رؤيا آمنة ويزعمون - فيما يتحدث الناس والله أعلم - أن آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تحدث : أنها أُتيت ، حين حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقيل لها : إنك قد حملت بسيد هذه الأمة ، فإذا وقع إلى الأرض فقولي : أعيذه بالواحد ، من شر كل حاسد ، ثم سميه محمدا . ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى ، من أرض الشام .
ثم لم يلبث عبدالله بن عبدالمطلب ، أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن هلك ، وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم حامل به .
قال : حدثنا أبو محمد عبدالملك ابن هشام قال : حدثنا زياد بن عبدالله البكائي محمد بن إسحاق قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ، عام الفيل. رواية قيس بن مخرمة عن مولده صلى الله عليه و سلم قال ابن إسحاق : حدثني المطلب بن عبدالله بن قيس بن مخرمة عن أبيه عن جده قيس بن مخرمة ، قال : ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل ، فنحن لدتان .
قال ابن إسحاق : وحدثني صالح بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف ، عن يحيى بن عبدالله بن عبدالرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري . قال : حدثني من شئت من رجال قومي عن حسان بن ثابت ، قال : والله إني لغلام يفعة ، ابن سبع سنين أو ثمان ، أعقل كل ما سمعت ، إذ سمعت يهوديا يصرخ بأعلى صوته على أطمة بيثرب : يا معشر يهود ، حتى إذا اجتمعوا إليه ، قالوا له : ويلك ما لك ؟ قال : طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به .قال محمد بن إسحاق : فسألت سعيد بن عبدالرحمن بن حسان بن ثابت، فقلت : ابن كم كان حسان بن ثابت مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ؟ فقال : ابن ستين سنة، وقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة ، فسمع حسان ما سمع وهو ابن سبع سنين .
قال ابن إسحاق : فلما وضعته أمه صلى الله عليه وسلم ، أرسلت إلى جده عبدالمطلب : أنه قد ولد لك غلام ، فأته فانظر إليه ؛ فأتاه فنظر إليه ، وحدثته بما رأت حين حملت به ، وما قيل لها فيه ، وما أمرت به أن تسميه .
فيزعمون أن عبدالمطلب أخذه ، فدخل به الكعبة ؛ فقام يدعو الله ، ويشكر له ما أعطاه ، ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها . والتمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم الرضعاء . قال ابن هشام : المراضع . وفي كتاب الله تبارك وتعالى في قصه موسى عليه السلام : {( وحرمنا عليه المراضع )} .
قال ابن إسحاق : فاسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر ، يقال لها : حليمة ابنة أبي ذؤيب .
وأبو ذؤيب : عبدالله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن فصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان . زوج حليمة ونسبه واسم أبيه الذي أرضعه صلى الله عليه وسلم : الحارث بن عبدالعزى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة بن فصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن . قال ابن هشام : ويقال : هلال بن ناصرة .
قال ابن إسحاق : وإخوته من الرضاعة : عبدالله بن الحارث ، وأنيسة بنت الحارث ، وحذافة بنت الحارث ، وهي الشيماء ، غلب ذلك على اسمها فلا تعرف في قومها إلا به . وهم لحليمة بنت أبي ذؤيب، عبدالله بن الحارث ، أم رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويذكرون أن الشيماء كانت تحضنه مع أمها إذا كان عندهم .
قالت : فلما أخذته ، رجعت به إلى رحلي ، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن ، فشرب حتى روي ، وشرب معه أخوه حتى روي ، ثم ناما ، وما كنا ننام معه قبل ذلك ، وقام زوجي إلى شارفنا تلك ، فإذا إنها لحافل ، فحلب منها ما شرب ، وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعا ، فبتنا بخير ليلة . قالت : يقول صاحبي حين أصبحنا : تعلمي والله يا حليمة ، لقد أخذت نسمة مباركة ؛ قالت : فقلت: والله إني لأرجو ذلك ، قالت : ثم خرجنا وركبت أنا أتاني ، وحملته عليها معي ، فوالله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شيء من حمرهم ، حتى إن صواحبي ليقلن لي : يا ابنة أبي ذؤيب ، ويحك ! اربعي علينا ، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها ؟ فأقول لهن : بلى والله ، إنها لهي هي ؛ فيقلن : والله إن لها لشأنا . قالت : ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها ، فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به معنا شباعا لُبَّنَا ، فنحلب ونشرب ، وما يحلب إنسان قطرة لبن ، ولا يجدها في ضرع ، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم : ويلكم سرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب ، فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن ، وتروح غنمي شباعا لبنا . فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته ، وكان يشبّ شبابا لا يشبه الغلمان ، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا .
قالت : فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على مكثه فينا ، لما كنا نرى من بركته . فكلمنا أمه وقلت لها : لو تركت بُنيَّ عندي حتى يغلظ ، فإني أخشى عليه وبأ مكة ، قالت : فلم نزل بها حتى ردته معنا .
قال : فرجعنا به ، فوالله إنه بعد مقدمنا به بشهر مع أخيه لفي بهم لنا خلف بيوتنا ، إذ أتانا أخوه يشتد ، فقال لي ولأبيه : ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض ، فأضجعاه ، فشقا بطنه ، فهما يسوطانه . قالت : فخرجت أنا وأبوه نحوه ، فوجدناه قائما مُنتَقَعا وجهه . قالت : فالتزمته والتزمه أبوه ، فقلنا له : ما لك يا بني ؛ قال : جاءني رجلان عليها ثياب بيض ، فأضجعاني وشقا بطني ، فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو . قالت : فرجعنا به إلى خبائنا .
قالت : وقال لي أبوه : يا حليمة ، لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به ، قالت : فاحتملناه ، فقدمنا به على أمه ، فقالت : ما أقدمك به يا ظئر وقد كنت حريصة عليه ، وعلى مكثه عندك ؟ قالت : فقلت : قد بلغ الله بابني وقضيت الذي علي ، وتخوفت الأحداث عليه ، فأديته إليك كما تحبين ؛ قالت : ما هذا شأنك ، فاصدقيني خبرك . قالت : فلم تدعني حتى أخبرتها . قالت : أفتخوفت عليه الشيطان ؟ قالت : قلت : نعم ؛ قالت : كلا ، والله ما للشيطان عليه من سبيل ، وإن لبنيَّ لشأنا ، أفلا أخبرك خبره ، قالت : قلت : بلى ؛ قالت : رأيت حين حملت به ، أنه خرج مني نور أضاء قصور بصرى من أرض الشام ، ثم حملت به ، فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف عليَّ ولا أيسر منه ، ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض ، رافع رأسه إلى السماء ، دعيه عنك وانطلقي راشدة .
قال ابن إسحاق : وحدثني ثور بن يزيد ، عن بعض أهل العلم ، ولا أحسبه إلا عن خالد بن معدان الكلاعي :أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له : يا رسول الله ، أخبرنا عن نفسك؟ قال : نعم ، أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى أخي عيسى ، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام ، واسترضعت في بني سعد بن بكر ، فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا ، إذ أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوءة ثلجا ، ثم أخذاني فشقا بطني، واستخرجا قلبي فشقاه ، فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها ، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه ، ثم قال أحدهما لصاحبه : زنه بعشرة من أمته ، فوزنني بهم فوزنتهم ، ثم قال : زنه بمائة من أمته ، فوزنني بهم فوزنتهم ، ثم قال : زنه بألف من أمته ، فوزنني بهم فوزنتهم ، فقال : دعه عنك ، فوالله لو وزنه بأمته لوزنها . رعيه صلى الله عليه وسلم الغنم وافتخاره بقرشيته قال ابن إسحاق : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من نبي إلا وقد رعى الغنم ؛ قيل : وأنت يا رسول الله ؟ قال: وأنا ) . قال ابن إسحاق : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه : أنا أعربكم ، أنا قرشي ، واسترضعت في بني سعد بن بكر .
قال ابن إسحاق : وزعم الناس فيما يتحدثون ، والله أعلم : أن أمه السعدية لما قدمت به مكة أضلها في الناس وهي مقبلة به نحو أهله ، فالتمسته فلم تجده ، فأتت عبدالمطلب ، فقالت له : إني قد قدمت بمحمد هذه الليلة . فلما كنت بأعلى مكة أضلني ، فوالله ما أدرى أين هو ؛ فقام عبدالمطلب عند الكعبة يدعو الله أن يرده ؛ فيزعمون أنه وجده ورقة بن نوفل بن أسد ، ورجل آخر من قريش ، فأتيا به عبدالمطلب ، فقالا له : هذا ابنك وجدناه بأعلى مكة ، فأخذه عبدالمطلب ، فجعله على عنقه وهو يطوف بالكعبة يعوذه ويدعو له ، ثم أرسل به إلى أمه آمنة .
قال ابن إسحاق : وحدثني بعض أهل العلم : أن مما هاج أمه السعدية على رده إلى أمه ، مع ما ذكرت لأمه مما أخبرتها عنه ، أن نفرا من الحبشة نصارى ، رأوه معها حين رجعت به بعد فطامه ، فنظروا إليه وسألوها عنه وقلبوه ، ثم قالوا لها : لنأخذن هذا الغلام ، فلنذهبن به إلى ملكنا وبلدنا ، فإن هذا غلام كائن له شأن نحن نعرف أمره ، فزعم الذي حدثني أنها لم تكد تنفلت به منهم .
قال ابن إسحاق : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة بنت وهب ، وجده عبدالمطلب بن هاشم في كلاءة الله وحفظه ، ينبته الله نباتا حسنا لما يريد به من كرامته ؛ فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين ، توفيت أمة آمنه بنت وهب .
قال ابن إسحاق : حدثني عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم : أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنة توفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ست سنين بالأبواء ، بين مكة والمدينة ، وكانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار ، تزيره إياهم ، فماتت وهي راجعة به إلى مكة.
قال ابن إسحاق : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جده عبدالمطلب بن هاشم ، وكان يوضع لعبدالمطلب فراش في ظل الكعبة ، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه ، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له ؛ قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر ، حتى يجلس عليه ، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه ، فيقول عبدالمطلب ، إذا رأى ذلك منهم : دعوا ابني ، فوالله إن له لشأنا ؛ ثم يجلسه معه على الفراش ، ويمسح ظهره بيده ، ويسره ما يراه يصنع .
