسع التجويف. وبعضها ذاهب في الاستقامة. وبعضها ملتو آخذ على الاستدارة وغير ذلك. والكل في الحقيقة شيء واحد متصل فلا فرق بين أن يقال: إنها معاء واحد مختلف الأجزاء فيما ذكرنا، وبين أن يقال إن كل جزء منها معاء برأسه إذ الجميع متصل كشيء واحد. والخلاف في العبارة فقط. والغرض بطول بقاء الغذاء في الأمعاء بالذات ليس تأخر خروجه أو تأخر طلب الغذاء بل الغرض الذاتي بذلك أن يكثر ما يصل إلى الكبد من الغذاء عند طول لبثه في الأمعاء لكثرة ما يجذبه إليها منه.

قوله: فيتمكن طائفة أخرى من العروق من امتصاص صفاوته التي فاتت الطائفة الأولى إن أراد بهذا الطائفة من العروق بعض العروق الملاقية للأمعاء وهي التي في الثرب مثلاً فذلك صحيح وإن أراد بعض العروق التي نعتقد أنها نافذة في أجرام الأمعاء إلى تجاويفها فذلك مما أبطلناه فيما سلف. والله ولي التوفيق.

البحث الثاني
تعديد الأمعاءوتمييز بعضها عن بعض

قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وعدد الأمعاء ست.. إلى قوله: لزجة مخاطية تقوم مقام التشحيم.

