سبب قتله فلما ملك ابنه حسان بن تبان أسعد أبي كرب سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض الأعاجم ، حتى إذا كانوا ببعض أرض العراق - قال ابن هشام :بالبحرين فيما ذكر لي بعض أهل العلم - كرهت حمير وقبائل اليمن المسير معه ، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهلهم، فكلموا أخا له يقال له عمرو ، وكان معه في جيشه ، فقالوا له: اقتل أخاك حسان ونملكك علينا ، وترجع بنا إلى بلادنا ، فأجابهم . فاجتمعوا على ذلك إلا ذا رعين الحميري ، فإنه نهاه عن ذلك فلم يقبل منه، فقال ذو رعين :
ألا من يشتري سهرا بنوم |
|
سعيد من يبيت قرير عـين |
فإما حمير غدرت وخانت |
|
فمعذرة الإله لـذي رعـين |
ثم كتبهما في رقعة ، وختم عليها ، ثم أتى بها عَمْرا ، فقال له : ضع لي هذا الكتاب عندك ، ففعل ، ثم قتل عمرو أخاه حسان ، ورجع بمن معه إلى اليمن ؛ فقال رجل من حمير :
لاه عينا الذي رأى مثل حسا |
|
ن قتيلا في سالف الأحقـاب |
قتلته مقأول خشية الحبـس |
|
غداة قالوا : لـبـاب لـبـاب |
ميتكم خـيرنـا وحـيكـم |
|
رب علينا وكلكـم أربـابـي |
قال ابن إسحاق : فلما نزل عمرو بن تبان اليمن منع منه النوم ، وسلط عليه السهر ، فلما جهده ذلك سأل الأطباء والحزاة من الكهان والعرافين عما به ؛ فقال له قائل منهم : إنه والله ما قتل رجل قط أخاه ، أو ذا رَحمه بغيا على مثل ما قتلت أخاك عليه ، إلا ذهب نومه ، وسلط عليه السهر. فلما قيل له ذلك جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه حسان من أشراف اليمن ، حتى خلص إلى ذي رعين ، فقال له ذو رعين : إن لي عندك براءة؛ فقال : وما هي ؟ قال : الكتاب الذي دفعت إليك ؛ فأخرجه فإذا البيتان ، فتركه ورأى أنه قد نصحه . وهلك عمرو ، فمرج أمر حمير عند ذلك وتفرقوا .
فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة ، يقال له لخنيعة ينوف ذو شناتر ، فقتل خيارهم، وعبث ببيوت أهل المملكة منهم ؛ فقال قائل من حمير للخنيعة :
تقتل أبناها وتنفي سراتـهـا |
|
وتبني بأيديها لها الذل حـمـير |
تدمر دنياها بطيش حلومهـا |
|
وما ضيعت من دينها فهو أكثـر |
كذاك القرون قبل ذاك بظلمها |
|
وإسرافها تأتي الشرور فتخسـر |
فسوق لخنيعة وكان لخنيعة امرأ فاسقا يعمل عمل قوم لوط ، فكان يرسل إلى الغلام من أبناء الملوك ، فيقع عليه في مشربة له قد صنعها لذلك ، لئلا يملك بعد ذلك ، ثم يطلع من مشربته تلك إلى حرسه ومن حضر من جنده ، قد أخذ مسواكا فجعله في فيه ، أي ليعلمهم أنه قد فرغ منه . حتى بعث إلى زرعة ذي نواس بن تبان أسعد أخي حسان ، وكان صبيا صغيرا حين قتل حسان ، ثم شب غلاما جميلا وسيما ، ذا هيئة وعقل ؛ فلما أتاه رسوله عرف ما يريد منه ، فأخذ سكينا حديدا لطيفا ، فخبأه بين قدمه ونعله ، ثم أتاه ؛ فلما خلا معه وثب إليه ، فواثبه ذو نواس فوجأه حتى قتله ، ثم حز رأسه ، فوضعه في الكوة التي كان يشرف منها ، ووضع مسواكه في فيه ، ثم خرج على الناس ، فقالوا له : ذا نواس ، أرطب أم يباس ، فقال : سل نخماس استرطبان ذو نواس . استرطبان لا باس - قال ابن هشام :هذا كلام حمير . ونخماس : الرأس - فنظروا إلى الكوة فإذا رأس لخنيعة مقطوع ، فخرجوا في إثر ذي نواس حتى أدركوه ، فقالوا : ما ينبغي أن يملكنا غيرك : إذ أرحتنا من هذا الخبيث .
فملكوه ، واجتمعت عليه حمير وقبائل اليمن ، فكان آخر ملوك حمير ، وهو صاحب الأخدود ، وتسمى يوسف ، فأقام في ملكه زمانا .
وبنجران بقايا من أهل دين عيسى بن مريم عليه السلام على الإنجيل ، أهل فضل ، واستقامة من أهل دينهم ، لهم رأس يقال له عبدالله بن الثامر ، وكان موقع أصل ذلك الدين بنجران ، وهي بأوسط أرض العرب في ذلك الزمان ، وأهلها وسائر العرب كلها أهل أوثان يعبدونها ، وذلك أن رجلا من بقايا أهل ذلك الدين يقال له فيميون - وقع بين أظهرهم، فحملهم عليه ، فدانوا به .
فيميون و صالح و نشر النصرانية بنجران قال ابن إسحاق : حدثني المغيرة بن أبي لبيد مولى الأخنس عن وهب بن منبه اليماني أنه حدثهم : أن موقع ذلك الدين بنجران كان أن رجلا من بقايا أهل دين عيسى بن مريم يقال له فيميون ، وكان رجلا صالحا مجتهدا زاهدا في الدنيا ، مجاب الدعوة وكان سائحا ينزل بين القرى ، لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى قرية لا يعرف بها ، وكان لا يأكل إلا من كسب يديه ، وكان بناء يعمل الطين وكان يعظم الأحد ، فإذا كان يوم الأحد لم يعمل فيه شيئا ، وخرج إلى فلاة من الأرض يصلي بها حتى يمسي .قال : وكان في قرية من قرى الشام يعمل عمله ذلك مستخفيا ، ففطن لشأنه رجل من أهلها يقال له صالح ، فأحبه صالح حبا لم يحبه شيئا كان قبله ، فكان يتبعه حيث ذهب ، ولا يفطن له فيميون : حتى خرج مرة في يوم الأحد إلى فلاة من الأرض ، كما كان يصنع ، وقد اتبعه صالح ، وفيميون لا يدري ، فجلس صالح منه منظر العين مستخفيا منه ، لا يحب أن يعلم بمكانه ، وقام فيميون يصلى ، فبينما هو يصلي إذ أقبل نحوه التنين - الحية ذات الرءوس السبعة - فلما رآها فيميون دعا عليها فماتت ، ورآها صالح ولم يدر ما أصابها ، فخافها عليه ، فَعِيلَ عَوْلُهُ ، فصرخ يا فيميون ، التنين قد أقبل نحوك ؛ فلم يلتفت إليه ، وأقبل على صلاته حتى فرغ منها ، وأمسى فانصرف . وعَرف أنه قد عُرف ، وعرف صالح أنه قد رأى مكانه ؛ فقال له : يا فيميون : تعلم والله أني ما أحببت شيئا قط حبك ، وقد أردت صحبتك ، والكينونة معك حيث كنت ، فقال : ما شئت ، أمرى كما ترى ، فإن علمت أنك تقوى عليه فنعم، فلزمه صالح . وقد كاد أهل القرية يفطنون لشأنه ، وكان إذا فاجأه العبد به الضر دعا له فشفي ، وإذا دعي إلى أحد به ضر لم يأته ؛ وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير ، فسأل عن شأن فيميون فقيل له : إنه لا يأتي أحدا دعاه ، ولكنه رجل يعمل للناس البنيان بالأجر . فعمد الرجل إلى ابنه ذلك فوضعه في حجرته وألقى عليه ثوبا ، ثم جاءه فقال له : يا فيميون ، إني قد أردت أن أعمل في بيتي عملا ، فانطلق معي إليه حتى تنظر إليه ، فأشارطك عليه . فانطلق معه ، حتى دخل حجرته ، ثم قال له : ما تريد أن تعمل في بيتك هذا ؟ قال : كذا وكذا ؛ ثم انتشط الرجل الثوب عن الصبي ، ثم قال له : يا فيميون ، عبد من عباد الله أصابه ما ترى ، فادع الله له . فدعا له فيميون ، فقام الصبي ليس به بأس . وعرف فيميون أنه قد عرف ، فخرج من القرية واتبعه صالح ، فبينما هو يمشي في بعض الشام إذ مر بشجرة عظيمة ، فناداه منها رجل ، فقال : يا فيميون ؛ قال : نعم ؛ قال : ما زلت أنظرك وأقول متى هو جاء ، حتى سمعت صوتك ، فعرفت أنك هو ، لا تبرح حتى تقوم علي ، فإني ميت الآن ؛ قال : فمات وقام عليه حتى واراه ، ثم انصرف ، وتبعه صالح ، حتى وطئا بعض أرض العرب ، فعدوا عليهما. فاختطفتهما سيارة من بعض العرب ، فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران، وأهل نجران يومئذ على دين العرب ، يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم ، لها عيد في كل سنة ، إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه ، وحليّ النساء ، ثم خرجوا إليها فعكفوا عليها يوما . فابتاع فيميون رجل من أشرافهم ، وابتاع صالحا آخر . فكان فيميون إذا قام من الليل يتهجد في بيت له - أسكنه إياه سيده - يصلي ، استسرج له البيتُ نورا حتى يصبح من غير مصباح ؛ فرأى ذلك سيده ، فأعجبه ما يرى منه ، فسأله عن دينه ، فأخبره به ، وقال له فيميون : إنما أنتم في باطل ، إن هذه النخلة لا تضر ولا تنفع ، ولو دعوت عليها إلهي الذي أعبده لأهلكها ، وهو الله وحده لا شريك له . قال : فقال له سيده : فافعل ، فإنك إن فعلت دخلنا في دينك ، وتركنا ما نحن عليه . قال : فقام فيميون ، فتطهر وصلى ركعتين ، ثم دعا الله عليها، فأرسل الله عليها ريحا فجعفتها من أصلها فألقتها ، فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه ، فحملهم على الشريعة من دين عيسى بن مريم عليه السلام ، ثم دخلت عليهم الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض ، فمن هنالك كانت النصرانية بنجران في أرض العرب . قال ابن إسحاق : فهذا حديث وهب بن منبه عن أهل نجران .
قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي، وحدثني أيضا بعض أهل نجران عن أهلها : أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان ، وكان في قرية من قراها قريبا من نجران - ونجران : القرية العظمى التي إليها جماع أهل تلك البلاد - ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر ، فلما نزلها فيميون - ولم يسموه لي باسمه الذي سماه به وهب بن منبه ، قالوا : رجل نزلها - ابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي بها الساحر ، فجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر فبعث إليه الثامر ابنه عبدالله بن الثامر ، مع غلمان أهل نجران فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى منه من صلاته وعبادته ، فجعل يجلس إليه ، ويسمع منه ، حتى أسلم ، فوحد الله وعبده ، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام ، حتى إذا فقه فيه جعل يسأله عن الاسم الأعظم ، وكان يعلمه ، فكتمه إياه ، وقال له: يا ابن أخي ، إنك لن تحمله ، أخشى عليك ضعفك عنه ، والثامر أبو عبدالله لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان ، فلما رأى عبدالله أن صاحبه قد ضن به عنه ، وتخوف ضعفه فيه ، عمد إلى قداح فجمعها ، ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا كتبه في قدح ، و لكل اسم قدح ، حتى إذا أحصاها أوقد لها نارا ، ثم جعل يقذفها فيها قدحا قدحا، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه ، فوثب القدح حتى خرج منها لم تضره شيئا ، فأخذه ثم أتى صاحبه فأخبره بأنه قد علم الاسم الذي كتمه ؛ فقال : وما هو ؟ قال : هو كذا وكذا ؛ قال : وكيف علمته ؟ فأخبره بما صنع ؛ قال : أَيِ ابنَ أخي ، قد أصبته فأمسك على نفسك وما أظن أن تفعل .
فجعل عبدالله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال يا عبدالله ، أتوحد الله وتدخل في ديني وأدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول : نعم ؛ فيوحد الله ويسلم ، ويدعو له فيشفى . حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه الله فاتبعه على أمره ، ودعا له فعوفي حتى رفع شأنه إلى ملك نجران ، فدعاه فقال له : أفسدت علي أهل قريتي ، وخالفت ديني ودين أبائي ، لأمثلن بك ؛ قال : لا تقدر على ذلك . قال : فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه فيقع إلى الأرض ليس به بأس ؛ وجعل يبعث به إلى مياه بنجران ، بحُور لا يقع فيها شيء إلا هلك ، فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس . فلما غلبه قال له عبدالله بن الثامر : إنك والله لن تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به ، فإنك إن فعلت ذلك سلطت علي فقتلتني . قال : فوحد الله تعالى ذلك الملك ، وشهد شهادة عبدالله بن الثامر ، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة ، فقتله ، ثم هلك الملك مكانه؛ واستجمع أهل نجران على دين عبدالله بن الثامر ، وكان على ما جاء به عيسى بن مريم من الإنجيل وحكمه ، ثم أصابهم مثل ما أصاب أهل دينهم من الأحداث ، فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران ، والله أعلم بذلك. قال ابن إسحاق : فهذا حديث محمد بن كعب القرظي ، وبعض أهل نجران عن عبدالله بن الثامر ، والله أعلم أي ذلك كان .
فسار إليهم ذو نواس بجنوده ، فدعاهم إلى اليهودية ، وخيرهم بين ذلك والقتل ، فاختاروا القتل ، فخد لهم الأخدود ، فحرق من حرق بالنار ، وقتل من قتل بالسيف ومثل بهم حتى قتل منهم قريبا من عشرين ألفا ، ففي ذي نواس وجنده تلك أنزل الله تعالى على رسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : {( قتل أصحاب الأخدود ، النار ذات الوقود ، إذ هم عليها قعود ، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد )} .
قال ابن هشام :الأخدود : الحفر المستطيل في الأرض ، كالخندق والجدول ونحوه ، وجمعه أخاديد . قال ذو الرمة ، واسمه غيلان بن عقبة ، أحد بني عدي بن عبد مناف بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر :
من العراقية اللاتي يحيل لها |
|
بين الفلاة وبين النخل أخـدود |
قال ابن إسحاق : ويقال : كان فيمن قتل ذو نواس عبدالله بن الثامر ، رأسهم وإمامهم .
قال ابن إسحاق : حدثني عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه حدث : أن رجلا من أهل نجران كان في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجته ، فوجدوا عبدالله بن الثامر تحت دفن منها قاعدا ، واضعا يده على ضربة في رأسه ، ممسكا عليها بيده ، فإن أخرت يده عنها تنبعث دما ، وإذا أرسلت يده ردها عليها ، فأمسكت دمها ، وفي يده خاتم مكتوب فيه : ( ربي الله ) فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبر بأمره ، فكتب إليهم عمر رضي الله عنه : أن أقروه على حاله ، وردوا عليه الدفن الذي كان عليه ، ففعلوا .
قال ابن إسحاق : وأفلت منهم رجل من سبأ ، يقال له : دوس ذو ثعلبان ، على فرس له ، فسلك الرمل فأعجزهم ؛ فمضى على وجهه ذلك، حتى أتى قيصر ملك الروم ، فاستنصره على ذي نواس وجنوده ، وأخبره بما بلغ منهم ؛ فقال له : بعدت بلادك منا ، ولكن سأكتب لك إلى ملك الحبشة فإنه على هذا الدين، وهو أقرب إلى بلادك ، وكتب إليه يأمره بنصره والطلب بثأره .
فقدم دوس على النجاشي بكتاب قيصر ، فبعث معه سبعين ألفا من الحبشة ، وأمر عليهم رجلا منهم يقال له أرياط ، ومعه في جنده أبرهة الأشرم ؛ فركب أرياط البحر حتى نزل بساحل اليمن ، ومعه دوس ذو ثعلبان .
وسار إليه ذو نواس في حمير ، ومن أطاعه من قبائل اليمن ؛ فلما التقوا انهزم ذو نواس وأصحابه . فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجه فرسه في البحر ، ثم ضربه فدخل به ، فخاض به ضحضاح البحر ، حتى أفضى به إلى غمره ، فأدخله فيه ، وكان آخر العهد به . ودخل أرياط اليمن ، فملكها . شعر في دوس و ما كان منه فقال رجل من أهل اليمن - وهو يذكر ما ساق إليهم دوس من أمر الحبشة : لا كدوس ولا كأعلاق رحله فهي مثل باليمن إلى هذا اليوم .
وقال ذو جدن الحميري :
هونكِ ليس يرد الدمع ما فاتا |
|
لا تهلكي أسفا في إثر من ماتا |
أبعد بينون لا عين ولا أثـر |
|
وبعد سلحين يبني الناس أبياتـا |
بينون وسلحين وغمدان : من حصون اليمن التي هدمها أرياط . ولم يكن في الناس مثلها . وقال ذو جدن أيضا :
دعيني لا أبا لك لن تُطـيقـي |
|
لحاك الله قد أنـزفـت ريقـي |
لدى عزف القيان إذ انتشينـا |
|
وإذ نُسقى من الخمر الـرحـيق |
وشرب الخمر ليس علي عارا |
|
إذا لم يشكني فـيهـا رفـيقـي |
فإن المـوت لا ينـهـاه نـاه |
|
ولو شرب الشفاء مع النـشـوق |
ولا مترهب في أسـطـوان |
|
يناطح جُـدْره بـيض الأنـوق |
وغمدان الذي حدثت عـنـه |
|
بنوه مُسَمَّكـا فـي رأس نِـيق |
ِبمَنْهَمَةٍ وأسـفـلـه جـرون |
|
وحر الموحل اللثـق الـزلـيق |
مصابيح السليط تلـوح فـيه |
|
إذا يمسي كتومـاض الـبـروق |
ونخلته التي غُـرسـت إلـيه |
|
يكاد البسر يهصر بـالـعـذوق |
فأصبح بعد جـدتـه رمـادا |
|
وغيرَّ حسنه لهـب الـحـريق |
وأسلم ذو نواس مستـكـينـا |
|
وحذر قومه ضنك الـمـضـيق |
قول ربيعة ابن الذئبة الثقفي في هذه القصة وقال عبدالله ابن الذئبة الثقفي في ذلك . قال ابن هشام :الذئبة أمه ، واسمه ربيعة بن عبد ياليل بن سالم بن مالك بن حطيط بن جشم بن قسي:
لعمرك ما للفتى من مفر |
|
مع الموت يلحقه والكـبـرْ |
لعمرك ما للفتى صُحرة |
|
لعمرك ما إنْ له مـن وزرْ |
أبعد قبائل من حـمـير |
|
أُبيدوا صباحا بذات العـبـر |
بألفِ ألـوفٍ وحُـرَّابة |
|
كمثل السماء قبيل المطـر |
يُصم صياحهم المقربات |
|
وينفون من قاتلوا بالـذفـر |
سَعَاِليَ مثل عديد الترا ب |
|
تيبس منهم رطاب الشجـر |
قول عمرو بن معدي كرب الزبيدي في هذه القصة وقال عمرو بن معدي كرب الزبيدي في شيء كان بينه وبين قيس بن مكشوح المرادي ، فبلغه أنه يتوعده ، فقال يذكر حمير وعزها ، وما زال من ملكها عنها :
أتوعدني كأنك ذو رعين |
|
بأفضل عيشة ، أو ذو نُواسِ |
وكائن كان قبلك من نعيم |
|
وملك ثابت في الناس راسي |
قديم عهده من عهد عـاد |
|
عظيم قاهر الجبروت قاسي |
فأمسى أهله بادوا وأمسى |
|
يحول من أناس في أنـاس |
قال ابن هشام :زبيد بن سلمة بن مازن بن منبه بن صعب بن سعد العشيرة بن مذحج ، ويقال : زبيد بن منبه بن صعب بن سعد العشيرة ، ويقال : زبيد بن صعب بن سعد . ومراد : يحابر بن مذحج . لماذا قال عمرو بن معدي كرب هذا الشعر ؟ قال ابن هشام :وحدثني أبو عبيدة ، قال : كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سلمان بن ربيعة الباهلي ، و باهلةبن يعصر بن سعد بن قيس بن عيلان ، وهو بأرمينية يأمره أن يفضل أصحاب الخيل العراب على أصحاب الخيل المقارف في العطاء ؛ فعرض الخيل، فمر به فرس عمرو بن معدي كرب ؛ فقال له سلمان : فرسك هذا مقرف ؛ فغضب عمرو ، وقال: هجين عرف هجينا مثله ؛ فوثب إليه قيس فتوعده ؛ فقال عمرو هذه الأبيات .