وفاة عبدالمطلب ، و ما قيل فيه من الشعر فلما بلغ روس الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين هلك عبدالمطلب بن هاشم . وذلك بعد الفيل بثماني سنين . قال ابن إسحاق : وحدثني العباس بن عبدالله بن معبد بن العباس ، عن بعض أهله : أن عبدالمطلب توفي ورسوله الله صلى الله عليه وسلم ابن ثماني سنين .
قال ابن إسحاق : حدثني محمد بن سعيد بن المسيب أن عبدالمطلب لما حضرته الوفاة وعرف أنه ميت جمع بناته ، وكن ست نسوة : صفية ، وبرة ، وعاتكة ، وأم حكيم البيضاء ، وأميمة ، وأروى ، فقال لهن: ابكين علي حتى أسمع ما تقلن قبل أن أموت . قال ابن هشام : ولم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرف هذا الشعر ، إلا أنه لما رواه عن محمد بن سعيد بن المسيب كتبناه .
فقالت صفية بنت عبدالمطلب تبكي أباها :
أرقت لصوت نـائحة بـلـيل |
|
على رجل بقارعة الـصـعـيدِ |
ففاضت عند ذلكم دمـوعـي |
|
على خدي كمنـحـدر الـفـريد |
على رجل كريم غـير وغـل |
|
له الفضل المبين على الـعـبـيد |
على الفياض شيبة ذي المعالي |
|
أبيك الخـير وارث كـل جـود |
صدوق في المواطن غير نكس |
|
ولا شخت المـقـام ولا سـنـيد |
طويل الباع أروع شيظـمـيّ |
|
مطاع في عـشـيرتـه حـمـيد |
رفيع البيت أبلج ذي فضـول |
|
وغيث الناس في الزمن الحـرود |
كريم الجد ليس بـذي وصـوم |
|
يروق على المسود والـمـسـود |
عظيم الحلم من نـفـر كـرام |
|
خضـارمة مـلاوثة أســـود |
فلو خلد امرؤ لقـديم مـجـد |
|
ولكن لا سبيل إلـى الـخـلـود |
لكان مخلدا أخرى الليالي لفضل المجد والحسب التليد
وقالت برة بنت عبدالمطلب تبكي أباها :
أعيني جودا بدمع دررْ علـى |
|
طيب الخـيم والـمـعـتـصـرْ |
على ماجد الجد واري الزنـاد |
|
جميل المحيا عظـيم الـخـطـر |
على شيبة الحمد ذي المكرمات |
|
وذي المجد والعز والمفـتـخـر |
وذي الحلم والفصل في النائبات |
|
كثير المكـارم جـم الـفـجـر |
له فضل مجد علـى قـومـه |
|
منير يلوح كـضـوء الـقـمـر |
أتته المـنـايا فـلـم تـشـوه |
|
بصرف الليالـي وريب الـقـدر |
وقالت عاتكة بنت عبدالمطلب تبكي أباها :
أعينـي جـودا ولا تـبـخـلا |
|
بدمعكمـا بـعـد نـوم الـنـيامْ |
أعيني واسحنفـرا واسـكـبـا |
|
وشوبا بـكـاءكـمـا بـالْـتِـدَام |
أعيني واستخرطا واسـجـمـا |
|
على رجل غير نـكـس كـهـام |
على الجحفل الغمر في النائبات |
|
كريم المساعـي وفـي الـذمـام |
على شيبة الحمد واري الزنـاد |
|
وذي مصدق بعد ثبت الـمـقـام |
وسيف لدى الحرب صمصامة |
|
ومردي المخاصم عند الخـصـام |
وسهل الخليقة طلـق الـيدين |
|
وفي عُدْمُلِّـيّ صـمـيم لـهُـام |
تَبَـنَّـك فـي بـاذخ بـيتـه |
|
رفيع الذؤابة صعـب الـمـرام |
وقالت أم حكيم البيضاء بنت عبدالمطلب تبكي أباها :
ألا يا عين جودي واستهلي |
|
وبكي ذا الندى والمكرمـات |
ألا يا عين ويحك أسعفيني |
|
بدمع من دموع هـاطـلات |
وبكِّي خير من ركب المطايا |
|
أباك الخـير تـيار الـفـرات |
طويل الباع شيبة ذا المعالي |
|
كريم الخيم محمود الـهـبـات |
وصولا للقرابة هـبـرزيا |
|
وغيثا في السنين الممـحـلات |
وليثا حين تشتجر العوالـي |
|
تروق له عيون الـنـاظـرات |
عقيل بني كنانة والمرجـى |
|
إذا ما الدهر أقبل بالـهـنـات |
ومفزعها إذا ما هاج هـيج |
|
بداهية وخصم المعـضـلات |
فبكيه ولا تسمـي بـحـزن |
|
وبكي ، مابقيت ، البـاكـيات |
وقالت أميمة بنت عبدالمطلب تبكي أباها :
ألا هلك الراعي العشيرة ذو الفقدِ |
|
وساقي الحجيج والمحامي عن المجد |
ومن يؤلف الضيف الغريب بيوته |
|
إذا ما سماء الناس تبخل بـالـرعـد |
كسبت وليدا خير ما يكسب الفتـى |
|
فلم تنفكك تزداد ياشـيبة الـحـمـد |
أبو الحارث الفياض خلاَّ مكانـه |
|
فلا تبعدن فكـل حـي إلـى بـعـد |
فإني لباك ما بـقـيت ومـوجـع |
|
وكان له أهلا لما كان مـن وجـدي |
سقاك ولي الناس في القبر ممطرا |
|
فسوف أبكيه وإن كان في الـلـحـد |
فقد كان زينا للعشـيرة كـلـهـا |
|
وكان حميدا حيث ما كان من حمـد |
وقال أروى بنت عبدالمطلب تبكي أباها :
بكت عيني وحق لها البـكـاء |
|
على سمح سجـيتـه الـحـياءُ |
على سهل الخليقة أبطـحـي |
|
كريم الخـيم نـيتـه الـعـلاء |
على الفياض شيبة ذي المعالي |
|
أبيك الخير لـيس لـه كـفـاء |
طويل الباع أملس شيظـمـي |
|
أغـر كـأن غـرتـه ضــياء |
أقب الكشح أروع ذي فضول |
|
له المجد المـقـدم والـسـنـاء |
أبيِّ الضيم أبلـج هـبـرزي |
|
قديم المجد لـيس لـه خـفـاء |
ومعقل مالك وربـيع فـهـر |
|
وفاصلها إذا التمس الـقـضـاء |
وكان هو الفتى كرما وجـودا |
|
وبأسا حين تنسـكـب الـدمـاء |
إذا هاب الكماة الموت حتـى |
|
كأن قلوب أكـثـرهـم هـواء |
مضى قدما بذي ربد خشـيب |
|
عليه حين تبـصـره الـبـهـاء |
قال ابن إسحاق : فزعم لي محمد بن سعيد بن المسيب أنه أشار برأسه وقد أصمت : أن هكذا فابكينني . نسب المسيب بن حزن قال ابن هشام : و المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم .
قال ابن إسحاق : وقال حذيفة بن غانم أخو بني عدي بن كعب بن لؤي يبكي عبدالمطلب بن هاشم بن بن عبد مناف ، ويذكر فضله وفضل قصي على قريش ، وفضل ولده من بعده عليهم ، وذلك أنه أخذ بغرم أربعة آلاف درهم بمكة ، فوقف بها فمر به أبو لهب عبدالعزى بن عبدالمطلب فافتكه :
أعيني جودا بالدموع على الصـدر |
|
ولا تسأما أُسقيتما سبـل الـقـطـر |
||
وجودا بدمع واسفحا كـل شـارق |
|
بكاء امرىء لم يشوه نائب الـدهـر |
||
وسحا وجما واسجما ما بقـيتـمـا |
|
على ذي حياء من قريش وذي ستـر |
||
على رجل جلد القوى ذي حفيظـه |
|
جميل المحيا غير نـكـس ولا هـذر |
||
على الماجد البهلول ذي الباع والندى |
|
ربيع لؤي في القحوط وفي العسـر |
||
على خير حاف من معد ونـاعـل |
|
كريم المساعي طيب الخيم والنـجـر |
||
وخيرهم أصلا وفرعا ومـعـدنـا |
|
وأحظاهم بالمكرمـات وبـالـذكـر |
||
وأولاهم بالمجد والحلم والنـهـى |
|
وبالفضل عند المجحفات من الغـبـر |
||
على شيبة الحمد الذي كان وجهـه |
|
يضيء سواد الليل كالقمـر الـبـدر |
||
وساقي الحجيج ثم للخبز هـاشـم |
|
وعبد مناف ذلك السـيد الـفـهـري |
||
طوى زمزما عند المقام فأصبحت |
|
سقايته فخرا على كـل ذي فـخـر |
||
ليبك علـيه كـل عـان بـكـربة |
|
وآل قصي مـن مـقـل وذي وفـر |
||
بنوه سراة كهلهـم وشـبـابـهـم |
|
تفلق عنهم بيضة الطائر الـصـقـر |
||
قصي الذي عادى كنانة كـلـهـا |
|
ورابط بيت الله في العسر والـيسـر |
||
فإن تك غالته المنايا وصـرفـهـا |
|
فقد عاش ميمون النـقـيبة والأمـر |
||
وأبقى رجالا سـادة غـير عـزل |
|
مصاليت أمثال الردينـية الـسـمـر |
||
أبو عتبة الملقـى إلـيَّ حـبـاؤه |
|
أغر هجان اللون مـن نـفـر غـر |
||
وحمزة مثل البدر يهتز لـلـنـدى |
|
نقي الثياب والذمـام مـن الـغـدر |
||
وعبد مناف ماجـد ذو حـفـيظة |
|
وصول لذي القربي رحيم بذي الصهر |
||
كهولهم خير الكهول ونسـلـهـم |
|
كنسل الملوك لا تبـور ولا تـحـري |
||
متى ما تلاقي منهم الدهر نـاشـئا |
|
تجـده بـإجْـرِيَّا أوائلـه يجــري |
||
هم ملئوا البطحاء مجـدا وعـزة |
|
إذا استبق الخيرات في سالف العصر |
||
وفيهم بناة لـلـعـلا وعـمـارة |
|
وعبد مناف جدهم جابـر الـكـسـر |
||
بإنكاح عوف بنـتـه لـيجـيرنـا |
|
من أعدائنا إذ أسلمتنا بـنـو فـهـر |
||
فسرنا تهامي البـلاد ونـجـدهـا |
|
بأمنه حتى خاضت العير في البحـر |
||
وهم حضروا والناس باد فريقهـم |
|
وليس بها إلا شيوخ بـنـو عـمـرو |
||
بنوها ديارا جمة وطـووا بـهـا |
|
بئارا تسح الماء من ثبـج الـبـحـر |
||
لكي يشرب الحجاج منها وغيرهم |
|
إذا ابتدروها صبح تابـعة الـنـحـر |
||
ثلاثة أيام تـظـل ركـابـهــم |
|
مخيسة بين الأخاشـب والـحـجـر |
||
وقدما غنينا قبـل ذلـك حـقـبة |
|
ولا نستقي إلا بـخُـمَّ أو الـحـفـر |
||
وهم يغفرون الذنب ينـقـم دونـه |
|
ويعفون عن قول السفاهة والهـجـر |
||
وهم جمعوا حلف الأحابيش كلهـا |
|
وهم نكلوا عنا غواة بـنـي بـكـر |
||
فخارج ، إما أهلكـنّ فـلا تـزل |
|
لهم شاكرا حتى تغيب في الـقـبـر |
||
ولا تنس ما أسدى ابن لُبنى فـإنـه |
|
قد أسدى يدا محقوقة منك بالشـكـر |
||
وأنت ابن لبنى من قصي إذا انتموا |
|
بحيث انتهى قصد الفؤاد من الصـدر |
||
وأنت تناولت العلا فجمـعـتـهـا |
|
إلى محتد للمجد ذي ثـبـج جـسـر |
||
سبقت وفت القـوم بـذلا ونـائلا |
|
وسدت وليدا كل ذي سـؤدد غـمـر |
||
وأمك سر من خـزاعة جـوهـر |
|
إذا حصل الأنساب يوما ذوو الخـبـر |
||
إلى سبأ الأبطال تنمى وتنـتـمـي |
|
