الباب الثامن: ماسويه أبو يوحنا، يوحنا بن ماسويه، ميخائيل بن ماسويه

قال فثيون الترجمان إن ماسويه كان يعمل في دق الأدوية في بيمارستان جندي سابور، وهو لا يقرأ حرفاً واحداً بلسان من الألسنة، إلا أنه عرف الأمراض وعلاجها وصار بصيراً بانتقاء الأدوية، فأخذه جبرائيل بن يختيشوع فأحسن إليه، وعشق جارية لداود بن سرابيون، فابتاعها جبرائيل بثمانمائة درهم، ووهبها لماسويه ورزق منها ابنه يوحنا وأخاه ميخائيل، وقال إسحاق بن علي الرهاوي في كتاب أدب الطبيب عن عيسى بن ماسة إن ماسويه أبا يوحنا كان تلميذاً في بيمارستان جندي سابور ثلاثين سنة، فلما اتصل به محل جبرائيل من الرشيد، قال هذا أبو عيسى قد بلغ السها، ونحن في البيمارستان لا نتجاوزه، فبلغ ذلك جبرائيل، وكان البيمارستان إليه، فأمر بإخراجه منه، وقطع رزقه، فبقي منقطعاً به، فصار إلى مدينة السلام ليعتذر إلى جبرائيل ويخضع له، فلم يزل على بابه دهراً طويلاً، فلم يأذن له، فكان إذا ركب دعا له، واستعطفه فلا يكلمه، فلما ضاق به الأمر صار إلى دار الروم بالجانب الشرقي فقال للقس اكرز لي في البيعة لعله أن يقع لي شيء، فأنصرف إلى بلدي، فإن أبا عيسى ليس يرضى عني ولا يكلمني، فقال له القس أنت في البيمارستان منذ ثلاثين سنة، ولا تحسن شيئاً من الطب؟ فقال بلى، واللَّه، أطب وأكحل، وأعالج الجراحات، فأخرج له صندوقاً وأعطاه إياه ليداوي، وأجلسه بباب الحرم عند قصر الفضل ابن الربيع، وهو وزير الرشيد، فلم يزل هناك يكسب الشيء بعد الشيء حتى حسنت حاله، واشتكت عين خادم للفضل بن الربيع فنفذ إليه جبرائيل بكحالين فعالجوه بأصناف العلاج، فلم ينتفع به واشتد وجعه حتى عدم النوم، فلما اشتد أرقه وقلقه، خرج من القصر هائماً من الضجر والقلق، فرأى ماسويه فقال له يا شيخ ما تصنع هنا؟ إن كنت تحسن شيئاً فعالجني وإلا فقم من ههنا، فقال له يا سيدي أحسن وأجيد، فقال له ادخل معي حتى تعالجني، فدخل معه، وقلب جفنه وكحله، وسكب على رأسه وسعطه، فنام الخادم وهدأ، فلما أصبح أنفذ إلى ماسويه جونة فيها خبز سميد، وجدي ودجاجة وحلوى، ودنانير، ودراهم، وقاله له هذا لك في كل يوم، والدراهم والدنانير رزقك مني في كل شهر، فبكى ماسويه فرحاً، فتوهم الرسول أنه قد استقله فقال له لا تغتم فإنه يزيدك ويحسن إليك، فقال له يا سيدي رضيت منه بهذا أن يدرّه على الأيام، فلما رجع عرّف الخادم ما كان منه، فعجب منه وبرئ الخادم على يديه، ولم يمض إلا أيام يسيرة حتى اشتكت عين الفضل، فنفذ إليه جبرائيل الكحالين، فلم يزالوا يعالجونه فلم ينتفع بهم، فأدخل الخادم ماسويه إليه ليلاً، فلم يزل يكحله إلى ثلث الليل، ثم سقاه دواء مسهلاً فصلح به، ثم حضر جبرائيل فقال له الفضل يا أبا عيسى، إن هاهنا رجلاً يقال له ماسويه، من أفره الناس وأعرفهم بالكحل، فقال له ومن هذا؟ لعله الذي يجلس بالباب؟ فقال له نعم، قال جبرائيل هذا كان أكاراً لي فلم يصلح للكروث فطردته، وقد صار الآن طبيباً وما عالج الطب قط فإن شئت فأحضره وأنا حاضر، وتوهم جبرائيل أنه يدخل ويقف بين يديه ويتذلل له، فأمر الفضل بإحضاره، فدخل وسلم وجلس بحذاء جبرائيل، فقال له جبرائيل يا ماسويه أصرت طبيباً؟ فقال له لم أزل طبيباً، أنا أخدم البيمارستان منذ ثلاثين سنة، تقول لي هذا القول ففزع جبرائيل أن يزيد في المعنى، فبادر وانصرف في الحال وهو خجل، وأجرى الفضل على ماسويه في كل شهر ستمائة درهم وعلوفة دابتين، ونزل خمسة غلمان، وأمره أن يحمل عياله من جندي سابور، وأعطاه نفقة واسعة، فحمل عياله ويوحنا ابنه حينئذ وهو صبي، فما مضت إلا أيام حتى اشتكت عين الرشيد، فقال له الفضل يا أمير المؤمنين طبيبي ماسويه من أحذق الناس بالكحل، وشرح له قصته وما كان من أمر خادمه، وأمر نفسه، فأمر الرشيد بإحضاره، فأحضر ماسويه فقال له تحسن شيئاً من الطب سوى الكحل؟فقال نعم يا أمير المؤمنين، وكيف لا أحسن وأنا قد خدمت المرضى بالبيمارستان منذ ثلاثين سنة؟ فأدناه منه ونظر عينيه، فقال الحجام الساعة، فحجمه على ساقيه، وقطر في عينيه، فبرئ بعد يومين، فأمر بأن يجرى عليه ألفا درهم في الشهر، ومعونة في السنة عشرون ألف درهم، وعلوفة ونزل، وألزمه الخدم مع جبرائيل وسائر من كان في الخدمة من المتطببين، وصار نظيراً لجبرائيل، بل كان في ذلك الوقت يحضر بحضوره، ويصل بوصوله، ودونه في الرزق، لأن جبرائيل كان له في الشهر عشرة آلاف درهم ومعونة في السنة، مائة ألف درهم، وصلات دائمة وإقطاعات، ثم أنه اعتلت بانو أخت الرشيد، فلم يزل جبرائيل يعالجها بأنواع العلاج فلم تنتفع، فاغتم بها، فقال الرشيد ذات يوم قد كان ماسويه ذكر أنه خدم المرضى بالمارستان، وأنه يعالج الطبائع، فليدخل إلى عليلتنا لعل عنده فرجاً لها، فأحضر جبرائيل وماسويه، فقال له ماسويه عرفني حالها وجميع ما دبرتها به إلى وقتنا هذا، فلم يزل جبرائيل يصف له ما عالجها به، فقال ماسويه التدبير صالح، والعلاج مستقيم، ولكن أحتاج إلى أن أراها، فأمر الرشيد أن يدخلا إليها، فدخل وتأملها، وجس عروقها بحضرة الرشيد وخرجوا من عنده، وقال ماسويه للرشيد يا أمير المؤمنين، يكون لك طول العمر والبقاء، هذه تقضي بعد غد ما بين ثلاث ساعات إلى نصف الليل، فقال جبرائيل كذب يا أمير المؤمنين، إنها تبرأ وتعيش، فأمر الرشيد بحبس ماسويه ببعض دوره في القصر، وقال لأسبرنّ ما قاله وأنذرنا به، فما رأينا بعلم الشيخ بأساً، فلما حضر الوقت الذي حده ماسويه، توفيت، فلم يكن للرشيد همة بعد دفنها إلا أن أحضر ماسويه، فسأله