الباب الثامن: عيسى المعروف بأبي قريش

قال إسحاق بن علي الرهاوي في كتاب أدب الطبيب عن عيسى بن ماسة قال أخبرني يوحنا بن ماسويه أن أبا قريش كان صيدلانياً يجلس على موضع نحو باب قصر الخليفة، وكان ديناً صالحاً في نفسه، وأن الخيزران جارية المهدي وجهت بمائها مع جارية لها إلى الطبيب، فخرجت الجارية من القصر فأرت أبا قريش الماء فقال لها هذا ماء امرأة حبلى بغلام، فرجعت الجارية بالبشارة، فقالت لها ارجعي إليه واستقصي المسألة عليه، فرجعت فقالت لها ما قلت لك حق، ولكن لي عليك البشرى، فقالت كم تريدين البشرى؟ قال جامة فالوذج وخلعة سنية فقالت لها إن كان هذا حقاً فقد سقت إلى نفسك خير الدنيا ونعيمها، وانصرفت، فلما كان بعد أربعين يوماً أحست الخيزران بالحمل فوجهت ببدرة دراهم وكتمت الخبر عن المهدي، فلما مضت الأيام ولدت موسى أخا هارون الرشيد، فعند ذلك أعلمت المهدي وقالت له إن طبيباً على الباب أخبر بهذا منذ تسعة أشهر، وبلغ الخبر جورجس بن جبرائيل فقال كذب ومخرقة، فغضبت له الخيزران وأمرت فاتخذ بين يديها مائة خوان فالوذج، ووجهت بذلك إليه مع مائة ثوب، وفرس بسرجه ولجامه، وما مضى بعد ذلك إلا قليل حتى حبلت بأخيه هارون الرشيد، فقال جورجس للمهدي جرب أنت هذا الطبيب فوجه إليه بالماء فلما نظر إليه قال هذا ماء ابنتي أم موسى وهي حبلى بغلام آخر، فرجعت الرسالة بذلك إلى المهدي وأثبت اليوم عنده، فلما مضت الأيام ولدت هارون، فوجه المهدي إلى أبي قريش فأحضره وأقيم بين يديه، فلم يزل يطرح عليه الخلع وبدر الدنانير والدراهم حتى علت رأسه، وسير هارون وموسى في حجره، وكناه أبا قريش أي أبا العرب، وقال لجورجس هذا شيء أنا بنفسي جربته، فصار أبو قريش نظير جرجس بن جبرائيل بل أكبر منه، حتى تقدمه في المرتبة، وتوفي المهدي واستخلف هارون الرشيد، وتوفي جرجس وسار ابنه تبع أبي قريش في خدمة الرشيد، ومات أبو قريش وخلف اثنين وعشرين ألف دينار مع نعمة سنية، وقال يوسف بن إبراهيم حدثني العباس بن علي بن المهدي أن الرشيد اتخذ مسجداً جامعاً في بستان موسى الهادي، وأمر إخوته وأهل بيته بحضوره في كل يوم جمعة لتولى الصلاة بهم فيه، قال فحضر والدي علي بن المهدي ذلك المسجد في يوم حار، وصلى فيه وانصرف إلى داره بسوق يحيى، فكسبه حر ذلك اليوم صداعاً كاد يذهب ببصره، فأحضر له جميع متطببي مدينة السلام وكان آخر من أحضر منهم عيسى أبو قريش، فوافاهم قد اجتمعوا للمناظرة، فقال ليس يتفق للجماعة رأي حتى يذهب بصر هذا، ثم دعا بدهن بنفسج وماء ورد وخل خمر وثلج، فجعل في مضربة من ذلك الدهن بقدر وزن درهمين، وصب عليه شيئاً من الخل وشيئاً من الماء، وفت فيه شيئاً من الثلج وحرك المضربة حتى اختلط جميع ما فيها. ثم أمر بتصبير راحه منه وسط رأسه والصبر عليه حتى ينشفه الرأس، ثم زيادة راحة أخرى، فلم يزل يفعل ذلك ثلاث مرات أو أربع حتى سكن عنه الصداع وعوفي من العلة، قال يوسف وحدثتني شكلة أم إبراهيم بن المهدي أن المهدي هتف بها وهي معه في مضربه بالربدة من طريق مكة بلسان متغير أنكرته فصارت إليه وهو مستلق على القفا، فأمرها بالجلوس، فلما جلست وثب فعانقها معانقة الإنسان لمن يسلم عليه، ثم عبرها إلى صدره وزال عنه عقله، فجهد جميع من حضرها بأن يخلص يديه من عنقها فما وصلوا إلى ذلك، وحضر المتطببون فأجمعوا على أن الذي به فالج، فقال عيسى أبو قريش المهدي ابن المنصور بن محمد بن علي بن العباس يضربه فالج؟ لا واللَّه لا يضرب أحداً من هؤلاء ولا نسلهم فالج أبداً إلا أن يبذروا بذورهم في الروميات والصقلبيات وما أشبههن فيعرض الفالج لمن ولده الروميات وأشباههن من نسلهم، ثم دعا بالحجام فحجمه، فواللَّه ما أن خرج من دمه إلا محجمة واحدة حتى رد إليه يديه، ثم تكلم من المحْجَمةِ الثانية، ثم ثاب إليه عقله قبل فراغ الحجام من حجامته، ثم طعم بعد ذلك ودعا بأم أسماء بنت المهدي فواقعها فأحبلها بأسماء، قال يوسف ولما اشتدت بإبراهيم بن المهدي علته التي توفي فيها، استرخى لحيه، وغلظ لسانه في فيه فصعب عليه الكلام، وكان إذا تكلم توهمه سامعه مفلوجاً، فدعاني وقت صلاة العصر من يوم الثلاثاء لست خلون من شهر رمضان سنة أربع وعشرين ومائتين فقال لي أما تعجب من عرض هذه العلة التي لم تعرض لأحد من ولد أبي غير إسماعيل ابن موسى أمير المؤمنين ومحمد بن صالح المسكين، وإنما عرضت لمحمد لأن أمه كانت رومية، وأم أبيه كانت كذلك، وكانت أم إسماعيل رومية، وأنا فلم تلدني رومية، فما العلة عندك في عرض هذه العلة لي؟ فعلمت أنه كان حفظ عن أمه قول عيسى أبي قريش في المهدي وولده أنه لا يعرف لعقبه الفالج إلا أن يبذروا بذورهم في الروميات، وأنه قد أمل أن يكون الذي به فالجاً لا عارض الموت، فقلت لا أعرف لإنكارك هذه العلة معنى، إذ كانت أمك التي قامت عنك دنباونديَّة ودنباوند أشد برداً من كل أرض الروم، فكأنه تفرج إلى قولي وصدقني وأظهر السرور بما سمع مني، ثم توفي في وقت طلوع الفجر من يوم الجمعة لتسع خلون من شهر رمضان. قال يوسف حدثني إبراهيم بن المهدي أن لحم عيسى بن جعفر بن المنصور كثر عليه حتى كاد أن يأتي على نفسه، وأن الرشيد اغتم لذلك غماً شديداً أضر به في بدنه ومنعه لذة المطعم والمشرب، وأمر جميع المتطببين بمعالجته، فكلهم دفع أن يكون عنده في ذلك حيلة، فزادوا الرشيد غماً إلى ما كان عليه منه، وإن عيسى المعروف بأبي قريش صار إلى الرشيد سراً فقال له يا أمير المؤمنين، إن أخاك عيسى بن جعفر رزق معدة صحيحة وبدناً قابلاً للغذاء أحسن قبول، وجميع الأمور جارية له بما يحب، فليس يتمنى شيئاً إلاّ تَمَّ له على أكثر مما يحبه، وقد وقي موت أحبته، ودخول النقص في ماله، والظلم من ناحية سلطانه، والاستقصاء عليه، والأبدان متى لم تختلط على أصحابها طبائعهم وأحوالهم فتنالهم العلل في بعض الأوقات، والصحة في بعضها والغموم في بعضها، والسرور في بعضها ورؤية المكاره في بعضها والمحاب في بعضها، وتدخلها الروعة أحياناً، والفرح أحياناً، لم يؤمن على صاحبها التلف، لأن لحمه يزداد حتى تضعف عن حمله العظام، وحتى يغمر فعل النَّفَس، وتبطل قوى الدماغ والكبد، ومتى كان هذا عدمت الحياة، وأخوك هذا إن لمن تظهر موجدة