فأكرم بها منسوبة في ذرا الـزهـر |
||
أبو شمر منهم وعمرو بن مـالـك |
|
وذو جدن من قومها وأبو الـجـبـر |
||
وأسعد قاد الناس عشـرين حـجة |
|
يؤيد في تلك المواطن بـالـنـصـر |
||
قال ابن هشام : ( أمك سر من خزاعة ) ، يعني أبا لهب ، أمه لبنى بنت هاجر الخزاعي. وقوله: (بإجريا أوائله) عن غير ابن إسحاق. رثاء مطرود الخزاعي لعبدالمطلب و بني عبد مناف قال ابن إسحاق: وقال مطرود بن كعب الخزاعي يبكي عبدالمطلب وبني عبد مناف:
يا أيها الرجل المحول رحلـه |
|
هلا سألت عن آل عبد مـنـاف |
هبلتك أمك لو حللت بدارهـم |
|
ضمنوك من جرم ومن إقـراف |
الخالطين غنيهم بفـقـيرهـم |
|
حتى يعود فقيرهم كالـكـافـي |
المنعمين إذا النجوم تغـيرت |
|
والظاعنـين لـرحـلة الإيلاف |
والمطعمين إذا الرياح تناوحت |
|
حتى تغيب الشمس في الرَّجَّاف |
إما هلكت أبا الفعال فما جرى |
|
من فوق مثلك عقد ذات نطـاف |
إلا أبيك أحي المكارم وحـده |
|
والفيض مُطَّلب أبي الأضـياف |
قال ابن إسحاق : فلما هلك عبدالمطلب بن هاشم ولي زمزم والسقاية عليها بعده العباس بن عبدالمطلب ، وهو يومئذ من أحدث إخوته سنا ؛ فلم تزل إليه حتى قام الإسلام وهي بيده . فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم له على ما مضى من ولايته ، فهي إلى آل العباس ، بولاية العباس إياها ، إلى هذا اليوم .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عبدالمطلب مع عمه أبي طالب ، وكان عبدالمطلب - فيما يزعمون - يوصي به عمه أبا طالب ، وذلك لأن عبدالله أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبا طالب أخوان لأب وأم ، أمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم . قال ابن هشام : عائذ بن عمران بن مخزوم
قال ابن إسحاق : وكان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده ، فكان إليه ومعه .
قال ابن إسحاق : وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير ، أن أباه حدثه : أن رجلا من لهب - قال ابن هشام : ولهب : من أزد شنوءة - كان عائفا ، فكان إذا قدم مكة أتاه رجال قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف لهم فيهم . قال : فأتى به أبو طالب وهو غلام ، مع من يأتيه ، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم شغله عنه شيء ، فلما فرغ قال : الغلام علي به ، فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيَّبه عنه ، فجعل يقول : ويلكم ، ردوا علي الغلام الذي رأيت آنفا ، فوالله ليكونن له شأن . قال : فانطلق أبو طالب .
فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده ، قد كان يجدها عنده من صفته ، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا ، قام إليه بحيرى ، فقال له : يا غلام ، أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه ؛ وإنما قال له بحيرى ذلك ، لأنه سمع قومه يحلفون بهما . فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : لا تسألني باللات والعزى شيئا ، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما ؛ فقال له بحيرى : فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه ؛ فقال له : سلني عما بدا لك . فجعل يسأله عن أشياء من حاله في نومه وهيئته وأموره ؛ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره ، فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته ، ثم نظر إلى ظهره ، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده . قال ابن هشام : وكان مثل أثر المحجم .
قال ابن إسحاق : فلما فرغ ، أقبل على عمه أبي طالب ، فقال له : ما هذا الغلام منك ؟ قال : ابني . قال له بحيرى : ما هو بابنك ، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا ؛ قال : فإنه ابن أخي ؛ قال : فما فعل أبوه ؟ قال : مات وأمه حبلى به ؛ قال : صدقت ، فارجع بابن أخيك إلى بلده ، واحذر عليه يهود ، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا ، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم ، فأسرع به إلى بلاده .
فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام ؛ فزعموا فيما روى الناس: أن زريرا وتماما ودريسا ، وهم نفر من أهل الكتاب ، قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما رآه بحيرى في ذلك السفر ، الذي كان فيه مع عمه أبي طالب ، فأرادوه فردهم عنه بحيرى، وذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته ، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه ولم يزل بهم حتى عرفوا ما قال لهم ، وصدقوه بما قال ، فتركوه وانصرفوا عنه :
فشب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله تعالى يكلؤه ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية ، لما يريد به من كرامته ورسالته ، حتى بلغ أن كان رجلا ، وأفضل قومه مروءة ، وأحسنهم خلقا ، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا ، وأعظمهم حلما ، وأصدقهم حديثا ، وأعظمهم أمانة ، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال ، تنزها وتكرما ، حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين ، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته ، أنه قال : لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان ، كلنا قد تعرى ، وأخذ إزاره فجعله على رقبته ، يحمل عليه الحجارة ؛ فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر ، إذ لكمني لاكم ما أراه ، لكمة وجيعة ، ثم قال : شد عليك إزارك ؛ قال : فأخذته وشددته علي ، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري علي من بين أصحابي .
قال ابن هشام : فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة ، فيما حدثني أبو عبيدة النحوي ، عن أبي عمرو بن العلاء ، هاجت حرب الفجار بين قريش ، ومن معها من كنانة ، وبين قيس عيلان .وكان الذي هاجها أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن ، أجار لطيمة للنعمان بن المنذر ؛ فقال له البراض بن قيس ، أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة : أتجيرها على كنانة ؟ قال : نعم ، وعلى الخلق كله . فخرج فيها عروة الرحال وخرج البراض يطلب غفلته ، حتى إذا كان بتيمن ذي طلال بالعالية ، غفل عروة فوثب عليه البراض فقتله في الشهر الحرام ، فلذلك سمي الفجار . وقال البراض في ذلك :
وداهية تهم الناس قبـلـي |
|
شددت لها بني بكر ضلوعـي |
هدمت بها بيوت بني كلاب |
|
وأرضعت الموالي بالضروع |
رفعت له بذي طلال كفي |
|
فخر يميد كالجذع الـصـريع |
وقال لبيد بن مالك بن جعفر بن كلاب :
أبلغ ، إن عرضت ، بني كلاب |
|
وعامر والخطوب لهـا مـوالـي |
وبلغ ، إن عرضت ، بني نمير |
|
وأخوال القـتـيل بـنـي هـلال |
بأن الوافد الرحـال أمـسـى |
|
مقيما عنـد تـيمـن ذي طـلال |
وهذه الأبيات في أبيات له فيما ذكر ابن هشام .
قال ابن هشام : فأتى آت قريشا ، فقال : إن البراض قد قتل عروة ، وهم في الشهر الحرام بعكاظ ، فارتحلوا وهوازن لا تشعر بهم ، ثم بلغهم الخبر فأتبعوهم ، فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم ، فاقتتلوا حتى جاء الليل ، ودخلوا الحرم ، فأمسكت عنهم هوازن ، ثم التقوا بعد هذا اليوم أياما ، والقوم متساندون على كل قبيل من قريش وكنانة رئيس منهم ، وعلى كل قبيل من قيس رئيس منهم .
وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أيامهم ، أخرجه أعمامه معهم . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كنت أُنَبِّل على أعمامي : أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها . سن رسول الله صلى الله عليه و سلم عند حرب الفجار قال ابن إسحاق : هاجت حرب الفجار ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة . سبب تسمية هذا اليوم بالفجار وإنما سمي يوم الفجار بما استحل هذان الحيان ، كنانة وقيس عيلان ، فيه من المحارم بينهم.
وكان قائد قريش وكنانة حرب بن أمية بن عبد شمس ، وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة ، حتى إذا كان في وسط النهار كان الظفر لكنانة على قيس . قال ابن هشام : وحديث الفجار أطول مما ذكرت ، وإنما منعني من استقصائه قطعه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن هشام : فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة ، تزوج خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبدالعزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ، فيما حدثني غير واحد من أهل العلم عن أبي عمرو المدني .