وأعجب بكلامه، وكان أعجمي اللسان، ولكنه كان بصيراً بالعلاج، كثير التجارب، فصيره نظيراً لجبرائيل في الرزق والنزل والعلوفة والمرتبة، وعني بابنه يوحنا ووسع النفقة عليه، فبلغ المرتبة المشهورة، قال يوسف بن إبراهيم عدت جبرائيل بن بختيشوع بالعلث في سنة خمس عشرة ومائتين، وقد كان خرج مع المأمون في تلك السنة، حتى نزل المأمون في دير النساء، فوجدت عنده يوحنا بن ماسويه وهو يناظره في علته، وجبرائيل يستحسن استماعه وإجابته ووصفه، فدعا جبرائيل بتحويل سنته، وسألني النظر فيه، وإخباره بما يدل عليه الحساب، فنهض يوحنا عند ابتدائي بالنظر في التحويل، فلما خرج من الحراقة قال لي جبرائيل ليست بك حاجة إلى النظر في التحويل لأني أحفظ جميع قولك وقول غيرك في هذه السنة، وإنما أردت بدفعي التحويل إليك أن ينهض يوحنا فأسألك عن شيء بلغني عنه، وقد نهض، فأسألك بحق اللَّه، هل سمعت يوحنا قط يقول أنه أعلم من جالينوس بالطب؟ فحلفت له أني ما سمعته قط يدعي ذلك فما انقضى كلامنا حتى رأيت الحراقات تنحدر إلى مدينة السلام، فانحدر المأمون في ذلك اليوم، وكان يوم خميس، ووافينا مدينة السلام غداة يوم السبت، ودخل الناس كلهم إلى مدينة السلام خلا أبي العباس بن الرشيد فإنه أقام في الموضع المعروف بالقلائين من الجانب الغربي بمدينة السلام، وهو بإزاء دار الفضل بن يحيى بباب الشماسية، التي صار بعضها في خلافة المعتصم لأبي العباس بن الرشيد، فكنت وجماعة ممن يريد المصير إلى أبي العباس ممن منازلهم في قنطرة البردان ونهر المهدي لا نجشم أنفسنا المصير إلى الجسر ثم المصير إلى القلائين، لبعد الشقة، فنصير إلى قصر الفضل بن يحيى ونقف بإزاء مضرب أبي العباس. وكانت الزبيديات توافينا فتعبر بنا، فاجتمعت ويوحنا بن ماسويه عند أبي العباس بعد موافاة المأمون مدينة السلام بثلاثة أيام، وجمعتنا الزبيدية عند انصرافنا فسألني عن عهدي بجبرائيل، فأعلمته أني لم أره منذ اجتمعنا بالعلث، ثم قلت له قد شنعت عنده، فقال، بماذا؟ فقلت له بلغه أنك تقول أنا أعلم من جالينوس، فقال على من ادعى علي هذه الدعوة لعنة اللّه؛ واللّه ما صدق مؤدي هذا الخبر، ولا بر، فسرى ذلك من قوله ما كان في قلبي، وأعلمته أني أزيل عن قلب جبرائيل ما تأدى إليه من الخبر الأول، فقال لي افعل، نشدتك اللّه، وقرر عنده ما أقول، وهو ما كنت أقوله فحرف عنده، فسألته عنه فقال إنما قلت لو أن بقراط وجالينوس عاشا إلى أن يسمعا قولي في الطب وصفاتي لسألا ربهما أن يبدلهما بجميع حواسهما من البصر والشم والذوق واللمس حساً سمعياً يضيفانه إلى ما معهما من حس السمع، ليسمعا حكمي ووصفي، فأسألك باللّه أما أديت هذا القول عني إليه، فاستعفيته من إلقاء هذا الخبر عنه فلم يعفني، فأديت إلى جبرائيل الخبر، وقد كان أصبح في ذلك اليوم مفرقاً من علته، فتداخله من الغيظ والضجر ما تخوفت عليه منه النكسة، وأقبل يدعو على نفسه ويقول هذا جزاء من وضع الصنيعة في غير موضعها؛ وهذا جزاء من اصطنع السفل، وأدخل في مثل هذه الصناعة الشريفة من ليس من أهلها، ثم قال هل عرفت السبب في يوحنا وأبيه؟ فأخبرته أني لا أعرفهما، فقال لي إن الرشيد أمرني باتخاذ بيمارستان، وأحضرت دهشتك، رئيس بيمارستان جندي سابور، لتقليده البيمارستان الذي أمرت باتخاذه، فامتنع من ذلك، وذكر أن السلطان ليست له عليه أرزاق جارية، وإنه إنما يقول بيمارستان جندي سابور وميخائيل ابن أخيه حسبة، وتحمل علي بطيمانيوس الجاثليق في إعفائه وابن أخيه فأعفيتهما، فقال لي أما إذ قد أعفيتني فإني أهدي إليك هدية ذات قدر يحسن بك قبولها، وتكثر منفعتها لك في هذا البيمارستان، فسألته عن الهدية، فقال لي إن صبياً كان ممن يدق الأدوية عندنا ممن لا يعرف له أب ولا قرابة، أقام في البيمارستان أربعين سنة، وقد بلغ الخمسين سنة أو جاوزها، وهو لا يقرأ حرفاً واحداً بلسان من الألسنة، إلا أنه قد عرف الأدواء داء داء، وما يعالج به كل داء، وهو أعلم خلق اللّه بانتقاء الأدوية، واختيار جيدها، ونفي رديها، فأنا أهديه لك فاضممه إلى من أحببت من تلامذتك، ثم قلد تلميذك البيمارستان فإن أموره تخرج على أحسن من مخرجها لو قلدتني هذا البيمارستان، فأعلمته أني قد قبلت الهدية، وانصرف دهشتك إلى بلده، وأنفذ إلي الرجل، فأدخل علي في زي الرهبان، وكشفته فوجدته على ما حكى لي عنه، وسألته عن اسمه، فأخبرني أن اسمه ماسويه، وكنت في خدمة الرشيد وداؤد بن سرابيون مع أم جعفر، وكان المنزل الذي ينزله ماسويه يبعد من منزلي ويقرب من منزل داؤد بن سرابيون، وكان في داؤد دعابة وبطالة،وكان في ماسويه ضعف من ضعف السفل فيستطيبه كل بطال، فما مضى بماسويه إلا يسير حتى صار إلي وقد غير زيه، ولبس الثياب البيض، فسألته عن خبره، فأعلمني أنه قد عشق جارية لداؤد بن سرابيون صقلبية يقال لها رسالة، وسألني ابتياعها له، فابتعتها له بثمانمائة درهم ووهبتها له، فأولدها يوحنا وأخاه، ثم رعيت لماسويه ابتياعي له رسالة وطلبه منها النسل، وصيرت وُلْدَه كأنهم ولدُ قرابة لي، وعنيت برفع أقدارهم وتقديمهم على أبناء أشراف أهل هذه المهنة وعلمائهم، ثم رتبت ليوحنا، وهو غلام، المرتبة الشريفة ووليته البيمارستان وجعلته رئيس تلامذتي، فكانت مثوبتي منه هذه الدعوى التي لا يسمع بها أحد إلا قذف من خرَّجه، ونوّه باسمه وأطلق لسانه بمثل ما أطلقه به، ولمثل ما خرج إليه هذه السفلة، كانت الأعاجم تمنع جميع الناس عن الانتقال عن صناعات آبائهم، وتحظِّر ذلك غاية الحظر واللّه المستعان.