قال ابن هشام :فهذا الذي عنى سطيح الكاهن بقوله : ( ليهبطن أرضكم الحبش ، فليملكن ما بين أبين إلى جرش ) . والذي عنى شق الكاهن بقوله: ( لينزلن أرضكم السودان ، فليغلبن على كل طفلة البنان ، و ليملكن ما بين أبين إلى نجران ) . غلب أبرهة الأشرم على أمر اليمن ، و قتل أرياط
ثم إن أبرهة بنى القُلَّيْس بصنعاء ، فبنى كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض ، ثم كتب إلى النجاشي : إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب، فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي ، غضب رجل من النسأة ، أحد بني فُقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر . معنى النسأة والنسأة : الذين كانوا ينسئون الشهور على العرب في الجاهلية ، فيحلون الشهر من الأشهر الحرم ، ويحرمون مكانه الشهر من أشهر الحل ، ليواطئوا عدة ما حرم الله ، ويؤخرون ذلك الشهر ففيه أنزل الله تبارك وتعالى : {( إنما النسيء زيادة في الكفر يُضل به الذين كفروا ، يحلونه عاما ، ويحرمونه عاما ، ليواطئوا عدة ما حرم الله )} . المواطأة لغة قال ابن هشام : ليواطئوا : ليوافقوا : والمواطأة : الموافقة ، تقول العرب : واطأتك على هذا الأمر ، أي وافقتك عليه . والإيطاء في الشعر الموافقة ، وهو اتفاق القافيتين من لفظ واحد ، وجنس واحد ، نحو قول العجَّاج - واسم العجاج عبدالله بن رؤبة أحد بني سعد بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار - :
في أُثعبان المَنْجَنونَ المرسلِ |
|
|
ثم قال : مد الخليج في الخليج المرسل وهذان البيتان في أرجوزة له . أول من ابتدع النسيء قال ابن إسحاق : وكان أول من نسأ الشهور علىالعرب ، فأحلت منها ما أحل ، وحرمت منها ما حرم القَلَمَّس ، وهو حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة . ثم قام بعده على ذلك ابنه عباد بن حذيفة ، ثم قام بعد عباد : قلع بن عباد ، ثم قام بعد قلع : أمية بن قلع ، ثم قام بعد أمية : عوف بن أمية ، ثم قام بعد عوف أبو ثمامة جنادة بن عوف ، وكان آخرهم ، وعليه قام الإسلام ، وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه ، فحرم الأشهر الحرم الأربعة : رجبا ، وذا القعدة ، وذا الحجة ، والمحرم . فإذا أراد أن يحل منها شيئا أحل المحرم فأحلوه ، وحرم مكانه صفر فحرموه ، ليواطئوا عدة الأربعة الأشهر الحرم . فإذا أرادوا الصدر قام فيهم فقال : اللهم إني قد أحللت لك أحد الصفرين ، الصفر الأول ، ونسأت الآخر للعام المقبل ، فقال في ذلك عمير بن قيس جذل الطعان أحد بني فراس بن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة ، يفخر بالنسأة على العرب :
لقد علمت معد أن قومي |
|
كرام الناس أن لهم كرامـا |
فأي الناس فاتونا بـوتـر |
|
وأي الناس لم نعلك لجامـا |
ألسنا الناسئين على معـد |
|
شهور الحل نجعلها حراما ؟ |
قال ابن هشام : أول الأشهر الحرم المحرم . الكناني يحدث في القليس ، و حملة أبرهة على الكعبة قال ابن إسحاق : فخرج الكناني حتى أتى القليس فقعد فيها - قال ابن هشام :يعني أحدث فيها - قال ابن إسحاق : ثم خرج فلحق بأرضه ، فأخبر بذلك أبرهة فقال : من صنع هذا ؟ فقيل له : صنع هذا رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكة لما سمع قولك : ( أصرف إليها حج العرب ) غضب فجاء فقعد فيها ، أي أنها ليست لذلك بأهل .
فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له : ذو نفر ، فدعا قومه ، ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة ، وجهاده عن بيت الله الحرام ، وما يريد من هدمه وإخرابه ؛ فأجابه إلى ذلك من أجابه ، ثم عرض له فقاتله ، فهزم ذو نفر وأصحابه ، وأخذ له ذو نفر فأتي به أسيرا ، فلما أراد قتله قال له ذو نفر : أيها الملك ، لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي ؛ فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق ، وكان أبرهة رجلا حليما .
ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له ، حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قَبِيْلَيْ خثعم : شهران وناهس ، ومن تبعه من قبائل العرب ، فقاتله فهزمه أبرهة ، وأخذ له نفيل أسيرا ، فأتي به ، فلما هم بقتله قال له نفيل : أيها الملك ، لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب ، وهاتان يداي لك على قبيلَيْ خثعم : شهران وناهس بالسمع والطاعة ، فخلى سبيله .
وخرج به معه يدله ، حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب ابن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف في رجال ثقيف .
واسم ثقيف : قسي بن النبيت بن منبه بن منصور بن يقدم بن أفصى بن دعمي بن إياد بن نزار بن معد بن عدنان . قال أمية بن أبي الصلت الثقفي :
قومي إياد لو أنهم أمـم |
|
أو لو أقاموا فتهزل النعـم |
قوم لهم ساحة العراق إذا |
|
ساروا جميعا والقط والقلـم |
وقال أمية بن أبي الصلت أيضا :
فإما تسألي عني لُبينى |
|
وعن نسبي أخبرك اليقينا |
فإنا للنبيت أبي قسـي |
|
لمنصور بن يقدم الأقدمينا |
قال ابن هشام : ثقيف : قسي بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان . والبيتان الأولان والآخران في قصيدتين لأمية .
قال ابن إسحاق : فقالوا له : أيها الملك ، إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكة ، ونحن نبعث معك من يدلك عليه ، فتجاوز عنهم .
واللات : بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة . قال ابن هشام : أنشدني أبو عبيدة النحوي لضرار بن الخطاب الفهري :
وفرت ثقيف إلى لاتها |
|
بمنقلب الخائب الخاسـر |
وهذا البيت في أبيات له .
قال ابن إسحاق : فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة ، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمس ؛ فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك ، فرجمت قبره العرب ، فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس .
فلما نزل أبرهة المغمس ، بعث رجلا من الحبشة يقال له : الأسود بن مقصود على خيل له ، حتى انتهى إلى مكة ، فساق إليه أموال تهامة من قريش وغيرهم ، وأصاب فيها مائتي بعير لعبدالمطلب بن هاشم ، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها ، فهمت قريش وكنانة وهذيل ، ومن كان بذلك الحرم من سائر الناس بقتاله ، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به ، فتركوا ذلك .
وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة ، وقال له : سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفها ، ثم قال له : إن الملك يقول لك : إني لم آت لحربكم ، إنما جئت لهدم هذا البيت ، فإن لم تعرضوا دونه بحرب ، فلا حاجة لي بدمائكم ، فإن هو لم يرد حربي فأتني به . فلما دخل حناطة مكة ، سأل عن سيد قريش وشريفها ، فقيل له : عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ؛ فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة ؛ فقال له عبدالمطلب : والله ما نريد حربه ، وما لنا بذلك من طاقة ، هذا بيت الله الحرام ، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام - أو كما قال - فإنْ يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وإن يخل بينه وبينه ، فوالله ما عندنا دفع عنه ؛ فقال له حناطة : فانطلق معي إليه ، فإنه قد أمرني أن آتيه بك .