قال ابن إسحاق : وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال ، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه ، بشيء تجعله لهم ، وكانت قريش قوما تجارا ؛ فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها ، من صدق حديثه ، وعظم أمانته ، وكرم أخلاقه ، بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرا ، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار ، مع غلام لها يقال له ميسرة ، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ، وخرج في مالها ذلك ، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام . حديثه صلى الله عليه وسلم مع الراهب فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب من الرهبان ، فاطلع الراهب إلى ميسرة ، فقال له : من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة ؟ قال له ميسرة : هذا رجل من قريش من أهل الحرم ؛ فقال له الراهب : ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي .ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته التي خرج بها ، واشترى ما أراد أن يشتري ، ثم أقبل قافلا إلى مكة ومعه ميسرة . فكان ميسرة - فيما يزعمون - إذا كانت الهاجرة واشتد الحر ، يرى ملكين يظلانه من الشمس - وهو يسير على بعيره - فلما قدم مكة على خديجة بمالها ، باعت ما جاء به ، فأضعف أو قريبا . وحدثها ميسرة عن قول الراهب ، وعما كان يرى من إظلال الملكين إياه .
وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة ، مع ما أراد الله بها من كرامته ، فلما أخبرها ميسرة مما أخبرها به بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت له - فيما يزعمون - : يا ابن عم ، إني قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك في قومك وأمانتك وحسن خلقك ، وصدق حديثك ، ثم عرضت عليه نفسها . وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسبا ، وأعظمهن شرفا ، وأكثرهن مالا ؛ كل قومها كان حريصا على ذلك منها لو يقدر عليه .
وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبدالعزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر . وأمها : فاطمة بنت زائدة بن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر . وأم فاطمة : هالة بنت عبد مناف بن الحارث بن عمرو بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عمر بن لؤي بن غالب بن فهر . وأم هالة : قلابة بنت سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر .
فلما قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك لأعمامه فخرج معه عمه حمزة بن عبدالمطلب، رحمه الله ، حتى دخل على خويلد ابن أسد ، فخطبها إليه ، فتزوجها .
صداق خديجة
قال ابن هشام: وأصدقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين بكرة ، وكانت أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت ، رضي الله عنها . أولاده صلى الله عليه وسلم من خديجة قال ابن إسحاق : فولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولده كلهم - إلا إبراهيم - القاسمَ ، وبه كان يكنى صلى الله عليه وسلم ، والطاهر ، والطيب ، وزينب ، ورقية ، وأم كلثوم ، وفاطمة ، عليهم السلام . ترتيب ولادتهم قال ابن هشام : أكبر بنيه القاسم ، ثم الطيب ، ثم الطاهر ؛ وأكبر بناته رقية ، ثم زينب ، ثم أم كلثوم ، ثم فاطمة . قال ابن إسحاق : فأما القاسم ، والطيب، والطاهر ، فهلكوا في الجاهلية ؛ وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام ، فأسلمن وهاجرن معه صلى الله عليه وسلم . إبراهيم وأمه قال ابن هشام : وأما إبراهيم فأمه مارية القبطية . حدثنا عبدالله بن وهب عن ابن لهيعة ، قال : أم إبراهيم : مارية سرية النبي صلى الله عليه وسلم التي أهداها إليه المقوقس من حفن من كورة أنصنا .
قال ابن إسحاق : وكانت خديجة بنت خويلد قد ذكرت لورقة بن نوفل ابن أسد بن عبدالعزى - وكان ابن عمها ، وكان نصرانيا قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس - ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب ، وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه ؛ فقال ورقة : لئن كان هذا حقا يا خديجة ، إن محمدا لنبي هذه الأمة ، وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر ، هذا زمانه ، أو كما قال .
فجعل ورقة يستبطىء الأمر ويقول : حتى متى ؟ فقال ورقة في ذلك :
لججت وكنت في الذكرى لجوجا |
|
لهمّ طالما بـعـث الـنـشـيجـا |
ووصف من خديجة بعد وصف |
|
فقد طال انتـظـاري يا خـديجـا |
ببطن المكتين عـلـى رجـائي |
|
حديثك أن أرى منـه خـروجـا |
بما خبرتنـا مـن قـول قـس |
|
من الرهبـان أكـره أن يهـوجـا |
بأن محمـدا سـيسـود فـينـا |
|
ويخصم من يكون له حـجـيجـا |
ويظهر في البلاد ضـياء نـور |
|
يقيم بـه الـبـرية أن تـمـوجـا |
فيلقى من يحاربه خـسـارا |
|
ويلقى من يسالمـه فـلـوجـا |
فيا ليتي إذا مـا كـان ذاكـم |
|
شهدت فكنت أولهـم ولـوجـا |
ولوجا في الذي كرهت قريش |
|
ولو عجت بمكتهـا عـجـيجـا |
أرجي بالذي كرهوا جميعـا |
|
إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا |
وهل أمر السفالة غير كفـر |
|
بمن يختار من سمك البـروجـا |
فإن يبقوا وأبق تكـن أمـور |
|
يضج الكافرون لها ضـجـيجـا |
وإن أهلك فكل فتى سيلقـى |
|
من الأقدار متـلـفة حـروجـا |
قال ابن إسحاق : فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة ، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة ، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها ، وإنما كانت رضما فوق القامة ، فأرادوا رفعها وتسقيفها ، وذلك أن نفرا سرقوا كنزا للكعبة ، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة ، وكان الذي وجد عنده الكنز دويكا مولى لبني مليح بن عمرو من خزاعة . قال ابن هشام : فقطعت قريش يده . وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك . وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم ، فتحطمت ، فأخذوا خشبها ، فأعدوه لتسقيفها ، وكان بمكة رجل قبطي نجار ، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحه . وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كان يطرح فيها ما يهدى لها كل يوم ، فتتشرق على جدار الكعبة ، وكانت مما يهابون ، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها، وكانوا يهابونها . فبينا هي ذات يوم تتشرق على جدار الكعبة ، كما كانت تصنع ، بعث الله إليها طائرا فاختطفها ، فذهب بها ؛ فقالت قريش : إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا ، عندنا عامل رفيق ، وعندنا خشب ، وقد كفانا الله الحية . أبو وهب خال أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حدث له عند بناء الكعبة فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها ، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم - قال ابن هشام : عائذ بن عمران بن مخزوم - فتناول من الكعبة حجرا ، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه ، فقال : يا معشر قريش ، لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا ، لا يدخل فيها مهر بغي ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس . والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم . قال ابن إسحاق : وقد حدثني عبدالله بن أبي نجيح المكي أنه حدث عن عبدالله بن صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي : أنه رأى ابنا لجعدة بن هبيرة بن أبي وهب بن عمرو يطوف بالبيت ، فسأل عنه ، فقيل : هذا ابن لجعدة بن هبيرة؛ فقال عبدالله بن صفوان عند ذلك : جد هذا ، يعني أبا وهب ، الذي أخذ حجرا من الكعبة حين أجمعت قريش لهدمها فوثب من يده ، حتى رجع إلى موضعه ، فقال عند ذلك : يا معشر قريش ، لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا ، لا تدخلوا فيها مهر بغي ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد ، من الناس .
قال ابن إسحاق : وأبو وهب خال أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان شريفا ، وله يقول شاعر من العرب :
ولو بأبي وهب أنخت مطيتـي |
|
غدت من نداه رحلها غير خـائب |
بأبيض من فرعَيْ لؤي بن غالب |
|
إذا حصلت أنسابها فـي الـذوائب |
أبيّ لأخذ الضيم يرتاح للـنـدى |
|
توسـط جـداه فـروع الأطـايب |
عظيم رماد القدر يملا جفـانـه |
|
من الخبز يعلوهن مثل السـبـائب |
ثم إن قريشا جزأت الكعبة ، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة ، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم ، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم ، ابني عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي ، وكان شق الحجر لبني عبدالدار بن قصي ، ولبني أسد بن عبدالعزى بن قصي ، ولبني عدي بن كعب بن لؤي ، وهو الحطيم .الوليد بن المغيرة يبدأ بهدم الكعبة ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه ، فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم في هدمها ، فأخذ المعول ، ثم قام عليها، وهو يقول : اللهم لم ترع - قال ابن هشام : ويقال : لم نزغ - اللهم إنا لا نريد إلا الخير . ثم هدم من ناحية الركنين ، فتربص الناس تلك الليلة ، وقالوا : ننظر ، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت ، وإن لم يصبه شيء ، فقد رضي الله صنعنا ، فهدمنا . فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله ، فهدم وهدم الناس معه ، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس ، أساس إبراهيم عليه السلام، أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة آخذ بعضها بعضا .
قال ابن إسحاق : فحدثني بعض من يروي : الحديث أن رجلا من قريش ممن كان يهدمها ، أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما ، فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها ، فانتهوا عن ذلك الأساس .
قال ابن إسحاق : وحدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية ، فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجل من يهود ، فإذا هو : أنا الله ذو بكة ، خلقتها يوم خلقت السماوات والأرض ، وصورت الشمس والقمر ، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء ، لا تزول حتى يزول أخشباها ، مبارك لأهلها في الماء واللبن . قال ابن هشام : أخشباها : جبلاها .
قال ابن إسحاق : وحدثت أنهم وجدوا في المقام كتابا فيه : مكة بيت الله الحرام يأتيها رزقها من ثلاثة سبل، لا يحلها أول من أهلها .
قال ابن إسحاق : وزعم ليث بن أبي سليم أنهم وجدوا حجرا في الكعبة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة ، إن كان ما ذكر حقا ، مكتوبا فيه : من يزرع خيرا يحصد غبطة ، ومن يرزع شرا يحصد ندامة . تعملون السيئات ، وتجزون الحسنات ! أجل ، كما لا يجتنى من الشوك العنب .
قال ابن إسحاق : ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها ، كل قبيلة تجمع على حدة ، ثم بنوها ، حتى بلغ البنيان موضع الركن ، فاختصموا فيه ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى ، حتى تحاوزوا وتحالفوا ، وأعدوا للقتال . لعقة الدم فقربت بنو عبدالدار جفنة مملوءة دما ، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت ، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة ، فسموا لعقة الدم . فمكث قريش أربع ليال أو خمسا ، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد ، وتشاوروا وتناصفوا . أبو أمية بن المغيرة يجد حلا فزعم بعض أهل الرواية : أن أبا أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم ، وكان عامئذ أسن قريش كلها ؛ قال : يا معشر قريش ، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه ، ففعلوا .
فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما رأوه قالوا : هذا الأمين ، رضينا ، هذا محمد ؛ فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر ، قال صلى الله عليه وسلم : هلم إلي ثوبا ، فأتى به ، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ، ثم قال : لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ، ثم ارفعوه جميعا ، ففعلوا : حتى إذا بلغوا به موضعه ، وضعه هو بيده ، ثم بني عليه . وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبل أن ينزل عليه الوحي : الأمين .
