الباب العاشر: طبقات الأطباء العراقيين وأطباء الجزيرة وديار بكر: ابن بختويه، المقبلي، النيلي، إسحاق بن علي الرهاوي، سعيد بن هبة الله، ابن جزلة، أبو الخطاب، ابن الواسطي، أبو طاهر بن البرخشي، ابن صفية

ابن بختويه

هو أبو الحسين عبد اللّه بن عيسى بن بختويه، كان طبيباً وخطيباً من أهل واسط لديه معرفة، وكلامه في صناعة الطب كلام مطلع على تصانيف القدماء، وله نظر فيها ودراية لها، وكان والده أيضاً طبيباً.ولأبي الحسين بن بختويه من الكتب كتاب المقدمات، ويعرف أيضاً بكنز الأطباء، ألفه لولده في سنة عشرين وأربعمائة، كتاب الزهد في الطب، كتاب القصد إلى معرفة الفصد.

أبو العلاء صاعد بن الحسن من الفضلاء في صناعة الطب، والمتميزين من أهلها، وكان ذكياً بليغاً، ومقامه بمدينة الرحبة وله من الكتب كتاب التشويق الطبي، صنفه بمدينة الرحبة في رجب سنة أربع وستين وأربعمائة،زاهد العلماء هو أبو سعيد منصور بن عيسى، وكان نصرانياً نسطورياً وأخوه مطران نصيبين المشهور بالفضل وخدم زاهد العلماء بصناعة الطب، نصير الدولة بن مروان الذي ألف له ابن بطلان دعوة الأطباء، وكان نصير الدولة محترماً لزاهد العلماء، معتمداً عليه في صناعته، محسناً إليه، وزاهد العلماء هو الذي بنى بيمارستان ميافارقين، وحدثني الشيخ سديد الدين بن رقيقة الطبيب إن سبب بناء بيمارستان ميافارقين هو أن نصير الدولة بن مروان لما كان بها مرضت ابنة له، وكان يرى لها كثيراً، فآلى على نفسه أنها متى برئت أن يتصدق بوزنها دراهم، فلما عالجها زاهد العلماء وصلحت، أشار على نصير الدولة أن يجعل جملة هذه الدراهم، التي يتصدق بها، تكون في بناء بيمارستان ينتفع الناس به، ويكون له بذلك أجر عظيم، وسمعة حسنة، قال فأمره ببناء البيمارستان، وأنفق عليه أموالاً كثيرة، وقف له أملاكاً تقوم بكفايته، وجعل فيه من الآلات وجميع ما يحتاج إليه شيئاً كثيراً جداً فجاء لا مزيد عليه في الجودة.

ولزاهد العلماء من الكتب كتاب البيمارستانات، كتاب في الفصول والمسائل والجوابات، وهي جزآن الأول يتضمن ما أثبته الحسن بن سهل مما وجده في خزانته رقاع وكراريس وأدراج وغير ذلك من المسائل والجوابات، والجزء الثاني على جهة الفصول والمسائل وجوابات أجاب عنها في مجلس العلم المقرر في البيمارستان الفارقي، كتاب في المنامات والرؤيا، كتاب فيما يجب على المتعلمين لصناعة الطب تقديم علمه، كتاب في أمراض العين ومداواتها.

المقبلي

هو أبو نصر محمد بن يوسف المقبلي، فاضل في صناعة الطب، من المتميزين فيها، والأعيان من أربابها،وللمقبلي من الكتب مقالة في الشراب تلخيص كتاب المسائل لحنين بن إسحاق.

النيلي

هو أبو سهل سعيد بن عبد العزيز النيلي، مشهور بالفضل، عالم بصناعةالطب، جيد التصنيف، متفنن في العلوم الأدبية، بارع في النظم والنثر ومن شعره

يا مفدّى العذار والخد والقـد

 

بنفسي، وما أراها كـثـيراً

ومعيري من سقم عينيه سقماً

 

دمت مضنى به ودمت معيراً

اسقني الراح، تشف لوعة قـلـب

 

بات مذ بنت للهـمـوم سـمـيرا

هي في الكاس خمـرة فـإذا مـا

 

أفرغت في الحشا استخالت سرورا

وللنيلي من الكتب اختصار كتاب المسائل لحنين، تلخيص شرح جالينوس لكتاب الفصول مع نكت من شرح الرازي.

