الباب الثامن: جبرائيل بن عبيد الله

جبرائيل بن عبيد اللَّه بن بختيشوع، كان فاضلاً عالماً متقناً لصناعة الطب، جيداً في أعمالها، حسن الدراية لها، وله تصانيف جليلة في صناعة الطب، وكانت أجداده في هذه الصناعة كل منهم أوحد زمانه وعلامة وقته، ونقلت من كتاب عبيد اللَّه، ولد هذا المذكور، في أخباره عن أبيه جبرائيل ما هذا مثاله، قال إن جدي عبيد اللَّه بن بختيشوع كان متصرفاً ولما ولي المقتدر رحمه اللّه عليه، الخلافة استكتبه لحضرته وبقي مدة مديدة، ثم توفي، وخلّف والدي جبرائيل وأختاً كانت معه صغيرين، وأنفذ المقتدر ليلة موته ثمانين فرشا حمل الموجود من رحل وأثاث وآنية، وبعد مواراته في القبر اختفت زوجته، وكانت ابنة إنسان عامل من أجلاء العمال يعرف بالحرسون، فقبض على والدها بسببها وطلب منه ودائع بنت بختيشوع، وأخذ منه مالاً كثيراً ومات عقيب مصادرته، فخرجت ابنته ومعها ولدها جبرائيل وأخته وهما صغيران إلى عكبراء مستترين من السلطان، واتفق أنها تزوجت برجل طبيب وصرفت ولدها إلى عم كان له بدقوقاء وأقامت مدة عند ذلك الرجل وماتت، وأخذ ما كان معها جميعه، ودفع ولدها، فدخل جبرائيل إلى بغداد وما معه إلا اليسير النزر، وقصد طبيباً كان يعرف بترمرة، فلازمه وقرأ عليه، وكان من أطباء المقتدر وخواصه، وقرأ على يوسف الواسطي الطبيب، ولازم البيمارستان والعلم والدرس، وكان يأوي إلى أخوال له يسكنون بدار الروم، وكانوا يسيئون عشرتهم عليه، ويلومونه على تعرضه للعلم والصناعة، ويمجنون معه، ويقولون يريد أن يكون مثل جده يختيشوع وجبرائيل وما يرضى أن يكون مثل أخواله، وهو لا يلتفت إلى مثل أقوالهم، واتفق أن جاء رسول من كرمان إلى معز الدولة وحمل له الحمار المخطط، والرجل الذي كان طوله سبعة أشبار، والرجل الذي كان طوله شبرين، واتفق أنه نزل في قصر فرخ من الجانب الشرقي قريباً من الدكان الذي كان يجلس عليه والدي جبرائيل، وصار ذلك الرسول يجلس عنده كثيراً ويحادثه، ويباسطه، فلما كان في بعض الأيام استدعاه وشاوره بالفصد، فأشار به وفصده، وتردد إليه يومين، فأنفذ له على رسم الديلم الصينية التي كانت فيها العصائب، والطشت والإبريق وجميع الآلة، ثم استدعاه وقال له ادخل إلي هؤلاء القوم وانظر ما يصلح لهم، وكان مع الرسول جارية يهواها قد عرض لها نزل الدم ولا بقي بفارس ولا بكرمان ولا بالعراق طبيب مذكور إلا وعالجها ولم ينجح فيها العلاج، فعندما رآها رتب لها تدبيراً وعمل لها معجوناً وسقاها إياه، فما مضى عليها أربعون يوماً حتى برئت وصلح جسمها، وفرح الرسول بذلك فرحاً عظيماً، فلما كان بعد مدة، استدعاه وأعطاه ألف درهم ودراعة سقلاطون وثوباً توثياً، وعمامة قصب؛ وقال له طالبهم بحقك فأعطته الجارية ألف درهم وقطعتين من كل نوع من الثياب، وحمل على بغله بمركب واتّبع