الشرحإن عدد الأمعاء يجب أن يكون ستة. وذلك لأن المعاء المتصل بقعر المعدة وهو المعروف بالإثني عشري لابد من أن يكون مستقيماً ليسهل نفوذ الغذاء إلى تجويفه سريعاً. وسمي كذلك لأنه بقدر اثني عشر إصبعاً بأصابع صاحبه. إنما كان كذلك لأنه يحتاج مع تسفله أن لا يبعد كثيراً عن الكبد فيقرب ما يبعد منه عنها ما يحدث بسبب حرارتها وقوتها الهاضمة من زيادة انهضام الغذاء أعني بذلك الانهضام الذي بعد الغذاء هضم الكبد لا الانهضام الكيلوسي. فإن ذلك الهضم يتم في المعدة وإفادة المعدة له أولى من إفادة المعاء له فلذلك لم يجعل طوله كثيراً بل بقدر ما يتسع لما ينزل إليه من الغذاء فقط ولما كان هذا المعاء ينزل مستقيماً وابتداؤه من المنفذ الذي في أسفل المعدة. وذلك المنفذ في وسط عرض البدن لزم أن يكون نفوذ هذا المعاء قدام فقرات الصلب ولذلك قالوا إنه يرتبط بها ليبقى وضعه محفوظاً ولا ينحرف بما يحدث له من الرياح ونحوها، وهذا لا يصح فإن هذا الموضع قدام أسفل الحجاب، والحجاب يحول بينه وبين عظام الصلب فلذلك لا يمكن ارتباطه بتلك العظام البتة كما أن هذا المعاء يجب أن يكون مستقيماً ليسهل نفوذ الغذاء إلى تجويفه كذلك المعاء الآخر وهو المسمى بالسرم وهو المتصل بالمخرج الذي هو الدبر يحتاج أيضاً أن يكون مستقيماً ليسهل خروج الثقل منه ولذلك يسمى هذا المعاء المستقيم وإنما يختص بهذا الاسم له مشاركة الأول في ذلك لأن الأول لقصره ليست تلزمه الاستقامة بخلاف هذا المعاء فإن هذا يأخذ في الانحدار من قرب المعدة إلى الدبر منحدراً على فقار الظهر لأنه يمتد من الدبر إلى الموضع المحاذي له من فوق والدبر في وسطه ثخانة البدن فلذلك يكون هذا المعاء ممتداً في وسط عرض البدن فلذلك يكون ممتداً على فقرات الظهر وقد وسع هذا المعاء وطول ليتمكن أن يتسع لقدر كثير من الثقل، وإنما يمكن لأن هذا الثقل قد يجف ولا يسهل خروجه ويحتبس أياماً فيحتاج هذا المعاء أن يكون تجويفه بحيث يتسع لما يجتمع في تلك الأيام من الثقل. وإنما يمكن ذلك بأن يكون هذا المعاء مع كثرة سعته كثير الطول وأما المعاء الذي بعد الإثني عشري فلا يمكن أن ينزل أيضاً مستقيماً فإن الغذاء ينحدر من المعاء الإثني عشري دفعة. وكان هذا الثاني يتعدى إلى الكبد بكثير وينحدر الغذاء منه سريعاً جداً فلا يتمكن الكبد ولا العروق التي حوله والتي في الثرب من أن يمتص منه غذاء كثيراً، ولا كانت قوة الكبد الهاضمة تقوى على هضم الغذاء الذي فيه فلذلك احتيج أن يكون هذا المعاء يأخذ أو لاً إلى جهة اليمين ليصل إلى الكبد ثم ينحرف عنها آخذاً إلى اليسار وإنما كان كذلك لأن ابتداء هذا المعاء هو من آخر المعاء الإثني عشري فلو نفذ على الاستقامة نازلاً لخرج الغذاء منه ومن الإثني عشري دفعة فلم يكن له منفعة ما في هضم الغذاء ولا في أخذ الكبد منها الصفاوة ولو نفذ أو لاً إلى اليسار لبعد أو لاً عن الكبد وقل جداً ما يأخذ الكبد منه من الغذاء فلذلك احتيج أن ينفذ أو لاً إلى اليمين، ولا يكفي وصوله إلى هناك وإلا كان قصيراً جداً فيقل لذلك منفعته، فلذلك جعل له طول يعتد به ونفذ من اليمين إلى اليسار، وتعدى بذلك موضع ابتدائه ليطول، وهو في أخذه إلى اليمين يأخذ مرتفعاً لئلا يخرج الغذاء من الإثني عشري بسرعة لان نفوذ الثفل إلى فوق عسر ثم إذا انعطف إلى اليسار آخذاً إلى أسفل لأنه لا يجد مسافة مستقيمة لأن سلوكه إلى اليسار تحت مسلكه إلى اليمين وهو في سلوكه إلى اليمين يسلك مرتفعاً فلذلك في سلوكه إلى اليسار لا بد وأن ينحدر ويلزم ذلك سرعة انحدار الغذاء من تجويفه فلذلك نفوذ الغذاء إلى هذا المعاء يطول ويعسر ونفوذه عنه يقصر فلذلك يبقى تجويفه خالياً أعني بذلك تجيفه من عند قرب الكبد إلى آخره وذلك عندما يأخذ في الانعطاف ويلزم ذلك أن يخلو آخر تجويفه الآخذ إلى اليمن عند قرب الكبد لأن الغذاء إذا انحدر من ابتداء انعطافه إلى اليسار جذب ما وراءه لئلا يخلو المكان فيلزم ذلك خلو أكثر تجويفه الآخذ إلى جهة الكبد ولذلك يسمى هذا المعاء بالصائم لأنه بحسب وضعه يخلو تجويفه بسرعة كخلو جوف الصائم ومع ذلك فإن المرارة موضوعة بحذائه فلذلك يكثر ما يترشح منها إليه من الصفراء. وذلك بلذعه يسرع خروج ما في تجويفه من الغذاء وكذلك العروق الماصة هي بقربه كثيرة. فكثيراً ما تأخذ منه من الغذاء وذلك موجب لخلوه وكذلك الكبد لقربها منه يكثر ما يمتصه من الغذاء وجميع ذلك موجب لخلو تجويفه لذلك يسمى بالصائم. وإذا كان كذلك فالمعاء الذي بعد هذين لا بد من أن يكون كثير التلافيف لكثير مقام الغذاء فإن بقاءه في هذين المكانين قليل.

أما الأول فلأجل استقامته. وأما الثاني فلما قلناه.