إسحاق بن علي الرهاوي

كان طبيباً متميزاً عالماً بكلام جالينوس، وله أعمال جيدة في صناعة الطب،ولإسحاق بن علي الرهاوي من الكتب كتاب أدب الطبيب، كناش جمعه من عشر مقالات لجالينوس المعروفة بالميام في تركيب الأدولة بحسب أمراض الأعضاء من الرأس إلى القدم، جوامع جمعها من أربعة كتب جالينوس التي رتبها الاسكندرانيون في أوائل كتبه، وهي كتاب الفرق، وكتاب الصناعة الصغيرة، وكتاب النبض الصغير وكتابه إلى أغلوتن، وجعل هذه الجوامع على طريق الفصول وأوائل فصولها إلى حروف المعجم.

سعيد بن هبة اللّه

هو أبو الحسن سعيد بن هبة الّله بن الحسين من الأطباء المتميزين في صناعة الطب، وكان أيضاً فاضلاً في العلوم الحكمية مشتهراً بها، وكان في أيام المقتدي بأمر اللّه، وخدمه بصناعة الطب وخدم أيضاً ولده المستظهر باللّه.

وقال أبو الخطاب محمد بن محمد بن أبي طالب في كتاب الشامل في الطب إن الطب انتهى في عصرنا إلى أبي الحسن سعيد بن هبة اللّه بن الحسين، وولد في ليلة السبت الثالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وقرأ على أبي العلاء بن التلميذ، وعلى أبي الفضل كتيفات وعلى عبدان الكاتب، وألف كتباً كثيرة طبية ومنطقية وفلسفية وغير ذلك، ومات ليلة الأحد سادس شهر ربيع الأول سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وعاش ستاً وخمسين سنة، وخلف من التلاميذ جماعة موجودين.

وحدثني الحكيم رشيد الدين أبو سعيد بن يعقوب النصراني أن أبا الحسن سعيد ابن هبة اللّه كان يتولى مداواة المرضى في البيمارستان العضدي، وأنه كان يوماً في البيمارستان وقد أتى إلى قاعة الممرورين لتفقد أحوالهم ومعالجتهم، وإذا بامرأة قد أتت إليه واستفتته فيما تعالج به ولداً لها فقال ينبغي أن تلازميه بتناول الأشياء المبردة المرطبة، فهزأ به بعض من كان مقيماً في تلك القاعة من الممرورين وقال هذه صفة يصلح أن تقولها لأحد تلامذتك ممن يكون قد اشتغل بالطب وعرف أشياء من قوانينه، وأما هذه المرأة فأي شيء تدري ما هو من الأشياء المبردة المرطبة، وإنما سبيله أن تصف لها شيئاً معيناً تعتمد عليه، ثم قال له بعد ذلك ولا ألومك في قولك هذا فإنك قد فعلت ما هو أعجب منه، فسأله عن ذلك، فقال صنفت كتاباً مختصراً وسميته المغني في الطب، ثم إنك صنفت كتاباً آخر في الطب بسيطاً يكون على قدر أضعاف كثيرة من ذلك الكتاب الأول وسميته الإقناع، وكان الواجب أن يكون الأمر على خلاف ما فعلته من التسمية، فاعترف بذلك لمن حضره وقال واللّه لو أمكنني تبديل اسم كل واحد منهما بالآخر لفعلت، وإنما قد تناقل الناس الكتابين وعرف كل واحد منهما بما سميته به.أقول وكان أبو الحسن سعيد بن هبة اللّه موجوداً في سنة تسع وثمانين وأربعمائة لأني وجدت خطه في ذلك التاريخ على كتابه التلخيص النظامي، وقد قرأه عليه أبو البركات، ولسعيد بن هبة اللّه من الكتب كتاب المغني في الطب صنفه للمقتدي بأمر اللّه، مقالة في صفات تراكيب الأدوية المحال عليها في كتاب المغني، كتاب الإقناع، كتاب التلخيص النظامي، كتاب خلق الإنسان، كتاب في اليرقان، مقالة في ذكر الحدود والفروق، مقالة في تحديد مبادئ الأقاويل الملفوظ بها وتعديدها، جوابات عن مسائل طبية سئل عنها.