عليه أو تغير له أو تقصده بما ينكي قلبه من حيازة مال أو أخذ عزيز عليه من حرمه، لم آمن عليه تزايد هذا الشحم حتى يتأتى على نفسه، فإن أحببت حياته فافعل ذلك به وإلا فلا أخ لك، فقال الرشيد أنا أعلم أن الذي ذكرت على ما قلت، غير أنه لا حيلة عندي في التغير له أو غمه بشيء من الأشياء، فإن تكن عندك حيلة في أمره فاحتل بها، فإني أكافئك عنه متى رأيت لحمه قد انحط بعشرة آلاف دينار، وآخذ لك منه مثلها، فقال عيسى عندي حيلة إلا أني أتخوف أن يعجل علي عيسى بالقتل فتتلف نفسي، فليوجه معي أمير المؤمنين خادماً جليلاً من خدمه، ومعه جماعة يمنعونه مني إن أمر بقتلي، ففعل ذلك به وسار إليه، فجسه وأعلمه أنه يضطر إلى مجسة عرقه ثلاثة أيام قبل أن يذكر له شيئاً من العلاج، فأمره عيسى بالانصراف والعود إليه، ففعل ذلك وعاد في اليوم الثاني والثالث، فلما فرغ من مجسة عرقه قال له إن الوصية مباركة، وهي غير مقدمة ولا مؤخرة، وأنا أرى للأمير أن يعهد فإن لم يحدث حادث قبل أربعين يوماً عالجته في ذلك بعلاج لا يمضي به إلا ثلاثة أيام حتى يخرج من علته هذه، ويعود بدنه إلى أحسن مما كان عليه، ونهض من مجلسه وقد أسكن قلب عيسى من الخوف ما امتنع له من أكثر الغذاء، ومنعه من النوم فلم يبلغ أربعين يوماً حتى انحط من منطقته خمس بشيزجات. واستتر عيسى أبو قريش في تلك الأيام عن الرشيد خوفاً من إعلام الرشيد عيسى بن جعفر تدبير عيسى المتطبب لإسكان الغم قلبه، فيفسد عليه تدبيره، فلما كان ليلة يوم الأربعين سار إلى الرشيد وأعلمه أنه لا يشك في نقصان بدن عيسى، وسأله إحضاره مجلسه أو الركوب إليه، فركب إليه الرشيد، فدخل عليه ومعه عيسى، فقال له عيسى أطلق لي يا أمير المؤمنين قتل هذا الكافر فقد قتلني، وأحضر منطقته فشدها في وسطه وقال يا أمير المؤمنين نقص هذا العدو، واللّه، من بدني بما أدخل علي من الروع خمس بشيزجات، فسجد الرشيد شكراً للّه، وقال له يا أخي مَتَعْتُ بك بأبي عيسى - وكان الرشيد كثيراً ما يقول له بأبي عيسى - ردت إليك بعد اللّه الحياة، ونعم الحيلة احتال لك، وقد أمرت له بعشرة آلاف دينار فأوصل إليه مثلها، ففعل ذلك له وانصرف المتطبب إلى منزله بالمال، ولم يرجع إلى عيسى ابن جعفر ذلك الشحم إلى أن فارق الدنيا، قال يوسف وحدثني إبراهيم بن المهدي أنه اعتل بالرقة مع الرشيد علة صعبة، فأمر الرشيد بحدره إلى والدته بمدينة السلام، فكان بختيشوع جد بختيشوع الذي كان في دهرنا هذا لا يزايله ويتولى علاجه، ثم قدم الرشيد مدينة السلام ومعه عيسى أبو قريش، فذكر أن أبا قريش أتاه عائداً، فرأى العلة قد أذهبت لحمه وأذابت شحمه وأسارته إلى اليأس من نفسه، وكان أعظم ما عليه في علته شدة الحمة، قال أبو إسحاق، فقال لي عيسى وحق المهدي لأعالجنك غداً علاجاً يكون به برؤك قبل خروجي من عندك، ثم دعا القهرمان بعد خروجه فقال له لا تدع بمدينة السلام أسمن من ثلاثة فراريج كسكرية تذبحها الساعة، وتعلقها في ريشها حتى آمرك فيها بأمري غداة غد، ثم بكر إلي ومعه ثلاث بطيخات رمشية قد بردها في الثلج ليلته كلها فلما دخل