فانطلق معه عبدالمطلب ، ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر ، فسأل عن ذي نفر ، وكان له صديقا ، حتى دخل عليه وهو في محبسه ، فقال له : يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا ؟ فقال له ذو نفر : وما غناء رجل أسير بِيدَيْ ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا ما عندنا غناء في شيء مما نزل بك إلا أنّ أُنيسا سائس الفيل صديق لي ، وسأرسل إليه فأوصيه بك ، وأعظم عليه حقك ، وأسأله أن يستأذن لك على الملك ، فتكلمه بما بدا لك و يشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك ؛ فقال : حسبي . فبعث ذو نفر إلى أنيس ، فقال له : إن عبدالمطلب سيد قريش ، وصاحب عير مكة ، يطعم الناس بالسهل ، والوحوش في رءوس الجبال ، وقد أصاب له الملك مائتي بعير ، فاستأذن له عليه ، وانفعه عنده بما استطعت ؛ فقال : أفعل . فكلم أنيس أبرهة ، فقال له : أيها الملك ، هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك ، وهو صاحب عير مكة ، وهو يطعم الناس في السهل ، والوحوش في رءوس الجبال ، فأذن له عليك ، فيكلمك في حاجته ، و أحسن إليه ، قال : فأذن له أبرهة .
قال : وكان عبدالمطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم ، فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه وأكرمه عن أن يجلسه تحته ، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه ، فنزل أبرهة عن سريره ، فجلس على بساطه ، وأجلسه معه عليه إلى جنبه ، ثم قال لترجمانه : قل له : حاجتك ؟ فقال له ذلك الترجمان ؛فقال : حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي ؛ فلما قال له ذلك ، قال أبرهة لترجمانه : قل له : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه ، لا تكلمني فيه ! قال له عبدالمطلب : إني أنا رب الإبل ، وإن للبيت ربا سيمنعه ؛ قال : ما كان ليمتنع مني ؛ قال : أنت وذاك .
وكان فيما يزعم بعض أهل العلم ، قد ذهب مع عبدالمطلب إلى أبرهة ، حين بعث إليه حناطة ، يعمر بن نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر بن مناة بن كنانة ، وهو يومئذ سيد بني بكر ، وخويلد بن واثلة الهذلي، وهو يومئذ سيد هذيل ؛ فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة ، على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت فأبى عليهم . والله أعلم أكان ذلك أم لا . فرد أبرهة على عبدالمطلب الإبل التي أصاب له .
فلما انصرفوا عنه ، انصرف عبدالمطلب إلى قريش ، فأخبرهم الخبر ، وأمرهم بالخروج من مكة ، والتحرز في شعف الجبال والشعاب : تخوفا عليهم من معرة الجيش ، ثم قام عبدالمطلب ، فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ، ويستنصرونه على أبرهة وجنده ، فقال عبدالمطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :
لاهُمَّ إن العبد يمنع |
|
رحله فامنع حلالـكْ |
لا يغلبنّ صليبهـم |
|
ومحالهم غدوا محالك |
زاد الواقدي :
إن كنت تاركهم وقبل |
|
تنا فأمر مـا بـدا لـكْ |
قال ابن هشام : هذا ما صح له منها . شعر عكرمة بن عامر يدعو على الأسود بن مقصود قال ابن إسحاق : وقال عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار بن قصي :
لاهُمَّ أخز الأسود بن مقصود |
|
الآخذ الهجمة فيها التـقـلـيدْ |
بين حراء وثبير فـالـبـيد |
|
يحبسها وهي أولات التطـريد |
فضمها إلى طماطم سود |
|
أخفره يا رب وأنت محمود |
قال ابن هشام :هذا ما صح له منها ؛ والطماطم : الأعلاج . قال ابن إسحاق : ثم أرسل عبدالمطلب حلقة باب الكعبة ، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها .
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة ، وهيأ فيله وعبىَّ جيشه ، وكان اسم الفيل محمودا ؛ وأبرهة مجمع لهدم البيت ، ثم الانصراف إلى اليمن . فلما وجهوا الفيل إلى مكة ، أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي حتى قام إلى جنب الفيل ، ثم أخذه بأذنه ، فقال : ابرك محمود ، أو ارجع راشدا من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام ، ثم أرسل أذنه . فبرك الفيل ، وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل ، وضربوا الفيل ليقوم فأبى . فضربوا في رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى ، فأدخلوا محاجن لهم في مراقِّه فبزغوه بها ليقوم فأبى ، فوجهوه راجعا إلى اليمن ، فقام يهرول ، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى مكة فبرك . عقاب الله لأبرهة وجنده فأرسل الله تعالى عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان ، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها : حجر في منقاره ، وحجران في رجليه ، أمثال الحمص والعدس ،لا تصيب منهم أحدا إلا هلك ، وليس كلهم أصابت. وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا ، ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن ، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته :
أين المفر والإله الطالـب |
|
والأشرم المغلوب ليس الغالب |
قال ابن هشام : قوله : ( ليس الغالب ) عن غير ابن إسحاق . قال ابن إسحاق : وقال نفيل أيضا :
ألا حييت عنا يا ردينا |
|
نعمناكم مع الإصباح عينا |
أتانا قابس منكم عشاء فلم يقدر لقابسكم لدينا
ردينة لو رأيت - ولا تريه |
|
لدى جنب المحصب ما رأينـا |
إذا لعذرتني وحمدت أمري |
|
ولم تأسي على ما فات بـينـا |
حمدت الله إذ أبصرت طيرا |
|
وخفت حجارة تُلقى عـلـينـا |
و كل القوم يسأل عن نفيل |
|
كأن علي للحـبـشـان دينـا |
فخرجوا يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون بكل مهلك على كل منهل ، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم تسقط أنامله أُنمْلة أنملة ، كلما سقطت أنملة أتبعتها منه مدة تمثُّ قيحا ودما ، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ، فيما يزعمون . قال ابن إسحاق : حدثني يعقوب بن عتبة أنه حُدث : أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، وأنه أول ما رؤي بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعُشر ذلك العام .
قال ابن إسحاق : فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم ، كان مما يعد الله على قريش من نعمته عليهم وفضله ، ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم ، فقال الله تبارك وتعالى : ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل . ألم يجعل كيدهم في تضليل . و أرسل عليهم طيرا أبابيل . ترميهم بحجارة من سجيل . فجعلهم كعصف مأكول) . وقال : ( لإيلاف قريش . إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. فليعبدوا رب هذا " البيت . الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) . أي لئلا يغير شيئا من حالهم التي كانوا عليها ، لما أراد الله بهم من الخير لو قبلوه .
قال ابن هشام : الأبابيل : الجماعات ، ولم تتكلم لها العرب بواحد علمناه . وأما السجيل : فأخبرني يونس النحوي وأبو عبيدة أنه عند العرب : الشديد الصلب . قال رؤبة بن العجاج :
ومسهم ما مس أصحاب الفيلْ |
|
ترميهم حجارة مـن سـجـيلْ |
و لعبت طير بهم أبابيلْ |
|
|
وهذه الأبيات في أرجوزة له . ذكر بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية ، جعلتهما العرب كلمة واحدة ، وإنما هو سَنْج و جِلّ ، يعني بالسنج : الحجر ؛ وبالجل : الطين . يعني : الحجارة من هذين الجنسين : الحجر والطين . والعصف : ورق الزرع الذي لم يقصب ، وواحدته عصفة . قال : وأخبرني أبو عبيدة النحوي أنه يقال له : العصافة والعصيفة . وأنشدني لعلقمة بن عبدة أحد بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم :
تسقي مذانب قد مالت عصيفتها |
|
حدورها من أتيّ الماء مطـمـوم |
وهذا البيت في قصيدة له . وقال الراجز : فصُيرِّوا مثل كعصف مأكول قال ابن هشام : ولهذا البيت تفسير في النحو . وإيلاف قريش : إلفهم الخروج إلى الشام في تجارتهم ، وكانت لهم خرجتان : خرجة في الشتاء ، وخرجة في الصيف . أخبرني أبو زيد الأنصاري ، أن العرب تقول : ألفت الشيء إلفا ، وآلفته إيلافا ، في معنى واحد . وأنشدني لذي الرمة :
من المؤلفات الرمل أدماء حرة |
|
شعاع الضحى في لونها يتوضـح |
وهذ البيت في قصيدة له . وقال مطرود بن كعب الخزاعي :
المنعمين إذا النجوم تغيرت |
|
والظاعنين لرحـلة الإيلاف |
وهذا البيت في أبيات له سأذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى . والإيلاف أيضا : أن يكون للإنسان ألف من الإبل ، أو البقر ، أو الغنم ، أو غير ذلك . يقال : آلف فلان إيلافا . قال الكميت بن زيد ، أحد بني أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد : بعام يقول له المؤلفو ن هذا المعيم لنا المرجل وهذا البيت في قصيدة له . والإيلاف أيضا : أن يصير القوم ألفا ، يقال : آلف القوم إيلافا . قال الكميت بن زيد ،أحد بني أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد :
وآل مزيقياء غداة لاقوا |
|
بني سعد بن ضبة مؤلفينا |
وهذا البيت في قصيدة له . والإيلاف أيضا : أن تؤلف الشيء إلى الشيء فيألفه و يلزمه ؛ يقال : آلفته إياه إيلافا . والإيلاف أيضا : أن تصيرِّ ما دون الألف ألفا ، يقال : آلفته إيلافا . مصير قائد الفيل وسائسه قال ابن إسحاق : حدثني عبدالله بن أبي بكر ، عن عمرة بنت عبدالرحمن ، بن سعد بن زرارة ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس .
قال ابن إسحاق : فلما رد الله الحبشة عن مكة ، وأصابهم بما أصابهم به من النقمة ، أعظمت العرب قريشا ، وقالوا : هم أهل الله ، قاتل الله عنهم وكفاهم مئونة عدوهم . فقالوا في ذلك أشعارا يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشة ، وما رد عن قريش من كيدهم .