يوحنا بن ماسويه

كان طبيباً ذكياً فاضلاً خبيراً بصناعة الطب، وله كلام حسن وتصانيف مشهورة وكان مبجلاً حظياً عند الخلفاء والملوك، قال إسحاق بن علي الرهاوي في كتاب أدب الطبيب عن عيسى بن ماسه الطبيب، قال أخبرني أبو زكريا يوحنا بن ماسويه أنه اكتسب من صناعة الطب ألف ألف درهم، وعاش بعد قوله هذا ثلاث سنين أخر، وكان الواثق مشغوفاً ضنيناً به، فشرب يوماً عنده فسقاه الساقي شراباً غير صاف ولا لذيذ، على ما جرت به العادة، وهذا من عادة السقاة إذا قصر في برهم، فلما شرب القدح الأول قال يا أمير المؤمنين، أما المذاقات فقد عرفتها واعتدتها، ومذاقة هذا الشراب فخارجة عن طبع المذاقات كلها، فوجد أمير المؤمنين على السقاة وقال يسقون أطبائي، وفي مجلسي، مثل هذا الشراب وأمر ليوحنا، بهذا السبب، وفي ذلك الوقت، بمائة ألف درهم ودعا بسمانة الخادم، فقال له احمل إليه المال الساعة، فلما كان وقت العصر سأل سمانة هل حمل مال الطبيب أم لا؟ فقال لا، بعد، فقال يحمل إليه مائتا ألف درهم الساعة، فلما صلوا العشاء سأل عن حمل المال فقيل له لم يحمل بعد، فدعا بسمانة وقال احمل إليه ثلاثمائة ألف درهم، فقال سمانة لخازن بيت المال، احملوا مال يوحنا وإلا لم يبق في بيت المال شيء، فحمل إليه من ساعته، وقال سليمان بن حسان كان يوحنا بن ماسويه مسيحي المذهب سريانياً، قلده الرشيد ترجمة الكتب القديمة مما وجد بأنقره وعمورية وسائر بلاد الروم حين سباها المسلمون، ووضعه أميناً على الترجمة، وخدم هارون والأمين والمأمون، وبقي على ذلك إلى أيام المتوكل، قال وكانت ملوك بني هاشم لا يتناولون شيئاً من أطعمتهم إلا بحضرته، وكان يقف على رؤوسهم ومعه البراني بالجوارشنات الهاضمة المسخنة الطابخة المقوية للحرارة الغريزية في الشتاء، وفي الصيف بالأشربة الباردة والجوارشنات، وقال ابن النديم البغدادي الكاتب إن يوحنا بن ماسويه خدم بصناعة الطب المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل. وقال يوسف بن إبراهيم كان مجلس يوحنا بن ماسويه أعمر مجلس كنت أراه بمدينة السلام لمتطبب أو متكلم أو متفلسف، لأنه كان يجتمع فيه كل صنف من أصناف أهل الأدب، وكان في يوحنا دعابة شديدة، يحضر بعض من يحضر من أجلها، وكان من ضيق الصدر، وشدة الحدة، على أكثر ما كان عليه جبرائيل بن بختيشوع، وكانت الحدة تخرج منه ألفاظاً مضحكة، وكان أطيب ما يكون مجلسه في وقت نظره في قوارير الماء، وكنت وابن حمدون بن عبد الصمد بن علي الملقب بأبي العيرطرد، وإسحاق بن إبراهيم بن محمد بن إسماعيل الملقب ببيض البغل، قد توكلنا به بحفظ نوادره وأظهرت له التلمذة في قراءة كتب المنطق عليه، وأظهرا له التلمذة بقراءتهما كتب جالينوس في الطب عليه، قال يوسف فمما حفظت من نوادره في وقت نظره أن امرأة أتته فقالت له إن فلانة وفلانة وفلانة يَقْرأن عليك السلام، فقال لها أنا بأسماء أهل قسطنطينية وعمورية أعلم مني بأسماء هؤلاء الذين سميتهن، فأظهري بولك حتى أنظر لك فيه، قال يوسف وحفظت عليه أن رجلاً شكى إليه علة كان شفاؤه منها الفصد، فأشار به عليه، فقال لم أعتد الفصد، فقال له ولا أحسب أحداً اعتاده في بطن أمه، وكذلك لم تعتد العلة قبل أن تعتل، وقد حدثت بك فاختر ما شئت من الصبر على ما أحدثت لك الطبيعة من العلة أو اعتياد الفصد لتسلم منها، قال يوسف وشكى إليه رجل بحضرتي جرباً قد أضر به فأمرهبفصد الأكحل من يده اليمنى، فأعلمه أنه قد فعل، فأمر بفصد الأكحل أيضاً من يده اليسرى، فذكر أنه قد فعل، فأمره بشرب المطبوخ، فقال قد فعلت فأمره بشرب الأصمخيقون، فأعلمه أنه قد فعل، فأمره بشرب ماء الجبن أسبوعاً، وشرب مخيض البقر أسبوعين، فأعلمه أنه قد فعل، فقال له لم يبق شيء مما أمر به المتطببون إلا وقد ذكرت أنك فعلته، وبقي شيء مما لم يذكره بقراط ولا جالينوس، وقد رأيناه يعمل على التجربة كثيراً، فاستعمله فإني أرجو أن ينجح علاجك إن شاء اللّه، فسأله ما هو؟ فقال ابتع زوجي قراطيس، وقطعهما رقاعاً صغاراً، واكتب في كل رقعه رحم اللّه من دعا لمبتلى بالعافية وألق نصفها في المسجد الشرقي بمدينة السلام، والنصف الآخر في المسجد الغربي، وفرقها في المجالس يوم الجمعة، فإني أرجو أن ينفعك اللَّه بالدعاء، إذ لم ينفعك العلاج، قال يوسف وصار إليه، وأنا حاضر، قسيس الكنيسة التي يتقرب فيها يوحنا وقال له قد فسدت علي معدتي، فقال له استعمل جوارشن الخوزبي، فقال قد فعلت، فقال له يوحنا فاستعمل السقمونيا، قال قد أكلت منه أرطالاً فأمره باستعمال المقداذيقون، فقال قد شربت منه جرة، قال له فاستعمل المروسيا، فقال قد فعلت وأكثرت، فغضب وقال له إن أردت أن تبرأ فأسلم فإن الإسلام يصلح المعدة. قال يوسف واشتدت على يوحنا علة كان فيها حتى يئس منه أهله، ومن عادة النصارى إحضار من يئس منه أهله جماعة من الرهبان والقسيسين والشمامسة يقرؤون حوله، ففعل مثل ذلك بيوحنا، فأفرق والرهبان حوله يقرؤون، فقال لهم يا أولاد الفسق ما تصنعون في بيتي؟ فقالوا له كنا ندعو ربنا في التفضل عليك بالعافية، فقال لهم يوحنا قرص ورد أفضل من صلوات جميع أهل النصرانية منذ كانت إلى يوم القيامة، اخرجوا من منزلي فخرجوا، قال يوسف وشكى، بحضرتي، إلى يوحنا رجل من التجار جرباً به في أيام الشتاء فقال ليست هذه من أيام علاج ما تجد، وإنما علاج دائك هذا في أيام الربيع؛ فتنكب أكل المعفنات كلها، وطري السمك ومالحه صغار ذلك وكباره، وكل حريق من الأبزار والبقول، وما يخرج من الضرع، فقال له الرجل هذه أشياء لست أعطى صبراً على تركها، فقال له يوحنا فإن كان الأمر على ما ذكرت فأدمن أكلها وحك بدنك، فلو نزل المسيح لك خاصة لما انتفعت بدعائه، لما تصف به نفسك من الشره، قال يوسف وعاتبه النصارى على اتخاذ الجواري وقالوا له خالفت ديننا وأنت شماس، فإما إن كنت على سنتنا واقتصرت على امرأة واحدة وكنت شماساً لنا؛ وإما أخرجت نفسك من الشماسية واتخذت ما بدا لك من الجواري فقال إنما أمرنا في موضع واحد أن لا نتخذ امرأتين ولا ثوبين، فمن جعل الجاثليق العاض بظر أمه أولى أن يتخذ عشرين ثوباً من يوحنا الشقي في اتخاذ أربع جوار، فقولوا لجاثليقكم أن يلزم قانون دينه، حتى نلزمه معه، وإن خالفه خالفناه، قال يوسف وكان بختيشوع بن جبرائيل يداعب يوحنا كثيراً، فقال له يوماً في مجلس أبي إسحاق، ونحن في عسكر المعتصم بالمدائن، في سنة عشرين ومائتين أنت يا أبا زكريا أخي لأبي فقال يوحنا لأبي إسحاق اشهد أيها الأمير على إقراره فواللّه لأقاسمنه ميراثه من أبيه، فقال له بختيشوع إن أولاد الزنا لا يرثون ولا يورثون وقد حكم دين الإسلام للعاهر بالحجر، فانقطع يوحنا ولم يحر جواباً، قال يوسف وكانت دار الطيفوري في دار الروم من الجانب الشرقي بمدينة السلام لصيقة دار يوحنا بن ماسويه، وكان للطيفوري ابن قد علم الطب علماً حسناً يقال له دانيل، ثم ترهب بعد ذلك؛ فكان يدخل مدينة السلام عند تأدي الخبر إليه بعلة والده أو ما أشبه ذلك، وكان ليوحنا طاووس كان يقف على الحائط الذي فيما بين داره ودار الطيفوري، فقدم دانيل مدينة السلام ليلاً في الشهر المعروف بآب، وهو شهر شديد الحر كثير الرمد، فكان الطاووس كلما اشتد عليه الحر صاح فأنبه دانيل، وهو في ثياب صوف من ثياب الرهبان، فطرده مرات فلم ينفع ذلك فيه، ثم رفع مرزبته فضرب بها رأس الطاووس فوقع ميتاً، واستتر الخبر عن يوحنا إلى أن ركب ورجع، فصادف عند منصرفه طاووسه ميتاً على باب داره، فأقبل يقذف بالحدود من قتله، فخرج إليه دانيل فقال لا تشتمن من قتله، فإني أنا قتلته، ولك علي مكانه عدة طواويس، فقال له يوحنا بحضرتي ليس يعجبني راهب له سنام وطول ذكر، إلا أنه قال ذلك بفحش، فقال له دانيل وكذلك ليس يعجبني شماس له عدة نساء، واسم رئيسة نسائه قراطيس - وهو اسم رومي لا عربي، ومعنى قراطيس عند الروم القرنانة، وليس تكون المرأة قرنانة حتى تنكح غير بعلها - فخجل يوحنا ودخل منزله مفعولاً. قال يوسف وحدثني بمصر أحمد بن هارون الشرابي إن المتوكل على اللّه حدثه في خلافة الواثق أن يوحنا بن ماسويه كان مع الواثق على دكان كان للواثق في دجلة، ومع الواثق قصبة فيها شص وقد ألقاها في دجلة ليصيد بها السمك، فحرم الصيد، فالتفت إلى يوحنا وكان على يمينه، فقال قم يا مشؤوم عن يميني، فقال له يوحنا يا أمير المؤمنين، لا تتكلم بمحال، يوحنا بن ماسويه الخوزي وأمه رسالة الصقلبية المبتاعة بثمانمائة درهم أقبلت به السعادة إلى أن صار نديم الخلفاء وسميرهم وعشيرهم، وحتى غمرته الدنيا فنال منها ما لم يبلغه أمله، فمن أعظم محال أن يكون هذا مشؤوماً، ولكن، إن أحب أمير المؤمنين أن أخبره بالمشؤوم من هو، أخبرته، فقال ومن هو؟ فقال من ولدته أربع خلفاء ثم ساق اللّه إليه الخلافة، فترك خلافته وقصورها وبساتينها وقعد في دكان مقدار عشرين ذراعاً في مثلها في وسط دجلة، لا يأمن عصف الريح عليه فيغرقه، ثم تشبه بأفقر قوم في الدنيا وشرهم، وهم صيادو السمك، قال لي أحمد بن هارون قال لي المتوكل فرأيت الكلام قد أنجع فيه إلا أنه أمسك لمكاني، قال يوسف وحدثني أحمد بن هارون أن الواثق قال في هذا ليوحنا وهو على هذه الدكان يا يوحنا ألا أعجبك من خلة؟ قال وما هي؟ قال إن الصياد ليطلب السمك مقدار ساعة، فيصيد من السمكة ما تساوي الدينار أو ما أشبه ذلك، وأنا أقعد مذ غدوة إلى الليل فلا أصيد ما يساوي درهماً، فقال له يوحنا وَضَع أمير المؤمنين التعجب في غير موضعه، إن رزق الصياد من صيد السمك، فرزقه يأتيه لأنه قوته وقوت عياله؛ ورزق أمير المؤمنين بالخلافة فهو غني عن أن يرزق بشيء من السمك، ولو كان رزقه جعل في الصيد لوافاه رزقه منه مثل ما يوافي الصياد، قال يوسف وحدثني إبراهيم بن علي متطبب أحمد بن طولون، أنه كان في دهليز يوحنا بن ماسويه ينتظر رجوع يوحنا من دار السلطان، فانصرف وقد أسلم في ذلك الوقت عيسى بن إبراهيم بن نوح بن أبي نوح كاتب الفتح بن خاقان، قال إبراهيم فقمت إليه وجماعة من الرهبان، فقال لنا اخرجوا يا أولاد الزنا من داري واذهبوا أسلموا فقد أسلم المسيح الساعة على يد المتوكل. قال يوسف وقدم جرجة بن زكريا، عظيم النوبة، في شهر رمضان سنة إحدى وعشرين ومائتين إلى سر من رأى، وأهدى إلى المعتصم هدايا فيها قردة، فإني عند يوحنا في اليوم الثاني من شوال من هذه السنة، وأنا أعاتبه على تخلفه عن حضور الدار، في ذلك الوقت، لأني رأيت سلمويه وبختيشوع والجريش المتطببين، وقد وصلوا، إذ دخل علينا غلام من الأتراك الخاصة ومعه قرد من القرود التي أهداها ملك النوبة لا أذكر أني رأيت أكبر منه جثة وقال له يقول لك أمير المؤمنين زوج هذا القرد من حماحم قردتك وكان ليوحنا قردة يسميها حماحم، كان لا يصبر عنها ساعة، فوجم لذلك ثم قال للرسول قل لأمير المؤمنين اتخاذي لهذه القردة غير ما توهمه أمير المؤمنين، وإنما دبرت تشريحها ووضع كتاب على ما وضع جالينوس في التشريح يكون جمال وضعي إياه لأمير المؤمنين، وكان في جسمها قلة تكون العروق فيها، والأوراد والعصب دقاقاً، فلم أطمع في اتضاح الأمر فيها مثل اتضاحه فيما عظم جسمه، فتركتها لتكبر ويغلظ جسمها، فأما إذ قد وافى هذا القرد فسيعلم أمير المؤمنين أني سأضع له كتاباً لم يوضع في الإسلام مثله، ثم فعل ذلك بالقرد فظهر له منه كتاب حسن استحسنه أعداؤه فضلاً عن أصدقائه، قال يوسف ودخل يوحنا على محمد بن أبي أيوب بن الرشيد، وكانت به حمى مثلثة، وهي التي تأخذ غباً، فنظر إلى مائه وجس عرقه وسأله عن خبره، كيف كان في أمسه ومبيته وصباحه، إلى أن وافاه، فأخبره بذلك فقال يوحنا حُمَّاك هذه من أسهل الحميات ما لم يخلط صاحبها، لأن أقصى حقها سبعة أدوار وأكثر ذلك يترك في الدور الرابع، وإن خلط فيها العليل انتقلت فربما تطاولت به العلة، وربما تلفت نفسه، فقال ابن أبي أيوب قف بي على ما رأيت، فإني لا أخالفك، فأمره أن يقتصر على لباب الخبز المغسول بالماء الحار ثلاث غسلات، ثم يأكل اللباب إن كانت شهوته للطعام ضعيفة، وعلى المزوَّرات من الطعام مثل الماس والقرع والسرمق والخيار وما أشبه ذلك إن كانت شهوته قوية؛ وأن يرفع يده عن الطعام وهو يشتهيه، فقال له محمد فهذا ما أمرت بأكله فدلني على ما لا آكل، فقال له أول ما أنهاك عن أكله، فيوحنا بن ماسويه ثم بغلة الجاثليق، فإن حقه على أهل النصرانية واجب؛ ثم الزنبريتان وهما السفينتان اللتان في الجسر في الجانب الشرقي، فإن الجسر لا يصلح إلا بهما، ثم نهض مغضباً وهو يدعو علي لأني كنت السبب في مصيره إلى محمد بن أبي أيوب، قال يوسف واعتل محمد بن سليمان بن الهادي المعروف بابن مشغوف علة تطاولت به، وكان أبو العباس بن الرشيد يلزم يوحنا تعاهده، وكان محمد بن سليمان ربما يزيد في الحديث أشياء لا يخيل باطلها على سامعها، فدخل إليه يوماً وأنا عنده، فاستشاره فيما يأخذ، فقال يوحنا قد كنت أشير عليك بما تأخذ في كل يوم وأنا أحسبك تحب الصحة والعافية، فأما إذ صح عندي أنك تكره العافية وتحب العلة فلست استحل أن أشير عليك بشيء، فقال له ابن مشغوف يا جاهل من يكره العافية ويحب العلة؟ فقال له يوحنا أنت، والبرهان على ذلك أن العافية في العالم تشبه الحق والسقم يشبه الكذب، وأنت تتكلم أكثر دهرك بالكذب، فيكون كذبك مادة لسقمك فمتى تبرأ أنت من علة متطاولة، وأنت تمدها أكثر دهرك بالكذب الزائد فيها، فالزم الصدق ثلاثة أيام ولا تكذب فيها، فيوحنا بريء من المسيح، إن لم تخرج من هذه العلة قبل انقضاء هذه الثلاثة أيام، قال يوسف بن إبراهيم، وكان ليوحنا بن ماسويه ابن يقال له ماسويه أمه بنت الطيفوري جد إسرائيل متطبب الفتح بن خاقان، وكان ماسويه هذا أشبه خلق اللّه بأبيه في خلقه ولفظه وحركاته، إلا أنه كان بليداً لا يكاد يفهم شيئاً إلا بعد مدة طويلة، ثم ينسى ذلك في أسرع من اللحظ، فكان يوحنا يظهر محبة ابنه تقيَّة من ألسنة الطيفوري وولده، وكان أشد بغضاً له منه أسهل الكوسج الذي هتكه بادعائه أنه وضعه في فرج أمه. قال يوسف واعتل في أول سنة سبع عشرة ومائتين