ابن جزلة

هو يحيى بن عيسى بن علي بن جزلة وكان في أيام المقتدي بأمر اللّه، وقد جعل باسمه كثيراً من الكتب التي صنفها، وكان من المشهورين في علم الطب وعمله، وهو تلميذ أبي الحسن سعيد بن هبة اللّه، ولابن جزلة أيضاً نظر في علم الأدب، وكان يكتب خطاً جيداً منسوباً، وقد رأيت بخطه عدة كتب من تصانيفه وغيرها تدل على فضله، وتعرب عن معرفته، وكان نصرانياً ثم أسلم، وألف رسالة في الرد على النصارى، وكتب بها إلى إليا القس،ولابن جزلة من الكتب كتاب تقويم الأبدان وصنفه للمتقدي بأمر اللّه، كتاب منهاج البيان في ما يستعمله الإنسان، وصنفه أيضاً للمقتدي بأمر اللّه، كتاب الإشارة في تلخيص العبارة وما يستعمل من القوانين الطبية في تدبير الصحة وحفظ والبدن، لخصه في كتاب تقويم الأبدان، رسالة في مدح الطب وموافقته الشرع، والرد على من طعن عليه، رسالة كتب بها لما أسلم إلى إليا القس وذلك في سنة ست وستين وأربعمائة.

أبو الخطاب

هو محمد بن محمد بن أبي طالب، مقامه ببغداد، وقرأ صناعة الطب على أبي الحسن سعيد بن هبة اللّه وكان متميزاً في الطب وعمله، ورأيت خطه على كتاب من تصنيفه قد قرئ عليه، وهو كثير اللحن، يدل على أنه لم يشتغل بشيء من العربية، وكان تاريخه لذلك في تاسع شهر رمضان سنة خمسمائة،ولأبي الخطاب من الكتب كتاب الشامل في الطب جعله على طريق المسألة والجواب في العلم والعمل، وهو يشتمل على ثلاث وستين مقالة،

ابن الواسطي

كان طبيباً للمشتظهر باللّه، وكان عنده رفيع المنزلة، فاتفق أن أبا سعيد بن المعوج تولى صاحب ديوان واستقر عليه قرية مبلغها ثلاثة آلاف دينار، فوزن منها ألفي دينار، وبقي عليه ألف دينار، فسأل أنظاره بها سنة إلى أن يصل المستغل، فلما حل المبلغ نكبت الغلة والثمرة ولم يحصل له من ملكه ما يصرفه في ذلك.

وكان حاجبه وخاصته مظفر بن الدواتي، فأشار إليه بالمضي إلى ابن الواسطي الطبيب، ويقصده في داره ويسأله أن يخاطب الخليفة المستظهر باللّه في إنظاره إلى سنة أخرى إلى أن تدخل الغلة.

فلما نهض من الديوان أشار إلى أصحابه بالعود وأنه يريد أن يمضي إلى داره، فلما عادوا مضى هو والحاجب مظفر بن الدواتي، فحيث وصل استأذن عليه، فخرج وقبل يده وقال اللّه اللّه يا مولان ومن ابن الواسطي حتى يجيئ مولانا إلى داره؟ فلما دخل جلس بين يديه فأشار ابن المعوج إلى الحاجب مظفر، وقال له تصرف الجماعة للخلوة وتعود أنت بمفردك، فلما صاروا بالدهليز قال له تصون الباب، ففعل، فلما عاد قال له، أتقول للحكيم فيماذا أتينيا؟ فقال له الحاجب إن مولانا جاء إليك يعرفك أنه كان قد استقر عليه قرية مبلغها ثلاثة آلاف دينار وأنه صح منها ألفا دينار وتخلف عليه ألف دينار، وكان سأل الخليفة إنظاره إلى أوان الغلة فلم يتحصل له من ملكه في هذه السنة شيء، وقد أنفذ الديوان وضايق على ذلك، وقد رهن كتب داره على خمسمائة دينار، وهو يسألك أن تسأل الخليفة أن يؤخر إلى سنة أخرى بالباقي إلى حين أوان الغلة، فقال السمع والطاعة، أخدم وأبالغ وأقول ما يتعين، فنهض من عنده فلما كان من الغد عند نهوضه من الديوان صرف الحاشية على العادة، وقال يا مظفر نمضي إليه، فإن كان قد خاطب الخليفة سمعنا الجواب، وإن لم يكن خاطبه فيكون على سبيل الإذكار، فمضى إليه واستأذن عليه فأذن له وخرج إلى الباب وقبل يده مثل ودعا له، فلما دخل وجلس أخرج له خط الخليفة بوصول الخمسمائة دينار، وقال له هذه كتب الدار التي رهنها مولانا يقبلها من الخادم وكان قد استفكها من ماله، فشكره وقبض الكتب والخط وانصرف.