فقال عبدالله بن الزبعرى بن عدي بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر :
تنكلوا عن بطن مـكة إنـهـا |
|
كانت قديما لا يرام حـريمـهـا |
لم تخلق الشعرى ليالي حرمت |
|
إذ لا عزيز من الأنام يرومـهـا |
سائل أمير الجيش عنها ما رأى |
|
ولسوف يُنبي الجاهلين عليمـهـا |
ستون ألفا لم يئوبوا أرضـهـم |
|
ولم يعش بعد الإياب سقـيمـهـا |
كانت بها عاد وجرهم قبلـهـم |
|
والله من فوق العبـاد يقـيمـهـا |
قال ابن إسحاق : يعني ابن الزبعرى بقوله : . . . بعد الإياب سقيهما أبرهةَ ، إذ حملوه معهم حين أصابه ما أصابه ، حتى مات بصنعاء .
وقال أبو قيس بن الأسلت الأنصاري ثم الخطمي ، واسمه صيفي .قال ابن هشام : أبو قيس : صيفي بن الأسلت بن جشم بن وائل بن زيد بن قيس بن عامرة بن مرة بن مالك بن الأوس :
ومن صنعه يوم فيل الحبُو ش |
|
إذ كـلـمـا بـعـثــوه رزمْ |
محاجنهم تـحـت أقـرابـه |
|
وقد شرموا أنفـه فـانـخـرم |
وقد جعلوا سوطه مـغـولا |
|
إذا يمـمـوه قـفـاه كـلــم |
فولـى وأدبـر أدراجـــه |
|
وقد باء بالظلم مـن كـان ثـم |
فأرسل من فوقهم حاصـبـا |
|
فلفهـم مـثـل لـف الـقـزم |
تحض على الصبر أحبارهم |
|
وقد ثأجوا كـثـؤاج الـغـنـم |
قال ابن هشام : وهذه الأبيات في قصيدة له . والقصيدة أيضا تروى لأمية بن أبي الصلت . قال ابن إسحاق : وقال أبو قيس بن الأسلت :
فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا |
|
بأركان هذا البيت بين الأخاشب |
فعندكم منه بلاء مصدق غداة أبى يكسوم هادى الكتائب
كتيبته بالسهل تمسـي ورجـلـه |
|
على القاذفات في رءوس المناقب |
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم |
|
جنود المليك بين ساف وحـاصـب |
فولوا سراعا هاربين ولـم يؤب |
|
إلى أهله ملحبش غير عـصـائب |
قال ابن هشام :أنشدني أبو زيد الأنصاري قوله : على القاذفات في رءوس المناقب وهذه الأبيات في قصيدة لأبي قيس ، سأذكرها في موضعها إن شاء الله . وقوله : غداة أبي يكسوم : يعني أبرهة ، كان يكنى أبا يكسوم . شعر طالب بن أبي طالب في وقعة الفيل قال ابن إسحاق : وقال طالب بن أبي طالب بن عبدالمطلب :
ألم تعلموا ما كان في حرب داحس |
|
وجيش أبي يكسوم إذ ملئوا الشعـبـا |
فلولا دفاع اللـه لا شـيء غـيره |
|
لأصبحتم لا تمنعون لـكـم سـربـا |
قال ابن هشام : وهذان البيتان في قصيدة له في يوم بدر ، سأذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى .
قال ابن إسحاق : وقال أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي في شأن الفيل ، ويذكر الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام . قال ابن هشام : تروى لأمية بن أبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي :
إن آيات ربنـا ثـاقـبـات |
|
لا يماري فيهن إلا الـكـفـورُ |
خلق الليل والنهـار فـكـل |
|
مستبين حـسـابـه مـقـدور |
ثم يجلو النهـار رب رحـيم |
|
بمهاة شعاعـهـا مـنـشـور |
حبس الفيل بالمغمس حتـى |
|
ظل يحبو كـأنـه مـعـقـور |
لازما حلقة الجران كما قطر |
|
من صخر كبكـب مـحـدور |
حوله من ملوك كندة أبطا ل |
|
ملاويث في الحروب صقـور |
خلفوه ثم ابذعرُّوا جمـيعـا |
|
كلهم عظم ساقـه مـكـسـور |
كل دين يوم القيامة عنداللـه |
|
إلا دين الـحـنـيفة بـــور |
قال ابن هشام : وقال الفرزدق - واسمه همام بن أحد بني مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم - يمدح سليمان بن عبدالملك بن مروان ، ويهجو الحجاج بن يوسف ، ويذكر الفيل وجيشه :
فلما طغى الحجاج حين طغى به |
|
غنى قال إني مرتق في السـلالـم |
فكان كما قال ابن نوح سأرتقـي |
|
إلى جبل من خشية الماء عـاصـم |
رمى الله في جثمانه مثل ما رمى |
|
عن القبلة البيضاء ذات المـحـارم |
جنودا تسوق الفيل حتى أعادهـم |
|
هباء وكانوا مطرخمي الطـراخـم |
نصرت كنصر البيت إذ ساق فيله |
|
إليه عظيم المشـركـين الأعـاجـم |
وهذه الأبيات في قصيدة له .
قال ابن هشام : وقال عبدالله بن قيس الرقيات : أحد بني عامر بن لؤي بن غالب يذكر أبرهة - وهو الأشرم - والفيلَ :
كاده الأشرم الذي جاء بالفيل |
|
فولـى وجـيشـه مـهــزوم |
واستهلت عليهم الطير بالجندل |
|
حتـى كـأنـه مـرجـــوم |
قال ابن إسحاق : فلما هلك أبرهة ، ملك الحبشة ابنه يكسوم بن أبرهة ، وبه كان يكنى ؛ فلما هلك يكسوم بن أبرهة ، ملك اليمن في الحبشة أخوه مسروق بن أبرهة . خروج سيف بن ذي يزن وملك وهرز على اليمن
فلما طال البلاء على أهل اليمن ، خرج سيف بن ذي يزن الحميري ، وكان يكنى بأبي مرة ، حتى قدم على قيصر ملك الروم ، فشكا إليه ما هم فيه ، وسأله أن يخرجهم عنه ويليهم هو ، ويبعث إليهم من شاء من الروم ، فيكون له ملك اليمن فلم يشكه و لم يجد عنده شيئا مما يريد .
فخرج حتى أتى النعمان بن المنذر ، وهو عامل كسرى على الحيرة ، وما يليها من أرض العراق ، فشكا إليه أمر الحبشة ، فقال له النعمان : إن لي على كسرى وفادة في كل عام ، فأقم حتى يكون ذلك ،ففعل ، ثم خرج معه ، فأدخله على كسرى . وكان كسرى يجلس في إيوان مجلسه الذي فيه تاجه ، وكان تاجه مثل القنقل العظيم - فيما يزعمون - يضرب فيه الياقوت واللؤلؤ والزبرجد بالذهب والفضة ، معلقا بسلسلة من ذهب في رأس طاقة في مجلسه ذلك ، وكانت عنقه لا تحمل تاجه ، إنما يستر بالثياب حتى يجلس في مجلسه ذلك ، ثم يدخل رأسه في تاجه ، فإذا استوى في مجلسه كشفت عنه الثياب ، فلا يراه رجل لم يره قبل ذلك ، إلا برك هيبة له ؛ فلما دخل عليه سيف بن ذي يزن برك .
قال ابن هشام : حدثني أبو عبيدة : أن سيفا لما دخل عليه طأطأ رأسه ، فقال الملك : إن هذا الأحمق يدخل علي من هذا الباب الطويل ، ثم يطأطئ رأسه ؟ فقيل ذلك لسيف ؛ فقال : إنما فعلت هذا لهمي ، لأنه يضيق عنه كل شيء . قال ابن إسحاق : ثم قال له : أيها الملك ، غلبتنا على بلادنا الأغربة ؛ فقال له كسرى : أي الأغربة : الحبشة أم السند فقال : بل الحبشة ، فجئتك لتنصرني ، ويكون ملك بلادي لك؛ قال : بعدت بلادك مع قلة خيرها ، فلم أكن لأورط جيشا من فارس بأرض العرب ، لا حاجة لي بذلك، ثم أجازه بعشرة آلاف درهم واف ، وكساه كسوة حسنة . فلما قبض ذلك منه سيف خرج ، فجعل ينثر ذلك الورق للناس ، فبلغ ذلك الملك ، فقال : إن لهذا لشأنا ، ثم بعث إليه ، فقال : عمدت إلى حباء الملك تنثره للناس ؛ فقال : وما أصنع بهذا ؟ ما جبال أرضي التي جئت منها إلا ذهب وفضة : يرغبه فيها . فجمع كسرى مرازبته ، فقال لهم : ماذا ترون في أمر هذا الرجل ، وما جاء له ؟ فقال قائل : أيها الملك، إن في سجونك رجالا قد حبستهم للقتل ، فلو أنك بعثتهم معه ، فإن يهلكوا كان ذلك الذي أردت بهم ، وإن ظفروا كان ملكا ازددته . فبعث معه كسرى من كان في سجونه ، وكانوا ثمانمائة رجل .