صالح بن شيخ بن عميرة بن حيان بن سراقة الأسدي علة أشرف منها، فأتيته عائداً، فوجدته قد أفرق بعض الإفراق، فدارت بيننا أحاديث كان منها أن عميرة جده أصيب بأخ له من أبويه، ولم يخلف ولداً، فعظمت عليه المصيبة، ثم ظهر حبَل بجارية كانت له بعد وفاته فسري عنه بعض ما دخله من الغم وحولها إلى بيته، وقدمها على حرم نفسه، فوضعت ابنة فتبنى بها وقدمها على ذكور ولده وإناثهم، فلما ترعرعت رغب لها في كفء يزوجها منه، فكان لا يخطبها إليه خاطب إلا فرّغ نفسه للتفتيش عن حسبه والتفتيش عن أخلاقه، فكان بعض من نزع إليه خاطباً لها ابن عم لخالد بن صفوان بن الأهتم التميمي، وكان عميرة عارفاً بوجه الفتى وبنسبه، فقال يا بني أما نسبك فلست أحتاج إلى التفتيش عنه، وإنك لكفء لابنة أخي من جهة الشرف، ولكنه لا سبيل إلى عقد عقدة النكاح على ابنتي دون معرفتي بأخلاق من أعقد العقدة له، فإن سهل عليك المقام عندي وفي داري سنة أكشف فيها أخلاقك كما أكشف أحساب وأخلاق غيرك، فأقم في الرحب والسعة؛ وإن لم يسهل ذلك عليك فانصرف إلى أهلك فقد أمرنا بتجهيزك وحمل جميع ما تحتاج إليه معك إلى موافاتك بصرتك، قال صالح بن شيخ حدثني أبي عن جدي أنه كان لا يبيت ليلة إلا أتاه عن ذلك الرجل أخلاق متناقضة، فواصف له بأحسن الأمور، وواصف له بأسمجها، فاضطره تناقض أخباره إلى التكذيب بكلها، وأن يترك الأمر على أن مادحه مايله، وأن عائبه تحامل عليه، فكتب إلى خالد أما بعد فإن فلاناً قدم علينا خاطباً لابنة أخيك فلانة بنت فلان، فإن كانت أخلاقه تشاكل حسبه ففيه الرغبة لزوجته، والحظ لولي عقد نكاحه، فإن رأيت علي بما ترى العمل به في ابن عمك وابنة أخيك، فإن المستشار مؤتمن فعلت إن شاء اللَّه، فكتب إليه خالد قد فهمت كتابك وكان أبو ابن عمي هذا أحسن أهلي خلقاً وأسمجهم خلقاً، وأحسنهم عمن أساء به صفحاً، وأسخاهم كفاً، إلا أنه مبتل بالعهار وسماجة الخلق، وكانت أمه من أحسن خلق اللَّه وجهاً، وأعفهم فرجاً؛ إلا أنها من سوء الخلق والبخل وقلة العقل على ما لا أعرف أحداً على مثله، وابن عمي هذا، فقد تقبل من أبويه مساويهما، ولم يتقبل شيئاً من محاسنهما، فإن رغبت في تزويجه على ما شرحت لك من خبره فأنت وذاك، وإن كرهته رجوت أن يخير اللّه لابنة أخينا إن شاء اللّه، قال صالح فلما قرأ جدي الكتاب أمر بإعداد طعام للرجل، فلما أدرك حمله على ناقة مهرية ووكل به من أخرجه من الكوفة، فأعجبني هذا الحديث وحفظته، وكان اختياري، في منصرفي من عند صالح بن شيخ، على دار هارون بن سليمان بن المنصور فدخلت عليه مسلماً وصادفت عنده ابن ماسويه، فسألني هارون عن خبري وعمن لقيت، فحدثته بما كان عند صالح بن شيخ، فقال لقد كنت في معادن الأحاديث الطيبة الحسان، وسألني هل حفظت عنه حديثاً؟ فحدثته بهذا الحديث، فقال يوحنا عليه وعليه إن لم يكن شبه هذا الحديث بحديثي وحديث ابني أكثر من شبه ابني بي، بليت بطول الوجه وارتفاع قحف الرأس وعرض الجبن، وزرقة العين؛ ورزقت ذكاء وحفظاً لكل ما يدور في مسامعي، وكانت بنت الطيفوري أحسن أنثى رأيتها أو سمعت بها إلا أنها كانت ورهاء بلهاء، لا تعقل ما تقول، ولا تفهم ما يقال لها، فتقبل ابنها مسامجنا جميعاً، ولم يرزق من محاسننا شيئاً، ولولا كثرة فضول السلطان ودخوله فيما لا يعنيه لشرّحت ابني هذا حياً، مثل ما كان جالينوس يشرح القرود والناس، فكنت أعرف بتشريحه الأسباب التي كانت لها بلادته، وأريح الناس من خلقته، وأكسب أهلها بما أضع في كتابي في صفة تركيب بدنه، ومجاري عروقه وأوراده وعصبه علماً ولكن السلطان يمنع من ذلك. وكأني بأبي الحسين يوسف قد حدث الطيفوري وولده بهذا الحديث، فألقى لنا شرا ومنازعات ليضحك مما يقع بيننا، فكان الأمر على ما توهم، واعتل ماسويه بن يوحنا بعد هذا بليال قلائل، وقد ورد رسول المعتصم من دمشق أيام كان بها مع المأمون في إشخاص يوحنا إليه، فرأى يوحنا فصده ورأى الطيفوري وابناه زكريا ودانيل خلاف ما رأى يوحنا، ففصده يوحنا وخرج في اليوم الثاني إلى الشام، ومات ماسويه في اليوم الثالث من مخرجه، فكان الطيفوري وولده يحلفون في جنازته أن يوحنا تعمد قتله، ويحتجون بما حدثتهم به من كلامه الذي كان في منزل هارون بن سليمان، ونقلت من كتاب الهدايا والتحف لأبي بكر وأبي عثمان الخالديين قالا حدثنا أبو يحيى، قال افتصد المتوكل فقال لخاصته وندمائه اهدوا إلي يوم فصدي، فاحتفل كل واحد منهم في هديته، وأهدى إليه الفتح بن خاقان جارية لم ير الراؤون مثلها حسناً وظرفاً وكمالاً؛ فدخلت إليه ومعها جام ذهب في نهاية الحسن، ودن بلور لم ير مثله فيه شراب يتجاوز الصفات، ورقعة فيها مكتوب:

إذا خرج الإمام من الدواء

 

وأعقب بالسلامة والشفاء

فليس له دواء غير شرب

 

بهذا الجام من هذا الطلاء

وفض الخاتم المهدى إليه

 

فهذا صالح بعـد الـدواء

واستظرف المتوكل ذلك واستحسنه، وكان بحضرته يوحنا بن ماسويه، فقال يا أمير المؤمنين، الفتح، واللّه، أطب مني فلا تخالف ما أشار به، أقول ومن نوادر يوحنا بن ماسويه أن المتوكل على اللَّه قال له يوماً بعت بيتي بقصرين، فقال له أخر الغداء يا أمير المؤمنين - أرادالمتوكل تعشيت فضرني لأنه تصحيفها، فأجابه ابن ماسويه بما تضمن العلاج، وعتب ابن حمدون النديم ابن ماسويه بحضرة المتوكل، فقال له ابن ماسويه لو أن مكان ما فيك من الجهل عقلاً، ثم قسم على مائة خنفساء لكانت كل واحدة منهن أعقل من أرسطوطاليس، ووجدت في كتاب جراب الدولة قال دخل ابن ماسويه المتطبب إلى المتوكل، فقال المتوكل لخادم له خذ بول فلان في قارورة وائتِ به إلى ابن ماسويه، فأتى به فلما نظر إليه، قال هذا بول بغل لا محالة، فقال له المتوكل كيف علمت أنه بول بغل؟ قال ابن ماسويه أحضرني صاحبه حتى أراه، ويتبين كذبي من صدقي، فقال المتوكل هاتوا الغلام، فلما مثل بين يديه قال له ابن ماسويه أيش أكلت البارحة قال خبز شعير، وماء قراح فقال ابن ماسويه هذا واللَّه طعام حماري اليوم، ونقلت من خط المختار بن الحسن بن بطلان أن أبا عثمان الجاحظ ويوحنا بن ماسويه قال اجتمعا، بغالب ظني، على مائدة إسماعيل بن بلبل الوزير، وكان في جملة ما قدم مضيرة بعد سمك، فامتنع يوحنا من الجمع بينهما، قال له أبو عثمان أيها الشيخ لا يخلو أن يكون السمك من طبع اللبن أو مضاداً له، فإن كان أحدهما ضد الآخر فهو دواء له، وإن كانا من طبع واحد فلنحسب أنا قد أكلنا من أحدهما إلى أن اكتفينا، فقال يوحنا واللَّه مالي خبرة بالكلام، ولكن كل يا أبا عثمان، وانظر ما يكون في غد، فأكل أبو عثمان نصرة لدعواه، ففلج في ليلته، فقال هذه واللّه نتيجة القياس المحال، والذي ضلل أبا عثمان اعتقاده أن السمك من طبع اللبن، ولو سامحناه في أنهما من طبع واحد لكان لامتزاجهما قوة ليست لأحدهما، وقال الشيخ أحمد بن علي ثابت الخطيب البغدادي عن الحسين بن فهم قال قدم علينا محمد بن سلام صاحب طبقات الشعراء وهو الجمحي سنة اثنتين وعشرين ومائتين، فاعتل علة شديدة، فما تخلف عنه أحد، وأهدى إليه أجلاء أطبائهم، فكان ابن ماسويه ممن أهدى إليه، فلما جسَّه ونظر إليه، وقال ما أرى من العلة ما أرى من الجزع، فقال واللَّه ما ذاك لحرص على الدنيا مع اثنتين وثمانين سنة، ولكن الإنسان في غفلة حتى يوقظ بعلة، ولو وقفت بعرفات وقفة، وزرت قبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زورة، وقضيت أشياء في نفسي، لرأيت ما اشتد علي من هذا قد سهل، فقال له ابن ماسويه فلا تجزع فقد رأيت في عرقك من الحرارة الغريزية وقوتها ما إن سلمك اللّه من هذه العوارض، بلغك عشر سنين أخرى، قال الحسين بن فهم فوافق كلامه قدراً فعاش عشر سنين بعد ذلك، وحدث الصولي في كتاب الأوراق قال كان المأمون نازلاً على البدندون - نهر من أعمال طرسوس - فجلس يوماً وأخوه المعتصم عليه، وجعلا أرجلهما فيه استبراداً له، وكان أبرد الماء وأرقه وألذه، فقال المأمون للمعتصم أحببت الساعة من أزاذ العراق آكله وأشرب من هذا الماء البارد عليه، وسمع صوت حلقة البريد وأجراسه، فقيل هذا يزيد بن مقبل بريد العراق، فأحضر طبقاً من فضة فيه رطب أزاذ فعجب من تمنيه وما تم له، فأكلا وشربا من الماء ونهضا وتودع المأمون وأقال، ثم نهض محموماً وفصد فظهرت في رقبته نفخة كانت تعتاده ويراعيها الطبيب إلى أن تنضج وتفتح وتبرأ، فقال المعتصم للطبيب، وهو ابن ماسويه، ما أطرف ما نحن فيه تكون الطبيب المفرد المتوحد في صناعتك، وهذه النفخة تعتاد أمير المؤمنين، فلا تزيلها عنه، وتتلطف في حسم مادتها حتى لا ترجع إليه واللّه لئن عادت هذه العلة عليه لأضربن عنقك، فاستطرق ابن ماسويه لقول المعتصم وانصرف، فحدّث به بعض من يثق به ويأنس إليه فقال له تدري ما قصد المعتصم؟قال لا، قال قد أمرك بقتله حتى لا تعود النفخة إليه، وإلا فهو يعلم أن الطبيب لا يقدر على دفع الأمراض عن الأجسام، وإنما قال لك لا تدعه يعيش ليعود المرض عليه، فتعالل ابن ماسويه وأمر تلميذاً له بمشاهدة النفخة والتردد إلى المأمون نيابة عنه، والتلميذ يجيئه كل يوم ويعرفه حال المأمون وما تجدد له، فأمره بفتح النفخة، فقال له أعيذك باللّه، ما احمرت ولا بلغت إلى حد الجرح، فقال له امض وافتحها كما أقول لك ولا تراجعني فمضى وفتحها ومات المأمون رحمه اللّه، أقول إنما فعل ابن ماسويه ذلك لكونه عديماً للمروءة والدين والأمانة، وكان على غير ملة الإسلام، ولا له تمسك بدينه أيضاً كما حكى عنه يوسف بن إبراهيم في أخباره المتقدمة، ومن ليس له دين يتمسك به ويعتقد فيه فالواجب أن لا يداينه عاقل ولا يركن إليه حازم، وكانت وفاة يوحنا بن ماسويه بسر من رأى يوم الاثنين لأربع خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين ومائتين في خلافة المتوكل، ومن كلام يوحنا بن ماسويه أنه سئل عن الخير الذي لا شر معه فقال شرب القليل من الشراب الصافي، ثم سئل عن الشر الذي لا خير معه فقال نكاح العجوز. وقال أكل التفاح يرد النفس، وقال عليك من الطعام بما حدث، ومن الشراب بما عتق، وليوحنا بن ماسويه من الكتب كتاب البرهان ثلاثون باباً، كتاب البصيرة، كتاب الكمال والتمام، كتاب الحميات مشجر، كتاب في الأغذية، كتاب في الأشربة، كتاب المنجح في الصفات والعلاجات كتاب في الفصد والحجامة، كتاب في الجذام لم يسبقه أحد إلى مثله، كتاب الجواهر، كتاب الرجحان كتاب في تركيب الأدوية المسهلة وإصلاحها وخاصة كل دواء منها ومنفعته، كتاب دفع مضار الأغذية، كتاب في غير ما شيء مما عجز عنه غيره، كتاب السر الكامل، كتاب في دخول الحمام، ومنافعها ومضرتها، كتاب السموم وعلاجها، كتاب الديباج، كتاب الأزمنة، كتاب الطبيخ، كتاب في الصداع وعلله وأوجاعه وجميع أدويته والسدد والعلل المولدة لكل نوع منه، وجميع علاجه، ألفه لعبد اللّه بن طاهر، كتاب الصدر والدوار، كتاب لم امتنع الأطباء من علاج الحوامل في بعض شهور حملهن، كتاب محنة الطبيب، كتاب معرفة محنة الكحالين، كتاب دخل العين، كتاب مجسة العروق، كتاب الصوت والبحة، كتاب ماء الشعير، كتاب المرة السوداء، كتاب علاج النساء اللواتي لا يحبلن حتى يحبلن، كتاب الجنين، كتاب تدبير الأصحاء، كتاب في السواك والسنونات، كتاب المعدة، كتاب القولنج، كتاب النوادر الطبية، كتاب التشريح، كتاب في ترتيب سقي الأدوية المسهلة بحسب الأزمنة وبحسب الأمزجة، وكيف ينبغي أن يسقى، ولمن ومتى وكيف يعان الدواء إذا احتبس، وكيف يمنع الإسهال إذا أفرط، كتاب تركيب خلق الإنسان وأجزائه وعدد أعضائه ومفاصله وعظامه وعروقه، ومعرفة أسباب الأوجاع، ألفه للمأمون، كتاب الأبدال فصول كتبها لحنين ابن إسحاق بعد أن سأله المذكور ذلك، كتاب الماليخوليا وأسبابها وعلاماتها وعلاجها، كتاب جامع الطب مما اجتمع عليه أطباء فارس والروم، كتاب الحيلة للبرء.