ذلك بمملوك زنجي، فخرج وهو أحسن حالاً من أحد أخواله، فلما رأوه وثبوا له وتلقوه لقياً جميلاً فقال لهم للثياب تكرمون لا لي، فلما مضي الرسول انتشر ذكره بفارس وبكرمان بما عمل، وكان ذلك سبب خروجه من شيراز. فلما دخل رفع خبره إلى عضد الدولة، وكان أول تبوئه ولايته شيراز، واستدعى به فحضر، وأحضر معه رسالة في عصب العين تكلم فيها بكلام حسن، فحسن موقعه عنده، وقرر له جار وجراية كالباقين، ثم إنه عرض لكوكين، زوج خالة عضد الدولة، وهو والي كورة جورقب، مرض واستدعى طبيباً فأنفذه عضد الدولة، فلما وصل أكرم موضعه وأجله إجلالاً عظيماً، وكان به وجع المفاصل والنقرس وضعف الأحشاء، فركب له جوارشن تفاحي وذلك في سنة سبع وخمسين وثلاثمائة للهجرة، فانتفع به منفعة بينة عظيمة فأجزل له عطاءه وأكرمه ورده إلى شيراز مكرماً، ثم إن عضد الدولة دخل إلى بغداد وهو معه من خاصته، وجدد البيمارستان وصار يأخذ رزقين وهما برسم خاص ثلاثمائة درهم شجاعية؛ وبرسم البيمارستان ثلاثمائة درهم شجاعية؛ سوى الجراية، وكانت نوبته في الأسبوع يومين وليلتين، واتفق أن الصاحب بن عباد، رحمه اللَّه تعالى، عرض له مرض صعب في معدته فكاتب عضد الدولة يلتمس طبيباً، وكان عمله وفعله مشهوراً، فأمر عضد الدولة بجمع الأطباء البغداديين وغيرهم وشاورهم فيمن يصلح أن ينفذ إليه، فلما جمعهم واستشارهم، فأشار جميع الأطباء، على سبيل الإبعاد له من بينهم وحسداً على تقدمه، ما يصلح أن يلقى مثل هذا الرجل إلا أبو عيسى جبرائيل، لأنه متكلم جيد الحجة، عالم باللغة الفارسية، فوقع ذلك بوفاق عضد الدولة، فأطلق له مالاً يصلح به أمره وحمل إليه مركوب جميل وبغال للحمل وسيَّره، فلما وصل الري تلقاه الصاحب لقاء جميلاً وأنزله في دار مزاحة العلل بفراش وطباخ وخازن ووكيل وبواب وغيره، ولما أقام عنده أسبوعاً استدعاه يوماً وقد أعد عنده أهل العلم من أصناف العلوم، ورتب لمناظرته إنساناً، من أهل الري وقد قرأ طرفاً من الطب، فسأله عن أشياء من أمر النبض، فعلم هو ما الغرض في ذلك، فبدأ وشرح أكثر مما تحتمله المسألة، وعلل تعليلات لم يكن في الجماعة من سمع بها، وأورد شكوكاً ملاحاً وحلها، فلم يكن في الحضور إلا من أكرمه وعظمه، خلع عليه الصاحب خلعاً حسنة، وسأله أن يعمل له كناشاً يختص بذكر الأمراض التي تعرض من الرأس إلى القدم ولا يخلط بها غيرها، فعمل كناشه الصغير وهو مقصور على ذكر الأمراض العارضة من الرأس إلى القدم حسبما أمر الصاحب به، وحمله إليه، فحسن موقعه عنده ووصله بشيء قيمته ألف دينار، وكان دائماً يقول صنفت مائتي ورقة أخذت عنها ألف دينار، ورفع خبره إلى عضد الدولة فأعجب به وزاد موضعه عنده. فلما عاد من الري دخل إلى بغداد بزي جميل وأمر مطاع وغلمان وحشم وخدم، وصادف من عضد الدولة ما يسره ويختاره، قال