واستعمل عليهم رجلا يقال له وهرز ، وكان ذا سن فيهم ، وأفضلهم حسبا وبيتا . فخرجوا في ثمان سفائن ، فغرقت سفينتان ، ووصل إلى ساحل عدن ست سفائن . فجمع سيف إلى وهرز من استطاع من قومه ، وقال له : رجلي مع رجلك حتى نموت جميعا أو نظفر جميعا . قال له وهرز : أنصفت ، وخرج إليه مسروق بن أبرهة ملك اليمن ، وجمع إليه جنده . فأرسل إليهم وهرز ابنا له ، ليقاتلهم فيختبر قتالهم : فقتل ابن وهرز ، فزاده ذلك حنقا عليهم . فلما تواقف الناس على مصافهم ، قال وهرز : أروني ملكهم ؛ فقالوا له : أترى رجلا على الفيل عاقدا تاجه على رأسه ، بين عينيه ياقوته حمراء ؟ قال : نعم ، قالوا : ذاك ملكهم ؛ فقال : اتركوه .قال : فوقفوا طويلا ، ثم قال : علام هو ؟ قالوا : قد تحول على الفرس ؛ قال : اتركوه . فوقفوا طويلا ، ثم قال : علام هو ؟ قالوا : قد تحول على البغلة . قال وهرز : بنتُ الحمار ذل وذل ملكه ، إني سأرميه ، فإن رأيتم أصحابه لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوذنكم ، فإني قد أخطأت الرجل ، وإن رأيتم القوم قد استداروا ولاثوا به ، فقد أصبت الرجل ، فاحملوا عليهم . ثم وتر قوسه ، وكانت فيما يزعمون لا يوترها غيره من شدتها ، وأمر بحاجبيه فعصبا له ، ثم رماه ، فصك الياقوتة التي بين عينيه ، فتغلغلت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه ، ونكس عن دابته ، واستدارت الحبشة ولاثت به ، وحملت عليهم الفرس ، وانهزموا ، فقتلوا وهربوا في كل وجه ؛ وأقبل وهرز ليدخل صنعاء ، حتى إذا أتى بابها ، قال : لا تدخل رايتي منكسة أبدا ، اهدموا الباب ، فهدم ؛ ثم دخلها ناصبا رايته .
فقال سيف بن ذي يزن الحميري :
يظن الناس بالملكين |
|
أنهمـا قـد الـتـأمـا |
ومن يسمع بلأمهمـا |
|
فإن الخطب قد فقـمـا |
قتلنا القيل مسروقـا |
|
وروينا الكـثـيب دمـا |
وإن القيل قيل النا س |
|
وهرز مقسم قـسـمـا |
يذوق مشعشعا حتى |
|
يفىء السبي والنعـمـا |
قال ابن هشام : وهذه الأبيات في أبيات له . وأنشدني خلاد بن قرة السدوسي آخرها بيتا لأعشى بني قيس بن ثعلبة في قصيدة له ، وغيره من أهل العلم بالشعر ينكرها له .
قال ابن إسحاق : وقال أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي - قال ابن هشام : وتروى لأمية بن أبي الصلت-:
ليطلب الوتر أمثال ابـن ذي يزن |
|
ريمَّ في البحر لـلأعـداء أحـوالا |
يمم قيصر لما حـان رحـلـتـه |
|
فلم يجد عنده بـعـض الـذي سـالا |
ثم انثنى نحو كسرى بعد عاشـرة |
|
من السنين يهين النـفـس والـمـالا |
حتى أتى ببني الأحرار يحملـهـم |
|
إنك عَمري لقد أسرعت قـلـقـالا |
لله درهم من عصـبة خـرجـوا |
|
ما إن أرى لهم في النـاس أمـثـالا |
بيضا مرازبة غـلـبـا أسـاورة |
|
أُسدا تربب في الغيضـات أشـبـالا |
يرمون عن شدف كأنهـا غـبـط |
|
بزمخر يعجل المـرمـى إعـجـالا |
أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد |
|
أضحى شريدهم في الأرض فـلالا |
فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقـا |
|
في رأس غمدان دارا منك محـلالا |
واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهـم |
|
وأسبل اليوم فـي بـرديك إسـبـالا |
تلك المكارم لا قعبان من لـبـن |
|
شيبا بمـاء فـعـادا بـعـدُ أبـوالا |
قال ابن هشام : هذا ما صح له مما روى ابن إسحاق منها ، إلا آخرها بيتا قوله :
تلك المكارم لا قعبان من لبن |
|
|
فإنه للنابغة الجعدي . واسمه حبان بن عبدالله بن قيس ، أحد بني جعدة ابن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن ، في قصيدة له .
قال ابن إسحاق : وقال عدي بن زيد الحيري ، وكان أحد بني تميم . قال ابن هشام : ثم أحد بني امرىء القيس بن زيد مناة بن تميم ، ويقال : عدي من العباد من أهل الحيرة :
ما بعد صنعـاء كـان يعـمـرهـا |
|
ولاة مـلـك جـزل مـواهـبـهــا |
|||
رفعها من بني لدى قـزع الـمـزن |
|
وتـنـدى مـسـكـا مـحـاربـهــا |
|||
محفوفة بالجبال دون عرى الـكـائد |
|
ما تـرتـقـى غــواربـــهـــا |
|||
يأنس فـيهـا صـوت الـنـهـام إذا |
|
جاوبهـا بـالـعـشـي قـاصـبـهـا |
|||
ساقت إليها الأسبـاب جـنـد بـنـي |
|
الأحرار فـرسـانـهـا مـواكـبـهـا |
|||
وفوزت بالبغال توسق بـالـحـتـف |
|
وتـسـعـى بـهـا تـوالـبـهـــا |
|||
حتى رآها الأقوال من طرف ال مَنْقَل |
|
مخـضـرة كــتـــائبـــهـــا |
|||
يوم ينـــادون آل بـــربـــر |
|
واليكسوم لا يفـلحـن هاربهـا |
|||
وكان يوم باقي الـحـديث وزا لـت |
|
إمة ثـابـت مـراتـبـهــا |
|||
وبدل الفيج بالزرافة والأيا م |
|
جون جـم عـجـائبـهـــا |
|
||
بعد بني تـبـع نـخـاورة |
|
قد اطمأنت بها مـرزابـهـا |
|
||
قال ابن هشام : وهذه الأبيات في قصيدة له . وأنشدني أبو زيد الأنصاري ورواه لي عن المفضل الضبي ، قوله :
يوم ينادون آل بربر واليكسوم . . .الخ |
|
|
هزيمة الأحباش ، و نبوءة سطيح و شق وهذا الذي عنى سطيح بقوله : ( يليه إرم ذي يزن ، يخرج عليهم من عدن ، فلا يترك أحدا منهم باليمن ) . والذي عنى شق بقوله : ( غلام ليس بدني ولا مدنّ ، يخرج عليهم من بيت ذي يزن ) .
قال ابن إسحاق : فأقام وهرز والفرس باليمن ، فمن بقية ذلك الجيش من الفرس الأبناء الذين باليمن اليوم . وكان ملك الحبشة باليمن ، فيما بين أن دخلها أرياط إلى أن قتلت الفرس مسروق بن أبرهة وأُخرجت الحبشة ، اثنتين وسبعين سنة ، توارث ذلك منهم أربعة : أرياط ، ثم أبرهة ، ثم يكسوم بن أبرهة ، ثم مسروق بن أبرهة .
قال ابن هشام : ثم مات وهرز ، فأمر كسرى ابنه المرزبان بن وهرز على اليمن ، ثم مات المرزبان ، فأمَّر كسرى ابنه التينجان بن المرزبان على اليمن ، ثم مات التينجان ، فأمر كسرى ابن التينجان على اليمن ، ثم عزله وأمَّر باذان ؛ فلم يزل باذان عليها حتى بعث الله محمدا النبي صلى الله عليه وسلم .
فبلغني عن الزهري أنه قال : كتب كسرى إلى باذان : أنه بلغني أن رجلا من قريش خرج بمكة ، يزعم أنه نبي ، فسر إليه فاستنبه ، فإن تاب وإلا فابعث إلي برأسه . فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا من شهر كذا . فلما أتى باذانَ الكتابُ توقف لينظر ، وقال : إن كان نبيا فسيكون ما قال . فقتل الله كسرى في اليوم الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن هشام : قُتل على يدي ابنه شيرويه ، وقال خالد بن حق الشيباني :
وكسرى إذ تقسمه بنوه |
|
بأسياف كما اقتسم اللحـام |
تمخضت المنون له بيوم |
|
أني و لكل حاملة تـمـام |
إسلام باذان قال الزهري : فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلامه وإسلام من معه من الفرس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالت الرسل من الفرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إلى من نحن يا رسول الله ؟ قال : أنتم منا وإلينا أهل البيت . قال ابن هشام : فبلغني عن الزهري أنه قال : فمن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلمان منا أهل البيت .
قال ابن هشام : فهوالذي عنى سطيح بقوله : ( نبى زكي ، يأتيه الوحي من قبل العلي ) . والذي عني شق بقوله : ( بل ينقطع برسول مرسل ، يأتي بالحق والعدل ، من أهل الدين والفضل ، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل ) .
قال ابن إسحاق : وكان في حَجَر باليمن - فيما يزعمون - كتاب بالزبور كتب في الزمان الأول : ( لمن ملك ذمار ؟ لحمير الأخيار ؛ لمن ملك ذمار ؟ للحبشة الأشرار ؛ لمن ملك ذمار ؟ لفارس الأحرار ؛ لمن ملك ذمار ؟ لقريش التجار ) . وذمار : اليمن أو صنعاء . قال ابن هشام : ذمار : بالفتح ، فيما أخبرني يونس . شعر الأعشى يذكر نبوءة شق وسطيح قال ابن إسحاق : وقال الأعشى أعشى بني قيس بن ثعلبة في وقوع ما قال سطيح وصاحبه :
ما نظرت ذات أشفار كنظرتها |
|
حقا كما صدق الذئبي إذْ سجعـا |
وكانت العرب تقول لسطيح : الذئبي ، لأنه سطيح بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب . قال ابن هشام : وهذا البيت في قصيدة له .