فلما فرغوا من البنيان ، وبنوها على ما أرادوا ، قال الزبير بن عبدالمطلب ، فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها :
عجبت لما تصوبت العقـاب |
|
إلى الثعبان وهي لها اضطراب |
وقد كانت يكون لها كشـيش |
|
وأحيانا يكـون لـهـا وثـاب |
إذا قمنا إلى التأسيس شدت |
|
تهيبنا البـنـاء وقـد تـهـاب |
فلما أن خشينا الرجز جاءت |
|
عقاب تتلئب لها انـصـبـاب |
فضمتها إليها ثـم خـلـت |
|
لنا البنينان ليس لـه حـجـاب |
فقمنا حاشدين إلـى بـنـاء |
|
لنا منه القواعـد والـتـراب |
غداة نرفع التأسيس مـنـه |
|
وليس على مسـوينـا ثـياب |
أعز به المليك بنـي لـؤي |
|
فليس لأصله منـهـم ذهـاب |
وقد حشدت هناك بنو عدي |
|
ومرة قد تقـدمـهـا كـلاب |
فبوأنا المليك بـذاك عـزا |
|
وعند الله يلتمـس الـثـواب |
قال ابن هشام : ويروي :
وليس على مساوينا ثياب |
|
|
وكانت الكعبة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة ذراعا ، وكانت تكسى القباطي ، ثم كسيت البرود ، وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف .
قال ابن إسحاق : وقد كانت قريش - لا أدري أقبل الفيل أم بعده - ابتدعت رأي الحمس رأيا رأوه وأداروه ؛ فقالوا : نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة ، وولاة البيت ، وقطان مكة وساكنها ، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ، ولا مثل منزلتنا ، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا ، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم ، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم ، وقالوا قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم . فتركوا الوقوف على عرفة ، والإفاضة منها ، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها ، و أن يفيضوا منها ، إلا أنهم قالوا : نحن أهل الحرم ، فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس ، والحمس أهل الحرم ، ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذي لهم ، بولادتهم إياهم ، يحل لهم ما يحل لهم ، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم .
وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك . قال ابن هشام : وحدثني أبو عبيد النحوى : أن بني عامر بن صعصة بن معاوية بن بكر بن هوازن دخلوا معهم في ذلك ، وأنشدني لعمرو بن معد يكرب :
أعباس لو كانت شيارا جيادنا |
|
بتثليث ما ناصيت بعدي الأحامسا |
قال ابن هشام : تثليث : موضع من بلادهم . والشيار : السمان الحسان . يعني بالأحامس : بني عامر بن صعصعة . وبعباس : عباس بن مرداس السلمي ، وكان أغار على بن زبيد بتثليت . وهذا البيت من قصيدة لعمرو . وأنشدني للقيط بن زرارة الدارمي في يوم جبلة :
أجذم إليك إنها بنو عـبـس |
|
المعشر الجلة في القوم الحمس |
لأن بني عبس كانوا يوم جبلة حلفاء في بني عامر بن صعصعة .
ويوم جبلة : يوم كان بين بني حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم ، وبين بني عامر بن صعصعة ، فكان الظفر فيه لبني عامر بن صعصعة على بني حنظلة ، وقتل يومئذ لقيط بن زرارة بن عدس ، وأسر حاجب بن زرارة بن عدس ، وانهزم عمرو بن عمرو بن عدس بن زيد بن عبدالله ابن دارم بن مالك بن حنظلة . ففيه يقول جرير للفرزدق :
كأنك لم تشهد لقيطا وحاجبـا |
|
وعمرو بن عمرو إذ دعوا يالدارمِ |
وهذا البيت في قصدية له .
ثم التقوا يوم ذي نجب ، فكان الظفر لحنظلة على بني عامر ، وقتل يومئذ حسان بن معاوية الكندي ، وهو ابن كبشة . وأُسر يزيد بن الصعق الكلابي وانهزم الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب ، أبو عمر بن الطفيل . ففيه يقول الفرزدق :
ومنهن إذ نجى طفيل بن مالك |
|
على قرزل رجلا ركوض الهزائم |
ونحن ضربنا هامة ابن خويلـد |
|
نزيد على أم الفراخ الـجـواثـم |
وهذان البيتان في قصيدة له . فقال جرير :
ونحن خضبنا لابن كبشة تـاجـه |
|
ولاقى امرأ في ضمة الخيل مصقعا |
وهذا البيت في قصيدة له .وحديث يوم جبلة ويوم ذي نجب أطول مما ذكرنا . وإنما منعني من استقصائه ما ذكرت في حديث يوم الفجار .
قال ابن إسحاق : ثم ابتدعوا في ذلك أمورا لم تكن لهم ، حتى قالوا : لا ينبغي للحمس ان يأتقطوا الأقط، ولا يسئلوا السمن وهم حرم ، ولا يدخلوا بيت من شعر ، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرما ، ثم رفعوا في ذلك ، فقالوا : لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل إلى الحرم ، إذا جاءوا حجاجا أو عمارا ، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس ، فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة .
فإن تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة ، ولم يجدوا ثياب الحمس ، فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل ، ألقاها إذا فرغ من طوافه ، ثم لم ينتفع بها ، ولم يمسها هو ، ولا أحد غيره أبدا . وكانت العرب تسمى تلك الثياب اللقى . فحملوا على ذلك العرب ، فدانت به . ووقفوا على عرفات ، وأفاضوا منها ، وطافوا بالبيت عراة : أما الرجال فيطوفون عراة ، وأما النساء فتضع إحداهن ثيابها كلها إلا درعا مفرجا عليها، ثم تطوف فيه . فقالت امرأة من العرب ، وهي كذلك تطوف بالبيت :
اليوم يبدو بعضه أو كله |
|
وما بدا منه فـلا أحـلـه |
ومن طاف منهم في ثيابه التي جاء فيها من الحل ألقاها ، فلم ينتفع بها هو ولا غيره . فقال قائل من العرب يذكر شيئا تركه من ثيابه فلا يقربه ، وهو يحبه :
كفى حزنا كري عليها كأنها |
|
لقى بين أيدي الطائفين حـريم |
يقول : لا تمس .
فكانوا كذلك حتى بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم ، فأنزل عليه حين أحكم له دينه ، وشرع له سنن حجه : {( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله ، إن الله غفور رحيم )} يعني قريشا. والناس : العرب . فرفعهم في سنة الحج إلى عرفات والوقوف عليها والإفاضة منها . وأنزل الله عليه فيما كانوا حرموا على الناس من طعامهم ولبوسهم عند البيت ، حين طافوا عراة ، وحرموا ما جاءوا به من الحل من الطعام : ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ، وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ، إنه لا يحب المسرفين . قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق . قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ، كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ) . فوضع الله تعالى أمر الحمس ، وما كانت قريش ابتدعت منه على الناس بالإسلام ، حين بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم . الرسول صلى الله عليه وسلم يخالف الحمس قبل الرسالة قال ابن إسحاق : حدثني عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم ، عن عمه نافع بن جبير، عن أبيه جبير بن مطعم ، قال : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبل أن ينزل عليه الوحي ، وإنه لواقف على بعير له بعرفات مع الناس من بين قومه حتى يدفع معهم منها توفيقا من الله له، صلى الله عليه و آله وسلم تسليما كثيرا .
فلما تقارب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر مبعثه ، حجبت الشيطان عن السمع ، وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد لاستراق السمع فيها ، فرموا بالنجوم ، فعرفت الجن أن ذلك لأمر حدث من أمر الله في العباد . يقول الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم حين بعثه ، وهو يقص عليه خبر الجن إذ حجبوا عن السمع ، فعرفوا ما عرفوا ، وما أنكروا من ذلك حين رأوا ما رأوا : ( قل أوحى إلي أنه استمع نفر من الجن ، فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا . يهدي إلى الرشد ، فآمنا به ، ولن نشرك بربنا أحدا . وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا . وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا. وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا . وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ) ... إلى قوله : ( وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع ، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا . وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض ، أم أراد بهم ربهم رشدا ) . فلما سمعت الجن القرآن عرفت أنها إنما منعت من السمع قبل ذلك ، لئلا يشكل الوحي بشيء من خبر السماء فيلتبس على أهل الأرض ما جاءهم من الله فيه ، لوقوع الحجة ، وقطع الشبهة . فآمنوا وصدقوا ، ثم ( ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه ، يهدي إلى الحق ، وإلى طريق مستقيم ) ... الآيات وكان قول الجن : ( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن ، فزادوهم رهقا ) . أنه كان الرجل من العرب من قريش وغيرهم إذا سافر فنزل بطن واد من الأرض ليبيت فيه ، قال : إني أعوذ بعزيز هذا الوادي من الجن الليلة من شر ما فيه . قال ابن هشام : الرهق : الطغيان والسفه . قال رؤبة بن العجاج :
إذ تستبي الهيامة المرهقا |
|
|
وهذا البيت في أرجوزة له . والرهق أيضا : طلبك الشيء حق تدنو منه ، أو لا تأخذه . قال رؤبة بن العجاج يصف حمير وحش :
بصبصن واقشعررن من خوف الرهق |
|
|
قال ابن هشام : وحدثني أبو عبيد النحوى : أن بني عامر بن صعصة بن معاوية بن بكر بن هوازن دخلوا معهم في ذلك ، وأنشدني لعمرو بن معد يكرب : وهذا البيت في أرجوزة له . والرهق أيضا : مصدر لقول الرجل للرجل : رهقت الإثم أو العسر ، الذي أرهقتني رهقا شديدا ، أي حملت الإثم أو العسر الذي حملتني حملا شديدا ، وفي كتاب الله تعالى : ( فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ) . وقوله: ( ولا ترهقني من أمري عسرا ) .