وحدثني من أثق إليه أنه دخل الأطباء ليهنئوه بوروده وسلامته، فقال أبو الحسين بن كشكرايا، تلميذ سنان يا أبا عيسى، زرعنا وأكلت، وأردناك تبعد فازددت قرباً، لأنه كان كما تقدم ذكره، فضحك جبرائيل من قوله وقال له ليس الأمور إلينا بل لها مدبر وصاحب، وأقام ببغداد مدة ثلاث سنين، واعتل خسروشاه بن مبادر ملك الديلم وآلت حاله إلى المراقبة، ونحل جسمه، وقوي استشعاره، وكان عنده اثنا عشر طبيباً من الري وغيرها، وكلما عالجوه ازداد مرضه، فأنفذ إلى الصاحب يلتمس منه طبيباً، فقال ما أعرف من يصلح لهذا الأمر إلا أبو عيسى جبرائيل، فسأله مكاتبته لما بينهما من الأنس، وكاتب عضد الدولة يسأل إنفاذه ويعلمه أن حاله قد آلت إلى أمر لا يحتمل الونية في ذلك، فأنفذه مكرماً، فلما وصل إلى الديلمي قال له ما أعالجك أو ينصرف من حولك من أطباء، فصرف الأطباء مكرمين، وأقام عنده وسأله أن يعمل في صورة المرض مقالة يقف على حقيقته، وتدبير يختاره ويعول عليه، فعمل له مقالة ترجمها في ألم الدماغ بمشاركة فم المعدة والحجاب الفاصل بين آلات الغذاء وآلات التنفس المسمى ذيا فرغما، ولما اجتاز بالصاحب سأله عن أفضل استقساط البدن فقال هو الدم فسأله أن يعمل له في ذلك كتاباً يبرهن عليه فيه، فعمل في ذلك مقالة مليحة بين فيها البراهين التي تدل على هذا، وكان في هذه المدة مستعجلاً لعمل كناشه الكبير، ولما عاد إلى بغداد وكان عضد الدولة قد مات، فأقام ببغداد سنين مشتغلاً بالتصنيف فتمم كناشه الكبير وسماه بالكافي بلقب الصاحب بن عباد لمحبته له، ووقف منه نسخة على دار العلم ببغداد، وعمل كتاب المطابقة بين قول الأنبياء والفلاسفة، وهو كتاب لم يعمل في الشرع مثله لكثرة احتوائه على الأقاويل، وذكر المواضع التي استخرجت منها؛ وأكثر فيهمن أقوال الفلاسفة في كل معنى لغموضها وقلة وجودها؛ وقلل من الأقاويل الشرعية لظهورها وكثرة وجودها؛ وفي هذه المدة عمل مقالة في الرد على اليهود جمع فيها أشياء منها جواز النسخ من أقوال الأنبياء؛ ومنها شهادات على صحة مجيء المسيح وأنه قد كان، وأبطل انتظارهم له؛ ومنها صحة القربان بالخبز والخمر وعمل مقالات أخر كثيرة صغاراً منها، لم جعل من الخمر قربان وأصله محرم؟  وأبان علل التحليل والتحريم، وعرض له أن سافر إلى بيت المقدس، وصام به يوماً واحداً وعاد منه إلى دمشق واتصل خبره بالعزيز، رحمه اللّه، وكوتب من الحضرة بكتاب جميل، فاحتج أن له ببغداد أشياء يمضي وينجزها ويعود إلى الحضرة قاصداً ليفوز بحق القصد فحين عاد إلى بغداد أقام بها وعدل عن المضي إلى مصر، ثم إن ملك الديلم أنفذ خلفه واستدعاه، فعند حصوله بالري وقف بها نسخة من كناشه الكبير، قال وبلغني أن البيمارستان يعمل بها وأنه يعرف به بين أطبائهم إذا ذكر أبو عيسى صاحب الكناش، وأقام عند ملك الديلم مدة