فلما جاوز الدهليز صاح بالحاجب مظفر، وأخرج له منشفة فيها جبة خارا وبقيار قصب وقميص تحتاني أنطاكي ولباس دمياطي، وفيه تكة ابريسم وصرة فيها خمسون ديناراً، وقال له أريد من إنعام مولانا يلبس هذه الثياب وأراها عليه وهذه الخمسون ديناراً برسم الحمام؛ وأعطى الحاجب جبة عتابي وعشرين ديناراً، وأعطى الدواتي جبة عتابي وخمسة دنانير، وأعطى الركابي دينارين، وقال اسأل مولانا أن يشرف الخادم بقبول ذلك، فمضى الحاجب بالجميع إلى ابن المعوج، وشرح له الحال فقبله منه.

أبو طاهر بن البرخشي

هو موفق الدين أبو طاهر أحمد بن محمد بن العباس، يعرف بابن البرخشي، من أهل واسط، فاضل في الصناعة الطبية، كامل في الفنون الأدبية، وقد رأيت من خطه ما يدل على رزانة عقله وغزارة فضله وكان في أيام المسترشد باللّه،حدثني شمس الدين أبو عبد اللّه محمد بن الحسن بن محمد بن الكريم البغدادي قال حدثني أحمد بن بدر الواسطي قال كان الحكيم أبو طاهر أحمد محمد البرخشي بواسط يعالج مريضاً به أحد أنواع الاستسقاء، فطال به المرض ولم ينجع فيه علاج وعبر حد الحمية فسهل له في استعمال مهما طلبته النفس ومالت إليه الطبيعة من المآكل والأغذية، فأطلق المريض يده ثم أكل ما تهيأ له، فلما كان في بعض الأيام اجتاز به إنسان يبيع الجراد المسلوق في الماء والملح، فمالت إليه نفس المريض فطلبه ثم اشترى منه وأكل، فعرض له من ذلك إسهال مفرط، وانقطع الحكيم عنه لما رأى به من الإفراط في الإسهال، ثم أفاق منه بعد أيام، وأخذ المزاج في الصلاح وابتدأ به البرء، وتدرجت حاله إلى كمال الصحة، والحكيم قد أيس من صلاحه، فلما علم الحال أتاه وسأله عما استعمل ومم وجد الخف؟ فقال لا أعرف إلا أنني منذ أكلت الجراد المسلوق شرعت في العافية، ففكر الحكيم في ذلك طويلاً ثم قال ليس هذا من فعل الجراد ولا من خاصته، وسأل المريض عن بائع الجراد فقال لا أعلم بمكانه، ولكني إن رأيته عرفته، فشرع الحكيم في البحث والسؤال عن كل من يبيع الجراد وهو يحضره إلى المريض واحداً بعد واحد إلى أن عرف صاحبه الذي اشترى منه، فقال له الحكيم أتعرف الموضع الذي صدت منه الجراد الذي أكل منه هذا المريض؟ قال نعم، قال امض بنا إليه، فمضيا جميعاً إلى المكان، وإذا هناك حشيشة يرعاها الجراد، فأخذ الحكيم من تلك الحشيشة، ثم كان يداوي بها من الاستسقاء، وأبرأ بها جماعة من هذا المرض، وذلك معروف مشهور بواسط.

أقول وهذه هي حكاية قديمة قد جرى ذكرها، وإن تلك الحشيشة التي كان الجراد يرعاها هي المازريون، وقد ذكرها أيضاً القاضي التنوخي في كتاب الفرج بعد الشدة.