قال ابن إسحاق : وذكر محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب ، عن عبدالله بن العباس ، عن نفر من الأنصار : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لهم : ماذا كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى به ؟ قالوا : يا نبى الله كنا نقول حين رأيناها يرمى بها : مات مَلِك مُلِّك ملك ، ولد مولود مات مولود ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليس ذلك كذلك ولكن الله تبارك وتعالى كان إذا قضى في خلقه أمرا سمعه حمله العرش ، فسبحوا ، فسبح من تحتهم ، فسبح لتسبيحهم من تحت ذلك ، فلا يزال التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا ، فيسبحوا ثم يقول بعضهم لبعض مم سبحتم فيقولون سبح من فوقنا فسبحنا لتسبيحهم ؛ فيقولون : ألا تسألون من فوقكم مم سبحوا ؟ فيقولون مثل ذلك ، حتى ينتهوا إلى حملة العرش ، فيقال لهم : مم سبحتم ؟ فيقولون : قضى الله في خلقه كذا وكذا ، للأمر الذي كان ؛ فيهبط به الخبر من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى السماء الدنيا ، فيتحدثوا به ، فتسترقه الشياطين بالسمع ، على توهم واختلاف ، ثم يأتوا به الكهان من أهل الأرض فيحدثوهم به فيخطئون ويصيبون فيتحدث به الكهان ، فيصيبون بعضا ويخُطئون بعضا . ثم إن الله عز وجل حجب الشياطين بهذه النجوم التي يُقذفون بها ، فانقطعت الكهانة اليوم ، فلا كهانة . قال ابن إسحاق : وحدثني عمرو بن أبي جعفر ، عن محمد بن عبدالرحمن بن أبي لبيبة ، عن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنه بمثل حديث ابن شهاب عنه .
قال ابن إسحاق : وحدثني بعض أهل العلم : أن امرأة من بني سهم ، يقال لها الغيطلة ، كانت كاهنة في الجاهلية ، فلما جاءها صاحبها في ليلة من الليالي ، فانقض تحتها ، ثم قال : أدر ما أدر ، يوم عقر ونحر؛ فقالت قريش حين بلغها ذلك : ما يريد ؟ ثم جاءها ليلة أخرى ، فانقض تحتها ، ثم قال : شعوب ما شعوب ، تُصرع فيه كعب لجنوب . فلما بلغ ذلك قريشا ، قالوا : ماذا يريد ، إن هذا لأمر هو كائن ، فانظروا ما هو ؟ فما عرفوه حتى كانت وقعة بدر واحد بالشعب ، فعرفوا أنه الذي كان جاء به إلى صاحبته . نسب الغيطلة قال ابن هشام : الغيطلة : من بني مرة بن عبد مناة بن كنانة ، إخوة مدلج ابن مرة ؛ وهي أم الغياطل الذين ذكر أبو طالب في قوله :
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا |
|
بني خلف قيضا بنا والغياطل |
فقيل لولدها : الغياطل ؛ وهم من بني سهم بن عمرو بن هصيص . وهذا البيت في قصيدة له سأذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى .
قال ابن إسحاق : وحدثني من لا أتهم عن عبدالله بن كعب ، مولى عثمان بن عفان ، أنه حدث : أن عمر بن الخطاب ، بينا هو جالس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ أقبل رجل من العرب داخلا المسجد ، يريد عمر بن الخطاب ؛ فلما نظر إليه عمر رضي الله عنه ، قال : إن هذا الرجل لعلى شركه ما فارقه بعد ، ولقد كان كاهنا في الجاهلية . فسلم عليه الرجل ، ثم جلس ، فقال له عمر رضي الله عنه : هل أسلمت ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، قال له : فهل كنت كاهنا في الجاهلية ؟ فقال الرجل: سبحان الله يا أمر المؤمنين ! لقد خلت فيّ ، واستقبلتني بأمر ما أراك قلته لأحد من رعيتك منذ وليت ما وليت ؛ فقال عمر : اللهم غفرا ، قد كنا في الجاهلية على شر من هذا ، نعبد الأصنام ، ونعتنق الأوثان ، حتى أكرمنا الله برسوله وبالإسلام ؛ قال : نعم ، والله يا أمير المؤمنين ، لقد كنت كاهنا في الجاهلية ؛ قال : فأخبرني ما جاءك به صاحبك ؛ قال : جاءني قبل الإسلام بشهر أو شيعه ، فقال : ألم تر إلى الجن وإبلاسها ، وإياسها من دينها ، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها . قال ابن هشام : هذا الكلام سجع، وليس بشعر . قال عبدالله بن كعب : فقال عمر بن الخطاب عند ذلك يحدث الناس : والله إني لعند وثن من أوثان الجاهلية في نفر من قريش ، قد ذبح له رجل من العرب عجلا ، فنحن ننتظر قسمه ليقسم لنا منه، إذ سمعت من جوف العجل صوتا ما سمعت صوتا قط أنفذ منه ، وذلك قبيل الإسلام بشهر أو شيعه، يقول: يا ذريح ، أمر نجيح ، رجل يصيح ، يقول : لا إله إلا الله . قال ابن هشام : ويقال : رجل يصيح، بلسان فصيح ، يقول : لا إله إلا الله . وأنشدني بعض أهل العلم بالشعر :
عجبت للجن وإبلاسـهـا |
|
وشدها العيس بأحـلاسـهـا |
تهوي إلى مكة تبغي الهدى |
|
ما مؤمنو الجن كأنجاسـهـا |
قال ابن إسحاق : فهذا ما بلغنا من الكهان من العرب .
قال ابن إسحاق : وحدثني صالح بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد أخي بني عبدالأشهل عن سلمة بن سلامة بن وقش ، وكان سلمة من أصحاب بدر ، قال : كان لنا جار من يهود في بني عبدالأشهل ، قال : فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبدالأشهل - قال سلمة : وأنا يومئذ من أحدث من فيه سنا ، علي بردة لي ، مضطجع فيها بفناء أهلي - فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار ؛ قال : فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان ، لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت ؛ فقالوا له : ويحك يا فلان أوترى هذا كائنا ، أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم ؟ قال : نعم ، والذي يحلف به ، ولودّ أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدار ، يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطينونه عليه ، بأن ينجو من تلك النار غدا ؛ فقالوا له : ويحك يا فلان ! فما آية ذلك ؟ قال : نبى مبعوث من نحو هذه البلاد ، وأشار بيده إلى مكة واليمن ؛ فقالوا : ومتى تراه ؟ قال : فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنا ، فقال : إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه . قال سلمة : فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمدا رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو حي بين أظهرنا ، فآمنا به ، وكفر به بغيا وحسدا ، قال : فقلنا له : ويحك يا فلان ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت ؟ قال : بلى ، ولكن ليس به .
قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال : قال لي : هل تدري عم كان إسلام ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد ، نفر من بني هدل ، إخوة من بني قريظة ، كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا سادتهم في الإسلام . قال : قلت : لا و الله ، قال : فإن رجلا من يهود من أهل الشام ، يقال له : ابن الهيبان ، قدم علينا قبيل الإسلام بسنين ، فحل بين أظهرنا ، لا والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه ، فأقام عندنا فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له : اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا ؛ فيقول : لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة ؛ فنقول له : كم ؟ فيقول : صاعا من تمر ، أو مدين من شعير . قال : فنخرجها ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرتنا فيستسقي الله لنا . فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ونسقى ، قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث . قال : ثم حضرته الوفاة عندنا . فلما عرف أنه ميت ، قال : يا معشر يهود ، ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع ؟ قال : قلنا : إنك أعلم ؛ قال : فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبى قد أظل زمانه ؛ وهذه البلدة مهاجره ، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه ، وقد أظلكم زمانه ، فلا تسبقن إليه يا معشر يهود ، فإنه يبعث بسفك الدماء ، وسبي الذراري والنساء ممن خالفه ، فلا يمنعكم ذلك منه . فلما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصر بني قريظة ، قال هؤلاء الفتية ، وكانوا شبابا أحداثا : يا بني قريظة ، والله إنه للنبي الذي كان عهد إليكم فيه ابن الهيبان ؛ قالوا : ليس به ؛ قالوا : بلى والله ، إنه لهو بصفته ، فنزلوا وأسلموا ، وأحرزوا دماءهم و أموالهم وأهليهم . قال ابن إسحاق : فهذا ما بلغنا عن أخبار يهود . حديث إسلام سلمان رضي الله عنه
قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ، عن محمود بن لبيد ، عن عبدالله بن عباس ، قال : حدثني سلمان الفارسي ، و أنا أسمع من فيه ، قال : كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من قرية يقال لها جَيّ ، وكان أبي دهقان قريته ، وكنت أحب خلق الله إليه ، لم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية ، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقودها ، لا يتركها تخبو ساعة .قال : وكانت لأبي ضيعة عظيمة ، قال : فشغل في بنيان له يوما ، فقال لي : يا بني، إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي ، فاذهب إليها فاطلعها . وأمرني فيها ببعض ما يريد ، ثم قال لي : ولا تحتبس عني فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلي من ضيعتي ، وشغلتني عن كل شيء من أمرى . قال : فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها ، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى ، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون ، وكنت لا أدري ما أمر الناس ، لحبس أبي إياي في بيته ، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون ، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم وقلت : هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه ، فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس ، وتركت ضيعة أبي فلم آتها؛ ثم قلت لهم : أين أصل هذا الدين ؟ قالوا : بالشام . فرجعت إلى أبي ، وقد بعث في طلبي ، وشغلته عن عمله كله ، فلما جئته قال : أي بني أين كنت ؟ أولم أكن عهدت إليك ما عهدت ؟ قال : قلت له : يا أبت، مررت بأناس يصلون في كنسية لهم ، فأعجبني ما رأيت من دينهم ، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس ؛ قال : أي بني ، ليس في ذلك الدين خير ، دينك ودين آبائك خير منه ؛ قال : قلت له : كلا والله، إنه لخير من ديننا . قال : فخافني ، فجعل في رجلي قيدا ، ثم حبسني في بيته .
قال : وبعثت إلى النصارى فقلت لهم : إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم . قال : فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى ، فأخبروني بهم . فقلت لهم : إذا قضوا حوائجهم ، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم ، فآذنوني بهم . قال : فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم ، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام . فلما قدمتها ، قلت : من أفضل أهل هذا الدين علما ؟ قالوا : الأسقفّ في الكنيسة .