قال ابن هشام : وحدثني خلاد بن قرة بن خالد السدوسي عن جناد : أو عن بعض علماء أهل الكوفة بالنسب : أنه يقال : إن النعمان بن المنذر من ولد ساطرون ملك الحضر . والحضر : حصن عظيم كالمدينة ، كان على شاطئ الفرات ، وهو الذي ذكر عدي بن زيد في قوله :
وأخو الحضر إذ بناه وإذ |
|
د جلة تجبى إليه والخابـور |
شاده مرمرا وجلله كلسا |
|
فللطير فـي ذراه وكـور |
لم يهبه ريب المنون فبان |
|
ال ملك عنه فبابه مهجـور |
قال ابن هشام : وهذه الأبيات في قصيدة له . والذي ذكره أبو دواد الإيادي في قوله :
وأرى الموت قد تدلى من الحضر |
|
على رب أهـلـه الـسـاطـرون |
وهذا البيت في قصيدة له . ويقال : إنها لخلف الأحمر ، ويقال : لحماد الراوية . سابور يستولي على الحضر ، وزواجه بنت ساطرون ، و ما وقع بينهما وكان كسرى سابور ذو الأكتاف غزا ساطرون ملك الحضر ، فحصره سنتين ، فأشرفت بنت ساطرون يوما ، فنظرت إلى سابور وعليه ثياب ديباج ، وعلى رأسه تاج من ذهب مكلل بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ ، وكان جميلا ، فدست إليه : أتتزوجني إن فتحت لك باب الحضر ؟ فقال : نعم ؛ فلما أمسى ساطرون شرب حتى سكر ، وكان لا يبيت إلا سكران . فأخذت مفاتيح باب الحضر من تحت رأسه ، فبعثت بها مع مولى لها ، ففتح الباب ، فدخل سابور ، فقتل ساطرون ، واستياح الحضر وخربه ، وسار بها معه فتزوجها . فبينا هي نائمة على فراشها ليلا إذْ جعلت تتململ لا تنام ، فدعا لها بشمع ، ففتش فراشها ، فوجد عليه ورقة آس ؛ فقال لها سابور : أهذا الذي أسهرك ؟ قالت : نعم ، قال : فما كان أبوك يصنع بك ؟ قالت : كان يفرش لي الديباج ، ويلبسني الحرير ، ويطعمني المخ ، ويسقين الخمر ؛ قال : أفكان جزاء أبيك ما صنعت به ؟ أنت إلي بذلك أسرع ؛ ثم أمر بها فربطت قرون رأسها بذنب فرس ، ثم ركض الفرس حتى قتلها . قول أعشى قيس في قصة الحضر ففيه يقول أعشى بني قيس بن ثعلبة :
ألم تر للحضر إذ أهله |
|
بنعمى وهل خالد من نعم |
أقام به شاهبور الجنو د |
|
حولين تضرب فيه القـدم |
فلما دعا ربـه دعـوة |
|
أناب إليه فلـم ينـتـقـم |
وهذه الأبيات في قصيدة له . قول عدي بن زيد وقال عدي بن زيد في ذلك :
والحضر صابت عـلـيه داهـية |
|
من فـوقـه أيد مـنـاكـبـهـــا |
ربـية لـم تـوق والـدهـــا |
|
لحـينـهـا إذ أضـاع راقـبـهـا |
إذ غبقته صـهـبـاء صـافـية |
|
والخمـر وهـل يهـيم شـاربـهـا |
فأسلمت أهلـهـا بـلـيلـتـهـا |
|
تظـن أن الـرئيس خـاطـبـهــا |
فكان حظ العروس إذ جشر الصبح |
|
دمـاء تـجـري سـبـائبـهـــا |
وخرب الحضر واستـبـيح وقـد |
|
أُحرق في خدرها مـشـاجـبـهـا |
وهذه الأبيات في قصيدة له .
أولاده في رأي ابن إسحاق و ابن هشام قال ابن إسحاق : فولد نزار بن معد ثلاثة نفر : مضر بن نزار، وربيعة ابن نزار ، وأنمار بن نزار . قال ابن هشام : وإياد بن نزار . قال الحارس بن دوس الإيادي، ويروى لأبي داود الإيادي ، واسمه جارية بن الحجاج :
وفتوّ حسن أوجههـم |
|
من إياد بن نزار بن معد |
قال ابن إسحاق : فأنمار : أبو خثعم وبجيلة . قال جرير بن عبدالله البجلي وكان سيد بجيلة ، وهو الذي يقول له القائل :
لولا جرير هلكت بجيله |
|
نعم الفتى وبئست القبيلـهْ |
وهو ينافر الفرافصة الكلبي إلى الأقرع بن حابس التميمي بن عقال بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة :
يا أقرع بن حابس يا أقرع |
|
إنك إن تصرع أخاك تصرع |
و قال :
ابْنيَ نزار انصرا أخاكما |
|
إن أبي وجدته أبـاكـمـا |
قال ابن هشام : فهوالذي عنى سطيح بقوله : ( نبى زكي ، يأتيه الوحي من قبل العلي ) . والذي عني شق بقوله : ( بل ينقطع برسول مرسل ، يأتي بالحق والعدل ، من أهل الدين والفضل ، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل ) .
لن يُغلب اليوم أخ والأكما |
|
|
قال ابن إسحاق : وكان في حَجَر باليمن - فيما يزعمون - كتاب بالزبور كتب في الزمان الأول : (لمن ملك ذمار ؟ لحمير الأخيار ؛ لمن ملك ذمار ؟ للحبشة الأشرار ؛ لمن ملك ذمار ؟ لفارس الأحرار ؛ لمن ملك ذمار ؟ لقريش التجار ) . وقد تيامنت فلحقت باليمن . قال ابن هشام : قالت اليمن : وبجيلة : أنمار بن إراش بن لحيان بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ ؛ ويقال : إراش بن عمرو بن لحيان بن الغوث . ودار بجيلة وخثعم : يمانية .
قال ابن إسحاق : فولد مضر بن نزار رجلين : إلياس بن مضر ، وعيلان بن مضر. قال ابن هشام : وأمهما جرهمية .
قال ابن إسحاق : فولد إلياس بن مضر ثلاثة نفر : مدركة بن إلياس ، وطابخة بن إلياس ، وقمعة بن إلياس ، وأمهم خندف ، امرأة من اليمن.
قال ابن هشام : خندف بنت عمران بن الحاف بن قضاعة . قال ابن إسحاق : وكان اسم مدركة عامرا، واسم طابخة عمرا ؛ وزعموا أنهما كانا في إبل لهما يرعيانها ، فاقتنصا صيدا فقعدا عليه يطبخانه، وعدت عادية على إبلهما ، فقال عامر لعمرو : أتدرك الإبل أم تطبخ هذا الصيد ؟ فقال عمرو : بل أطبخ، فلحق عامر بالإبل فجاء بها ، فلما راحا على أبيهما حدثاه بشأنهما ، فقال لعامر : أنت مدركة؛ وقال لعمرو : وأنت طابخة و خرجت أمهم لما بلغها الخبر ، و هي مسرعة ، فقال لها : تخندفين، فسميت : خندف ) .
شاده مرمرا وجلله كلسا فللطير في ذراه وكور |
|
|
وأما قمعة فيزعم نساب مضر : أن خزاعة من ولد عمرو بن لحي بن قمعة بن إلياس . حديث عمرو بن لحي وذكر أصنام العرب
قال ابن إسحاق : وحدثني عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه قال : حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار ، فسألته عمن بيني وبينه من الناس ، فقال : هلكوا . قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة - قال ابن هشام : واسم أبي هريرة : عبدالله بن عامر ، ويقال اسمه عبدالرحمن بن صخر - يقول :سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون الخزاعي : يا أكثم ، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار ، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ، ولا بك منه ، فقال أكثم : عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله ؟ قال : لا ، إنك مؤمن وهو كافر ، إنه كان أول من غير دين إسماعيل ، فنصب الأوثان ، وبحر البحيرة ، وسيب السائبة ، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي .
قال ابن هشام : حدثني بعض أهل العلم : أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره ، فلما قدم مآب من أرض البلقاء ، وبها يومئذ العماليق - وهم ولد عملاق . ويقال عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح - رآهم يعبدون الأصنام ، فقال لهم : ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون ؟ قالوا له : هذه أصنام نعبدها ، فنستمطرها فُتمطرنا ، ونستنصرها فتنصرنا ؛ فقال لهم : أفلا تعطونني منها صنما ، فأسير به إلى أرض العرب ، فيعبدوه ؟ فأعطوه صنما يقال له هُبَل ، فقدم به مكة ، فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه .
قال ابن إسحاق : ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل ، أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم ، حين ضاقت عليهم ، والتمسوا الفسح في البلاد ، إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم ، فحيثما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة ، حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة ، وأعجبهم ؛ حتى خلف الخلوف ، ونسوا ما كانوا عليه ، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره ، فعبدوا الأوثان ، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات ؛ وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم يتمسكون بها ، من تعظيم البيت ، والطواف به ، والحج والعمرة ، والوقوف على عرفة والمزدلفة ، وهدي البدن ، والإهلال بالحج والعمرة ، مع إدخالهم فيه ما ليس منه . فكانت كنانة وقريش إذا أهلوا قالوا : ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، إلا شريك هو لك ، تملكه وما ملك ) .فيوحدونه بالتلبية ، ثم يدخلون معه أصنامهم ، ويجعلون ملكها بيده . يقول الله تبارك وتعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : {( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون )} .أي ما يوحدونني لمعرفة حقي إلا جعلوا معي شريكا من خلقي .
وقد كانت لقوم نوح أصنام قد عكفوا عليها ، قص الله تبارك وتعالى خبرها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( وقالوا لا تذرن آلهتكم ، ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا ، وقد أضلوا كثيرا ) .