ثلاث سنين، وخرج من عنده على سبيل الغضب، وكان قد حلف له بالطلاق أنه متى اختار الانصراف لا يمنعه فلم يمكنه رده، وجاء إلى بغداد وأقام بها مدة، ثم إنه استدعي إلى الموصل إلى حسام الدولة فعالجه من مرض كان به، وجرى له معه شيء استعظمه، وكان أبداً يعيده عنه، وذلك أنه كانت له امرأة عليلة بمرض حاد، فأشار بحفظ القارورة، واتفق أنه عند حسام الدولة وقال له هذه الامرأة تموت، فانزعج لذلك، ونظرت الجارية إلى انزعاجه وصرخت وخرقت ثيابها وولت فاستدعاها في الحال وقال لها جرى في أمر هذه الامرأة شيء لا أعلمه؟ فحلفت أنها لم تجاوز التدبير، فقال لعلكم خضبتموها بالحناء، قالت قد كان ذلك، فحرد وقال للجارية أقوالا، ثم قال لحسام الدولة أبشر بعد ثلاثة أيام تبرأ، فكان كما قال فعظم هذا عنده وكان أبداً يعيده ويتعجب منه، ولما عاد إلى بغداد كان العميد لا يفارقه ويلازمه ويبايته في دار الوزارة لأجل المرض الذي كان به، وحظي لديه، ثم إن الأمير ممهد الدولة أنفذ إليه ولاطفه حتى أصعد إلى ميافارقين، فلما وصل إليه أكرمه الإكرام المشهور عند كل من كان يراه، ومن لطيف ما جرى له معه أنه أول سنة ورد فيها سقى الأمير دواء مسهلاً وقال له يجب أن تأخذ الدواء سحَراً، فعمد الأمير وأخذه أول الليل، فلما أصبح ركب إلى داره، ووصل إليه، وأخذ نبضه، وسأله عن الدواء، فقال له ما عمل معي شيئاً امتحاناً له، فقال جبرائيل النبض يدل على نفاذ دواء الأمير وهو أصدق، فضحك، ثم قال له كم ظنك بالدواء؟ فقال يعمل مع الأمير خمسة وعشرين مجلساً، ومع غيره زائداً وناقصاً، فقال له، عمل معي إلى الآن ثلاثة وعشرين مجلساً، فقال وهو يعمل تمام ما قلت لك، ورتب ما يستعمله وخرج من عنده مغضباً وأمر أن يشد رحله، ويصلح أسباب الانصراف، فبلغ ممهد الدولة ذلك، وأنفذ إليه يستعلم خبر انصرافه، فقال مثلي لا يجرب، لأنني أشهر من أن أحتاج إلى تجربة، فأرضاه وحمل إليه بغلة ودراهم لها قدر.

وفي هذه المدة كاتبه ملك الديلم بكتب جميلة يسأله فيها الزيارة، وكاتب ممهد الدولة يسأله في ذلك، فمنع من المضي وأقام في الخدمة ثلاث سنين، وتوفي يوم الجمعة ثامن شهر رجب من شهور سنة ست وتسعين وثلاثمائة للهجرة، وكان عمره خمساً وثمانين سنة، ودفن بالمصلى بظاهر ميافارقين، ولجبرائيل بن عبيد اللَّه بن بختيشوع من الكتب كناشه الكبير، الملقب بالكافي، خمس مجلدات ألفه للصاحب بن عباد، رسالة في عصب العين، مقالة في ألم الدماغ بمشاركة فم المعدة والحجاب الفاصل بين آلات الغذاء وآلات التنفس المسمى ذيافرغما، ألفها لخسروشاه بن مبادر ملك الديلم، مقالة في أن أفضل استقسات البدن هو الدم، ألفها للصاحب بن عباد، كتاب المطابقة بين قول الأنبياء والفلاسفة، مقالة في الرد على اليهود، مقالة في أنه لم جعل من الخمر قربان وأصله محرم .