قال : فجئته فقلت له : إني قد رغبت في هذا الدين ، فأحببت أن أكون معك ، وأخدمك في كنيستك ، فأتعلم منك ، وأصلي معك ؛ قال : ادخل ، فدخلت معه . قال : وكان رجل سوء ، يأمرهم بالصدقة ، ويرغبهم فيها ، فإذا جمعوا إليه شيئا منها اكتنزه لنفسه ، ولم يعطه المساكين ، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق . قال : فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع ؛ ثم مات ، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه ، فقلت لهم : إن هذا كان رجل سوء ، يأمركم بالصدقة ، ويرغبكم فيها ، فإذا جئتموه بها ، اكتنزها لنفسه ، ولم يعط المساكين منها شيئا . قال : فقالوا لى : وما علمك بذلك ؟ قال : فقلت لهم : أنا أدلكم على كنزه ؛ قالوا : فدلنا عليه ؛ قال : فأريتهم موضعه ، فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا . قال : فلما رأوها قالوا : والله لا ندفنه أبدا . قال : فصلبوه ، ورجموه بالحجارة ، وجاءوا برجل آخر ، فجعلوه مكانه .
قال : يقول سلمان : فما رأيت رجلا لا يصلى الخمس ، أرى أنه كان أفضل منه وأزهد في الدنيا ، ولا أرغب في الآخرة ، ولا أدأب ليلا ولا نهارا منه . قال : فأحببته حبا لم أحبه شيئا قبله مثله . قال : فأقمت معه زمانا طويلا ، ثم حضرته الوفاة ، فقلت له : يا فلان ، إني قد كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه شيئا قبلك ، وقد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى ، فإلى من توصي بي ؟ وبم تأمرني ؟ قال : أي بني، والله ما أعلم اليوم أحدا على ما كنت عليه ، فقد هلك الناس ، وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه ، إلا رجلا بالموصل ، وهو فلان ، و هو على ما كنت عليه فالحق به .
قال : فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل ، فقلت له : يافلان ، إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك ، وأخبرني أنك على أمره ؛ قال : فقال لي : أقم عندي ، فأقمت عنده ، فوجوته خير رجل على أمر صاحبه ، فلم يلبث أن مات . فلما حضرته الوفاة ، قلت له : يا فلان ، إن فلانا أوصي بي إليك ، وأمرني باللحوق بك ، وقد حضرك من أمر الله ما ترى ، فإلى من توصي بي ؟ وبم تأمرني ؟ قال : يا بني ، والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه ، إلا رجلا بنصيبين ، وهو فلان ، فالحق به .
فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين ، فأخبرته خبرى ، وما أمرني به صاحبه ، فقال : أقم عندي ، فأقمت عنده ، فوجدته على أمر صاحبيه . فأقمت مع خير رجل ، فوالله ما لبث أن نزل به الموت ، فلما حُضر قلت له : يا فلان ، إن فلانا كان أوصى بي إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إليك ؛ فإلى من توصي بي ؟ وبم تأمرني ؟ قال : يا بني ، والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية من أرض الروم ، فإنه على مثل ما نحن عليه ، فإن أحببت فأته ، فإنه على أمرنا .
فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية ، فأخبرته خبري ؛ فقال : أقم عندي ، فأقمت عند خير رجل ، علي هدي أصحابه وأمرهم . قال : واكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة . قال : ثم نزل به أمر الله تعالى ، فلما حُضر قلت له : يا فلان ، إني كنت مع فلان ، فأوصى بي إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إليك ، فإلى من توصي بي ؟ وبم تأمرني ؟ قال : أي بني ، والله ما أعلمه أصبح اليوم أحد على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك به أن تأتيه ، ولكنه قد أظل زمان نبي ، وهو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام ، يخرج بأرض العرب ، مُهاجَره إلى أرض بين حرتين ، بينهما نخل به علامات لا تخفى ، يأكل الهدية ، ولا يأكل الصدقة ، وبين كتفيه خاتم النبوة ، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل .
قال : ثم مات وغيب ، ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث ، ثم مر بي نفر من كلب تجار ، فقلت لهم: احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه ؛ قالوا : نعم . فأعطيتهموها وحملوني معهم ، حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني ، فباعوني من رجل يهودي عبدا ، فكنت عنده ، ورأيت النخل ، فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ، ولم يحقّ في نفسي .
فبينا أنا عنده ، إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة ، فابتاعني منه ، فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي ، فأقمت بها ، وبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام بمكة ما أقام ، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق ، ثم هاجر إلى المدينة .
فوالله إني لفى رأس عذق لسيدي أعمل له فيه بعض العمل ، وسيدي جالس تحتي ، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه ، فقال : يا فلان ، قاتل الله بني قيلة ، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم ، يزعمون أنه نبي . نسب قيلة قال ابن هشام : قيلة : بنت كاهل بن عذرة بن سعد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة ، أم الأوس والخزرج . قال النعمان بن بشير الأنصاري يمدح الأوس والخزرج :
بهاليل من أولاد قيلة لم يجد |
|
عليهم خليط في مخالطة عتبـا |
مساميح أبطال يراحون للندى |
|
يرون عليهم فعل آبائهم نحـبـا |
وهذان البيتان في قصيدة له . قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ، عن محمود بن لبيد ، عن عبدالله بن عباس ، قال : قال سلمان : فلما سمعتها أخذتني العُرَوْراء .
قال ابن هشام: و العروراء : الرعدة من البرد والانتفاض ، فإن كان مع ذلك عرق فهي الرُّحَضاء، وكلاهما ممدود - حتى ظننت أني سأسقط على سيدي ، فنزلت عن النخلة ، فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول ؟ ماذا تقول ؟ فغضب سيدي ، فلكمني لكمة شديدة ، ثم قال : ما لك ولهذا ؟ أقبل على عملك. قال : قلت : لا شيء ، إنما أردت أن أستثبته عما قال .
قال : وقد كان عندي شيء قد جمعته فلما أمسيت أخذته ، ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء ، فدخلت عليه ، فقلت له : إنه قد بلغني أنك رجل صالح ، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة ، وهذا شيء قد كان عندي للصدقة ، فرأيتكم أحق به من غيركم ، قال : فقربته إليه ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : كلوا ، وأمسك يده فلم يأكل . قال : فقلت في نفسي : هذه واحدة . قال : ثم انصرفت عنه ، فجمعت شيئا ، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ثم جئته به فقلت له : إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة ، فهذه هدية أكرمتك بها . قال : فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ، وأمر أصحابه فأكلوا معه . قال : فقلت في نفسي : هاتان ثنتان ؛ قال : ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد ، قد تبع جنازة رجل من أصحابه ، و علي شملتان لي، وهو جالس في أصحابه ، فسلمت عليه ، ثم استدرت أنظر إلى ظهره ، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي ؛ فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي ، فألقى رداءه عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتم فعرفته ، فأكببت عليه أقبله وأبكي ؛ فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : تحول ، فتحولت فجلست بين يديه ، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس ، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وعلى وآله وسلم أن يسمع ذلك أصحابه . ثم شغل سلمان الرقُّ حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد .
قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمرو بن قتادة ، قال : حدثني من لا أتهم عن عمر بن عبدالعزيز بن مروان ، قال : حُدثت عن سلمان الفارسي : أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين أخبره خبره : إن صاحب عمورية قال له : ائت كذا وكذا من أرض الشام ، فإن بها رجلا بين غيضتين ، يخرج في كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة مستجيزا ، يعترضه ذوو الأسقام ، فلا يدعو لأحد منهم إلا شفي ، فاسأله عن هذا الدين الذي تبتغي ، فهو يخبرك عنه . قال سلمان : فخرجت حتى أتيت حيث وصف لي ، فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هنالك ، حتى خرج لهم تلك الليلة ، مستجيزا من إحدى الغيضتين إلى الأخرى ، فغشيه الناس بمرضاهم ، لا يدعو لمريض إلا شفي ، وغلبوني عليه ، فلم أخلص إليه حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخل ، إلا منكبه . قال : فتناولته ، فقال : من هذا ؟ والتفت إلي ، فقلت : يرحمك الله ، أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم . قال : إنك لتسألني عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم ، قد أظلك زمان نبي يبعث بهذا الدين من أهل الحرم ، فأته فهو يحملك عليه. قال: ثم دخل. قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمان : لئن كنت صدقتني يا سلمان ، لقد لقيت عيسى بن مريم ، على نبينا وعليه السلام .
قال ابن إسحاق : واجتمعت قريش يوما في عيد لهم عند صنم من أصنامهم ، كانوا يعظمونه وينحرون له ، ويعكفون عنده ، ويديرون به ، وكان ذلك عيدا لهم في كل سنة يوما ، فخلص منهم أربعة نفر نجيا ، ثم قال بعضهم لبعض : تصادقوا وَلْيَكْتُم بعضكم على بعض ؛ قالوا : أجل . وهم : ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى بن قصي بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي ؛ وعبيد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة ، وكانت أمه أميمة بنت عبدالمطلب ، وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبدالعزى بن قصي ؛ وزيد بن عمرو بن نفيل بن عبدالعزى بن عبدالله بن قرط بن رياح بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي ؛ فقال بعضهم لبعض : تعلموا والله ما قومكم على شيء ! لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم ! ما حجر نُطيف به ، لا يسمع ولا يبصر ، ولا يضر ولا ينفع ، يا قوم التمسوا لأنفسكم دينا ، فإنكم والله ما أنتم على شيء . فتفرقوا في البلدان يلتسمون الحنيفية ، دين إبراهيم .
فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية ، واتبع الكتب من أهلها ، حتى علم علما من أهل الكتاب . وأما عبيد الله بن جحش ، فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم ، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة ، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة ؛ فلما قدمها تنصر ، وفارق الإسلام ، حتى هلك هنالك نصرانيا .
قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، قال : كان عبيد الله بن جحش حين تنصر يمر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم هنالك من أرض الحبشة ، فيقول : فقَّحْنا وصأصأتم ، أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر ، ولم تبصروا بعد . وذلك أن ولد الكلب إذا أراد أن يفتح عينيه لينظر ، صأصأ لينظر . وقوله : فقح : فتح عينيه .
قال ابن إسحاق : وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب . قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن علي بن حسين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث فيها إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري ، فخطبها عليه النجاشي ، فزوجه إياها ، وأصدقها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار . فقال محمد بن علي : ما نرى عبدالملك بن مروان وقف صداق النساء على أربعمائة دينار إلا عن ذلك . وكان الذي أملكها النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن سعيد بن العاص . تنصر ابن الحويرث ، وقدومه على قيصر قال ابن إسحاق : وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم ، فتنصَّر وحسنت منزلته عنده . قال ابن هشام : ولعثمان بن الحويرث عند قيصر حديث ، منعني من ذكره ما ذكرت في حديث حرب الفجار .