علي دعا بسكين فقطع لي من إحداهن قطعة ثم قال لي كل هذه القطعة، فأعلمته أن بختيشوع كان يحميني من رائحة البطيخ، فقال لي لذلك طالت علتك، فكل فإنه لا بأس عليك، فأكلت القطعة التذاذاً مني لها ثم أمرني بالأكل، فلم أزل آكل حتى استوفيت بطيختين، ثم انتهت نفسي فقطع من الثالثة قطعة وقال جميع ما أكلت للذة فكل هذه القطعة للعلاج، فأكلتها بتكره، ثم قطع قطعة أخرى وأوما إلى الغلمان بإحضار الطشت وقال لي كل هذه القطعة أيضاً، فما أكلت ثلثها حتى جاشت نفسي وذرعني القيء فتقيأت أربعة أضعاف ما أكلت من البطيخ، وكل ذلك مرة صفراء، ثم أغمي علي بعد ذلك القيء وغلب علي العرق والنوم إلى بعد صلاة الظهر، فانتبهت وما أعقل جوعاً، وقد كانت شهوة الطعام ممتنعة مني، فدعوت بشيء آكله، فأحضرني الفراريج الثلاثة، وقد طبخ لي منها سكباج وأجادها طهاتها فأكلت منها حتى تضلعت، ونمت بعد أكلي إلى آخر أوقات العصر، ثم قمت وما أجد من العلة قليلاً ولا كثيراً. واتصل بي البرء فما عادت إلي تلك العلة منذ ذلك اليوم، اللجلاج قال يوسف بن إبراهيم حدثني إسماعيل بن أبي سهل بن نوبخت أن أباه أبا سهل، حدثه أن المنصور لما حج حجته التي توفي فيها، ورافق ابن اللجلاج متطبب المنصور، فكانا متى نام المنصور تنادما إلى أن سأل ابن اللجلاج، وقد عمل فيه النبيذ، أبا سهل عما بقي من عمر المنصور، قال إسماعيل فأعظم ذلك والدي وقطع النبيذ وجعل على نفسه أن لا ينادمه، وهجره ثلاثة أيام، ثم اصطلحا بعد ذلك، فلما جلسا على نبيذهما، قال ابن اللجلاج لأبي سهل سألتك عن علمك ببعض الأمور فبخلت به وهجرتني، ولست أبخل عليك بعلمي فاسمعه ثم قال إن المنصور رجل محرور تزداد يبوسة بدنه كلما أسن، وقد حلق رأسه بالحيرة وجعل مكان الشعر الذي حلقه غالية وهو في هذا الحجاز يداوم الغالية، وما يقبل قولي في تركها، ولا أحسبه يبلغ إلى قيد حتى يحدث في دماغه من اليبس ما لا يكون عندي ولا عند أحد من المتطببين حيلة في ترطيبه، فليس يبلغ قيد، إن بلغها، إلا مريضاً؛ ولا يبلغ مكة، إن بلغها، وبه حياة، قال إسماعيل، قال لي والدي فواللّه ما بلغ المنصور قيد إلا وهو عليل؛ وما وافى مكة إلا وهو ميت، فدفن ببئر ميمون، قال يوسف فحدثت إبراهيم بن المهدي بهذا الحديث فاستحسنه، وسألني عن اسم أبي سهل بن نوبخت فأعلمته بأني لا أعرفه، فقال إن الخبر في اسمه أطرف من حديثك الذي حدثتني عن ابنه، فاحفظ عني، ثم قال لي حدثني أبو سهل بن نوبخت أنه لما ضعف عن خدمة المنصور أمره المنصور بإحضار ولده ليقوم مقامه قال أبو سهل فأدخلت على المنصور فلما مثلت بين يديه قال لي تسم لأمير المؤمنين؟ فقلت خرخشا ذماه طيماذاه ماذرياد خسرو بهمشاذ، فقال لي كل ما ذكرت اسمك؟ قلت نعم، فتبسم ثم قال لي ما صنع أبوك شيئاً فاختر مني خلة من خلتين، قلت وما هما؟ قال إما أن أقتصر بك من كل ما ذكرت على طيماذ، وإما أن أجعل لك كنية تقوم مقام الاسم وهي أبو سهل قال أبو سهل قد رضيت بالكنية، فثبت كنيته وبطل اسمه، فحدث بهذا الحديث إسماعيل بن أبي سهل فقال صدق أبو إسحاق، كذا حدثني والدي.