فكان الذين اتخذوا تلك الأصنام من ولد إسماعيل وغيرهم وسموا بأسمائهم حين فارقوا دين إسماعيل : هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر ، اتخذوا سواعا ، فكان لهم بُرهاط . وكلب بن وبرة من قضاعة ، اتخذوا ودا بدومة الجندل . قال ابن إسحاق : وقال كعب بن مالك الأنصاري :
وننسى اللات والعزى |
|
ونسلبها القلائد والشنوفا |
قال ابن هشام : وهذا البيت في قصيدة له سأذكرها في موضعها إن شاء الله . رأي ابن هشام في نسب كلب بن وبرة قال ابن هشام : وكلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة .
قال ابن إسحاق : وخَيوان بطن من همدان ، اتخذوا يعوق بأرض همدان من أرض اليمن . قال ابن هشام : وقال مالك بن نمط الهمداني :
يريش الله في الدنيا ويبرى |
|
ولا يبري يعـوق ولا يريش |
وهذا البيت في أبيات له .
قال ابن هشام : اسم همدان : أوسلة بن مالك بن زيد بن ربيعة بن أوسلة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ ؛ ويقال : أوسلة بن زيد بن أوسلة بن الخيار . ويقال : همدان بن أوسلة بن ربيعة بن مالك بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ .
قال ابن إسحاق : وذو الكلاع من حمير ، اتخذوا نسرا بأرض حمير .
وكان لخولان صنم يقال له عميانس بأرض خولان ، يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسما بينه وبين الله بزعمهم ، فما دخل في حق عميانس من حق الله تعالى الذي سموه له تركوه له ، وما دخل في حق الله تعالى من حق عميانس ردوه عليه . وهم بطن من خولان ، يقال لهم الأديم ، وفيهم أنزل الله تبارك وتعالى فيما يذكرون : ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ، فقالوا هذا لله بزعمهم ، وهذا لشركائنا ، فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ، ساء ما يحكمون).
قال ابن هشام :خولان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة ؛ ويقال : خولان بن عمرو بن مرة بن أدد بن زيد بن مهسع بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ ؛ ويقال : خولان بن عمرو بن سعد العشيرة بن مذحج .
قال ابن إسحاق : وكان لبني ملكان بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر صنم ، يقال له سعد ، صخرة بفلاة من أرضهم طويلة. فأقبل رجل من بني ملكان بإبل له مؤبلة ليقفها عليه ، التماس بركته ، فيما يزعم ؛ فلما رأته الإبل ، وكانت مرعية لا تركب ، وكان يُهراق عليه الدماء ، نفرت منه ، فذهبت في كل وجه ، وغضب ربها الملكاني ، فأخذ حجرا فرماه به ، ثم قال : لا بارك الله فيك ، نفرت علي إبلي، ثم خرج في طلبها حتى جمعها ، فلما اجتمعت له قال :
أتينا إلى سعد ليجمع شملـنـا |
|
فشتتنا سعد فلا نحن مـن سـعـد |
وهل سعد إلا صخرة بتنـوفة |
|
من الأرض لا تدعو لغي ولا رشد |
وكان في دوس صنم لعمرو بن حمُمة الدوسي . قال ابن هشام : سأذكر حديثه في موضعه إن شاء الله . نسب دوس و دوس : ابن عدثان بن عبدالله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبدالله بن مالك بن نصر بن الأسد بن الغوث . ويقال : دوس ابن عبدالله بن زهران بن الأسد بن الغوث .
قال ابن إسحاق : وكانت قريش قد اتخذت صنما على بئر في جوف الكعبة يقال له : هبل . قال ابن هشام : سأذكر حديثه إن شاء الله في موضعه .
قال ابن إسحاق : واتخذوا إسافا ونائلة ، على موضع زمزم ينحرون عندهما . وكان إساف ونائلة رجلا وامرأة من جرهم - هو إساف بن بغي، ونائلة بنت ديك - فوقع إساف على نائلة في الكعبة ، فمسخهما الله حجرين .
قال ابن إسحاق : حدثني عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عمرة بنت عبدالرحمن بن سعد بن زرارة أنها قالت : سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : ما زلنا نسمع أن إسافا ونائلة كانا رجلا وامرأة من جرهم ، أحدثا في الكعبة ، فمسخمها الله تعالى حجرين . والله أعلم . قال ابن إسحاق : وقال أبو طالب :
وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم |
|
بمفضى السيول من إساف ونائل |
قال ابن إسحاق : واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه ، فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسح به حين يركب ، فكان ذلك أخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره ، وإذا قدم من سفره تمسح به فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله . فلما بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوحيد ، قالت قريش : أجعل الآلهة إلها واحدا ، إن هذا لشيء عجاب .
وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة طواغيت ، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة ، لها سدنة وحجاب ، وتهُدى لها كما تهدى للكعبة ، وتطوف بها كطوافها بها ، وتنحر عندها . وهي تعرف فضل الكعبة عليها، لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم الخليل ومسجده .
فكانت لقريش وبني كنانة العزى بنخلة ، وكان سدنتها وحجابها بنو شيبان ، من سليم ، حلفاء بني هاشم. قال ابن هشام : حلفاء بني أبي طالب خاصة ؛ وسليم : سليم بن منصور ابن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان . قال ابن إسحاق : فقال شاعر من العرب :
لقد أُنكحت أسماء رأس بقـيرة |
|
من الأدم أهداها امرؤ من بني غنمِ |
رأى قدعا في عينها إذ يسوقها |
|
إلى غبغب العزى فوسَّع في القسم |
وكذلك كانوا يصنعون إذا نحروا هديا قسموه فيمن حضرهم . والغبغب : المنحر ومهراق الدماء . قال ابن هشام : وهذان البيتان لأبي خراش الهذلي ، واسمه : خويلد بن مرة في أبيات له . من هم السدنة والسدنة : الذين يقومون بأمر الكعبة . قال رؤبة بن العجاج :
فلا ورب الآمنات القطـن |
|
يعمرن أمنا بالحرام المـأمـن |
بمحبس الهدي وبيت المسدن |
|
|
وهذا البيتان في أرجوزة له ، وسأذكرها حديثها إن شاء الله تعالى في موضعه .
قال ابن إسحاق : وكانت اللات لثقيف بالطائف ، وكان سدنتها وحجاجها بنو معتب من ثقيف . قال ابن هشام : وسأذكر حديثها إن شاء الله تعالى في موضعه .
قال ابن إسحاق : وكانت مناة للأوس والخزرج ، ومن دان بدينهم من أهل يثرب ، على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد . قال ابن هشام : وقال الكميت بن زيد أحد بني أسد بن خزيمة بن مدركة :
وقد آلت قبائل لا تولي |
|
مناة ظهورها متحرفينـا |
وهذا البيت في قصيدة له .
قال ابن هشام : فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها أبا سفيان بن حرب فهدمها . ويقال : علي بن أبي طالب . ذو الخلصة وسدنته وهدمه قال ابن إسحاق : وكان ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة ، ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة . قال ابن هشام :ويقال : ذو الخلصة . قال رجل من العرب :
لو كنت يا ذا الخلص الموتورا |
|
مثلي وكان شيخك المـقـبـورا |
لم تنه عن قتل العـداة زورا |
|
|
قال : وكان أبوه قتل ، فأراد الطلب بثأره ، فأتى ذا الخلصة ، فاستقسم عنده بالأزلام ، فخرج السهم بنهيه عن ذلك ، فقال هذه الأبيات .ومن الناس من ينحلها امرأ القيس بن حجر الكندي . فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبدالله البجلي فهدمه .
قال ابن إسحاق : وكانت فلس لطيىء ومن يليها بجبلَيْ طيىء ، يعني سلمى وأجأ .قال ابن هشام : فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليها علي بن أبي طالب فهدمها ، فوجد فيها سيفين ، يقال لأحدهما : الرسوب ، وللآخر : المخذم . فأتى بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فوهبهما له ، فهما سيفا علي رضي الله عنه .
قال ابن إسحاق : وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له : رئام . قال ابن هشام : قد ذكرت حديثه فيما مضى . رضاء وسدنته وهدمه قال ابن إسحاق : وكانت رضاء بيتا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ، ولها يقول المستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد حين هدمها في الإسلام :
ولقد شددت على رضاء شدة |
|
فتركتها قفرا بقاع أسـحـمـا |
قال ابن هشام : قوله : فتركتها قفرا بقاع أسحما عن رجل من بني سعد . عُمُر المستوغر ويقال : إن المتسوغر عُمِّر ثلاثمائة سنة وثلاثين سنة ، وكان أطول مضر كلها عمرا ، وهو الذي يقول :
ولقد سئمت من الحياة وطولها |
|
وعمرت من عدد السنين مئينـا |
مائة حدتها بعدها مئتان لـي |
|
وازددت من عدد الشهور سنينـا |
هل ما بقي إلا كما قد فاتنـا |
|
يوم يمـر و لـيلة تـحـدونـا |
وبعض الناس يروي هذه الأبيات لزهير بن جناب الكلبي .
قال ابن إسحاق : وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب ابني وائل وإياد بسنداد ، وله يقول أعشى بني قيس بن ثعلبة :
بين الخورنق والسدير وبارق |
|
والبيت ذي الكعبات من سنـداد |
قال ابن هشام : وهذا البيت للأسود بن يعفر النهشلي . نهشل بن دارم بن مالك بن زيد مناة بن تميم ، في قصيدة له . وأنشدنيه أبو محرز خلف الأحمر :
أهل الخورنق والسدير وبارق |
|
والبيت ذي الشرفات من سنـداد |