قال ابن إسحاق : وأما زيد بن عمرو بن نفيل فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية ، وفارق دين قومه ، فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان ونهى عن قتل الموءودة ، وقال : أعبد رب إبراهيم ؛ وبادى قومه بعيب ما هم عليه . قال ابن إسحاق : وحدثني هشام بن عروة عن أبيه ، عن أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ، قالت : لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل شيخا كبيرا مسندا ظهره إلى الكعبة ، وهو يقول : يا معشر قريش ، والذي نفس زيد بن عمرو بيده ، ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري ، ثم يقول : اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به ، ولكني لا أعلمه ، ثم يسجد على راحلته . قال ابن إسحاق : وحدثت أن ابنه ، سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وعمر بن الخطاب ، وهو ابن عمه ، قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتستغفر لزيد بن عمرو ؟ قال : نعم ، فإنه يُبعث أمة وحده .
وقال زيد بن عمرو بن نفيل في فراق دين قومه ، وما كان لقي منهم في ذلك :
أربـا واحـدا أم ألـف رب |
|
أدين إذا تُقـسـمـت الأمـورُ |
عزلت اللات والعزى جميعا |
|
كذلك يفعل الجلد الـصـبـور |
فلا العزى أدين ولا ابنتيهـا |
|
ولا صنمَيْ بن عـمـرو أزور |
ولا هبلا أدين وكـان ربـا |
|
لنا في الدهر إذ حلمـي يسـير |
عجبت وفي الليالي مُعجبات |
|
وفي الأيام يعرفها الـبـصـير |
بأن الله قد أفـنـى رجـالا |
|
كثيرا كان شأنهم الـفـجـور |
وأبقى آخرين بـبـر قـوم |
|
فيربِل منهم الطفل الصـغـير |
وبينا المرء يفتر ثاب يومـا |
|
كما يتروّح الغصن المـطـير |
ولكن أعبدالرحمـن ربـي |
|
ليغفر ذنبي الرب الـغـفـور |
فتقوى الله ربكم احفظوهـا |
|
متى ما تحفظوها لا تـبـوروا |
ترى الأبرار دارهمُ جنـان |
|
وللكفـار حـامـية سـعـير |
وخزي في الحياة وإن يموتوا |
|
يلاقوا ما تضيق به الـصـدور |
وقال زيد بن عمرو بن نفيل أيضا - قال ابن هشام : هي لأمية بن أبي الصلت في قصيدة له ، إلا البيتين الأولين والبيت الخامس وآخرها بيتا . وعجز البيت الأول عن غير ابن إسحاق - :
إلى الله أهدي مدحـتـي وثـنـائيا |
|
وقولا رصينا لا يَني الـدهـر بـاقـيا |
إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقـه |
|
إلـه ولا رب يكـون مـــدانـــيا |
ألا أيهـا الإنـسـان إياك والـردى |
|
فإنك لا تخفـي مـن الـلـه خـافـيا |
وإياك لا تجعل مـع الـلـه غـيره |
|
فإن سبـيل الـرشـد أصـبـح بـاديا |
حنانيك إن الحن كانـت رجـاءهـم |
|
وأنـت إلـهـي ربـنـا ورجـــائيا |
رضيت بك اللهم ربَّـا فـلـن أرى |
|
أدين إلـهـا غـيرك الـلـه ثـانــيا |
أدين لـرب يُسـتـجـاب و لا أرى |
|
أدين لمن لم يسمـع الـدهـر داعـيا |
وأنت الذي من فضل منّ ورحـمة |
|
بعثت إلى موسـى رسـولا مـنـاديا |
فقلت له يا اذهب وهارون فادعـوا |
|
إلى الله فرعون الذي كـان طـاغـيا |
وقولا لـه : أأنـت سـويت هـذه |
|
بلا وتد حتى اطمـأنـت كـمـا هـيا |
وقولا له : أأنـت رفـعـت هـذه |
|
بلا عـمـد أرفـقْ إذا بـك بـانــيا |
وقولا له : أأنت سويت وسـطـهـا |
|
منيرا إذا مـا جـنـه الـلـيل هـاديا |
وقولا له : من يرسل الشمس غدوة |
|
فيصبح ما مست من الأرض ضاحـيا |
وقولا له : من ينبت الحب في الثرى |
|
فيصبح منه الـبـقـل يهـتـز رابـيا |
ويخرج منه حبه في رءوسه |
|
وفي ذاك آيات لمن كان واعـيا |
وأنت بفضل منك نجيت يونسا |
|
وقد بات في أضعاف حوت لياليا |
وإني ولو سبحت باسمك ربنا |
|
لأكثر ، إلا ما غفرت ، خطائيا |
فرب العباد ألقِ سيبا ورحمة |
|
علي وبارك في بَنـيَّ ومـالـيا |
وقال زيد بن عمرو يعاتب امرأته صفية بنت الحضرمي - نسب الحضرمي قال ابن هشام : واسم الحضرمي : عبدالله بن عماد بن أكبر أحد الصدف ، واسم الصدف : عمرو بن مالك أحد السكون بن أشرس بن كندي ؛ ويقال : كندة بن ثور بن مرتع بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن مهسع بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ ؛ ويقال : مرتع بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ .
قال ابن إسحاق : وكان زيد بن عمرو قد أجمع الخروج من مكة ليضرب في الأرض يطلب الحنيفية دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، فكانت صفية بنت الحضرمي كلما رأته قد تهيأ للخروج وأراده آذنت به الخطاب بن نفيل ، وكان الخطاب بن نفيل عمه وأخاه لأمه ، وكان يعاتبه على فراق دين قومه ، وكان الخطاب قد وكَّل صفية به ، وقال : إذا رأيتيه قد هم بأمر فآذنيني به - فقال زيد :
لا تحبسيني في الهوا ن |
|
صفيَّ مـا دأبـي ودابُـهْ |
إني إذا خفت الهـوا ن |
|
مشـيع ذُلُـل ركـابــه |
دعموص أبواب الملو ك |
|
وجائب للـخـرق نـابـه |
قطاع أسـبـاب تـذ لّ |
|
بغير أقـران صـعـابـه |
وإنما أخـذ الـهـوا ن |
|
العير إذ يوهـي إهـابـه |
ويقول إني لا أذ لّ بصك |
|
جنـبـيه صــلابـــه |
وأخي ابـن أمـي ثـم |
|
عمّي لا يُواتيني خطـابـه |
وإذا يعاتبنـي بـسـو ء |
|
قلت أعـيانـي جـوابـه |
ولو أشاء لقـلـت مـا |
|
عندي مفاتـحـه وبـابـه |
قال ابن إسحاق : وحدثت عن بعض أهل زيد بن عمرو بن نفيل ، أن زيدا كان إذا استقبل الكعبة داخل المسجد ، قال : لبيك حقا حقا ، تعبدا ورقا .
عذت بما عاذ به إبراهيمْ |
|
مستقبل القبلة وهـو قـائم |
إذ قال :
أنفي لك اللهم عان راغمْ |
|
مهما تجشمني فإني جاشـم |
البرَّ أبغـي لا الـخـال |
|
ليس مُهجِّر كمـن قـال |
قال ابن هشام : ويقال : البر أبقى لا الخال ، ليس مهجر كمن قال . قال : وقوله ( مستقبل الكعبة ) عن بعض أهل العلم . قال ابن إسحاق : وقال زيد بن عمرو بن نفيل :
وأسلمت وجهي لمن أسلمت |
|
له الأرض تحمل صخرا ثقالا |
دحاها فلما رآها اسـتـوت |
|
على الماء أرسى عليها الجبالا |
وأسلمت وجهي لمن أسلمت |
|
له المزن تحمل عـذبـا زلالا |
إذا هي سيقت إلى بـلـدة |
|
أطاعت فصبت عليها سجـالا |
وكان الخطاب قد آذى زيدا ، حتى أخرجه إلى أعلى مكة ، فنزل حراء مقابل مكة ، ووكل به الخطاب شبابا من شباب قريش وسفهاء من سفهائها ، فقال لهم : لا تتركوه يدخل مكة ؛ فكان لا يدخلها إلا سرا منهم ، فإذا علموا بذلك آذنوا به الخطاب فأخرجوه وآذوه كراهية أن يفسد عليهم دينهم ، وأن يتابعه أحد منهم على فراقه . فقال وهو يعظم حرمته على من استحل منه ما استحل من قومه :
لاهُمَّ إني محرم لا حِـلَّـهْ |
|
وإن بيتي أوسط المـحـلَّـهْ |
عند الصفا ليس بذي مَضلَّهْ |
|
|
ثم خرج يطلب دين إبراهيم عليه السلام ، ويسأل الرهبان والأحبار ، حتى بلغ الموصل والجزيرة كلها ، ثم أقبل فجال الشام كله ، حتى انتهى إلى راهب بميفعة من أرض البلقاء كان ينتهي إليه علم أهل النصرانية فيما يزعمون ، فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم ؛ فقال : إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم ، ولكن قد أظل زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها ، يُبعث بدين إبراهيم الحنيفية ، فالحق بها ، فإنه مبعوث الآن ، هذا زمانه . وقد كان شامَّ اليهودية والنصرانية ، فلم يرض شيئا منهما ، فخرج سريعا ، حين قال له ذلك الراهب ما قال ، يريد مكة ، حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه فقتلوه .
فقال ورقة بن نوفل بن أسد يبكيه :
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما |
|
تجنبت تنورا من النـار حـامـيا |
بدينك ربا ليس رب كمـثـلـه |
|
وتركك أوثان الطواغي كما هـيا |
وإدراكك الدين الذي قد طلبتـه |
|
ولم تك عن توحيد ربـك سـاهـيا |
فأصبحت في دار كريم مقامها |
|
تُعلَّل فيهـا بـالـكـرامة لاهـيا |
تلاقي خليل الله فيها ولم تكـن |
|
من الناس جبارا إلى النار هـاويا |
وقد تدرك الإنسان رحمة ربـه |
|
ولو كان تحت الأرض سبعين واديا |
قال ابن هشام : يروى لأمية بن أبي الصلت البيتان الأولان منها ، وآخرها بيتا في قصيدة له ، وقوله : ( أوثان الطواغي ) عن غير ابن إسحاق .