وكان أبو طاهر بن البرخشي حياً بواسط في سنة ستين وخمسمائة، وكان عنده أدب بارع، ومعرفة في النظم والنثر، ومن شعره قال في غلام ناول خلالا

وناولني من كفه مثل خـصـره

 

ومثل محب ذاب في طول هجره

وقال خلالي؟ قلت كل حـمـيدة

 

سوى قتل صب حار فيك بأسره

وقال في إنسان سوء حج من بعض قرى واسط

لما حججت استبشرت واسط

 

وقولياثا وفتـى مـرشـد

وانتقل الـويل إلـىمـكة

 

وركنها والحجـر الأسـود

وقال أيضاً، وقد رأى إنساناً يكتب كتاباً إلى صديق له فكتب في صدره العالم

لما انمحت سنن المكارم والعلى

 

وغدا الأنام بوجه جهل قـاتـم

ورضوا بأسماء ولا معنى لهـا

 

مثل الصديق تكاتبوا بالعـالـم

وكتب إليه نجم الدين أبو الغنائم محمد بن علي بن المعلم الهرثي الشاعر الواسطي وقد أبل من مرض وألزمه الحمية ومنعه الغذاء

صبحت فخراً بالمنى واغتدى

 

قدرك فوق النجم مرفوعـا

يا منقذي من حلقات الـردى

 

حاشاك أن تقتلني جـوعـا

فكتب ابن البرخشي إليه الجواب

تبعت مرسومك يا ذا العلـى

 

لا زال مرسومك متبـوعـا

لكن إشفاقي على مـن بـه

 

أمسى غريب القول مسموعا

أوجب تأخيراً الغذا يومـنـا

 

وفي غد نستدرك الجـوعـا

اصبر فما أقصـرهـا مـدة

 

وإن تلكأت فـأسـبـوعـا

فأجابه هو

يا عالـمـاً أين ثـوى رحـلـه

 

جرى من العـلـم ينـابـيعـا

لم عندك الأعمـار مـوصـولة

 

يضحى ويمسي الرزق مقطوعا

واللّه إن بـت ولـم يجـدنـي

 

شعري يا ذا الفضل منفـوعـا

ليخلعن الجوع مـنـي الـحـيا

 

وأوسعن العلـم تـقـطـيعـا

ابن صفية

هو أبو غالب بن صفية، وكان نصرانياً، وقال بعض العراقيين إن أبا المظفر يوسف المستنجد باللّه كان خليفة صارماً متيقظاً فتاكاً، وكان وزيره أبو المظفر يحيى بن هبيرة، ثم توفي فاستوزر شرف الدين بن البلدي، وكان يجري مجراه، وكان في الدولة أمراء أكابر، كان متقدم الجماعة قطب الدين قايماز، وكان أصله أرمنيا وقد عظم شأنه وعلا مكانه، واستولى على البلاد وتحكم في الدولة، ولم يبق له ضد ولا مناو، وعمد إلى أكابر أمراء الدولة فزوجهم ببناته، وكان بينه وبين الوزير مما تراه، ويخوفه من استطالة قطب الدين ومن يجري معه من الأمراء، فاطلع الطبيب على بعض الأحوال وأراد التقرب عند الأمير قطب الدين، فنقل إليه الحديث، واستمر الحال على ذلك،فلما مرض الخليفة عزم في القبض على قطب الدين وجماعته، واطلع ابن صفية على ذلك، فمضى على قطب الدين وعرفه الحال وقال له قد جرى من الوزير كذا وكذا فتغد به قبل أن يتعشى بك، فأخذ قطب الدين يعمل فكرته ورأيه في التدبير في مكايد الوزير، وثقل الخليفة في المرض واشتغل عما كان قد دبره مع الوزير في القبض على الأمراء، فأجمع قطب الدين رأيه على قتل الخليفة ثم يتفرغ لهلاك الوزير، فأسفر رأيه على أنه قرر مع ابن صفية الطبيب أن يصف للخليفة الحمام، فدخل الحكيم إلى الخليفة وأشار بالحمام والخليفة يعلم من نفسه الضعف فأبى ذلك، فدخل قطب الدين وبعض الجماعة وقال يا مولانا، الحكيم قد أشار الحمام، فقال قد رأينا أن نؤخره، فغلبوا على رأيه وأدخلوه الحمام، وقد كان أوقد عليه ثلاثة أيام بلياليهن وردوا عليه باب الحمام ساعة فمات، وأظهروا الحزن العظيم وأتوا إلى ولده أبي محمد الحسن فاستخلفوه على ما أرادوا وبايعوه، ولقب بالمستضيء بأمر اللّه، وأقام مدة وفي نفسه شيء مما فعلوا، وكان قد استوزر عضد الدين أبا الفرج ابن رئيس الرؤساء، وكان ابن صفية الطبيب على حاله ملازم الخدمة، فشرع الخليفة في الاستبداد بالأمور مع وزيره وكان قطب الدين قايماز وابن صفية مهما اطلع عليه من الأحوال نقله إلى قطب الدين وهو متردد إلى الدار، ولا يمنع لكونه طبيب الخدمة، فاستحضره الخليفة ليلاً وقال له يا حكيم عندي من أكره رؤيته وأريد إبعاده بوجه لطيف غير شفيع، فقال له نرتب له شربة قوية بالغة يشربها، وقد حصل الخلاص من كما تؤثر، فمضى وركب شربة كما وصف وأحضرها ليلاً ودخل بها إلى عند الخليفة، ففتحها ونظر إليها، وقال يا حكيم استف هذه الشربة حتى نجرب فعلها، فتلوى من ذلك وقال اللّه اللّه يا مولانا في؟ فقال له الطبيب متى تعدى حده وتجاوز طوره وقع في مثل هذا، وليس لك من هذا خلاص إلا السيف، فاستف الحكيم الشربة التي ركبها وفر من الهلاك إلى الهلاك، ثم خرج من دار الخليفة وكتب إلى الأمير قطب الدين بشعره بالحال ويقول له والانتقال من أمري إلى أمركم، ثم هلك.