ميخائيل بن ماسويه

متطبب المأمون، وميخائيل هذا هو أخو يوحنا بن ماسويه، قال يوسف بن إبراهيم مولى إبراهيم بن المهدي كان هذا المتطبب لا يمتع بالحديث ولا يحتج في شيء يقوله بحجة، ولا يوافق أحداً من المتطببين على شيء أحدث من مائتي سنة، فلم يكن يستعمل السكنجبين والورد المربى إلا بالعسل؛ ولا يستعمل الجلاب المتخذ بماء الورد، ولا يتخذه إلا من الورد المسلوق بالماء الحار، ولا يتخذه بالسكر؛ ولا يستعمل شيئاً لم يستعمله الأوائل، ولقد سألته يوماً عن رأيه في الموز فقال لم أر له ذكراً في كتب الأوائل، وما كانت هذه حاله لم أقدم على أكله ولا على طعامه للناس، وكان المأمون به معجباً وله على جبرائيل بن بختيشوع مقدماً، حتى كان يدعوه بالكنية أكثر مما يدعوه بالاسم، وكان لا يشرب الأدوية إلا مما تولى تركيبه وإصلاحه له، وكنت أرى جميع المتطببين بمدينة السلام يبجلونه تبجيلاً لم يكونوا يظهرونه لغيره، قال يوسف وحضر في النصف من شوال سنة عشرين ومائتين دار إبراهيم بن المهدي مع جماعة من وجوه المتطببين، وكانت شكلة عليلة فوجه المعتصم المتطببين إليها ليرجعوا إليه بخبرها؛ وقد كانوا صاروا إليها قبل ذلك اليوم بيوم، فنظروا إلى مائها، وجسوا عرقها، وعاودوا النظر في اليوم الثاني في أمرها، فقالوا كلهم إنها أصبحت صالحة، وأنهم لا يشكون في إفراقها، فسبق إلى وهمي أنهم، أو أكثرهم، أحب أن يسر أبا إسحاق بما ذكروا من العافية، فلما نهضوا اتبعتهم فسألت واحداً واحداً عما عنده من العلم بحالها فكلهم قال لي مثل مقالته لأبي إسحاق، إلا سلمويه بن بنان فإنه قال لي هي اليوم أصعب حالاً منها أمس، وقال لي ميخائيل قد ظهر أمس بالقرب من قلبها ورم لم نره في يومنا هذا، افترى ذلك الورم ساخ في الأرض أو ارتفع إلى السماء؛ انصرف فأعد لهذه المرأة جهازها فليست تبيت في الأحياء فتوفيت وقت صلاة العشاء الآخرة بعد أن ألقى إلي ميخائيل ما ألقى ساعات عشراً أو نحوها، قال يوسف وحدثني ميخائيل بن ماسويه أنه لما قدم المأمون بغداد نادم طاهر بن الحسين، فقال له يوماً، وبين أيديهم نبيذ قطربلي يا أبا الطيب هل رأيت مثل هذا الشراب؟ قال نعم، قال مثله في اللون والطعم والرائحة؟ قال نعم، قال أين؟ قال ببوشنج، قال فاحمل إلينا منه، فكتب طاهر إلى وكيله فحمل منه، ورفع الخبر من النهروان إلى المأمون أن لطفاً وافى طاهراً من بوشنج، فعلم الخبر وتوقع حمل طاهر له فلم يفعل، فقال له المأمون بعد أيام يا أبا الطيب لم يواف النبيذ فيما وافى، فقال أعيذ أمير المؤمنين باللَّه من أن يقيمني مقام خزي وفضيحة، قال ولم؟ قال ذكرت لأمير المؤمنين شراباً شربته وأنا صعلوك وفي قرية كنت أتمنى أن أملكها، فلما ملكني اللّه يا أمير المؤمنين أكثر مما كنت أتمنى، وحضر ذلك الشراب وجدته فضيحة من الفضائح، قال فاحمل إلينا منه على كل حال، فحمل منه، فأمر أن يصير في الخزانة، ويكتب عليه الطاهري ليمازحه به من إفراط رداءته، فأقام سنتين، واحتاج المأمون إلى أن يتقيأ فقالوا يتقيأ بنبيذ رديء، فقال بعضهم لا يوجد في العراق أردأ من الطاهري وأخرج فوجد مثل القطربلي أو أجود، وإذا هواء العراق قد أصلحه كما يصلح ما نبت وعصر فيه.