وهذا المعاء الثالث يسمى بالدقيق. ولكن هذه الثلاثة جميعها دقاق لأن ما فيها من الغذاء يكون بعد رقيق القوام سيالاً، ومع ذلك فإن جرمها دقيق وذلك ليسهل ترشيح الغذاء من مسامها ولما اختص الأول منها باسم الاثني عشرى واختص الثاني باسم الصائم بقي هذا الثالث ليس له حالة يستحق لأجلها اسماً خاصاً فخصوه بالاسم العام للثلاثة وهو الدقيق. وهذا المعاء طويل ملتف ليطول بقاء الغذاء فيه ليستوفي منه الكبد ما يحتاج أن يأخذ منه من الغذاء والذي يأخذه من هذه الثلاثة إنما هو الدقيق الجرم. وأما ما لم يتم هضمه ولم تكمل رقة قوامه، فإن أخذ الكبد له كالمتعذر فلذلك احتيج أن يبقى الغذاء في معاء آخر مدة طويلة ليتم انهضام باقي الغذاء فيه فلا يبقى منه ما يتعذر نفوذه إلى الكبد، وإنما يمكن بقاء الغذاء في ذلك المعاء مدة طويلة إذا كان كثير التلافيف جداً كثير الطول أو كان ذا فم واحد ليكون الفم الذي يدخل فيه الغذاء هو الذي يخرج منه ولابد من أن يكون مع ذلك شديد القرب من الكبد حتى يمكن عملها فيه وأخذها الغذاء منه ويلزم ذلك أن يكون هذا المعاء على الوجه الثاني اعلأي يكون ذا فم واحد إذ لو كان على الوجه الأول أعني كثير الطول كثير التلافيف لم يتسع المكان حتى تكون جميع أجزائه بقرب الكبد فلا بد أن يكون على الوجه الثاني وهو أن يكون ذا فم واحد وإنما يمكن ذلك بأن يكون طرفه الأخير وهو الذي في اليمين مسدوداً أعني أنه لا يكون له هناك فم، ويكون طرفه الأخير وهو البعيد عن الكبد متصلاً بما بعده من الأمعاء وتكون المعاء المعروف بالدقيق نافذاً في جرمه عند قرب اتصاله بالمعاء الذي بعده وهذا المعاء يسمى بالأعور وهو متسع كأنه كيس والغرض بذلك أن يكون فيه الغذاء مدة طويلة ليتم انهضامه فيه، ويكثر ما يأخذه الكبد منه وأما المعاء الذي بعده وهو الذي يتصل بفمه فيجب فيه أن لا يكون مستقيماً وذلك لأن الغذاء إذا تم انهضامه في المعاء الأعور فإن الواصل منه إلى الكبد إنما يكون بما هو بقرب ظاهره فقط. وإما أن يكون في عمقه فإنه لا يتمكن من الرشح حتى يأخذه الكبد إلا بأن يصير بقرب الظاهر وذلك إنما يمكن بأن ينفذ في معاء كثير التلافيف طويل حتى يحدث بسبب ذلك الغذاء تغير في أو ضاعه فإذا صار ما كان في عمق المعاء الأعور في قرب ظاهر هذا المعاء الذي بعده يمكن من الترشح حتى يأخذه الكبد بنفسها وبانتشاف العروق التي هناك ثم نقلها إياه إلى الكبد من العرق المسمى بالباب فلذلك المعاء الذي يندفع إليه الغذاء من المعاء الأعور لابد من أن يكون كثير الطول كثير التلافيف فلذلك يستحيل أن يكون هو المعاء المستقيم المسمى بالسرم فلا بد من أن يكون غيره ومن ذلك المعاء يجب أن ينفذ الثفل إلى المعاء المستقيم لأنه يكون حينئذٍ قد يخلص من الغذاء الذي يحتاج إلى نفوذه إلى الكبد وبقي ثفلاً فقط، ومن ذلك المعاء المستقيم يندفع إلى خارج برازاً، وهذه المعاء الذي يندفع إليه الغذاء من المعاء الأعور هو المعاء المسمى بالقولون وسمي بذلك لأن حدوث القولنج في أكثر الأمر يكون فيه وذلك لأن الغذاء يندفع إليه من الأعور. وهو كثير مجتمع قد غلظ جرمه بكثرة ما انفصل من المعاء من المعدة الرقيق الرطب الصافي، وإذا كان هذا المندفع كذلك وجب في كثير من الأحوال أن تحدث شدة لأن الغذاء ينتقل إليه بعد أن كان في وعاء متسع فينتقل من سعة إلى مضيق وذلك محدث للشدة فلذلك الانسداد الحادث في الأمعاء المحدث للقولنج الحقيقي، إنما يحدث في هذا المعاء ولذلك يسمى قولون مشتقاً من اسم القولنج وهذه الثلاثة جرمها غليظ ليكون قوياً فلا تنخرق بقوة تمديد الثفل وحدته وتجويفها كثير السعة خاصة الأعور فإنه كالكيس كثير السعة وبعده في السعة المعاء المستقيم أما زيادة سعته فليتسع ثفلاً كثيراً كما قلناه أو لاً وأما أنه أقل سعة من الأعور فلأن الأعور يحتاج أن يجتمع فيه شيء من مادة الغذاء والثفل لينضج فيه كما قلناه فلذلك اقل هذه منفعة هو المعاء القولون.