وأما قطب الدين فعزم أن يوقع بالخليفة، فرد اللّه سبحانه كيده إليه، ونهبت أمواله وهرب من بغداد بنفسه ومضى إلى الشام إلى الملك الناصر صلاح الدين فلم يقبله، وعاد على طريق البرية إلى الموصل فمرض في الطريق ثم دخل الموصل فمات بها،أقول وضد هذه الحكاية ما حدثني به شمس الدين محمد بن الحسن بن الكريم البغدادي عن بعض المشايخ ببغداد قال كان السلطان محمد بن محمود خوارزمشاه قد حضر بغداد في سنة خمسمائة فمرض وهو بعسكره ظاهر البلد، ومرض الخليفة المقتفي أبو عبد اللّه محمد بن المستظهر ببغداد، فأنفذ السلطان يلتمس الرئيس أمين الدولة بن التلميذ فأخرج إلى ظاهر المدينة فكان يداويه بظاهر بغداد، ويداوي الخليفة ببغداد فقال له وزير السلطان أيها الرئيس إني قد كنت عند السلطان، وذكرت له من فضلك وأدبك ورآستك، وقد أمر لك بعشرة آلاف دينار، فقال له يا مولانا، قد أمر لي من بغداد بإثني عشر ألف دينار أفيأذن لي في قبولها السلطان؟ يا مولانا، أنا رجل طبيب، لا أتجاوز وظائف الأطباء وما يلزمهم، ولا أعرف إلا ماء الشعير والنقوع وشراب البنفسج النيلوفر ومتى أخرجت عن هذا لا أعرف شيئاً. وكان الوزير قد عرض له في حديثه بما معناه أنه يدبر في إتلاف الخليفة، وقدر اللّه سبحانه برء الخليفة والسلطان ووقع بينهما على ما اقترحه الخليفة، وهذا كان من عقل الرئيس أمين الدولة ودينه وأمانته، فإنه كان يقول لا ينبغي للطبيب أن يداخل الملوك في أسرارهم، ولا يتجاوز كما تقدم ذكره ماء الشعير والنقوع والشراب، فمتى جاوز هذا تلف وكان سبب هلاكه، وكان ينشد

وإذا أنبت المهيمن للنمـل

 

جناحاً أطارها للتـردي

ولكل امرئ من الناس حد

 

وهلاك الفتى جواز الحد