هذه الأمعاء الثلاثة الأمعاء الغلاظ، كما تسمى تلك الثلاثة الأولى الأمعاء الدقاق. ولما كانت هذه الغلاظ تحتاج أن يكون جرمها أقوى واصبر على خدش الثفل في داخلها جرم شحمي ليمكنها من ملاقاة الثفل فيقل تضررها به والله ولي التوفيق.

البحث الثالث
المخالفة بين المريء والمعاء الاثني عشري

قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه والمعاء الاثني عشري... إلى قوله: وسعتها سعة فمها المسمى بواباً.

الشرحقوله إن النافذ من المريء لا يتعاطاه من القوى الطبيعية إلا قوة واحدة وإن كانت الإرادية تعينها. نفوذ الغذاء في المريء هو عندنا بقوة إرادية فقط لا بقوة طبيعية لكن هذه الإرادية عندنا منها إرادية مطلقة وهي التي معها شعور بالفعل وبأن ذلك الفعل مراد وهذه هي التي تسمى في المشهور إرادية. ومنها إرادية طبيعية وهي التي الإرادة فيها للقوة الحيوانية التي لنا، وهي إرادية لتلك القوة ولا يلزم ذلك أن تكون إرادية لنا، وكذلك اندفاع الغذاء عن المعدة إلى الاثني عشري هو أيضاً عندنا بهذه الإرادة الطبيعية، وبالقوة الجاذبة التي هي في هذا المعاء. وهي أيضاً إرادة طبيعية فنفوذ الغذاء في هذين العضوين هو في كل واحد منهما بقوتين لكن القوتان اللتان ينفذ بهما الغذاء في المريء من نوعين متقاربين بالجنس، وكلاهما إرادي وهما جاذبتان لكن إحداهما تجذب بالإرادة المطلقة، والأخرى تجذب بالإرادة الطبيعية وأما القوتان اللتان ينفذ بهما الغذاء في المعاء الاثني عشري، فهما أيضاً إراديتان والإرادة فيهما من نوع واحد وهي الإرادة الطبيعية لكنهما مختلفتان بالجنس اختلافاً كبيراً، وذلك لأن إحداهما جاذبة، والأخرى دافعة لأن نفوذ الغذاء في هذا المعاء يتم بجاذبة هذا المعاء، ودافعة المعدة وقد عرفت أنا قد بينا أو لاً أن جميع الأفعال التي تتم بالليف وهي الجذب والدفع والإمساك جميعها عندنا إرادية ولكن من الإرادات الطبيعية.

قوله: إذا كانت المعدة تحتاج إلى جذب لما ينفذ فيه. لكن حاجة المعدة إلى الجذب أكثر لأن المجذوب إليها الغذاء، والغذاء من شأنه أن يجذب إلى الأعضاء، وأما المجذوب إلى الأمعاء فهو أكثر فضل الغذاء والفضلات من شأنها أن تندفع لا أن تجذب فلذلك كان من الغالب على ليف الأمعاء هو الليف العرضي العاصر فإن هذا الليف فعله الدفع.

قوله: وكالطحال يسره أما أن بعض الكبد يحصل في الجانب الأيمن تحت المعدة فذلك ظاهر فإن بعض زوائدها تكون كذلك، وأما الطحال فإنه ليس يكون تحت المعدة بل عن يسارها من أسفل أي من أسفل يسارها لأنه يكون تحتها بجملته. والله ولي التوفيق.

البحث الرابع
تشريح المعاء الصائم والمعاء الدقيق

قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه والجزء من الأمعاء الدقيقة... إلى قوله: كما يخلو عن عروق كبدية تأتيها لمص وجذب.

الشرح زيادة هضم الأمعاء الدقيقة على الأمعاء الغليظة ليست بجواهرها فإن الجوهر الدقيق أقل حصراً للحرارة لكن استيلاء الأجرام الأخرى عليه أكثر لأن الرقيق يتمكن بقوة المجاورة له من النفوذ في جرمه أكثر فإذا كان ذلك العضو المجاور ذا قوة قوية الهضم كما هو المجاور للأمعاء الدقاق جرم الكبد وهي قوية الهضم جداً كان هضم ذلك الرقيق بذلك أكثر فلذلك يكون هضم هذه الأمعاء الدقاق بسبب مجاورتها للكبد أشد من هضم الأمعاء الغلاظ بكثير، وأما الأمعاء الغلاظ فإن قوتها على دفع ما في داخلها وإخراجه أقوى كثيراً من قوة الأمعاء الدقاق وذلك لأن الأمعاء الدقاق في غالب تكون ما في داخلها سيالاً شديد القبول للتحرك والسيلان، فلذلك يكفي في دفعه إلى الأمعاء الأخر أيسر قوة فلذلك لم يحتج أن يخلق قوى هذه الأمعاء قوية الدفع. ولا كذلك الأمعاء الغلاظ فإن ما في داخلها في أكثر الأمر يكون غليظاً عسر الإجابة إلى الاندفاع فلذلك احتيج أن تخلق قواها الدافعة قوية، وأما هضمها بذواتها فقد يكون أقوى بكثير من هضوم الأمعاء الدقاق بذواتها وأما الهضم بسبب مجاورتها الكبد فإنه في الدقاق أقوى لأجل قربها من الكبد مع رقة جرمها. و الله ولي التوفيق.

البحث الخامس
الكلام في بقية الأمعاء وهي الأمعاء الغلاظ

قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه ويتصل بأسفل الدقاق معاء يسمى الأعور... إلى قوله: أكثر من عضل الكبد لحاجتها إلى حس كثير.

الشرح إن هذا المعاء المسمى بالأعور اختص بأمور: أحدها: أنه ذو فم واحد يدخل فيه الغذاء من المعاء المعروف بالدقاق ومن ذلك الفم يخرج منه المعاء المسمى قولون. وثانيها: أن هذا المعاء مع أنه من الغلاظ فإن هضمه أقوى من هضم جميع الأمعاء غليظها ورقيقها، وإنما كان كذلك لأنه مع قربه من الكبد فإن الغذاء فيه ثابت لا يتحرك من موضع إلى غيره، وذلك أقوى الأسباب على قوة الهضم فلذلك في هذا المعاء يتم هضم جميع ما فات المعدة إتمام هضمه فلذلك نسبته إلى الأمعاء الغلاظ الأخر كنسبة المعدة إلى الأمعاء الدقاق.

وثالثها: إنه مع أن الثفل يدوم فيه مدة طويلة فإنه شديد الإعانة على دفعه جملة وذلك لأن الشيء القليل قد يعسر دفعه بطريق العصر بخلاف الكثير المجتمع فإن جرم العصر يتمكن منه أكثر من تمكنه من القليل المتفرق. وباقي ألفاظ الكتاب ظاهرة. والله ولي التوفيق.